09/10/2010
· الفنان التشكيلي بول كلي
· لا توجد حقائق تاريخية دون تأويلات .
· كلنا نحب أن نرى الجانب المضيء من تاريخنا ولو كان ذلك على حساب الحقيقة !
· ليس هناك تاريخ بالمعنى الدقيقللكلمة ، هناك فقط سير شخصية .
الأديب الفيلسوف رالف إمرسن
التاريخ .. هو الماضي ، هو كل ما حصل قبل اللحظة التي كتبت فيها هذه الكلمات ، بل قبل اللحظة التي تقرأ فيها عزيزي القارئ هذه الكلمات ، فحتى كتابي هذا أصبح الآن جزءاً من الماضي ، جزءاً من التاريخ .. فما الذي يعنيه هذا ؟ إنه يعني أن الفاصل ما بين الحاضر وتاريخه ما هو إلا فاصل وهمي ، فما يكاد الحدث يظهر إلى الوجود حتى تطويه سجلات التاريخ بين سطورها إلى غير رجعة .
ومادام الحاضر هو حياتنا الفعلية ، ومادام يتسرب من بين أيدينا بهذه السهولة ليغدو جزءاً من الماضي .. من التاريخ .. فلا غرابة أن يهتم الإنسان بتاريخه ، ويحرص على تدوينه ليرجع إليه بين الحين والآخر ، ربما ليستعيد لحظات حياته الهاربة ويوهم نفسه بتوقف الزمن والاستمرارية والخلود !
ومما لاشك فيه أن للتاريخ وقعاً خاصاً في مشاعرنا ، فإن كلاً منا يحس بالحنين إلى الماضي ، ونتمنى من أعماقنا لو عادت بنا الحياة إلى أفياء الأيام الخوالي ، ومع تسليمنا بأن هذا الإحساس إحساس إنساني مبرر ومفهوم ، لأنه يُشبع فينا رغبة دفينة إلى الخلود ، فإننا لا يصح أن نكون ماضويين بتفكيرنا وتصرفاتنا لأن الحاضر هو الحقل الذي نستطيع التأثير فيه ، أما الماضي فإن بيننا وبينه برزخاً وحجراً محجوراً يحول بيننا وبين التأثير فيه .
وهذه الحقيقة لا تعني انفصالنا التام عن الماضي وعدم الاستفادة منه ، فليس ثمة ماضٍ خالٍ من الإضافة إلى الحاضر ، لكن المهم أن نلتقط من الماضي ما يخدم الحاضر ويعيننا على بناء مستقبل أفضل ، أما ما يمثله الماضي من إشكاليات وملابسات فنحن في غنى عنها .
الفارق بين التاريخ والتأريخ :
والحديث عن التاريخ يعيدنا إلى البدايات ، ولكن قبل هذه العودة ، وقبل أن نخوض في مسارب التاريخ ودهاليزه ومتاهاته الملتبسة ، يجدر بنا أن نميز بين مصطلحين كثيراً ما يختلط أحدهما بالآخر ، أولهما مصطلح التاريخ ( History) الذي يعني مجموعة الأحداث التي وقعت فعلاً منذ بدء الخليقة وحتى اللحظة الراهنة ، وثانيهما التأريخ ( Historiography) ويعني العملية التي يمارسها المؤرخ لتدوين تلك الأحداث ويستعين فيها بالأخبار والآثار والروايات والسجلات والمذكرات والوثائق ليستخرج منها المادة التاريخية التي يعمل على تدوينها .
التاريخ إذاً هو وقائع موضوعية وقعت فعلاً في الماضي ، أما التأريخ فهو عمل بشري يمارسه المؤرخ في الحاضر ، فيسجل تلك الوقائع تسجيلاً قد يطابق تلك الوقائع ، وقد لا يطابقها ، كما نبين بعد قليل .
