ضوابط ومعايير أساسية في منهج كتابة التاريخ الإسلامي ( 1 ـ 2)
كتب: د.عماد الدين خليل
08/11/1430 الموافق
26/10/2009
عندما نتحدث عن منهج لكتابة التاريخ الاسلامي فإن علينا أن نضع في الحسبان نمطين من المنهجية : عامة وخاصة .
فأما أولاهما فتتعلق بمنهج كتابة البحث التاريخي ، سواء في الدائرة الاسلامية أم خارجها ، إننا هنا بإزاء تقنيات ذات طابع عالمي ، أعانت على تكوينها وتنميتها خبرات الأمم والجماعات والشعوب ، وكان لحضارتنا دور بارز في تشكيلها وإغنائها ، وبمرور الوقت أصبحت أشبه بعرف عالمي متفق عليه في سائر الدوائر الأكاديمية ، بحيث إن أي بحث في التاريخ ، أو أية رسالة جامعية ، لن تستكمل شروطها المقبولة إن لم تلتزم بمطالب هذا المنهج الذي يعرفه جيدا التدريسيون والطلبة الجامعيون على السواء ، والذي يتضمن عددا من الحلقات المتماسكة التي يأخذ بعضها برقاب بعض ، والتي لا يمكن تجاوز أحداها ، بأية حال ، لأن ذلك سيعني خللا ما في طريقة جمع وتركيب المادة التاريخية حول هذا الموضوع أو ذاك .
إن اختيار الموضوع بعد تنفيذ قراءات ودراسات شاملة في دوائره المباشرة وغير المباشرة ، وترتيب قائمة المصادر والمراجع التي تغذيه بمادتها التاريخية ، وتصميم خطة بحث مقنعة يقوم عليها المعمار التركيبي للبحث ، ثم البدء بجمع المادة وفق الشروط المعروفة ، وفرزها وفق سياقاتها النمطية ، والتحول لتركيب المادة التاريخية وصولا الى استكمال الجوانب التكميلية الأخرى من مقدمة وخاتمة وقائمة مصادر ومراجع .. إلى آخره .
هذه جميعا خطوات منهجية عامة تلزم كل محاولة للبحث في التاريخ ، إسلاميا كان أم أوربيا أم صينيا .. هنا حيث لا يكون للخصوصيات التاريخية تأثير ما على تقنيات المنهج الذي يبدو ، كما لو كان أداة عمل محايدة ، يمكن توظيفها للبحث في أي حقل من حقول المعرفة التاريخية .
في هذا السياق قدم الكثير من المحاولات بدءاً من محاولة الدكتور أحمد شلبي المعروفة " كيف تكتب بحثاً أو رسالة " وانتهاء بما تقوم به أقسام التاريخ في الجامعات المختلفة ، من إعداد مؤلفات خاصة بالمنهج ، لكي تدرس على طلبتها ، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل الدراسة .
لكننا إذا انتقلنا الى النمط الخاص لكتابة التاريخ الإسلامي ، أي إلى الضوابط والمعايير والشروط التي يتحتم توفرها لدى الباحث في هذا التاريخ ، مضافة على أوليات المنهج وتقنياته العامة المتفق عليها ، فإننا يجب أن نتريث قليلا .
أولا : لأن ضوابط خصوصية كهذه لم تأخذ حظا كافيا من العناية ، ولم يكتب فيها بما يوازي حجم الأهمية البالغة التي تتميز بها .
وثانيا : لأن هذا القليل الذي كتب لم يتح له في أغلب الأحيان أن يتجاوز حدوده التنظيرية صوب التطبيق ، والمطلب الأكثر الحاحا هو تنفيذ هذه الشروط في الساحة التاريخية الإسلامية ، لكي تتحقق المقاربة الأكثر خبرة ونضجا واكتمالا للواقعة التاريخية .
ثم إن علينا ألا نغفل عن ملاحظة لا تقل أهمية ، هي أن منهج البحث في التاريخ الاسلامي نفسه قد يأخذ سياقين أساسيين ، يتطلب كل منهما شروطه وضوابطه الخاصة ، فضلا عما يمكن وصفه قاسما مشتركا أعظم لكل مجالات البحث في التاريخ الإسلامي .
فأما السياق الأول فيتمثل في دراسة واقعة إسلامية ما .. ظاهرة من الظواهر .. حدث من الأحداث .. دولة أو تشكيل سياسي .. معطى ثقافي أو حضاري .. شخصية من الشخصيات .. معركة أو معاهدة .. أو متابعة للعلاقات الخارجية بين هذا الكيان أو ذاك ..إلى آخره . بعبارة أخرى إن معظم الأبحاث التي تكتب عن تاريخ الإسلام ، بما فيها سيول رسائل الدبلوم والماجستير والدكتوراه ، تنحو هذا المنحى ، وتجد نفسها ، بحكم مطالب المنهج ، تتحدد بمسائل معينة ذات حدود زمنية ، أو مكانية ، أو موضوعية ، وإلا انساح الجهد المنهجي على مساحة واسعة فعانى من الفضفاضية والتسطح ، وفقد قدرته على التمركز والإيغال العمقي لمتابعة الواقعة والوصول الى جوهرها .. الى مكوناتها ومقوماتها وخصائصها الأساسية ، أي التحقق بمقاربتها بشكل أفضل .
إلا أن السياق الثاني هو الذي يهمنا في هذه الصفحات .. السياق الذي ينطوي على كتابة تاريخ الأمة الإسلامية على مداه في الزمن ، والمكان ، والمعطيات ، والذي يتطلب منهجا في العمل ، يقدر على ضبط محاولة معقدة ، شاملة ، ممتدة كهذه ، قد لا يكون بمستطاع فرد ، أو مجموعة مؤرخين ، بل قد لا يكون بمقدور مؤسسة علمية أو أكاديمية واحدة ، أن تنفذها بالشكل الصحيح .
ويقينا فإن بعض مواصفات المنهج الذي تقتضيه الأبحاث المحددة في التاريخ الإسلامي، فضلا عن التقنيات المنهجية العامة المتفق عليها عالميا ، ستغذي هذا المنهج الذي يستهدفكتابة ، أو إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية ، لكن يبقى بعد هذا كله ، أو قبل هذا كله ، مجموعة من الشروط والمعايير والضوابط التي يتحتم بلورتها والاقتناع بها ، لكي يكون منهج العمل صالحا تماما للبدء بخطوة كهذه ، تستهدف عرض وتركيب المادة التاريخية الإسلامية كما تشكلت ـ بالفعل ـ في الزمان والمكان ، لا كما يراد لها أن تكون .
والكمال لله وحده … ومحاولة استعادة معطياتنا التاريخية كما تشكلت بالفعل ، بدقائقها وتفاصيلها ، أمر ليس بمستطاع الإنسان ، لاسيما وأنه يتعامل مع مادة تنضوي تحت دائرة العلوم الإنسانية لا العلوم المنضبطة (Exact Sciences ) كبعض العلوم الصرفة والتطبيقية ،
ويتعامل أيضا مع وقائع يفصل بينها وبين الباحث حاجز الزمان والمكان ، هذا إلى أن الرواية التاريخية القادمة إلينا من مظانها الأولى ليست ـ في كل الأحيان ـ أمرا يقينيا لكي نقيم عليه بنيان المعمار التاريخي ، بل إننا قد نجد ما هو نقيض هذا أحيانا سيولا من الرويات التي تتطلب قدرا من الصرامة النقدية لرفضها أو قبولها ، فيما سبق وإن نبه إليه ابن خلدون في " المقدمة " والقاضي أبو بكر بن العربي في " العواصم من القواصم " وغيرهما ممن انتبهوا الى ما تضمنته هذه الروايات من " احتمالية " قد تصل ـ بتعبير الطبري في مقدمة تاريخه المعروف ـ حد الاستشناع الذي يصدم القارئأو السامع ، ويدفعه الى عدم الاستسلام للرواية التاريخية .
