اقتصاد العمل economie de travail فرع مستقل من فروع علم الاقتصاد ولد حديثاً، وبالتحديد في الستينات من القرن العشرين، مع أن بذور هذا الفرع يمكن تلمسها عند الاقتصادي الإنكليزي المعروف آدم سميث [ر].
ويعدّ هذا الفرع اليوم جزءاً من الاقتصاد الاجتماعي، أحد الفروع الرئيسة في علم الاقتصاد. أما موضوعاته الرئيسة فتشمل:
ـ العمل والعمال وأرباب العمل، وكل ما يتصل بهذه الموضوعات لزيادة كمية العمل وإنصاف العمال والاستغلال الأمثل للعمل.
ـ الجزء من القوى البشرية التي تعمل أو تبحث عن عمل، أي ما يسمى بقوة العمل، وكل العوامل المؤثرة فيها.
ـ إنتاجية العمل والأجور التي تدفع للعمال والتي يجب أن تكون متناسبة مع هذه الإنتاجية. ومما لاشك فيه أن الأجور التي تدفع في مقابل العمل تتأثر بما يستطيع العمال تقديمه من مدخلات في العملية الإنتاجية. والإنتاجية أيضاً تؤثر في كل من المعروض والمطلوب من العمل.
ـ البطالة [ر] والعمالة الكاملة، أو كيفية معالجة البطالة للوصول إلى التشغيل الكامل الذي يعدّ أحد الأهداف الرئيسة لاقتصاد العمل.
ـ القوانين والدساتير الناظمة لمفهومات العمل وحقوق العمال وتنظيماتهم العمالية.
ولاشك في أن هذه الموضوعات يجب أن تدرس بحذر لتشعبها الكبير وتداخلها مع موضوعات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون.
تعريف اقتصاد العمل
على الرغم من تشعب موضوعات اقتصاد العمل، يمكن تعريفه: «بأنه فرع من الاقتصاد الاجتماعي يتعلق بالعنصر البشري في النشاط الاقتصادي، إذ يعالج تنظيم الروابط والعلاقات الإنتاجية بين العمال وأصحاب العمل والأجراء المستقلين في جميع القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية والخدمات العامة والخاصة، ويبحث كذلك في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتفرعة من كل ذلك بين القوة العاملة في البلاد المعنية والهيئة الاجتماعية بصورة عامة على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الدولي في آن واحد».
وقد يعرّف بعضهم اقتصاد العمل تعريفاً أكثر سهولة وأقرب إلى الفهم: «بأنه فرع من الاقتصاد يهتم بالمشاكل المتطورة دائماً لقضايا العلاقات الصناعية والتشغيل والأجور والضمان الاجتماعي، وأنه الفرع الذي يبحث في العمل الذي يقوم به الإنسان لمصلحة شخص آخر بأجر معين تحت إشراف الشخص المذكور وتوجيهه».
وهناك أخيراً من يضيق من امتداد اقتصاد العمل فيقول: «إنه ذلك الجزء من الاقتصاد الاجتماعي الذي يبحث العلاقات والأنظمة والقواعد والمؤسسات التي تنظم شؤون العمل والعمال مع أصحاب العمل والهيئة الاجتماعية في ضوء مقتضيات العدالة الاجتماعية وفي ضوء المصلحة العامة».
والحقيقة أن حداثة اختصاص علم اقتصاد العمل وتشعب موضوعاته ومجالاته هي التي حالت دون الاتفاق على تعريف محدد له أو على تحديد دقيق لموضوعاته، لكن جميع التعاريف السابقة تدل على أن اقتصاد العمل هو أحد أهم فروع علم الاقتصاد المتشعبة والأكثر امتداداً وشمولاً.
إن تدخل علماء الاجتماع والحقوق والمتخصصين بالتأمين والضمان الاجتماعي، والسياسيين والنقابيين جعل الوصول إلى اتفاق تام حول موضوعاته الأساسية أمراً مستحيلاً، مع أن هناك موضوعات لا جدال حولها يجب أن يتضمنها هذا الاختصاص ويجمع عليها سائر الاقتصاديين والمهتمين به، وهي ضرورة أن يبحث في مشاكل العمل وتنظيمه وضمانه، إضافة إلى الأجور والقوة العاملة والتأمينات الاجتماعية. وقد يطلق بعضهم العنان أكثر فيُدخلون في دراسته السكان والبطالة وعلاقات العمل والنقابات العمالية.
