التصنيفات
تاريـخ,

في مفهوم الحضارة

في مفهوم الحضارة

كتب: د / بدران بن الحسن*

28/04/1431 الموافق
12/04/2010

يعتبر مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم صعوبة في التحديد، وذلك بفعل التطور الدلالي الذي حظي به عبر تاريخ الحضارة نفسها، ولعل من أهم أسباب الاختلاف في تعريفها أيضًا ما يرجع إلى الخلفية الفكرية لصاحب كل تعريف، والمنظور الذي يقدم من خلاله تعريفه، وكذلك تكوينه العلمي وزاده المعرفي؛ فالمؤرخ، والأنثربولوجي، وعالم الاجتماع، واللغوي، وعالم النفس،كلٌّ يعرفها انطلاقًا من أرضيته الفلسفية ومنظوره المعرفي الذي ينظم أفكاره ، ونتيجة لحيوية التنقيب والبحث في حقل الدراسات الحضارية، ظهرت تعريفات متعددة ومتنوعة لظاهرة الحضارة، كما أن هناك تعريفات ولدت ضمن إطار الوعي العقدي الغربي وأخرى صيغت استجابة للوعي العقدي التوحيدي.
ولذلك نحاول تناول مفهوم الحضارة من الوجهتين؛اللغوية، والاصطلاحية، للتمكن من تحديده بما يجعل منه واضحًا وقابلاً للتعامل معهضمن شبكة المفاهيم المتعلق بمنظور الدراسة الذي نحاول صياغته.
ففي العربية،الحضارة بكسر الحاء وفتحها تعني الإقامة في الحضر، وأن مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي في الحضر(1) ومعناها ضد غابَ والحاضرة والحِضارة [ ويفتح ] خلاف البادية (2) والحضور نقيض المغيب والغيبة: حَضَرَ يَحْضُرُ حُضوراً وحضارة … والحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، وفي الحديث: "لا يبيع حاضر لبادٍ".
والحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم بالبادية، وفلان حضري وفلان بدوي، والحِضارة: الإقامة في الحضر. وكان الأصمعي يقول: الحَضارة، بالفتح. والحاضرة والحاضر: الحي العظيم أوالقوم (3) .
فالحضارة في عرف اللغة كما رأينا ترتبط بالحضر، والعمران، أي أن المصطلح من ناحية اللغة العربية ذاتها يحمل المعنى الاجتماعي، وذلك عند اعتبار الحضارة علامة على الحضور والإقامة والاستقرار، وهذه كلها تحمل معاني اجتماعية، فإذا سكن الناس واستقروا نشأت بينهم صلات اجتماعية أكثر،وارتبطت مصالحهم، ونشأت بينهم سبل التعاون، واتجهوا إلى بناء المدن والإبداع والانتظام والتنظيم.
فالحضارة في جذرها اللغوي تعنىَ وتُركز على الجانب الاجتماعي، وكأن اللغة تشير إلى أن الحضارة مفهوم اجتماعي منذ نشأته، كما أنها لا تكون إلا حيث توجد علاقات اجتماعية متبادلة بين الناس تظهر فيها معاني التعاون والتنظيم و الانتظام في إطار مكاني محدد هو المدينة، ولعل هذا فيه إشارة لاهتمام النبي -صلىالله عليه وسلم- بتسمية (يثرب) باسم (المدينة)، بما يتضمنه لفظ المدينة من قيم اجتماعية وحضارية بعيدة الأثر في النفس الإنسانية.
أما مصطلح "الحضارة" في اللغات الأوربية، واللغة الإنجليزية بخاصة، فمشتقة من اللاتينية، فلفظ "Civilization" لغويًّا يرجع إلى الجذر "civites" بمعنى مدينة، و"Civis" بمعنى ساكنالمدينة، أو "civilis" بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة(4) كما أنها تقرن أحيانا بمصطلح "Culture" التي فيمعناها اللاتيني تفيد الإنماء والحرث، واستمر مفهومها في حراثة الأرض وتنميتها، إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث كما يذكر معجم أكسفورد أنها اكتسبت معنى يشير إلى المكاسب العقلية والأدبية والذوقية، وتقابل في العربية مصطلح ثقافة(5)
فالمصطلح نفسه لم يأخذ معناه المعروف لدينا اليوم عن الحضارة في اللغات الأوربية، إلا مع القرن الثامن عشر(6) ، باعتبار ما اقترن به من مصطلحات دلالية أخرى، وأقربالمعاني اللغوية المستعملة اليوم أن الحضارة: "مرحلة متقدمة من النمو الفكريوالثقافي والمادي في المجتمع الإنساني"(7) ، أو هي: "مرحلة متقدمة من التقدم الاجتماعي الإنساني، أو هي ثقافة وطريقة حياة شعب أو أمةأو فترة من مراحل التطور في مجتمع منظم(8)
