المدرسة العليا للأساتذة
في الآداب والعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية وآدابها
محاضرات الأستاذ /
علي لطرش
– مادة : النقد الأدبي القديم
– شعبة : اللغة العربية وآدابها
– المستوى : السنة الأولى
• للسنة الدراسية : 2022/2010
مفهوم النقد الأدبي ووظيفته
مدخل:
إن مفهوم النقد الأدبي العام يحمل معنى أخلاقيا يهدف إلى ذكر العيوب فيقال مثلا : ” نقد فلان فلانا ” أي أعابه ولامه على فعل أو عمل سيئ ما ، وأصل لفظة “نقد ” يعود إلى العملة التي بتداولها القدم والتي تجمع على ” نقود ولهذه الكلمة عدة مشتقات يقال : ” نقد الدراهم ، وانتقده ” وسميت العملة بالنقد لأنها تنقد ، والنقد بالنسبة للمصرفي هو تفحص الدراهم وتحديد قيمتها أو كشف صححيها من زائفها والناقد هنا هو البصير والخبير بشؤون النقود يتفحصها ويحللها ويقيمها ، وقد انتقل هذا المدلول إلى مجال الأدب فصار كذلك يعنى بنقد الإنتاج الأدبي وتقييمه وإصدار الحكم عليه نظرا لما بين المصرفي وناقد الأدب من أوجه التشابه في مهمة كل منهما ، فالنقد الأدبي هنا له مدلول اصطلاحي يعنى بتقدير العمل الفني ومعرفة قيمته ودرجته في الجودة في الأدب أو غيره من الأعمال الفنية الأخرى كالتصوير أو الموسيقى أو النقش …الخ والنقد الأدبي لا يعني مجرد تشخيص العيوب أنما يعني تقدير العمل الفني والحكم عليه بالحسن أو القبيح أي من حيث الجودة والرداءة .
– بين المبدع والناقد:
إن المبدع أي الفنان حرفي عمله الفني ، أما الناقد فمقيد بشروط الموضوعية وبقوانين النقد ومعاييره عند الحكم على العمل . وقد يكون الناقد نفسه مبدعا وقد لا يكون أي هو مجرد ناقد كما يلاحظ لدى العديد من النقاد في تاريخ النقد العربي وقد يلاحظ أحيانا اختلاف الأحكام النقدية حول العمل الأدبي والأمر ذلك يعود إلى اختلاف درجات الأذواق والأحاسيس بين النقاد ولكن بالرغم من ذلك يبقى هناك حد مشترك بين النقاد لا يمكن الخروج عنه .
ومن مميزات النقد الأدبي أنه أقرب إلى العلم منه إلى الفن فالفرق مثلا بين البلاغة وبين النقد أن للبلاغة جانب فني تسعى إلى تعليم المنشئ الإتيان بتعابير فنية بليغة ، أما النقد فإنه يبين الأسس التي تقدر بها تلك العبارة البليغة الجميلة أي أن البلاغة تعني بالشكل أما النقد فيعني بالشكل والمضمون ولذلك يميل الناقد أحيانا إلى مهاجمة المبدع لأن الناقد مقيد بقواعد تمنعه من التحليق في الخيال المفرط الذي نلمسه في العديد من الأعمال الإبداعية .
“المحاضرة الأولى”
النقد في العصر الجاهلي:
أوليات النقد الأدبي عند العرب : تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عوامل أهمها : خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب يضاف إلى ذلك مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره ورغم أن بدايته كانت ساذجة بسيطة فإنه قد ساعد على تطوير شعرهم بما يقدم من ملاحظات حيث كان الناس معجبين بالشعر يستمعون ويتأملون قصائد الشعراء ويشيرون إلى مواطن القوة ومواطن الضعف فيفضلون شاعرا على آخر لفحولته وحسن إصابته أو ما تفرد به في شعره عن غيره …الخ
أوليات الشعر الجاهلي :
لم يظهر الشعر الجاهلي هكذا ناضجا كما هو بين أيدينا ، إنما مر بضروب ومراحل طويلة من التهذيب حتى بلغ ذلك الإتقان الذي أصبح عليه في أواخر العصر الجاهلي وكذلك الشأن بالنسبة للنقد ، فقد ظهر مع بداية الشعر وما وصل إلينا من شواهد نقدية لا يدل على البداية الأولى لهذا النشاط وما بين أيدينا من أحكام نقدية إنما تعود إلى أواخر العصر الجاهلي كذلك بعد أن خطـــــــــــــــــــا هو الآخر خطوات ومن مظاهره ما كان يجرى فيما يسمى «بالأسواق» تارة التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة فيتذاكر الناس فيها الشعر ويلتقي فيها الشعراء ومن صور النقد الجاهلي ما كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح ….الخ ، فهذه النماذج هي أولى الصور النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي أما قبلها فمغمور وغير معروف لم يصل إلينا منه شيء يذكر.
ومن أبرز مظاهر النقد الجاهلي ما كان يجري في سوق عكاظ المشهورة التي كانت سوقا تجارية وموعدا للخطباء والدعاة وكانت في آن واحد بيئة للنقد الأدبي يلتقي فيها الشعراء كل عام ليتنافسوا ويعرضوا ما جاءت به قرائحهم من أشعار، ومما ذيع في كتب الأدب أن الشاعر النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء ، من جلد في ناحية من السوق فيأتيه الشعراء ، ليعرضوا عليه أشعارهم ومما يروى في ذلك أن الأعشى أنشد النابغة مرة شعرا ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء صخر أخيها التي قالت فيها :
وان صخرا لتأتم الهداة به * * * كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير” يعني الأعشى” انشدني من قبل لقلت أنك اشعر الأنس والجن .
وقد أعاب العرب كذلك على النابغة بعض الإقواء الذي لوحظ في شعره في قوله:
امن آل مية رائح أو مغتدي * * * عجلان زار زاد ، وغير مزودِ.
زعم البوارح أن رحلتنا غدا * * * وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ.
حيث اختلفت حركة الروي مما يؤدي إلى خلل موسيقي وقد فطن النابغة إلى ما وقع فيه ولم يعد إلى ذلك في شعره .
وأورد حما د الراوية أن شعراء القبائل كانوا يعرضون شعرهم على قريش فما قبلته كان مقبولا وما ردته كان مردودا،وقد قدم عليهم مرة علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدة يقول فيها :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ فقالوا: هذا سمط الدهر أي رائع وسيبقى في ذاكرة التاريخ .
وقد سمع طرفة بن العبد المتلمس مرة ينشد بيته :
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم .
فقال طرفة :استنوق الجمل لان الصيعرية سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير .
ونلاحظ من خلال هذه الشواهد أن النقد الجاهلي كان يعنى تارة بملاحظة الصياغة أي الشكل وتارة أخرى بملاحظة المعاني من حيث الصحة والخطأ ومن حيث الانسجام المطابق للسليقة العربية فقد ذمً الإقواء في شعر النابغة لأنه اخل بالانسجام وسلامة الوزن وحسن الصياغة لان الشعر عند الجاهليين هو حسن الصياغة وحسن الفكرة والمعنى وهو نظم محكم ومعنى مقبول وإلا ما كان شعرا فالمعنى الذي أورده المتلمس في بيته الشعري إنما هو معنى فاسد مرفوض لأنه اسند صفة لغير ما تسند إليه .
فهذه القيم والمبادئ هي أهم المجالات التي جال فيها النقد في العصر الجاهلي التي تجنح إلى الحكم على الشعر من حيث المعنى تارة والمبنى تارة أخرى والتنويه بمكانة الشعراء وقدراتهم أما الذهاب إلى البحث مثلا في طريقة نظم الشاعر أو فحص مذهبه أو البحث في صلة شعره بالحياة الاجتماعية فذلك كان مازال غائبا لم يلتفت إليه الناقد إذ كان يأخذ الكلام منقطعا عن كل مؤثر اجتماعي خارجي وحتى عن بقية شعر الشاعر فهو نقد جزئي انطباعي أساسه السليقة والانطباع الذاتي .
على أننا لا ننفي أن غرض الناقد كان يسعى أحيانا إلى وضع الأمور في مواضعها ووضع كل شاعر في المكانة التي هو جدير بها فحركة الروي في شعر النابغة كما أشرنا آنفا لابد أن تكون واحدة وذلك بطرح الإقواء والبعير ينبغي أن يوصف بما هو من صفاته أصلا لا بصفات غيره وان الشعراء ينبغي أن يصنفوا وفق قدراتهم فلا يقدح الضعفاء على الفحول ويعني هذا أن للناقد الجاهلي قيما فنية كان يحرص على تحقيقها حيث يقرر الأحكام تارة في مجال الصياغة وتارة في مجال المعاني غير أن النقد الجاهلي على العموم إنما هو قائم أساسا على الإحساس بأثر الشعر في نفس الناقد والحكم دائما مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا عماده الذوق والسليقة وليست هناك مقاييس تقاس بها الأحكام فما الذي فضل به النابغة الخنساء على الأعشى؟ وما الذي كان رائعا في بيته؟ فهي أحكام لاتقوم على تفسير أو تعليل ، وعلى قواعد محددة ، فالنابغة اعتمد في حكمه على ذوقه الأدبي دون ذكر الأسباب والعرب حين نفرت أسماعهم من الإقواء في شعر النابغة ، إنما فعلوا ذلك استجابة لسليقتهم ، ورفض طرفة للمعنى الذي جاء في بيت المتلمس نابع من الفطرة العربية التي تأبى وصف الشيء بغير وصفه أو ما فيه .