ها نحن إذن بازاء ثلاث طبقات منهجية يجب اجتيازها وصولا إلى " الحالة " الملائمة للتعامل مع التاريخ الاسلامي ، وإذا كانت الطبقة الأولى بتقنياتها المنهجية العالمية المتفقعليها ، معروفة تماما ، وإذا كانت الطبقة الثانية قد تلقت بعض المحاولات على مستويي التنظير والتطبيق ، فإن المعضلة تتبدى في الطبقة الثالثة ، والأكثر أهمية ، تلك التي تعنى بتصميم الشروط والضوابط والمعايير التي لابد من الأخذ بها ، إذا أردنا فعلا أن نستعيد تاريخنا الإسلامي .. أن نكتب ، أو نعيد كتابة تاريخ أمة إسلامية لا أمريكية أو روسية أو صينية أو أنكلوسكسونية أو لاتينية !.
ستكون الصفحات التالية " مقترحات " وليست صيغا نهائية على هذا المستوى المنهجي الثالث ، والأكثر أهمية ، بسبب من ارتباطه بالمنظور الشامل لحركة التاريخ ، وستتضمن عددا من الضوابط والمعايير التي يمكن أن يضاف إليها الكثير فيما بعد ، كما يمكن أن ينخل ويصفى منها ما يخرج عن دائرة الضرورة .
إنها أشبه بموجهات عمل منهجية ، تستهدف حماية أية محاولة جادة لكتابة التاريخ الإسلامي ، أو إعادة كتابته ، من الجنوح او الانحراف ، أو التزوير والتزييف ، فيما يخرج وقائع هذا التاريخ ، وطرائق تشكله وصيرورته ، عن بيئتها الحقة ، ويعيد تركيبها في بيئات وأنساق غربية هجينة ، من شأنها أن تصد المقاربة عن المضي إلى هدفها بالصيغة العلمية المطلوبة ، فيما هو نقيض المنهج ابتداء .
أولا : هنالك ـ قبل أي أمر آخر ـ ضرورتان أساسيتان لا يمكن ـ بدون الأخذ بهما ـ البدء من النقطة الصحيحة .
أولاهما: أن يكون الباحثون على إلمام مناسب بملامح التفسير الإسلامي للتاريخ البشري ، والتي تضع تحت أيديهم مجموعة قيمة من الضوابط التصورية التي لا يمكن فهم التاريخ الإسلامي بدون هضمها وتمثلها .
إن التفسير الإسلامي وهو يسعى وفق منهجه الخاص للكشف عن قوانين الحركة التاريخية وسننها على مستوى العالم يضع في الوقت نفسه منظومة صالحة من القيم التي تفسر تاريخ الإسلام نفسه ، بما أن الإنسان في كلتا الحالتين هو رحى التاريخ وقطبه ، وبما أن السنن التي تعمل عملها في نسيج الحركة التاريخية هي نفسها سواء عملت على مستوى التاريخ البشري أم الإسلامي .
أما الضرورة الثانية : فهي أن يكون الباحثون على وعي مشترك بخصائص التاريخ نفسه، ليست الخصائص الجزئية التفصيلية ، وإنما تلك التي تمثل امتدادا أكبر في الزمن والمكان ، وتمنح هذا التاريخ خصوصياته المؤكدة التي تميزه عن تواريخ الأمم والجماعات والشعوب، ولن يناقش أحد في أن تاريخ الإسلام يحمل ميزات خاصة كهذه بما أنه ـ من بين عوامل عديدة أخرى ـ نتاج لقاء حميم بين الوحي والوجود .
إن الأخذ بهاتين الضرورتين يمكن أن يحمل معه الإفادة القصوى من الحدين الإيجابي والسلبي للمسألة في إطارها المنهجي ، فأما الحد الإيجابي فهو إعانة الباحثين على إدراك أعمق لوقائع هذا التاريخ وسبل تكوينه ، وأما الحد السلبي فهو منع هؤلاء الباحثين من شتات الأمر ، والتبعثر في كل اتجاه ، بل من التصادم والتضارب أحيانا ، في التصورات والتحليلات ، وبالتالي في النتائج التي سيتمخض عنها العمل ، الذي سيغدو ـ رغم ما ينطوي عليه من بذل وعناء ـ ضربا على غير هدى ، ولن يأتي بالنتيجة المتوخاة من تقديم نسيج متوحد لوقائع التاريخ الإسلامي مقاربا قدر الإمكان لصيرورة هذا التاريخ وقوانين تشكله .
ثانيا : تحقيق قدر من التوازن بين دراسة الجوانب السياسية ـ العسكرية ، وبين فحص وتحليل الجوانب الحضارية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة أن ينظر الى المعطيات الحضارية بوصفها أجزاء متفرقة تنتمي الى كل أوسع ، يتضمنها جميعا ويمنحها معنى وهدفا ،
وليس من الضروري ، بصدد هذه النقطة ، أن يقف الباحثون عند سائر التفاصيل والجزئيات التي تعج بها مصادرنا القديمة ، وبخاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والعسكرية من تاريخنا ، ليس من الضروري أن يقع الباحث أسير هذا الحشد الزاخر من النصوص ، ولابد له ـ إذن ـ من أن يتجاوز الجزئيات الى الكليات ، والوقائع الصغيرة الى الدلالات الخطيرة ، ولا يقف عند حدود النص أو الواقعة ، بل يتعداها الى معناها العميق ودلالاتها الموحية ، وحينذاك سيقدر على تحقيق عملية الاختزال والتركيز ، إذ إن كل مجموعة من التفاصيل والجزئيات تندرج تحت هذا المعنى أو ذاك ، وتمنحنا هذه الدلالة أو تلك ، في سياق الحركة التاريخية الأكبر حجما ، ومن ثم تغدو هذه الجزئيات عبارة عن مواد كمية ، أو نماذج متشابهة ، يمكن اعتماد عدد محدود من عيناتها للتوصل إلى الصيغة البنائية الأكبر للواقعة التاريخية ، وبالتالي التخلص من ركام التفاصيل الذي يثير الإرباك في ذهن القارئ أكثر مما يحقق من سيطرة على الحركة التاريخية وتفهم لصيرورتها .
ثالثا : تحقيق قدر من التوازن بين العرض الأكاديمي الصرف للوقائع التاريخية ، سياسية وحضارية ، وبين اتخاذ مواقف فلسفية ، أو تصورية ، لتفسير هذه الوقائع ، وتبين عوامل تكوينها ومؤشرات مساراتها وحصيلة مصائرها ؛ شرط أن تندرج هذه المواقف جميعا في رؤية نوعية متجانسة ، وتلتزم الحد الأدنى المشار إليه من الأسس والمواضعات المستمدة من خامة التاريخ الإسلامي نفسه ، من صميم نسيجه ، غير المقحمة عليه من الخارج .. فلا تتخذ إحداها التفسير المادي منطلقا لها ، بينما تنحو الأخرى نحو المثالية أو الحضارية أو الروحية، وإنما تسعى هذه المواقف قدر الإمكان الى إعتماد أكثر التصورات انسجاما ، وتناغما مع حركة التاريخ الإسلامي وإيقاعه ، وأشدها قدرة على استبطانه وتفسيره.
رابعا : تقديم عروض تاريخية متوازية زمنيا بين ما كان يجري في مرحلة ما من مراحل التاريخ الإسلامي ، وما كان العالم المحيط يشهده في المرحلة ، ذاتها من أحداث ، من أجل تكوين نظرة شمولية لدى الدارس أو القارئ ، تمكنه من فهم طبيعة العلاقات بين الإسلام والعالم الخارجي ، من خلال تحقيق قدر من السيطرة على ما كان يحدث في المرحلة التاريخية ـ الزمنية الواحدة .