فمصطلح الحضارة في اللاتينية واللغات الأوربية أيضا يتضمن معنى المدينة،والاستقرار، والتنظيم الذي تقتضيه حياة المدينة، وكأن هناك تشابهًا في المعنيين اللغويين في كل من العربية واللاتينية، باعتبار أن الإنسان اجتماعي بطبعه حسب التعبير الخلدوني(9) أي أن النـزوع إلى التجمع والتنظيم والانتظام فطرة إنسانية تحكم السلوك الإنساني في إطاره الجماعي، وأن التحضر مطلب إنساني متصل بالسعي الإنساني في مختلف العصور.
أما من الناحية الاصطلاحية؛ فإن للحضارة تعاريف مختلفة – كما سبقت الإشارة- ففي الاصطلاح الخلدوني: "الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير " (10)وابن خلدون هنا يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تمربها الدولة أو المجتمع عندما تتفكك العصبية ، وتضمحل قوة الرابطة التي تجمع الناس علىبناء المجتمع، فيصير المجتمع في حالة الترف التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته،وتقل أخلاق البناء، وتظهر أخلاق الفتور، فالحضارة بهذا التعبير الخلدون يدرجة من التقدم تبلغها المجتمعات.
ويزيد ابن خلدون تعريفاً آخر للحضارة يسميها "سر الله في ظهور العلم والصنائع" وذلك في الفصل الذي يفسر فيه لماذا أن "حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم" مما يجعل من العلم والصناعة منتوجات حضارية ، كما أن الحضارة تصطبغ بذلك الطابع الاجتماعي العمراني، وهو ما سنجده مع مالك بن نبي لاحقًا، يقولابن خلدون: "إن الصنائع من منتحل الحَضَرِ ، وإن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوملذلك حضرية.. والحضَرُ لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف"(11).
ويعلل ابن خلدون ذلك برسوخ الحضارة في العجم،ويعني أساسًا (الفرس) الذين تحولوا إلى الإسلام، فيقول: "لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس.. وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة وحاميتها وأولي سياستها(12)
فالعرب حسب ابن خلدون كانوا في بدايات اتصال هم بهذه المنجزات الحضارية من علوم وصنائع غير أنهم شغلوا عنها بمهمات بناء الدولة الجديدة، والتي كانت إحدى مراحل بناء الحضارة التي ابتدأها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بل من غار حراء عندما اتصلت الأرض بالسماء عن طريق الوحي، لكن ابن خلدون لا يقف عند هذه المرحلة من تطور الحضارة، بل يرصد حركتها، حيث يجعل استمرارالعلوم والصنائع والتطور العمراني نتيجة لاستمرار عمل قانون الحضارة في تلك الأمصار وليس سببًا في استمرارها، حيث يقول: "فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر، فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم(13)
فالحضارة سر الله في وجود العمران والعلم،وإذا فقدت شروطها فإنها تنتقل إلى مكان آخر تتوفر فيه شروطها الموضوعية، ولعل تعبيرابن خلدون عن الحضارة بالسر، نستشف منه معنى القانون الذي يتحكم في انتقالها(14)
وإذا انتقلنا إلى العالم الغربي نجد "ديورانت" يعرفها بأنها: "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإن الحضارة تتألف من عناصر أربعة :الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون،وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق(15)
ويعرفها تايلور بأنها: "درجة من التقدم الثقافي، تكون فيها الفنون والعلوموالحياة السياسية في درجة متقدمة(16)