ولم يردمصطلح ( التاريخ ) في القرآن الكريم ، وإنما وردت مصطلحات مقابلة له للتعبير عن أحداث الماضي ، منها ( أساطير الأولين ، قصص الأولين ، أنباء الرسل ، أنباء القرى ، القرون الأولى ، الصحف الأولى … إلخ ) ، وهي كما نرى معان تشابه معنى ( التاريخ ) في اللغات الأخرى التي تعبر عن التاريخ بألفاظ تعني القصة أو الحكاية .
ويطلق المؤرخون مصطلح ما قبل التاريخ ( Prehistoric ) على الأزمنة الغابرة التي سبقت وجود أية مدونات أو رسوم أو كتابات تؤرخ لحياة الإنسان ، ويطلقون مصطلح ما قبل الميلاد الذي يختصرونه بالحرفين ( ق.م ) وبالإنكليزية ( BC ) اختصاراً من جملة ( Before christ) للدلالة على الفترات من حياة الإنسان منذ بدأ يترك آثاراً تدل على تاريخه القديم وإلى قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام ، وارتباط هذا المصطلح بالسيد المسيح يدل على أن المؤرخين المسيحيين هم الذين وضعوا هذا المصطلح الذي شاع فيما بعد عند مختلف المؤرخين في العالم ، وهو مصطلح ينفع في التأريخ للوقائع القريبة نسبياً التي وقعت في القرون القليلة التي سبقت ميلاد السيد المسيح ، لا للعصور الغابرة التي يستخدم للدلالة عليها مصطلح ما قبل التاريخ كما أشرنا آنفاً .
وقد بدأ البشر قبل الميلاد بزمن طويل يمارسون عملية التأريخ ، وكانوا يمارسونها بصورة شفوية في البداية ، فكانوا يتناقلون أخبار آبائهم وأجدادهم وأقوامهم جيلاً بعد جيل ، إلى أن عرفوا الكتابة والقراءة ،فبدؤوا يدونون تاريخهم بصورة بدائية غير منظمة ، وقد وجدت بالفعل سجلات تاريخية مكتوبة تعود إلى ما قبل الميلاد في كل من مصر القديمة وبابل والصين ، إلا أن تلك السجلات كانت تفتقر إلى التنظيم والدقة والترابط والترتيب ، وقد بقي حال التأريخ هكذا حتى جاء المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت ( 484 ـ 425ق.م )(1) الذي يعده المؤرخون ( أبا التأريخ ) لأنه أول من دوَّن الحوادث التاريخية تدويناً منظماً ، ورجع في تأريخه إلى أقدم العصور التي وصلته أخبارها ، ودوَّنها في كتابه ( تاريخ هيرودوت ) الذي لم يتوقف فيه عند سرد الأحداث السياسية فحسب ، بل دوَّن فيه أيضاً تاريخ الأساطير والعادات والتقاليد ، ما أضفى على كتابه مسحة موسوعية تدعو للإعجاب حقاً .
أما العرب فقد اهتموا بالتأريخ اهتماماً بالغاً منذ العصر الجاهلي قبل الإسلام ، فقد اشتهروا بحفظ الأنساب ، وأخبار الأمم المعاصرة والغابرة ، وكانت لهم روايات كثيرة سارت بها الركبان ، إلا أنها لم تكن روايات موثقة ، ولم تخل من مسحة أسطورية اختلط فيها الخيال بالواقع ، حتى إذا جاء الإسلام وجدوا لزاماً عليهم تحري الدقة الشديدة في الروايات لما لها من مكانة في التشريع الإسلامي ، وبخاصة عند تدوينهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعد المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم ، وقد بلغت عنايتهم بالروايات حداً جعلهم يؤسسون علماً جديداً لم يعرفه المؤرخون من قبل ، أطلقوا عليه وصف ( الجَرْح والتَّعْديل ) ، وهو العلم الذي ميزوا به بين الرواة الثقاة ، والرواة الضعفاء ، والرواة الوضَّاعين الذين وضعوا الكثير من الروايات الكاذبة التي لا أساس لها في الواقع ، وقيَّموا به أيضاً متن الروايات من حيث القوة والضعف .. وبهذا سبق المؤرخون المسلمون غيرهم من الأمم بتمحيص الروايات وتدقيقها ونقدها والحرص الشديد على صحتها ، وكان حياد المؤرخين المسلمين وموضوعيتهم العلمية سمتان تستحقان التقدير والإعجاب ، وقد بلغ من عناية المؤرخين المسلمين أنهم كانوا يؤرخون الوقائع بالسنة والشهر واليوم ، وهو عمل لم يسبقهم إليه أحد من المؤرخين ، حتى إن المؤرخ الشهير ( باكل ) صرَّح بأن هذا العمل الدقيق الذي أسسه المسلمون لم يحدث مثله في أوروبا إلا في عام 1597 ، أي بعد أن درج عليه المؤرخون المسلمون بقرون طويلة (2) .
