علم الدلالة: النشأة والماهية
تمهيد:
يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم، قد لا يقدم للدرس اللغوي الحديث شيئاً ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث، على التاريخ الأول لميلاد المصطلح ويطلعه على الإطار العام الذي دارت حوله موضوعات “الدراسة” في طورها البدائي، وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح، فينتقل مفهومه من حقل دلالي معين، إلى حقل دلالي آخر خاضعاً لسنن التطور الدلالي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر مسارها التاريخي المتجدد، ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولادة الأولية لصيغة المصطلح ودلالته.
لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث، تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيراً علمياً دقيقاً، خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة، والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع، سعياً منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الأولى، وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة هذا المصطلح، وماهيته الأولى تحديداً دقيقاً أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح العلمي الحديث، فإن ذلك يعد فضلاً علمياً في غاية الأهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملائمة، مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالات واسعة لإعادة اكتشاف هذا التراث اكتشافاً علمياً واعياً، بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة، وسعياً منا إلى تأطير هذه الدراسة وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلاً أولاً بعنصريه: نشأة علم الدلالة، والذي عرضنا فيه للمسار التطوري الذي تبلور من خلاله علم الدلالة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى والدلالة، وآخر علم كان لعلم الدلالة معه وشائج متصلة وهو علم الألسنية بمختلف مباحثه. أما العنصر الثاني من هذا الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدلالة، ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة “دلالة” وما يراد فيها بدءاً من نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب وبلغائهم، وإليه انتهى الإنتاج الأدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية، ثم نقلنا الشروحات التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة “دلّ” وما اشتق منها. وأنهينا هذا العنصر من الفصل الأول بتقديم تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب الأقدمين، وعلماء الغرب المحدثين حول الدلالة ومتعلقاتها وحقول مباحثها.
علم الدلالة أو السيمانطيقا أو السيمانتيك Semantics : علم لغوي حديث، يبحث في الدلالة اللغوية، والتي يلتزم فيها حدود النظام اللغوي والعلامات اللغوية، دون سواها، ومجاله: “دراسة المعنى اللغوي على صعيد المفردات والتراكيب”.
* دلالة الكلمات المركبة.
* العلاقات المعنوية القائمة يبن الكلمات (الاشتراك اللفظي، الترادف الدلالي، *التشاكل الدلالي، التضمن الدلالي… ).
* شروط الصدق الخاصة بالملفوظات.
* التحليل النقدي للخطاب.
* التداولية منظورا إليها كفرع من الدلالية.
إن مصطلح الدلالية يستخدم عادة في مقابل مصطلح التركيبية (أو الدالية) في الدراسة التي تتناول لغات البرمجة ضمن ميدان المعلوميات، فهناك بين الدلالية والتركيبية نفس العلاقة الموجودة بين المحتوى والصورة.
في البرمجة: كيفية تأثير الأمر البرمجي أو الكود أو عدة أكواد أو الأوامر على تنفيذ البرنامج . بكلمات أخرى معنى الكود البرمجي في وقت التنفيذ, ماذا يفعل و على ماذا يؤثر. مقتبس عن:”Java, Java, Java:
Object Oriented Problem Solving, Third Edition By Ralph Morelli, Ralph Walde
– Trinity College”
عند الاغريق
أولى الفلاسفة اليونانيون اهتماماً كبيراً لقضية الدلالة في أبحاثهم. ومن أهم القضايا الدلالية التي تناولها اليونان بالدراسة، قضية العلاقة بين اللفظ ومعناه والتي تعارضت فيها نظريتان. ترى الأولى أن العلاقة بين اللفظ ومعناه طبيعية، وترى الثاني أن العلاقة ناجمة عن عرف واصطلاح وتراضٍ بين البشر. ونجد أفلاطون وهو أشهر من يمثل الاتجاه الأول في حواره كراتيل من “أن للألفاظ معنى لازماً متصلاً بطبيعتها أي أنها تعكس –إما بلفظها المعبر وإما ببنية اشتقاقها –الواقع الذي تُعَبِّرُ عنه.” أما الاتجاه الثاني، فيمثله آرسطو إذ يعد الناطق بهذه النظرية القائلة لأن “للألفاظ معنى اصطلاحياً ناجماً عن اتفاق وعن تراضٍ بين البشر.”
عند المسلمين
ظهرت بدايات هذا العلم عند العرب والمسلمين وقد برع الكثيرون منهم مثل: ابن خلدون، والجرجاني والسكاكي وغيرهم، والذي وصلوا إلى دراسة معنى الكلمة (الدال والمدلول)، ومعنى الجملة (الإشارة، والإستدلال)، وتناوله اللغويون الغربيون المحدثون بالبحث والدراسة في أواسط القرن المنصرم؛ حتى غدا اليوم علماً متكاملاً يدرس في أكثر جامعات العالم.