روي أن حسان بن ثابت سئل عن بيت القصيد في قصيدته يفتخر فيها فأجاب بأنه الذي يقول فيه :
لنا الحفنات الغر يلمعن بالضحى * * * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما .
فأعاب عليه النابغة بأنه افتخر ولم يحسن الافتخار لأنه أورد كلمات غيرها اقرب وأوسع مفهوما ، فقد ترك الجفان والبيض والإشراف والجريان واستعمل الحفنات والغر واللمعان وهي دون سابقتها فخرا .
فالبيت فيه امتحان لقدرات الشاعر على أدراك اللفظة الصحيحة في مكانها الصحيح وتؤدي المعنى بشكل أقوى حيث علق النابغة على محتوى البيت مخاطبا حسانا :
أقللت أسيافك وجعلت جفانك قلة ويعني بذلك أن على الشاعر أن يكون عليما باللغة ويحسن وضع المفردة لما تدل عليه والربط بين الدال والمدلول ، ومن الشواهد النقدية ما ورد في قصة «أم جندب» حين تنازعا علقمة الفحل وامرؤ القيس وادعى كلاهما انه اشعر فاحتكما إليها فقالت لهما: قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل ففعلا فانشد بها زوجها امرؤ القيس قائلا:
فللسوط ألهوب وللساق درة * * * وللزجر منه وقع احوج منعب
وقال علقمة :
فأدركهن ثانيا من عنانــــــه * * * يمر كمر الرائح المتحلب
فقضت أم جندب لعلقمة على امرئ القيس لان فرس امرئ القيس يبدو كيلا بليدا لم يدرك الطريدة إلا بالضرب والزجر والصياح خلاف فرس علقمة الذي انطلق بسرعة الريح ولم يحتج إلى الإثارة فهو ابرع وسرعته طبيعية أصيلة ويلاحظ أن أم جندب ، اعتمدت في حكمها على بعض القواعد وهي :
وحدة الروي والقافية ووحدة الغرض حتى تبدو بحق براعة كل شاعر في إطار الشروط المحددة ، ونستنتج من هذا أن النقد الجاهلي لم يكن يعتمد دائما على مجرد السليقة والفطرة بل كانت له أحيانا شبه أصول وقواعد يعتمد عليها .
المحاضرة الثانية “
نقد الموازنة:
هو ذلك النقد الذي يدور حول موضوع واحد او في قضايا متقاربة اوفكرة واحدة مشتركة قصد التعرف على أفكار كل أديب و اكتشاف خصائص كل نص في معناه او مبناه . و في صوره وأسلوبه ولغته المأخوذة من مادة واحدة.
و الموازنة ليست عملية فكرية و عقلية فحسب . بل هي بالإضافة إلى ذلك عملية ذوقية و جمالية . لأن الناقد أثناء ملاحظته للأعمال الإبداعية المشتركة و المتشابهة إنما يعتمد في ذلك كذلك على ذوقه الأدبي الذي يعطيه القدرة للقيام بعملية التقييم بين العملين .
فنقد الموازنة يقوم على الملاحظة و الفهم و الإدراك ثم الحكم . فهو نوع من الوصف أو نوع من النقد يقوم على الملاحظة للتمييز بين العناصر المتشابهة و المختلفة في الموضوع الواحد للوصول إلى الحكم النهائي .
و يعتبر نشاط الموازنة نشاطا عربيا أصيلا له إرهاصات و امتداد في المورث الأدبي وفي التراث النقدي بالخصوص. وقد ظهر في شكل بداية ساذجة يتميز بطابع العفوية عمادها الذوق الفني الفطري التأثري الذي لا يستند على قواعد موضوعية معينة . و الشواهد النقدية في التراب النقدي العربي تثبت أن عملية الموازنة و المفاضلة عملية قديمة قدم الشعر العربي حيث تعود بدايتها إلى العصر الجاهلي . إذ كثيرا ما كان العرب القدامى يقومون بهذا النشاط عند الحكم على الشاعر أو على الشعر أو عند التنويه بصاحبه لما في شعره من عناصر الجودة سواء في الصياغة أو في المضمون . ومما ذيع في كتب الأدب ما كان يجري في سوق عكاظ . الذي سبق الإشارة إليه . و ما كان يقوم به النابغة في هذا المجال . حيث كانت تضرب له فيه قبة حمراء من جلد فيأتيه الشعراء يعرضون عليه أشعارهم . و كثيرا ما وازن القدماء بين القصائد الشعرية و بين الشعراء واستخلصوا في الكثير من الأحيان بعض أوجه التشابه و الاختلاف . وقد نوهوا بالبعض بما كان لهم من براعة و إمكانيات خاصة . ومن خلال عملية المفاضلة هذه أعجبوا ببعض القصائد واعتبروها درة أو يتيمة . ولاحظوا بعض الخصائص التي تميز بها شاعر عن آخر . فقد لقبو النمر بن تولب بالكيس لحسن شعره وسموا طفيل الغنوي: طفيل الخيل لمهارته و براعته في وصفه لها . وسموا قصيدة سويد بن أبي كاهل بالقصيدة اليتيمة التي تقول فيها:
بسطت ربيعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتسع.
وكانت موازنتهم تقوم أساسا على ملاحظة حسن الصياغة و حسن الفكرة : فهل المعنى مقبول . أو غير مقبول . وهل النظم مقبول أو غير مقبول . والى أي مدى تحقق ذلك الانسجام و الصقل المطابق للسليقة الغربية.
ومن مظاهر الموازنة عندهم ما ذكر عن أم جندب حين تنازع علقمة الفحل وامرؤ القيس . وزعم كل من هما أنه الأشعر .
فتحاكما إلى أم جندب الطائية زوج امرىء القيس التي ذكرنا من قبل ومن صور الموازنة كذلك ما قام به ربيعة بن حذار الأسدي في حكمه على شعر شعراء تميم الذين كانوا في مجلس شراب . واختلفوا إذ زعم كل واحد منهم أنه اشعر . فاحتكموا إليه . فقرأ كل واحد منهم بعض شعره عليه . وبعد ان وازن بين ما سمع من شعر . أخذ يصف شعركل شاعر ومايتميز به . فقال :اما عمرو فشعره برود يمانية تطوي وتنشر . واما انت يا زبرقان فكانك جل حتى جزروا قد نحرت فاخذ من اطاييبها وخلطة بغير ذلك . ولا ما انت يا عبدة فشعرك كمزادة اخكم خرزها فليس يقطر منها شيء .
نلاحظ ان احكام الناقد فيها تشبيهات مستمدة من الواقع فكما ان لحم الشاة تتباين درجات جودته وحسن مذاقه فكذلك تفاوتت جودة شعر الزبرقان حيث فيه الجيد والرديىء . وقد شبه الناقد شعر عبدة بن الطيب بالمزادة التي احكم خرزها دلالة على قوة بناء شكل شعره وصياغته حيث لاتوجد فيه اللفظة الزائدة او العبارة المهلهلة أي أن أسلوب شعره محكم رصين.
ولهذا النشاط حضور مستمر واسع في الحركة النقدية العربية حيث ازدادت أهمية بعد العصر الجاهلي وتوسع خاصة عند شعراء النقائض بسبب اشتداد جزيرة النزعة العصبية القبلية . ورجوعها من جديد بعد أن خمدت في صدر الإسلام . بسبب اشتغال الناس بالفتوحات . وما يلاحظ في موروثنا النقدي أن أكثر النقاد العرب القدماء كانوا يقرون باستقلالية البيت الشعري الواحد. لذلك كانوا ينشدون المتعة الفنية في كل بيته في معزل عن غيره من أبيات القصيدة . وان البيت الجيد عندهم هو ما كان موجزا يسهل حفظه ويرسخ معناه في العقل و القلب. ولذلك نجد عندهم ما يسمى ببيت القصيد . أو واسطة العقد . وأغزل بيت. وأهجى بيت. وأمدح بيت. ووصفهم الشاعر فلان بأنه أشعر الشعراء ….الخ . غير
إن هدا المقياس لم يكن هو المقياس الثابت دائما لدى نقدة الشعر كلهم، إذ هناك الكثير منهم من قال بضرورة التلاؤم والتلاحم بين العمل الأدبي بحيث يؤدي فيه كل بيت وظيفته كما تؤدي أعضاء الجسم فيتحقق بذلك التكامل العضوي.
ونجد هذا اللون في عملية المفاضلة عند ابن سلام الجمحي في كتابه ” طبقات الشعراء” حيث راح من خلال عملية الموازنة يقسم الشعراء إلى طبقات جاهليين وإسلاميين، وإلى شعراء مدن وبادية، ولاحظ من خلال العملية كثرة شعر بعض وقلة شعر البعض الآخر، وتعدد الأغراض لدى البعض ومحدوديتها عند البعض الآخر …إلخ، وعلى أساس عملية الموازنة وضع الشاعر في المكانة التي ينبغي أن يكون فيها حتى لا يقدم الناس الشعراء الضعاف على الفحول.
