التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

الإضافة في موضع .

الإضافة في موضع (اكتب أجمل بيت سمعته).
بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لله، وَالْصَّلاةُ وَالْسَّلامُ عَلَى رَسُوْلِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
نرى جميعًا في كثير من المنتديات والمواقع مواضيع بعنوان: (اكتب أجمل بيت قرأتَه)… وفيه مشاركات بديعة رائقة، تنبؤك على علو ذوق المشاركين – وفقهم الله -.
وجالتْ في ذهني خاطرةٌ نحو هذه الموضوع، رغبتُ في تقييدها لعرضها هنا حتى ألتمسَ رأيَ السادةِ النُّقاد، لا سيما اللوذعي البارع الشيخ أبو مالك العوضي – سدد الله كلمته وقلمه -.
لا شك أن أذواق الناس تختلف، حسب صلاتهم بعلوم العربية، ودرايتهم بأساليب سبك الكلام – نظمًا كان أو نثرًا؛ لأن الكتابة الشعر أخوان كما قال العلامة محمد الخضر حسين -، فترى بعض المشاركين ينقل بيتًا يراه أحسن ما سمع، وآخرَ ينقل بيتًا آخر، ويكون كلا المشاركين حافظا البيت الذي شارك به زميله، لكن لم يهتد بذوقه إلى ما اهتدى إليه الآخر، وهناك بيت يهز وجدان السامع، ويمر على آخر كأنه نثر، مع ما لبعض البحور من جرس مؤثر على بعض الآذان والنفوس، (وقد تقرأ القصيدة فلا تهتز إلا للبيت والبيتين) كما قال المعلمي في الأنوار الكاشفة.
قلت: وغيرك يهزه غير ما هزك وأثار وجدانك.
على كل: هنا لاحت لي فكرة أخرى في اختيار أجمل الأبيات، أتمنى أن تكون نافعة، وسأشفعها ببعض التجارب من باب البدء بالموضوع.
والفكرة باختصار: أن يضع المشارك بيتًا عَمِلَ في نفسه وأثَّرَ عليها، فحمله على الإقدام على عمل ما، أو منعه عن الْمُضيِّ في شيء هَدَفَ إليه، أو كان سببًا في تَحَوُّلٍ في نفسه، وكم تجد من الناس من تغيروا ببيت سمعوه فحكمهم عن الغلط. وهذا الغرض من آكد المعاني المخرجة عما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث أبي بن كعب – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر حكمة.
وفي تهذيب اللغة: اسْتَحْكَم الرجل إذا تَناهَى عما يَضُرُّه في دينه أَوْ دُنْياه.
وقد يكون البيت في تركيبه وألفاظه ليس بذاك، لكن له وقع بالغ على الفؤاد، ورمي يفوق رمي الفارس الصياد، فعلى سبيل المثال ما يحكى أنه لما استباح يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله الموصل عدا رجل من أصحابه على صبي يريد قتله، فسعى الصبي حتى ولج على جدة له أو أم أو عمة فاشتملت عليه فقال: أظهريه وإلا قتلتكما جميعاً، قالت: أنشدك الله فيه، فإنكم قد أصبتم أهله فلم يبق غيره، ولك عشرة آلاف أعطيكها الساعة فأبى، فبذلت له كل ما تملك فأبى، ونظر إلى وعاء سقط أو حقة أو غير ذلك فنظر فإذا فيه:

إذا جار الأمير وكاتبوه … وخانوا في الحكومة والقضاء
فويل للأمير وكاتبيه … وقاضي الأرض من قاضي السماء

فخرج الرجل نادمًا، لم يعرض للغلام ولا لشيء مما في البيت، وتاب فأحسن التوبة.
وغير ذلك كثير …
وهذه الأبيات لو عرضت على بعض النقاد لاستسمجها، و أبان عن عيوب فيها … لكنها كانت واردا قويا على قلب ذلك الجائر، وسببا في توبته عن جوره.
وهكذا تجد أبياتا فيه إبداع في المعنى واللفظ، وتقع منك موقعا مؤثرا بالغًا – وإن كان في وزنها بعض الشيء -، من ذلك مثلا قول عبيد بن الأبرص:

