تمهيد: ابن خلدون والتفكير الاقتصادي
إن من يطالع “مقدمة” ابن خلدون، يجد فيها آراء اقتصادية قيمة، تكشف عن جانب من جوانب عبقريته الفذة؛ حتى أن بعضهم ذهب إلى أنه المؤسس الحقيقي لعلم الاقتصاد. وبهذا الصدد يقول الدكتور محمد حلمي مراد: “ولن نتناول هنا حصراً شاملاً لآراء ابن خلدون فيما تعرض له من شؤون اقتصادية… ولكن مقصدنا من هذه الدراسة، أن نشيد بدوره في ميدان البحث العلمي الاقتصادي؛ باعتباره أول من وضع دعائم علم الاقتصاد، ومؤسس مذهب الاقتصاد المرسل، وصاحب فضل أسبق بالكثير من النظريات الاقتصادية التي نسبت بعد مئات السنين إلى غيره من الاقتصاديين الحديثين (1)”.
والحقيقة إن من يرجع إلى “المقدمة” يجد أن ابن خلدون خص اقتصاد بباب كامل هو الباب الخامس، وإنه كثيراً ما كان يعاود التطرق إليه في بعض فصولها؛ حينما يتطلب وجه الكلام ذلك. ولكن الباحثين قلما اهتموا بالآراء الاقتصادية الواردة فيها؛ وكان جل اهتمامهم منصرفاً إلى المباحث المتعلقة بعلم الاجتماع في الدرجة الأولى؛ وإلى المباحث المتعلقة بعلم التاريخ في الدرجة الثانية. ومما يلفت النظر أن الدكتور علي عبد الواحد وافي، محقق أحدث طبعة “للمقدمة” وشارحها والمعلق عليها، قد نظر إلى مباحث ابن خلدون الاقتصادية في سياقها الاجتماعي. وبهذا الصدد يقول: “ومن دراسته (ابن خلدون) لظواهر اقتصاد، انتهى كذلك إلى عدة أفكار وقوانين؛ منها (أن الفلاحة من معاش المستضعفين) و(أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري) و(أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها) و(أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها) و(أن الأمصار إذا قاربت الخراب انتقصت منها الصنائع)… الخ 2).”
ولكننا إذا دققنا النظر في سياق كلامه على النواحي الاقتصادية، لم نجده في الحقيقة ينحو دائماً نحواً اقتصادياً اجتماعياً؛ بل إنه ينحو أحياناً نحواً اقتصادياً بحتاً؛ كما نرى اليوم في بحث الاقتصاد السياسي. وهذا يعني، أن الصورة التنظيمية لعلم الاجتماع وفروعه لم تجد التعبير الكامل عنها في “المقدمة”. ويرجع ذلك إلى أنه كتبها على عجلة من أمره، في مدة خمسة أشهر كما يقول (3)، في قلعة ابن سلامة. ولهذا فهو يعتذر قائلاً: “وقد كدنا نخرج عن الغرض. ولذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران وما يعرض فيه. وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفاية. ولعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح، وعلم مبين، يغوص من مسائله على أكثر مما كتبنا. فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله؛ وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه. والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يكمل (4)”.
ومهما يكن من أمر، فإننا أميل إلى أن ننظر إلى المباحث الاقتصادية في “مقدمة” في سياقها الاجتماعي؛ لأن اتجاه ابن خلدون الفكري كان ينحو هذا المنحى؛ وإن كانت الإشارة إلى ذلك تعوزه في بعض المواضع.
وبهذا يمكننا أن نعده رائداً في علم الاقتصاد من ناحية، وفي علم اجتماع الاقتصادي من ناحية أخرى. أما بالنسبة إلى علم الاقتصاد، فلأنه فرغ من كتابة “مقدمته” في منتصف سنة 779 هـ (5) (الموافقة لسنة 1376 م)؛ وأن كتاب آدم سميث “بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها” المعروف باسم “ثروة الأمم” والصادر سنة 1776 م قد تأخر أربعمائة سنة من فراغ ابن خلدون من كتابة “مقدمته”؛ علماً بأن آدم سميث يعد المؤسس الحقيقي لعلم الاقتصاد عند الغربيين. وأما بالنسبة إلى علم الاجتماع، فلأنه سبق أوغست كونت صاحب كتاب “دروس في الفلسفة الوضعية” الذي عاش في القرن التاسع عشر ( 1798 ـ 1857) ومن تلوه من علماء الاجتماع، بأكثر من أربعة قرون.
ولكن دعونا ننتقل الآن إلى آراء ابن خلدون في الاقتصاد وعلم الاجتماع الاقتصادي. وهنا يمكننا أن نتطرق إلى أربعة مسائل تبين لنا حقيقة تفكيره الاقتصادي وصبغته الاجتماعية. وهي: علاقة العمران البشري بالاقتصاد؛ وعلاقة السعر بالعمل؛ وتأثير الجباية في العمل؛ وغاية العمران البشري.
1 ـ العمران البشري والاقتصاد
إذا كان الاجتماع الإنساني ضرورياً في نظرية ابن خلدون، فما الصورة التي تصوره بها، وما الأساس الذي يقوم عليه؟
(1) شكلا العمران البشري:
يرى ابن خلدون أن للعمران البشري شكلين أساسيين هما العمران البدوي والعمران الحضري. بيد أن هذين الشكلين ليسا مختلفين في النوع، بل في الدرجة؛ إذ إن أحدهما، وهو الاجتماع البدوي، يفضي إلى الآخر، الذي هو الاجتماع الحضري.
ويرجع ابن خلدون اختلاف أجيال الناس في أحوالهم، إلى اختلاف نحلهم من المعاش. وهو يرى أن اجتماعهم إنما يكون للتعاون على تحصيل معاشهم؛ وإنهم يبدؤون بالضروري والبسيط منه؛ لكي ينتقلوا من بعد ذلك إلى الحاجي والكمالي. يصف ابن خلدون ذلك قائلاً: “إن اختلاف الأجيال في أحوالهم، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله، والابتداء بما هو ضروري منه وبسيط، قبل الحاجي والكمالي (6)”.
أما في طور البداوة، فإنهم ينصرفون إلى الفلاحة والغراسة والزراعة حيناً، وإلى القيام على الحيوان من الغنم والبقر والنحل والدود؛ لنتاجها واستخراج فضلاتها حيناً آخر. يقول شارحاً الكيفية التي يحدث ذلك بها: “فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة؛ ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود، لنتاجها واستخراج فضلاتها. وهؤلاء القائمون على الفلح والحيوان، تدعوهم الضرورة، ولابد، إلى البدو، لأنه متسع لما يتسع له الحواضر من المزارع والفدن والمسارح للحيوان، وغير ذلك. فكان اختصاص هؤلاء بالبدو أمراً ضرورياً لهم. وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك (7)”.