فأما أولاهما فتتعلق بمنهج كتابة البحث التاريخي ، سواء في الدائرة الاسلامية أم خارجها ، إننا هنا بإزاء تقنيات ذات طابع عالمي ، أعانت على تكوينها وتنميتها خبرات الأمم والجماعات والشعوب ، وكان لحضارتنا دور بارز في تشكيلها وإغنائها ، وبمرور الوقت أصبحت أشبه بعرف عالمي متفق عليه في سائر الدوائر الأكاديمية ، بحيث إن أي بحث في التاريخ ، أو أية رسالة جامعية ، لن تستكمل شروطها المقبولة إن لم تلتزم بمطالب هذا المنهج الذي يعرفه جيدا التدريسيون والطلبة الجامعيون على السواء ، والذي يتضمن عددا من الحلقات المتماسكة التي يأخذ بعضها برقاب بعض ، والتي لا يمكن تجاوز أحداها ، بأية حال ، لأن ذلك سيعني خللا ما في طريقة جمع وتركيب المادة التاريخية حول هذا الموضوع أو ذاك .
إن اختيار الموضوع بعد تنفيذ قراءات ودراسات شاملة في دوائره المباشرة وغير المباشرة ، وترتيب قائمة المصادر والمراجع التي تغذيه بمادتها التاريخية ، وتصميم خطة بحث مقنعة يقوم عليها المعمار التركيبي للبحث ، ثم البدء بجمع المادة وفق الشروط المعروفة ، وفرزها وفق سياقاتها النمطية ، والتحول لتركيب المادة التاريخية وصولا الى استكمال الجوانب التكميلية الأخرى من مقدمة وخاتمة وقائمة مصادر ومراجع .. إلى آخره .
هذه جميعا خطوات منهجية عامة تلزم كل محاولة للبحث في التاريخ ، إسلاميا كان أم أوربيا أم صينيا .. هنا حيث لا يكون للخصوصيات التاريخية تأثير ما على تقنيات المنهج الذي يبدو ، كما لو كان أداة عمل محايدة ، يمكن توظيفها للبحث في أي حقل من حقول المعرفة التاريخية .
في هذا السياق قدم الكثير من المحاولات بدءاً من محاولة الدكتور أحمد شلبي المعروفة " كيف تكتب بحثاً أو رسالة " وانتهاء بما تقوم به أقسام التاريخ في الجامعات المختلفة ، من إعداد مؤلفات خاصة بالمنهج ، لكي تدرس على طلبتها ، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل الدراسة .
لكننا إذا انتقلنا الى النمط الخاص لكتابة التاريخ الإسلامي ، أي إلى الضوابط والمعايير والشروط التي يتحتم توفرها لدى الباحث في هذا التاريخ ، مضافة على أوليات المنهج وتقنياته العامة المتفق عليها ، فإننا يجب أن نتريث قليلا .
أولا : لأن ضوابط خصوصية كهذه لم تأخذ حظا كافيا من العناية ، ولم يكتب فيها بما يوازي حجم الأهمية البالغة التي تتميز بها .
وثانيا : لأن هذا القليل الذي كتب لم يتح له في أغلب الأحيان أن يتجاوز حدوده التنظيرية صوب التطبيق ، والمطلب الأكثر الحاحا هو تنفيذ هذه الشروط في الساحة التاريخية الإسلامية ، لكي تتحقق المقاربة الأكثر خبرة ونضجا واكتمالا للواقعة التاريخية .
ثم إن علينا ألا نغفل عن ملاحظة لا تقل أهمية ، هي أن منهج البحث في التاريخ الاسلامي نفسه قد يأخذ سياقين أساسيين ، يتطلب كل منهما شروطه وضوابطه الخاصة ، فضلا عما يمكن وصفه قاسما مشتركا أعظم لكل مجالات البحث في التاريخ الإسلامي .
فأما السياق الأول فيتمثل في دراسة واقعة إسلامية ما .. ظاهرة من الظواهر .. حدث من الأحداث .. دولة أو تشكيل سياسي .. معطى ثقافي أو حضاري .. شخصية من الشخصيات .. معركة أو معاهدة .. أو متابعة للعلاقات الخارجية بين هذا الكيان أو ذاك ..إلى آخره . بعبارة أخرى إن معظم الأبحاث التي تكتب عن تاريخ الإسلام ، بما فيها سيول رسائل الدبلوم والماجستير والدكتوراه ، تنحو هذا المنحى ، وتجد نفسها ، بحكم مطالب المنهج ، تتحدد بمسائل معينة ذات حدود زمنية ، أو مكانية ، أو موضوعية ، وإلا انساح الجهد المنهجي على مساحة واسعة فعانى من الفضفاضية والتسطح ، وفقد قدرته على التمركز والإيغال العمقي لمتابعة الواقعة والوصول الى جوهرها .. الى مكوناتها ومقوماتها وخصائصها الأساسية ، أي التحقق بمقاربتها بشكل أفضل .
إلا أن السياق الثاني هو الذي يهمنا في هذه الصفحات .. السياق الذي ينطوي على كتابة تاريخ الأمة الإسلامية على مداه في الزمن ، والمكان ، والمعطيات ، والذي يتطلب منهجا في العمل ، يقدر على ضبط محاولة معقدة ، شاملة ، ممتدة كهذه ، قد لا يكون بمستطاع فرد ، أو مجموعة مؤرخين ، بل قد لا يكون بمقدور مؤسسة علمية أو أكاديمية واحدة ، أن تنفذها بالشكل الصحيح .
ويقينا فإن بعض مواصفات المنهج الذي تقتضيه الأبحاث المحددة في التاريخ الإسلامي، فضلا عن التقنيات المنهجية العامة المتفق عليها عالميا ، ستغذي هذا المنهج الذي يستهدفكتابة ، أو إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية ، لكن يبقى بعد هذا كله ، أو قبل هذا كله ، مجموعة من الشروط والمعايير والضوابط التي يتحتم بلورتها والاقتناع بها ، لكي يكون منهج العمل صالحا تماما للبدء بخطوة كهذه ، تستهدف عرض وتركيب المادة التاريخية الإسلامية كما تشكلت ـ بالفعل ـ في الزمان والمكان ، لا كما يراد لها أن تكون .
والكمال لله وحده … ومحاولة استعادة معطياتنا التاريخية كما تشكلت بالفعل ، بدقائقها وتفاصيلها ، أمر ليس بمستطاع الإنسان ، لاسيما وأنه يتعامل مع مادة تنضوي تحت دائرة العلوم الإنسانية لا العلوم المنضبطة (Exact Sciences ) كبعض العلوم الصرفة والتطبيقية ،
ويتعامل أيضا مع وقائع يفصل بينها وبين الباحث حاجز الزمان والمكان ، هذا إلى أن الرواية التاريخية القادمة إلينا من مظانها الأولى ليست ـ في كل الأحيان ـ أمرا يقينيا لكي نقيم عليه بنيان المعمار التاريخي ، بل إننا قد نجد ما هو نقيض هذا أحيانا سيولا من الرويات التي تتطلب قدرا من الصرامة النقدية لرفضها أو قبولها ، فيما سبق وإن نبه إليه ابن خلدون في " المقدمة " والقاضي أبو بكر بن العربي في " العواصم من القواصم " وغيرهما ممن انتبهوا الى ما تضمنته هذه الروايات من " احتمالية " قد تصل ـ بتعبير الطبري في مقدمة تاريخه المعروف ـ حد الاستشناع الذي يصدم القارئأو السامع ، ويدفعه الى عدم الاستسلام للرواية التاريخية .