والملاحظ على تعريف كل من ديورنت وتايلور أن الأول ينظر إلى الحضارة من جهتين؛ أنها نظام اجتماعي يقدم للإنسان القدرة على تحقيق إنجازات ثقافية، ومن جهة أخرى أنها مرحلة من مراحل التقدم البشري تكون فيها الحياة الإنسانية تتجه نحو التنظيم لما تتوفر لها مجموعة من العناصر، أما الثاني فإنه يعرف الحضارة على اعتبار أنها درجة من التقدم الثقافي لها نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو في تعريفه هذا يتجه إلى تعريف الحضارة بالنظر إلى غايتها التي تحققها في المجتمع..
كما يعرفها مالك بننبي، وذلك من عدة جوانب؛ فهو تارة يعرفها من الجانب البنيوي (مركّزًا على بنيةالحضارة وعناصر تركيبها)، وتارة من الجانب الوظيفي (مركزا على وظيفة الحضارة) باعتبارها تؤدي دورًا في المجتمع، وتارة يعرفها من جانب غايتها من حيث إنها غاية الحركة الاجتماعية في التاريخ ، وبعبارة أخرى فهو يعطي التعريف التحليلي للحضارة الذي يبيّن كيفية تركيب الحضارة في عناصرها الأولية، ويعطي تعريفًا للحضارة من خلالدورها (وظيفتها) في التاريخ، كما يحدد حقيقتها الرسالية.
أما التعريف التحليلي؛ فإننا نجده يعرف الحضارة من الوجهة التحليلية (تحليل بنيتها) بالمعادلة الرياضية التالية: الحضارة= إنسان تراب وقت.
وفي ذلك يقول ابن نبي: "حضارة = إنسان تراب وقت، وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت ، فلكي نقيم بناء حضارة لايكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نحل المشكلات الثلاثة من أساسها(17)..
فابن نبي يجمل أي جهد أو منتج حضاري، في صورة هذا التفاعل الأولي بين عنصر الإنسان صاحب الجهد المنجز، وعنصر التراب بصنوفه التي هي مصدر الإنجاز المادي، وعنصر الزمن الذي هو شرط أساسي لأي عملية إنجازية يقوم بهاالإنسان،
وباعتبار أن الحضارة إنجاز موجه في التاريخ؛ فإنه لا شك إنتاج لفكرة تطبع صبغتها على جهد الإنسان فتميزها في التاريخ، ولهذا فابن نبي لا يكتفي بهذه العناصر التركيبية الأولية للحضارة فقط، بل يضيف إليها الفكرة المركِّبَة؛ التي هي الفكرة الدينية (الدين)، مركِّب القيم الاجتماعية، ويقوم الدين بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية(18) أي لا يكون فكرة مجردة بعيدة عن صياغة همٍّ جماعي وأداءٍ اجتماعي مشتركٍ
هذه العناصر الثلاثة – كما يرى ابن نبي – تتفاعل فيما بينها بفعل الشرارة التي تحدثها الفكرة الدينية، وتتحقق في واقع تاريخي يقتضي وجود مجموعة من العلائق تحقق وحدة العمل التاريخي، هذه العلائق هي ما يسميه ابن نبي)شبكة العلاقات الاجتماعية) (18) فشبكة العلاقات الاجتماعية هي العنصر التركيـبي الآخر الذي يتحقق بوجوده الجهد الإنساني في صورة إنجاز حضاري في التاريخ(19)
فالحضارة من هذه الوجهة التحليلية تقوم على عناصر الإنسان والتراب والزمن، في وجود شبكة من العلاقة الاجتماعية التي تشكل الميلاد الحقيقي للمجتمع في التاريخ وبداية إنجازه التاريخي على ضوء الفكرة الدينية
أما التعريف الوظيفي فإن ابن نبي يقول بشأنه: "إن الحضارة يجب أن تحدد من وجهة نظر وظيفية، فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين، أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور، أو ذاك من أطوار نموه"(20) فهي ذلك العمل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع في سبيل توفير الضمانات التي تؤهل الفرد لممارسة دوره في التاريخ
فمن وجهة الوظيفة التي تؤديها الحضارة فإن ابن نبي ينظر إلى الحضارة بمقدار ما تقدمه من الضمانات للفرد، تلك الضمانات التي يقدمها المجتمع لأي فرد من أفراده في مرحلة تاريخية معينة من مولده إلى مماته ، أي إلى أن ينقضي وجوده الاجتماعي، هذه الضمانات هي بمثابة شروط ذات وجهتين مادية ومعنوية ، وبعبارة أخرى: إنها في الواقع جملةالعوامل المعنويّة والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره ، فالفرد يحقق ذاته بفضل قدرة وإرادة تنبعان من المجتمع الذي هو جزء فيه(21) ، فالحضارة أداء اجتماعي لمجتمع ما في التاريخ.