العمل والعمال وأرباب العمل
أ ـ العمل: من وجهة نظر شمولية وإنسانية، هو العملية التي يمارس بها الإنسان تأثيره في الطبيعة، ينظم بها ردود فعله المادية. وهذه العملية ضرورية لبقاء الجنس البشري لأن المواد المتوافرة في الطبيعة ليست كلها جاهزة للاستعمال وإشباع الحاجات المادية والروحية للإنسان. أي إن العمل، بالمعنى الاجتماعي، يختص بالإنسان الذي يملك تصوراً سابقاً حول الهدف من هذا العمل يربطه بالوعي الاجتماعي ويصنع من أجل ذلك الأدوات المادية المختلفة للسيطرة على الطبيعة، ثم يُوازن بين ما كان يتوقعه من نتائج وما حصل عليه فعلاً.
أما العمل بالمعنى الاقتصادي فهو الجهد الإرادي المبذول من قبل الإنسان في سبيل الحصول على منفعة مادية سواء أكان هذا العمل ذهنياً أم عضلياً. وعلى هذا فإن الجهد الذي يبذل من دون قصد الحصول على منفعة لا يعدّ عملاً بالمعنى الاقتصادي، فالعمل بالمفهوم الاقتصادي يقتضي التفكير والتنظيم والمنفعة.
ولذلك فإن الشرط الأساسي للعمل هو بذل الجهد والحصول على المنفعة، ويقترن ذلك بالتضحية والألم، ولا ينفي ذلك أن هناك أعمالاً كثيرة ذات منفعة اقتصادية تولّد لدى القائمين بها متعة ولذة شخصية مثل عمل الكاتب والفنان. لكن العمل الاقتصادي يجب أن يقترن دائماً بالوعي، فالجهد المجرد من الوعي لا يعدّ عملاً، ويجب أن يقترن بالعوض، مع أن العوض يختلف باختلاف طبيعة العمل، فقد يكون العمل مستقلاً حين يشتغل العامل لحساب نفسه وبإرادته المستقلة، أو يكون تابعاً حين يشتغل العامل لحساب غيره وبناء على توجيهاته، وقد يكون اجتماعياً حيث يشتغل العامل لخدمة المجتمع بوجه عام.
وأخيراً فإن هناك أعمالاً كثيرة متنوعة لا يمكن حصرها تختلف اختلافات قليلة أو كثيرة، وهناك تطورٌ حدث في مفهوم العمل في التاريخ وفي أثناء تعاقب التشكيلات الاقتصادية ـ الاجتماعية.
ب ـ العمال: يمكن القول إنهم كل من يبذل جهداً عضلياً أو ذهنياً في مجال النشاط الاقتصادي بهدف إنتاج الخدمات والسلع الاقتصادية بغرض الكسب سواء قام الشخص بهذا النشاط لحسابه، أو لحساب الآخرين وتحت توجيههم وإشرافهم بمقابل أجر معين. وقد يقصر بعضهم تعريف العامل على من يؤجر قوة عمله من أجل العيش، أي يحصر مفهوم العامل بمن يعمل فقط عند الآخرين ولحسابهم، ويأخذ مفهوم العامل عند هؤلاء مفهوم الأجير، لأنهم يحصرون العمل فيمن يملك قوة عمله فقط من دون أن يملك أدوات الإنتاج. وهكذا فإن هناك فرقاً بين العامل الأجير والعامل المستقل، ففي حين لا يملك العامل الأجير أدوات الإنتاج التي يعمل بها أو رؤوس الأموال التي يستخدمها بل يعتمد على جهده العضلي أو الذهني، يملك العامل المستقل إضافة إلى قوة عمله أدوات الإنتاج التي يعمل بها ورؤوس الأموال التي يستخدمها. وفي حين يعمل العامل الأجير عند الآخرين ولحسابهم الخاص وينفق ما يحصل عليه منهم في مقابل عمله من دون مقدرة كبيرة على التوفير أو على تحسين شروط حياته المعيشية يحصل العامل المستقل غالباً على كسب يفيض عن حاجاته الأساسية ويمكّنه من التوفير لزيادة ثروته وتطوير أدوات إنتاجه. وأخيراً ففي حين لا يحصل العامل الأجير على أي كسب عند انقطاعه عن العمل في بعض الأنظمة الاقتصادية في العالم، يحصل العامل المستقل دائماً على بعض الكسب حتى عند انقطاعه عن العمل بنتيجة المردود الخاص لرأس المال الذي يستعمل أو لأدوات الإنتاج التي يستخدم. والحقيقة أن هذا التفريق بين العامل الأجير والعامل المستقل لا ينفي صفة العامل عن أي منهما، إذ يبذل كلاهما جهداً للحصول على منفعة. ومع أن العامل المستقل قد يعاني من الاستغلال فإن وجود رب للعمل وعدم امتلاك العامل لأدوات الإنتاج يحتم دائماً وجود الاستغلال.
