" ذاكرة الإنسان " عليها المعول الأساسى فى التوجه السلوكى ، إلى الدرجة التى جعلت كثيرا من العلماء يرون شبه ترادف بين ذاكرة الانسان وشخصيته .
وإذا كانت الذاكرة " مخزنا " للمعلومات الخاصة بجملة ما مر به الإنسان ، فردا وجماعة، من خبرات ، إلا أن هذه الذاكرة تحتاج إلى حسن التخزين ،وتصنيف محتويات المخزن ،والربط بين بعضها وبعض ،والوعى بما تحمله الأحداث من معان ودلالات .
ولعل من أبرز المظاهر التى تبين قِدَم العناية بالتاريخ ، هذا الوعى غير العادى الذى يلمسه كل من يشاهد الآثار الفرعونية المتعددة ،وخاصة ما كان منها مسجلا على الجدران من عن حركة الأحداث وتطور الأمور .
من هنا فقد عنيت البشرية منذ قرون عدة " بتعليم التاريخ " حتى يمكن أن يقوم بدوره الصحيح فى تشكيل هوية الجماعة البشرية فى هذا الوطن أو ذاك .
وإذا كان التاريخ يحمل بعض الانطباعات غير الطيبة لدى أجيال عدة من أبنائنا ، فعِلّته الأساسية هى فيما يتم من تعليم فيه ،من حيث المادة المختارة ،وطريقة عرضها ، وطريقة تعليمها ،مما قد لا يتسع المجال لبيانه تفصيلا .
وإذا كان التاريخ سجلا للأحداث ، فقد سعى كثير من الحكام إلى توجيهه بحيث يخدم مصالحهم الآنية والمستقبلة ، ونقصد بالآنية ، ما يؤدى إليه تكييف التاريخ أثناء حياتهم من إيهام الناس بأن الحاكم القائم، هو أفضل من أتى ،ونقصد بالمستقبلة أن يذكره المؤرخون بالخير والتقدير، على طول الزمان .
ولابد أننا نذكر كيف وجه بعض الحكام المسلمين من السنة والشيعة بعض الكتابات التأريخية إلى ما يجمل صورة هؤلاء أو هؤلاء ،والعكس مع الآخر، مما جعل المدققين يحرصون على قراءة مصادر مختلفة ، ومن زوايا رؤية متعددة ، حتى يمكن الوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة .
ولعل هذا ما جعل أحد المتشائمين يقول : أن ليس كل حدث ، شاهده أحد الناس ،وليس كل ما شوهد تم تسجيله ،وليس كل ما تم تسجيله انتقل إلينا كما هو …وهكذا مما يجعلنا نتروى كثيرا فى أحكامنا التاريخية ، فلا نسرع فى هذا بناء على كتاب قرأناه من هنا أو كتاب آخر قرأناه من هناك .
وإذا كان التاريخ عبارة عن " وقائع " و" تفسيرها " ، فإن التزييف يأتى من خلال عملية " انتقاء " للوقائع ، فيختار ما يسيء أو يُشَرّف ،وفقا للنظام الحاكم ، أو المذهب السائد . كما يمكن أن يأتى الزييف من خلال " التفسير " الذى يصعب أن يكون موضوعيا ، فهو بالضرورة يتأثر بالتوجه السائد ، ومتغيرات كثيرة تتصل بمن يكتب التاريخ ،وهذا يفسر كيف نجد كتابات تُظهر جمال عبد الناصر ، مثلا ، وكأنه شيطان رجيم ،وكتابات أخرى تؤكد عظمته ووطنيته .
والذى تتاح له الفرصة – مثلا – ليقرأ بعض كتب التاريخ التى كانت مقررة على طلاب المدارس المصرية فى أوائل القرن العشرين ، حيث كنا قريبين من فشل الثورة العرابية وبداية الاحتلال البريطانى يجد كيف سميت هذه الثورة " بهوجة عرابى " ،وكيف وُصف " الزعيم الثائر " بأنه " عاصى " …
وعندما جاءت ثورة يوليو ، كان من سلبياتها التعليمية الحرص على إغفال كل حسنة شهدتها مصر فى أسرة محمد على ، بل ووصل الأمر كذلك إلى تخفيف الحديث عن ثورة 1919 ، حيث ارتبطت فى الأذهان بمؤسس وزعيم الوفد ، سعد زغلول ،وكذلك بالنسبة للزعيم الثانى مصطفى النحاس .
وطوال عهد الثورة لم يذكر فى كتب التاريخ بالمدارس أن أول رئيس للجمهورية هو محمد نجيب ،والاكتفاء بذكر جمال عبد الناصر .
بل إن المتابعين للتطور الفنى ، يذكرون أن فيلم غرام وانتقام ليوسف وهبى وأسمهان ، كان يتضمن نشيدا طويلا عن حكام مصر من أسرة محمد على ، فتم حذفه من الفيلم ،ولم يعد أحد من ملايين الأجيال التى تشاهده يعرف هذا الموضوع .
وأنت إذا فتشت كتب التاريخ التى عرفها التعليم فى مدارسنا عبر عشرات السنين ، إذ تجد إشارات ،ولو سريعة وقصيرة ،عن عدد من الزعماء السياسيين المصرين ،وأعلام الفكر والثقافة والدين ، يستحيل أن تجد ذكرا لحسن البنا ، على الرغم من أن أحدا لا يقارنه من حيث قوة التأثير عبر ثمانين سنة ، لا فى مصر وحدها ،وإنما خارجها كذلك فى عديد من البلدان ، بغض النظر عن الموقف منه بالتحسين أو التقبيح ، لكن وجوده وآثاره حقيقة تاريخية ، لا يلغيها إخفاؤها .
ومن مبكيات عصرنا الراهن ، أن يتم إخفاء الكثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بالصراع العربى الإسرائيلى ، فتخلو منها الكتب الدراسية ،بل ووصل الأمر إلى عدم ذكر أية آية قرآنية تذكر اليهود وبنى إسرائيل بسوء ، مع إن القرآن مليء بمثل هذا تأكيدا على سوء القوم وخطرهم على البشرية .
ومع ذلك ، فلم يسع أحد من أولى الأمر عندنا أن يطلبوا من الطرف الآخر المعاملة بالمثل ، فما زالت كتب مدارسهم تنضح بكل ما يؤجج الصراع ويثبت العداء بين العرب والمسلمين وبين هؤلاء النازيون الجدد .
وآخر المبكيات حقا هو مسارعة شرطى التعليم فى مصر إلى المشاركة فى حملة الغمز واللمز والتعمية على هذا اللمعان والتوهج فى السياسة التركية المعاصرة ،والتى كشف تقاعس السياسة المصرية عن العمل تحت مظلة المصالح العربية الإسلامية ، بل العكس ، مشايعة – أو السكوت عن -دولة العدو إلى درجة أن تكون العلاقات معها أفضل بكثير مما هى مع دولة عربية مسلمة مثل سوريا !!
وقد تبدت هذه المسايرة فى اختيار عنوان ( الغزو العثمانى ) بدلا من ( الفتح العثمانى ) !
والحديث عما لاقته الدولة العثمانية من تشويه يمكن أن يطول ، إلى الدرجة التى كتب عندها المؤرخ الراحل الدكتور عبد العزيز الشناوى كتابا ضخما من ثلاث مجلدات بعنوان ( الدولة العثمانية المفترى عليها ).