ها نحن إذن بازاء ثلاث طبقات منهجية يجب اجتيازها وصولا إلى " الحالة " الملائمة للتعامل مع التاريخ الاسلامي ، وإذا كانت الطبقة الأولى بتقنياتها المنهجية العالمية المتفقعليها ، معروفة تماما ، وإذا كانت الطبقة الثانية قد تلقت بعض المحاولات على مستويي التنظير والتطبيق ، فإن المعضلة تتبدى في الطبقة الثالثة ، والأكثر أهمية ، تلك التي تعنى بتصميم الشروط والضوابط والمعايير التي لابد من الأخذ بها ، إذا أردنا فعلا أن نستعيد تاريخنا الإسلامي .. أن نكتب ، أو نعيد كتابة تاريخ أمة إسلامية لا أمريكية أو روسية أو صينية أو أنكلوسكسونية أو لاتينية !.
ستكون الصفحات التالية " مقترحات " وليست صيغا نهائية على هذا المستوى المنهجي الثالث ، والأكثر أهمية ، بسبب من ارتباطه بالمنظور الشامل لحركة التاريخ ، وستتضمن عددا من الضوابط والمعايير التي يمكن أن يضاف إليها الكثير فيما بعد ، كما يمكن أن ينخل ويصفى منها ما يخرج عن دائرة الضرورة .
إنها أشبه بموجهات عمل منهجية ، تستهدف حماية أية محاولة جادة لكتابة التاريخ الإسلامي ، أو إعادة كتابته ، من الجنوح او الانحراف ، أو التزوير والتزييف ، فيما يخرج وقائع هذا التاريخ ، وطرائق تشكله وصيرورته ، عن بيئتها الحقة ، ويعيد تركيبها في بيئات وأنساق غربية هجينة ، من شأنها أن تصد المقاربة عن المضي إلى هدفها بالصيغة العلمية المطلوبة ، فيما هو نقيض المنهج ابتداء .
أولا : هنالك ـ قبل أي أمر آخر ـ ضرورتان أساسيتان لا يمكن ـ بدون الأخذ بهما ـ البدء من النقطة الصحيحة .
أولاهما: أن يكون الباحثون على إلمام مناسب بملامح التفسير الإسلامي للتاريخ البشري ، والتي تضع تحت أيديهم مجموعة قيمة من الضوابط التصورية التي لا يمكن فهم التاريخ الإسلامي بدون هضمها وتمثلها .
إن التفسير الإسلامي وهو يسعى وفق منهجه الخاص للكشف عن قوانين الحركة التاريخية وسننها على مستوى العالم يضع في الوقت نفسه منظومة صالحة من القيم التي تفسر تاريخ الإسلام نفسه ، بما أن الإنسان في كلتا الحالتين هو رحى التاريخ وقطبه ، وبما أن السنن التي تعمل عملها في نسيج الحركة التاريخية هي نفسها سواء عملت على مستوى التاريخ البشري أم الإسلامي .
أما الضرورة الثانية : فهي أن يكون الباحثون على وعي مشترك بخصائص التاريخ نفسه، ليست الخصائص الجزئية التفصيلية ، وإنما تلك التي تمثل امتدادا أكبر في الزمن والمكان ، وتمنح هذا التاريخ خصوصياته المؤكدة التي تميزه عن تواريخ الأمم والجماعات والشعوب، ولن يناقش أحد في أن تاريخ الإسلام يحمل ميزات خاصة كهذه بما أنه ـ من بين عوامل عديدة أخرى ـ نتاج لقاء حميم بين الوحي والوجود .
إن الأخذ بهاتين الضرورتين يمكن أن يحمل معه الإفادة القصوى من الحدين الإيجابي والسلبي للمسألة في إطارها المنهجي ، فأما الحد الإيجابي فهو إعانة الباحثين على إدراك أعمق لوقائع هذا التاريخ وسبل تكوينه ، وأما الحد السلبي فهو منع هؤلاء الباحثين من شتات الأمر ، والتبعثر في كل اتجاه ، بل من التصادم والتضارب أحيانا ، في التصورات والتحليلات ، وبالتالي في النتائج التي سيتمخض عنها العمل ، الذي سيغدو ـ رغم ما ينطوي عليه من بذل وعناء ـ ضربا على غير هدى ، ولن يأتي بالنتيجة المتوخاة من تقديم نسيج متوحد لوقائع التاريخ الإسلامي مقاربا قدر الإمكان لصيرورة هذا التاريخ وقوانين تشكله .
ثانيا : تحقيق قدر من التوازن بين دراسة الجوانب السياسية ـ العسكرية ، وبين فحص وتحليل الجوانب الحضارية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة أن ينظر الى المعطيات الحضارية بوصفها أجزاء متفرقة تنتمي الى كل أوسع ، يتضمنها جميعا ويمنحها معنى وهدفا ،
وليس من الضروري ، بصدد هذه النقطة ، أن يقف الباحثون عند سائر التفاصيل والجزئيات التي تعج بها مصادرنا القديمة ، وبخاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والعسكرية من تاريخنا ، ليس من الضروري أن يقع الباحث أسير هذا الحشد الزاخر من النصوص ، ولابد له ـ إذن ـ من أن يتجاوز الجزئيات الى الكليات ، والوقائع الصغيرة الى الدلالات الخطيرة ، ولا يقف عند حدود النص أو الواقعة ، بل يتعداها الى معناها العميق ودلالاتها الموحية ، وحينذاك سيقدر على تحقيق عملية الاختزال والتركيز ، إذ إن كل مجموعة من التفاصيل والجزئيات تندرج تحت هذا المعنى أو ذاك ، وتمنحنا هذه الدلالة أو تلك ، في سياق الحركة التاريخية الأكبر حجما ، ومن ثم تغدو هذه الجزئيات عبارة عن مواد كمية ، أو نماذج متشابهة ، يمكن اعتماد عدد محدود من عيناتها للتوصل إلى الصيغة البنائية الأكبر للواقعة التاريخية ، وبالتالي التخلص من ركام التفاصيل الذي يثير الإرباك في ذهن القارئ أكثر مما يحقق من سيطرة على الحركة التاريخية وتفهم لصيرورتها .
ثالثا : تحقيق قدر من التوازن بين العرض الأكاديمي الصرف للوقائع التاريخية ، سياسية وحضارية ، وبين اتخاذ مواقف فلسفية ، أو تصورية ، لتفسير هذه الوقائع ، وتبين عوامل تكوينها ومؤشرات مساراتها وحصيلة مصائرها ؛ شرط أن تندرج هذه المواقف جميعا في رؤية نوعية متجانسة ، وتلتزم الحد الأدنى المشار إليه من الأسس والمواضعات المستمدة من خامة التاريخ الإسلامي نفسه ، من صميم نسيجه ، غير المقحمة عليه من الخارج .. فلا تتخذ إحداها التفسير المادي منطلقا لها ، بينما تنحو الأخرى نحو المثالية أو الحضارية أو الروحية، وإنما تسعى هذه المواقف قدر الإمكان الى إعتماد أكثر التصورات انسجاما ، وتناغما مع حركة التاريخ الإسلامي وإيقاعه ، وأشدها قدرة على استبطانه وتفسيره.
رابعا : تقديم عروض تاريخية متوازية زمنيا بين ما كان يجري في مرحلة ما من مراحل التاريخ الإسلامي ، وما كان العالم المحيط يشهده في المرحلة ، ذاتها من أحداث ، من أجل تكوين نظرة شمولية لدى الدارس أو القارئ ، تمكنه من فهم طبيعة العلاقات بين الإسلام والعالم الخارجي ، من خلال تحقيق قدر من السيطرة على ما كان يحدث في المرحلة التاريخية ـ الزمنية الواحدة .