تطبيق
فطن العرب الجاهليون إلى روعة النغم في الشعور إلى جودة المعاني وعرفوا بطبعهم ما هو حسن من عناصر الشعر وما هو رديء عرفوا أن من لصياغة ما هو سهل، وما هو جزل، وما هو عذب سائغ، وعرفوا أن من المعاني ما هو صحيح مستقيم، وما فيه زيغ وانحراف، عرفوا ذلك طبعا ل تعلما، فلم يكن عجيبا أن يتكلموا فيعربوا ، وأن ينظموا فيصححوا الوزن دون أن يكون لهم عهد بنحو أو صرف أو عروض.
السـؤال: اشرح الأحكام القديمة الواردة في النص مبينا مقياس الجاهليين في معرفة الشعر الجيد والرديء مدعما شرحك ببعض الشواهد من نقد العصر الجاهلي.
المحاضــرة الثالثة
موقف الإسلام من الشعر : يبدو موقف الإسلام من خلال موقف الرسول إلى الشعر و الشعراء و له فيه موقفان موقف اعتبر الشعر أداة هجينة كشعر الخمريات و الغزل الماجن و شعر الهجاء الذي يمس كرامة الغير و يؤدي مسامهم و يخدش أحاسيسهم ، خاصة ذلك الهجاء الصادر من المشركين ضد الإسلام و المسلمين لما فيه من مس بأعراض المسلمين و ضرر بالعقيدة الإسلامية ، و قد عارض الرسول (ص) هذا اللون من الشعر و رفضه و عاقب الخصوم المشركين الذين تقولوا عليه و على المسلمين فيما نظموه من شعر في هجائه و هجاء العقيدة الإسلامية .
أما الموقف الثاني فيتمثل في إعجاب الرسول (ص) و حبه لسماع الشعر النظيف الذي يحمل القيم والأخلاق الحسنة الذي لا يتعارض مع التعاليم و المبادئ الإسلامية و خاصة ذلك الذي بنافع عن الإسلام و المسلمين فقد كان الرسول (ص) كثيرا ما يستمع إلى شعر حسان بن ثابت فيؤثره على غيره فيما قال من شعر في نصرة العقيدة الإسلامية الجديدة و قد اعتبر هذا اللون من الشعر سلاحا حادا لا يستغني عنه صاحب دعوة و قد كان الرسول (ص) يحث على سماع و نظم الشعر الجيد بل كان يكافئ عليه ، و لعل حثه لحسان على نظم الشعر و عفوه عن كعب بن زهير لدليل على تذوقه للشعر و على موقفه الإيجابي منه فقد كان عربيا فصيحا يحب الكلام الحسن و البليغ و إذا اعتبر الشعر سلاحا حادا يتصدى به للخصوم المشركين و بها جمعهم بنفس الوسيلة نظرا لما كان للكلمة من أثر على النفس و قد قالوا “جرح السيف يزول و جرع اللسان يطول” أي أن أثر الكلمة في النفس أقوى من جرح السيف و قد حث الرسول حسان بن ثابت الذي كان شاعر الرسول للرد على شعراء المشركين و جعل شعره سلاحا يتصدى به لهم ، و قد كان جزع قريش من هجاء حسان شديدا لما في معانيه من صفات الهجاء المقذع ، اللاذع ، و قد كان المسلمون أنفسهم يعتمدون عليه اعتمادا كليا للدفاع عنهم و التصدي لخصومهم المشركين و نصرة الدعوة الإسلامية خاصة في سنواتها العشرة الأولى لأنهم كانوا يرون فيه الملكة الشعرية أقوى و أنضج مما في غيره من شعراء المسلمين إذ وجدوا في معاني شعره ما يشبه الأسلحة الماضية التي تريح نفوسهم و تشفى غليلهم من حيف الخصوم.
و قد ورد في القرآن تصنيف الشعراء إلى صنفين ( )شعراء مؤمنون لم يخرجوا عن حدود التعاليم الإسلامية ، و شعراء ضالون بما قالوا من شعر هجين غير أنه و بالرغم من نبذ الإسلام لشعر هؤلاء فإنه بقي مسامحا معهم لأنهم يقولون ما لا يفعلون و ثمة فرق بين القول و الفعل و مجرد القول فالشاعر و إن ظل بشعره فإنه مجرد قول لم يربط بين القول و الفعل. و لذلك تسامح الإسلام مع الشاعر مقدرا طبيعته البشرية التي يتجاذبها الخير و الشر فقد أعطى الإسلام للشاعر حق القول و أعطاه حريته و لكن عليه أن يتحمل تبعه ما يقول من وجهه نظر الدين و الأخلاق و المجتمع.
ثم إن الإسلام نظر إلى النفس البشرية في طبيعتها في حالة ضعفها و قوتها واعترف لها بصفة الضعف و لكي حثها على الاجتهاد و التدبر لتصل إلى الفضيلة و التحلي بالقيم العالية ، و لذلك ففي الوقت الذي حرم فيه أفلاطون الشعر كون الشاعر قد يفسد الأخلاق أو يسئ إلى سمعة الآلهة نجد الرسول (ص) يتذوق الشعر و يعجب بأساليبه الجيدة و بمعانيه التي تتلاءم مع دعوته و قد قال (ص) لا تترك العرب الشعر حتى تترث الإبل الحنين”.
و قد كان كثيرا ما يخوض في مسائل الشعر مع الوافدين إليه من المسلمين و يلتقي بالشعراء أنشد الرسول (ص) قول عنترة
و لقد أبيت على الطوى و أظله حتى أنال به كريم المأكل .
** فقال (ص) ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.**
و للخلفاء الراشدين آراء و أحكام نقدية تبين نظرتهم الإسلامية إلى الشعر فقد ظلت وقود العرب المسلمين بعد وفاة الرسول تفد إلى المدينة فيخوضون في أخبار رجالات الجاهلية من شعراء و أبطال و أجواد و كثيرا ما كان الخليفة يشاركهم الحديث و يخوض معهم فيما يخوضون من نقاشات ، و من أبرز الخلفاء الذين عرفوا بذلك ، عمر بن الخطاب ، فقد كان عالما بالشعر و ذا بصيرة فيه يتذوق أساليبه الجميلة معجبا بالشعر الذي يلتزم الأخلاق الحسنة و بالمقابل كان ينهي عن شعر الخمرة و الهجاء و الغز الفاحش و يعاقب عليه و أن بدا في موقف عمر هذا بعض الصرامة مع الشعراء الذين قالوا في أعراض لا ينبغي القول فيها فإنه موقف طبيعي لأنه موقف خليفة شديد التدين حريص على سلامة الإسلام و المسلمين يسعى إلى بناء مجتمع إسلامي بنية سليمة.
و يتلخص موقف عمر فيما ورد عنه من آراء في الشعر و الشعراء ، فقد تحدث مرة مع و فد عطفان حين و فد إليه فسألهم قائلا : أي شعرائكم الذي يقول :
-أتيتك عاريا خلقا ثيابي * على خوف تظن به الظنون
-فألقين الأمانة لم تخنها * كذلك كان نوح لا يخون
قالوا : النابعة ، قال : فأي شعرائكم الذي يقول :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * و ليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا : النابغة . قال : هذا أشعر شعرائكم ، أي لأن النابغة أشعر شعراء قومه غطفان على كثرتهم .
و قال عمر مرة لبعض ولد هرم بن سناق : انشدني بعض مدح زهير أباك ، فأنشده فقال عمر: إذ كان ليحسن فيكم القول . قال : و نحن و الله إذ كنا لنحسن له العطاء فقال عمر : قد ذهب ما أعطيتموه و بقي ما أعطاكم.
و يروي أن ابن عباس قال : قال لي عمر ليلة مسيرة إلى الجابية في أول غزوة غزاها ، هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قلت : و من هو ؟ قال الذي يقول :
و لو أن حمدا خلد الناس أخلدوا * و لكن حمد الناس ليس بمخلد .
قلت : ذلك زهير . قال : فذلك شاعر الشعراء قلت . و بم كان شاعر الشعراء ؟ قال : لأنه كان لا يعاضل في الكلام ، و كان يتجنب وحشي الشعر و لم يمدح أحدا إلا بما فيه .
إن قيم المال تزول و قيم الأفعال الحسنة تبقى عبر الزمان ،و قد خلد زهير ما قام به هدم بن سنان من جميل الأفعال بما قدم من ماله الخاص لإخماد حرب داحسن و الغبراء التي اشتعلت بين قبيلتي عبس و ذبيان و قد أسهم عمر بن الخطاب في إنضاج و تطوير الحركة النقدية بما أورد من تعليل و تفصيل لم نعهده في النقد الجاهلي الذي كان مجملا غير معلل .
فزهير في نظر عمر بن الخطاب سهل العبارة لا تعقيد في تراكيبه و لا وحش في ألفاظه ، و معانيه بعيدة عن الغلو و الإفراط في الثناء الكاذب فهو لا يمدح الرجل إلا بما فيه من فضائل وشعر زهير يكمن في أنه حسن العبارة و المعاني و جميل الصياغة و نلمس هنا أن ملاحظات عمر ليست جزئية كما كان الأمر في نقد العصر الجاهلي الذي اقتصر على نقد الشكل تارة و المضمون تارة أخرى و نادر ما يعني بالشكل و المضمون كما نلاحظ عند عمر بن الخطاب الذي تناول بالتقييم شعر زهير من حيث المبنى و المعنى.
