مدخل الى نظريات الصحافة والإعلام والاتصال الجماهيري
د. برهان شاوي
تعريف بصاحبة النظرية اليزابيت نويلة – نويمان
لم يعرف تاريخ الصحافة والإعلام امرأة كان لها مثل هذا التاثير على مسار علم الإعلام والإتصال الجماهيري، امرأة أثارة كل هذا الكم من الجدل الفكري والنظري والتجريبي في مجالات علم الإتصال والاجتماع والسياسة، مثل الباحثة والمنظرة الألمانية المعاصرة (إليزابيت نويلة – نويمان) التي شكلت في السبعينيات من القرن المنصرم نظريتها المعروفة ب(دوامة الصمت) أو (لولب الصمت) والتي قدمتها في كتاب صدر في العام 1980 بعنوان (دوامة الصمت – الرأي العام باعتباره جلدنا الاجتماعي).
ولدت إليزابيث نويله – نويمان في برلين العام 1916، ودرست في جامعتها في تخصص الفلسفة والتاريخ والصحافة والدراسات الاميركية، وكانت ما بين الاعوام 1940 – 1945 في اميركا لاعداد إطروحة الدكتوراه عن (قياسات الرأي الجماهيري في الولايات المتحدة)، وحينما رجعت غلى المانيا أسست في العام 1947 في مدينة السينباخ لأول معهد لدراسة الرأي العام اللماني، والذي ترأسه لغاية اليوم، غلى جانب مناصبها العلمية والادارية الأخرى.
حصلت على لقب بروفيسور في الاعلام والرأي العام من جامعة الماينز في العام 1964. ولديها عشرات الكتب والدراسات، كما كتب عنها وعن نظريتها( لولب الصمت) عشرات الكتب والدراسات المؤيدة والمناقضة والمكملة، من مؤلفاتها المنشورة نختار العناوين التالية: التطور المنهجي في استطلاع الرأي، استطلاع الرأي في المجتمع الجماهيري، الرأي العام والرقابة الاجتماعية، استطلاعات الرأي وحرية الصحافة، النشر والاعلان كتهديد ، دوامة الصمت، جواب الصحيفة على التلفزيون، الأمة الجريحة ، الناس في المستشفى، أجواء تشكل الرأي العام وتأثير الاعلام.
لازالت إليزابيث نويله-نويمان رئيسة للمعهد الذي أسسته في العام 1947 في السينباخ، رغم انها ُتعد من الكلاسيكيين ومن المراجع الفكرية الأساسية في علم الإعلام والآتصال الجماهيري والرأي العام.لولب الصمت أو دوامة الصمت:
بدأت إليزابيث نويله- نويمان بتشكيل نظريتها في السبعينيات من القرن المنصرم، حيث دعت الى إعتبار التلفزيون من أهم وسائل الاتصال الجماهيري في تأثيره على الجمهور المستقبل وبالتالي في تشكيل الرأي العام.
جوهر هذه النظرية قائم على الإفتراض الأساس الذي يؤكد بأن وسائل الاعلام حين تتبنى آراء أو إتجاهات معينة، وخلال فترة محددة من الزمن، فأن القسم الأكبر من الجمهور سوف يتحرك في الاتجاه الذي تدعمه وسائل الاعلام لما لها من قوة وتأثيرعلى الجمهور، وبالتالي يتشكل الرأي بما يتناسق وينسجم في معظم الاحيان مع الافكار التي تدعمها وسائل الاتصال، لاسيما التلفزيون.
