التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

[صوتي وتفريغ] أسئلة في اللغة العربية يجيب عليها فضيلة الشيخ اللغوي عبد الرحمن بن عوف كوني حفظه الله

*الأسئلة:

السؤال الأول:
بارك الله فيكم * ما هي أجود الكتب وأمتنها بعدكتاب الله تعالى في باب بيان فضل اللغة العربية ؟
الجواب: أجود الكتب والله الكتب كثيرة * على كل حال مثلاً تجد بيان فضل اللغة العربية في كلام بعض العلماء في أماكن خاصة من بعض مؤلفاتهم * كما تقدم أن ذكرنا عن الإمام الشافعي في الرسالة * وكلامه هذا جامع شامل * وكذلك تجد ما ذكرته عن شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى * وهذا الكتاب مجموع الفتاوى تجد فيه البيان عن فضل اللغة العربية * كما تجده كذلك – بيان فضل اللغة العربية – في كتاب آخر له اسمه [تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل ] تجدكلام له في فضل العربية أيضاً * وتجد كذلك مثل هذا للإمام الشاطبي في [ الموافقات]فقد تكلم على فضل اللغة العربية * وأفاض إفاضة جيدة في هذا أيضا * وتجد كذلك مثل هذا في كلام لابن القيم الجوزية الدمشقي في كتاب له سماه [ بدائع الفوائد ] تجد كذا شذرات من الكلام على فضل العربية * لاسيما في بيان اتساع العربية وأساليبها التي لا يمكن للإنسان أن يعرف أسرار الكتاب والسنة إلا إذا عرف هذه الأساليب في اللغة العربية * فهو على كل حال هذا موضوع مبسوط * وغالباً ما تجد أن العالِم إذا جاءت مناسبة له في كتاب ألفه – جاءت المناسبة على العربية – فتجده يفيد الكلام ويمعن البيان لفضل العربية * فهذا في الحقيقة مبثوث * البيان لفضل العربية مبثوث عند العلماء في كتبهم * فمثلاً تجد بعض المؤلفات لبعض علماء اللغة إذا قرأت هذه المؤلفات هي تدل على فضل العربية * وهذا مثلا ًفي كتب الأدب الكبار كـ [ الكامل]للمبرد * وكذلك [ البيان والتبيين ] للجاحظ * هذا وإن كان معتزلياً لكن كتابه منجهة العربية تستفيد * تستفيد من جهة العربية المحضة وتعرف مكانة العربية * وكذلك في كتاب سيبويه ذلك الكتاب العظيم الذي هو [ بحر الكتب النحوية] فجميع كتب النحو عائدة إلى هذا البحر * وهكذا الكلام على فضل العربية إذا جاءت مناسبة لأي عالم في تعريفه يتعرض له . نعم.
السؤال الثاني:
أحسن الله إليكم * السؤال الثاني * هل يعد متن الآجرومية على التحقيق كما يؤكد الكثير من أهل العلم والتخصص هو أسهل متن في النحو العربي * أم يوجد متون أسهل منه ؟ حفظكم الله.
الجواب:في الحقيقة كتاب بورك فيه بسبب إخلاص مؤلفه * وهو كتاب قصد المؤلف أن يضع اللبنات الأولى لهذا الفن * ووفق أيما توفيق * فجاء بهذه اللبنات الأولى في أسلوب ميسر * لايمكن أن يوجد في الحقيقة كتاب أخصر وأسهل وأدل على أصول هذا الفن من هذا الكتاب * لو وجد كتابا في مستوى هذا الكتاب فإنه قد يوازيه * لكن كونه يكون أسهل منه فهذا في الحقيقة ليس بمعروف * وصاحبه وفق أيما توفيق إلى وضع هذه الأصول الأولية بهذا الفن.نعم.
السؤال الثالث:
أحسن الله إليكم * السؤال الثالث : مَن علماء النحو المؤتمنون مِن أهل السنة من حيث سلامة المعتقد ؟ بارك الله فيكم.
الجواب : هذا في الحقيقة سؤال مجمل ؛ لأن علماء أهل السنة والجماعة المؤتمنون على النحو كثيرون ، وأهل السنة كذلك منهم موجودون * وهم أيضاً كثيرون * فهل يقصد بهذا المتقدمين من الطبقة المتقدمة ؟ أو يقصد به علماء أهل السنة المؤتمنين في القرون الوسطى ؟ أو في هذه العصور المتأخرة ؟ هذا سؤال مجمل جداً * لكن مثلا المتقدمون من فوق طبقة سيبويه مثلاً * كالخليل وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي شيخ سيبويه * وكذلك عمرو بن العلاء * ويونس بن حبيب من شيوخ سيبويه أيضاً * هؤلاء طبقة فوق طبقة سيبويه ؛ لأن هذه الطبقة التي ذكرت بعض منهم هم شيوخ سيبويه * فالطبقات المتقدمة عموماً تجد فيهم السلامة * وتجد فيهم الأمن من جهة الاعتقاد * عموماً هكذا مثل سيبويه نفسه وكذلك من فوقه عموماً تجد فيهم السلامة * فسيبويه مثلاً في كتابه هذا إذا قرأته أو كنت تعرفه لا تجد عليه ما يؤخذ من جهة الاعتقاد * لو وجدت هذا فهذا قد يكون قليلا ً* وهكذا لو وجد لكن لا تجد هذا * وأما من بعد طبقة سيبويه إلى ما بعد القرن الثالث مثلاً ؛ لأن سيبويه في القرن الثاني * كان سيبويه في القرن الثاني * وكان أحد مشايخه وهوأبو زيد الأنصاري من أهل المدينة * وهؤلاء المتقدمون جداً من القرون المفضلة ؛فلذلك لا تجد فيهم هذه المآخذ في الانحراف العقدي * فالذين في القرون الوسطى عموماً تجدهم سالمين * لكن بعد هؤلاء إلى ما بعد القرن الرابع أو بدءاً من القرن الرابع وهكذا * تجد أن علوماً تدخلت في العلوم العربية أو في العلوم الشرعية * وبدخولها حصل شيء من الكلام الذي ليس بمستقيم عند أهل السنة والجماعة للغة العربيةً * فهم أدخلوها في العربية أو يطبقون بعض القواعد العربية وفق هذا الانحراف العقدي * هذاحصل أخيرا فعلا * هذا حصل بعد القرون المفضلة * وعليه لو أتينا إلى علماء ما بعدالقرن الثالث سنجد علماء هم معتزلة * وهم ماتوريدية * وهم أشعرية مثلاً كل هذا تجده فيهم * فمثلاً تجد ( أبا علي الفارسي ) وهذا كان كبيراً جداً في العربية * هو من نجوم العربية * لكن كنت تجد عنده شيئاً من الاعتزال * وكذلك تلميذه(ابن جني ) هذا فيه اعتزال تجد كلامه في بعض كتبه كـ(المنصف) وكذلك ( الخصائص ) * تجده كلاماً له فيه تأييد أو نصرة للاعتزال * لكنه عن حسن نية منه * يرى أن هذا هو الحق * وهذا ما هو من الجهل على كل حال * لكن هو يرى أنه حق * وكذلك تجد مثلاً الزمخشري [محمودبن عمر الزمخشري ] هذا في القرن الخامس بعد هؤلاء * فهذا تجده معتزلياً كبيراً،حتى يفتخر باعتزاله * فكان إذا أتى إليك تارة يدق الباب * فإذا قلت من بالباب ؟ قال أنا الزمخشري المعتزلي * لكنهم في هذه الحقيقة أصيبوا بهذا الانحراف العقدي * قد يقول قائل : هل هذا عن حسن نية منه أو لأنه ما تبين لهم الحق ؟ أو ما وجدوا من يبين لهم الحق أو لا ؟ فهذا قد يقال وإلا فهم منحرفون بالاعتقاد * ولذلك تجد كلامهم في العربية إذا كانت المسألة عربية ولها علاقة بما يتعلق بالله وبالشرع وما أشبه ذلك * فقد تجد لهم انحرافاً في هذا * وهكذا فعلى كل حال مثلاً عندك في [ ابن مالك] هذا بعد القرون المفضلة هو في القرن السابع * ابن مالك تغلب عليه الاستقامة * فلم يعرف بأشعرية * إذا ًفهو ممن يُعتمد في كتبه * وإن كنت قد تجد بعض هنات في كلامه له علاقة في العقيدة مثلاً * أو تجده في بيان مسألة * أو في شرحه آية من الكتاب تكون هذه الآية عقدية * فتجده أحياناً يوافق تفسيره تفسير الأشاعرة أحياناً * لكن هذا قليل * ولذلك لا يعتبر من الأشاعرة * وغيره كذلك كـ [ابن هشام الأنصاري] مع أنه كان حنبلياً * لكنك تجد أحياناً في تفسيره في بعض الآيات القرآنية * تجد له تفسيراً أو إعراباً يوافق المعتقد الأشعري * وهكذا
إذاً فعموم المتقدمون جيدون * طبقة سيبويه جيدون من حيث الجملة * طبقة سيبويه الذين هم الطبقة الثانية فهؤلاء من حيث الجملة جيدون ، والذين بعد سيبويه * كذلك الذين في القرون المفضلة تغلب عليهم الاستقامة . نعم.
السؤال الرابع :
أحسن الله إليكم * سائل يقول : ما هو أجود معجم أو قاموس في شرح غريب ألفاظ القرآن * وفي شرح غريب الحديث * وفي شرح الألفاظ العربية الغريبة عموماً ؟
الجواب: إذا خصه بألفاظ القرآن فهذا المعروف فيه[المفردات في غريب القرآن ] للأصفهاني * لكن بعض المفسرين الذين فسروا القرآن كله تجد بعضهم يجيدون تفسير مفردات القرآن إجادة جيدة تامة * تجد هذا مثلاً عند[القرطبي]لكن ليس خاصا بتفسير الغريب فقط * أما الخاص بتفسير الغريب هو[ المفردات]للراغب الأصفهاني * هذا مشهور وإن كان هو أيضاً فيه شيء من الأشعرية في الحقيقة ، لكن [المفردات] هذه هي جيدة ليست في بعض المفردات التي يحصل فيها شيء من التفسيرإذا كانت هذه المفردة تتعلق بالله كالساق مثلاً كقوله تعالى : (يوم يكشف عن ساققد تجد عنده أحياناً تفسيرا له على ما عند الأشاعرة * وإلا تجد المفسرين الذين فسروا القرآن جميعاً هذا ما يعرف في هذا * والمفسرون للقرآن من المتقدمين والمتأخرين كثيرون * فكثيراً تجد عندهم تفسير المفردات للقرآن لكن ضمن التفسير لا أنهم خصوا تفسير المفردات بكتاب ؛ إلا من كان من صاحب [ المفردات في غريب القرآن]للراغب الأصفهاني . نعم .
وماذا بعده وفي تفسير إيش * في غريب إيش ؟
الطالب : غريب الحديث ؟
الشيخ : في غريب الحديث من أحسن ذلك : [غريب الحديث] للهروي * هذا جيد * في أربعة أجزاء * وكذلك للزمخشري ، الزمخشري له كتاب في غريب الحديث هذا جيد في غريب الحديث . نعم .
الطالب : في شرح ألفاظ العربية الغريبة؟
الشيخ : وفي شرح ألفاظ العربية الغريبة هذا عندك : [ تهذيب اللغة ] لأبي منصور الأزهري * هذا جيد * هذا من أصول المعجمات الأصلية * فهذا أولاً يقدم ثم [ الصحاح ] للجوهري * ثم
[ القاموس ] للفيروز آبادي * ثم [ اللسان ] لابن منظور الأفريقي المصري * هذه الكتب لهؤلاء جيدة في بيان غريب مفردات اللغة * هذه القواميس ليست للغريب فقط ؛ لأن قولك غريب أو لأن قوله غريب ما معناه ؟ معنى الغريب : أن تكون الكلمة ذات غرابة لعدم اشتهار معنى الكلمة ؛ لأن العرب الفصحاء ما كانوايستعملونه كثيراً * فكان معناها غريبا لأجل هذا * وإلا فهي عربية صحيحة فصيحة * لكن معنى غريب لعدم الاستعمال أو لعدم الاشتهار في هذا المعنى فصارت اللفظة غريبة * إذاً فالغريب في الحقيقة معناه هذا * وأما تفسير المفردات عموماً فهذا موجود في ما تقدم من نحو: [تهذيب اللغة ]* و [الصحاح ] للجوهري * و [القاموس]* و[لسان العرب].
يوجد كتاب مفرد خاص بهذا ألفه أبو زيد الأنصاري[النوادر في اللغة ] * فالنوادر في اللغة من هذه الكتب التي تعتني بالغريب فقط لا بشرح المفردات كلها * لا * لكن هذا خاص بالغريب ، النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري وكان في القرن الثاني * وكان من شيوخ سيبويه ،وكان معاصر لشعبة بن الحجاج * و من أوائل نقدت الحديث في هذه المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
السؤال الخامس :
أحسن الله إليكم * هل الأصح أن نقول اللغة العربية أم لسان العرب ؟
أوما الوجه الأصح هنا على كل حال إذا قلت اللغة العربية أو لسان العرب؟
الجواب : اللغة العربية هي لسان العرب * ولسان العرب هي اللغة العربية * كلاهما صحيح * ما نقول هذا أفصح من هذا * لكن قد يوجد مقام من المقامات في التخاطب مجيئك باللسان العربي يكون أنسب وأبلغ * وفي مقام آخر مجيئك باللغة العربية يكون أنسب وأفضل * في الحقيقة كون هذا أفصح أو أولى من هذا * شيء يبحث عنه في المقامات * في مقامات الكلام * في مقامات التخاطب * أو في مقامات ذكر أحد الاسمين فقط * وإلا كلاهما صحيح * كلاهما أصح * لكن متى نقول لسان العرب ؟ هذا له موطن * على كل حال هذا يحتاج إلى ضرب مثال * لكن لعل هذا يكفي في أنهما سواء . ما أذكر الآن * يكفيك في أنهما سواء ؛ لدلالتهما على شيء واحد * لكن متى تضيف اللسان للعرب ؟ ومتى تأتي باللغة ثم تصفه بالعربية ؟ هذا في المقامات البلاغية عند وجه التخاطب يعرف * هذا في المقامات التخاطبية عند التخاطب فقط . نعم.
السؤال السادس:
أحسن الله إليكم سائل يقول : هل لطالب العلم المبتدئ أن يجمع بين نوعين من علوم اللغة العربية في وقت واحد * كأن يجمع دراسة متن في النحو وآخر في الصرف؟
وجزاكم الله خيراً.
الجواب : هذا ليس خاصا بالعربية فقط لكن هذا عام في علوم الشرع كما عليه درج السلف
أعني بالسلف من كان على منهج السلف – وإلا فمثلاً في القرون الوسطى من القرن الرابع إلى القرن السابع أو القرن العاشر وهكذا * تجد علمائنا لا يجمعون بين فنين أو كتابين في فن واحد هذا المعهود عندهم أو هذا المعروف عندهم ؛ والسر في ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى النتيجة في الطلب على هذا المنهج ؛ فإن النتيجة لهذا المنهج في الطلب هي التمكن والضبط الجيد والحفظ للعلم * ولذلك ما كانوا يتعجلون * وليس أمامهم غاية يريدون البلوغ إليها ولربما فترت همتهم بعد ذلك . لا ؛ لأنهم كانوا يطلبون العلم للعلم * فلذا يريدون إتقانه فيسلكون السبيل الذي به يقيمون العلم * والعلم ثقيل ؛ فكونك تجمع عدة فنون أو عدةكتب في اليوم وإن أمكنك أن تفهمه قراءةً * لكنه لا يمكنك أن تضبطه ضبطاً وتحفظ النص حفظاً إذا كثروا * فإذا قلََّ : أنت تتمكن منه * وهم كانوا ينظرون إلى التمكن وينظروا إلى النتيجة في الطلب على هذا المنهج ؛ لأنهم ما كانوا متعجلين فلذلك ما كانوا يجمعون * ولكن إذا عرفت العلة أنهم يريدون التمكن والضبط والحفظ – إذا عرفنا هذا – إذاً لا نستغرب لماذا لا يجمعون ؟ لأنهم يعرفون إذا جمعوا كثيراً ما يتقنون كما يريدون الإتقان * فلذلك ما يجمعون بين فنين * لكن إذا كان الإنسان يأنس من نفسه أنه يستطيع أن يجمع بين فنين في الطلب لقوة نفسه واستعداده وذكاؤه وما إلى ذلك ، فلعله لا يكون هناك حرج نظرا لهذا الطالب الذي آنس من نفسه القدرة على الجمع بينهما ، مع التمكن من ضبط المتن بالحفظ والفهم * فلا يمنع عندئذ * وقد كان بعض شيوخنا وهو شيخنا ( محمد الأمين بن محمد المختار اليعقوبي الجكني الشنقيطي ) – رحمه الله صاحب[ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن]* كان على هذا المنهج * لكن بعض مشايخه قالوا له : أنت تستطع أن تجمع بين فنين فقط لا تزد على هذا ؛ نظراً لما وجدوا فيه من الاستعداد لهذا * إذا فالمسألة معللة وهي * هل أتمكن من الضبط والإتقان والحفظ إذا جمعت بين فنين أو لا ؟ فهذه هي العلة * فعلى كل حال الإنسان فقيه نفسه * لكن كلما أفردته ولم تكن على عجل – وأنت في حل من أمرك – كلما أفردت – يعني طلبت العلم شيئاً فشيئاً – كلما كان هذا أمكن لتثبتك وتمكنك في العلم ورسوخك فيه * ما هو إلا هذا * لكن إذا لم ترد التمكن فأنت تستطيع أن تقرأ مادتين أو ثلاث أو أربع فهذه مسألة أخرى * إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.نعم.
السؤال السابع :
أحسن الله إليكم * سائل يقول : هل في علم المنطق مباحث تخص علم اللغة العربية ؟
الجواب : السؤال هذا جوابه إذا فهمت ما المنطق ؟ أولاً تفهم هذا * ثم تعرف هل في هذا المنطق مباحث تخص اللغة العربية * ثم تعرف هذا بعد هذا * المنطق في الحقيقة فن يقول المحققون من علمائنا:
إن المنطق مهيمن على سائر العلوم ؛ ليس معنى هذه الهيمنة أن هذه العلوم متوقفة عليه ، لا وكلا ؛ لكن لأن المنطق في الأصل هو : الفكر الصحيح المستقيم ؛ والفكر الصحيح المستقيم تستطيع أن تدرك به بعض المسائل في أي فن من جهة صحة بعض هذه المسائل وعدم صحتها بعقلك القوي الصحيح * جاءت مثلاً مسألة في الصرف * أو جاءت مثلاً في كذا * أو في الحديث أو في كذا * فتقول هذه المسألة لو كانت كذا لكان كذا * لكن هذه ليست مستقيمة في العقل * فتجد أن مثل هذا الفكر تجده صحيحاً في واقع الحال * وهذا يقع كثيراً * وهذه هي حقيقة المنطق إذا كان عقل الإنسان سليماً وفطرياً وعالياً وذكياً ؛ فإنه قد ينتبه في الكلام على بعض المباحث في أي فن سواء كانت العربية أو غيرها * فيقول هذه المسألة كيف ؟ كيف هذه المسألة هنا ؟ هل يستقيم هذا في العقل ؟ لكن بشرط أن يكون قد عرف بعض هذا الفن معرفةً ما من حيث هي ؛ من حيث هذا
الفن ، فيتكلم أحياناً على بعض مسائل الفن ويكشف الخطأ باستقامة فكره الصحيح لهذه المسألة في هذا الفن * إذاً فهو ليس فناً خاصاً بالعربية ولا بكذا ولا بكذا ؛ إنما هو كما قال بعض المحققين يهيمن على سائر الفنون * ليس هيمنة أساس وأصالة لكنها هيمنة انتباه واكتساب لما قد يقع في الفنون من أخطاء ؛ هذه الأخطاء لو عدت إلى أصول الفن بالتأمل تجد أن أصول الفن لا تسلمها أيضا * هذا هو الواقع في المنطق * ولذلك يقول بعضهم كما قال [ الأخضري ] في متن [السلم ] يشير إلى حقيقة المنطق الصحيح الذي لا يعارض الشرع يقول : [ فبعدُ * فالمنطق للجنان نسبته كالنحو للسان * فيعصم الأفكار عن غير خطأ * وعن دقيق الفهم يكشف الغطاء ] . إذا كان الفكر صحيحاً سليماً فإن هذا الفكر الصحيح هو العقل الصريح * والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح كما قرره المحققون من علمائنا المتقدمين من السلف * أي قصدي بالسلف الذين هم على منهج السلف.نعم.
الشيخ : فهمتم ؟
الطالب : نعم فهمت .
السؤال الثامن :
أحسن الله إليكم ، سائل يسأل عن الكتاب المعاصر [ جامع الدروس العربية] .
الجواب : هذا للشيخ [ مصطفى الغلاييني ] * هذا الرجل كان في بيروت وأصله من قرية بين مكة والمدينة * فهو عربي في الصميم * لكن الأجداد نزحوا من مدة طويلة إلى بيروت * وهو كان معاصراً للشيخ[محمد عبده ] مفتي الديار المصرية في وقته * ودرس وتعلم عليه * وكان [ مصطفى الغلاييني ] أعرفه جيداً * أعرفه من كتبه * كان من أهل المعرفة بالعربية حقاً * هذا صحيح فكتابه [جامع الدروس العربية ] جيد جيد * فينبغي أو يحسن بطالب العلم أن يستفيد منه * فهو ألـَّــف هذه الكتب على الطريقة المدرسية المنهجية * فهناك دروس للعربية للمدارس الابتدائية * ودروس كذلك للمدارس الإعدادية * ودروس للمدارس الثانوية * وجامع الدروس العربية فهو – رحمه الله – عمل هذا الكتاب وهو يشكر عليه إذ أنه جيد * كتابه جيد . نعم .
السؤال التاسع:
أحسن الله إليكم * هل الأفضل لطالب المبتدئ الذي أتقن [ الآجرومية ]أن ينتقل مباشرة إلى[الألفية ]، أم يدرس [قطر الندى] لأن هناك من يقول أن[الألفية] تتضمن ما في [ قطر الندى ] وزيادة ؟
الجواب : هو الصحيح لأن درجة [الألفية] عالية * لا شك أنها تتضمن ما في[ قطر الندى] * إلا أن الطالب الذي يكون في حل من أمره ليس مستعجلاً ويستطيع أن يتدرج في الطلب حتى يتمكن بسهولة من فهم المسائل * إذا قرأ [الآجرومية]فينتقل إلى كتاب متوسط كـ [قطر الندى ] * ثم بعد [ قطر الندى ] ينتقل إلى [الألفية]فهذا التدرج مرغوب فيه * ومعين للطالب على الفهم الكثير للمسائل ولا يتعب * ولكن لا ينتقل من متن [الآجرومية ] إلى [الألفية ] * ليس معنى ذلك أنه لا يفهم [الألفية ]؛لكن قد يقال يعرفها بشيء من بذل الجهد وما إلى ذلك * يريد أن ينتقل لا مانع ينتقل من[الآجرومية ] إلى [ الألفية ]* لكن لو تدرج لكان هذا أحسن له * و أوْفى له في جمع وضبط المسائل كما ينبغي . نعم
السؤال العاشر :
أحسن الله إليكم * السؤال الأخير : هل تنصحون الطالب المبتدئ بعلم الصرف أن يحفظ متن [ لامية الأفعال ] أو [ نظم المقصود ] ؛ لأن هناك من يقول أن[نظم المقصود] أسهل ويعتني بالتقعيد وأكـثر من الأمثلة بخلاف [لامية الأفعال
الجواب : الحق يقال أن[المقصود] الذي ذكره قد يكون فيه شيء من سهولة التعبير أو تسهيل التعبير أو أسلوب سهل ميسر؛ إلا أن [ لامية الأفعال ]أقعد منه من جهة أن الإمام بن مالك قصد بـ[لامية الأفعال] وضع أصول لصرف الأفعال * فهذه الأصول التي عمد بن مالك إلى تقريرها في[ اللامية] * إذا حفظ أو قرأ الطالب [ اللامية] ؛ فإنه سيحوي هذه الأصول * وهي أصول جيدة قوية جدا * والصرف أو أي فن تجد مسائله كثيرة والأصول كثيرة * فاقتصر ابن مالك على بعض الأصول الصرفية للأفعال في هذا الكتاب * إذاً فمقدار ما في هذا الكتاب من هذه الأصول قد أتقنت * قد أتقن هذا المقدار لهذه الأصول في [ اللامية]،وابن مالك يمثل إلا أنه لأقعدية الكتاب تجد فيه صعوبة أكثر من [ المقصود ] ؛ وذلك كما قلت سابقاً فيه يسر * في أسلوب [ المقصود ] يسر * حتى من جهة النظم تجد فيه يسر وسهولة بخلاف [ لامية الأفعال ]فإنه من البحر البسيط أحد أطولي بحور الشعر* فيجمع أوزاناً ويجمع كلاماً في بيت تجد طولاً في هذا البيت * وربما تجد بعض الأبيات في[ اللامية ] يصعب عليك أن تنطق به وتفهمه من أول وهلة * كما في قوله :
وَ(احْبَنْطَأ) (احْوَنْصَلَ) (اسْلَنْقَى) (تَمَسْكَنَ) (سَلْـ ـقَى) (قَلْنَسَتْ) (جَوْرَبَتْ) (هَرْوَلْتُ) مُرْتَحِلاَ
ذكر في هذا البيت أفعالاً مع أوزانها * فهو يذكر المثال ويقصد بالمثال الوزن * وقد يذكر الوزن فقط دون أن يذكر المثال حسب ما يقتضي النظم * فلا شك أنا لكتابين لكل ميزة على كل حال * ميزة
[ اللامية ] الأقعدية في المقدار الذي جاء به ، وذاك [ المقصود ]فيه سهولة في التعبير والطالب يستطيع أن يتناول الكتاب بنفسه ويستطيع أن يقرأ بنفسه ولو لم يشرح له * بخلاف [اللامية ] تحتاج إلى شرح وإلى شارح يشرح لك ويفك لك الأبيات . نعم.
السؤال الحادي عشر:
السؤال الأخير : فضيلة الشيخ ما رأيكم بكتاب[التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية] لـ محمد محي الدين؟
الجواب:[التحفة السنية] لعالم مصري كان متمكناً بالعربية لا شك * والناس في التمكن في العلوم درجات * لكن كان صاحب علم * كان من المعاصرين وإن كان توفي – رحمه الله – لكنه كان له دراية بالفن * دراية بالعربية النحو والصرف * فشرحه هذا للآجرومية شرح مفيد * لكنه يزيد زيادات لا تناسب مستوى أو درجة هذا الكتاب * وإلا لو شرح لك المتن فهذا الشرح جيد * لكنه ربما يأتي
بأمثلة * أو يزيد على الأمثلة * أو يزيد على مراد المتن * فالكتاب في الحقيقة للمبتدىء * فيحتاج أن يفرق بين كلامه وشرحه الذي هو موافق ومطابق للمتن * وبين شرحه وكلامه الذي هو زائد على المتن فقط * وفي أمور أخرى لكن هذا أهمها مما ينبغي أن يعرف * فيه زيادات ربما لا تحتاج إليها * فأنا أذكر الآن عندما تكلم على الجمع جاء بأمثلة لأوزان لجمع التكسير * وهذه الأوزان إنما تبحث في كتب الصرف * أو كتب النحوالمطولة كـ [ الألفية ] مثلاً * والطالب في بداية[ الآجرومية ] بمعزل أو بمغنم عن مثل هذه الأوزان التي ذكرها لجموع التكسير أو القلة.
نعم .
الشيخ : انتهى ؟
الطالب : بارك الله فيكم وفي علمكم .

الشيخ : وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه * السلام عليكم .
* لتحمـــيل المحاضرة المفرغة على شكل مطوية ليسهل طباعتها
رابط التحميل:
* لتحمـــــــــيل الملف الصوتي للمحاضرة
رابط التحميل :

المصدر


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

مذاكرة الشيخ البشير الإبراهيمي في صحة قول العرب:

الحوار في صحة جر الجوار
أو
مذاكرة الشيخ البشير الإبراهيمي في صحة قول العرب: ( هذا جحر ضب خرب)

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: فأنا أقرأ في جزء لطيف من روائع ما دبجه يراع الشيخ الإبراهيمي ــــ رحمه الله ــــ موسوم “برسالة الضب“،([1]) والتي استعرض فيها الشيخ ما كان يحفظه عما قيل في الضب وعلى لسانه، وما ضرب من الأمثال المتعلقة به، ومن ذلك ما يذكره النحاة استشهادا للجر بالمجاورة: (هذا جحر ضب خرب).
وكان أن وقف الشيخ منه موقفا عجيبا حيث قال: ((هذا المثال البارد الفج الصامط، الذي لا يثير في النفس اهتماما بل يثير فيها اغتماما))!!.
وأثار كلام الشيخ البشير هذا اهتمامي؛ إذ إن علماء اللغة لا يشترطون في الذي يذكرونه من شواهد أن تكون مما يطرب السامع وتهتز له أعطاف القارئ ويجد الأريحية في ترديده، كما أنهم لا يجعلون أمر هذه الشواهد متوقفا على استحسان الدارس أو استهجانه، بل الأصل عندهم في صحة شواهد اللغة ثبوتها عن أهل اللسان، دون النظر إلى أي اعتبار أخر. فشأن الشواهد اللغوية كما قال الشيخ محمد صادق الرافعي: (( لا يبالي الرواة فيها إلا باللفظ، فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون الألفاظ وهي حروف طاهرة)).([2])
وهكذا ذهب الشيخ البشير مغتما إلى التشكيك في ثبوت المثال وصحته فقال: (( فلست على ثقة من أن مثال النحاة مسموع من العرب)). وهي دعوى يستغرب صدورها من مثل الشيخ البشير؛ إذ قد نقل هذا المثال العدول من أئمة العربية وأساطينها، ويكفي حكاية سيبويه له، قال في “الكتاب”: (( وقد حملهم قرب الجوار على أن جر هذا جحر ضب خرب ونحوه)).([3])
بل زاد الشيخ الإبراهيمي على التشكيك في ثبوت المثال إلى القطع بأنه منتحل مصنوع حيث قال: (( وإنما هو مثال سوقي انتحلوه، ثم قلد أخرهم أولهم فيه على عادتهم)).
وهو كلام شديد رمى فيه الشيخ البشير عن قوس واحدة المثال وناقليه ومنهجهم. واستنتج الشيخ بعد ذلك إشكالا غريبا صاغه في قالب الإنكار فقال: ((وهل يصح لهم أن يمثلوا لمسألة سماعية بمثال مصنوع)). وعلى تسليم كون المثال مصنوعا منتحلا فإن أهل اللغة لا يقتصرون في التمثيل لقضية الجر بالجوار بجحر الضب الخرب بل يذكرون من متماسك الشواهد الكثير. قال أبو البقاء في “الإملاء”: ((هذا موضع يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد)).([4])
وفي بعض تلك الشواهد من الروح والخفة والإيناس ما يستحق أن يستولى به على هوى النفوس، و ينال الحظ الأوفر من ميل القلوب. ومن ذلك قول ذي الرمة:

تـريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب

حيث خفض غير للمجاورة، ومن ذلك أيضا قول امرئ القيس:

وظل طهاة اللحم ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجل

بحر قدير للمجاورة .
ثم إن الشيخ البشير في اعتراضه على مثال النحاة ذكر أمرين احتجاجا لدعواه:
الأمر الأول: (( إن نطق العرب لا يساعد على ما ادعاه النحاة فيه؛ لأن كلمة خرب التي يدعي النحاة جرها مقطعا في الجملة لم يعقبها كلمة أخرى، فإذا نطق بها عربي نطق بها ساكنة الأخر بلا شك، فمن أين يظهر الجر الذي ادعوه فيها)).
والجواب: أن الجر يظهر بلا إشكال باعتبار كون هذا المقطع في درج الكلام، بمعنى أن العبارة نطق بها موصولة بكلام يعقبها، والنحويون اقتصروا على محل الاستشهاد وموضع الاحتجاج. وهو مضطرد كثير في تصرفاتهم.
وأما دليل الشيخ الثاني على أن مثال النحاة مصنوع فقد قال الشيخ البشير: (( إن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يعرف العرب عن الضب من أنه لا يبني جحره إلا في الأماكن الصلبة المتماسكة)). وقد ساق الشيخ البشير في بيان هذه الحقيقة جملة من الشواهد والأشعار.
وعلماء اللغة لا يخالفون الشيخ في صحة صلابة وتماسك جحور الضباب، ولكنهم لا يعتقدون أن ذلك من قواعد العقول التي لا تنخرم بحال. ثم إن الضباب ليست على درجة واحدة من القوة والمهارة في بناء الأجحار؛ فالفوضى في البناء في عالم العقلاء فاشية فضلا عن عالم الأحناش. ثم إن صاحب تلك العبارة لم يجر في وصفه لجحر الضب ذاك على صناعة الحدود والتعاريف حتى يرد عليه ما ذكره الشيخ البشير، إذ قد يكون في مقام وصف جحر ضب رأى خرابه وعاين انقضاضه، ولا تثريب على من أخبر بما عاين وشاهد. وكأن الشيخ البشير تنبه لوهاء هذا الذي احتج به فقال: ((ولا ننكر أن بعض جحر الضباب يخرب وقد خربت مدائن الرومان والفراعنة فضلا عن جحور الضباب)).
ومع قوله هذا أصر الشيخ البشير على الطعن في المثال فقال: ((ولكنه أي المثال بارد جاف مخاذل، خاذل لحافظه إذ يوهمه خلاف الواقع)). وهذا عجيب من الشيخ. أويقال إن شواهد اللغة كلها تعبر عن حقائق ومسلمات لا تخالف الواقع؟ أوليس غالب شواهدها أشعار هام فيها أصحابها في أودية الباطل والخيال، أم هل يقال إنه لا ينبغي ولا يصح الاستشهاد بمثل قوله تعالى: {إن هذان لسحاران}؛ لأنه يوهم خلاف الواقع. ولو عاملنا شواهد النحو وأمثلته بما قد يفهم من كلام الشيخ البشير لنسفناها جملة، ولم يبق لنا منها إلا قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

والشيخ البشير ليس هو أبو عذر تخطئة هذا المثال، فقد عده بعض النحاة المتقدمين كابن النحاس وغيره من قبيل الغلط واللحن، بل قد تجاسر ابن جني ونقل إجماع العلماء على عده من غلطات العرب فقال: ((قولهم هذا جحر ضب خرب يتناوله آخر عن أول، وتال عن ماض على أنه غلط من العرب، لا يختلفون فيه ولا يتوقفون فيه)).([5])وما أدري مستنده في هذا النقل العجيب، الذي لا يختلف الناس في بطلانه، ولا يتوقفون في رده؛ إذ لا يزال النحاة واللغويون والمفسرون والفقهاء يستدلون بهذا المثال، وينقلونه آخر عن أول، وتال عن ماض، وعلى أساسه قعدوا باب الجر بالجوار. واعجب لابن جني نفسه ينـقــل اعتبار الكــافـة له، قــال في “الخصـائص”: (( وأما الجوار في المنفصل فنحو ما ذهبت الكافة إليه في قولهم هذا جحر ضب خرب)).([6])
وليت أن الشيخ توقف عند الاعتراض على هذا المثال كما ظن ذلك أخونا الفاضل بوسلامة فقال: (( ولم يكن هذا اعتراض من الإمام على الخفض بالمجاورة، وإنما هو اعتراض على المثال، والاعتراض على المثال لا يقدح في القواعد)).([7]) ذلك أن الشيخ يقرر في رسالته تلك: ((أن هذا النوع من الجر مقصور على ما سمع من العرب؛ فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا، بهدم القواعد الصحيحة، والجري على غير منهاج)). فأنت ترى كيف أن الشيخ لم يقتصر على المثال، بل تجاوزه إلى رد قاعدة الجوار. وهذا من الشيخ جريا على مذهب شاذ لبعض النحــاة والمفسرين. قال ابن الأنباري في “الإنصاف”: (( وقولهم جحر ضب خرب محمول على الشذوذ، الذي يقتصر فيه على السماع لقلته، ولا يقاس عليه)).([8]) والحق الذي عليه المحققون من أئمة اللغة والتفسير أن الجر بالمجاورة مطرد، ينسج على منوال ما سمع عن العرب فيه. قال أبو البقاء: (( وقد جعل النحويون له بابا، ورتبوا عليه مسائل، ثم أصلوه بقولهم هذا جحر ضب خرب، حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حذاقهم؛ قياسا على المفرد المسموع، ولو كان لا وجه له في القياس بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقط)).([9])
وليس الأخذ بقاعدة الجر بالجوار جريا على غير منهاج كما قال الشيخ البشير، بل هو مهيع ظاهر المعالم له ضوابطه وقواعده. وقد ذكر علماء اللغة لتسويغ الجر بالمجاورة جملة شروط:
الشرط الأول: عدم الإلباس. قال السمين الحلبي عند كلامه عن الجر بالجوار: (( وهذه المسألة عنذ النحويين لها شروط: أن يؤمن اللبس فلا يجوز قام غلام زيد العاقل، إذا جعلت العاقل نعت للغلام امتنع جره على الجوار لأجل اللبس، بخلاف قولهم هذا جحر ضب خرب ففي هذا المثال خرب صفة للجحر لصحة اتصافه به والضب لا يوصف به)).([10])
الشرط الثاني: أن لا يفصل بين المتجاورين بحرف العطف.قال ابن هشام: (( ولا يكون خفض الجوار في النسق؛ لأن التعاطف يمنع من التجاور)).([11])والحق جواز الجر بالمجاورة ولو في النسق، قال القاسمي: ((وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار مردود بأنه ورد في العطف كثير في كلام العرب)).([12]) ومن مجيء الجوار في النسق قراءة أبي عمر و غيره {وأرجلكم} بالخفض. وجزم البيهقي في “السنن” أن من قرأ وأرجلكم خفضا فإنما هو للمجاورة.
الشرط الثالث: أن تتفق الكلمتان المتجاورتان إفرادا وتثنية وجمعا وتنكيرا وتعريفا وتذكيرا وتأنيثا. نص على ذلك الخليل([13]) وغيره. إلا أن سيبويه يجيز الحمل على الجوار وإن اختلف المتجاوران، إذ لم يشكل المعنى.([14])
الشرط الرابع: أن يتضمن جر الجوار نكتة. قال القاسمي: ((وشرط حسن الجر بالجوار عدم الإلباس مع تضمن نكتة)).([15])ومن دقق النظر في مثال النحاة هذا جحر ضب خرب رأى أنه يتضمن جملة من النكت:
أولا: أن الخراب مستثقل معنى، و الضم مستثقل لفظا، فجر خرب حتى لا يجتمع على اللفظ ثقلان.
ثانيا: إنه لما خالف جحر ضبنا الأصل في جحور بني جنسه من كونها متماسكة صلبة، خولف له في الإعراب، ونزع له ما هو أصل إعراب نظائره وهو الإتباع وجر على الجوار.
ثالثا: لما وصف الجحر بالخراب وكان الوصف مظنة الاختصاص أجراه على الجوار لا على الإتباع؛ بيانا لكون الخراب وصفا عارضا لا ملازما.
رابعا: إن هذه الجملة على وجازتها تصلح أن تكون مثالا جامعا لأنواع الإعراب الثلاث المحلي والظاهر والمقدر. فكلمة (هذا) إعرابها محلي، والكلمة المركبة في الوسط (جحر ضب) إعرابها ظاهر، وكلمة (خرب) الإعراب فيها مقدر.
هذا وإن إعمال الفكر في الإطلاع على أسرار سنن أهل اللسان يبين أنهم قد بلغوا مبلغا عظيما في تصرفهم فيه. وقد أحسن من قال:

هي العرب تأتي من وجوه كثيرة يتيه بها بعض النحاة الأكابر

وفي الأخير لم استطع تجاوز عبارة وجدتها في مقال أخينا الفاضل بـو سلامة، فإنه لما ذكر اعتراض الشيخ البشير على مثال النحاة. قال: (( ولست رديفه على هذه المطية التي اقتحم بها أبواب الجراءة على النحاة، فكان أجرأ من غضافر)).([16]) وهي عبارة شديدة أتمنى أن ينفعه معها ليت وأختها لعل.
وأرجو أن أكون بما كتبت قد حققت ما أراده الشيخ البشير ـــ نور الله عليه قبره ــ فإنه قال بعد إيراد الاعتراض: (( وددت لو ذاكرت بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه؛ لأسمع رأيهم وما عسى أن يأتوا به من حجج فارغة)).
مذكرا أنني لست ـــ علم الله ــ من نحاة العصر، ولا ممن شغف ببعض مباحثهم اللفظية العقيمة، ولكنني فضولي أعبر عن توجيهات وحجج من نقلوا ذاك المثال، وأصلوا قاعدة الجوار من أنمة العربية و أساطينها كالخليل وسيبويه والأخفش وأبو البقاء وغيرهم.
والبحث ليس في الانتصار لتعليلات نحوية بعيدة، أو توجيهات إعرابية مستكرهة، يمكن وصفها بالمباحث اللفظية العقيمة والحجج الفارغة، ولكن الشأن في الانتصار لأسلوب من أساليب لغتنا قال عنه الإمام ابن كثير: ((المجاورة وتناسب الكلام وهذا سائع ذائع في لغة العرب شائع)).([17])
وكذا في الاحتجاج لشاهد نحوي نقله وأثبته أئمة فحول.

فإن كان الذي نقلت مقنعا فذاك، وإن كان غير ذلك فالأمر كما قيل:
غاية نفس عذرها مثل منجح

والله أسأل أن يرحم الشيخ البشير، وأن يجمعني وإياه في مستقر رحمته في جوار الأنبياء والصالحين.

انتهى

[1] مطبوعة ضمن “آثار الشيخ البشير الإبراهيمي” ( 2/40 ـ 52 ).

[2] “تاريخ آداب العرب” للرافعي (1/354 ).

[3] “كتاب سيبويه” (1/437 ).

[4] “إملاء ما من به الرحمان” لأبي البقاء العكبري (1/118 ).

[5] “الخصائص” لابن جني (1/191 ).

[6] “الخصائص” لابن جني (3/220 ).

[7]مقال (لسان لحلو يرضع اللبة) لمحمد بوسلامة مجلة “منابر الهدى” العدد (04)

[8] “الانصاف” لابن الأنباري (1/610 ).

[9] “إملاء ما من الرحمان” لأبي البقاء (1/118 ).

[10] “الدر المصون” للسمين الحلبي (4/210 ).

[11] “مغني اللبيب” لابن هشام ( 2/683 ).

[12] “محاسن التأويل” للقاسمي(6/109 ).

[13] “كتاب سيبويه” (1/437 ).

[14] “كتاب سيبويه” (1/437 ).

[15] “محاسن التأويل” للقاسمي (6/109 ).

[16] مقال (لسان لحلو يرضع اللبة) لمحمد بوسلامة مجلة “منابر الهدى”.

[17] “تفسر القرآن العظيم” لابن كثير (3/53 ).


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

[قصيدة] ثناء و إشادة بالشيخ عبد الغني عوسات الجزائري حفظه الله .

الحمد لله رب العالمين و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين و بعد :

فقد زار فضيلة الشيخ عبد الغني عوسات وفقه الله للخير مدينة تيارت

يوم الخميس 10 جمادى الأولى 1443 هجري , و كنت من بين الحضور

فكتبت هذه الأبيات ثناءًَ على الشيخ حفظه الله و هو أهل لذلك أسأل الله أن يثبته على الخير حتى يلقاه .

عبد الغنيِّ يجوب الأرض في بلدي *** يدعو الأنام إلى التّوحيد في جلدِ

شيخ لطيف بشوش الوجه في خلقٍ *** لكنَّ شيخي بِتِيكَ الحرب كالأسدِ

يدعو الأحبّة في جدّ بلا كللٍ *** نَشِيطُ جِسْمٍ , حليمٌ , أحمرُ الخَدَدِ

مُبْيَضُ وجهٍ و شابتْ لحيةٌ جَمُلَتْ*** لكنّه كشبابٍ , جيّدُ العضُدِ

قوّاه ربّي بذاك الخير ينشرهُ *** حيّاه ربّي, كريمَ النّفس ذا سَعَدٍ (1)

قد زار تِيهِرْتَ هذا الشيخُ مبتهجاً *** كالنّور حلَّ فزالت ظلمةُ الرَّمَدِ

نصحٌ وذكرى , بديع حسن منطقه *** لا لست تسمع إلاّ الحقّ بالسَّندِ

أفٍ لقوم بغوْا للطّعن حيث رَأَوْا *** خيراً كثيراً فكان الطعنُ بالحسدِ

جاءت للقياه أعدادٌ مجمهرةٌ *** ما أكثر الوفد !! لا أحصيه بالعددِ

جاءوا إليه و ذي الأشواق تدفعهم *** كمثل شوقٍ يُرى من خالصِ الولدِ

أظهرت حبّي بذي الأبيات أشهرها *** في الله كان فبان الحبّ من خلدِي

نظمها: أبو عبد الرحمن محمد العكرمي

عصر يوم السبت
12 جمادى الأولى 1443 هجري

ــــــــــ
(1) السَعَدُ : اليمن خلاف النحس.


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

تعليق الشيخ العثيمين على مقولة عمر ( تعلّموا العربية فإنها تزيد في ا

بسم الله الرحمن الرحيم
تعليق – نافع ، رائع وماتع – للشيخ / محمد بن عثيمين – رحمه الله تعالى – ، على مقولة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – : ( تعلّموا العربية فإنها تزيد في المروءة ) .
للاستماع والتحميل :
من هنـــــا
من هنـــــا
من هنـــــا
من هنـــــا
،‘، سماعا موفقا أرجوه لكم ،‘،


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

الشيخ محمد رسلان حفظه الله يحكي قصة في التقعر في اللغة

الشيخ محمد رسلان حفظه الله يحكي قصتين في التقعر في اللغة

استعمال الغريب من اللغة

كان رجل من التجار يتقعر في كلامه وكان يستعمل الغريب، يعني الكلام الذي لا يستعمل في الحالات العادية فجفاه أبوه استثقالا له وتبرما به قال: هذا الولد لا يدخل علي لا في حياتي ولا بعد مماتي، مما كان يأتي به يعني من التقعر في الكلام واستخدام الغريب فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فقال اشتهي أن أرى وُلْدي قبل أن يموت فاحضروهم بين يديه وأُخِّرَ هذا ثم أُخِّرْ أحضروهم جميعا من وراء حجاب يدخلون واحدا واحدا ويؤخرون هذا المتقعرحتى لم يبقى سواه فقالوا له قال إخوته إخوة هذا الأخ التقعر قالوا لأبيهم ندعوا لك بأخينا فلان فقال هو والله يقتلني بكلامه فقالوا قد ضمن ألا يتكلم بشيء تكرهه فأذن له وظنه عند الضمان فأذن له فلما دخل قال السلام عليك يا أبتي قل أشهد ألا إلا الله وإن شئت قل: أشهد أنَّ لا إله إلا الله، فقد قال الفراء كلاهما جائز والأولى أحب إلى سيبويه، والله يا أبتي ما شغلني غير أبي علي فإنه دعاني بالأمس فأَهْرَسَ وأَعْدَسْ وأَرْزَزَ وأَوْزَزْ وسَكْبَجَ وسَبَّجْ وزَرْبَجَ وطَهْبَجْ وأَطْفَلَ وأَمْصَبْ ودَدْجَجَ وفْلَوْجَجَ ولَوْجَجْ.

فصاح أبوه العليل: السلاح السلاح صيحوا لي بجارنا الشماش بردبة عند أهل الكتاب من النصارى لأوصيه أن يدفنني الأبعد مع النصاري لأستريح من كلام هذا الأحمق، لا يريد أن يكون له في الآخرة به إجتماع يريد أن تتخالف الطرق، هذا هو التقعر حقا.

بعض الولاة اعتلت أمه فتفدقت حيلته عن دعوة المصلين في المسجد لأمه بالشفاء والعافية، فماذا صنع؟ كتب رقاعا ـ جمع رقعة ـ وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام ببغداد ردها الله على المسلمين ردا جميلا، في كل رقعة مكتوب صيغة واحدة هي: “صِينَ امرؤ ورُعَيَ دعى لامرأة إنقحلة مقسئنة قد منيت بأكل الطرموق فأصابها من أجله الاستمصال أن يمن الله عليها بالإطرغشاش والإبرغشاش” فكان كل من قرأ رقعته دعى عليها ولعنه ولعن أمه ـ الشيخ حفظه الله يضحك ـ.
ـ صين مرؤ ورُعِيَ: دعاء بالصيانة والرعاية.
ـ دعى لامرأة إنقحلة: يعني يبس جلدها على عظمها.
ـ مقسئنة: كبيرة عاجزة.
ـ مُنِيَّتْ بأكل الطرموق: هو الطين الأرميني.
ـ فأصابها من أجل الاستمصال: هو الإسهال.
ـ أن يمن الله عليها بالاطرغشاش: بالعافية.
ـ والابرغشاش: بالسلامة.
الشيخ يضحك ويقول: لو كتبناها بهذه الصورة فماذا يضر؟ هذا هو التقعر حقا.

منقول من موقع البضاء العلميةhttp://www.albaidha.net/vb/showthrea…948#post108948


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

العالم الأبي قصيدة من إلقاء الشيخ الرسلان

تعليم_الجزائر

هذه الكلمة أضيفت بتاريخ : 26-12-2010

تاريخ إلقاء هذه المحاضرة : الثلاثاء 15 من المحرم 1443هـ الموافق 21-12-2010م

مكان إلقاء هذه المحاضرة : بالمسجد الشرقي – سبك الأحد – أشمون – محافظة المنوفية – مصر

حجم الملف : ( RM : 0.32 MBytes )

نبذة مختصرة عن المحاضرة : فمن أجودِ ما جادتْ به قرائحُ أهلِ العلمِ والأدبِ في بيانِ صيانةِ أهلِ العلمِ للعلمِ, ورعايتهم جانبَهُ, وركونهم إلى صَرْحِ عِزِّهِ: قصيدةُ القاضي أبي الحسنِ علي بن عبدِ العزيزِ الجُرجانيِّ – رحمه الله تعالى -, وهي قصيدة عصماءُ في وصفِ العالِمِ الأَبِيِّ, والاعتزازِ بالعلمِ, وسُمُوِّ الهمَّةِ.

الصور المصغرة للصور المرفقة تعليم_الجزائر
الملفات المرفقة تعليم_الجزائر العالم الأبي.rm‏ (332.6 كيلوبايت)


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :هذا العلم بابه من حديد ودهاليزه من قصب!!!

بســم الله الـرحمــن الرحيــم

الحمد لله رب العالمين.

وصلّى الله وسلّم على نبينا محمد

قال رحمه الله

النحو وما أدراك ما النحو

الذي لا يعرفه من الطلبة إلا القليل ؛

حتى إنك لترى الرجل قد تخرج من الكلية

وهو لا يعرف عن النحو شيئًا ،

يتمثل بقول الشاعر :

لا بارك الله في النحو ولا أهله *** إذا كان منسـوبا إلى نفطويه

أحـرقه الله بنصـف اسـمه *** وجعل الباقي صـراخًا عليه

لماذا قال الشاعر هذا الكلام ؟

الجواب: لأنه عجز عن النحو ،

ولكن أقول إن النحو بابه من حديد ودهاليزه قصب ،

يعني أنه شديد وصعب عند أول الدخول فيه ، ولكنه إذا انفتح الباب لطالبه

سهل عليه الباقي بكل يسر وصار سهلًا عليه ،

حتى إن بعض طلبة العلم الذين بدءوا في النحو صاروا يعشقونه

فإذا خاطبتهم بخطاب عادي جعل يعربه ليتمرن على الإعراب ،

ومن أحسن متون النحو الأجرومية ،

كتاب مختصر مركز غاية التركيز ولهذا أنصح من يبدأ أن يبدأ به

فهذه الأصول التي ينبغي أن يبني عليها طالب العلم )) انتهى كلامه رحمه الله .

كتاب العلم


التصنيفات
تاريـخ,

فقه التاريخ عند الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

فقه التاريخ عند الشيخ محمد البشير الإبراهيمي


كتب: د / نجيب بن خيرة

20/06/1431 الموافق
02/06/2010

1 ـ توطئة
2 ـ فقه التاريخ ..المصطلح والمفهوم
3 ـ كيف تعامل الإبراهيمي مع التاريخ ؟
4 ـ عروبة الشمال الإفريقي …وشهادة التاريخ

1 ـ توطئة :

إن خُصّ الشيخ الإبراهيمي بكثير من الدراسات والأبحاث والمقالات ، ونُشرت حوله رسائل وكتب تناولت فكره وأدبه وجهاده ، بعضها من أبناء وطنه ، وأخرى من أوطان العروبة التي كانت من الشيخ دوما على بال ! فإن العظماء في التاريخ لا ينتهي فيهم قول ، ولا ينحسر كلام ، ولا يجف مداد …وسوف يظلون..
كالبدر من حيث التفت وجدته ……………يهدي إلى عينيك نورا ساطعا
كل جيل يأخذ منه بحسب همّته ، ويترقى بفكره قدر هامته …والشيخ الإبراهيمي من هذا القبيل بلا ريب .
علم من أعلام النهضة الإسلامية في عصره ، وذخر من ذخائر الإصلاح في زمانه ، واسع الثراء في تراث أمته ، فسيح العلم في مناحي المعرفة العربية المتنوعة ، وافر الاطلاع على شعرها ونثرها وأدبها وفقهها وتاريخها ، مما جعله من الأفراد القلائل ممن نذروا أنفسهم لخدمة الدين الذي لابسته البدع ، وإنقاذ اللغة التي أكلتها رطانة الأجنبي ، ومواجهة المستعمر الذي نزل الديار ، وأتى في فنون الموبقات والشرور والبطش بكل عجيبة !.
لقد انتصب الإبراهيمي مفكرا ومصلحا ومربيا وسياسيا ومجاهدا ..عُدّته في ذلك فكر لمّاح ، وبيان مُنخّل ، وبلاغة ساحرة ، وإيمان عميق ، جُمعت كلها في ما تركة الشيخ من تراث مكتوب ، سوف يبقى ما بقي الدهر ، وتعاقب الحدثان . ..
وهي قبل أن تُنشر كانت خطابات ورسائل ومحاضرات وأحاديث دوّى بها الشيخ في عواصم العالم العربي والإسلامي مشرقا ومغربا ، بصوته الجهير ، وأدبه العالي ، يشرح قضيته ، وينصر أمته ، ويدفع عنها عوادي المستعمر الجاثم على صدرها .
وقد استطاع الإبراهيمي أن ينفخ في طوايا جيل الثورة الإيمان ، ويبعث في نفوسهم الحمية للدين والوطن ، فكانت "ثورة الجزائر " نتاجا مثمرا لذلك الغراس الطيب ، أينع زهرات الشباب الذي طلب الموت في مظانه ليصنع الحياة لشعبه ، فكانوا أئمة البطولة والفداء !.أروا شعوب العالم كيف يمكن أن تنتفض الشعوب المقهورة مهما طال ليل الظلم ، واحْلَوْلَكَ الظلام ، فلا بد من فجر تلوح خيوطه ، وتسطع أنواره ، وتصحو الأمة على صباح جديد .
وبعد : فهل حظ هؤلاء العظماء نصوص أدبية مقتطعة ، توضع في كتاب مدرسي في هذه المرحلة أو تلك ؟، أو تجميد أشخاصهم في نُصب تذكارية ولوحات فنية وصور فوتوغرافية ، كما نتعامل غالبا مع التاريخ وشخصياته الفاعلة عندما نحفظها بتعريف نضغطه في كلمات قليلة ، ومع الوقت يجري تجفيفها بكلمات أقل إلى أن يميتها التقادم ، وتذهب بعد ذلك ذكراها إلى العدم ؟!!.
إن الشيخ الإبراهيمي من النوع الذي يملك بامتياز القدرة على الرسوخ في أذهان الناشئة ، ليس في الجزائر وحدها ، بل في سائر بلاد العرب و المسلمين ."لأن الإبراهيمي ليس رجل قطر ، مهما اتسعت أرجاؤه ، وليس رجل إقليم مهما امتدت أطرافه ، ولكنه رجل أمة برَّحت به محنها ، وصهرت جوانحُه آلامها ، وأمضَّه هوانها على الناس " .
وهذه المساهمة المتواضعة رؤية من زاوية تاريخية عامة ، رصدتُ من خلالها الثقافة التاريخية ، ومنهج التعامل مع قضايا التاريخ في آثار الشيخ الإبراهيمي ، مع انتقاء موضوعات رأيت أن التاريخ حاضر فيها ، بشواهده وسننه وقوانينه التي وعاها الشيخ ، وقدمها فكرا ينضح بالنور ، وسيرة تُشع بالعبرة ، وحضارة تظل قادرة على الإبداع و الإنجاز و العطاء .
2 ـ فقه التاريخ ..المصطلح و المفهوم :
كثيرون هم الذين كتبوا عن تاريخ الإسلام ، سواء من طرف المسلمين أو من غيرهم ، سواء في السياق الأكاديمي الصرف، أو التأليف الحر ، وقد انطوت كثير من تلك الكتابات على منهج في القراءة والتحليل ورصد الأحداث ينأى بعيدا عن فلسفة خاصة تتضمن ملامح الخصوصية في تاريخ الإسلام ، تبعا لخصوصية الأمة وعقيدتها وفكرها وانجازاتها عبر تاريخها الطويل .
ولم تكن المدرسة التاريخية العربية والإسلامية بعد ابن خلدون تحديدا إلا صدى للأوضاع المزرية التي آلت إليها الأمة ، وأصبحت فلسفة ابن خلدون في التاريخ والحضارة والاجتماع قواعد لمدرسة برزت ملامحها بعد عصر ابن خلدون بقرون ،حيث برزت تأثيراتها في الفكر الغربي والعربي ، وجاءت إلماعات مفكري النهضة العربية متساوقة مع فكر المدرسة الخلدونية ، التي شكلت مفتاحا حقيقيا لليقظة الإسلامية ، وبداية الوعي بالتاريخ ، وإمكان عودة الازدهار والرقي للأمة المتخلفة، إذا ما توفرت لها أسباب الإصلاح الذاتي الذي يفضي إلى العافية الحضارية التي نعمت بها الأمة حينا من الدهر .
وفي منتصف القرن الماضي ( القرن العشرين) تزايدت نداءات المفكرين والمؤرخين من رواد المدرسة الإسلامية إلى إعادة النظر في قراءة التاريخ بعيدا عن مبررات عصر الغزاة وعصر الانحطاط والسيطرة الأجنبية على البلاد العربية والإسلامية ، فبرز إلى السطح مصطلح "فقه التاريخ " ، وقد مثّل هذا الاتجاه : الشيخ محمد الخضري بك ، والطيب النجار ، وسيد قطب ، وصادق عرجون ، وعباس العقاد ، ومالك بن نبي ،ومحمد البشير الإبراهيمي ….ثم تابع مسيرة هذا الاتجاه من جاء بعدهم من العلماء والمفكرين من أمثال الشيخ محمد الغزالي ، وعماد الدين خليل ، وعبد الحميد صديقي ، ومحمد باقر الصدر ، ومرتضى مطهري ،ومحمد قطب ، وطه جابر العلواني ، وعبد الحليم عويس …ممن يرون أن المنهج الغربي المهيمن على الدراسات التاريخية منهج علماني ، يؤمن بضرورة إقصاء البعد الروحي الغيبي من مصادر المعرفة التاريخية ، ويبني فرضياته على التجربة والعقل ، وأحيانا على قيم غيبية تستمد شرعيتها من التراث الإنساني نفسه ، وهو منهج قاصر في فهم العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والطبيعة ، وقد أفضى هذا القصور إلى نقض طبيعي في فهم حيثيات الوقائع التاريخية ، وتفسيرها تفسيرا موضوعيا .
بالإضافة إلى أنه منهج يعتمد مبدأ الحتميات ( الحتمية التاريخية ، والحتمية المادية ، و الحتمية الاقتصادية ) مما يُعدّ عيبا جوهريا في المنهج التاريخي الغربي .
وجاء مصطلح "فقه التاريخ" تماشيا مع دراسات اعتمدت المنهج نفسه في دراسة السيرة النبوية ، وظهرت عناوين لها في هذا المجال ككتاب "فقه السيرة " للشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ ، وكتاب "فقه السيرة "للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي .و"فقه التاريخ في ضوء أزمة المسلمين الحضارية" للدكتور عبد الحليم عويس …
وهو مصطلح يعبر في مجمله عن المعرفة الإنسانية التي تستهدف جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتسجيلها وتفسيرها ، من منطلق التصور الإسلامي لحركة التاريخ ، مع كشف الغطاء أمام العقل البشري عن حقيقة منهجية : وهي أن التاريخ البشري بأحداثه وقضاياه لا يتحرك فوضى من غير هدف ، وسبهللا دون قصد ، إنما تحكمه قوانين وسنن ونواميس ،مثل تلك القوانين التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء …سواء بسواء ..وإن الوقائع التاريخية لا تُخلق بالصدفة ، وإنما من خلال شروط خاصة تتوافر وتتضافر وتفضي بها صوب هذا المصير أو ذاك …
والذي استجمع هذا المنهج ، ودعا إليه هو القرآن الكريم ، الذي أكّد في مواضع عديدة فيه على أن التاريخ " لا يكتسب أهميته الإيجابية إلا بأن يُتخذ ميدانا للدراسة والاختبار ، تُستخلص منه القيم والقوانين التي لا تستقيم أية برمجة للحاضر والمستقبل إلا على هداها ، وليس الأسلوب الفني في العرض سوى جسر تُحمل عليه العروض والنتائج النهائية لأية ممارسة في حقول التاريخ " (1).
"والقرآن يطرح على العقل البشري ـ لأول مرة ـ مسألة " السنن" و" النواميس " التي تُسير حركة التاريخ وفق منعطفها الذي لا يخطئ ، وعبر مسالكها المقننة ،التي ليس على الخروج عليها سبيل ، لأنها منبثقة من صميم التركيب البشري ومعطياته المحورية الثابتة فطرة وغرائز وأخلاقا وفكرا وعواطف ووجدانا ، ومن قلب العلاقات والوشائج والارتباطات الظاهرة والباطنة في العالم الذي يتحرك فيه الإنسان ، والتي تتجاوز في اتساعها وشموليتها نسبيات البيئة الجغرافية ، أو الوضع الاقتصادي كي تتسع للفعل التاريخي نفسه ، الفعل القائم على القيم الثابتة الدائمة في كيان الإنسان ، والتي تنبثق عنها المواقف التاريخية سلبا وإيجابا ، ومن ثم فإن حكمها على هذه "الحركة " يجيء منطقيا تماما ، لأنه أشبه " بالجزاء " الذي هو من جنس " العمل " ومن خامه الأصيل ، وعادلا تماما لأنه يكافئ الإنسان فردا وجماعة ، بما يوازي طبيعة الدور التاريخي الذي مارسوه ، حتى لكأن القرآن يلفت أنظارنا إلى أننا نستطيع أن نرتب على مجموعة معينة من الوقائع التاريخية سلفا نتائجها التي تكاد تكون محتومة لارتباطها الصميم بمقدماتها اعتمادا على استمرارية السنن التاريخية ودوامها "(2).
والقرآن الكريم لا يؤكد ثبات هذه السنن وديمومتها فحسب ، ولكنه يحولها في الوقت نفسه إلى دافع يفرض على الجماعة المؤمنة أن تتجاوز مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار ، وأن تُحسن التعامل مع قوى الكون والطبيعة مستمدة التعاليم والقيم من حركة التاريخ نفسه .
"قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين "( آل عمران 137 ـ 141) .
فالسير في الأرض وسيلة لاكتشاف القوانين ، والقرآن يدل على مجال رحب لاكتشاف الظاهرة البشرية ، واستخلاص العبر ، لأن فقه هذه السنن التي تضبط حركة الفرد والجماعة تجعل الإنسان صلبا في التعامل مع الأوضاع القائمة ، يسير على بصيرة من هذا الفقه ، والنظر في أحوال الأمم ، والأيام التي هي بين الناس دول ، مما يجعل التاريخ هو بيت الخبرة الإنسانية ، ومن لا يفقه حركته يتعثر في مطبات كثيرة ، أما من استفاد واتعظ ممن قبله ، فحري به أن لا يجرب لجارب الاشلة ، وأن يزيد البناء لبنة (3).
وهذا المنهج القرآني هو الذي أرسى مفهوم " فقه التاريخ " الذي ينبثق من رؤية وتفحص للتاريخ ، حيث تتهاوى الجدران الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ويلتقي زمن الأرض وزمن السماء .
3 ـ كيف تعامل الإبراهيمي مع التاريخ ؟
طوّف الشيخ الإبراهيمي في كتاباته ، وخطاباته ، ومحاضراته ، في مواضيع شتى تناولت السياسة والتربية والنفس والاجتماع والأخلاق والتاريخ …..ولم يخل موضع منها إلا وفيه إشارة إلى الماضي القريب والبعيد ، يستمد منه الخبرة ، ويستخلص منه العظة ، ويتخذ منه مددا لثورته على المستعمر ، وفضح مكايده ، ورد أحقاده وأطماعه .
وهو وإن لم يؤثر عنه كتاب في التاريخ بمعناه الخاص ، فقد كان شغوفا بقراءة التاريخ الإنساني عموما ، وتاريخ المسلمين على وجه الخصوص ، لكنها قراءة الواعي ، الراصد لبواعث الفعل التاريخي ، المتتبع للخط البياني لأمة الإسلام عبر تاريخها الطويل ، صعودا وهبوطا ، وصولا إلى القمة أو نزولا إلى القاع …
لذلك لا نقرأ عند الإبراهيمي الأحداث التاريخية مزدحمة بالتفاصيل والجزئيات ، ولا نجد ذكرا لمصادر التاريخ القديمة :كالطبري والمسعودي ، وابن الأثير ، وابن عبد الحكم بل نجد ذكرا لدواوين الشعراء ، ومدونات الفقه ، ومتون اللغة ، التي التهمها أثناء حياته المبكرة …
ويرى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله أن مصدر الإبراهيمي الأساسي في الثقافة التاريخية إنما هو التجربة الشخصية والمطالعة الحرة ، فقد عاش منذ سنوات المراهقة متنقلا بين عواصم العلم متأملا في أهلها ، مخالطا لعلمائها ، مطالعا في مكتباتها ، وفي هذه الأثناء قرأ الكثير من كتب التاريخ والرحلات والتراجم دون أن يذكر ذلك بالاسم والعنوان إلا نادرا ،كذكره ابن خلدون وابن الخطيب ورسائل الضابط الفرنسي سان طارنو(4).
وقراءة الإبراهيمي للتاريخ لم تكن قراءة العابر العجول ، الذي يفاخر بكثرة ما جمع من التصانيف ، وعديد ما يحفظ من العناوين ، إنما كانت قراءة الفاقه بطبائع الشعوب ، وعلل الحضارات ، وسنن الاجتماع …المتسائل عن سبب النكوص بعد الإقدام ، والذلة بعد العزة ، والانكسار بعد الازدهار ….
إن حديثه في ثنايا آثاره عن التاريخ لا تخلوا من إلماعات واستنتاجات تدل على عميق فقهه ، وعظيم حكمته ، وبراعة استشهاده ، ويتضح ذلك في مقاله عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب (5) ، حيث ينفذ إلى لطائف القرآن الكريم في حديثه عن الهجرة المحمدية ، فسمّاها " إخراجا " ولم يسمّها هجرة بصريح اللفظ . يقول الإبراهيمي :" وإنما سمّى الصحابة المهاجرين ، ونوّه بالهجرة ، وحضّ عليها ، وقرنها بالإيمان ، وجعلها شرطا في الولاية ، فقال " و الذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا "وبعض الحكمة في ذلك أن التذكير بالإخراج من الديار يذكي الحماس ، ويبقي الحنين إلى الديار متواصلا ، وينمي غريزة الانتقام والأخذ بالثأر"(6).
ويبعث الحمية في نفوس الأحرار منهم ، ويقرع عليهم خصامهم وتلاحيهم فيما بينهم ، وهم في هذا الظرف أحوج ما يكونون للوئام والتصالح و التآخي .
ثم يوجه الشيخ خطابه إلى الجزائريين يستثير شهامتهم ، ويذكرهم بإخراج المستعمر لهم ، وصدّهم عن سبيل الله ، فيقول : "إن للإخراج من الديار لشأنا أي شأن في القرآن ، فهو يبدئ ويعيد في تقبيحه وإنكاره وتحريمه ، وهو يقرنه بالقتل تشويها له وتشنيعا عليه ، وإنه له في نفوس الأحرار لأثرا يتعاصى عن الصفح والعفو .."(7).
ثم يقول :" وما زلت منذ درست السيرة بعقلي أقف في بعض مقاماتها على ساحل بحر لجي من العبر والمثلات ، ومن بين تلك المقامات حادثة الهجرة ، فلا يكاد عقلي يستثير بواعثها الطبيعية حتى أتلمّح العوامل الإلهية فيها ، فأستجلي من بعض أسرارها التمهيد للجمع بين أصلي العرب اللذين كانا في الجاهلية يتنازعان ملاءة الفخر ، ويؤرث الرؤساء والشعراء بينهما نار العصبية ، حتى أضعفتهما العصبية ، وحتى أطمع الضعف فيهما جاريهما القويين : جار الجنوب الحبشي ، وجار الجنب الفارسي ، وكادا يستعبدان هذا الجنس الحر لولا أن فال رأي أبرهة في الفيل ، ومالت رايات فارس في ذي قار .."(8).
وفي سياق العبر والعظات من حادثة الهجرة لم ينس الإبراهيمي أن يستدعي من التاريخ تساؤلا يوجه إلى العرب اليوم ، مع نقد لاذع يغطيه بعبارات لطيفة فيها الكثير من الحكمة التي يقتضيها المقام " ليت شعري ..وليت يقولها المحزون ، هل تحمل ذكرى الهجرة المتكررة مع كل عام ، أولئك اليمانيين الراكدين وهم جمهرة أنساب قحطان ، وأولئك الحجازيين الراقدين وهم منحدر دماء عدنان ، على أن يتداعوا إلى ما تداعى إليه أجدادهم ، وأن يتآخو على ما تآخو عليه ؟.
هل يرجعون بالذاكرة إلى بيعة العقبة وما جرت للعرب من أخوة وسيادة ، وعزّة وسعادة ، فيتابعون على حماية الحوزة العربية و الذب عن حياض العروبة ؟.
هل آن لهم أن يعلموا أن هذه المذاهب التي صيّرتهم أوزاعا في الدين والدنيا هي السبيل المفرّقة عن سبيل الله الواحد ، وهي التي نهى الله عن اتباعها ؟.
هل يعلمون أن طُلاب الغاز غزاة ، وأن الشركات أشراك ، وأن رؤوس الأموال الأجنبية ذات قرون ناطحة ، وأن الوطن الذي يعمر بمال الأجنبي ويد الأجنبي وعلم الأجنبي ! محكوم عليه بالخراب ، وإن تعالت في الأفق قبابه ، وكُسيت بوشي السماء هضابه ، وسالت بذهب الأرض شعابه ؟!!."(9).
وفي موضع آخر من آثاره عندما يتحدث الإبراهيمي عن دور علماء الدين وسلطانهم على الناس ، ورهبتهم في القلوب التي استمدوها من تقديس الناس للدين ، وتعظيمهم لشأنه ، وخضوع العامة لهم عن طواعية ورغبة ، خضوعا فطريا لا تكلف فيه ، لشعورهم بأنهم المراجع في الفتوى ، والعُمد في الشريعة ، و الحُرّاس المؤتمنون على بقاء الدين ونقائه ، لأنهم ورثة الأنبياء وهمزة الوصل بين الأرض و السماء يرى الإبراهيمي أن هذا الدور لعلماء الدين يجب أن يبقى ويستمر ، وما ينبغي أن يُتّخذ علماء الدين مطايا ذلول ، ينتظرون الجدا ، ويشكرون الندى، يستميلون الدهماء ، ويضللون العوام ، ويفسحون الطريق للقادة الجاهلين من أصحاب البدع والأهواء …
في هذا المقام يرجع الإبراهيمي إلى التاريخ الإسلامي يستمد منه حجته وبرهانه ليصلح به وضعا مزري آل إليه الدين بعدما لابسته الخرافة ، وتولى أمره المبتدعة وأصحاب المطامع الخسيسة ، وذلك في غفلة علماء الدين الذين يغطون في نومة أربت في الطول عن نومة أهل الكهف و الرقيم !، ممن لم تكن تُقضى عظائم الأمور إلا بهم ، ولا يعقد الحكم إلا برضاهم .يقول الشيخ : " بايع معاوية لابنه يزيد ، وحمل الأمة على البيعة له بالترغيب والترهيب والمطاولة ، فتمّ له ذلك ، ولكنه كان يرى تلك البيعة كاللغو ، ما لم يبايع العبادلة والحسين (10)لمكانتهم في العلم ومكانهم في الأمة فعمد إلى الحيلة المستظهرة بالسيف ، وكذلك فعل بنو مروان كلما تخلّف مثل سعيد بن المسيب عن البيعة ، وكذلك فعل الخلفاء بعدهم في قضية البيعة أيام اشتداد سلطان العلماء وامتداده "(11).
ثم يعلق الشيخ على ما آلت إليه الأحوال عندما اتسعت الهوة بين الخلفاء والعلماء ، وتفرقت بهم السبل بعدما كان في اتحادهم قوة السلطان ودعامة الدين وخدمة الأمة " حتى انتقل أمرها ]أي الأمة [إلى طور آخر ، وأصبحت في أيدي الأمراء والقواد والأجناد ، وخرجت من يد الخلفاء والعلماء معا ، وكأنما كان ذلك عقوبة من الله للخلفاء على تعاليهم ، وللعلماء على تنازلهم ، وما وقع في البيعة وقع في غيرها من مصالح الأمة التي يتنازعها السلطانان "(12).
هذا في تاريخ الإسلام في صدره الأول ، أما عن تاريخ الإسلام في عصره الحاضر وفي بلاد الجزائر ، فقد استطاع الإبراهيمي أن يحلل أوضاع الجزائر القديمة والحديثة انطلاقا من موقعها الجغرافي قائلا :" إن هذا الموقع هو الذي رشحها لتحوز السبق في الجهاد" ، وهو يعني بها موقعها على الضفة اليسرى للبحر المتوسط ، وبالضبط في مواجهة مرسيليا حيث تتشكل أوسع نقطة بين ضفتي من هذا البحر بالنسبة لجيران الجزائر ( تونس والمغرب ) وقد تناول الإبراهيمي طموح الأمم اللاتينية في استعمار جيرانها في الضفة الإفريقية بتحليل الخبير بأوضاع الأمم الغابرة فقال عن الأمم اللاتينية : إنها ذات أطماع وفتوحات وكبرياء ودماء منذ كانت ، ولم يزدها ظهور الدين المسيحي السامي الروح إلا ضراوة وطموحا في الغلبة لأن الطبيعة المادية المتكالبة لتلك الأمم غلبت طبيعة الدين المسيحي الروحية المتسامحة ، وبذلك أصبح الدين المسيحي دينا رومانيا لا شرقيا (13).
ومن تحليلات الإبراهيمي القائمة على الاستقراء والاستنباط ما جاء على قلمه حول روح المقاومة والجهاد التي تميّز بها سكان شمال إفريقيا منذ القدم ، فهو يرى أن الإسلام قد مزج بين البربر والعرب مزجا قوى فيه معنى الإباء والحفاظ والأنفة واعتبار الحمى عرضا تجب الموت دونه ، وفي معنى السخاء الذي يبتدئ بالمال ويعلو فينتهي بالروح …
وجاء الإسلام فأخرج من المزاج المشترك بين العنصرين مزاجا ثالثا وقوّى معنى المبنى ،والعرض والحفاظ …وهو ما ترك الأمة الجزائرية أمة جهاد بجميع معانيه ، وعلى هذا المعنى يجب أن يبني المؤرخ تاريخ الجهاد النفسي في هذه الأمة (14).
ثم يذهب الإبراهيمي بعيدا في التحليل والتفسير والاستنباط ، حيث يتابع الصراع الذي بين ضفتي المتوسط ، روما وقرطاج ، وكلتاهما تتربص بالأخرى طمعا في الثروة والعيش والتوسع ، ثم صار صراعا على الدين بعد قدوم الفاتحين من الشرق .
كما يرى الإبراهيمي " أن العرب خلفوا الرومان على حضارتهم في إفريقيا ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيّروا بها وطاروا فزعا ، وظنُّوا أنها القاضية على روما وديانتها وحضارتها وشرائعها ، وهذا الميدان الذي انتقل إليه الصراع أعمق أثرا في النفوس ، ويزيد في عمقه أن حامليه العرب قوم لا تلين لهم قناة ، ولا يُصطلى بنارهم .."(15).
وهنا تظهر الثقافة التاريخية عند الإبراهيمي كأنه صاحب اختصاص في تطور الحضارات وفلسفة التاريخ ، فتتبع بنظر المؤرخ الثبت ، والمفكر البصير بمواقع الضعف والقوة ،في كلتا الأمتين الرومانية والعربية ، فتحدث عن الأسباب التي دفعت الصليبيين اللاتين إلى الثأر للرومان الذين غربت دولتهم مع الفتح الإسلامي الزاحف ، واستغلوا ضعف الأندلس في عصر ملوك الطوائف ، فتداعوا على سواحل المغرب من تونس شرقا إلى مراكش غربا ، وقد كان للجزائر القدح المعلى في الجهاد ، تارة منظما على أي الدول ، والاستنفار تارة وهو الدائم الذي لا ينقطع بالوازع النفسي الفردي وهو " الرباط" الذي يشبه في جهته الفردية حرب العصابات اليوم ، ولم ينقطع هذا الرباط ـ في نظر الإبراهيمي ـ إلا عند الاحتلال الفرنسي للجزائر .
واحتلت فرنسا الجزائر سنة 1830 تنفيذا لخطة مرسومة تقتضي إعادة شمال إفريقيا لاتينيا كما كان قبل الإسلام ، وعندما يُحتل القلب ، يضرب الجناحان ( تونس و المغرب ).
ثم راح الإبراهيمي ينحي باللائمة على العرب ، وتعتصر نفسه ألما بسبب الصمت المطبق الذي خيم عليهم ، والفاجعة تحلُّ بإخوانهم في قطعة جليلة من وطنهم الأكبر ، وسكت المسلمون من ورائهم ، وكأن الأمر لا يعنيهم !!، وما دروا أن ضياع الجزائر مؤذن بضياع غيرها (16).
وخلاصة لما تقدم يمكن أن نوجز أهم ملامح منهج الإبراهيمي في تناول قضايا التاريخ فيما يلي :
1 ـ يتناول الإبراهيمي التاريخ ـ وخاصة التاريخ الإسلامي ـ باعتباره تاريخ أمة متصل الحلقات ، مترابط الأزمنة ، وليس على أساس أُسَرٍ تعاقبت على الحكم ، ليثبت أن الأمة هي التي تصنع العظماء في تاريخها ، وعظماؤها هم نتاج وضع الأمة وظروفها ، مما يحقق العبرة والعظة والاستنباط بعيدا عن التعصب المقيت لهذه الدولة أو تلك ، أو لهذا العنصر أو ذاك .
وهو منهج أقرب إلى الروح العلمية من طريقة الأجزاء المبتورة ، والجزر المعزولة ؛ لأن الدارس يتتبع تطور تاريخ أمته خطا متصلا يرقب فيه أسرار النمو والازدهار ، وعوامل الضعف والانكسار .
2 ـ لا يُعنىَ الشيخ الإبراهيمي بالتفاصيل والجزئيات ، بل يعرض للأحداث الكبرى والخطوط العريضة ، ويأخذ بيد القارئ إلى لُبِ الحدث ، وجوهر الموضوع ، فعصر الإبراهيمي وجيله الذي يخاطبه أو يقرأ له يواجه من التحديات ما يمنعه من تتبع التفاصيل والإغراق فيها ، بل يريد أن ينفذ سريعا إلى الأدواء والعلل ، ويصف الدواء الناجع ، ويساعده على هذا المنهج أدب رفيع ، وبيان ساحر ،ولغة محكمة ..
3 ـ يرى الإبراهيمي أن التاريخ لا يكتب " ساخنا " وإنما يكتب بعد برود الحدث وسكون غباره ، وهذا منهج المؤرخ العارف بواجبات المؤرخ وأدواته ، فالحدث التاريخي لا يكتب إلا عند توفر الوثائق والأدوات ، ولابد مع ذلك من تمتع المؤرخ بميزات تتمثل في الثقافة العميقة و الذكاء الحاد و النزاهة الخالصة .
وهو يرى أن التاريخ الوطني لا يكتبه إلا مؤرخ وطني ، وهذه قضية حيوية في كل العصور وعند مختلف الأمم ، فالمؤرخ هو صوت أمته وهو المعبر عن هويتها الحقيقية مهما تفنن الآخرون وأخلصوا في الكتابة عنها (17).
وقد تمنى الإبراهيمي في مقالته "فرنسا وثورة الجزائر " ـ وهي مقالة قديمة أضيف إليها ذيل ـ أن يقيّض الله لثورة الجزائر مؤرخا من أبنائها " مستنير البصيرة"، مسدد الفكر والقلم ، صحيح الاستنتاج ، سديد الملاحظة ، فقيها في ربط الأسباب بالمسببات ، ليكتب "تاريخا لا يقف عند الظواهر والسطحيات …بل يتغلغل إلى ما وراء ذلك من الأسباب النفسية التي تحرك فرنسا إلى هذه المجازر البشرية ، وإلى العوامل التي تدفع المقاتلين (الجزائريين) إلى هذه الاستماتة في حرب حارت فيها عقول ذوي العقول …."وأضاف :" لا نخطط الخطوط لذلك المؤرخ المرتقب ، ولا نحدد الحدود لذلك المؤرخ ، ولا نقدم له صورة هينة ، فذلك المؤرخ الذي أعدّه الله لهذه المنقبة لعله لم يولد بعد ، وإنما الشرط فيه أن يكون جزائري".
إن هذا الرأي يضع مواصفات المؤرخ الذي سيكتب تاريخ الثورة ، كما يضع أيضا مواصفات المؤرخ عموما ، كالثقافة المتينة ، وقوة الاستنباط ، والبحث عن العلل والأسباب، والغوص وراء الظواهر ، ومعرفة الدوافع الباطنية(18).
4 ـ ركز الإبراهيمي في أكثر مقالاته ومحاضراته وأحاديثه ـ وخاصة تلك التي كتبها أو ألقاها في بلاد المشرق العربي ـ على التاريخ الإسلامي الجامع للمشرق والمغرب ، فيأتي بالشواهد من عصر الرسالة ، ثم تاريخ الراشدين ، ومن بعدهم الأمويين والعباسيين …باعتبار أن هذه العصور تمثل الوحدة التاريخية للأمة الإسلامية ، وهو منهج ذكي حصيف يقوم على قاعدة "خاطبوا الناس بما يفهمون " ، أما تواريخ المغرب الإسلامي من الفتح إلى الاحتلال فلا يعرض لها إلا قصد التعريف أو شرح السياق التاريخي ، مبينا أن أفق المغرب جزء لا يتجزأ من جسم الأمة إن أضاعته أو تناسته أو فرطت فيه هيض جناحها ، وضُربت في مقتلها ، وأعداء الأمة لا يفرقون بين مشرق الأمة ومغربها .
5 ـ لقد رصد الإبراهيمي الواقع الإسلامي بكل ما يحمل من علل وأدواء وتخلف وتراجع حضاري شامل من خلال رؤية تحليلية وبصيرة نافذة ، فراح يستمد العلاج من سنن التاريخ ، ويتعرف على القوانين التي تحكم الاطراد الحضاري ، محاولا استجلاءها من الأصول الإسلامية: قرآنا وسنة ، وتراث الإسلام الثقافي ، غير متجاوز ذاتية الأمة ، ومقوماتها العقيدية والفكرية التي صاغت وبلورت التجربة الإسلامية في التاريخ .
ففي مقال له بمجلة " الأخوة الإسلامية " (19)بعنوان "حالة المسلمين " كتب مشخصا الداء وواصفا الدواء "نعترف أن نومنا كان ثقيلا ، وبأن عمر أمراضنا كان طويلا ، نعرف أن النوم الثقيل لا يصحو صاحبه إلا بصوت يصخ أو بضرب يصك ، وأن المرض الطويل لا يشفى المبتلى به إلا بتدبير حكيم قد يفضي إلى البتر أو القطع ، وقد أصابنا من القوارع ما لو أصاب أهل الكهف لأبطل المعجزة في قصتهم ومما كانوا به مثلا في الآخرين ، ولكننا لم نصح من نوم إلا لنستغرق في نوم ، ولم ننفلت من قبضة منوم ، إلا لنقع في قبضة منوم ، …."(20).
ثم يُرجع العلة كلها إلى رجلين :رجل سياسة لم يتدين ورجل دين لم يخلص فيقول :" وما أضلنا إلا المجرمون الذين يدعون بعضهم إلى الجمع بوسيلة التفريق ، ويدعونا بعضهم إلى النجاة بطريقة التغريق ، والأولون هم رجال الدين الضالون الذين فرّقوه إلى مذاهب وطوائف ، والآخرون رجال السياسة الغاشون الذين بدلوا المشرب الواحد فجعلوه مشارب "(21)، ثم يدعو إلى الرجوع إلى الأصل الذي صلح به سلف هذه الأمة ، ووضعوا عليه أساس نهضتهم ، فيقول :" فهل هبة من روح الإسلام على أرواح المسلمين تذهب بهؤلاء إلى حيث ألقت ، وتجمع قلوبهم على عقيدة الحق الواحدة ، وألسنتهم على كلمة الحق الجامعة ، وأيديهم على بناء حصن الحق على الأسس التي وضعها محمد صلى الله عليه وسلم "(22).
ويمكن أن نلمس آثار هذا المنهج في قضايا عديدة عرض لها الإبراهيمي ، ونحن في هذا المقال نختار بعض القضايا مثل( أثر الدين في النهضة ، وعروبة الشمال الإفريقي ، والوحدة الإسلامية ) لما بينهما من التداخل ، ولما فيها من حضور للتاريخ ، واستشهاد بحوادثه ، لخدمة الحاضر وبناء المستقبل ، وقد قيل : "إن التاريخ كله تاريخ معاصر"وذلك لما للتأثير البالغ للتجربة التاريخية على واقع الفرد والجماعة، وإلى إمكان تجدد الوقائع ذاتها إذا تهيأت الشروط ،وتشكلت الدوافع كما تشكلت أول مرة .
6 ـ عروبة الشمال الإفريقي ..وشهادة التاريخ :
لا شك أن صراع الهوية في الجزائر له أوجهه المتعددة ، وأطروحاته المتباينة …وعمق هذه الأزمة يرجع إلى عقود مضت ، عاصر الإبراهيمي طرفا من فصولها ، وشاهد كيف أن دعاة البربرية و الفرنكفونية في الجزائر منذ زمن بعيد يشكلون تحالفا استراتيجيا لمواجهة العروبة والإسلام ، وإن كانوا في الفترة الاستعمارية يموهون على الأمة بأنهم صناع أمجادها وبطولاتها ، وأنهم يقاتلون عدوها عن قوس واحدة !.
وقد استطاعت فرنسا من خلال هذه الدعوات النشاز أن تسعى جاهدة لتمزيق صفوف الثوار ، وإثارة النعرات الجهوية بينهم ، حتى ظهر أثناء الثورة من طرح تأسيس جبهة التحرير الأمازيغية مقابل جبهة التحرير الوطني ! وتستحيي التاريخ القديم ، وتمارس " الاغتصاب الثقافي " لتضرب بقوة بين الإخوة الذين جمعهم الإسلام ووحد صفوفهم ، وإن اختلفت أعراقهم و أروماتهم ، وتلقي في روعهم أن العرب غزاة مثلهم مثل الرومان و الوندال والفينيقيين ، وأن الأمازيغ لا علاقة لهم بالعرب والمشرق ، ولا يمتون إليهم بنسب أو سبب ، فهم شعب آري يتصل بالحقل الجغرافي الغربي ، مما يعطي لفرنسا الحق في احتلال الجزائر باعتبار أنها تريد تخليص الجزائريين من العرب القراصنة ، الذين وضعوا أيديهم على الجزائر في غفلة من الفرنجة في عصور الظلام !، "يقول المستشرق الفرنسي "جودفروي دومومبين" في كتابه "المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب" الصادر عام (1928م): "إن الفرنسية -وليست البربرية- هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة"، ثم يقول: "وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن"، "إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد"، وهذا أيضا ما قرره الكولونيل "مارتي" في كتابه "مغرب الغد" الصادر في تلك الفترة "أن المدارس البربرية يجب أن تكون خلايا للسياسة الفرنسية، وأدوات للدعاية، بدلا من أن تكون مراكز تربوية بالمعنى الصحيح"، ولذلك دعا أن يكون المعلمون فيها وكلاء لضباط القيادة ومتعاونين معهم، ودعا أن تكون المدرسة البربرية فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها"(23).
ومن نسل هذا السفاح الثقافي نشأت أجيال من النخب المستلبة التي أنشأت أكاديمية بربرية في باريس ، ظلت سنين عددا بعد الاستقلال ـ ولا تزال ـ تنفث سمومها على ثقافة الأمة الجزائرية ،وتوحي إلى سدنة الثقافة الاستعمارية في الجزائر أن العربية عطلت مسيرة التنمية في البلاد ،وأقحمتها في دائرة التخلف والتقهقر ، وهم في الواقع لم يخدموا الأمازيغية بقدر ما خدموا الفرنسية التي لا يتكلمون إلا بها ، ولا يكتبون إلا بحروفها، ولا ينشئون أبناءهم إلا على ثقافتها .
أدرك الشيخ الإبراهيمي خطورة هذه الأطروحات الاستعمارية التي راح ضحيتها المغفلون ، والجهلة بالتاريخ … ،فراح يعالج الموضوع من أساسه ، ويرى أن هذا الداء استشرى في أقطار الشمال الإفريقي كله ، وكما تعاني الجزائر من دعاوى " الأمزغة " فإن أقطار شقيقة في هذا الشمال أعياها هذا الداء ، ونخر عظمها ، وزاد في محنتها .
ورأي الإبراهيمي يصدر أولا وأخيرا عن فكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي جمعت العرب والأمازيغ تحت دوحة واحدة ، وقرّر إمامها الأول العلامة ابن باديس :" أن الأمة الجزائرية تعربت تعربا طبيعيا ، اختياريا ، صادقا ، فهي في تعربها نظيرة إسماعيل جد العرب الحجازيين ، لقد كان من العرب لما شب في مهدهم ،ونطق بلسانهم ، وتزوج منهم ، وليس تكوّن الأمة بمتوقف على اتحاد دمها ، ولكنه متوقف على اتحاد قلوبها ، وأرواحها وعقولها ، اتحادا يظهر في وحدة اللسان وآدابه ، واشتراك الآلام والآمال ".
والشيخ الإبراهيمي عندما ينصف العروبة في هذا الشمال الإفريقي فإنه لا يصدر عن (قومجية)تنادى بها بنو يعرب بعد سقوط دولتهم وذهاب ريحهم ، ظنا منهم أنها العاصم من التخلف ، والدافع إلى الوحدة ، والسبيل إلى القوة ، بل يصدر عن روح إسلامية فذّة ، تسمو بالعروبة إلى قدسية الدين الذي حفظها ، ويوغل في التاريخ ليقيم الشهادة على العرب والأمازيغ الذين وحدهم الإسلام ، وارتضوه دينا ، ودخلوا فيه أفواجا ، وهم بهذا الإسلام وحده يستطيعون أن يتصدروا القافلة ، ويصدرون الشرائع والقيم إلى ما وراء التخوم ..وبه وحده قاوموا الدخيل ، وحرروا الأوطان …وصفحات التاريخ شاهدة على ذلك ، ولكن عصابات كثيرة تريد اليوم إبراز هذا التاريخ السابق واللاحق ، القريب والبعيد ،في صورة مأفوكة الملامح ، مُزوّرة التقاسيم ، توهم الناظر أن ليس وراء حركات المقاومة الوطنية دافع من دين ، ولا إرث من عقيدة ، ولا أخوة بين العرب والبربر .
لقد رابط الإبراهيمي مرابطة الجندي المستبسل في ساحات النزال الثقافي مع سماسرة الاستعمار ، ومرتزقة الغزو الفكري ، وآمن بالأبعاد التي عشيت عنها أبصار فلاسفة الاستعمار ، مؤمنا بثلاثة لا تعرف التجزئة ، بل لا تكمل الصورة إلا بها جميعا ، وهي "الجزائر والعروبة والإسلام " وراح يبعث من جديد معاني غاضت ، وثقافة تلاشت ، وشعب لابسته البلايا والمحن ، ولغة داخلتها الرطانة والعجمة ، وأرضا يريدون لها أن تنفصل عن مشرقها الذي أشرقت منه حضارتها ، مثبتا أن الإسلام الفاتح نشر الهداية قبل بسط السيادة ، ودخل الأمازيغ في الدين الفاتح طائعين ، وامتزجوا بالعرب مصاهرة ، وثافنوهم في العلم ، وشاطروهم في الملك ، وقاسموهم مرافق الحياة، فكان الجميع بُناة حضارة الإسلام في هذا الأفق ..
يقول الإبراهيمي :"عروبة الشمال الإفريقي بجميع أجزائه طبيعية ، كيفما كانت الأصول التي انحدرت منها الدماء ، والينابيع التي انفجرت منها الأخلاق و الخصائص ، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد ، وهي أثبت أساسا ، وأقدم عهدا ، وأصفى عنصرا ، من إنكليزية الإنكليز ، وألمانية الألمان ."(24).
ثم يعدد العوامل التي صيرت هذا الشمال عربيا قارّ العروبة على أسس ثابتة فيقول :" قضت العروبة بقوتها وروحانيتها وآدابها وسمو خصائصها وامتداد عروقها ـ في الأكرمين الأول من نبات الصحارى ، وبُناة الحضارات فيها ـ على بربرية كانت منتشرة بهذا الشمال ، وبقايا آرية كانت منتشرة فيه ، وفعل الزمن الطويل فعله حتى نسي الناس ونسي التاريخ الحديث أن هنا جنسا غير عربي ، وضرب الإسلام بيُسره ولطف مدخله ، وملاءمة عقائده للفطر ، وعبادته للأرواح ، وآدابه للنفوس ، وأحكامه للمصالح ، على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل ، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى ماض بعيد ، وزاد العروبة تثبيتا وتمكينا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصول الدين ، وحافظت على متون اللغة ، ودوّنت الآداب و الشرائع ، وكتبت التاريخ ، وسجلت الأحكام و الحقوق ، وفتحت الباب إلى العلم ، وكانت السبيل إلى الحضارة "(25).
ويرى الإبراهيمي "أن جميع الدول التي قامت في هذا الشمال الإفريقي ـ كاللمتونية والرستمية والموحدية والصنهاجية والمرينية والزيانية ـ ليس لها من البربرية إلا النسبة العرقية ، وفي ما عدا ذلك فهي عربية صميمة : عربية في الضروريات المقوّمة للدولة ، كوظائف القلم من إدارية ومالية ، ووظائف القضاء من عقود وتسجيلات ، وعربية في الكماليات التي تقتضيها الحضارة والترف ، كالغناء و الموسيقى و الشعر ، فما علمنا أن شعراء البلاطات في تلك الدول تقربوا إلى الملوك بالشعر البربري إلا أن يكون في النادر القليل ، وفي حال الاصطباغ بالبداوة الأولى"(26).
وشهادة التاريخ تصرخ في وجه الجاحدين بجميع ما ذكره الإبراهيمي في هذا الموضع من آثاره ، وفي غيرها من المواضع مما يصعب حصره ،وتدمغ أباطيل المستعمر ، وتجعلها تتهافت وتسقط في مهاوي ليس لها قرار ، وجميع أقوال هذا المحتل وأفعاله تشهد أنه يتعامل مع سكان هذا الشمال على أنهم عرب ، "وكلمة العرب Les Arabes التي يطلقها على أهله تمييزا أو نبزا أكبر حجة عليه، ولكنه في مبتدأ أمره ومنتهاه رجس من عمل الشيطان ، وهل في عمل الشيطان خير أو حق ؟ إنما هو عناد للحق ، وتزيين للباطل ، ونقض للخير ، وبناء للشر ، وما شاء الشيطان من النقائص "(27).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :

1 ـ عماد الدين خليل . حول إعادة تشكيل العقل المسلم . الفصل الأول ، ط3، كتاب الأمة ، الدوحة .
2 ـ المرجع نفسه .
3 ـ أنظر : جاسم محمد سلطان . الفكر الإستراتيجي في فهم التاريخ . ط1، مصر : مؤسسة أم القرى ، 2022، ص11، 12.
4 ـ أبو القاسم سعد الله ، الثقافة التاريخية عند الإبراهيمي . موقع ابن باديس . www.binbadis.net/al-ibrahimi
5 ـ نشر جريدة البصائر ، العدد 14، 17 نوفمبر 1947.
6 ـ آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي .ط1، بيروت : دار الغرب الإسلامي ، 1997م ،ج3|472.
7 ـ آثار .ج3|472.
8 ـ آثار .ج3|473.
9 ـ آثار . ج3|473 ـ 474.
10 ـ عبد الله بن عمر ، عبد الله بن عباس ، عبد الله بن الزبير ، والحسين بن علي رضي الله عنه .
11 ـ آثار . ج3|ص309.
12 ـ آثار . ج3|ص309
13 ـ آثار .ج5|ص76.، أبو القاسم سعد الله . المرجع السابق .
14 ـ آثار . ج5|ص76.
15 ـ آثا ر .ج5|ص77.
16) ـ آثار .ج5|ص77ـ 78.
17 ـ أبو القاسم سعد الله . المرجع السابق .
18 ـ من مقدمة الدكتور أبو القاسم سعد الله للجزء الخامس من آثار الإبراهيمي .ص14.
19 ـ العدد السابع عشر، بغداد ، 10 يوليو ، 1953.
20 ـ آثار . ج4|ص220.
21 ـ آثار . ج4|ص220.
22 ـ آثار . ج4|ص221.
23 ـ محمد الغزالي . حصاد الغرور . ط3، دمشق : دار القلم ، 1998م ، ص85 ـ 87.
24 ـ آثار .ج1|ص108.
25 ـ آثار .ج2|ص285 ـ 286.
26 ـ آثار .ج2|ص385.
27 ـ آثار .ج2|ص385.


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

تيسير النحو : لفضيلة الشيخ أبي عبد الله محمد سعيد رسلان حفظه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

تيسير النحو
شرح التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية

جديد=> ( 34 محاضرة بالصوت والصورة )

 هل تبحث عن درس أو تحضير إختبار او فرض  تمارين أو بحوث !؟

استعمل محرك بحث التعليم نت الشامل

ليساعدك للوصول الى هدفك

تعليم_الجزائر

تعليم_الجزائر

التصنيفات
الكتب الطبية

الاعتدال بأستعمال العلاجات ــ الشيخ محمد الهاشمى

قصة الشيخ ممدوح الذى نشر الدين الاسلامى وتعاليمة بفضل الله ثم بفضل الشيخ محمد الهاشمى"

الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه،ومن طلب الشفاء منه شفاه،ومن عمل بالأسباب النافعة صلح دينه ودنياه .
فمن توكل على ربه في دفع ما نزل به كفاه ولطف به وشفاه وعافاه ، وأذهب عنه ضعف القلب وخوفه الذي هو الداء ، وجلب له الأسباب النافعة والدواء .فالتوكل على الله وقوة القلب هى صفة أقوياء الرجال
فكم من أمراض ضعيفة صيرتها الأوهام الشديدة؟
وكم من معافى لعبت به الأوهام فلازمه المرض مدة مديدة؟
وكم ملئت المستشفيات من أمراض الأوهام والخيالات؟
وكم أثرت على قلوب كثير من الأقوياء ، فضلا عن الضعفاء في كل الحالات. ؟
وهذة هى قصة الشيخ ممدوح الذى نشر الدين الاسلامى وتعاليمة بفضل الله عز وجل ثم بفضل الشيخ محمد الهاشمى الذى له مساهمة كبيرة فى تبدل حاله خلال الفترة الماضية التى كان يعيشها فى صمت بعد ان من الله عليه بالشفاء فكان يعيش في مكان هادئ بعيد عن زحام القاهرة ومدينة الأسكندرية في قرية ابو النور بين هواء نقي ، ودفئ الشمس وجمال المزروعات والخضرة ، ولكن "بين الحياة والموت" ..هكذا وصف الشيخ ممدوح حياته الذي عاشها طيلة السنوات الماضية ، ألم وأرهاق وانزيمات كبد و توتر والتهابات بالاثني عشر لمده 35 عام حتي خاصمه النوم ، وقال ان الجنون أقترب من عقله بعد فقدانه لتوازنه ..تخرج من الجامعه وتزوج وتمالكه المرض أكثر وأكثر لم يشعر بالراحه مع العديد من العلاجات العشبية ، سافر العديد من المحافظات ولكن لم يجد علاجه ، وأخيرا اخبره طبيبه بعدم توافر اي علاجات لحالته ..كان البكاء يلازمه كل وقت وحين ..
كان يتابع القنوات الاخبارية وبالصدفة كان محول التلفاز يلعب بالحظ معه فأظهر قناة الحقيقة ..كان يشاهدها لأول مرة، ظل يتابعها ثلاثةايام مراراً وتكراراً حتي عرضت نفس حالته من الآلام وعدم النوم ، وعلي الرغم من انه كان لا يقتنع بطب الاعشاب بعد ان تداوي به من قبل ،إلا انه استخار الله بركعتين ليقوم الليل ويشاهد رؤية بأتصاله بالمركز وبالفعل صباح اليوم التالي كان أول من سجل بمركز الهاشمي ..
وصلت إليه الجرعة الأولي بعد ثلاثة أيام .. وقال أن بعد أسبوع واحد فقط أستطاع أن يأكل كل ما يروق له وينام لساعات طويلة ..حتي أصبح يضغط علي نفسه ليقضي فريضه الله بصلاة الفجر..لم يصدق حاله وصحته التي عادت للافضل مما كانت عليه منذ 36 عاماً .
أرسل لمركز الهاشمي بالجرعه الثانية للتأكيد علي الاطمئنان علي شفاءه الذي من الله عليه به وجعل مركز الهاشمي فرع مصر سببًا فيها ..وقبل ان تنتهي لم يصدق نفسه فاصبحت القوة عنوانه ،وأراد خدمة جميع من يعيش في قريته بأبو النور النوبارية و خارجها ..واخذ يحفظ القرآن الكريم لجميع قريته بل ويلقي خطبه الجمعة و درس في الفقة والسنة النبوية كل ثلاثاء ..تبدل حاله خلال الفترة الماضية حيث يعمل في صمت بعد أن شفاه الله ، لمساعده المحتاج.
بعد زيارته في منزله كان يبكي فرحاً ويدعو للشيخ الهاشمي بأن يظل سنداً لأمه المسلمين وأن يحفظة من كل سوء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
اسأل الله التوفيق لي و لكم على نشر الدين الاسلامي الصحيح
وندعو للشيخ محمد الهاشمى والقائمين على مراكزه ان يجعلهم الله ذخرا للاسلام والمسلمين
ونسال الله الشفاء لجميع مرضى المسلمين اجمعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