والمرء ما عاش في تكذيب … طول الحياة له تعذيب

قال قدامة بن جعفر في نقد الشعر: فهذا معنى جيد، ولفظ حسن، إلا أن وزنة قد شانه وقبَّحَ حسنه، وأفسدَ جيِّدَه.
على كل: أبدأ مثلا بذكر بعض الأبيات التي رأيت لها أثرًا …
حصلتُ لي ظروفٌ صعبةٌ جدًّا وفيها نوع انشغال بالدنيا ومشاكلها حتى يأخذ مني التفكير في التخلص منها أكثر من معالجتها، والجهاد في صدها، فيتلصص إلي الشيطان من باب الدعاء بـ(اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي). والدعاء حسن ولا شك. ولكن تجد في النفس تهربا من الصبر والمعالجة، مع تسرب العجز إليها، وفي الحديث (استعن بالله ولا تعجز). وفي هذه المصارعة النفسية أتذكر بيتًا لذلك الذي أشغل الناس بشعره أعني المتنبي:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا … وحسب المنايا أن يكن أمانيا

فأنتفض وأطأ كل الهواجس بقدمي متحديا ومستعينا بالله.
وفي الحياة العملية المهنية ترى صاحب الشهادة الشرعية من سقط المتاع عند الجهال، وإن بالغ في الاجتهاد في عمله، وفي الإزاء الآخر تراهم يحتفون بذوي التخصصات الدنيوية وإن كان ساقطًا فاجرًا، فيكاد سوء الظن بالعلم أن ينفذ إلى النفس، لكن أشهد الله تعالى أن لبيت العلامة محمد بن حنبل الشنقيطي أثرًا كبيرًا يُطيش بكل وسواس يعتريني تجاه العلم، وأعني بذلك قوله:

لا تسئ بالعلم ظنا يا فتى … إن سوء الظن بالعلم عطب

في أبيات أخرى من أجمل ما يكون.
وكذلك لأبي طَالِبٍ أحمد بن مُسَلَّمٍ اللَّخْمِيّ أبيات إذا قرأتها تذرني في عجب كما حصل لقائلها من دنياه، قال – رحمه الله -:

أَوَمَا عَجِيْبٌ جِيْفَةٌ مَسْمُوْمَةٌ ** وَكلاَبُهَا قَدْ غَالَهُم دَاءُ الكَلَبْ
يَتذَابحُوْنَ عَلَى اعترَاقِ عِظَامهَا ** فَالسَّيِّدُ المرهوبُ فِيهِم مَنْ غَلَبْ
هذِي هِيَ الدُّنْيَا وَمَعْ عِلمِي بِهَا ** لَمْ أَسْتطِعْ تركاً لَهَا يَا لِلْعَجَبْ!

ولعلي أطلتُ جدًّا … لكن أختم بقصة وقعتْ لي مع زميل من خيرة طلبة العلم، كان ساكنا معي في السكن الجامعي، وكنتُ أحيانًا أُلْصِقُ بالجدار الذي بجوار فراشي ورقة أكتب فيها بعض الآثار أو الأبيات، فكنتُ تلك المرة كتبتُ بيت العلامة حافظ الحكمي:

واجهد بعزم قوي لا انثناء له *** لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم

وجئنا صباح يوم فرأيتُه وضع رأسه في مكاني و وضعت رأسي في مكان آخر، ورأيته ولم يأته النوم، ثم بعد قرابة عشر دقائق قال لي: سبحان الله … هذا البيت (يُطَيِّرُ) النوم.
قلت: أما أنا فطال موضع البيت بجواري حتى كاد أن ينام معي أحيانا !!
على كل: في أكبر ظني أن هذه الفكرة تحقق جزءا من معنى الحديث النبوي، وتدفع القارئ إلى التفكر في الحكمة الشعرية، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم تراه يتمثل بشطر ليس فيه كبير شيء مما يطرب له الناس اليوم، كما جاء في الترمذي عن عائشة – رضي الله عنها – أنه قيل لها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل ويقول ويأتيك بالأخبار من لم تزود. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: وصححه الألباني. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وأتأسف من الإطالة، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.