بسم الله الرحمــن الرحيم
جأتكم اليوم بموضوع يتحدث
ظاهرة دوبلر
في صبيحة أحد الأيام وبينما كنت أقف على أحد مواقف الباص منتظرا قدومه مرت بي سيارة مسرعة بعض الشيء وكان سائقها قد أطلق الزامور قبل أن تصلني، ثم مرت بي وتجاوزتني. وربما يقول أحدكم وما العجيب في ذلك؟ وأوافق أن لا عجيب في الأمر ولكن ما لفت انتباهي هو اختلاف صوت الزامور قبل وصوله إلي عنه بعد أن تجاوزني؛ فقد كان (حادا) بعض الشيء قبل وصوله إلي ثم أصبح فجأة (غليظا) حين تجاوزني أفليس ذلك عجيبا؟
حسنا لنتدبر الأمر. وقبل أن نشرع في أي تفصيل دعني أفسر ما تعني “حادا” وما تعني “غليظا”. نعلم جميعا، على ما أظن، أن الصوت عبارة عن أمواج من نوع معين تنتشر في الهواء بسرعة الصوت وهي 340 م/ث. ولكن مهلا ما هي الأمواج وما أنواعها؟ هناك نوعان من الأمواج هي الأمواج الطولية والأمواج المستعرضة حيث يكون اتجاه تذبذب الوسط بنفس اتجاه انتشار الموجة في النوع الأول بينما يكون عموديا عليه في النوع الثاني.
والموجة الطولية ما هي إلا تضاغطات وتخلخلات لوسط معين. فإذا ضغطنا سطح وسط معين ثم تركناه يعود حرا (كما في الشكل أدناه) فإن جزيئات هذا الوسط تنضغط إلى بعضها بنفس اتجاه الضغط الخارجي. وينتقل هذا الضغط بنفس الاتجاه إلى الجزيئات الداخلية في مستويات موازية للسطح الضاغط الخارجي. وأكبر مثال على هذا النوع من الأمواج هو الصوت، حيث تضغط جزيئات الهواء عند مصدر الصوت ثم تعود لتتخلخل.
أما الموجة المستعرضة فهي اهتزازات في الوسط لكنها تنتشر بشكل عمودي على اتجاه تذبذبها. فعندما نلقي حجرا في بركة ماء
مثلا فإن الحجر يضغط على سطح الماء إلى أسفل مما يجعل الماء يفيض من جوانب الحجر وهكذا يتكون لدينا قاع وقمة وعند هبوط الجوانب التي ارتفعت فإنها تدفع جوانبها الخارجية إلى أعلى لتهبط بعد ذلك مكررة نفس التسلسل. وهذا التذبذب يحدث لجزيئات الماء موضعيا فهي تصعد وتهبط في مكانها. بذلك نرى أن هذه الموجة تنتشر أفقيا على سطح الماء بينما هي تضرب صعودا وهبوطا بشكل عمودي.
ولنعد إلى الأمواج الطولية، ولنأخذ كمثال موجات الصوت حيث ينتقل الصوت في الوسط بشكل كرات متحدة المركز. فلو أخذنا كثافة الهواء كمقياس فالكثافة تكون أكبر ما يكون عند نقطة التضاغط وأقل ما يكون عند نقطة التخلخل. ونقول أن لدينا قمة عند اكبر كثافة للهواء بينما يكون لدينا قاعا عند أقل كثافة له. هل كل شيء واضح؟ إن لم يكن كذلك فعليك بالعودة ثانية للأعلى فإن لم يجد ذلك فعليك بالبريد الإلكتروني فاسأل عما تشاء.
حسنا، يمكننا الآن أن نعرف السمات الأساسية لأية موجة. فكل موجة تميزها كميات ثلاث وهي طول هذه الموجة (l)، والفترة (T)، والسعة. أما الطول فهو المسافة الفاصلة بين أي نقطتين متتاليتين متماثلتين (متساويتين في الكثافة) أي لقطع طول موجة كامل وبهذا فإن بإمكاننا تعريف سرعة انتشار الموجة بأنها طول الموجة (l) مقسومة على الفترة اللازمة لقطعها.
أما الفترة فهي الزمن اللازم لعمل ذبذبة واحدة ويعرف مقلوب الفترة عادة بالتردد (n) وهو عدد الذبذبات المتولدة في وحدة الزمن وبالتالي فإن سرعة انتشار الموجة هي (V = n l) أي طول الموجة في ترددها. أما السمة الثالثة فهي السعة وتمثل أقصى كثافة يصلها الوسط أو أعلى ارتفاع تصلة القمة. وهي تعتمد على الطاقة المعطاة للموجة في الأصل.