عند الغربيين
ويرجع أول ظهور لدراسة علمية خاصة بالدلالة إلى أواخر القرن التاسع عشر هي تلك التي قام بها اللغوي الفرنسي ميشال بريال MICHEL BREAL حين كتب بحثاً بعنوان “مقالة في السيمانتيك Essai de
semantique وذلك سنة 1897. فميشال بريال هو “أول من استعمل المصطلح “سيمانتيك” لدراسة المعنى”.
وقد كانت دراسة المعنى عنده منصبة على اللغات الهندية الأوروبية مثل اليونانية واللاتينية والسنيكريتية وعدَّ بحثه آنذاك ثورة في دراسة علم اللغة، وأول دراسة حديثة خاصة بتطور معاني الكلمات. وهذا يعني أن الدراسة الدلالية عنده كانت “مقصورة في الواقع على الاشتقاق التاريخي.” وفي سنة1923 ظهر كتاب آخر تحت
عنوان “معنى المعنى” الذي ألفه الإنجليزيان أوجدن Ogdan وريتشاردز Richards. وقد جاء هذا الكتاب نتيجة التأثير الكبير الذي أحدثه ميشال بريال إذ كان بمثابة الموجه إلى قضية هامة تعنى بالمعنى هي السيمانتيك.
أصل اصطلاح الكلمة: علم الدلالة هو اصطلاح حديث لكلمة Semantique الفرنسية أو Semanticsالإنجليزية. وأصل الكلمة الفرنسية هو اصطلاح وضعه اللغوي الفرنسي Bréal (بريال) سنة 1897وورد في كتابه Essai de sémantique (مقالات في علم الدلالة) والكلمة تعود إلى الكلمة اليونانية sema التي تعني “علامة”. ومما يجدر ذكره هنا أن كلمة sema المؤلفة من الأصلين الحرفين s m قريبة الشبه من الجذر العربي المؤلف من الأصلين س ، م اللذين يرافقهما حرف لين، فهناك:
– سمة “علامة” المشتقة من الأصل (و)سم “علّم الشيء”.
– اسم الذي يبدو أنه يعود إلى وسم.
وقد اختلف المؤلفون العرب في مقابلة مصطلح Semantics فبعضهم يقابله بعلم المعنى وبعضهم يقابله باصطلاح دلالة الألفاظ ولكن المقابل الأكثر شيوعا الآن هو علم الدلالة.
موضوع علم الدلالة:
(أ) معاني المفردات:
لقد تطور موضوع علم الدلالة عبر تاريخه الحديث. ففي بدايته كان محط اهتمامه هو البحث في أصل معاني الكلمات وطرق تطور تلك المعاني. وهذا المفهوم التصق بتعريف هذا العلم عند عدد من الدارسين:
– يبيّن بيير جيرو في كتابه La Semantique موضوع هذا العلم بأنه “يُعنى بدراسة معنى الكلمات”.
– يعرف أولمان semantics بأنها “دراسة معاني الكلمات” (semantics, 1).
وهذه التعريفات في الواقع تنطبق الآن على “علم الدلالة المعجمي”.
(ب) معاني المفردات والتراكيب:
مع تطور العلم أصبح واضحا أن حل مشكلة معاني المفردات ما هو إلا خطوة بداية من سلسلة طويلة من الخطوات التي تؤدي إلى كشف المعنى. وإذا كان الهدف من علم الدلالة الوصول إلى المعنى فعليه أن يعالج مستويات أخرى من اللغة بجانب المستوى المعجمي, ومن أهم هذه المستويات هي التراكيب والجمل. وقد بيّن بعض الدارسين أن من مسوغات إدخال دراسة معاني التراكيب في علم الدلالة:
(1) هناك معان مرتبطة بالتراكيب المختلفة برغم تشابه مفرداتها. من أمثلة ذلك:
– قرأ أخي رسائل ابن العميد.
– قرأ ابن أخي رسائل العميد.
– قرأ ابن العميد رسائل أخي.
– قرأ العميد رسائل ابن أخي.
فبرغم اشتمال الجمل السابقة على المفردات: قرأ – ابن – أخي – العميد – رسائل إلا أن كل جمل لها معناها الخاص مما يدل على أن هناك معنى وراء معاني المفردات يتعلق بالتراكيب. ومن أمثلة ذلك أيضا:
– الثعلب البني الذي كاد يقتنص الأرنب كان سريعا.
– الثعلب السريع الذي كاد يقتنص الأرنب كان بنيّا.
فالجملة الأولى تقدما مسبقا “لون الثعلب” وتُقدم لنا سرعته كمعلومة خبرية جديدة؛ والجملة الثانية نعرف منها مسبقا “سرعة الثعلب” في شكل معلومة مبتدأ قديمة وتقدم لنا لونه كمعلومة خبرية جديدة.
(2) أنها عرضة للإشكالات نفسها التي تتعرض لها الكلمات المفردة. ومن هذه الإشكالات الدلالية:
* الاشتراك الهومونيمي: وهو في الكلمات “دلالة كلمات متشابهة في اللفظ ومختلفة في الأصل على معان مختلفة” ومن أمثلته في الكلمات المفردة:
– كلمات: غرب “الجهة”، غرب “الدلو”.