أما نبذ عمر شعر الهجاء مثلا و معاقبه أصحابه عليه فلأن هذا اللون ينال من أخلاق المهجو ويشوه صورته و يحط من مروءته و عرضه ، فهو نوع من القذف يرفضه الإسلام و يعاقب عليه من يحرص على إقامة حدود الله و العمل بشريعته و قد أورد الرواة أن الحطيئة هجا الزبرقان بن بدر بقصيدة مما جاء فيها :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أتت الطاعم الكاسي
فشكاه الزبر قان إلى عمر ، فأمر بسجنه لما في البيت من قذف و مس بعرض الزبرقان ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذ عليه أن لا يهجو أحدا من المسلمين و بعد أن قال الخطيئة يعتذر من سجنه :
ماذا تقول الأفراخ بذى مرخ ** زغب الحواصل لا ماء و لا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ** فاغفر عليك سلام الله يا عمر.
و لا يختلف موقف علي بن أبي طالب من الشعر و الشعراء عن موقف عمر ، فهو موقف متأثر بالإسلام و بكتابه الكريم و مستمد منه و لم يقل الإمام على فيما قال في الشعر و الشعراء إلا من وجهة نظر الإسلام فنظرته نظرة متسامحة مع الفنان الشاعر متطابقة مع نظرة الإسلام ، فهو لم يعتبر قول الشاعر مثلا في الخمرة يوجب الحد مثل شربها و ذلك عملا بما جاء في القرآن الكريم “و أنهم يقولون ما لا يفعلون …”
إن الإسلام أعطى الفنان حرية واسعة و لم يجعله عبدا لا يفعل إلا ما بما عليه دون إرادة ، و إذ يدعوه إلى سلوك اجتماعي مقبول فإنه لم يسلبه حرية الموقف الشخصي و حرية التفكير و التعبير شرط أن لا يؤذي غيره و أن يتحمل عواقب أقواله و أفعاله ، و من أشهر النصوص الواردة عن الإمام علي و التي يبدو فيها العديد القيم و المعايير النقدية الجديدة المستمدة من نظرة الإسلام للشعر ما تحدث به في البصرة بين بعض المتخاصمين حول الشعر ، قال : “كل شعرائكم محسن و لوجمعهم زمان واحد و غاية واحدة و مذهب واحد في القول لعمنا أيهم أسبق إلى ذلك وكلهم قد أصاب الذي أراد و أحسن فيه ، و إن يكن أحد أفضلهم فالذي لم يقل رغبة و لا رهبة امرؤ القيس بن حجر فإنه كان أصبحهم بادرة و أجودهم نادرة”.
إن الإمام علي لا يرفض و لا يستثنى أي لون أو غرض من أغراض الشعر حتى الوثنى منه مادام شعرا جميلا باعتباره تراث العرب جميعا و ذلك بغض النظر عن عقيدة أو جنس أو لون صاحبه ، و نلمس في أحكام على تحطيمها للعصبية القبلية و الفكرية و الجنسية التي ألغاها الإسلام ، و لأن المقياس النقدي المعتمد على عصبية الدم أو الجنس أو اللون ليست من مقاييس النقد الصحيح إطلاقا ، ثم هناك إشارة في النص إلى صعوبة المقايسة بين شاعرين أو أكثر في عصرين أو في غرضين مختلفين و ذلك لعدم توفر الشروط الموضوعية التي تسمح بذلك ، و فضلا عما في النص من قيم فنية و معايير نقدية جديدة فيه كذلك إشارة إلى ضرورة توفر الحرية للشاعر لأنه لا شيء يقتل الإبداع و يجفف القريحة كالخوف و النطق بلسان الغير لا بلسان الشاعر ، فالشاعر لا يكون شاعرا حقا و هو يقول غير ما يشعر به هو حق أو يخش القول فهو في ذلك عبد يقول ما لا يشعر و يضمر.
للتطبيـــــــــق
كان عصر البعثة حافلا بالشعر ، فياضا به ، و إن ضعف في بعض نواحيه، فالخصومة بين النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من ناحية ، و بين قريش و العرب من ناحية أخرى كانت عنيفة حادة لم تقتصر على السيف و اللسنان ، بل امتدت إلى البيان و الشعر ، و إلى المناظرات و الجدل ، و إلى المناقضات بين شعراء المدينة و شعراء مكة ، و غير مكة من الذين خاصموا الإسلام و ألبوا العرب عليه.
كان شعراء قريش و من والاهم يهجون النبي و أصحابه ، و كان شعراء الأنصار يناقضون هذا الهجاء و لعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض في الشعر العربي ، و لعل تلك الروح هي التي أنهضت هذا الفن في الشعر ، فازدهر في العصر الأموي ازدهارا تاما هذه المناقضات بين مكة و المدينة كانت تدعو إلى النقد ، و إلى الحكم ، و إلى الإقرار و الادعان ، و كان العرب يقدرون هذا التهاجي ، و يؤمنون بما فيه من قوة ، و يفصحون عمّا فيه من لذغ و إيلام .
كانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان ، و لا تبالي بشعر ابن رواحة ، و كان ذلك قبل أن تسلّم فلما أسلمت رأت في الشعرين رأيا آخر ، فقد كان حسان يطعن في أحسابهم ، و يرميهم بالهنات التي تنال من العزة الجاهلية ، و كان عبد الله ابن رواحة يعيرهم بالكفر ، ثم أسلموا وكان شعر ابن رواحة هو الذي يحز قلوبهم حزا ، فهم كانوا يرون أن حسانا أعظم الشعراء الخصوم ، و يرون معانيه أحد و آلم من معاني أي أنصاري آخر ، و هم إذن يرون الهجاء المقذع المرّ ما تعرض للحرم و الأنساب ، لا ما تعرض للعقيدة والدين .
و من جهة أخرى كان المهاجرون و الأنصار يعدون حسانا الشاعر الذي يحمي أعراض المسلمين ، يبعثون في طلبه حين تفد الوفود ، و يفزعون إليه حين تأتيهم القوارض ، فيبلغ من حاجتهم ما لا يبلغه صاحباه ، و الكلام كثير في أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فتناولته قريش بالهجاء ، و هجوا الأنصار معه ، و أن عبد الله بن رواحة ردّ عليهم فلم يصنع شيئا ، و أن كعب بن مالك لم يشف النفس ، و إنما الذي صنع و شفى ، وصب على قريش من لسانه شآبيب شر هو حسان ، و الكلام كثير في استماع النبي لحسان ، و في إيثار النبي لحسان ، و في أن المسلمين كانوا يعتمدون اعتمادا حقيقيا على حسان في هذا الضرب من النضال لأنهم كانوا يرون معانيه من الأسلحة الماضية التي تجزع منها قريش ، و هنا روح النقد ظاهرة : واضحة في مكة و المدينة : فحســـان بـــن ثابت كان أعظم شعراء الحلبتين عند قريش و المسلمين في السنوات العشر التي أقامها النبي عليه السلام في دار الهجرة.
تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لطه أحمد إبراهيم
المطلوب: استخرج الأحكام النقدية التي يتضمنها النص ثم أشرحها حسب ترتيبها مبينا موقف قريش من شعر حسان بن ثابت وابن رواحة معللا سبب اختلاف موقف قريش من شعر الشاعرين قبل و بعد إسلامها.
المحاضرة الرابعة
النقد الأدبي القديم : النقد في العصر الأموي
نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاث هي : الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعية و السياسية التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع ، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات .
1 – النقد في بيئة الحجاز :
ازدادت أهمية منطقة الحجاز ومكانتها في صدر الإسلام وخلال الحكم الأموي مما كانت عليه أضعاف مضاعفة ، فقد أصبح الحجاز – وخاصة أثناء خلافة الأمويين – خزانة للأموال التي جمعها الأمراء وقادة الجيوش الإسلامية من خلال الفتوحات للعديد من الأمصار. وقد لجأ إليه بسبب ما كان عليه من ثراء واستقرار العديد من أعيان العرب وأثريائهم من مختلف الجهات.
وقد نجم عن هذا الاستقرار والترف ظهور الجواري غير العربيات جئن من مختلف النواحي، فظهر الغناء وفشا بعض الفساد. وقد كان الحجاز من ناحية أخرى مركزا دينيا يدرس فيه القرآن، ويشرح فيه الحديث من قبل أهل العلم بالدين و الفقه، فصار العديد من الرجال المسلمين يفدون إليه من مختلف الأقطار الإسلامية ليأخذوا عن رجاله علمهم بالكتاب و السنة، ومما استنبطوه من أحكام شرعية في مختلف القضايا ، وقد أصبح الحجاز نتيجة لهذه العوامل مركزا دينيا وبيئة للهو و الترف في آن واحد .
وقد ازداد بمرور السنين تدفق الأموال من الشام ” مركز الخلافة ” على أهل الحجاز لجلب ولائهم وتأييدهم وإسكات المعارضين للخلافة وصرف نظرهم عن المطالبة بالسلطة نتيجة للخلاف الذي كان حول من هو أحق بالخلافة بين الأمويين وبين علي بن أبي طالب، وبين من شايعوا عليا (d) .