كذلك فإن هناك تمييزاً آخر بين العمال على أساس طبيعة العمل إذ نجد عاملاً يغلب على عمله الطابع العضلي وعاملاً يغلب على عمله الطابع الفكري، ويستخدم العامل الأول طاقته العضلية في حين يستخدم الثاني كفايته التقنية والإدارية والعملية، وهي الكفايات التي حصل عليها بالعلم والإعداد والممارسة. ومن وجهة نظر اقتصاد العمل فإنه لا فرق بين العامل البدني والعامل الذهني مادام كلاهما يُستَخدم في العملية الإنتاجية، ويعمل مقابل أجر لمصلحة الآخرين، ويُمارس عليه الاستغلال بصور مختلفة، ويعاني غالباً من البؤس والحرمان.
ج ـ أرباب العمل: وهم الأشخاص الذين يستخدمون العمال وتعود إليهم ملكية المشروع الاقتصادي ومسؤولية نجاحه أو إخفاقه، فهم لا يمثّلون مثل العمال وجوداً مادياً فقط، وإنما ملكية مادية لأنها تتضمن ملكية أدوات الإنتاج أيضاً. وهذا يعني أن أرباب العمل يمكن أن يكونوا أشخاصاً حقيقيين أو اعتباريين، ولذلك فإن بعض قوانين العمل وتشريعاته تشير إلى أن رب العمل هو شخص طبيعي أو معنوي يستخدم عاملاً أو أكثر بمقابل أجر يدفع له في مختلف مجالات العمل في القطاع الخاص. وهذا يعني بالضرورة أن تلك القوانين والتشريعات تحصر رب العمل في القطاع الخاص وعليه فلا يمكن عد المسؤولين عن القطاع العام والقائمين عليه أرباب عمل. وفي النهاية فإن ما ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل هو عقد يسمى عقد العمل [ر].
د ـ القوة العاملة: يقصد بالقوة العاملة مجموع الناس الراغبين في العمل والقادرين عليه، سواء كانوا من المشتغلين أو المتعطلين عن العمل. وتنحصر القوة العاملة في الفئة العمرية بين 14 و60 سنة، وإن كان يضاف إليها أحياناً المشتغلون ممن هم دون الثانية عشرة وفوق الستين .
ويقسم السكان عادة إلى ثلاث فئات عمرية:
فئة السكان قبل سن العمل وهي في العادة فئة السكان الذين لم يبلغوا بعد سن 12 سنة، وفئة السكان في سن العمل وهم الذين يؤلفون قوة العمل وتقع أعمارهم بين 12- 65سنة، وفئة السكان الذين تجاوزوا سن العمل أي بعد 65سنة وهم المتقاعدون. وتختلف تلك النسب من مجتمع إلى آخر بحسب الهرم السكاني لكل مجتمع.
إن تحديد نسبة القوة العاملة إلى مجموع السكان بدقة غير ممكن، لأن هذه النسبة تتعلق بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية لكل بلد، كما أنها تتغير بحسب الزمان والمكان على المستويين الفردي والاجتماعي، فعلى المستوى الفردي تزداد حاجة الناس إلى العمل بازدياد مستواهم التعليمي وبانخفاض مستوى دخولهم المادية، أما على المستوى الاجتماعي فإن ذلك يتوقف على قدرة الاقتصاد على امتصاص قوة العمل، ويمكن أن تعدّ في العادة نسبةٌ قدرها 70% أو 80% نسبةً لا بأس بها ولو أنها يمكن أن تبلغ أكثر من ذلك بكثير في الدول المتقدمة حيث يكون لتشغيل المرأة أثر كبير في رفع تلك النسبة.