تلكم هي حياة البداوة؛ وهي ترتبط ـ كما نلاحظ ـ بمفهوم الحضارة الزراعية القائمة على الفلاحة والغراسة وتربية الحيوان، في سبيل استخراج ثرواتها ونتاجها. لكنه لا تقف عند هذا الحد؛ بل إنها الطريق إلى الحضارة الواسعة؛ إذ إنها لا تلبث أن تدر على بعض الناس أرباحاً تزيد من غناهم، وتميل بهم إلى الرفه والدعة. وهذا من شأنه أن يزيد من تعقيد حياتهم؛ فيصبحون غير قانعون بالضروري من حاجاتهم؛ مما يدفعهم إلى طلب الكمالي فضلاً عنه. وهنا يدخلون في دوامة لا تنتهي من الحاجات التي تسلمهم من حاجة إلى حاجة: إذ إن طلب الكمالي لا يقف عند حد؛ فهو سرعان ما يتحول إلى ضروري. وهكذا باستمرار…
في هذه الحال، يكون الانتقال في نظر ابن خلدون من حال البداوة إلى حال الحضارة. وهاكم وصفة لكيفية هذا الانتقال؛ يقول: “ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش، وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس، والتأنق فيها، وتوسعة البيوت، واختطاط المدن والأمصار، للتحضر. ثم تزيد أحوال الرفه والدعة؛ فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت، واستجادة المطابخ، وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك، ومغالاة البيوت والصروح، وأحكام وضعها في تنجيدها، والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة إلى الفعل إلى غاياتها؛ فيتخذون القصور والمنازل؛ ويجرون فيها المياه، ويعالجون في صرحها، ويبالغون في تنجيدها، ويختلفون في استجادة ما يتخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر؛ ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع؛ ومنهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري، ومعاشهم على نسبة وجدهم (8)”.
وإذا سألنا ابن خلدون: لماذا كانت الأمور على هذا النحو؟ ولماذا انتهى المجتمع البدوي إلى المجتمع الحضري؟ أجابنا بقوله: “إن أجيال البدو والحضر طبيعية لابد منهما”. وهذا يعني، إن المجتمعات لديه، تسير بحسب قوانين معينة، لا يمكن الخروج عليها. وهذا ـ في رأينا ـ بداية الفهم العلمي للحياة الاجتماعية، وخروج عن النظرة الإصلاحية التي ظلت سائدة قبله، منذ بدأ التفكير الإنساني بدراسة المجتمعات البشرية.
وهكذا يربط ابن خلدون بين وجوه الكسب وتطور الحياة الاجتماعية؛ فيرينا أن ازدياد الكسب هو سبب هذا التطور؛ وأن المبالغة في جني ثماره، هي سبب المبالغة في اتساع الحضارة. ويمكننا أن نستخلص مع ابن خلدون، أن حياة البداوة سابقة على حياة الحضارة؛ وأن الحضارة البسيطة سابقة على الحضارة المعقدة؛ وأن الضروري سابق على الحاجي والكمالي. وبهذا الصدد يقول: “ولاشك أن الضروري أقدم من الحاجي والكمالي وسابق عليه؛ لأن الضروري أصل، والكمالي فرع ناشئ عنه: فالبدو أصل للمدن والحضر وسابق عليهما؛ لأن أول مطالب الإنسان الضروري؛ ولا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلاً؛ فخشونة البداوة قبل رفه الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده، عاج إلى الدعة، وأمكن نفسه إلى قياد المدينة. وهذا شأن القبائل المتبدية كلهم (9)”.
وهذا يعني، أن اختلاف أحوال الناس الاجتماعية مرتبط باختلاف أحوالهم الاقتصادية: فأحوال البداوة مرتبطة بانتحالهم الزراعة وتربية الحيوان؛ وهم يظلون كذلك ما داموا في هذا النطاق لا يتعدونه. لكنهم متى اتسعت أحوالهم المعاشية بالغنى والرفه مالوا إلى الدعة وكثرت حاجاتهم الكمالية، فتأنقوا في المأكل والملبس وتوسعة البيوت والمدن.
لكن هذا من شأنه أن يؤثر في ازدياد الأعمال وتنوعها؛ ويؤدي إلى اختلاف قيمها، وتبدل أسعار الحاجات الضرورية والكمالية.
2 ـ العمران والأعمال والأسعار
يرى ابن خلدون أن العمل هو أساس الدخل (الرزق) بما يأتي به من ربح؛ وأنه خاضع في ذلك لطبيعة العمران (الحياة الاجتماعية).
(1) الرزق والعمل:
يستخدم ابن خلدون كلمة كسب إلى جانب كلمة رزق؛ وهو يرى أن كل كسب هو نتيجة سعي وعمل؛ وأنه لابد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول (10). وهذا يعني أن قلة الأعمال أو فقدانها، يؤدي إلى رفع الكسب من بين الناس، وتناقص أرزاقهم تناقصاً مطرداً، علماً بأن قلة الأعمال أو فقدانها ناتج عن انتقاص العمران؛ أي ضعف الحياة الاجتماعية (11).
ولكن، هل صحيح أن كل رزق هو نتيجة عمل؟ أليست هناك أرزاق هي هبة من السماء؛ كالنبات الذي ينبت في القفار، من دون أية رعاية أو عناية؟! إن ابن خلدون لا يعتقد ذلك: فهو يرى أنه لابد من القيام بعمل من الأعمال في كل رزق. لكن العمل قد يكون ظاهراً وقد يكون غير ظاهر: إنه يكون ظاهراً للعيان، ولا يحتاج إلى أي بيان، إذا نظرنا إلى الصنائع المختلفة، مثل صنع الصيوان والكرسي. وفي هذه الحال، لا يمكن لكائن من كان، أن ينكره فيهما بوجه من الوجوه. بيد أن العمل قد يكون مقتضى من الحيوان أو النبات أو المعدن؛ وهو عندئذ لا يكون ظاهراً في الوهلة الأولى. ولهذا كان هناك من يعتقد أنه ما من عمل إنساني هناك؛ وإن هذه المقتنيات جميعاً هي هبة من الطبيعة، تجود بها على الإنسان. ولكن ابن خلدون لا يعتقد هذا الاعتقاد؛ فهو يرى أنه لابد هنا أيضاً من العمل الإنساني، للانتفاع بهذه المقتنيات الطبيعية. ويضرب على ذلك أمثلة الحليب والثمار والمعدن: فالحليب لابد من حلبه ونقله إلى راغبيه؛ والحلب والنقل عملان؛ والثمار لابد من قطفها وتوزيعها؛ والقطف والتوزيع عملان؛ والمعدن لابد من استخراجه وصنعه؛ والاستخراج والصنع عملان؛ الخ… (12).
وفضلاً عن ذلك، فبعض البضائع لا يكون منفرداً مستقلاً عن غيره، بل يكون معه غيره. ويضرب لنا ابن خلدون مثلين على مثل هذه الصنائع، هما النجارة والحياكة. وهو يرى أن النجارة يكون معها الخشب؛ وأن الحياكة يكون معها الغزل؛ وهكذا… فإذا أنعمنا النظر فيها قليلاً، وجدنا قيمة العمل فيها أكثر من قيمة الأشياء التي تكون معها. ولتوضيح ذلك، لنفكر بقيمة العمل المبذول في بناء بيت من البيوت: إن قيمة العمل المبذول هنا أكبر بكثير من قيمة المواد المستخدمة في البناء. وقل الشيء نفسه بالنسبة إلى أسعار الأقوات بين الناس؛ ولاسيما في الأقطار التي يكون علاج الفلح فيها ومؤونته غير يسيرة (13).
وهنا لابد لنا من استخلاص نتيجة وتقريرها: إنه لابد لنا من تقرير أن ما يفيده الإنسان من اقتناء الصنائع، هو قيمة المبذول في صناعتها، إذ ليس هناك إلا العمل؛ لكنه ليس مقصوداً بنفسه للقنية (14). وهذا يعني، إننا لا نقصد إلا امتلاك العمل نفسه؛ لأن العمل لا يمتلك؛ بل إن ما يمتلك هو ناتج العمل فقط. ومن هذه الناحية، يمكننا أن نقول: إن العمل المبذول في بناء بيت من البيوت، هو الذي نقتنيه بشراء هذا البيت: إن ما نشتريه في الحقيقة هو ناتج هذا العمل، وهو البناء على وجه معين، لا العمل نفسه.
وعلى هذا النحو، يتبين لنا بوضوح، أن المفادات والمكتسبات ـ كلها أو أكثرها ـ هي قيم الأعمال الإنسانية (15). وهذا ينتهي إلى أن قلة الرزق أو كثرته إنما يكونان بقلة الأعمال الإنسانية أو كثرتها. وهنا يمكننا أن نستنتج، أن الأمصار ذات السكان القلائل يكون الرزق فيها قليلاً، لقلة الأعمال الإنسانية فيها؛ وأن الأمصار ذات السكان الكثر يكثر فيها، لكثرة الأعمال الإنسانية فيها: فعلى قدر العمل في مصر من الأمصار، تكون سعة العيش ورفاهيته بين أهله وسكانه (16).
(2) العمل والربح:
بيد أن ما قدمناه لا يعبر عن الحقيقة تعبيراً دقيقاً؛ بل إن فيه شيئاً من التجاوز. والحقيقة، إن قيمة الأشياء ليست قيمة العمل المبذول في صنعها على وجه التحقيق؛ بل تنضاف إليه زيادة في أثمانها، هي ربح التاجر الذي يتجر بها. وإذا أنعمنا النظر في الأمر قليلاً، وجدنا أن الأشياء المصنوعة وغير المصنوعة بحاجة إلى من يشتريها ويحتفظ بها، في انتظار المشتري الراغب فيها. وهذا يقوم به التاجر الذي يشتريها من أجل المتاجرة بها، لا لأنه بحاجة إليها. ولذلك هو يزيد في أسعار البضائع، ليجني ببيعها أرباحاً لنفسه. ولكي يحقق غايته، ينتظر عادة تحول الأسواق؛ وهو يتمنى أن يكون هذا التحول سريعاً، ليجني أرباحه بسرعة.
والحقيقة، إن التاجر يحاول باستمرار، أن يدخر البضائع المشتراة مدة من الزمن، تطول أو تقصر، بحسب بطء تحول الأسواق أو سرعته. ولعنصر الزمن أهميته بالنسبة إليه؛ لأنه قد يكون عامل ربح سريع أو بطيء: ولاشك أن التاجر يرغب في الربح السريع. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا تحولت السوق بسرعة، واعتدلت الأسعار. أما إذا استديم الرخص في سلعة من السلع، فإنه يؤدي إلى كساد السوق، وطول مدة الاحتفاظ بالسلعة. وهذا ينتهي إلى فساد الربح؛ الأمر الذي يجعل التاجر يقعد عن السعي؛ فيفسد بذلك رأس ماله (17).
والواقع إن كساد الأسواق معناه قلة الربح؛ وقلة الربح معناها عدم توافر القدر الكافي من المال لإنفاقه في ضروريات الحياة. وهذا يدفع بالتاجر إلى الإنفاق من رأس ماله بالذات الأمر الذي ينتهي به إلى نضوب رأس ماله؛ أي إفلاسه، كما نقول اليوم.
بيد أن الكساد في الأسواق لا ينال من التجار فحسب؛ بل ينال من أصحاب الحرف أيضاً؛ فهم الذين يقومون بصناعة السلع التي هي في أساس اتجار التاجر. ولهذا كان أمرهم ـ هم أيضاً ـ ينتهي إلى السوء والفقر. ويضرب ابن خلدون مثالاً على ذلك حال المحترفين بالزراعة في سائر أطوارها؛ فيقول: “واعتبر ذلك أولا بالزرع: فإنه إذا استديم رخصه، يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره من الفلح والزراعة، لقلة الربح فيه، وندرته، أو فقده؛ فيفقدون النماء في أموالهم، أو يجدونه على قلة، ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم، وتفسد أحوالهم، ويصيرون إلى الفقر والخصاصة (18)”.
وهذا يعني، إن الرخص الذي يصيب صنفاً من الأصناف، يؤدي إلى الإجحاف بمعاش المحترفين بذلك الصنف (19). وإذا علمنا أن سعر هذا الصنف هو قيمة العمل المبذول في إنتاجه، علمنا أيضاً أن عمل المحترفين بهذا الصنف ذهب هدراً.
بيد أن الرخص المفرط ليس وحده العامل في كساد صنف من الأصناف؛ بل إن الغلاء المفرط هو أيضاً عامل في كساده. ولهذا كان السعر المعتدل هو المؤدي إلى حوالة الأسواق، ورواج البضائع؛ ومن ثم إلى انتفاع المحترفين بالأصناف التي احترفوا بها (20). وفي هذه الحال، فهم يجزون جزاء عادلاً على عملهم.
لكن الأمر في فساد حال المحترفين بحرفة من الحرف لا يتوقف عندهم، بل يتجاوزهم إلى غيرهم من أهل الحرف الأخرى؛ لاسيما تلك التي تمت من قريب إلى الحرفة الكاسدة. ويضرب لنا ابن خلدون مثالاً على ذلك فساد حرفة الزراعة فيقول: “ويتبع ذلك الفساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث، إلى صيرورته مأكولاً (21)”.
ولا يقف الفساد عند هذا الحد؛ بل إنه يتعدى أهل هذه الحرف المتعددة جميعاً إلى الجند أنفسهم؛ بسبب قلة الجباية، وسوء أحوال الدولة. يقول ابن خلدون: “وكذا يفسد حال الجند؛ إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعاً، فإنها تقل جبايتهم من ذلك، ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ومطالبون بها، ومنقطعون لها؛ فتفسد أحوالهم (22)”.
وما صح على الزراعة والحرف التابعة لها، يصح على العسل والملبوسات وسائر الحرف الأخرى (23).
(3) العمران وقيمة العمل:
بيد أن قيمة العمل المبذول في إنتاج البضائع أو صنعها، تختلف باختلاف درجة العمران وازدحام سكانه. وهنا يلاحظ ابن خلدون، أن الحاجات الضرورية ترخص أثمانها، كلما ازدادت درجة العمران، وتزايد معها تزاحم السكان؛ في حين أن الحاجات الكمالية ترتفع أثمانها خلافاً لذلك، بارتفاع درجة العمران وتزايد السكان (24).
ولكي يشرح ابن خلدون ذلك، يبدأ بالكلام على رخص الحاجات الضرورية. وهو يعد منها الأقوات من الحنطة وما في معناها، كالباقلاء، والبصل والثوم وأشباهها (25). ويعلل رخص أثمانها بعدم إهمال الناس لأقواتهم. وبهذا الصدد يقول: “والسبب في ذلك، أن الحبوب من ضرورات القوت؛ فتتوافر الدواعي على اتخاذها؛ إذ كل أحد لا يهمل قوت منزله بشهره أو سنته، فيعم اتخاذها أهل مصر، أو الأكثر منهم في ذلك المصر، أو فيما قرب منه، لابد من ذلك (26)”.
بيد أن هذا السبب ليس الوحيد؛ فهناك سبب آخر وهو فيض فضلة من أقواتهم عنهم. ويمكننا أن نعد هذا السبب امتداداً للسبب الأول. ويقول ابن خلدون في شرحه هذه الحقيقة ما يلي: “وكل متخذ لقوته تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر؛ فتفضل الأقوات على أهل المصر من غير شك؛ فترخص أسعارها في الغالب؛ إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية. ولولا احتكار الناس لها ـ لما يتوقع من تلك الآفات ـ لبذلت دون ثمن أو عوض؛ لكثرتها بكثرة العمران (27)”.
أما في الأمصار الصغيرة القليلة السكان، فيكون الأمر على خلاف ذلك؛ إذ تكون أثمان الحاجات الضرورية فيها غالية لقلتها، وقلتها ناتجة عن قلة الأعمال فيها. وهذا يدعو السكان إلى التمسك بما يحصل في أيديهم منها، خوفاً من طلبها حين الحاجة، وعدم إيجادها. وهذا يؤدي إلى احتكارها؛ فيعز وجودها، ويغلو من ثمة ثمنها على طالبها (28).
لكن الأمر على خلاف ذلك بالإضافة إلى الحاجات الكمالية. والحقيقة، إذا كانت الحاجات الضرورية تنخفض أثمانها في الأمصار الكثيرة السكان، فإن الحاجات الكمالية ترتفع أثمانها فيها. ويعد ابن خلدون من الحاجات الكمالية الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر الصانع والمباني (29). ويعلل ارتفاع أسعارها بعدم الحاجة إلى اتخاذها من الناس أجمعين. وبهذا الصدد يقول: “وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها، فإنها لا تعم بها البلوى، ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل لمصر أجمعين، ولا الكثير منهم (30)”.
بيد أن هناك سبباً آخر لارتفاع أثمان الحاجات الكمالية، وهو الترف الذي يؤدي إلى البذل بإسراف في سبيلها. يقول ابن خلدون مبيناً ذلك: “ثم إن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران، كثير حاجات الترف، توافرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها؛ كل بحسب حاله؛ فيقصر الموجود منها عن الحاجات قصوراً بالغاً؛ ويكثر المستامون لها؛ وهي قليلة في نفسها؛ فتزدحم أهل الأغراض؛ ويبذل أهل الترف والرفه أثمانها بإسراف في الغلاء؛ لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم؛ فيقع فيها الغلاء (31).
ولكن الأمر في الأمصار الصغيرة القليلة السكان على خلاف ذلك تماماً؛ إذ تكون الحاجات الكمالية رخيصة فيها لقلة طلابها. يقول ابن خلدون: “وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة، لقلة السكان وضعف الأحوال؛ فلا تنفق لديهم سوقه؛ فيختص بالرخص في سعره (32)”.
ولا يكاد ابن خلدون يصل إلى هذا الحد من الموازنة بين أسعار الحاجات الضرورية وأسعار الحاجات الكمالية في الأمصار القليلة السكان والأمصار الكثيرة السكان، حتى يحاول أن يحدد العلاقة بين الأسعار؛ بحيث يتوقع قارئه أن يجد قانوناً ينظم هذه العلاقة. لكن ابن خلدون لم ينص على قانون صريح فيما يتعلق بأسعار الحاجات، غير أن شيئاً من أنعام النظر والتفكير نرى فيما قاله، قانون العرض والطلب واضحاً في معناه أشد الوضوح:
فالحاجات الضرورية لا طلب عليها لتوافرها في كل يد، وفي كل بيت، وفي كل سوق من الأمصار الموفورة العمران. وهذا يعني أن العرض أكثر من الطلب. بيد أن الأمر مخالف لذلك في الأمصار الصغيرة؛ إذ إنها مفقودة في الأسواق ومحتكرة في البيوت. ولهذا فإن طالبها لن يجدها إلا إذا بذل في سبيل الحصول عليها. وهنا نلمس أيضاً قانون العرض والطلب؛ ولكن الطلب أكثر من العرض. ومن هنا كانت زيادة العرض على الطلب مؤدية إلى رخص الأسعار؛ وكان زيادة الطلب على العرض مؤدية إلى غلائها. وما قلناه على الحاجات الضرورية، يصح على الحاجات الكمالية؛ ولكن صحته عكسية.
3 ـ الاقتصاد والدولة
بيد أن قيمة البضاعة تزداد أيضاً بعامل آخر، هو ما تفرضه الدولة من مكوس عليها؛ لاسيما ما تفرضه على البياعات التي تتجر بها. يقول ابن خلدون بهذا الصدد: “وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات، ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان، في الأسواق وأبواب المصر، للجباة منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم (33)”.
هذا سبب آخر يلجأ إليه ابن خلدون لتعليل غلاء الحاجات في المدن. ولهذا يضيف قائلاً: “ولذلك كانت الأسعار في الأمصار أعلى من الأسعار في البادية، إذا المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة؛ وكثرتها في الأمصار؛ لاسيما في أواخر الدولة (34)”.
وهذا يقودنا إلى الحديث عن الجباية. وسنرى أن فيها لابن خلدون رأياً طريفاً. فهو يرى أن قلة قدر الوزائع ينشط العمل ويرفع من قيمة الجباية؛ وإن رفع قيمتها يقعد الناس عن العمل؛ فتنخفض قيمة الجباية. ولهذا كان للسنة التي تستنها الدولة في فرض الضرائب وتوزيعها، أثر كبير في نشاط العمل.
(1) الجباية والعمل والترف:
لكي تقوم الدولة بوظائفها المختلفة، لابد لها من المال؛ والمصدر الرئيسي للمال بالإضافة إليها هو الجباية وما يتعلق بها من الوزائع. ويرى ابن خلدون أن الوازئع المفروضة على الناس، في بدء قيام الدولة، تكون قليلة المقدار بالنسبة إلى الأشخاص المفروضة عليهم. لكن الدولة تجني من ورائها جملة كبيرة من الدخل، لما تؤدي إليه من تنشيط الأعمال والحصول على وزائع كثيرة جراء ذلك. وخلافاً لذلك، فإن الوزائع التي تفرض على الناس في أواخر قيام الدولة، وعند بلوغها أعلى مراتب الرفه، تكون عظيمة المقدار بالنسبة إلى الأشخاص. لكنها لا تجني للدولة من ذلك جملة كبيرة من الدخل (35) لما تؤدي إليه من تثبيط الهمم عن العمل، وقلة الوزائع المتأتية عن ذلك.
ويشرح ابن خلدون ذلك مستنداً إلى وضع الدول في عصره، ولاسيما الدول الإسلامية. ويقوم تعليله على أن الدولة إما أن تكون سائرة على سنن الدين، وإما على سنن الدين، وإما على سنن التغلب والعصبية. وفي كلتا الحالتين فهي لا تعلي من مقادير الوزائع المفروضة على الناس، إما لأن الشرع يقتضي ذلك، أو لأن خلق البداوة القائم على المسامحة يتطلب ذلك (36).
