التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

سلسلة مقالات إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية

المقالة الثانية : إصلاح الأغلاط الشّائعة في اللّغة العربية (2) (*)

قال الأستاذ الأديب علي الجارم رحمه الله تعالى :

أعود إلى الكلام في تصحيح الأغلاط الشّائعة في العربية , و أنا أزداد في كلّ يوم ثقة بأنّ الدعوة إلى هذه الناحية من الإصلاح أخذت تدنو من أفئدة الشبّان و المتعلمين في مصر و بقية الأقطار العربية , و أزعم أنه بعد أن كانت الأذن تنفر في أوقات فراغها من البحوث العلمية و أقاويل الجد , شرعت تصغي إليّ من بعيد علّها تتدارك خطأً فتصلحه , أو غلطاً فتجتنبه , لأني أدعو إلى إصلاح يجب أن يُحِلَّهُ كلّ عربي المحلَّ الأول , و ينزله من ثقافته في المكانة العليا . و دعوني من الشبان المستهترين و الكتاب الإباحيين , فلست هؤلاء أعني و لا إليهم أسوق الحديث , و لعلنا نتقابل بعد قليل حينما ينتعشون من كبوتهم , و يفيقون من غفوتهم , و لقد وصلت إلى رسائل ليست بالقليلة , و علمت في أثناء رحلتي إلى لبنان و سورية و العراق أن صوتي لم يذهب في الهواء , و أن صرختي لم تكن في واد , و أن حميتي للعربية و أهلها عرفت سبيلها إلى القلوب.

و قد أخذت على نفسي ألا أحكم بخطأ كلمة لها في العربية وجه مقبول , و ألا أتجاوز عن غلط يأباه ذوق العربية و تنبذه نصوصها و تتجافى عنه أصولها , لأني بان لا هدام , و مصلح لا متزمت , و مترخص فيما اتسعت له الرخصة , و حارس بستان إذا ذدت الغربان عن ثماره فلن أذود الصادحات عن أفنانه .

و التعرض للحكم بأن كلمة غير صحيحة و أن أخرى صحيحة ليس بالأمر السهل , و لا هو على طرف الثمام , و إنما يجب أن يصدر عن نضج في اللغة و الأدب , و تمكن من طرائق العرب في تصريف الأبنية و مناحي استعمال الكلام , ورب كلمة لا تجد لها نصاً في معجمات اللغة و لكنها جاءت في أشعار المتقدمين , و عبارات كبار الكاتبين الذين يحتج بهم لمكانتهم في اللغة , فللجاحظ مثلا كلمات لم نظفر بها في المعجمات و للإمام الشافعي في مؤلفاته ألفاظ لم تقع بأيدي اللّغويين , و هو الذي يقول فيه الأزهري صاحب الحكم : ( وقول الشافعي نفسه حجة , لأنّه عربي فصيح اللهجة , و قد اعترض عليه بعض المتحذلقين فخطأه , و قد عجل و لم يثبت فيما قال , و لا يجوز لحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يعرفه من لغات العرب).

و قد كنت مرة أقرأ للمتنبي قصيدته البائية في مدح سيف الدولة التي أولها :

فديناك من ربع و إن زدتنا كرباً *** فإنّك كنت الشرق للشمس و الغربا

فتلاقيت بهذا البيت :

و يخشى عباب البحر و هو مكانه *** فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبا

و رأيت أن الشراح جميعاً فسروا عب بمعنى زخر و ارتفع ماؤه , فأحببت أن أرجع إلى المعجمات لدارسة هذا الفعل دراسة كاملة , فلم أجد فيها نصا بهذا المعنى , ففيها : عب فلان الماء يعبه : شربه مرة واحدة , و عب النبت : طال , عب الرجل : إذا حسن وجهه بعد أن أصابه تغير
و لم أجد بين صفحاتها فعلاً مثل عب البحر إذا زخر و ارتفع ماؤه.

و لكنني أجد فيها كلمة العباب و أرى أنهم قالوا ف تفسيرها : عباب الماء : أوله و معظمه و ارتفاعه .

و هنا ينقذني و ينقذ المتنبي على الصرف , فيقول : إن الماء إذا تدفق و ارتفع و سمع له صوت و نثيج , و إن الغالب في الأفعال الدالة على صوت – من غير بابي فرح و كرم – أن يكون مصدرها على فعيل أو فعال , كصهيل و صراخ , و إذا فعباب هذا إنما هو مصدر ل (( عبّ)) بمعنى زخر , و إذا يكون اللغويون قد ذكروا المصدر و أغفلوا الفعل ثم يقول علم الصرف ثانية : أن مضارع عب الماء يجمل أن يكون يعِب بكسر العين , لأنه فعل مضعّف لازم و الغالب في هذا أن يكون من باب ضرب.

و ربّ كلمة لهج بها المتعلمون بأنها خطأ , و جرت عليها أقلام المعلمين الحمر قاسية غاضبة , لأنهم لم يروها في كتب اللغة ماثلة بنصها و حروفها و اشتقاقها.

و ذلك ككلمة : عائلة , لماذا ؟ لأنها ليست في المعجمات . يا سادتي إن هذه الكلمة ليست مستحدثة في هذا القرن و لا في القرن الذي قبل , إنها وجدت في شعر لشعراء الدولة الأيوبية , و قد يكون لها ذكر قبل ذلك و لكني لم أعثر عليه , و الدولة الأيوبية نشرتها في سنة سبع و ستين و خمسمائة , إذن مر على هذه الكلمة المسكينة تسعون و سبعمائة عام و هي تدور على الألسنة و تكتب في الشعر , ثم نجيء اليوم و نقول لها اخرجي من وكرك أيتها الدعية اللزيقة فلست منا و لا من لغتنا لأنك لست في معحماتنا ! يا سادتي المعجمات لا تذكر المشتقات و لو استوفت المشتقات جميعاً لعادت حجما كبيراً و عبئاً ثقيلاً.