ضوابط ومعايير أساسية في منهج كتابة التاريخ الإسلامي 2 ـ 2
كتب: د.عماد الدين خليل
08/11/1430 الموافق
26/10/2009
خامسا : هل يتحتم إعادة تقسيم الفترات الزمنية لمراحل التاريخ الإسلامي ، في ضوء المعطيات الجديدة لهذا المنهج ، وتجاوز ، أو تعديل ، الصيغ التقليدية لهذا التقسيم ، والتي غدت لطول أمدها ولشدة تكرارها والأخذ بها ، مسلمات لا تقبل نقضا ولا جدلا ؟
نعم .. أغلب الظن .. لاسيما إذا تذكرنا وحدة الحركة التاريخية ، وصيرورتها المتواصلة، وامتدادها المستمر إلى نسيج الأمم والشعوب الإسلامية بعيدا عن التبدل الفوقي في الأسرات والنظم والحكام .. هنالك حيث تتحقق التبدلات التاريخية وفق معادلات زمنية تختلف في الأساس عن معادلات التبدل في الدول والنظم والسياسات .
وهكذا يبدو ضروريا اعتماد مقاييس التغير النوعي في الحركة التاريخية بين مرحلة ومرحلة ، وعصر وعصر ، وعلى سائر المستويات السياسية والعقيدية والحضارية ، أي أن التقسيم الزمني للمراحل التاريخية يجب ألا ينصب على المتغيرات الفوقية بل يمتد إلى قلب المجتمع في تمخضه وتحوله الدائمين .
أما على المستوى المكاني فمن الأفضل اعتماد الوحدات الحضارية المتنوعة ضمن إطار وحدة الحضارة الإسلامية ، هذه الوحدات المتميزة التي قد تشهد أكثر من كيان سياسي ، وقد تمتد إلى أكثر من بيئة جغرافية أو إقليم .
سادسا : الأخذ بأسلوب نقدي رصين في التعامل مع الروايات التي قدمتها مصادرنا القديمة ، وعدم التسليم المطلق بكل ما يطرحه مؤرخنا القديم ، وإحالة الرواية التاريخية ، قبل التسليم النهائي بها ، على المجرى العام للمرحلة التاريخية ، لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع نسيج تلك المرحلة ؟ هذا فضلا عن ضرورة اعتماد مقاييس ومعايير النقدين الخارجي والباطني ، وصولا إلى قناعة كافية بصحة الرواية .
ويمكن الإفادة في مجال النقد الخارجي ـ إلى حد ما ـ من علمي ( مصطلح الحديث ) و ( الجرح والتعديل ) ، اللذين مورسا على نطاق واسع في عمليات تمحيص الأحاديث النبوية ، ومن كتب التراجم الغنية الخصبة ، فما من أمة في الأرض عنيت بتمحيص مصادر أخبارها وتاريخها كالأمة الإسلامية ، فهنالك تراجم لعشرات الآلاف من الرجال أسهموا جميعا في تقديم الأحاديث والأخبار والروايات التاريخية ، التي لا يمكن توثيقها والأخذ بها إلا بعد فحص أولئك الرجال الذين تناقلوها ، ومن ثم فإن دراسة التاريخ الإسلامي دراسة جادة تستلزم ـ بالضرورة ـ دراسة هذا الموضوع الخطير لكي تقوم الأعمال التاريخية معتمدة على أوثق المصادر وأدق الأخبار ، ومنقحة من حشود الدسائس والأباطيل ، وسيل الروايات التي نفثتها القوى المضادة في جسد تاريخنا المتشابك الطويل .
ولابد من الإشارة هنا إلى الملاحظة القيمة التي أبداها محب الدين الخطيب حول هذه النقطة ، فهو يشير إلى أن تاريخ الطبري " لا يمكن الانتفاع بما فيه من آلاف الأخبار إلا بالرجوع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل ، وأن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ، ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف .. وأن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي ، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم ، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري ، رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ، ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك ، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار .."(1).
والطبري نفسه يقول في مقدمة كتابه عبارته المعروفة : " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحا ، ولا معنى في الحقيقة ، فليفهم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من بعض ناقليه إلينا ، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا "(2).
سابعا : يقابل هذا ضرورة الاعتماد في بناء البحث التاريخي على الواقعة نفسها ، دون الوقوع في مظنة اعتماد هياكل مرسومة ووجهات نظر مصنوعة سلفا ، ومحاولة تطويع الوقائع وإرغامها على الانسجام مع هذه الهياكل والوجهات ، حتى ولو أدى هذا إلى تشويه ملامح الواقعة التاريخية ، أو إعادة تركيبها ، لكي تنسجم والأطروحات المسبقة ، مما نجده واضحا ـ على سبيل المثال ـ في الدراسات التي تنطلق من المفهوم المادي في تفسير التاريخ ، الأمر الذي ، أوقعها في حشد من الأخطاء والتناقضات .
ونحن نجد هذا ـ مثلا ـ في موقفهم من حركة الرسول صلى الله عليه وسلم فبعضهم يرى أن المجتمع العربي [ في مكة والمدينة ] شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق ، بينما يرى ( بيجو لفسكايا ) أن القرآن [ الكريم ] يشعر بتركز مرحلة ملكية الرقيق ويذهب مع ( بلا ييف ) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الأخرى ، هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا ومنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلة الجديدة من ملاك وأرستقراطية الإقطاع مثل ( كليموفيج ) ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط ، في حين أن البعض مثل ( بلاييف ) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن ، لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة ، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتبرير الاستغلال الطبقي الجديد ، وفي حين أن بعضهم يقول : إن الأرستقراطية وحدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها ، يقول غيرهم : إن القبائل كانت تتوثب للوحدة ، فجاء الإسلام موحدا يعبر عن ذلك التوثب ، ويضطرب الموقف من نشأة الإسلام ذاته، فبينما يدعي ( كليموفيج ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشروا بالتوحيد ، وأرادوا توحيد القبائل ، يذهب ( تولستوف ) إلى نفي وجود النبي العربي ، ويعتبره شخصية أسطورية . وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام ، يذهب ( كليموفيج ) إلى أن جزءا كبيرا منه ظهر فيما بعد ، في مصلحة الإقطاعيين ، ونسب أصله الى فعاليات معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وتجاوز ( تولستوف ) إلى أن الإسلام نشأ عن أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة ، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنفية "(3).
ثامنا : يجب ألا يقع الباحثون تحت وطأة الموضوعات المعاصرة ، في سائر مناحي الحياة البشرية : السياسية والاقتصادية والأخلاقية والروحية والاجتماعية ، لأن هذا من شأنه أن يصبغ رؤيتهم للتاريخ الإسلامي بألوان تستمد تركيبها من واقع عصرنا الراهن ، الأمر الذي قد يفسد موضوعية الرؤية ، وبالتالي يصد المؤرخ عن الوصول إلى كنه الوقائع التاريخية التي قد لا تمت بصلة إلى معطيات العصر الحديث.
صحيح أن على المؤرخ أن يستفيد من كل ما يقدمه هذا العصر من علوم وأدوات موصلة أو مساعدة على كشف الحقيقة التاريخية ، ما كان بميسور مؤرخنا القديم أن يحظى بعشر معشارها ، لكن الاعتماد على هذه العلوم ـ وأكثرها ميداني أو تجريبي ـ للإعانة على كشف الواقعة التاريخية شيء ، والتأثر بفلسفة العلم الظنية التخمينية ، وما أحدثته من نتائج سيئة في عالمي النفس والمجتمع ، في ميداني الضمير والسلوك ، شيء آخر ، قد يجعل المؤرخ أسير موضوعات زمنية نسبية متغيرة تفرض عليه نمطا من التفكير في تعامله مع حشود الوقائع التاريخية ، فلا يراها كما يوجب البحث الموضوعي أن يراها ، وإنما يقوم ـ إذا صح التعبير ـ بعملية تمرير لهذه الوقائع من خلال تلك الموضوعات ، فما تلبث حينذاك أن تفقد لونها الأصيل وملامحها الخاصة وشخصيتها المستقلة ، لكي تقتبس ألوان هذه الموضوعات وملامحها وخطوطها وتضيع .
تاسعا : حيثما اكتشف تناقض حاد بين التجربة التاريخية الواقعة وبين النص أو الرواية التاريخية ، تحتم اعتماد التجربة الأكثر ثقلا وتحققا وإقناعا، والأشد تلاؤما مع الصيرورة التاريخية نفسها .
وعلى سبيل المثال : فقد جابهت الدولة الإسلامية في صدر الخلافة الراشدة أخطر التجارب في تاريخها: الحركة المضادة المعروفة بالردة ، مجابهة عسكرية ومصيرية حاسمة مع نظم العالم القديم القائمة يوم ذاك .. تحديات حضارية دائمة تتطلب استجابات ناجحة باستمرار .. لقد كانت الأمة الإسلامية أمام امتحانها العسير ، وكان عليها أن تنجح أو أن تنتكس ، ولقد نجحت في نهاية الأمر على المستويات الثلاثة .
وحركة التاريخ الثقيلة هذه ما كان لها أن تتحقق هذا التحقق لو كانت الأمة الإسلامية ، والدولة الجديدة ، تعاني في قيادتها العليا انشقاقا خطيرا ، كما حاولت بعض الأخبار أن تصور ، إن التجربة أكثر إقناعا ـ ولا ريب ـ من مجرد النصوص الإخبارية التي لا مردود لها على مستوى الفعل التاريخي إزاء التحديات الكبرى .
إننا نرى أيضا ـ وعلى سبيل المثال ـ كيف أن الفتوحات الإسلامية قطعت أشواطا واسعة في عهد الخليفتين الأولين والسنين الأولى من عهد الخليفة الثالث ( رضي الله عنهم )، ثم ما لبثت أن توقفت فترة من الزمن لكي تعود فتستأنف قدرتها على الإنجاز في عهد معاوية ، وأننا لنرى ـ أيضا ـ كيف لم يتقدم الأمويون في خلافة عبد الملك أو سليمان ـ فيما عدا مجازفة القسطنطينية ـ بينما فتحوا المشارق والمغارب في خلافة الوليد .
إن الوقائع التاريخية المنظورة هنا تشير إلى أن هناك قانونا يفسر : لماذا عبر هذا المدى الزمني القصير نسبيا تحققت ظاهرة الفتح مرتين ؟ وتوقفت مرتين والجواب ، إزاء الإنجازات التاريخية الكبرى ، يكمن ـ غالبا ـ في وحدة الأمة ووحدة قيادتها في تجمع طاقاتها ، في مرحلة ما من مراحل التاريخ ، وقدرتها على صنع الإنجاز الكبير .
أما ما ذكرته حشود الروايات والأخبار التي تنوقلت ودونت بعد عشرات العقود من هذا التحقق التاريخي المنظور ، والتي تقدم معطياتها باتجاه مضاد: التفتت والتطاحن والتمزق وصراع المصالح والفتن والأهواء ، فإنها لا يمكن ان تصمد أمام ثقل الواقعة التاريخية نفسها.
عاشرا : سيكون من فضول القول التأكيد على ضرورة التنويع في اعتماد المصادر القديمة ما بين كتب التاريخ العام ، والحوليات ، وتواريخ الدويلات والأقاليم والمدن ، وكتب الخطط ، والجغرافيا والرحلات ، والتراجم والسير والطبقات ، والفقه … الخ ، لأن إغناء الجانب الحضاري ـ بخاصة ـ في التاريخ الإسلامي لا يتحقق إلا بهذا التنويع ، ولأن مقابلة الروايات والنصوص ومناقشتها وصولا إلى الحقيقة التاريخية ، لا يتأتى إلا بالانفتاح على هذا الحشد الزاخر من أنماط المصادر التي ترفد العمل التاريخي من مناح شتى .
أحد عشر : وسيكون من فضول القول ـ كذلك ـ التأكيد على ضرورة اعتماد منهج أو أسلوب البحث العلمي الحديث وطرائقه ومعطياته المتعارف عليها عالميا ـ والتي ألمحنا إليها في القسم الأول من هذا المقال ـ والتي غدت أشبه بالبداهات التي لا تقبل نقضا ولا تحويرا(4) ، وهي في حقيقتها إرث إنساني مفتوح أسهمت في صنعه وإغنائه ، شتى الأمم ومختلف الحضارات ، وكان لحضارتنا الإسلامية دور بارز فيه(5).
إن هذه الطرائق والمعطيات التي تبدأ بوضع خطة البحث ، وتنتهي بتنظيم فهارسه مرورا بتحليل المصادر والمراجع ، وتجميع المادة ، وتصنيفها ونقدها ، وتركيب المادة التاريخية ، ..الخ .. فيما يمكن تسميته بتقنية البحث ، إنما تمثل الحد الأدنى الملزم والمتفق عليه بين سائر الباحثين ، هذا إلى جانب أنها لا تعدو أن تكون أداة حيادية ، بوصفها وسيلة تقنية صرفة لخدمة البحث التاريخي في آفاقه وميادينه كافة .
اثنا عشر : ولابد من الإشارة ـ كذلك ـ إلى أن الدعوة لإعادة كتابة أو عرض وتحليل تاريخ الأمة الإسلامية لا تعني ـ بالضرورة ـ البدء من نقطة الصفر ، أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمه بها مؤرخونا القدماء ، ومحاولة قلب معطياتهم رأسا على عقب ، ومن يخطر على باله أمرا كهذا فهو ليس من العلم في شيء .
والمقصود شيء آخر يختلف تماما : منهج عدل يتعامل مع معطيات الأجداد بروح علمية مخلصة ، فيتقبل ما يمكن تقبله ، ويرفض ما لا يحتمل القبول ، ويقدر عطاء الرواد حق قدره، دون أن يصده ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية والموضوعية التي يطلع علينا بها العصر الحديث ، وأشدها صرامة .. موقف وسط يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغاءها المجاني من الحساب ، رؤية موضوعية تستحضر البيئة التي تخلقت في أحضانها وقائع التاريخ الإسلامي ، وتعتمد في الوقت نفسه معطيات العلوم المساعدة كافة : إنسانية وصرفة وتطبيقية ، من أجل كشف أشد إضاءة لهذه البيئة ، وفهم أعمق لوقائعها وأحداثها .
ثلاثة عشر : من المستحسن ، إزاء ذلك كله ، أن توضع مؤشرات عمل في الاتجاهات النقدية الثلاثة التالية :
آ ـ نقد الرواية الأساسية لدى المؤرخ القديم ، وتصنيف الروايات حسب قوتها وضعفها .
ب ـ نقد مواقف المؤرخين المحدثين وفلاسفة التاريخ ، الذين تعاملوا مع تاريخنا ودرسوا جوانب منه ، وتحديد مدى قرب معطياتهم أو بعدها عن الحقيقة التاريخية .
جـ ـ نقد معطيات الحركة الاستشراقية بأجنحتها كافة، وتحديد المساحات التي يمكن الإفادة الفاعلة منها، وتلك التي يجب تجنبها، مع تبيان أبعادها اللاموضوعية ، وهذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة في هذه المنظومة من الضوابط والشروط والتي سنقف عندها بعض الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــ
نعم .. أغلب الظن .. لاسيما إذا تذكرنا وحدة الحركة التاريخية ، وصيرورتها المتواصلة، وامتدادها المستمر إلى نسيج الأمم والشعوب الإسلامية بعيدا عن التبدل الفوقي في الأسرات والنظم والحكام .. هنالك حيث تتحقق التبدلات التاريخية وفق معادلات زمنية تختلف في الأساس عن معادلات التبدل في الدول والنظم والسياسات .