تتأثر قوة العمل كماً ونوعاً بجملة من العوامل أهمها:
1 ـ عوامل سكانية: إذ تتعلق قوّة العمل بمعدلات المواليد والوفيات والهجرة، لأن هذه المعدلات تؤثر في شكل الهرم السكاني وفي حجم القوة البشرية وتركيبها ومعدلات تزايدها وتناقصها. ومن خصائص تلك المعدلات أنه يمكن معرفتها ودراستها وإجراء إسقاط لها ومعرفة حجم القوة البشرية وتركيبها، وقوة العمل في لحظة زمنية معينة.
2 ـ عوامل اجتماعية: وهي العوامل التي تزيد أو تنقص من الإقبال على العمل، وتؤثر في حجم قوة العمل مثل إقبال المرأة على العمل، وعدد الأطفال في الأسرة الواحدة و سن الزواج، وسن التقاعد، ولمستوى تطور المجتمع أثر كبير في تغير تلك العوامل.
3 ـ عوامل ثقافية: ينخفض المعروض من قوة العمل في البداية نتيجة التحاق الطلاب بالتعليم، وعلى العكس كلما نقص عدد الطلاب الذين يتابعون تعليمهم زاد المعروض من قوة العمل. لكن الثقافة والتعليم يؤثران في مراحل متقدمة إيجابياً في زيادة الطلب على العمل، وخصوصاً تعليم المرأة الذي يؤثر تأثيراً فعالاً في دخولها مجال العمل وإسهامها في النشاط الاقتصادي.
4 ـ عوامل اقتصادية: يؤثر الوضع الاقتصادي في زيادة نسبة القوة العاملة أو في إنقاصها، وإن سياسة الأجور وسياسات العمل تؤثر سلباً أو إيجاباً في كمية المعروض من قوة العمل. ولا شك في أن الوضع الاقتصادي والتطور الذي حدث فيه يؤكد أن التغير في حجم قوة العمل وتركيبها صفة ملازمة للحركة والتغير في الاقتصاد.
بلغت نسبة قوة العمل في سورية 3.63% من مجموع السكان عام 1970، وهي نسبة منخفضة جداً إذا ما قيست بالدول الأخرى ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى طبيعة المجتمع السوري الفتية، إذ يؤلف الأطفال دون سن العاشرة نسبة مرتفعة جداً وتبلغ نسبة المشتغلين لفئة الأعمار 14- 64 سنة نسبة قدرها 44،7%، في حين تبلغ هذه النسبة 9.27% لمن هم في عمر أكثر من 65 سنة، وهذا يعني أن بعض الأطفال والشيوخ الذين يفترض أن يكونوا خارج قوة العمل ما زالوا يمارسون العمل. كما أن نسبة كبيرة من قوة العمل في سورية تتركز في قطاع الزراعة، فقد بلغت هذه القوة عام 1983 ما مقداره 2.322827 مليون نسمة كان منها ما مقداره 1.220994 مليون نسمة في قطاع الزراعة.
الأجور
الأجر[ر] هو أحد الفروع الأساسية لاقتصاد العمل، وأحد العوامل المهمة في تحديد نسبة قوة العمل. والأجر بالتعريف هو المقدار النقدي أو العيني الذي يدفع مقابل استخدام العمل، ويختلف هذا الأجر بحسب طريقة الدفع، وله أهمية اقتصادية لأنه إحدى نفقات الإنتاج والمحدد الرئيس لدخل العامل، لكن المهم أكثر من ذلك فيما يتعلق باقتصاد العمل أن الأجر له أثر في المعروض من العمل وفي الطلب عليه.
أ ـ تأثير الأجر في عرض العمل: للأجور أثر بارز في زيادة المعروض من قوة العمل أو تناقص هذا المعروض، لأنه كلما زادت الأجور زاد المعروض من قوة العمل، وكلما تناقصت تناقص المعروض منها، ولذلك فإنه تبعاً لمعدّل الأجور في كل قطاع اقتصادي يزداد أو ينقص المعروض من العمل في القطاع.