تعالوا نبحث في هذه الكلمة من الوجهتين اللغوية و الصرفية , و تمهلوا فإن الحكم على كلمة بالإعدام يشبه قتل النفس البريئة بغير حق.

العائلة على وزن فاعلة , و هي مشتقة من عال ما في ذلك ريب , فلننظر إذن معاني الفعل : عالَ , فنرى علماء اللغة يقولون : عال الرجل يعول و يعيل إذا افتقر . يكفينا هذا فعائلة بمعنى مفتقرة , و لا شك أن زوج الرجل و صغارة مفتقرون إلى من يقوم عليهم و يمونهم , فعائلة الرجل المفتقرة إليه هي زوجه و أولاده , و هذا هو المعنى الحقيقي الذي يقصده الناس عند التعبير بكلمة العائلة.
ثم نعود إلى المعجمات ثانية , فنرى عال الرجل أهله يعولهم : كفاهم و مانهم و أنفق عليهم , و العائلة على هذا المعنى فاعلة بمعنى مفعولة , أي : معولة . واستعمال اسم الفاعل في معنى اسم المفعول شائع فصيح . قال الله تعالى : ( فهو في عيشة راضية ) أي : مرضي عنها , ثم إن هنا معنى بليغاً , لأن العائلة و إن كان كاسبها يمونها هي التي في الحقيقة تمونه , لأنها تدفعه إلى الكدّ و العمل و طلب الرزق.

قال تعال : ( لاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم و إياكم ) فقد(1) رزق الأولاد على رزق آبائهم , لأن الآباء بأبنائهم يرزقون .

جملة القول أن كلمة العائلة صحيحة من ناحية الاشتقاق اللغوي على كلا المعنيين لـ ((عال)).

و مما يجري هذا المجرى كلمة فنان . نبت بين المتأدبين من يقول : لا تستعملوا كلمة فنان في صاحب الفن كالشاعر و المصور و المغني و الممثل(2) , لأنّ الفنان في اللغة الحمار الوحشي , فرجع الكتّاب و المتعلمون إلى معجماتهم فوجدوا فيها :
و الفنان في شعر الأعشى حمار الوحش , لأن له فنوناً في العدو , فآمنوا و صدقوا و سخروا من كل من يسمي المصور فناناً . و لو تأمل هؤلاء في عبارة اللغويين لرأوا أمرين حقيقين بالنظر , أولاً أنهم قالوا : الفنان في شعر الأعشى , أي أن الأعشى استعمل هذه الكلمة ليدل بها على الحمار الوحشي , فالفنان إذن ليس اسما موضوعاً للحمار الوحشي يعرفه به كل العرب , على أن هذه الكلمة في الحقيقة في شعر الأعشى وصف لموصوف محذوف , و هذا كثير في لغة العرب فهو يقول :
و إن يك عربيب من الشّد غالها *** بميعة فنان الأجاري مجذم

أي بميعة حمار فنان الأجاري .

و ثانيا : أن اللغويين قالوا : (لأن له فنوناً في العدو) و هذا صريح في أن هذا الوصف إنما أطلق على حمار الوحش لأن له أنواعاً مختلفة من العدو و ما علمناأن الوصف يختص بشيء بعينه , و لا أننا إذا وصفنا فرساً بأنه سباق لا يسوغ لنا أن نصف عالما بأنه سباق في علمه و فضله.
على أن صيغة فنان من صيغ النسب الجارية على فعّال كـ : لبّان , و زجّاج أي : ذي لين , و ذي زجاج , فمعناها : ذو الفنون , فهي تطلق على كلّ صاحب فن في العدو أو التصوير أو غيرها(3).

هذه أمثلة قليلة عندنا منها كثير , تدل على أنّ كتب اللغة يجب أن تقرأ بفهم و بصيرة و تمكن في علوم الاشتقاق .
و هذه إشارات خاطفة للذين يتعجلون فيكتبون في الصحف و المجلات بأن هذه الكلمة خطأ و أن هذه الكلمة صحيحة من غير إلمام و تريث و تدقيق.
و الله وليّ التوفيق. اهـ جارميات ص(230 / 233 )

……………..يتبع بإذن الله مع المقالة الثالثة.


ـــــــــــــــــــــــــــــ

(*)نشرت بمجلة الراديو المصري بالعدد 84 في 24 سبتمبر 1938 ص 8 .
(1) كذا في الكتاب و الظاهر أنّها فقدم .. الخ. العكرمي.
(2) ينبه ها هنا إلى أنّ البحث لغوي بحت و ليس فيه إقرار لتلك الفنون. العكرمي.
(3)و هنا أيضاً ينبغي أن يوجه هذا الكلام لمن حصر الفنون في ثمانية سمّاها و عدّها و من ثمّ حكم على ممارسها و أثبت له وصف الفنّ دون غيره , فلا تكاد تجد كاتبا جرائدياً!! يكتبُ عن معلّم اللغة العربية فيقول : الفنّان اللغوي فلان لا يريد بذلك إلا المعنى اللّغوي للفنان , و هو خطأ ظاهر واضح لا ريب في ذلك . العكرمي.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.