فقال: بينما أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف في الطريق يناجي ربه بأبيات من الشعر وهي:
يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً … رِزْقَ الْجَمِيعِ سِحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ
يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ السِّـ … ـتْرِ الْجَمِيلِ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ
يَا عَالِمَ السِّرِّ الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ … وَعْدِ الْوَفِيِّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ
عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ إِنَّ … يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ
الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ … وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ
رَبٌّ يُرَبِي الْعَالَمِينَ بِبِرِّهِ … وَنَوَالُهُ أَبَدًا إِلَيْهِمْ وَاصِلُ
تَعْصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِمًا … مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ
مُتَفَضِّلٌ أَبَدًا وَأَنْتَ لِجُودِهِ … بِقَبَائِح الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ
وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ … سُبْلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ
وَآيَسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَا لَهَا … سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَناوَلُ
يَأْتِيك مِنْ أَلْطَافِهِ الْفَرَجُ الَّذِي … لَمْ تَحْتَسِبْهُ وَأَنْتَ عَنْهُ غَافِلُ
يَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ مِنَ أَلْقَى إِلَى … أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ
وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا … أَحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ
عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ … عَمَلُ وَإِنْ زَعَمَ الْمُرَائي بَاطِلُ
وَإَذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ … وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ
أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى … مَوْلاهُ أَوْزَارُ الْكَبَائِرِ حَامِلُ
قَدْ أَثَقَلَتْ ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ … صُحُفِي الْعُيوُبُ وَسِتْرُ غَفْوِكَ شَامِلُ
هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي … وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمَعٌ سَائِلُ
فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ … فِيقًا لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامْلُ
وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ … وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ
قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب عليك. قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على دين إبراهيم الخليل عليه السلام لا أتغدى كل يوم ولا أتعشى حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته فرحب بي وسرت معه حتى وافينا الخيمة فصاح: يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة: يا لبيكاه! فقال: قومي إلى ضيفنا فقالت الجارية: حتى ابدأ بشكر المولى الذي ساقه إلينا. فصليت ركعتين لله تعالى. قال: فأدخلني الشاب الخيمة وأجلسني وأخذ شفرة فقام إلى عناق فذبحها. قال: فلما جلست في الخيمة نظرت إلى الجارية فإذا هي أحسن الناس وجها. فكنت أسارقها النظر ثم فطنت لي فقالت لي: مم! أنا علمت انه نقل عن صاحب طيبة عليه الصلاة والسلام إنّه قال: زنى العينين النظر. أما إني ما أردت بهذا إنَّ أوبخك ولكني أردت أن أؤدبك لئلا تعود إلى مثل هذا. فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة وباتت الجارية داخلها. فكنت اسمع دوي القرآن إلى السحر بأحسن صوت وارقه. ثم سمعت أبيات من الشعر بأعذب لفظ وأشجى نغمة وهي:
أَبَى الحبُّ أَنْ يَخْفى وَكَمْ قَدْ كَتَمْتُه … فَأَصْبَحَ عِنْدِي قَدْ أَنَاخَ وَطَنّبا
إِذَا اشْتَدَّ شَوْقِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِهِ … وَ ِإْن رُمْتُ قُرْبًا مِنْ حَبِيبي تَقَرَّبَا
وَيَبْدُو فَأَفْنى ثُمَّ أُحْيَا بِهِ لَهُ … وَيُسْعِدُنِي حَتَّى أَلَذُّ وَأَطْرَبَا
فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من سمعت؟! قال صوت أختي تقوم الليل تناجي ربها، فإذا استروحت أنشدت هذه الأبيات وذلك دأبها كل ليلة. فقلت: أنت أحق بهذا منها إذ أنت رجل وهي امرأة! فتبسم ثم قال: أما علمت إنّه موفق ومخذول ومقرب ومبعد؟! فودعتهما وانصرفت.