وقد استمال ذلك الجوُّ المترف الهادئ الناسَ نحو الأخذ بمتع الحياة وأسباب اللهو كالغناء و الموسيقى مما طبع الحياة هناك بطابع يندر وجوده في البيئات الأخرى .
وقد عكس هذا الجو وهذه الحياة الناعمة ذوقا أدبيا جديدا أدى إلى بروز جيل جديد متفائل مرح، وقد عبر أحد رجالات ذلك العصر قائلا : ” إنما الدنيا زينة فأزين الزينة ما فرح النفس وقد فهم قدر الدنيا من فهم قدر الغناء ” .
وقد عكس الشعراء في شعرهم هذا الجو المرح حيث مالوا هم كذلك إلى شعر الغزل الذي رسموا فيه صورا عن واقع الحياة في بيئتهم، وامتد ذلك إلى النقد كذلك حيث انكب النقاد حول هذا اللون من الشعر يحللون ويبحثون ما فيه من مظاهر الضعف أو القوة و الجمال . ومن أبرز الأسماء الناقدة شخصيتان هامتان هما : ابن أبي عتيق الذي ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، و السيدة سُكَيْنَة بنت الحسين بن أبي طالب حفيدة الرسول (h) .
وقد ترجمت أحكام السيدة سُكينة النقدية ذوقَ جيل ذلك العصر، وكان العديد من الشعراء يفدون إليها ويلتقون بها في مجالسها ، ولعلّ إن وجود رجل ناقد لا يثير التساؤل فإن وجود ناقدة أنثى بهذا الحجم قد أثار تساؤلات عدة دلالة على ما أصبحت تحظى به المرأة من مكانة اجتماعية وتقدير واحترام، وعلى حضور صوتها في تطوير الشعر وتوجيهه على المنوال الذي يليق بالمرأة العربية المتحضرة الجديدة ، وحتى لا يصور الشاعر المرأة من وجهة نظره فقط التي قد يعارض مع ما يليق بها ، وصار لا يجوز أن يقول الشاعر ما يزعج المرأة أو ما يتعارض مع ذوقها وإحساسها الرهيف الذي أصبحت تتقبل به النص الشعري .
و نجمت عن التباين الزماني والحضاري بين الحياة العربية القديمة و الحجازية المتحضرة الجديدة المطالبة بصور ومعان شعرية مغايرة لما كان عليه الحال في العصر الجاهلي فقد رفع الإسلام من شأن المرأة ومكانتها في المجتمع، ومن ثم راحت تخوض فيما يخوض فيه الرجل سواء بسواء، فكان دخولها حقل النقد واحدا من العوامل ، يضاف له عامل السلوك المتحرر عند الجواري المثقفات المجلوبات و القادمات من البلدان المتحضرة المفتوحة، فهذه العوامل شجعت المرأة الحجازية على الخوض في مناقشات أدبية ونقدية حول مضامين الشعر وقضايا الأدب بصفة عامة ، فراحت السيدة (سُكَيْنَة) تتأمل النصوص الشعرية وتفحص الصورة التي رسمها الشاعر للمرأة وتحاول أحيانا أن تجري عليها بعض التعديلات حتى تتلاءم مع ذوق المرأة من خلال ما كانت تبديه من ملاحظات ، وقد قال عنها صاحب الأغاني يصفها : ” إنها كانت من أجمل نساء عصرها ، وكانت برزة تجالس الأجلاء من قريش ويجتمع إليها الشعراء ، وكانت ظريفة مزاحة ” .
وقد كان لنسبها الكريم أثره في أحكامها النقدية التي كانت مرجعيتها ذلك الاحترام و التقدير الذي يكنه الرسول (h) للمرأة المستمد من روح القرآن ، إذ قال الرسول (h) : ” مَا هَانَ النِّسَاءَ إِلاَّ لَئِيمٌ ، وَمَا أَكْرَمَهُنَّ إِلاَّ كَرِيمٌ ” .
هذه هي القيم التي أرادت السيدة سكينة أن تغرسها للمرأة في النص الشعري ، بعد أن كان بعض شعراء الحجاز حين يصف المرأة يصفها من الأعلى إلى الأدنى ، وجعل بعضهم نفسه في أشعاره فلكا تدور حوله النساء، كما هو الأمر مع عمر بن أبي ربيعة الذي قلب مفهوم الغزل ، كما يبدو في بعض قصائده ، وأن بعضهم شهّر بالمرأة ، وبعضهم الآخر أبدى شيئا من الإهمال وعدم التقدير حين يصف المرأة ، وهي صور من التقاليد الباقية من العصر الجاهلي التي لم تعد في نظر سكينة مقبولة، لأن ذلك الامتهان أو الذل الذي كان في العصر الجاهلي قد ولى وعلى الشاعر أن يعتبر المرأة مادة غير مبذولة وغير رخيصة، وأن يسلك معها سلوك الرجال الفرسان الشجعان .
ومما ورد عنها من شواهد نقدية في هذا الموضع حكمها على بيت جرير:
طرقت صائدة القلوب وليس إذا حين الزيارة فارجعي بسلام .
فلاحظت أن في البيت خلالا قائله : أفلا أخذت بيدها ورحبت بها، وقلت : ادخلي بسلام ، أنت رجل عفيف .
فقد فرقت الناقدة بين الكلام عن الأحاسيس العاطفية وبين الأخلاق، فالشاعر هنا يتكلم عن العواطف لا عن الأخلاق ، وفرق كبير حين يستقبل الإنسان شخصا ما وحين يستقبل عزيزا عليه .
وقد روت عنها كتب الأدب نماذج كثيرة من نقدها الظريف ، فقد سمعت ” نُصَيْبا” يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمًُتْ فَوَاحُزْنَا مَنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي
فعابت عليه صرف نظره إلى من يعيش مع ” دَعْد ” بعده ورأت الصواب أن يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي .
وقد امتد هذا اللون من النقد في موضوع الغزل إلى نساء أخريات، فقد عاتبت ” عَزَّةُ ” ” كُثَيِّرًا” في وصفه لها بالمظاهر الشكلية غير الطبيعية ، وقالت له لما لا تقول مثل ما قال امرؤ القيس في وصفه المرأة :
أَلَمْ تَرَنِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَتَطَيَّبِ.
وقد استرققت ” عَزَّة ” قول “الأحْوَص” وفضّلته على كثير في بعض معانيه في وصف المرأة مثل قوله :
وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِن الْهَوَى إِذَا لَمْ يُزَرْ لاَبُدَّ أَنْ سَيَزُورَ.
وكان “ابن أبي عتيق” من رجال هذا التيار النقدي الذي يفحص ويدرس هذا اللون من شعر الغزل المعبر عن الحياة المترفة المتحضرة ؛ ومن شواهد نقده في هذا الموضوع أنه سمع مرة عمر بن أبي ربيعة ينشد شعرا في غرض الغزل :
بينما ينعتنني أبصــــــــرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغرّ
قالت الكبرى أتــعرفن الفتى ؟ قالت الوسطى : نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمــــتها قد عرفناه وهل يخفى الــقمر ؟
فقال ابن أبي عتيق معلقا على مضمون ما قال : أنت لم تنسب بها إنما نسبت بنفسك ،أي كأنه لم يتغزل بالمرأة إنما تغزل بنفسه .
وقد برز إلى جانب هؤلاء النقاد نفر من الشعراء مارسوا النقد إلى جانب الشعر، فقد سمع عمر بن أبي ربيعة ” كُثَيِّرًا ” يقول :
ألا ليتنا يا عَزُّ ( ) كنا لدى غنى بعيرين نرمى في الخلاء ونعـــــزب ( )
كلانا به عر( ) فمن يرنا يـــقول على حسنهما جرباء تعـدي وأجرب
إذا مـــا وردنا الــماء صاح أهله علـــينا فما ننفك نُرمى ونُضــــرب .
فقال عمر : تمنيت لها ولنفسك الرّق و الجرب و الرمي و الطرد و المسخ ، فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك ، لقد أصابها منك قول القائل : ” معاداة عاقل خير من مودة أحمق ” .
وقد حدد النقاد الحجازيون مقياس الغلو و المبالغة في رسم العاطفة، ومن ثمة صار إذا ما عبر الشاعر عن عاطفته بغُلُوّ أو بصورة خارجة عن المألوف كانت غريبة مضحكة تشبه النوادر. قال عمر لبن أبي ربيعة شعرا فيه غلو :
ومَــــــن كانَ مَحْـزُونًا بإهْرَاقِ عَبْرَةٍ وهــيَ غَرْبُهَـــا فلْيَأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا
نُعِنْهُ عَلى الأثْكَال ( ) إنَ كانَ ثَاكلاً وإنْ كان مَحزونًا وإن كَان مقصِدَا ( )
فمضى بن أبي عتيق إلى عمر وقال له : جئناك لموعدك ، قال : وأي موعد بيننا ، قال : قولك : ” فليأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا ” . وقد جئناك و الله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا أو ننصرف على أنك غير صادق ثم مضى وتركه.
إن مثل هذه الصور زائدة عن اللزوم في التعبير عن الأحاسيس العاطفية و المواقف و بالتالي فهي صور ساخرة غير مقبولة لأنها غير صادقة.