وبالمقابل ، في أوروبا إبان العصور الوسطى ، نجد أن الروح الناقدة لدى المؤرخين قد كبتت كبتاً شديداً تحت سطوة أرباب الكنيسة ، لأن التعليم وقتئذ اقتصر على رجال الدين ، وحصرت عملية التأريخ بهؤلاء الرجال الذين بطبيعة تعليمهم الكنسي انحازوا إلى تعاليم الكنيسة وإلى الملوك والأشخاص الذين ناصرتهم الكنيسة ، وهذا ما نلاحظه مثلاً عند ( القديس أوغسطين )(3) ولاسيما في كتابه ( مدينة الله ) الذي نشره في عام 420م .
وبسبب هذه النزعة غير المحايدة التي وسمت كتابات مؤرخي العصور الوسطى عامة فقد ثار مؤرخو ( عصر النهضة الأوروبية )(4) على المؤلفات التاريخية التي دوِّنت في تلك الحقبة ، ووجدوا أن لا مندوحة من إعادة كتابتها لتصحيح ما انطوت عليه من مغالطات تاريخية فادحة ، وقد شرعوا بهذه المراجعة في مطلع القرن السابع عشر ، فجمعوا المصادر التاريخية القديمة ، وراحوا يفحصونها ويمحِّصون ما جاء فيها من أخبار ، مفتتحين بهذا العمل عصر التأريخ الحديث (5) .
وهكذا ، مع دخول العصور الحديثة ، أخذ علم التأريخ يقترب أكثر فأكثر من الصبغة الموضوعية ، وفي أواخر القرن الثامن عشر ظهر علمان جديدان ساندا علم التأريخ مساندة قوية ، هما علم الأحافير ( PALEONTOLOGY ) (6) ، وعلم أصول اللغات ( LINGUISTICS ) اللذان ساهما مساهمة كبيرة في نقد الروايات التاريخية ، ودراسة التاريخ دراسة أكثر موضوعية .
ومع مطلع القرن العشرين ظهرت مدارس تاريخية جديدة ، وتخصصات تاريخية عديدة ، تساندها علوم أخرى عديدة ، وبخاصة منها العلوم الإنسانية ، مثل علم البشريات (ANTHTOPOLOGY) (7) وعلم النفس (PSYCHOLOGY) وعلم الاجتماع (SOCIOLOGY) وبهذا غدت عملية التأريخ عملية معقدة تحتاج إلى فريق عمل يضم إلى جانب المؤرخين علماء آخرين متخصصين في بقية العلوم ذات الصلة .
إعادة كتابة التاريخ :
ومما يسترعي الانتباه في تاريخ المؤرخين أن أكثرهم لم يتوقف عند التأريخ لعصورهم فحسب بل اهتموا اهتماماً ملفتاً للنظر بالتأريخ لهذا الوجود من مبتداه وحتى منتهاه ، وتزخر رفوف المكتبات القديمة منها والحديثة بأعداد لا تحصى من الكتب التي انتهجت هذا المبدأ ، ولعل من أشهر هذه الكتب في التراث العالمي القديم ما تركه لنا المؤرخ الإغريقي هيرودوت الذي أشرنا إليه آنفاً .