وطالبُ العمل يوازن في العادة بين المنفعة التي يمكن أن يحصل عليها من العمل مَقيسة بالأجر والجهد الذي سوف يبذله في أثناء العمل، ويتحدد على أساس ذلك إقدامه على العمل أو عزوفه عنه. ويختلف تأثير الأجـور إذا كانت عامة على كل القطاعات الاقتصادية، أو خاصة في قطاع معين أو صناعة معينة، فإذا كان تغير الأجور عاماً في كل القطاعات الاقتصادية فليس هناك فائدة بالتحول من قطاع اقتصادي إلى آخر أو من صناعة إلى أخرى، لأن التغير، إذا كان انخفاضاً، يشمل كل القطاعات وإذا كان ارتفاعاً فالأمر كذلك. ويكون أمام العامل خيار واحد، إما أن يقبل العمل، وإما أن يتركه على أساس المنفعة الكلية التي يمكن أن يجنيها والألم الكلي الذي يمكن أن يتحمله. أما إذا كان تغير الأجور خاصاً في بعض القطاعات أو بعض الصناعات فقط فإن المعروض من قوة العمل سوف يزداد أمام القطاعات أو الصناعات التي زاد فيها الأجر ويقل أمام القطاعات أو الصناعات التي يقل فيها الأجر. ويزداد المعروض أمام قطاعات الأجر المرتفع إما لزيادة المتقدمين ممن كانوا خارج قطاع العمل وإما لتحول العمال من القطاعات ذات الأجر المنخفض إلى القطاعات ذات الأجر المرتفع.
وتتوقف مرونة انتقال العمال من قطاع اقتصادي ما وإليه على طبيعة العمل في هذا القطاع وعلى مستوى تأهيل العمال وعلى القوانين والتشريعات العمالية السائدة. لذلك تمكن الاستفادة من تحريك الأجور في بعض القطاعات المهمة للاقتصاد الوطني من أجل تحريك القوة العاملة باتجاه تلك القطاعات.
ب ـ تأثير الأجر في الطلب على العمل: كانت النظرية التقليدية تعدّ العمل سلعة مثل باقي السلع يزداد طلب الرأسماليين عليها بانخفاض سعرها ويقل طلبهم عليها بارتفاع سعرها، ولم تدرك النظرية الكلاسيكية آنذاك أن الطلب على العمل مرتبط بالطلب على السلع التي ينتجها ذلك العمل، ولذلك فإن انخفاض أجور العمال لا يزيد من الطلب عليهم إذا لم ترافق ذلك زيادة في الطلب على السلع التي ينتجونها.
ثم لاحظ جون مينارد كينز أن طلب أرباب العمل على عمل العمال لا يتوقف على انخفاض أجورهم أو ارتفاعها، وإنما على انخفاض الطلب على السلع التي ينتجها هؤلاء العمال أو ارتفاعه، وأن أرباب العمل يطلبون مزيداً من الأيدي العاملة إذا توقعوا طلباً أكبر وتصريفاً أسرع للبضائع التي ينتجها هؤلاء العمال. ولذلك فإن الطلب على العمال الذين ينتجون سلعاً تلقى رواجاً في السوق سوف يزداد وإن لم تنخفض أجورهم. والعكس صحيح، فإن الطلب على العمال الذين ينتجون سلعاً لا تجد طلباً في السوق سوف يقل وإن انخفضت أجورهم. وعلى هذا الأساس فإن الطلب على العمل يتأثر بعدة عوامل أهمها:
1 ـ تطور الإنتاج: وذلك نتيجة لزيادة الطلب، إذ يزداد الطلب على العمل بازدياد الإنتاج، وينشأ طلب جديد على العمل عندما يكون هناك إنتاج بضاعة جديدة أو تحوّل في الإنتاج من بضاعة إلى أخرى. وتؤدي في العادة زيادة إنتاج بضاعة ما إلى تخفيض أسعار هذه البضاعة وإلى زيادة الطلب عليها ويؤدي ذلك إلى زيادة الطلب على الأيدي العاملة التي تنتج هذه البضاعة وهكذا.
2 ـ تطور الإنتاجية: فكلما زادت الإنتاجية قل الطلب على العمل، ولذلك نجد أن القطاعات التي تزداد فيها إنتاجية العمل يقل فيها الطلب على العمل، كما أن الطلب على العمل يكون كبيراً في القطاعات ذات الإنتاجية الضعيفة كالزراعة والخدمات، في حين يكون قليلاً ويقل باستمرار مع تطور الإنتاجية في القطاعات الاقتصادية الحديثة.
3 ـ استخدام الآلة: كلما كان إدخال الآلة في النشاط الاقتصادي أكبر قل الطلب على العمل. ويعود السبب في إحلال الآلة محل العامل إما لرخصها نسبة إلى أجر العامل وإما لأسباب فنية. ولا شك أن انخفاض أجور العمال لا يشجع على استخدام الآلة وإحلالها محل العامل، فقد أخذت الآلة تحل محل العامل في الدول التي ترتفع فيها الأجور، في حين ما تزال الدول التي تنخفض فيها الأجور نسبياً تعتمد على قوة العمل البشري. ويلاحظ تركّز الصناعات التي تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة في الدول التي تنخفض فيها الأجور كما في قارة آسيا، في حين تتركز الصناعات التي لا تحتاج إلى كثافة في الأيدي العاملة في الدول التي ترتفع فيها الأجور كما في أوربة.
القوانين والتشريعات العمالية
مع تفاقم أزمة الرأسمالية، وظهور بوادر الاشتراكية، أعطت دساتير العالم وتشريعاته مسألة العمل اهتماماً مركزياً خاصاً، وذلك بتأكيدها أن العمل حق لأي إنسان وواجب عليه.
وهذا يعني أن العمل أصبح اليوم حقّاً للإنسان وواجباً عليه، كباقي حقوقه وواجباته في الحياة، وذلك لأن العمل ضرورة لضمان عيش الإنسان وعيش الذين يعيلهم ولأنه ضرورة لبقاء المجتمع وتقدمه. لقد كان العمل يستغل سابقاً تبعاً لطبيعة كل تشكيلة اقتصادية اجتماعية وبناء على مصلحة الطبقة المهيمنة على هذه التشكيلة التي تضمن كذلك العمل للعمال كما كان يفعل السادة في مرحلة العبودية أو في مراحل القرون الوسطى، ولم تتدخل آنذاك السلطات القائمة في ضمان هذا العمل أو في تنظيمه، إلا في الدولة الإسلامية التي جعلت من ضمان العمل للأفراد إحدى المهام الأولى للدولة.
أخذت الثورات الديمقراطية بعد ذلك، ومنها الثورة الاشتراكية، تنادي بالعدالة والمساواة كي تضمن حقوق العمل وحق العمال بأجور عادلة، وواجبات المجتمع في مساعدة غير القادرين على العمل من أجل ضمان حياة مادية مقبولة لهم.
وتتبنى اليوم كل دول العالم تقريباً مكاتب متخصصة لتأمين عمل للعمال وتشجيع حقيقي للاستثمارات التي تخلق فرص عمل لهم، وهذا يعود في الأصل إلى أن برامج العالم ودساتيره تنص على ضمان حقّ العمل للعمال وذلك عن طريق السعي إلى الوصول للعمالة الكلية أو الكاملة، ولاسيما أن هناك قناعة في وجود رابطة بين العمالة الكاملة ومستوى الإنتاج الملائم. إن حجم الإنتاج يتناسب مع العمالة إضافة إلى كونه مصدر دخل المجتمع. وهكذا فإن العمل واجب على الإنسان من أجل الحصول على حاجاته المعيشية وخدمة المجتمع المحيط به، أي خدمة نفسه وخدمة الآخرين غير القادرين على العمل، وتوفير الشروط المعيشية الملائمة لهم بما يملك ذلك الإنسان من فائض عمل ومن خلال الوسائل القانونية والأخلاقية والاجتماعية التي ينظمها المجتمع.
كذلك فإن دساتير العالم وقوانينه، إضافة إلى النضال المتزايد لنقاباته العمالية وأحزابه، تسعى إلى ضمان أجور عادلة للعمال تتناسب مع الجهد الذي يقدمه العامل من خلال السيطرة على أدوات الإنتاج وعلاقاته.
تيسير رداوي