المحاضرة الخامسة
2 – النقد في بيئة العراق :
اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبية القبلية التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بالهجاء المر المقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهمية وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص الشعر الثالوث الخطير : الفرزدق وجرير و الأخطل الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر .
وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهلية، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام .
وقد كان لكل شاعر حلقة ينشد فيها شعره ويحمس أنصاره في جو مملوء بالهرج و النقاش حتى قيل أن والى البصرة ضج بما أحدثه هؤلاء الشعراء من صخب واضطراب في أوساط الناس فأمر بهدم منازلهم.
وقد احتفظ العديد من الكتب النقدية القديمة بصور ونماذج من هذه الحركة الشعرية و النقدية، وما كان يجري بين جرير و الفرزدق والأخطل حيث يقوم الشاعر بنظم قصيدة في هجاء خصمه والافتخار بذاته وبقومه على وزن خاص وقافية خاصة ، فيقوم الآخر بنقضها بنظم قصيدة مماثلة ويحوّلها إلى هجاء مضاد على نفس الوزن و القافية . وقد تشكلت في هذا الإطار ثلاثة معسكرات ، كل واحد تعصب لشاعر وفضله على خصمه والتمس محاسن شعره فيشيعها، ويبحث عن معايب الآخر فيشهّر بها .
وقيل إن الأخطل تحالف مع الفرزدق ضد جرير لكن جريرا أفحمهما . وقيل أن كذا وأربعين شاعرا تحالفوا ضده فأسكتهم لقدراته ومهارته في هذا الفن، وقد كانت هذه الخصومات سببا في غلبة هذا الاتجاه على الشعر والنقد في العراق حتى اعتبر الشاعر غير السائر على طريقة هؤلاء في المدح و الهجاء شاعرا متخلفا ضعيفا .
قال ذو الرمة مرة للفرزدق : مالي لا ألحق بكم معشر الفحول ؟ فقال له : لتجافيك في المدح و الهجاء واقتصارك على الرسوم و الديار . أي أنه مازال ينظم على منوال القدماء ولم يساير الظروف . لذلك لا نجد أثرا لمثل ذلك النقد الذي كان في الحجاز أو الشام وإنما نجد نقدا آخر يتلاءم مع طبيعة البيئة العراقية، وما كان فيها من شعر حيث اتجه النقاد هناك إلى الموازنة بين الشعراء، وأي الثلاثة أشعر ؟ وسموا هذا قضاء وسموا الذي يحكم قاضيا ، وسموا الحكم و الحاكم أي الناقد ” حكومة ” .
و قال جرير في الأخطل لما فضل الفرزدق عليه :
فدعوا الحكومة لستموا من أهلها إن الحكومة في بني شيبان
غير أن هذا النوع من النقد لم يكن الوحيد في العراق لأن هناك بعض الشعراء من قال شعرا خارج شعر النقائض، ولذلك راح بعض النقاد يعنى بمميزات شعر الشاعر ، وما تفرد به عن غيره، و البحث عن مواطن ضعفه وقوته وموازنته بغيره وإصدار الحكم عليه ، كحكم الفرزدق على النابغة الجَعْدِيّ بأنه صاحب ” خُلْقَان ” و البيت يساوي عنده آلاف الدراهم و البيت لا يساوي إلا درهما. وحكمه على ذي الرمة بجوده شعره لولا وقوفه عند البكاء على الدِّمَن، وكذا حكم جرير على الأخطل بأنه يجيد مدح الملوك ، وموازنة الأخطل بين جرير و الفرزدق بأن جريرا يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر .
وإلى جانب نقد الموازنة في شعر النقائض، وكذا النقد الذي يعنى بإبراز ما تفرد به بعض الشعراء في شعرهم عن غيرهم ، فهناك نقد يعنى بالمعاني الجزئية في شعر الشاعر دون موازنته بغيره ، فقد نقد الحجاج الفرزدق حين مدحه في قوله :
من يأمن الحجاج و الطير تتقى عقوبته إلا ضعيف العزائم
فقال الحجاج : الطير تتّقى كل شيء حتى الثوب و الصبي. وفضّل عليه قول جرير فيه نفس المعنى :
من يأمن الحجاج أما عقابه فمُرٌّ وأما عهدُه فوثِيق .
* البحث في السرقات الأدبية :
وقد ظهر هذا الضرب من النقد الأدبي انطلاقا من نظرة الإسلام لمفهوم السرقة حيث اعتبرها انحرافا اجتماعيا، وقد حرم السرقة بجميع أشكالها. وذهب بعض الشعراء ينسبون لقبائلهم شعر شعراء قبائل أخرى ، وأحيانا ينسبون لأنفسهم البعض من جيد الشعر الجاهلي حتى يظهروا بمظهر الفحول فيعلو مقامهم ويذيع صيتهم ، وللفرزدق تهم عديدة ، فقد كثرت مصادرته لشعر غيره، كما تذكر بعض الروايات تُهَمَ الأصمعي له بأن تسعة أعشار شعره سرقةٌ. و تذكر روايات أخرى سرقة الأخطل لمعاني الأعشى في الخمرة . وكان كذلك يستعين بأشعار “تَغْلب” في خصومته مع الفرزدق، وتارة يستعين بشعرائها في نظم قصائده، واتهم ” كُثَيّر عَزّة ” بالسرقة من شعر “جَمِيل بُثَيْنَةَ” حين يتغزّل بعَزّة .. وقد كان لأخبار سرقة الشعر صدى واسع في أوساط الشعراء ولدى العامة أيضا .
وإلى جانب هذا كان في العراق حركة أخرى أدبية ونقدية مغايرة هي حركة متأثرة بالإسلام وبتعاليمه تسمى حركة الخوارج، التي كان لها شعر قوى رائع ابتعدت فيه عن المدح و الهجاء ، بل كان شعراؤها يهدفون إلى إرضاء عواطفهم بالاستهانة بالموت في سبيل الله و الحث على الشجاعة وإنكار شهوات النفس وتسخيرها لإرضاء الله ، مستخلصين ذلك من قوله تعالى : إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يَُقْتَلُونَ ( سورة التوبة ، الآية 111) .
ولهم في هذا شعر يفيض بقوة إيمانهم وشدة شجاعتهم . وقد امتدت نزعتهم هذه إلى نقدهم حيث راحوا يهوّنون من شعر الشعراء الذين يتكسبون ويتمسحون بالأمراء ليمدحوهم بما ليس فيهم حتى ينالوا المال و المكانة، ويرون أن الشاعر الحق هو من صدق في قوله واتقى الله في شعره. وواضح أن الخوارج يزنون الشعر بميزان ديني أخلاقي، أما غيرهم فيزنونه بميزان فني بحث ، غير أن دور الخوارج في الحقل الأدبي ضعُف بضعفهم سياسيا.
3 – النقد في بيئة الشام :
فإن كان أكبر مظهر الأدب في بيئة الحجاز هو الغزل وأكبر مظهر للأدب في العراق هو الفخر والهجاء فإن أكبر مظهر للأدب في الشام هو المديح ، ولذلك اختلفت الحركة النقدية في الشام على ما كانت عليه في الحجاز و العراق ، فقد عاشت الحركة النقدية هناك في بلاط الخلفاء الأمويين ، وفي قصور وُلاّتهم في مختلف الأقاليم و الأمصار ، وسبب ذلك هو أن دمشق كانت عاصمة الخلافة الأموية يفد الشعراء إلى خلفائها من كل الجهات، و كان بنو أمية عربا أقحاحا فصحاء يتذوقون الشعر ويعجبون به ويطربون لسماعه ويكافئون الشعراء عليه، و كنت قصورهم شبه منتديات للشعر ومراكز للمناقشات ” أي النقد ” في مختلف القضايا الأدبية، كما كانت مركزا للسلطة والسياسة أيضا ، وما يناسب القصور هو المديح لذلك لُوِّن الشعرُ هناك بهذا اللون، ولُوِّن النقدُ بلونه أيضا، أي نقد شعر المديح .
وقد شجع خلفاءُ بني أمية الشعراءَ على مدحهم و الرد على خصومهم من شيعة وزبيريين ومنحوهم مقابل ذلك جوائز مالية معتبرة . ومن أبرز هؤلاء الشعراء : كُثَيِّر عَزّة، و الأخطَلُ بالخصوص الذي قضى حياته يمدحهم ويعلي من شأنهم ويهجو من ناوأهم.
و قد ارتبط النقد في الشام بطبيعة هذا الشعر، فقد تبع الإكثار من شعر المديح الإكثار من نقد المديح ، وكان من أشهر نماذج شعر المديح للخليفة عبد الملك بن مروان لأنه كان يملك ذوقا أدبيا رفيعا مكنه من الفهم العميق لمحتوى الشعر وصياغته وتوجيه الشعراء وإرشادهم وتصحيح بعض أخطائهم وصورهم الشعرية.
وقد تميزت الحركة النقدية في بيئة الشام بميزتين ، أي بنوعين من النقد ، هما النقد الرسمي و النقد الفني، أما النقد الرسمي فهو ذلك الذي يمثل وجه الخلاف في الرؤيا بين الشاعر وبين الخليفة الممدوح رجل السلطة في رسم صورته الشخصية لأن رجل السلطة يرى نفسه شخصية متميزة غير عادية، ومن ثم كان على الشاعر أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، و أما النقد الفني فيعنى بنقد الصورة الشعرية وهو مقياس نقدي قديم في النقد العربي .