فإذا كان مجتمع معين يستطيع في مرحلة تاريخية معينة تقديم وتوفير مثل هذه الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح للفرد أن يمارس دوره الطبيعي في المجتمع؛ فإن المجتمع يعيش حالة حضارة. وكأن ابن نبي من هذه الزاوية يركز على الحقيقة الموضوعية التي تلتمس الحضارة في أثرها في الواقع، وتهتم بالمنظورالاجتماعي (السوسيولوجي) للظاهرة الحضارية.
ومن هذه الجهة(الوظيفية)؛ فإن الحضارة هي:
أولاً:شروط أخلاقية ومادية ، وهذا يجعل الحضارة خاضعة للتوازن الذي يحفظها من الانحراف، فإذا اختل جانب انحرفت الحضارة من هذا الجانب المختل، والحضارة.
ثانياً: عمل اجتماعي، وهذا يشير إلى أهمية المجتمع وأسبقيته في عملية الإنجاز الحضاري، وذلك من خلال تركيز ابن نبي على أهمية وجود عالم شبكة العلاقات الاجتماعية باعتبار أن الحضارة إنجاز يقوم به المجتمع بمجموع أفراده، ويتم في إطاره وبإرادته وإمكانه، حتى إنه يمكن القول: إن الحضارة هي عمل شبكة العلاقات الاجتماعية ذاتها
وثالثاً: أن الإنسان (الفرد) يأخذ أهمية خاصة من خلال اعتبار الحضارة من الوجهة الوظيفية عملية تقديم للضمانات لهذا الفرد حتى يتمكن من ممارسة دوره المنوط به اجتماعيًّا.
ورابعاً:أن الحضارة عبارة عن ضمانات إذا نظرنا إليها من هذه الوجهة، وهي ضمانات تتيح للطاقات الفردية والاجتماعية أن تنطلق وتمكن الفرد من التطور ماديًّا ومعنويًّا.
كما أن الحضارة خامساً: عبارة عن أطوار اجتماعية يمر بها المجتمع، وفي هذا إشارة إلى الظاهرة الدورية التي تمر بها الحضارة.
ــــــــــــــــ
الهوامش :
* دكتوراه في دراسات الحضارةوالفلسفة، قسم دراسات الحضارة والفلسفة، جامعة بوترا، ماليزيا.
إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، (قطر: دار إحياء التراث الإسلامي)، ج1/ص180.
2 ـ الفيروزأبادي، القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1983م)، ج2/ص10.
لسان العرب، حرف باب الراء، فصل الحاء المهملة، مج4، ص196-197.
3 ـ أحمد محمودصبحي، في فلسفة الحضارة، (الإسكندرية: مؤسسة الثقافة الجامعية)، ص3.
Philip Weiner, Dictionary of the History of Ideas, (New York:4 ـ Charles Scribner’s Sons, 1973), P613.
5 ـ قسطنطين زريق، في معركة الحضارة، الطبعة الرابعة، (بيروت: دارالعلم للملايين، 1981م)، ص32-33.
6 ـ نصر محمد عارف، الحضارة-الثقافة- المدنية،سلسلة المفاهيم والمصطلحات (1)، (هيرندن، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1414هـ/ 1994م)، ص33.
7 – The American Heritage Dictionary of the English Language,3ED, (New York: Houghton Mifflin Company,1992), PP 349-350.
8 -Oxford Advanced Learner’s Encyclopedic Dictionary, (Oxford University Press: 1994), P160.
9 ـ المقدمة، ص475.
10 ـ عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابنخلدون، ط5، (بيروت: دار القلم، 1984)، ص475.
11 ـ المقدمة، ص544.
12 ـ المقدمة، ص544.
13 ـ المقدمة، ص545.
14 ـ ول ديورنت، قصة الحضارة، (جامعةالدول العربية، 1957م)، ج1/ص4.
15 – E.B.Taylor, Dictionary of Anthropology, Special Indian Edition, (Delhi: Goyl Saab, 1988), P117.
16 ـ ابن نبي، شروطالنهضة ، ترجمة: عبد الصبور شاهين،(دمشق: دار الفكر،1996)، ص45.
17 ـ وجهةالعالم الإسلامي، ص32.
18 ـ ابن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين،الطبعة الثالثة، (دمشق: دار الفكر،1986)، ص27.
19 ـ ابن نبي، فكرة الإفريقيةالآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ،(دمشق: دار الفكر، 1981)، ص143.
20 ـ ابن نبي،آفاق جزائرية، (القاهرة: مكتبة عمار،1971)، ص38.
21 ـ ابن نبي، مشكلة الأفكار فيالعالم الإسلامي، (دمشق:دار الفكر،1988)،ص42