فهي تؤكد بأن وسائل الاعلام والاتصال الجماهيري بشكل عام تنحاز احيانا الى جانب إحدى القضايا أو الشخصيات، بحيث يؤدي ذلك إلى تأييد القسم الأكبر من الجمهور للاتجاه الذي تتبناه وسائل الاعلام، وذلك بحثا عن التوافق الاجتماعي. أما الأفراد المعارضين لهذه القضية أو تلك الشخصية فأنهم يتخذون موقف (الصمت) تجنبا لاضطهاد الجماعة الكبيرة المؤيدة، أو خوفا من العزلة الاجتماعية، وبالتالي فانهم اذا كانوا يؤمنون بآراء مخالفة لما تعرضه وسائل الاعلام، فانهم يحجبون آرائهم الشخصية، ويكونوا أقل رغبة في التحدث عن هذه الآراء مع الآخرين، اما الذين لديهم آراء منسجمة مع ما تبثه وسائل الاعلام فانهم يكونوا أكثر نشاطا وجرأة في الاعلان عن هذه الاراء والتحدث بشأنها للحصول على القبوا الاجتماعي.
ونظرا لأن قسما كبيرا من الجمهور يعتقد ان الجانب الذي تؤيده وسائل الاعلام يعبر عن الاتجاه السائد في المجتمع، فان الرأي الذي تتبناه وسائل الاعلام يظل يقوى، وربما يسبب ذلك ضغطا على المخالفين للرأي الذي تتبناه وسائل الاعلام فيلجأون إلى الصمت، فاننا نحصل على أثر (لولبي) يزداد ميلا تجاه الجانب السائد الذي تتبناه وسائل الاعلام، بغض النظر عن الموقف الحقيقي للجمهور.
وتقترح (نويله- نويمان) مجموعة مناهج في البحث تجمع بين المقايسس الميدانية والمسحية للجمهور وللقائمين بالاتصال، من اجل معرفة قوة وتأثير وسائل الاعلام، فضلا عن استخدام منهج تحليل المضمون.
لقد طورت إليزابيث نويله- نويمان نظريتها إعتمادا على البحوث التجريبية التي قامت بها أثناء عملها على هذه النظرية، وقد رصدت ثلاثة متغيرات أساسية تساهم وتزيد من قوة تأثير وسائل الاعلام وهي: 1. التأثير الكمي من خلال التكرار: حيث تقوم وسائل الاعلام بتقديم رسائل اعلامية متشابهة ومتكررة حول قضية ما أو موضوع ما أو شخصية محددة بحيث يؤدي هذا العرض التراكمي إلى التأثير على المتلقي على المدى البعيد ، دون إرادة منه، شاء أم أبى، ومهما كانت قوة حصانة المتلقي ضد الرسالة الاعلامية.
2. التسيير اللاارادي للمتلقي والتأثير الشامل عليه : ومعناه: إن وسائل الاعلام تسيطر على الانسان وتحاصره في كل مكان، في الشارع، ومكان العمل، والبيت، وتهيمن على بيئة المعلومات المتاحة له، وعلى مصادر المعلومات، مما ينتج عنه تأثيرات شاملة على الفرد يصعب عليه الخلاص منها، بحيث تشكل دون إرادة منه، كل نظرته ورأيه للعالم والأشياء.
3. التجانس والهيمنة الاعلامية: وهذا يعني بأن القائمين على الاتصال والعاملين في الوسط الاعلامي يقدمون رسائلهم الاعلامية انسجاما مع موقف أصحاب المؤسسات الاعلامية التي يعملون فيها، ووالتي هي بدورها تقوم إنسجاما واتفاقا مع اصحاب المصالح الكبرى في توجيه الرأي العام للجمهور، بحيث يؤدي ذلك الى تشابه توجهاتهم وتشابه المنطق الاخلاقي للعمل الاعلامي الذي يقومون به، ويؤدي ذلك إلى تشابه الرسائل الاعلامية التي تتناقلها وسائل الاعلام المختلفة، مما يزيد من قوة تأثيرها على المتلقي.
كل هذه العوامل تؤدي كما ترى اليزابيت نويله – نويمان إلى تقليل فرصة الفرد المتلقي في أن يكون لنفسه رأيا مستقلا حول القضايا المثارة، وبالتالي تزداد فرصة وسائل الاعلام في تكوين الافكار والاتجاهات المؤثرة في الرأي العام.