وقد أولى النقاد النقد الفني كذلك في كل من الحجاز و العراق اهتماما بالغا ، ولكن وفق خصوصية كل بيئة وطبيعة شعرها ، و كان لولاة آل مروان في الأمصار كذلك مستوى راق من الذوق الأدبي ، وإحساس مرهف بالصورة الشعرية الجميلة و ما كان يجري في بلاطهم كذلك أشبه بما كان يجري في مديح في بلاط الخلفاء في دمشق عاصمة الخلافة، وكانت أحكامهم على مستوى جيد من الدقة في فهمهم للشعر وحكمهم عليه .
* شواهد نقدية تطبيقية من النقد الرسمي :
مدح ابن قيس الرقيات عبد المالك بن مروان بقصيدة جاء فيها :
إن الأغرّ الذي أبوه أبو العا ص عليه الوقار و الحجب ( )
يعتدل التاج فـــوق مفرقــه عــــلى جبين كأنه الذهب
فقال له الخليفة : يا ين قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم! وتمدح ” مُصْعَبا ” كأنه شهب من الله . وذكَّر الشاعر بما قال في مدح مصعب بن الزبير ، و رأى ذلك أجمل مما قال فيه في قوله:
إنما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظـلماء
ملكه ملك عِزّة ليس فيه جَبروت ( ) ولا فيه كِبرياء
وقال جرير في يزيد بن عبد المالك :
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقهم إليّ قطينا . ( )
فعلق يزيد على معنى البيت قائلا : يقول لي ابن عمي ، ثم يقول لو شئت ساقهم إليّ . أما لو قال : لو شاء ساقهم لأصابَ ، فقد جعلني شرطيا له !!
وقال ذو الرمة يمدح الوالي بلالا بن أبي بردة :
رأيت الناس ينتجعون غيثا فعلت لصَيْدَح ( ) انتجعي ( ) بلالا
فقال الوالي وقد لاحظ خللا في معنى البيت : ” أعلفْهَا قثا و نَوًى ” ، موحيا إلى قلة فطنة الشاعر وضعف خبرته بفن المديح .
وكثيرا ما لفت عبد المالك بن مروان انتباه الشعراء إلى حسن رسم الصورة الشعرية بما يناسب مقامه وإبراز الفضائل الخلقية و الدينية التي تثير إعجاب الرعية، و الدالة على التقوى و العدل و الفضيلة ليكون أهلا للخلافة عند رعيته .
وكان تقدير عبد المالك بن مروان للمقام وإحساسه بجوده المعنى وجمال الصورة دقيقا ينم عن قوة وعمق تذوقه للشعر ، فقد أنشده راعي الإبل مرة :
أخليفة الرحمن أنا مَعْشر حُنفاء نسجُد بكرةً وأصيلا
عرب نرى لله في أموالـنا حـقّ الزكاة منزّلا تــنزيلا
فقال له : ليس هذا بشعر إنما هو شرح إسلام وقراءة آية ، ويعنى بذلك أن مثل هذا الشعر قيم في مضمونه لكنه جاف فقير من الناحية الفنية ، وبالتالي ليس بالشعر الجيد الذي ينبغي أن يكون كذلك في المبنى والمعنى .
المحاضرة السابعة
4 – النقد اللغوي :
بالإضافة إلى أولئك النقاد العرب من خلفاء وشعراء وغير الشعراء من عامة الناس الذين مارسوا النقد وقيموا الشعر و الذين لم يكن لهم في نقدهم في أغلب الأحيان عقل علمي إذ لم يذهبوا في نقدهم إلى تحليل الأدب أو اللغة تحليلا علميا وإنما كان تحليلا أدبيا محضا ، فبالإضافة إلى هؤلاء ظهر فريق آخر من النقاد اللغويين النحويين الذين اتجهوا في نقدهم اتجاها آخر علميا بحثا هو البحث في سلامة اللغة و الأساليب و الصياغة بصفة عامة . وكان لهؤلاء النقاد دور خاص وهام في تاريخ النقد العربي .
وقد برز هذا اللون من النقد ” اللغوي ” منذ أواخر القرن الأول الهجري، وذلك بسبب ما جد من جديد في واقع المجتمع العربي، ومن تغيرات اجتماعية وأدبية وبالخصوص اللغوية، فقد ظهر قوم يتكلمون اللغة العربية تعلما لا سليقة وينقدون اللغة في صياغتها صناعة لا طبعا خالصا، و كلما بَعُد العهدُ بالعصر الجاهلي ضعفت اللغة و السليقة وتشوهت وأصبح الاعتماد في تعلم اللغة على الاكتساب أكثر ، لا على الطبع أو السليقة العربية .
وبمرور السنين ازداد حرص العرب على تنظيم لغتهم ورعايتها و المحافظة عليها وعلى نظام استعمالها على المنوال الذي كانت عليه عند أسلافهم القدماء، وبسبب ما أصابها من ضعف وضمن هذه الغاية ظهر النقد الذي يعنى باللغة فيلاحظها وينظر إليها من حيث مدى استعمالها في أصولها وقواعدها الصحيحة. و ازداد انتشار هذا النوع من النقد اللغوي خاصة خلال القرن الثاني الهجري، نتيجة مجموعة أسباب وعوامل منها ما كان للفتح الإسلامي من الأثر الكبير في تسرب الفساد إلى اللغة العربية ودخول اللحن و التحريف فيها من قِبَل غير الناطقين بها أصلا ، و قد كان هذا عامل من العوامل الأساسية الأولية التي أدت إلى وضع قواعد اللغة العربية قصد وقاية ألسنة الناطقين بها من الزلل و الانحراف .
وضمن هذه الغاية والأسباب ظهرت المدارس اللغوية الأولى في العراق التي عرفت بعد ذلك بمدرسة الكوفة و مدرسة البصرة ، وظهر ضمن هذه المدارس نقّاد وعلماء في اللغة يعتمدون في نقدهم للشعر على مدى سلامة الاستعمال اللغوي وسلامة شعر الشاعر من الأخطاء و راح هؤلاء النقاد يتتبعون كلام العرب القدماء الفصحاء ليستنبطوا منه قواعد النحو ووجوه الاشتقاق ، وجرهم عملهم هذا وغايتهم اللغوية إلى نقد الشعر لا من حيث عذوبته ورقته وجماله الفني أو قيمة مضمونه الفكري وإنما من حيث مدى مطابقة لغة شعر الشاعر أو مخالفتها لأصول اللغة العربية الأم وأصول قواعد الشعر من إعراب ووزن وقافية، و قد دفعهم عملهم كذلك إلى تأمل أو دراسة الشعر الجاهلي والإسلامي للعثور على ما قد يقع فيه بعض الشعراء من أخطاء أو انحراف ، ورغم ما عثروا عليه أحيانا من مآخذ وأغلاط فإن شعر أولئك الشعراء الأوائل بقي في نظرهم النموذج الذي يقتدي به الشاعر المحدث إذا أراد أن يكون شاعرا فعلا .
ومن شواهدهم النقدية اللغوية مثلا ما لاحظه “عيسى بن عمر الثقفي” في رفع الحال في بيت النابغة الذبياني:
فَبِتُّ كَأنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِــيلَةٌ مِنَ الرُّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ
كما آخذ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الفرزدق في قوله :
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمَالِ إِلاَّ مُسْحَتًا أَوْ مُجَـلَّفُ
حيث رفع الفرزدق آخر البيت المعطوف على مسحتا المنصوب. وقد احتار النحويون في علة ذلك .
وقد يضطر الشاعر أحيانا إلى الخروج عن التركيب المنطقي للجملة العربية مما يسبب اعوجاجا في العبارة ويجعل المعنى غامضا معقدا. من ذلك مثلا قول الشاعر الجَعْدِيّ :
وشمول قهوة باكرتها في التباشير من الصبح الأول
والصواب : مع التباشير الأولى من الصبح. وقد رفضوا مثل هذا الاستعمال لما ينجم عنه من إبهام وغموض نتيجةالتقديم و التأخير.
وقد يكون التعقيد اللغوي الذي رفضه هؤلاء النقاد استخدام ألفاظ لها مدلول معين في مدلول آخر غير مدلولها الحقيقي المتعارف عليه، كاستخدام الشاعر لكلمة ” تولب ” بمعنى ” الطفل “. أو استخدام ألفاظ في غرض لا تصلح له في الأصل كاستخدام عنترة لكلمة ” طِحَال” في مقام الغزل :
فرميت غفلة عينه عن شأنه فأصابت حبة قلبها وطحالها .
فقال يونس بن حبيب النحوي معلقا على إدخال كلمة ” طحال ” قائلا : ” إن الطحال لا يدخل في شيء إلا أفسده فهو يخلو من الحزن ومن الشوق ومن حرارة الهوى “.
ويدخل في باب النقد اللغوي كذلك تلك الدراسات اللغوية وتلك الملاحظات والآراء و الأحكام التي أبداها الرواة حول شعر الشعراء الجاهليين و الإسلاميين. ومن هؤلاء الرواة نذكر : أبو عَمْرو بن العَلاء ، و الأصْمَعيّ ، والمفضَّل الضبِّي ، وأبو عُبَيْدَة وابن سَلاَّم الجُمَحِيّ … وغيرهم الذين سجلوا ملاحظاتهم حول رصانة شعر الشعراء و سهولته .