التصنيفات
تاريـخ,

بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد . دور النُّخبة

بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد… دور النُّخبة


كتب: د/ بدران بن الحسن


13/04/1431 الموافق
28/03/2010

لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عننقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالةالتراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي –عليهرحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأىمنذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئيةمتغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة، ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أنيقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن منتحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّدالمنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئيومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة،ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت – عن قصد أو غيرقصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها، فأنتجت هذه التصوراتالجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحلالمشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرحنفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالمالإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالمالإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمةفي فك خيوط الأزمة التي أُحكمت، ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذهالأسئلة على نفسه.
وفي تصوري فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماًبالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقومعلى بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذااستقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامجالجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم،وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة،ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادةالحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت، لنا في كل هؤلاء خير دليل علىأن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤونالقوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية فيصياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلماتالفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبةوالمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمطالقيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفةللواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤيةوتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماءوالمجتهدين والمثقفين إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذهالقيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريقاليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة – في رأي الجماهير من الناس- على فعلالمعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزهاليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العملالمستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لايفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعويةوالسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكبنمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهيغير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.
كما أن النخبة بمختلفطبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهيروغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً، بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيهاأن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهةأخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التيتجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلىمراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كلالأطراف، وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيمالمبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجععنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابليةلتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.
وعليه فإن النخبةمطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريحومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلفالمقولات والتصورات، كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليديةالموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلكوفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر،القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أيفكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيمالثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر منصالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلةالأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عنمواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدىالأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتهالمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أنسلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلاموالمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤيةواضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءاتالعملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس.