بدأ البحث العلمي في اللغة العربية منذ نزول الأمر الخالد ) اقرأ ( العلق؛ فجمعت الأصول الشعرية والنثرية من البادية عند الأعراب، ودُوّنتْ في الكتب، بملابساتها وأحوالها وأخبارها، واستُخرجت منها- مع الأيام والقرون- علوم كثيرة؛ خدمة لها وحفاظاً عليها، في حركة ثقافية واسعة، لم يشهد لها التاريخ الثقافيّ العالميّ مثيلاً.
وإن اللغة العربية ذات خصائص تفكيرية وتعبيرية، تفارق بها كثيراً من لغات العالم الكثيرة، خصائص جعلتها تبقى وتكبُر وتتّسع وتنتشر، وجعلتها تكتب وتستنبط لها القواعد وتستخرج منها العلوم والمعارف والفنون بحسب الحاجات الزمانية.
ولها مشتركات بينها وبين لغات العالم قد تكون بقية في عالم الطيّ، ولم تظهر في الكتابة، لكنها كانت في أذهان أولئك الأقحاح، ولا يحسن بنا تغافلها في الترتيب .
فغاية اللغة هي الإبانة عما في النفس عبر الكلام؛ من أجل التواصل مع الناس، متلقياً وملقياً ومتفهماً، وقد نقول: هي رسالةٌ بين المتكلم والمخاطَب، متوافقةً مع مقتضى الحال؛ فهي عملية لغوية متكونة من أربعة أركان: متكلم، ومخاطب، ورسالة، وسبب داعٍ. وضبط هذه العملية فيه منجاة من فوضى الخطاب الذي نعاني منه اليوم .
وتعلم اللغة ممزوج بتعلُّم ثقافة أهلها؛ إذ كيف نتعلّم لغة من غير أن نتمثل أفعال أهلها وأقوالهم وأغراضهم وتاريخهم ؟.
ولكل لغة مهارات وفنون، وجامع هذه المهارات والفنون خمسة: الاستماع والقراءة والكتابة والفهم والكلام.
والمهارات قوامها : الإدراك والقواعد والملكة .
وهذه اللغة استخرجت منها العلوم اللغوية ، وعدتها اثْنَا عشر علماً، وهي: علم اللغة. علم التصريف. علم النحو. علم المعاني. وعلم البيان. وعلم البديع. وعلم العروض. علم القوافي. علم قوانين الكتابة. علم قوانين القراءة. علم إنشاء الرسائل والخطب. علم المحاضرات، ومنه التواريخ.
[كما في الكواكب الدرية على متممة الآجرومية ص(5).
وجعلها الفارابي [في إحصاء العلوم 46] سبعة: (1) علم الألفاظ المفردة. (2) علم الألفاظ المركبة. (3) علم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة. (4) علم قوانين الألفاظ عندما تركب. (5) علم قوانين تصحيح الكتابة. (6) علم تصحيح القراءة. (7) علم قوانين الأشعار.]
وقد جعل رفاعة الطهطاوي أركان علوم العربية أربعة: النحو واللغة والبيان والأدب ، وأن معرفتها من أوجب الواجبات (كتابه: أنوار توفيق الجليل).
واللسان العربي بهذه العلوم كلها، يبقى لساناً واحداً، ذا لغاتٍ أو لهجاتٍ، وإنما تلك العلوم خدم مسخرة لوصفه ووصف عمله التصويتيّ والمعنويّ، اللفظي والتركيبي.
وقيل في ذلك: “ومن المسلَّم به أن اللغة وحدة متكاملة، وأنّ تدريب التلاميذ عليها، مقسّمَةً إلى فروع، لا يتّفقُ مع طبيعتها، ولا يتمشّى مع ما أثبته علم النفس الحديث من مبادئ التعليم.
ولهذا نتجه اليوم إلى تدريب التلاميذ على اللغة باعتبارها كُلّاً متكاملاً، والهدف من تدريسها هو الإقدار على الفهم الصحيح، والتعبير الواضح السليم.
والمعلِّم يستطيع بما يصطنع من وسائل التدريس أن يخطو خطوات واسعة، وذلك إذا وضع نصب عينيه، أثناء تدريس الفرع الواحد من فروع اللغة، الهدف الأساسي من التربية اللغوية، وأنّ اللغة وحدة مترابطة”
[منقول عن مقدمة الأستاذ محمد أحمد برانق لكتاب منهجي بعنوان “التعبير اللغويّ” من تأليفه سنة 1973م (وزارة التعليم والتربية بمصر، ووزارة التعليم والتربية بليبيا)، ص5، ووجدت ذلك في كثير من مقدماته لغيرها من السنوات الدراسية.].
وهذه الوحدة الجامعة للسان الواحد ، مع الكثرة الكاثرة من العلوم ، مع الفصام النكد على الذي وقع للغتنا العربية في ذاتها ومع أخواتها من العلوم الشرعية والسلوكية – هذه الوحدة تدعونا إلى إعادة ترتيب هذه العلوم ، في سياق تلك المهارات في إطار تلك الوحدة الثقافية الواحدة والمتواصلة.
اللغة نظام من العلامات: إذا بدأت التأليف من الحرف فالكلمة فالجملة، فستنتهي إلى النص كاملاً، وهذه رحلة شاسعة في عوالم التفكير والتعبير.
إذ لكل حرف شِقّان: شقّ صوتي للنطق (مخارج وصفات) وشق خطي للكتابة (أشكال وقواعد).
ولكل كلمة كذلك شقان: شقّ لفظي مسموع ومقروء؛ وهو قسمان: مفرد (صرفي)، ومركب (نحوي) وشق معنوي مفهوم؛ وهو قسمان مفرد (معجمي)، ومركب (بلاغي).
ولكل شقّ أقسام وأحكام وأصول وفروع.
وكل تركيب إما أن يكون موزوناً فشعر (عروض وقوافٍ وقريض)، أو غير موزون فمنثور (رسائل وخطب وأمثال..). هذا النظام يفضي بنا ولا بد إلى تراتيب للعلوم في أنفسها ومع غيرها من جنسها ، ومع الأجناس الأخرى التي لا ينفك بعضها أن يحتاج إلى بعضها ، ولا سيما للطالب المبتدئ .
ورتّبْتُ علوم اللغة العربية ترتيباً متوافقاً مع ترتيب مهاراتها وفنونها؛ لأن لهذا الترتيب فوائد عملية، وهو تقسيم لها على ثلاثة محاور أو ثلاث آلات كبرى، في كل منها آلات صغرى:
·الأول ( آلة التلقي ): ويدخل فيه: علم قوانين الكتابة. علم قوانين القراءة.
·الثاني ( آلة التفكير ) : ويدخل فيه: علم التصريف. وعلم الاشتقاق. علم النحو. علم اللغة. علم البلاغة (علم المعاني. علم البيان. علم البديع).
·الثالث ( آلة الأداء ): ويدخل فيه: علم العروض. علم القوافي. علم قرض الشعر. علم الإنشاء (إنشاء الرسائل أو الترسّل، والخطب، والأمثال، والمقامات، والأدب، وعلم المحاضرات، ومنه التواريخ).
هذا الترتيب هو مثل الفهرسة ، وأدق منها ، لأنه يتوخى فلسفة اللسان ووواقعه وعلومه ومهاراته ومتلقيه ودرجته من العلم .
والله من وراء القصد .