شهقت ضيعتنا مدهشة لما علمت أن عمر القاسم قد صار وزيراً، وها هي يا عمر ضيعتنا كما تركتها وردة من طين وعشباً أصفر ونهراً من الأطفال الحفاة.
وارتبك عمر قليلا ولكنه قال لامه:"لا داعي للبكاء لست ذاهب الى المشنقة" فمسحت امه دموعها باصابعها وقالت بصوت مرتعش:"ليس لي غيرك في الدنيا احرص على صحتك يا بني فالقرى كلها امراض واوساخ مسكين انت لو كان لك قريب مهم لما عينت معلما في قرية"
فقال لها عمر بلهجة مرحة:"اطمئني يا امي اطمئني فابنك ليس زجاج سهل الكسر"
وعمّ ضيعتنا الفرح، ورحبت بحرارة بذلك النبأ الذي أذاعه الراديو، إذن عمر القاسم صار وزيراً، سبحان من يعطي دون أن يسأل، وصدق من قال أن من جد وجد.
– ((ماذا يشتغل الوزير؟)).
– ((تخصص له سيارة أحلى من أجمل بنت)).
– ((ويقبض في أخر كل شهر معاشاً يتيح له أن يأكل خروفاً كل يوم)).
– ((وعندما يدخل إلى مبنى وزارته يرتجف الموظفون خوفاً ويسلمون عليه كأنه عيسى النازل من السماء)).
– ((ويأمر فيطاع، ويقول للمطر أنزل فينزل)).
– ((وإذا أمر الآغا فهل يطيع الآغا ….؟)).
وحدق اهل الضيعة بوجوم وفضول الى شاب نزل من الباص الاتي من دمشق .
كان شاباً مرفوع الراس ذا عينين وديعتين وصارمتين في آن واحد سلم علينا كانه واحد من اهلنا غاب عنا زمنا ثم عاد.قال لنا :ان اسمه عمر القاسم وهو معلم المدرسة الجديد.
وقال وأحد من أهل الضيعة: (( يجب أن نذهب إلى دمشق لتهنئته)).
قال أخر بحماسة: ((سنذهب كلنا.. الرجال والنساء والصغار)).
وقال ثالث: ((ستذهب أيضا الأبقار والخراف والدجاج والأرانب)).
قال رابع: ((الفكرة عظيمة ولكن من سيدفع أجرة الباص….؟ هل سنذهب سيرا على الاقدام…؟)).
ران الصمت حينا ثم قال رجل عجوز: ((يكفي أن يذهب واحد منا ويهنئه باسم الضيعة، هو يعرف حالنا ولن يعتب علينا)).
– ((ولكن من سيذهب….؟)).
قال العجوز: ((اختاروا من تشاؤون، فليذهب مثلاً أبو فياض)).
فحاول أبو فياض الرفض غير أن أصواتنا حاصرته قائلة: (( أنت أعقلنا )).
– ((وأكبرنا سناً وقدراً)).
– ((وأنت تتقن الكلام حتى مع الملوك)).
– ((كان عمر يحبك)).
– ((دائماً كان يشرب الشاي عندك)).
– ((كان يحب حديثك)).
– ((كان صديقك)).
قال أبو فياض : ((ولكن عمر كان أيضاً صديقكم وكان يحبكم، أنسيتم…؟)).
ونظر عمر بحب الى الاولاد المتسمرين على لامقاعد وقال لهم:انا معلمكم الجديد اسمي عمر…اني احب المجتهدين اما الكسالى فمن الافضل لهم ام يتخلوا عن كسلهم والا…؟
ورفع رجل اشيب طفله الصغير الى العلى بحركة فخور*وقال:"ساسميه عمر كاسم جده"
ونظر الى الام الشاحبة الوجه المستلقية على الفراش وضحك وقال لها:"لو كان يعرف ما ينتظره لرفض المجيء ويوم اموت لن يرث الا ثيابي "
وقلنا لأبي فياض : ((لا فائدة في التهرب، ستذهب الى دمشق وتقابل عمر وتهنئه)).
فهزّ أبو فياض رأسه موافقاً مستسلماً.
وقال مختار الضيعة لعمر:"يا استاذ حتى الان لم تذهب لزيارة الاغا"
قال عمر :"لماذا اذهب ما دمت لا اعرفه وهو لا يعرفني؟ "
قال المختار:"اللباقة ضرورية والاغا سينفعك فكل ما ترى عينك من اراضيٍ في الضيع فهو ملكه"
قال عمر:"اابي وامي لم يعلماني اللباقة وعملي في الضيعة ان اعلم الصغار القراءة والكتابة"
وقال أهل الضيعة لأبي فياض: ((قل لعمر أننا مازلنا جياعاً)).