أظن أنك قد نالك التعب بعد هذا المشوار الطويل، لذا دعنا نعود إلى ما بدأناه من السؤال عن معنى “حادا” و”غليظا” فنحن نقول أن صوت الرجل “أغلظ” من صوت المرأة وأن صوت الناي “أحدّ” من صوت الطبل مثلا إلى غير ذلك والحدة تزداد بزيادة تردد الموجة أي بازدياد عدد الذبذبات في الثانية وهذا ينتج عنه نقص في طول الموجة ما دامت سرعة الصوت ثابتة ولو قارنا طريقة اهتزاز الطبل بطريقة اهتزاز عمود الهواء في الناي فسنرى بوضوح أن الطبل يهتز ببطء شديد مقارنة بالناي أي أن عدد ذبذبات الطبل ( وبالتالي تردده ) قليل جدا مقارنة بالناي ونفس الشيء في صوت الرجل والمرأة أما شدة الصوت فتتحكم فيها سعة الموجة وكلما زادت السعة زادت شدة الصوت بمعنى ارتفاعه أو انخفاضه فترى الشخص يبذل جهدا أكبر ليتكلم بصوت عال ويضرب الطبال بقوة أكبر ليحصل على شدة كبيرة في صوت الطبل. أرجو الآن أن يكون المقصود بالحدة والغلظة قد اتضح.
ودعوني أذكركم أيضا بأن موضوعنا هو ذلك الزامور المزعج الذي جرنا إلى كل هذه التشعبات الطويلة. قلنا أن الزامور كان حادا قبل وصوله إلي ثم انقلب فجأة إلى غليظ بعد أن مر بي وهذا يحدث دائما عند ما يمر بك أي مصدر للصوت سواء كان قطارا أم سيارة إسعاف أو حتى باخرة ويلاحظ بوضوح أيضا عندما تمر بك طائرة أن كنت تسكن قريبا من مطار.
تنتشر الأمواج كما قلنا من مصدر الصوت بشكل كرات متحدة المركز. وتبقى سائرة بشكل كرات ما دام المصدر ساكنا. وللسهولة دعنا نمثل هذه الكرات بدوائر. أما إذا ما تحرك المركز فإن الأمواج سوف تعاني من تغير في شكل الانتشار تبعا لسرعة المصدر ووفقا لجمع السرع. فالجزء من الدائرة الذي ينتشر بنفس اتجاه حركة المصدر سوف تنضغط أمواجه على بعضها لتحافظ على سرعة الصوت ثابتة. فيزداد تردده ويقل طول موجته (أي يصبح أكثر حدة). عكس ذلك تماما يحدث للموجة المنتشرة بعكس اتجاه حركة المصدر فهي تتخلخل ويقل ترددها مما يزيد في طول موجتها (فتصبح أكثر غلظة) أما الأمواج المنتشرة بالاتجاه العمودي على حركة المصدر فتبقى بشكلها الطبيعي.
تسمى هذه الظاهرة (التي تتضمن زيادة التردد للمقترب ونقصه للمبتعد) بظاهرة دوبلر ولها استعمالات كثيرة وتطبيقات مفيدة ولعل أهم هذه التطبيقات المألوفة تدخل في الرادار فالرادار كما نعلم يرسل موجات ذات تردد معين بجميع الاتجاهات ثم يسجل انعكاساتها وعندما يكون الجسم المرصود متحركا فإن هذه الانعكاسات ستعاني تغيرا في طول الموجة والتردد ومن هذا التغير يمكننا حساب سرعة هذا الجسم وما إذا كان يقترب أو يبتعد عن الراصد. فهذه هي الطريقة التي يستطيع بها شرطي المرور عند عربة الرادار أن يوقفك وأنت تقود السيارة بسرعة عالية ليخبرك بأن سرعتك كانت كذا بينما أنت تتعجب كيف عرف ذلك؟
ثمة تطبيق هام آخر في علم الفلك يتعلق بحساب سرعات النجوم سحيقة البعد عنا حيث لا يصدق كثيرون أن بإمكان الفلكيين حساب سرعات نجوم تبعد عنا آلاف وملايين السنين الضوئية. إن الأمر بسيط، فكل نجم يمكن تجميع ضوئه وتحليله إلى مكوناته الطيفية (كما يحلل ضوء الشمس باستعمال المنشور) فعندما يتحرك النجم بسرعة ما فإن طول موجة ضوءه يتغير. في الضوء يمثل طول الموجة أو التردد لون هذا الضوء، فنجد أن ألوان قوس قزح السبعة وما بينها تقابل أطوالا موجية معينة لكل منها وبالتالي فلها ترددات معينة لكل منها فإذا حدث تغير في طول الموجة لضوء معين فمعنى ذلك أن لونه قد تغير. إن أطول الألوان موجة (أقلها ترددا) هو اللون الأحمر وأقصرها طولا ( أكبرها ترددا) هو اللون البنفسجي فإذا كان نجم ما يبتعد عنا بسرعة معينة فإن طول موجته سيزداد وبالتالي ستتجه ألوانه إلى الاحمرار أي كأن الطيف كله يزاح إلى الأحمر. وإذا كان هذا النجم يقترب فإن طيفه سيزاح إلى البنفسجي. ومن مقدار هذا الإنزياح للأحمر أو البنفسجي يمكن حساب السرعة التي يتحرك بها النجم مبتعدا أو مقتربا منا. وهكذا ترون معي أن هذه الظاهرة التي ربما نصادفها يوميا يعود لها الفضل الكبير في كثير من التطبيقات العملية والعلمية.