وترى نويله – نويمان ان هناك عوامل عديدة تجعل الناس يحرصون على إبداء وجهات نظرهم والمشاركة بآرائهم، منها:
1. إبداء الرأي يمنح المرء إحساسا بالانتماء إلى رأي الأغلبية، بينما حينما يكون للفرد رأي مخالف فأنه يصمت.
2. يميل المرء إلى التخاطب مع من يتفقون معه بالآراء أكثر مع يختلفون معه.
3. تقدير المرء لذاته يدفعه إلى إبداء رأيه
4. يميل الافراد إلى ابداء آرائهم عندما يشعرون انهم أكبر عددا ويمثلون الاغلبية، وأحيانا تشجعهم القوانين على ذلك.
بينما في غير هذه الحالات سوف يميل الفرد لالتزام الصمت، ويزداد هذا الصمت كلما إزداد الضغط لصالح رأي الأغلبية.
وفي الأنظمة الدكتاتورية، يزداد هذا الصمت ليس بسبب وجود الأغلبية، وأنما لوجود الدولة وأجهزتها القمعية.إنتقادات نظرية:
لم يتم تقبل هذه النظرية سهلا وبسيطا ودونما آراء مضادة، إذ وجهت لها إنتقادات من قبل العلماء الألمان والأميركيين، وقد تركزت معظم هذه الانتقادات في النقاط التالية:
1. إن مفهوم (الأقلية الصامتة) غير دقيق، فكثيرا ما يقوم هؤلاء (الأقلية) بالنقاش والاعتراض وبشكل قوي رغم الاختلاف مع رأي الاكثرية.
2. لا يرجع (صمت) الافراد بالضرورة إلى الخوف من العزلة الاجتماعية، وانما يرجع إلى عدم اللمام الكافي بالقضية المطروحة للنقاش، أو بجهلهم بها أصلا.
3. الشك في إفتراض التكرار والهيمنة والتسيير اللارادي للفرد من قبل وسائل الاعلام في تشكيل الرأي العام، على الأقل في ظل الديمقراطيات الغربية، التي تتعدد فيها المصالح، ويصعب على وسائل الاعلام أن تتبنى أتجاها واحدا وثابتا ودائما من القضايا المثـارة، ولفترة زمنية طويلة.
4. إن وسائل الاعلام لا تعبر بالضرورة عن رأي الأغلبية، بل تعكس احيانا رأي (الأغلبية المزيفة) التي تروج لها ، كما هو الحال في وسائل الاعلام العربية وقنواتها الفضائية.
5. من الصعب تفسير الرأي العام وتشكله بمعزل عن دور المعلومات والتجارب التي يحصل عليها الفرد من خلال البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة به، وخاصة في القضايا المهمة.
وقد أقرت إليزابيث نويله – نويمان بعض هذه الانتقادات، واشارت الى ان هذه النظرية تحتاج الى المزيد من البحث التجريبي والمنهجي.
ومن هنا فأن بعض المنظرين في علم الاعلام والاتصال الجماهيري والرأي العام يرفضون إعتبار ما قدمته نويلــه – نويمان نظرية، وانما أنموذجــــــا من النماذج المقدمة في علم الاتصال لتفسير تأثير قوة وسائل الاعلام على الجمهور وعلى الفرد. بينمــا اعتبرها بعض علماء الاجتماع وحتى علماء النفس الاجتماعي واحدة من الطروحات الديمقراطية المهمة في فهم الخطاب العام للمجتمع.
بالنسبة لنا شعوب الشرق الأوسط، فان هذه النظرية تساعدنا على تفكيك الخطاب الاعلامي العربي، وعلى الوصول إلى المصطلح النقيض في دراسة الرأ ي العام العربي ألا وهو ( الأغلبية الصامتة)، وليس (الأقلية الصامتة)، وبالتالي يدفعنا إلى إعادة النظر بمفهوم (الرأي العام ) في الشرق الأوسط.