وهكذا يبدو ضروريا اعتماد مقاييس التغير النوعي في الحركة التاريخية بين مرحلة ومرحلة ، وعصر وعصر ، وعلى سائر المستويات السياسية والعقيدية والحضارية ، أي أن التقسيم الزمني للمراحل التاريخية يجب ألا ينصب على المتغيرات الفوقية بل يمتد إلى قلب المجتمع في تمخضه وتحوله الدائمين .
أما على المستوى المكاني فمن الأفضل اعتماد الوحدات الحضارية المتنوعة ضمن إطار وحدة الحضارة الإسلامية ، هذه الوحدات المتميزة التي قد تشهد أكثر من كيان سياسي ، وقد تمتد إلى أكثر من بيئة جغرافية أو إقليم .
سادسا : الأخذ بأسلوب نقدي رصين في التعامل مع الروايات التي قدمتها مصادرنا القديمة ، وعدم التسليم المطلق بكل ما يطرحه مؤرخنا القديم ، وإحالة الرواية التاريخية ، قبل التسليم النهائي بها ، على المجرى العام للمرحلة التاريخية ، لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع نسيج تلك المرحلة ؟ هذا فضلا عن ضرورة اعتماد مقاييس ومعايير النقدين الخارجي والباطني ، وصولا إلى قناعة كافية بصحة الرواية .
ويمكن الإفادة في مجال النقد الخارجي ـ إلى حد ما ـ من علمي ( مصطلح الحديث ) و ( الجرح والتعديل ) ، اللذين مورسا على نطاق واسع في عمليات تمحيص الأحاديث النبوية ، ومن كتب التراجم الغنية الخصبة ، فما من أمة في الأرض عنيت بتمحيص مصادر أخبارها وتاريخها كالأمة الإسلامية ، فهنالك تراجم لعشرات الآلاف من الرجال أسهموا جميعا في تقديم الأحاديث والأخبار والروايات التاريخية ، التي لا يمكن توثيقها والأخذ بها إلا بعد فحص أولئك الرجال الذين تناقلوها ، ومن ثم فإن دراسة التاريخ الإسلامي دراسة جادة تستلزم ـ بالضرورة ـ دراسة هذا الموضوع الخطير لكي تقوم الأعمال التاريخية معتمدة على أوثق المصادر وأدق الأخبار ، ومنقحة من حشود الدسائس والأباطيل ، وسيل الروايات التي نفثتها القوى المضادة في جسد تاريخنا المتشابك الطويل .
ولابد من الإشارة هنا إلى الملاحظة القيمة التي أبداها محب الدين الخطيب حول هذه النقطة ، فهو يشير إلى أن تاريخ الطبري " لا يمكن الانتفاع بما فيه من آلاف الأخبار إلا بالرجوع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل ، وأن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ، ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف .. وأن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي ، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم ، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري ، رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ، ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك ، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار .."(1).
والطبري نفسه يقول في مقدمة كتابه عبارته المعروفة : " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحا ، ولا معنى في الحقيقة ، فليفهم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من بعض ناقليه إلينا ، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا "(2).
سابعا : يقابل هذا ضرورة الاعتماد في بناء البحث التاريخي على الواقعة نفسها ، دون الوقوع في مظنة اعتماد هياكل مرسومة ووجهات نظر مصنوعة سلفا ، ومحاولة تطويع الوقائع وإرغامها على الانسجام مع هذه الهياكل والوجهات ، حتى ولو أدى هذا إلى تشويه ملامح الواقعة التاريخية ، أو إعادة تركيبها ، لكي تنسجم والأطروحات المسبقة ، مما نجده واضحا ـ على سبيل المثال ـ في الدراسات التي تنطلق من المفهوم المادي في تفسير التاريخ ، الأمر الذي ، أوقعها في حشد من الأخطاء والتناقضات .
ونحن نجد هذا ـ مثلا ـ في موقفهم من حركة الرسول صلى الله عليه وسلم فبعضهم يرى أن المجتمع العربي [ في مكة والمدينة ] شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق ، بينما يرى ( بيجو لفسكايا ) أن القرآن [ الكريم ] يشعر بتركز مرحلة ملكية الرقيق ويذهب مع ( بلا ييف ) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الأخرى ، هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا ومنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلة الجديدة من ملاك وأرستقراطية الإقطاع مثل ( كليموفيج ) ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط ، في حين أن البعض مثل ( بلاييف ) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن ، لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة ، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتبرير الاستغلال الطبقي الجديد ، وفي حين أن بعضهم يقول : إن الأرستقراطية وحدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها ، يقول غيرهم : إن القبائل كانت تتوثب للوحدة ، فجاء الإسلام موحدا يعبر عن ذلك التوثب ، ويضطرب الموقف من نشأة الإسلام ذاته، فبينما يدعي ( كليموفيج ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشروا بالتوحيد ، وأرادوا توحيد القبائل ، يذهب ( تولستوف ) إلى نفي وجود النبي العربي ، ويعتبره شخصية أسطورية . وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام ، يذهب ( كليموفيج ) إلى أن جزءا كبيرا منه ظهر فيما بعد ، في مصلحة الإقطاعيين ، ونسب أصله الى فعاليات معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وتجاوز ( تولستوف ) إلى أن الإسلام نشأ عن أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة ، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنفية "(3).
ثامنا : يجب ألا يقع الباحثون تحت وطأة الموضوعات المعاصرة ، في سائر مناحي الحياة البشرية : السياسية والاقتصادية والأخلاقية والروحية والاجتماعية ، لأن هذا من شأنه أن يصبغ رؤيتهم للتاريخ الإسلامي بألوان تستمد تركيبها من واقع عصرنا الراهن ، الأمر الذي قد يفسد موضوعية الرؤية ، وبالتالي يصد المؤرخ عن الوصول إلى كنه الوقائع التاريخية التي قد لا تمت بصلة إلى معطيات العصر الحديث.
صحيح أن على المؤرخ أن يستفيد من كل ما يقدمه هذا العصر من علوم وأدوات موصلة أو مساعدة على كشف الحقيقة التاريخية ، ما كان بميسور مؤرخنا القديم أن يحظى بعشر معشارها ، لكن الاعتماد على هذه العلوم ـ وأكثرها ميداني أو تجريبي ـ للإعانة على كشف الواقعة التاريخية شيء ، والتأثر بفلسفة العلم الظنية التخمينية ، وما أحدثته من نتائج سيئة في عالمي النفس والمجتمع ، في ميداني الضمير والسلوك ، شيء آخر ، قد يجعل المؤرخ أسير موضوعات زمنية نسبية متغيرة تفرض عليه نمطا من التفكير في تعامله مع حشود الوقائع التاريخية ، فلا يراها كما يوجب البحث الموضوعي أن يراها ، وإنما يقوم ـ إذا صح التعبير ـ بعملية تمرير لهذه الوقائع من خلال تلك الموضوعات ، فما تلبث حينذاك أن تفقد لونها الأصيل وملامحها الخاصة وشخصيتها المستقلة ، لكي تقتبس ألوان هذه الموضوعات وملامحها وخطوطها وتضيع .
تاسعا : حيثما اكتشف تناقض حاد بين التجربة التاريخية الواقعة وبين النص أو الرواية التاريخية ، تحتم اعتماد التجربة الأكثر ثقلا وتحققا وإقناعا، والأشد تلاؤما مع الصيرورة التاريخية نفسها .