أما في تراثنا العربي فإن المدونات التاريخية لم تظهر إلا مع النهضة التي أحدثها الإسلام في حياة العرب ، لأن العرب قبل الإسلام كانوا يتداولون الأخبار شفاهة ، وتعود بواكير المدونات التاريخية الإسلامية إلى أواسط القرن الأول الهجري ، ولعل أولها كتاب ( الملوك وأخبار الماضي ) لعبيد بن شريه ( ت 70هـ) ، ثم جاء من بعده لفيف من المؤرخين الذين تركوا العديد من المدونات التاريخية القيمة ، ويعد كتاب ( البداية والنهاية ) للعلامة المؤرِّخ ( ابن كثير ) (8) أول وأشمل ما كتبه العرب حول تاريخ الوجود من مبتداه وحتى عصر الكاتب نفسه ، وقد قسم ابن كثير كتابه إلى ثلاثة أقسام ، فتناول في القسم الأول بدء الخليقة من لدن أبي البشرية آدم عليه السلام ولمعاً من تاريخ الأمم الغابرة إلى عصر الجاهلية عند العرب ، ثم نشأة النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والبعثة النبوية حتى الهجرة إلى المدينة المنورة ، وفي هذا القسم اعتمد ابن كثير في الحصول على معلوماته على ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ، وما دَوَّنه كبار المؤرخين الذين سبقوه ، منهم ( محمد بن عمر الواقدي )(9) الذي يعد أول المؤرخين في العصر الإسلامي ، والإمام المؤرخ المفسر ( محمد بن جرير الطبري )(10) ، والصحابي الجليل ( عبد الله بن عمر )(11) ، وغيرهم من أصحاب التأريخ والسِّيَر ، وفي القسم الثاني أرَّخ ابن كثير لعصر الخلفاء الراشدين ، فالدولة الأموية ، فالدولة العباسية وما تفرع عنها من ممالك ودويلات أيام انحطاطها وتدهورها ثم قضاء المغول عليها ، وهكذا حتى وفاة ابن كثير نفسه رحمه الله تعالى ( 774هـ / 1372م ) ، أما القسم الثالث فقد أفرده للحديث عن الآخرة ومظاهر قرب الساعة وعلاماتها ، فكأنه بهذه الإضافة إلى تاريخه أراد استكمال قراءة تاريخ الوجود حتى النهاية (!؟)
ويبدو لي أن اشتغال بعض المؤرخين في كل عصر بتدوين تاريخ الوجود ، من أوله وحتى نهايته المنتظرة ، يدلُّ دلالة واضحة على الحاجة المتجددة في كل عصر لإعادة قراءة تاريخ العالم مرة بعد مرة ، إما لتصحيح المعلومات التي لم يدوِّنها السابقون بالدقة العلمية الكافية ، وإما لإضافة ما استجد من حوادث ، وإما لأغراض أخرى علمية أو سياسية ، مبررة أو غير مبررة (!؟)
ولا غرو بأن هذه الحاجة المتجددة لإعادة كتابة التاريخ ، وهذا التعديل المتواصل في سجلات المؤرخين ، يدل دلالة واضحة على ما يعتري العمل البشري عادةً من قصور وعلل ، ويدل كذلك على أن العلم البشري مهما حقق من قفزات علمية واسعة فإنه يبقى علماً قاصراً عن تحقيق الكمال ، مصداقاً لقوله تعالى : (( وَمَا أُوتيتُم منَ العِلْمِ إلا قَليلاً )) سورة الإسراء 85 ، وربما كانت عملية التأريخ من أكثر الأنشطة البشرية عرضة لمثل هذا القصور وتلك العلل .
التأريخ في العصر الحديث :
تعود بداية التأريخ في العصر الحديث إلى منتصف القرن السابع عشر ، حين بدأ تدوين وجمع مجموعات ضخمة من مصادر التاريخ ، وبدأ المؤرخون يكشفون عن المصادر القديمة ، ويفحصونها ويدققون فيها ، ومن هؤلاء الفيلسوف الإيطالي جيوفاني باتيستا فيكو ( 1668 ـ 1744 ) صاحب النظرة الكلية للتاريخ ، الذي حاول تطبيق المنهج العلمي على دراسة التاريخ ، وذهب إلى أن تطور الحضارة البشرية مرَّ بثلاث مراحل ، هي : المرحلة الدينية أو الثيوقراطية ، والمرحلة الأرستقراطية ، والمرحلة الديمقراطية ، وأن كل مرحلة كانت تحمل في طياتها عناصر انحلالها ، وقد كان لهذا الفيلسوف تأثير عميق في معظم المؤرخين الذين أتوا من بعده .