بيد أن قلة الوزائع هي نفسها سبب كثرة الجملة من أموال الجباية، لما تبعث من النشاط في نفوس الناس، ورغبتهم في العمل والاعتمار. إن هذا والوضع يؤدي إلى أن تكثر الأعمال، وتؤدي كثرتها إلى ازدياد المحصل من أموال الجباية، على الرغم من أن الوزيعة المفروضة على كل منها قليلة. ويشرح ابن خلدون ذلك قائلاً: “وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا، نشطوا للعمل، ورغبوا فيه، فيكثر الاعتمار، ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم؛ وإذ كثر الاعتمار، كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها(37)”.
لكن الحال لا تبقى هي الحال؛ إذ إن كثرة الجباية تؤدي إلى الرفه والترف. وهذا ينتهي إلى أن تمر الدولة بنقطة تحول؛ فينقلب الأمر إلى نقيضه تماماً: فالترف ينادي الترف؛ والرفه يدعو إلى الرفه؛ مما يجعل الدولة بحاجة إلى المزيد من المال؛ فتتجه إلى تكبير مقدار الوزائع المفروضة على الناس. وهنا يعمل القانون النفسي السابق؛ ولكن على نحو عكسي: فبعد أن أدى تقليل الوزائع إلى تنشيط النفوس إلى العمل؛ أخذ تكبير مقدار الوزائع يثبط الهمم إلى العمل. وفي هذه الحال، لابد لجملة الجباية من أن يصغر حجمها، على الرغم من ارتفاع مقدار الوزيعة الواحدة. وإليكم هذا الانقلاب كما يشرحه ابن خلدون. يقول “فإذا استمرت الدولة واتصلت، وتعاقبت ملوكها واحداً كما يشرحه واتصفوا بالكيس، وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الأغضاء والتجافي، وجاء الملك العضوص، والحضارة الداعية إلى الكيس؛ وتخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق، وتكثرت عوائدهم وحوائجهم، بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف؛ فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم؛ ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً؛ لتكثر لهم الجباية؛ ويضعون المكوس على البياعات وفي الأبواب… ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار؛ لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات، والانفاق بسببه، حتى تثقل المغارم على الرعايا، وتنهضم، وتصير عادة مفروضة.
ولكن، كيف تكون العلاقة بين ترف أهل الدولة وقلة جملة الجباية؟ لكي نتوضح ذلك، لابد لنا من الإصغاء إلى ابن خلدون وهو يقول: “اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا؛ فتكون قليلة الحاجات، لعدم الترف عوائده؛ فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً؛ فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها؛ بل يفضل منها كثرة عن حاجاتهم. ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها، وتجري على نهج الدول السابقة قبلها؛ فيكثر لذلك خراج أهل الدولة، ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة؛ بنفقته في خاصته، وكثرة عطائه؛ ولا تفي بذلك الجباية، فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية، لما تحتاج إليه الحامية من العطاء، والسلطان من النفقة؛ فيزيد من مقدار الوظائف والوزائع أولاً، كما قلناه؛ ثم يزيد الخرج والحاجات والتدرج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية؛ ويدرك الدولة الهرم، وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال القاصية؛ فتقل الجباية وتكثر العوائد؛ ويكثر بكثرتها رزق الجند وعطاؤهم، فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البياعات، ويفرض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مع هذا مضطر لذلك، بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية. وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة؛ فتكسد الأسواق لفساد الآمال، ويؤذن ذلك باختلال العمران، ويعود على الدولة؛ ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل (39)”.
ومن هذا نرى، إن زيادة قيمة الوزائع تؤدي إلى تناقص عددها. وهذا يؤدي بدوره إلى تناقض جملة الجباية، واختلال العمران، الذي يؤثر في وضع الدولة؛ ويؤدي إلى اختلالها. وهذا يعني أن استمرار الدولة مرتبط باستمرار العمل في المجتمع الذي تحكمه؛ وأن من واجبها أن تحافظ على استمراره، بجعل الضرائب المفروضة عليه معتدلة ومقبولة.
(2) العمل وازدهار العمران:
لهذا كان استمرار العمران وازدهاره في سعي الناس إلى أعمالهم، مملوئين بآمال الكسب في ذهابهم وإيابهم؛ حتى إذا ذهبت الآمال، جنح الناس إلى الهجرة من المصر؛ لضيق سبل الرزق فيه، إلى مصر آخر يؤملون فيه حسن المآل. ويشرح ابن خلدون ذلك قائلاً: “فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب، كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال، وابذعر الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق، فيما خرج عن نطاقها (40)”.
ولما كان ازدهار أحوال العمران بالأعمال؛ وكانت الأعمال تقل بقلة الأيدي العاملة، كان اختلال العمل مؤدياً إلى اختلال السلطان، واختلال السلطان مؤدياً إلى انهيار الدولة. وهنا يعقب ابن خلدون على هذا الوضع قائلاً: “… فخف ساكن القطر، وخلت دياره وخربت أمصاره؛ واختل باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران، تفسد بفساد مادتها ضرورة (41).
ومن هنا لم يكن ظلم الناس في أموالهم مما يعود بالخير على الدولة والسلطان. وابن خلدون يرى أن جباية الأموال بغير حق ظلم؛ وإنه يعود على الدولة بالخراب. يقول بهذا الصدد: “فجباة الأموال بغير حقها ظلمة؛ والمعتدون عليها ظلمة… ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها؛ لإذهابه الآمال من أهله (42)”.
وفضلاً عن ذلك، إن تسخير الناس في بعض الأعمال بغير حق، هو من أشد المظالم؛ لأن كل كسب إنما هو قيمة العمل، كما رأينا. والعمل دون كسب معناه اغتصاب قيمة العمل. وبهذا الصدد يقول ابن خلدون شارحاً: “ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال، وتسخير الرعايا بغير حق. وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات… لأن الرزق أو الكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران. فإذن مساعيهم وأعمالهم كلها متحولات ومكاسب لهم؛ بل إنه لا مكاسب لهم سواها؛ فإن الرعايا في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك. فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم؛ واتخذوا سخرياً في معاشهم، بطل كسبهم، واغتصبوا قيمة عملهم ذلك؛ وهو متمولهم؛ فدخل عليهم الضرر؛ وذهب لهم حظ كبير من معاشهم؛ بل هو معاشهم بالجملة؛ فأدى ذلك إلى انتقاص العمران وتخريبه (43)”.
وهكذا نرى أن ابن خلدون يريد أن يفسح الآمال أمام الناس، في سبيل معاشهم وكسبهم؛ لأنه يعتقد أن ذلك يؤدي إلى ازدهار العمران، وازدهار الدولة. وهذا يعني، أنه يربط الدولة بالمجتمع، والمجتمع بالاقتصاد، والاقتصاد بالعمل؛ ويرى أن تيسير سبل العمل من شأنه أن يؤدي ازدهار المجتمع، وازدهار الدولة.
ولهذا وصفه بعضهم بأنه من أنصار المذهب المرسل، أو المذهب الحر، في الاقتصاد. ولكن ما نريد أن نلفت الانتباه إليه هنا، هو أن ابن خلدون نظر إلى الظاهرة الاقتصادية في سياقها الاجتماعي؛ وإنه لم يكن عالم اقتصاد بقدر ما كان عالم اجتماع اقتصادي: لقد ألح كثيراً على ربط العمران بالاقتصاد؛ ورأى أن للمجتمع آلية اقتصادية يتبعها موازية لآليته الحضارية. فما هذه الآلية؟ وما غايتها؟
4 ـ غاية العمران الاقتصادي
وبمعنى آخر، ما الغاية التي يتطلع إليها العمران الاقتصادي في تفاعله مع الحضارة؟ وهل ازدياد الرفه والترف يؤدي إلى استمرار المجتمع في صعوده الحضاري، أو أن هناك أوجاً متى بلغه، كان لابد من الانحدار بعده؟ والأخلاق ما علاقتها بالاقتصاد؛ وهل هي علاقة إيجابية أو سلبية؟
(1) آلية الحضارة والاقتصاد:
يرى ابن خلدون أن للحضارة مظاهر كثيرة متداخلة يؤثر بعضها في بعض، ويتأثر به، متبعاً آلية خاصة. والحقيقة، إن أول مظهر من مظاهر الحضارة هو الميل إلى الترف، الذي يؤدي إلى ازدهار الصنائع لا يلبث أن يجعل الناس يتمادون في الترف بالتدريج إلى أقصى حد. وهذا يكون لصالح بعضهم دون بعض، وعلى حساب بعضهم: فالرفه أول مظاهر الحضارة؛ وهو يؤدي إلى ازدهار الصنائع وتنوع فنونها، وتجمع الثروة في أيدي القلة، وازدياد عدد الفقراء، الأمر الذي ينتهي إلى فساد الأخلاق، نتيجة فساد وجوه المعاش؛ ويكون ذلك مؤذناً بهرم الحضارة وانهيارها.
وهذا ما نريد شرحه فيما يلي:
آ ـ الميل إلى الترف:
إن الميل إلى الترف هو نتيجة لحصول المال؛ والملك هو دور انتقال من البداوة إلى الحضارة؛ وهذا الانتقال لا يكون إلا بالسعي إلى تحصيل الكمالي بعد حصول الضروري. وبهذا الصدد يقول ابن خلدون: “والسبب في ذلك؛ إن الحضارة هي أحوال عادية زائدة عن الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر (44)”.
وهذا يعني، أن الرفه أول مظهر من مظاهر الحضارة.
ب ـ ازدهار الصنائع:
بيد أن الميل إلى الرفه والترف يتطلب حاجات كمالية، والإقبال على هذه الحاجات من شأنه أن ينشط الصنائع التي تنتجها؛ وأن يشجع الصناع الذي يصنعها على الإكثار منها. يقول ابن خلدون في ذلك: “وتقع فيها كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون بمنزلة الصنائع؛ ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه، والمهرة فيه. وبقدر ما يتزيد من أصنافها، يتزيد أهل صناعتها، ويتلون ذلك الجيل بها. ومتى اتصلت الأيام، وتعاقبت تلك الصناعات، حذق أولئك الصناع في صناعتهم، ومهروا في معرفتها؛ والإعصار بطولها وانفساح أمدها، وتكرر أمثالها، تزيدها استحكاماً ورسوخاً (45)”.
وهذا يبين أن الميل إلى الرفه والترف يؤدي إلى ازدهار الصنائع وتنوع فنونها، ورسوخها رسوخاً قوياً بتراخي الزمن.
جـ ـ ازدياد الترف وانتشار الفقر:
لكن الترف يولد المزيد من الترف؛ فالصنائع التي كانت وليدة الحاجة إلى الترف لا تلبث أن تصبح عاملاً في المبالغة في درجة درجة، إلى أن يصل إلى غايته. وهنا يضع ابن خلدون يده على حقيقة نفسية تدل على نفاذ بصيرة بالنفس الإنسانية، وعلى تعليل في غاية الدقة. فأصغِ إليه وهو يقول: “وإذا بلغ التآنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية، تبعه طاعة الشهوات، فتتلون من تلك العوائد بألوان كثيرة، لا يستقيم حالها معها في دينها ولا ديناها (46)”.
بيد أن نزعة التأنق هذه ـ التي هي وليدة الميل إلى الرفه ـ لا تلبث أن تأخذ مجراها في مجاري الحياة الاجتماعية؛ فتخضع عندئذ لمنطقها القسري، فيتساقط التجار واحداً بعد واحد في هوة الفقر. ويصف ابن خلدون الآلية التي يخضع لها الميل إلى الترف في المجتمع، فيقول: “وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله. والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران؛ فمتى كان العمران أكثر، كانت الحضارة أكمل. وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته؛ ثم تزيدها المكوس غلاء؛ لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع المكوس في الدول، لكثرة خرجها حينئذ، كما تقدم، والمكوس في الدول، لكثرة خرجها حينئذ، كما تقدم؛ والمكوس تعود على البياعات بالغلاء؛ لأن السوق لأن السوق والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه، حتى مؤونة أنفسهم؛ فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها؛ فتعظم نفقات أهل الحضارة، وتخرج عن القصد إلى الإسراف؛ ولا يجدون وليجة عن ذلك، لما ملكهم من آثر العوائد وإطاعتها؛ وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة؛ ويغلب عليهم الفقر؛ ويقل المستامون للمبايع؛ فتكسد الأسواق؛ ويفسد حال المدينة. وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف. وهذا مفسدات في المدينة. على العموم، في الأسواق والعمران (47)”.
وبذلك تنتهي الحضارة إلى ازدياد عدد الفقراء باستمرار، مقللة عدد الموسرين يوماً بعد يوم؛ فلا يبقى منهم في النهاية إلا ذوو السلطان. ونحن نرى في هذا التحليل لأوضاع المجتمع والاقتصاد، نظرة نفاذة، لا تضارعها في نفادها غير نظرة ماركس، حينما حلل الأزمات الاقتصادية التي تنتاب النظام الرأسمالي، على الرغم من تفاوت عصريهما، وتباين المعلومات لدى كل منهما.
(2) فساد الأخلاق:
لكن الأمر لا يقتصر على الأحوال الاقتصادية؛ إذ إنه يجر معه الأحوال الأخلاقية: فهناك ارتباط بين هذه وتلك؛ لأن حال الحضارة في العمران، حينما تصل إلى هذا الحد، لا بد أن يتبعها فساد الأخلاق، وانتشار الشرور. ويكون ذلك في بداية الأمر، في طريق تحصيل المعاش. يقول ابن خلدون: “وأما فساد أهلها في ذاتهم، واحداً واحداً على الخصوص، فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها، بحصول لون آخر من ألوانها. فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه وغير وجهه. وتنصرف النفس إلى الفكرة في ذلك، والغوص عليه، واستجماع الحيلة له. فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش، والخلابة أو السرقة، والفجور في الإيمان، والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه، والمجاهرة به وبدواعيه، واطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي المحارم، الذين تقتضي البداوة الحياة منهم في الأقذاع بذلك. وتجدهم أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح؛ حتى يصير ذلك كله عادة وخلقاً لأكثرهم (48)”.
بيد أن فساد الأخلاق لا يقتصر على محصلي معاشهم؛ بل يتعداهم إلى أهل الحسب والنسب من ذوي البيوتات الرفيعة. يصف ابن خلدون ذلك قائلاً: “ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة؛ ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم، ومن أهمل عن التأديب، وغلب عليه خلق الجواري، وإن كانوا أهل نسب وبيوتات، وذلك أن الناس بشر متماثلون؛ وإنما تفاضلوا وتميزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل. فمن استحكمت فيه الرذائل بأي وجه كان، وفسد خلق الخير فيه، لم ينفعه زكاء نسبه، ولا طيب منبته. ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوتات، وذوي الأحساب والأصالة، وأهل الدول، منطرحين في الغمار، منتحلين للحرف الدنية في معاشهم، بما فسد من أخلاقهم، وتلونوا به من صبغة الشر والسفسفة (49)”.
وهكذا تنتهي الحضارة إلى فساد الأخلاق، كما انتهت إلى فساد وجوه المعاش، ووقوع الناس في هوة الفقر؛ بل إن فساد الأخلاق ليس إلا نتيجة لفساد وجوه المعاش وانتشار الفقر.
(3) انهيار الحضارة:
ولا تكاد الحضارة تبلغ هذا المبلغ، حتى تشرف على نهايتها وتحمل عناصر الخراب المودية بها. وذلك لأن الناس يبدؤون بإهمال بعض الأعمال، ولاسيما ما كان منها معدوداً في الترف والرفه. وفي هذا قضاء على الحضارة، وقضاء على العمران. يصف لنا ابن خلدون ذلك فيقول: “وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة، تأذن الله بخرابها وانقراضها،… ووجهه حينئذ، أن مكاسبهم لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها؛ فلا تستقيم أحوالهم. وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً، اختل نظام المدينة وخربت.. حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور، وليس المراد ذلك، ولا أنه خاصية في النارنج، وإنما معنا أن البساتين وأجرار المياه هو من توابع الحضارة ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك، مما لا طعم فيه ولا منفعة، هو غاية الحضارة؛ إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط؛ ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترف. وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه، كما قلناه (50)”.
ومن هنا كانت غاية العمران هي الحضارة؛ وكانت غاية الحضارة هي الترف. بيد أن الترف لا يلبث أن ينتهي إلى الفساد؛ إذ إنه لا يكاد يبلغ غايته، حتى ينقلب إلى إفساد. وعندئذ تأخذ الحضارة بالهرم وتذوي؛ ويهرم العمران معها ويذوي؛ شأنها في ذلك شأن الحيوان في إعماره الطبيعية؛ إذ إن للحضارة والعمران إعماراً كما للحيوان سواء بسواء (51)”.
خاتمة ـ نقد وتقدير
تلكم هي آراء ابن خلدون في الاقتصاد، بل في علم الاجتماع الاقتصادي، كما استقرأناها من “مقدمته”. وهي آراء لا تخلو من جدة ونفاذ نظر؛ لاسيما إذا نظرنا إليها في الإطار التاريخي والحضاري الذي كتب فيه ابن خلدون. لاشك أن علم الاقتصاد تجاوز اليوم هذه الآراء؛ وكذلك علم الاجتماع الاقتصادي. ولكن يجب علينا أن لا ننسى، أنه انقضى الآن على فراغ ابن خلدون كتابة “مقدمته” ستة قرون ونيف. ونعتقد أنه يكفي المرء أن يعلم، أن ابن خلدون تطرق إلى المسألة الاقتصادية، حتى يدرك العبقرية الفذة التي كان يتمتع بها؛ وأنه يكفيه أن يعلم فضلاً عن ذلك، أنه درسها في سياقها الاجتماعي، حتى يزداد تقديره لهذه العبقرية.
ولكن هذا الكلام ليس كافياً، ولابد لنا أن نتجاوز التعميم إلى التخصيص؛ فنحاول بيان النقاط التي ارتكزت عليها عبقريته في نطاق البحث الاقتصادي الاجتماعي. ويمكننا أن نلخصها فيما يلي:
أولاً ـ قد يكون من باب التكرار غير الممل أن نلح على أن نظرة ابن خلدون كانت تنظر إلى اقتصاد في سياقه الاجتماعي: وهذا ما نراه في رأيه في اختلاف أحوال الأجيال باختلاف نحلهم من المعاش؛ وفي رأيه في الفرق بين البدو والحضر الذي هو فرق في انتحال الزراعة أو انتحال الصنائع؛ وفي رأيه في أن نمو الأعمال واختلافها تابعان لنمو العمران وتنوعه؛ وفي رأيه في اختلاف قيمة العمل مرتبط بدرجة اختلاف العمران؛ وفي رأيه في أن فساد الحياة الاقتصادية يؤدي إلى فساد الأخلاق.
ثانياً ـ لقد رأينا أن ابن خلدون يعطي العمل قيمة كبيرة في الأشياء، حتى تلك التي تبدو في الوهلة الأولى أنها هبة من السماء؛ مثل الحليب والثمر والمعدن. وهذا جوهر نظرية كارل ماركس في العمل. غير أن ماركس يمذهب العمل ويعطيه القيمة الأولى في الأشياء؛ على حين أن ابن خلدون يقف عند حدود سرد الوقائع. وهذا أقرب إلى الروح العلمية؛ لأن المذهبية فلسفة.
ثالثاً ـ ومع ذلك لا يقف التشابه عند هذا الحد بين ابن خلدون وماركس؛ إذ إن تفريق ابن خلدون بين العمل وناتج العمل لا يختلف كثيراً عن تفريق ماركس بين العمل وقوة العمل. فيما يفيده الإنسان ـ في نظر ابن خلدون ـ من اقتناء الصنائع، هو قيمة العمل المبذول في صناعتها؛ إذ ليس هناك إلا العمل، ولكنه ليس مقصوداً بنفسه للقنية. وكذلك نجد عند كارل ماركس، أن ما يبيعه العامل للرأسمالي هو قوة عمله لا عمله ذاته. والحقيقة، أن الاختلاف بينهما في المصطلح المستخدم في التعبير، لكن الفكرة واحدة؛ لأن قوة العمل تؤدي إلى ناتج العمل؛ ولأن ناتج العمل ليس إلا تجسيداً لقوة العمل.
رابعاً ـ رأينا في آراء ابن خلدون عن رخص الحاجات الضرورية وغلاء الحاجات الكمالية، نواة قانون العرض والطلب الذي يعتمد عليه الاقتصاد الرأسمالي؛ وأنه إذا لم ينص عيله في صورة قانون صريح، فإن هذا القانون متضمن في عرضه للأحوال التي تطرأ على هذه الحاجات. وقد بينا في تحليلنا هذا الكلام، كيف أن توافر الحاجات الضرورية في الأمصار الكبيرة، يعني أنها معروضة لكل طالب؛ وأن هذا العرض هو سبب رخصها؛ وأن عدم توافرها في الأمصار الصغيرة، يعني أنها محجوبة عن كل طالب؛ وأن هذا الحجب هو سبب غلائها. وواضح أن هذا يتضمن جوهر قانون العرض والطلب.
خامساً ـ رأينا أن ابن خلدون ربط بين العمل والجباية والعمران؛ ودعا إلى تقليل الوزائع المفروضة على الناس؛ ليشجعهم ذلك على العمل. وهذا يعني، أن جوهر الحياة الاجتماعية هو الاقتصاد. وهذا ما تلح عليه المذاهب الاقتصادية الحديثة؛ ولاسيما الماركسية. غير أن ابن خلدون ينادي بترك حرية العمل للناس، وعند تدخل الدولة في شؤونهم الاقتصادية؛ في حين تنادي الماركسية بالتدخل وإشراف الدولة على الاقتصاد.
