المكان والزمان Space and time
تبقى بنية الفراغ* والزمان بالتحديد الأساس لكل من العلوم الفيزيائية وخبرتنا الظاهرية عن العالم. إن المكان والزمن مفاهيم وأفكار عامة وأسس لدرجة أننا لا نتساءل في حياتنا اليومية عن خصائصهما. ومع ذلك فإن العلم الحديث اكتشف الحالات التي يستطيع فيها كل من المكان والزمن تغيير صفاتهما بشكل شديد، وهذا بدوره يؤدي إلى حدوث ظواهر غير متوقعة وغير مألوفة. إن كثيراً من هذه الحالات تدين بظهورها إلى التطورات التي حدثت مؤخراً في علم الفلك. إن إمكانية وجود الثقوب السوداء Black Holes والانفجار الكوني الأول Big Bang – أصل العالم -. حفز تحريات مفصلة حول سلوك المكان والزمان والمادة، فعندما تصبح قوة الثقالة (التجاذب المادي) قوة عظيمة جداً فإن النتائج تدل على أنه حتى المكان والزمان قد ينهاران ويسقطان خارج الوجود.
المكان (الفراغ) Space
إن كلمة الفراغ قد تدل على الخلاء، بكلام أدق الفضاء الخارجي ليس فراغاً تاماً، فالفجوات الواسعة بين النجوم والكواكب، تحتوي دائماً على دقائق من المادة وعلى كمية كبيرة من الإشعاع، ورغم ذلك فإن كلمة الفراغ تستحضر صورة الخلاء. هذه النظرة إلى الفراغ على أنه غياب الأشياء، تجعل من الصعب على كثير من الناس، أن يفهموا لماذا العلماء يحاولون وضع النظريات حول الفراغ، فإذا كان الفراغ لاشيء، إذاً .. لا يوجد هناك شيء نقوله عنه. إن نظرة العلماء للفراغ مختلفة تماماً. إن خواص الفراغ في كل موضع منه تقريباً مشابه لخواصه عند سطح الأرض، حيث كان نيوتن وليبنتز يخمنون طبيعته. لقد اعتبر العلم الحديث أن بنية الفراغ تتألف من مستويات عدة. إن فروع الفيزياء الحديثة تقترح : أن الأجسام المادية، هي اضطرابات في بنية الفراغ الأساسية. إذاً ..الأفضل من تصور العالم أنه محتوى في الفراغ، فإن علم الفلك الحديث
* كلمة الفراغ (Space) ترادف كلمة المكان، الفضاء، المسافة.
اعتبر الأجسام المادية والفراغ معاً يؤلفان العالم The Universe. ولهذا يقف الفراغ إلى جانب المادة لامتلاكه مكانة فيزيائية كالخواص والبنى. كثير من هذه الخواص والبنى، كان مألوفاً عند اليونانيين القدامى. لقد سجلوا هذه الخواص والصفات للفراغ (المكان) بشكل منتظم في نظرياتهم وفرضياتهم في علم الهندسة.
الزمن Time (مجلة المختار)
-يقول ريتشارد ب فينمان الحائز على جائزة نوبل : نتعامل نحن علماء الفيزياء مع الزمن يومياً، ولكن لا تسألني عن ماهيته، إنه أصعب مما نستطيع إدراكه.
-يقول غرنوت وينكلر مدير دائرة خدمات التوقيت في المرصد البحري الأمريكي في العاصمة واشنطن : لقد أولينا قياس الزمن اهتماماً أكثر من اهتمامنا بأي من المتغيرات الطبيعية، لكنه يبقى لغزاً موجوداً في عقولنا فقط.
-يقول ستيفن هوكنغ عالم الفيزياء النظرية في جامعة كمبردج ببريطانية، مؤلف كتاب “موجز تاريخ الزمن” الشهير : لقد أثبتنا أن المادة في الكون، لابد أنها كانت مضغوطة على نحو لا متناه قبل زهاء 15 مليار سنة. وقبل ذلك، لم يكن هناك وجود للزمن كما نقيسه الآن. والسبب أن الجانب الآخر من بداية الزمن هو لغز باق، ظلام لا يسبر غوره.
إن خبرتنا الإنسانية عن الزمن، تختلف بشكل أساسي عن خبرتنا للمكان (الفراغ). فبالإحساس والشعور، الزمن أكثر المفاهيم بدائية. إن الزمن يدخل في إدراكنا مباشرة. فالزمن أدرك ولوحظ لامتلاكه بنية أكثر جوهرية. فاكتساب المعلومات حول المكان يتم خلال المختبر، والحواس الظاهرية. أما الزمن فله سر إضافي في عقولنا. إن بنية الزمن، التي تدرك وتلاحظ من خلال هذا السر، ربما وصفت كجريان، تدفق من الماضي إلى المستقبل، الانتقال من اللحظة الحاضرة إلى التالية. قد لا يبدو واضحاً، إن الزمن والمكان مقترنان مع بعضهم البعض بأية طريقة جوهرية. ولكن وصف الرياضيين للزمن، يصبح مشابهاً كثيراً للمكان. إضافة لذلك، يرتبط المكان والزمن مع بعضهما البعض في الحركة، ويبرز هذا الترابط من دراسة حركة الأجسام المادية والإشارات الضوئية. فالمكان والزمان مظهران لبنية واحدة تدعى الزمكان (Space-Time).
النموذج الرياضي للمكان Mathematical model of space
إن نظرية الفراغ، مثل النظريات في العلم تتطلب نموذجاً. إذاً.. يجب أن نشيد نموذجاً رياضياً يحمل تشابهاً جيداً للفراغ (المكان) مع العالم الحقيقي. لقد استخدم علماء الرياضيات كلمة فضاء (فراغ) للإشارة إلى أية مجموعة من النقاط؛ فالنقطة هي العنصر الأساسي لوصف الفضاء، نستطيع تصور هذه النقطة (النقطة الهندسية) على أنها نهاية دائرة صغيرة عندما قطر هذه الدائرة يسعى إلى الصفر، فليس لهذه النقطة أبعاد أو امتداد أو باطن. يجب أن نشير إلى أن نقاط هذا التجمع، ليست نقطاً انفرادية مستقلة بعضها عن بعض، وإنما نقطٌ متراصة جداً مع بعضها البعض. فلا يوجد أي انقطاع في الفراغ (المكان)، أي أن الفراغ مستمر ومتصل مع بعضه البعض. إن أي تركيب أو بنية في الفضاء مثل : المستقيم، المستوي، الخط المنحني، الكرة، المربع، متوازي السطوح…، هي مجموعة من النقاط، وبالتالي فهي فضاء. سنكتفي بهذا القدر عن الفراغ، وبما قدمه اليونانيون القدامى في فرضياتهم ونظرياتهم في الهندسة عن خواص هذا الفراغ.
إن الهندسة الإقليدية تعطي وصفاً جيداً في قياس الأطوال والزوايا إلى مسافات بعيدة تصل إلى 10 مرفوعة إلى القوة 25 متر. كما أنها تحتمل اختبارات على أبعاد صغيرة تصل إلى 10 مرفوعة إلى القوة – 16 متر. إذاً .. الفراغ الإقليدي الخالي من المادة، متجانس وموحد الخواص. ويمكن التعبير عن هذا بمبدأ يدعى الثبات.
مبدأ الثبات Invariance principle
إذا حركنا الجسم من موضع لآخر فلن يحدث أي تغير في خواصه الهندسية كحجمه أو شكله، أو في خواصه الفيزيائية ككتلته مثلاً. وكذلك الخواص الهندسية والفيزيائية للجسم لا تتغير حين يتغير اتجاه الجسم في الفراغ، فسرعة الضوء واحدة في جميع اتجاهات الفراغ.
إن قوانين بقاء كمية الحركة، وكمية الحركة الزاوية، والطاقة، لها علاقة وثيقة بمبدأ الثبات.
يجدر بنا الإشارة إلى وجود بعض الظواهر التي تشير إلى وجود بعض الاضطرابات في خواص هندسة الفراغ الإقليدي، خاصة في المناطق التي تقع بجوار النجوم الكبيرة حيث قوى الجاذبية كبيرة. فالنجوم الكبيرة تقوم بتشويه الفراغ القريب من حولها، وهذا ما تقر به النسبية العامة لأينشتاين. سنورد فيما يلي بعض هذه الظواهر، التي قد تشير إلى اضطرابات في هندسة الفراغ (المكان) في جوار الشمس.
1- انحراف الأشعة الضوئية
إن الأشعة الضوئية المارة بالقرب من حافة الشمس، تعاني انحناءً صغيراً قَدْره ”1.75 ثانية، وذلك عندما يكون الشعاع مماساً لحافة الشمس، فالنجوم القريبة من هذه الحافة، ستبدو مزاحة عن وضعها الأصلي، كما تتنبأ به النسبية العامة. كما إن إشارات الرادار تستغرق زمناً أكبر بالذهاب والعودة إلى ومن كوكب الزهرة، إذا مرت هذه الإشارات بمحاذاة الشمس، وهذا ما تتنبأ به النسبية العامة.
الشكل : انحراف الأشعة الضوئية المارة بجوار الشمس، نتيجة تشوه المكان بالقرب منها.
2- دوران إهليلج عطارد
يعد عطارد أقرب الكواكب إلى الشمس، فلا بد من تأثره باضطرابات هندسة الفراغ، أكثر من بقية كواكب المجموعة الشمسية. فقد لوحظ أن القطر الكبير لمداره الإهليلجي يتقدم قليلاً في كل دورة. وتبلغ زاوية هذا التقدم ثانية كل مئة عام. لم يستطع ميكانيك نيوتن أن يفسر هذه الظاهرة، ولكن النسبية العامة تنبأت بها، و ردّت هذه الظاهرة إلى تشوه المكان “الفراغ” حول الشمس. انظر الشكل.
الشكل : ملاحظة ، هناك مبالغة في شكل إهليلج عطارد.
المصدر كاتب الموضوع “خلدون محمد خالد”
http://www.hazemsakeek.com/vb/