وعلى سبيل المثال : فقد جابهت الدولة الإسلامية في صدر الخلافة الراشدة أخطر التجارب في تاريخها: الحركة المضادة المعروفة بالردة ، مجابهة عسكرية ومصيرية حاسمة مع نظم العالم القديم القائمة يوم ذاك .. تحديات حضارية دائمة تتطلب استجابات ناجحة باستمرار .. لقد كانت الأمة الإسلامية أمام امتحانها العسير ، وكان عليها أن تنجح أو أن تنتكس ، ولقد نجحت في نهاية الأمر على المستويات الثلاثة .
وحركة التاريخ الثقيلة هذه ما كان لها أن تتحقق هذا التحقق لو كانت الأمة الإسلامية ، والدولة الجديدة ، تعاني في قيادتها العليا انشقاقا خطيرا ، كما حاولت بعض الأخبار أن تصور ، إن التجربة أكثر إقناعا ـ ولا ريب ـ من مجرد النصوص الإخبارية التي لا مردود لها على مستوى الفعل التاريخي إزاء التحديات الكبرى .
إننا نرى أيضا ـ وعلى سبيل المثال ـ كيف أن الفتوحات الإسلامية قطعت أشواطا واسعة في عهد الخليفتين الأولين والسنين الأولى من عهد الخليفة الثالث ( رضي الله عنهم )، ثم ما لبثت أن توقفت فترة من الزمن لكي تعود فتستأنف قدرتها على الإنجاز في عهد معاوية ، وأننا لنرى ـ أيضا ـ كيف لم يتقدم الأمويون في خلافة عبد الملك أو سليمان ـ فيما عدا مجازفة القسطنطينية ـ بينما فتحوا المشارق والمغارب في خلافة الوليد .
إن الوقائع التاريخية المنظورة هنا تشير إلى أن هناك قانونا يفسر : لماذا عبر هذا المدى الزمني القصير نسبيا تحققت ظاهرة الفتح مرتين ؟ وتوقفت مرتين والجواب ، إزاء الإنجازات التاريخية الكبرى ، يكمن ـ غالبا ـ في وحدة الأمة ووحدة قيادتها في تجمع طاقاتها ، في مرحلة ما من مراحل التاريخ ، وقدرتها على صنع الإنجاز الكبير .
أما ما ذكرته حشود الروايات والأخبار التي تنوقلت ودونت بعد عشرات العقود من هذا التحقق التاريخي المنظور ، والتي تقدم معطياتها باتجاه مضاد: التفتت والتطاحن والتمزق وصراع المصالح والفتن والأهواء ، فإنها لا يمكن ان تصمد أمام ثقل الواقعة التاريخية نفسها.
عاشرا : سيكون من فضول القول التأكيد على ضرورة التنويع في اعتماد المصادر القديمة ما بين كتب التاريخ العام ، والحوليات ، وتواريخ الدويلات والأقاليم والمدن ، وكتب الخطط ، والجغرافيا والرحلات ، والتراجم والسير والطبقات ، والفقه … الخ ، لأن إغناء الجانب الحضاري ـ بخاصة ـ في التاريخ الإسلامي لا يتحقق إلا بهذا التنويع ، ولأن مقابلة الروايات والنصوص ومناقشتها وصولا إلى الحقيقة التاريخية ، لا يتأتى إلا بالانفتاح على هذا الحشد الزاخر من أنماط المصادر التي ترفد العمل التاريخي من مناح شتى .
أحد عشر : وسيكون من فضول القول ـ كذلك ـ التأكيد على ضرورة اعتماد منهج أو أسلوب البحث العلمي الحديث وطرائقه ومعطياته المتعارف عليها عالميا ـ والتي ألمحنا إليها في القسم الأول من هذا المقال ـ والتي غدت أشبه بالبداهات التي لا تقبل نقضا ولا تحويرا(4) ، وهي في حقيقتها إرث إنساني مفتوح أسهمت في صنعه وإغنائه ، شتى الأمم ومختلف الحضارات ، وكان لحضارتنا الإسلامية دور بارز فيه(5).
إن هذه الطرائق والمعطيات التي تبدأ بوضع خطة البحث ، وتنتهي بتنظيم فهارسه مرورا بتحليل المصادر والمراجع ، وتجميع المادة ، وتصنيفها ونقدها ، وتركيب المادة التاريخية ، ..الخ .. فيما يمكن تسميته بتقنية البحث ، إنما تمثل الحد الأدنى الملزم والمتفق عليه بين سائر الباحثين ، هذا إلى جانب أنها لا تعدو أن تكون أداة حيادية ، بوصفها وسيلة تقنية صرفة لخدمة البحث التاريخي في آفاقه وميادينه كافة .
اثنا عشر : ولابد من الإشارة ـ كذلك ـ إلى أن الدعوة لإعادة كتابة أو عرض وتحليل تاريخ الأمة الإسلامية لا تعني ـ بالضرورة ـ البدء من نقطة الصفر ، أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمه بها مؤرخونا القدماء ، ومحاولة قلب معطياتهم رأسا على عقب ، ومن يخطر على باله أمرا كهذا فهو ليس من العلم في شيء .
والمقصود شيء آخر يختلف تماما : منهج عدل يتعامل مع معطيات الأجداد بروح علمية مخلصة ، فيتقبل ما يمكن تقبله ، ويرفض ما لا يحتمل القبول ، ويقدر عطاء الرواد حق قدره، دون أن يصده ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية والموضوعية التي يطلع علينا بها العصر الحديث ، وأشدها صرامة .. موقف وسط يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغاءها المجاني من الحساب ، رؤية موضوعية تستحضر البيئة التي تخلقت في أحضانها وقائع التاريخ الإسلامي ، وتعتمد في الوقت نفسه معطيات العلوم المساعدة كافة : إنسانية وصرفة وتطبيقية ، من أجل كشف أشد إضاءة لهذه البيئة ، وفهم أعمق لوقائعها وأحداثها .
ثلاثة عشر : من المستحسن ، إزاء ذلك كله ، أن توضع مؤشرات عمل في الاتجاهات النقدية الثلاثة التالية :
آ ـ نقد الرواية الأساسية لدى المؤرخ القديم ، وتصنيف الروايات حسب قوتها وضعفها .
ب ـ نقد مواقف المؤرخين المحدثين وفلاسفة التاريخ ، الذين تعاملوا مع تاريخنا ودرسوا جوانب منه ، وتحديد مدى قرب معطياتهم أو بعدها عن الحقيقة التاريخية .
جـ ـ نقد معطيات الحركة الاستشراقية بأجنحتها كافة، وتحديد المساحات التي يمكن الإفادة الفاعلة منها، وتلك التي يجب تجنبها، مع تبيان أبعادها اللاموضوعية ، وهذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة في هذه المنظومة من الضوابط والشروط والتي سنقف عندها بعض الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1) المراجع الأولى في تاريخنا ، مجلة الأزهر ، المجلد 44 ، ج 2 ، ص 210 ، القاهرة ، صفر ـ 1372 هـ.
(2) تاريخ الرسل والملوك ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1961 ـ 1962 م ، 1 / 8.
(3) د. عبد العزيز الدوري وزملاؤه ، تفسير التاريخ ، مكتبة النهضة ، بغداد ـ 1963 م ، مقال ( التاريخ والحاضر ) ، ص 17.
(4) ينظر على سبيل المثال : حسن عثمان : منهج البحث التاريخي ، وأسد رستم : مصطلح التاريخ .
(5) ينظر على سبيل المثال : فرانز روزنثال ، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ، وعلم التاريخ عند المسلمين ، و د. مصطفى الشكعة ، مناهج التأليف عند العلماء العرب.
المصدر : موقع التاريخ