إن الدولة العثمانية لها أخطاؤها التى لا يمكن لنا أن ننكرها ،من حيث الفساد والاستبداد بالشعوب التى انتضوت تحت لوائها ، لكن ، كان لكل من الدولة الأيوبية والفاطمية والمماليكية كذلك ، فلم التركيز على الدولة العثمانية وحدها ؟
إننا نعلم كيف أن أوربا منذ القرن التاسع عشر أخذت تتطلع إلى التهام الدولة العثمانية ، حيث لم ينسوا أنها أقوى وأوسع الدول الإسلامية انتشارا فى أوربا ،ويكفى أنها هى التى قهرت عاصمة الامبراطورية الرومانية ، القسطنطينية ،وسموها الرجل المريض ،وظلت عمليات " قضم " الدول التى كانت تحت المظلة العثمانية ، حتى توج ذلك بنهاية الحرب العالمية الأولى حيث أصبح العالم العربى كله تحت الاحتلالين الإنجليزى والفرنسى .
ومن ناحية أخرى ، فمنذ حكم الخلفاء الراشدون ، لم يكن هناك معيار " الوطنية " التى تحمل جنسية بعينها ، فمعروف كيف أن صهيب الرومى ،وسليمان الفارسى ،وبلال الحبشى ، كانوا من رموز الدولة الإسلامية فى بدء نشأتها لأن العقيدة كانت هى " الرابطة " بين مواطنى الدولة الإسلامية الكبرى .
ومن هنا كان حكم دولة الأيوبيين وكذلك دولتا المماليك ،والفاطميين لا يعتبر غزوا لمصر ، وإنما هى صراعات بين حكام ،وإلا فلم ننظر إلى وقوعنا تحت مظلة الدولة العثمانية غزوا ،ولا نعتبر الشيء نفسه بالنسبة لحكم الفاطميين ، الذين جاءوا من أقصى بلاد المغرب ،وكانوا على المذهب الشيعى فى صورته المتطرفة ؟
بل إن دولة المماليك التى حكمت مصر قرنين ونصف القرن ، كان حكامها " عبيدا " من ممالك وأقطار شتى ، خصوصا من أقصى الشمال الروسى وأوسطه ، ومع ذلك لا نصفها بالاحتلال ، وفقا لمنطق أن الرابطة بين أفراد الشعوب الدولة الإسلامية هى العقيدة.
كانت الصورة العدائية للدولة العثمانية فى كتبنا الدراسية من قبل ،حيث كان يستخدم مصطلح ( الاحتلال العثمانى ) متأثرا بما بثته آلة التزييف الأوربية بتشويه الدولة العثماينة ، حتى ييسروا قبول العرب لحكم فرنسا وبريطانيا ، بدلا من حكم العثمانيين .
وفى وقتنا الراهن ، أصبح النظام القائم فى تركيا يتبنى المصالح الحقيقية للمسلمين، وينحاز للعروبة ،وقريبة هى مشاهد "اردوغان " هو يقذف بالأوراق ويغادر القاعة التى بها الرئيس الصهيونى ، بينما كان شيخ الأزهر الراحل سعيدا بمصافحة " بريز " الصهيونى اللعين ،وزاد الموقلف توترا ، وزاد الهجوم التركى والنقد لإسرائيل بعد حادث الباخرة التى جهزتها تركيا لإغاثة مليون ونصف مسلم عربى محاصرين فى غزة ..فمثل هذه التصرفات تحرج السياسة المصرية الرسمية ، خاصة وأن مشاعر الناس اتجهت بسرعة إلى التهليل والتعبير عن التأييد للحكومة التركية ،ومن هنا بدأنا نقرأ فى الصحف الرسمية ما يدخل فى باب الغمز واللمز ، بداع وبدون داع .
وهكذا يتم تتويج هذا الموقف المؤسف غير العقلانى ، فنحرص على تصوير الحكم العثمانى بأنه كان احتلالا ولم يكن مثله مثل كل الدول الإسلامية الكبرى من أموية وعباسية وأيوبية ومماليكية وفاطمية ،ولعل هذا خطوة مؤسفة على طريق تزييف وعى أبنائنا ، على يد الوزارة المسئولة عن " تربيتهم " !