– كلمات الجد “أبو الأب أو أبو الأم”، الجد “الحظ”، الجد “الشاطئ”.
– كلمات السائل “الذي يسأل”، السائل “الذي يسيل”. (لاحظ أننا كررنا الكلمات لأنها مفردات مستقلة وليست مفردة واحدة.
والاشتراك الهومونيمي قد يكون في الجمل، فيكون تعريفه “دلالة عدد من الجمل المتشابهة في اللفظ والمختلفة في الأصل على معانٍ مختلفة”، ومن أمثلته في الجمل:
– زيارة الأقارب مزعجة، التي أصلها “زيارة الأقارب لي مزعجو لي”.
– زيارة الأقارب مزعجة، التي أصلها “زيارة الأقارب لي مزعجة لهم”.
– زيارة الأقارب مزعجة، التي أصلها “زيارتي للأقارب مزعجة لي”.
– زيارة الأقارب مزعجة، التي أصلها “زيارتي للأقارب مزعجة لهم”.
– أنا لا أريد نصحك، التي أصلها “أنا لا أريد أن أنصحك”.
– أنا لا أريد نصحك، التي أصلها “أنا لا أريدك أن تنصحني”.
– أطعمت عشرين رجلا وامرأة، التي أصلها “أطعمت عشرين رجلا وأطعمت امرأة”
– أطعمت عشرين رجلا وامرأة، التي قد يكون أصلها مثلا “أطعمت خمسة عشر رجلا، وأطعمت خمس نساء”.
– أطعمت عشرين رجلا وامرأة، التي قد يكون أصلها مثلا “أطعمت عشرين رجلا، وأطعمت عشرين امرأة”.
– أخبر صالح عليا أنه ناجح، التي قد يكون أصلها “أخبر صالح عليا أن صالحا ناجح”.
– أخبر صالح عليا أنه ناجح، التي قد يكون أصلها “أخبر صالح عليا أن عليا ناجح”.
– الطالب الفائز أخوه ناجح، يمكن اعتبار أن الخبر هو (أخوه ناجح)؛ فتكون الجملة موزعة بهذا الشكل:
[الطالب الفائز] [أخوه ناجح].
– الطالب الفائز أخوه ناجح، يمكن اعتبار أن الخبر هو (ناجح)؛ فتكون الجملة موزعة بهذا الشكل:
[الطالب الفائز أخوه] [ناجح].
* الاشتراك البوليسيمي:
تعريفه في المفردات: هو دلالة كلمة واحدة على معان مختلفة تربطها علاقة دلالية. مثل:
– عين التي من معانيها: “عضو البصر”، و”البئر”، و”الجاسوس”، و”قرص الشمس”، و”الثقب في القربة”، والنقرة في الركبة”، و”الذهب”، و”السيد”.
– قرن الني من معانيها: “روق الحيوان”، “غطاء الهودج”، و”الجبل الصغير”، و”طرف الشمس من وراء الجبل”، و”أول الشيء”، و”فترة من الزمان”.
– يد التي من معانيها: “عضو”، “مقبض الشيء”، “سبب”، و”جناح”، و”القوة”.
وتعريف الاشتراك الواقع في الجمل والتراكيب يكون على النحو التالي: “دلالة جملة واحدة على معان مختلفة”، ومن أمثلته:
– قوله – صلى الله عليه وسلم- لنسائه قبيل وفاته “أسرعكنّ لحاقا بي أطولكنّ يدا”. ومما يدل على دلالة هذه الجملة معان متعددة أن أصحابه ظنوا أنه عنى أن التي تموت بعده مباشرة هي عائشة _رضي الله عنها- لأنها كانت طويلة اليدين، ولكنه في الواقع كان يعني زينب لأنها هي التي توفيت بعده، وعليه فمعنى كلامه :أن التي تموت بعده هي الكثيرة العطاء والجود”.
– مُدّ يدك لأخيك. قد تفيد معناها الحرفي تماما، أي صافح أخاك، وقد تفيد المعنى المجازي “ساعد أخاك”.
– اقتحم العقبة. هذه الجملة قد تفيد معنى حرفيا “اصعد المكان العالي من الجبل”، وقد تفيد معنى مجازيا “تغلب على الصعوبات”.
– قوله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) (الذاريات: 47)، قد يُفهم من هذه الآية “أن الله تعالى بنا السماء بأياديه حقيقة، وقد يُفهم منها “أنه بناها بقوة واقتدار”
* الترادف: وهو في المفردات: دلالة عدد من الكلمات المختلفة اللفظ على معنى واحد، مثل:
– عام، سنة، حول ” مدة زمنية طولها اثنا عشر شهرا”.
– صديق، رفيق، صاحب.
– كريم، جواد، سخي.
– حسام، سيف، مهند، فيصل.
وتعريفه في الجمل: دلالة عدد من الجمل المختلفة اللفظ على معنى عامّ واحد، مثل:
– سرق اللصُّ المال، اللصُّ سرق المال، سُرِق المال.
– طابت نفسُ عليٍّ، طاب عليٌّ نفساً.
– محمدٌ أبوه أديبٌ. أبو محمد أديب