ثم جاء الفيلسوف ( مونتسكيو )(12) الذي نشر كتاب " الملكية العالمية " في عام 1734 وقسم فيه الشعوب إلى شماليةوجنوبية ، وادعى أن الفرق في المناخ هو السبب الأساسي للاختلاف بين شعوب الشمال وشعوب الجنوب ، وقد حازت نظرياته على كثير من المؤيدين في أوروبا ثم في بقية أنحاء العالم ، وجاء في نفس الفترة تقريباً الفيلسوف الفرنسي ( فولتير )(13) الذي عني عناية خاصة بالدقة في كتبه التاريخية .
أما المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكا ( 1795 ـ 1886 ) فقد أسس المدرسة التاريخية الحديثة ، وحاول إعادة عرض وتركيب الأحداث التاريخية كما حدثت فعلاً متجنباً وضع النتائج قبل دراسة الأحداث دراسة علمية نزيهة ، وقد تناولت كتاباته تاريخ جميع الأمم الأوروبية ، وبلغت 54 كتاباً ضخماً كل منها يقع في عدة مجلدات ، وآخرها ( تاريخ العالم ) الذي يقع في 9 مجلدات ، وقد أسس رانكا وخلفاؤه مبادئ جديدة في نقد المناهج التاريخية ، منهم الفيلسوف الألماني ( هيجل )(15) صاحب التفسير المثالي للتاريخ ، والمؤرخ الألماني تيودور ممسن (1817 ـ 1903) ، والفيلسوف الألماني ( اشبنجلر )(16) ، الذين أسسوا ما أطلق عليه ( المدرسة الألمانية ) التي جعلت كتابة التاريخ مهنة يتفرغ لها الأساتذة المؤرخون .
وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأ علماء الحفريات وأصول اللغات يساهمون إسهامات كبيرة بتطوير الكتابات التاريخية التي بلغت أوج ازدهارها في القرن التاسع عشر ، ولاسيما مع مدونات المؤرخ الألماني كارل لامبرخت ( 1856 ـ 1915 ) الذي ذهب إلى ضرورة كتابة التاريخ وفق منهج جديد يقوم على الاتجاهات الاجتماعية والثقافية والنفسية ، من أهم مؤلفاته مجموعة من المقالات نشرت عام 1905 بعنوان ( ما هو التاريخ ؟ )
وفي أوائل القرن العشرين برز اسم المؤرخ البريطاني ( أرنولد جوزيف توينبي )(17) الذي عرض في كتابه ( دراسة في التاريخ ) وجهة نظره في نمو الحضارات وتطورها وانحلالها ، وتناول مشكلات التاريخ على أسس من تاريخ الطوائف الثقافية والخلقية أكثر من بحثه في التاريخ المجرد ، وقد حاول تفسير التاريخ على أساس ما سماه ( التحدي والاستجابة ) وأنكر جريان التاريخ على فلسفة قدرية ، وذهب إلى أن التاريخ تضبطه وتسيره قوى نفسية أكثر منها قوى مادية .. وأن ظاهرة الحضارة العليا وجدت منذ بداية التاريخ وحتى الآن ، وأنه في جميع الأحوال ساد نفس قانون توالي الحضارات ، وأصبح ينظر إلى التاريخ العالمي على أنه مؤلف من وحدات أو حضارات أو دوائر حضارية .
ومازال المؤرخون في كل جيل وفي كل عصر يضيفون ويحذفون ويعدِّلون ، مؤكدين بهذه الممارسات أن عملية التأريخ لن تصل في يوم من الأيام إلى الكمال ، وأنها عملية محفوفة بالكثير من العلل التي ستكون مدار حديثنا التالي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*باحث سوري .
1- هيرودوت ( 484 ـ 425ق.م ) : مؤرخ إغريقي ، ولد في بلدة هليكرناسوس ، وحين بلغ العشرين من عمره نفي إلى جزيرة ساموس لتورطه بانقلاب فاشل ضد الأسرة الحاكمة ، ويبدو أنه لم يعد إلى بلدته بعد ذلك رغم اعتداده الشديد بانتسابه لها ، وبعد نفيه بدأ رحلاته التي وصفها في تاريخه ، وفي عام 444 ق.م انتقل إلى مستعمرة يونانية جنوب إيطاليا وبدأ بكتابة تاريخه في تسع مجلدات ، وهو مؤلفه الوحيد الذي وصلنا كاملاً .
2 – انظر : الموسوعة العربية الميسرة ، ص 480 وما بعدها .
3- القديس أوغسطين ( 354 – 430م ) : ولد في شمال أفريقيا ، وتلقى تعليمه في روما ، وتعمّد في ميلانو ، وهو من الشخصيات المؤثرة في تاريخ المسيحية الغربية ، تعتبره الكنيستان الكاثوليكيةوالأنجليكانية قديساً وواحداً من أبرز باباوات الكنيسة ، ويعتبره بعض البروتستانت وخاصة الكالفنيون أحد المنابع اللاهوتية لتعاليم الإصلاح البروتستانتي ، وتعتبره بعض الكنائس الأرثوذكسية مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قديساً ، بينما يعتبره بعضهم هرطقياً بسبب آرائه حول مسألة الفيض ( Emanation ) في خلق العالم ، مؤلفاته بما فيها ( الاعترافات ) التي تعد أول سيرة ذاتية في الغرب مازالت مقروءة في كثير من بلدان العالم .
4- عصر النهضة الأوروبية : هو الفترة ما بين القرن 14 إلى القرن 16 ميلادي ، وهي فترة انتقال أوروبا من العصور الوسطى ( Middle Ages ) إلى العصور الحديثة (Modern Ages ) ويؤرخ له بسقوط القسطنطينية في يد المسلمين وإعلانها عاصمة للخلافة الإسلامية ، ما أدى لهجرة العلماء إلى إيطاليا وهم يحملون تراث الحضارتين الرومانية واليونانية ، ولهذا بدأت بوادر النهضة في إيطاليا ومنها انتشرت إلى بقية أنحاء أوروبا ، وكان من عوامل النهضة تدعيمها بالمال الوفير من الأسر الأوروبية الثرية مثل أسرة ميديتشي في فلورنسا ، والبابوات في روما ، وكان لعصر النهضة تأثير واسع بانتعاش الفنون المختلفة ، وانتشار الأفكار الفلسفية الرائدة ، وظهور المستكشفين الرواد الذين اكتشفوا بلداناً جديدة مثل أمريكا وغيرها .
5 – الموسوعة العربية الميسرة ، مصدر سابق .
6- علم الأحافير ( Paleontology ) : هو العلم الذي يهتم بدراسة بقايا الأحياء القديمة من نبات وحيوان وبشر ، والأحافير يمكن أن تكون عظاماً أو انطباعات على الصخور للنباتات أو الحشرات أو الأصداف أو آثار الأقدام ، ويفيدنا علم الأحافير في تقصي سيرة الحياة منذ سالف الأزمان ، وينقسم إلى علم الأحافير النباتية (Palaeobotany ) وعلم الأحافير الحيوانية ( Palaeozoology )
7 – علم البشريات : علم يبحث في صفات الإنسان التي تميزه عن مختلف أفراد المملكة الحيوانية ، كما يبحث في أعراق الإنسان المختلفة وحضاراته وإنجازاته وتاريخه .
8 – عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ( ت 774هـ ) : دمشقي ، مفسر ومؤرخ وراوية للحديث ، مؤلف موسوعي ولاسيما في كتابه ( البداية والنهاية ) ، ومن مصنفاته الشهيرة أيضاً ( تفسير القرآن الكريم )
9 – محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي ( ت 207 هـ ) ولد في المدينة المنورة وتوفي ببغداد ، من أوائل المؤرخين في الإسلام ومن أشهرهم ، كان من حفاظ الحديث ، من تصانيفه ( المغازي النبوية ) و ( فتح أفريقيا ) و ( فتح العجم ) و ( فتح مصر ) و ( تفسير القرآن الكريم )
10 – محمد بن جرير الطبري ( ت 310هـ ) ولد في طبرستان وعاش في بغداد وتوفي فيها ، من مصنفاته ( أخبار الرسل والملوك ) الذي يعرف باسم تاريخ الطبري ، و ( جامع البيان في تفسير القرآن ) .
11 – عبد الله بن عمر بن الخطاب ( 10 ـ 73 هـ ) نشأ في الإسلام ، وصاحَب رسول الله ، وشهد معه معظم الغزوات ، وظل يفتي الناس سنين طويلة حتى وفاته ، وكان من المكثرين لرواية الحديث النبوي .
12- شارل مونتسكيو ( 1689 – 1755 ) فيلسوففرنسي ، تعلّم الحقوق ، وأصبح عضو برلمان عام 1714 ونشر العديد من الكتب التي تميزت بالعمق ، ونالت أفكاره الكثير من التقدير والانتشار في مختلف أنحاء العالم .
13- فرانسوا فولتير ( 1694 ـ 1778 ) : فيلسوف وأديب فرنسي ، نال شهرة واسعة بعد أن نشر مسرحيته ( أوديب ) ، لكنه أدين وسجن في الباستيل لأنه أهان أحد النبلاء ، وعندما أطلق سراحه ارتحل إلى إنكلترا حيث قضى عامين أعجب خلالهما بحرية الفكر هناك ، وكرَّس حياته للدفاع عن ضحايا الاستبداد الديني والسياسي ، وأصبح ذا نزعة دينية ، لكنها غير مرتبطة بأية ديانة ، لاعتقاده بأن المبادئ الأخلاقية التي جاءت بها المسيحية هي في جوهرها نفس المبادئ الموجودة في سائر الأديان ، ولهذا دعا للتسامح في العقائد ونبذ التعصب .
14- جورج فلهلم فريدريك هيجل ( 1770 ـ 1831 ) : فيلسوف ألماني ، مال إلى الفلسفة المثالية المطلقة ، وكان لأفكاره تأثير واسع في مختلف الفلسفات والاتجاهات الفكرية التي ظهرت بعده ، فعلى أساس هذه الفلسفة قامت الفلسفة السياسية الألمانية بعدئذ ، وعلى أساس منطقه الجدلي قام مذهب المادية الجدلية عند كارل ماركس .
15- إزفولد اشبنجلر ( 1880 ـ 1936 ) : فيلسوف ألماني ، تناول بالدراسة موضوعات كثيرة في الفلسفة والرياضة والعلوم والتاريخ والفن ، ذهب في مؤلفه الرئيسي ( تدهور الغرب ) الذي نشره عام 1918 إلى أن كل ثقافة تمر بثلاث مراحل : الشباب ، فالنضج ، فالشيخوخة المفضية إلى الموت ، ورأى أن الثقافة الغربية هي الآن في مرحلة التدهور ، وقرر أنها سوف تهزم أمام حضارة الجنس الأصفر القادمة .
16- أرنولد جوزيف توينبي ( 1889 ـ 1975 ) : مؤرخ بريطاني ، أحرز شهرة عالمية بعد نشر كتابه ( دراسة في التاريخ ) الذي أنفق في تأليفه 41 عاماً ، وذهب إلى أن التاريخ البشري شهد 21 مجتمعاً حضارياً اندثر معظمها ولم يبق منها اليوم سوى ( الحضارة الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية ، والأُرثوذكسية الروسية ، والإسلامية ، والهندوكية ، والصينية ، والكورية اليابانية ؛ والغربية ).