– ((قل له أن جوعنا إزداد)).
– ((بتنا نأكل حتى الحصى)).
– ((حدثه عن القمل الذي يأكلنا)).
– ((وعن اللحم الذي نسينا طعمه)).
– ((حدثه عن أمراضنا)).
– ((قل له أننا بحاجة الى اطباء وأدوية)).
– ((ضيعتنا بحاجة الى ماء نظيف للشرب)).
– ((حدثه عن شوقنا الى نور الكهرباء)).
– ((كلـّـمه عن الآغا وأفعاله)).
– ((نحن نشتغل وهو يحصد)).
وقال رئيس مخفر الشرطة لعمر:"اني والله يا استاذ اعتبرك كاخي تماما وسانصحك نصيحة انت حر ان شئت اعمل بها او ارمهاوراء ظهرك انت دائم السهر مع فلاحي الضيعة ولا يليق باستاذ مثلك ان يسهر معهم معلم المدرسة شخصية محترمة "
قال عمر:"فلاحو الضيعة ناس طيبون"
قال رئيس المخفر:"وانت تكلمهم كلاما اذا سمعه الاغا فسيزعل واذا زعل الاغا فالله اعلم ما يحدث"
وصاح شاب من شبان الضيعة: ((أسمعوا.. من المناسب أن يأخذ أبو فياض معه هدية لعمر)).
فتعالت أصواتنا مؤيدة، ولكن أي هدية نختار؟
– ((خروف أو عدة دجاجات)).
– ((هذه هدية لا تليق بوزير)).
– ((إذن أي هدية نرسل؟!)).
قال أبو فياض : ((أفضل هدية هي سلة من كرز ضيعتنا، اتذكرون كم كان عمر يحب كرز ضيعتنا ويقول عن لونه الأحمر أنه تعبنا ودمنا)).
فأثنينا جميعا على رأي أبي فياض .
وقال لنا عمر: ((الظلم لا يدوم)).
وقال لنا: ((كيف تقبلون بحياة الذل؟)).
فقلنا له: ((العين بصيرة واليد قصيرة)).
فقال عمر بصوت غاضب: ((اليد قصيرة لان القلب خائف)).
وأقبل ليل أبيض واستسلمت الضيعة للنوم، وكنا نحن الفقراء جسداً واحداً مرتجفاً مبتهجاً ينادي أيام كنا نتصنت لكلام عمر مبهورين فكأنه عاش أمداً في قلوبنا وقلوب موتانا.
وعندما أشرقت شمس الصباح على الضيعة، تجمـّـع الرجال والنساء والصغار حول الباص المسافر الى دمشق.
وقال لنا عمر قبل أن يصعد الى الباص : ((الآغا صاحب نفوذ وجاه في دمشق، وهو الذي نقلني من ضيعتكم لأني لم أصبح خادماً له ولأني أحبكم، ولكن اليوم الذي تتخلصون فيه من ذلك الآغا وأمثاله ليس بالبعيد بل هو قريب، وسترونه أنتم لا أحفادكم، وستصبح الأرض التي تشتغلون فيها ملكاً لكم )).
وركب أبو فياض الباص وبرفقته سلة ملأى بالكرز الأحمر ذي الحبات الناضجة البراقة.
ولما أوشكت شمس الضيعة أن تأفل بلغ مسمعنا بوق الباص العائد من دمشق، فتراكضنا الى ساحة الضيعة.
اتى الباص ونزل منه أبو فياض عابس الوجه واجماً، وكانت إحدى يديه مازالت تحمل سلة الكرز.
تصايحنا بدهشة: ((لماذا لم تعط عمر سلة الكرز…؟)).
((ألم تقابله؟)).
((ماذا قال لك….؟)).
ظل أبو فياض ساكتاً كأنه أصم، ووضع سلة الكرز على الأرض وتكلم بصوت أجش، فقال للصغار: ((تعالوا وكلوا الكرز، وعندما تكبرون لا تنسوا طعمه)).
ثم مشى متجها الى بيته، فاعترضنا طريقه، وقلنا له: ((تكلم، أخبرنا بما حدث)).
قال ابو فياض: ((عمر مات)).
فزعلنا كأن أمّـنا قد ماتت بينما عاود أبو فياض السير وقد ازداد ظهره انحاء.