لكن القصد عند كل منهما كان واحداً، فكلاهما كانا يتطلعان إلى العدالة الاجتماعية؛ وإن كان ذلك من زاويتين مختلفتين: فابن خلدون كان يرى التاجر واقعاً تحت رحمة السلطان وجبايته؛ وهذا ينعكس على أصحاب الحرف الذين يتاجر بإنتاجهم والذين تسوء أحوالهم وتنعكس على سواهم، حتى تعم المصر، وتضر بسير الأعمال على اختلافها؛ فيؤدي ذلك كله إلى الإخلال بالعمران وخرابه؛ في حين كان ماركس يرى طغيان الرأسماليين والصناعيين على العمال، وانتزاع جهودهم ظلماً بتكديس فضل القيمة، وتحويلها إلى جيوبهم حيناً، وتوسيع مشروعاتهم حيناً آخر؛ فأراد أن ينصف العمال منهم، بتأميم رأس المال، وجعله ملكاً للمجتمع وللطبقة الكادحة.
قد يبدو في الوهلة الأولى، أن هناك اختلافاً بين نظرية ابن خلدون ونظرية ماركس. ولكنه اختلاف ظاهري لابد للمتأمل المدقق من أن يتجاوزه: إذ إن ابن خلدون يرجع سبب الظلم الاجتماعي إلى الجباية وإلى السلطان؛ في حين أن ماركس يرجعه إلى فضل القيمة وإلى الرأسمالي. ولكننا حينما نربط بين نظرية ماركس في الاقتصاد ونظريته في السياسة من حيث هي بنية فوقية للأوضاع الاقتصادية؛ أي من حيث أن السياسة تعبير عن مصالح طبقة الحكام، وهي طبقة الرأسماليين هنا، زال الفرق بين النظريتين، وتبين أنهما نظرية واحدة: إذ إن العلاقة تبقى علاقة اقتصاد بالحكام. ومع ذلك، إن هناك فارقاً بين النظريتين، وهو يتلخص في أن نظرية ابن خلدون مجملة، في حين أن نظرية ماركس أتت أكثر تفصيلاً. بيد أن الإنصاف يقتضينا أن نذكر، أن هذه التفصيلات هي انعكاس لتطور الحياة الاقتصادية وتزايد تعقدها، مما يجعل أمر إغفالها عند ابن خلدون طبيعياً؛ وأمر بروزها عند ماركس طبيعياً أيضاً.
ولهذا لابد لنا، إذا وضعنا ابن خلدون في إطار عصره، من أن نتقبل ما أتى به بالنسبة إلى هذا العصر، وأن لا نرى منه تقصيراً إذا غفل عما أتى به ماركس. لقد كان يعبر عن الوضع الاقتصادي كما كان سائداً في عصره، ومن خلال المجتمع الإسلامي الذي عاش فيه. وقد كان هذا قبل نشوء الصناعة الحديثة وتضخم رأس المال وقيام الاحتكارات بدرجاتها المختلفة، وصيرورة أدوات الإنتاج وسيلة استغلال وتسلط؛ وهذا يعني أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى قيام الاشتراكية والماركسية لم تكن معروفة في عصره؛ لنطالبه بما نطالب به الاشتراكية والماركسية.
***
ومن هذا نرى، أن ابن خلدون كان رائداً في علم الاقتصاد؛ وإنه رأى الظاهرة الاقتصادية في سياقها الاجتماعي. لقد رأى الموضوع الاقتصادي رؤية واضحة؛ وإن تكن مجملة. فإذا هو لم يرَ المسألة كلها، ولم يلمح أبعادها بكل اتساعها، فلأن النظرة الأولى لا يمكن أن تكون إلا إجمالية أولاً؛ ولأن العلم الاقتصادي علم يرتبط بالمجتمع؛ والمجتمع خاضع للتطور، ولا يمكن التنبؤ بكل ما سيؤول إليه، ثانياً. وهذا يعني، أن ابن خلدون لم يكن باستطاعته أن يرى موضوعه الاقتصادي إلا كما رآه.
***
الحواشي:
(1) في أعمال مهرجان ابن خلدون ص 207، منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة 1962.
(2) مقدمة “المقدمة” في الجزء الأول من “المقدمة”، ص 134، لجنة البيان العربي 1957.
(3) المقدمة ج 4 ص 1355، لجنة البيان العربي.
(4) المقدمة ج 4 ص 1355.
(5) المقدمة ج 4 ص 1355.
(6) المقدمة ج 2، ص 407، لجنة البيان العربي، القاهرة 1959.
(7) المقدمة ج 2، ص 407 ـ 408.
(8) المقدمة ج 2، ص 408 ـ 409.
(9) المقدمة ج 2، ص 413.
(10) المقدمة، ج 3، ص 895 ـ 896، لجنة البيان العربي القاهرة 1960.
(11) المقدمة، ج 3، ص 897.
(12) المقدمة، ج 3، ص 896 ـ 897.
(13) المقدمة، ج 3، ص 896.
(14) المقدمة، ج 3، ص 896.
(15) المقدمة، ج 3، ص 896
(16) المقدمة، ج 3، ص 897.
(17) المقدمة، ج 3، ص 930.
(18) المقدمة، ج 3، ص 921.
(19) المقدمة، ج 3، ص 921.
(20) المقدمة، ج 3، ص 921.
(21) المقدمة، ج 3، ص 921.
(22) المقدمة، ج 3، ص 921.
(23) المقدمة، ج 3، ص 921.
(24) المقدمة، ج 3، ص 863.
(25) المقدمة، ج 3، ص 863.
(26) المقدمة، ج 3، ص 863 ـ 864.
(27) المقدمة، ج 3، ص 864.
(28) المقدمة، ج 3، ص 865.
(29) المقدمة، ج 3، ص 863.
(30) المقدمة، ج 3، ص 864.
(31) المقدمة، ج 3، ص 865.
(32) المقدمة، ج 3، ص 865.
(33) المقدمة، ج 3، ص 865.
(34) المقدمة، ج 3، ص 865.
(35) المقدمة، ج 2، ص .667
(36) المقدمة، ج 2، ص 667 ـ 668.
(37) المقدمة، ج 2، ص 668.
(38) المقدمة، ج 2، ص 668.
(39) المقدمة، ج 2، ص 670.
(40) المقدمة، ج 2، ص 680.
(41) المقدمة، ج 2، ص 680.
(42) المقدمة، ج 2، ص 681 ـ 682.
(43) المقدمة، ج 2، ص 683 ـ 684.
(44) المقدمة، ج 3، ص 871 ـ 872.
(45) المقدمة، ج 3، ص 872.
(46) المقدمة، ج 3، ص 876.
(47) المقدمة، ج 3، ص 876 ـ 877
(48) (48) المقدمة، ج 3، ص 877 ـ 878.
(49) المقدمة، ج 3، ص 878.
(50) المقدمة، ج 3، ص 878 ـ 879.
(51) المقدمة ج 3، ص 880.
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 19 – السنة الخامسة – نيسان “أبريل” 1985 – رجب 1405
منقــــــــــــــــــــــ ـــول