و لاحظ ابن سلاَّم الجُمحيّ أن ألفاظ عدي بن زيد ليست نجديّة ، أي ليست من ألفاظ أهل نجْد الفصيحة الصحيحة ، قد أثار بعض الرواة الشك نفسَه في شعر دؤاد الأيادي، كما علق بعض الرواة على لغة بعض الشعراء الإسلاميين، ومن هؤلاء الرواة الأصمعي الذي يقر بأن الشاعر ” ابن قَيس الرقَيَّات ” ليس بحجة، وأن ذا الرُّمَّة لم يكن فصيحا . ونقد الأصمعي الشاعرَ “الكُمَيْتَ” فقال : ” كان الكُمَيْتُ بن زيْد معلما بالكوفة فلا يكون مثل أهل البدو ” وقال عنه أيضا ” ليس بحجة لأنه مولد ” . وقد اتهم أبو عمر بن العلاء الطِّرِّمَّاحَ بأنه كان ” يكتب ألفاظ النبط ( ) فيعربها ويدخلها في شعر” .
ومن أمثلة نقدهم الأساليب ما يتعلق بالنقد البلاغي كالمجاز و الاستعارة و الغلو في المعاني في شعر المحدثين. وقد رفضوا العديد من استعمالات الشعراء المحدثين لهذه العناصر البلاغية وأعطوا أمثلة نموذجية لما يكون عليه الشعر الجيد .
قال المبرد واصفا ما ينبغي أن يكون عليه شعر الشاعر : ” أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة ونبه فيه بفطنته على ما يخفى على غيره ، وساقه بوصف قوي واختصار قريب وعدل فيه عن الإفراط ” .
وقد علق مرة على شعر أبي نواس وهو شاعر محدث مشهور بقوله : ” وقد استطرف الناس قول أبي نواس … ولا أراه حلوا لإفراطه كقوله :
وأخفتَ أهلَ الشّرك حتى أنه لتخافُك النُّطَفُ التي لم تُخْلَق .
ففي البيت مبالغة كبيرة وغلو في المعنى زائدان. ورفض مثل هذه المبالغات ناجم عن خوف هؤلاء النقاد من أن يؤدي ذلك إلى الانقطاع أو الابتعاد عن الأساليب العربية القديمة الأصيلة ، وفي ذلك تشويه للغة وخطر عليها . ومن الذين سجلت عليهم مآخذ في شعرهم ” أبو تمام ” في مثل قوله :
تروحُ علينا كل يومٍ و تغتدي صروفٌ يكاد الدّهرُ منهن يُصْرَع
وفي قوله :
كانوا برودَ زمانهم فتصدَّعوا فكأنما لبِس الزمانُ الصوفَ .
فقال أحدهم : لقد جُنّ أبو تمام، وتساءل كيف يلبس الزمان الصوف ؟ وكيف يصرع الدهر ؟ فهذه استعمالات غير مألوفة، ومن ثم المبالغة الزائدة و الإفراط في استعمال البديع. والاستعارات البعيدة غير المألوفة تعَدُّ من عيوب الشعر عند هؤلاء النقاد.
إن نقد النقاد اللغويين كما تجلّى لنا كان يرصد كل ما يتعارض في الشعر مع الأسلوب العربي الأصيل و الصياغة البلاغية و اللغوية دون أن يتعرضوا لما في الشعر من أوجه جمالية فنية أو معاني قيمة تغذي العقل. وذلك هو نقد شكليّ لغوي موضوعي بعيد عن الخيال و الذاتية قائم على مراعاة استعمال اللغة في أصولها القديمة كما كانت عند الأسلاف.
المحاضرة الثامنة
5 – النقد في العصر العباسي :
تعد بداية العصر العباسي الحقبة التي أخذ فيها النقد يتجه نحو تأسيس قواعد النقد العلمية التي لم تكن قد ظهرت في النقد الأدبي بشكل واضح قبل الآن ، وكان في طليعة من بادروا إلى تأسيس هذه القواعد العلمية ” ابن سَلاّم الجُمَحِيّ ” أحد علماء أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، فهذا الرجل يعد بحق أحد كبار نقاد الشعر وخبرائه المتوفى سنة 231 هـ ، وذلك من خلال ما أورده في كتابه ” طبقات فحول الشعراء ” الكتاب الذي يعد بحق النواة الأولى في مجال الدراسة الأدبية و النقدية، وأول كتاب جمع فيه العديد من آراء العلماء باللغة و الشعر في شأن قضايا الشعر و الشعراء ، فإن عمله هذا ومن هذه الناحية يعد عملا جليلا وجهدا كبيرا يستحق الثناء والتقدير ، فضلا عن أنه قدم فيه منهجا جديدا سليما إلى حد ما في تحقيق النصوص الشعرية وتمييز صحيحها من منحولها محاولا بما أورد من آراء في هذا الشأن وضع حد للنقد الذوقي الفطري الذي كان يغلب على الأحكام النقدية سابقا ، وذلك بمحاولة إرساء المقومات الموضوعية العلمية للنقد الأدبي .
قسّم ابن سلام مؤلفه المذكور لك في قسمين : مقدمة وموضوع ، وأهم ما ورد في المقدمة هو ضرورة تخليص النقد العربي من الآراء الذاتية الانطباعية التي لا تستند إلى خبرة بالأدب ومعرفة بقواعد الشعر، فقد جعل النقد فنا قائما خاصا له رجاله وخبراؤه الذين لهم من الخبرة و الثقافة ما يمكنهم من الحكم على النصوص الشعرية حكما صحيحا وتمييز جيّدها من ردئيها وصحيحها من منحولها، وهو يريد بذلك أن يقطع الطريق على كل متطفل يخوض في النقد بغير علم ويحكم بدون فهم .
أما موضوع الكتاب فتناول فيه حياة الشعراء الذين تناولهم من حيث درجاتهم وقدراتهم في قول الشعر. وقد صنفهم إلى طبقات ضمن مقاييس معينه اعتبرها كفيلة بتحديد وتصنيف كل طبقة . وتتمثل هذه المقاييس في :
1 – الزمان و المكان :
فانطلاق من فكرة الزمان قسم الشعراء إلى جاهليين وإسلاميين، أما المخضرمين فقد وضعهم في مكانهم موزعين إلى الطبقتين . أما المكان فقسم فيه الشعراء إلى شعراء بادية وهم الأغلبية وشعراء القرى وهم الأقلية، وكان يفضل فيما يبدو من آراء الشعر الجاهلي على الإسلامي، والبدوي على القروي عملا بأحكام النقاد اللغويين الذين يرون أن الشعر الجيد هو ذلك الشعر القديم .
2 – الكثرة :
وقد أعطاها ابن سلام أهمية كبيرة في تقديم شاعر على آخر، لأنها في نظره دليل على قوة الشاعرية، لذلك جعل طَرَفة بن العَبْد و عَبِيد بن الأبْرَص في الطبقة الرابعة نظرا لقلة أشعارهما .
3 – تعدّد الأغراض الشعرية :
جعل تعدد الأغراض الشعرية من المقاييس الأساسية في عملية التصنيف واعتمادا على هذا فضل ” كُثَيِّرًا” على “جَمِيل بُثَيْنَة” بالرغم من اعترافه الواضح بأن “جميلا” يجيد الغزل أفضل من “كُثَيِّر”. وهكذا راح يصنّف الشعراء في طبقات أربع في كل طبقة عشر طبقات جاهليون وعشر إسلاميون مجموعهم ثمانون شاعرا. ثم أضاف لهم شعراء المراثى ، وشعراء القرى وشعراء يهود حتى بلغ عددها ثلاثا وعشرين طبقة، ضمت 114 شاعرا .
وكان عند تناوله الشعراء يحاول التعريف بهم وإعطاء القراء صورة تطول أو تقصر عن ظروف حياتهم وتقديم نماذج من شعرهم كشواهد مستعينا ببعض آراء النقاد السابقين ، ورغم قيمة هذا الجهد فإن أهم عمل قام به وشغل باله هو الرجوع إلى التراث الشعري ومحاولة تنقيته مما أضيف إليه مما قام به أولئك الرواة من عملية الحمل على الشعراء و الوضع عليهم لأسباب عديدة مختلفة متعلقة بطموحات بعضهم ورغبة البعض الآخر في إفساد صورة الشعر وتغيير خريطته .
وفي تصنيف الشعراء كان ابن سلاَّم يفضّل دائما القديم على الجديد بل كان متجاهلا المحدثين، مركزا اهتمامه ونظره على الجاهليين والإسلاميين لنقاوة لغتهم وتمثيلهم تمثيلا حقيقيا للحياة العربية القديمة، ولما رأى أن التعرض بالدراسة لكل الشعر العربي غير ممكن توجه إلى المشهورين من الفحول الذين لا يجهلهم عالم بالشعر لما في شعرهم من روعة فنية وأخبار وبطولات وذكر لرجالات العرب ولطبيعتهم .
4 – التمييز بين الشعر الموضوع و الصحيح :
حاول في بداية الكتاب تحديد الصعوبات و العراقيل التي اعترضت سبيله وأتعبته في هذه القضية، ويؤكد أن الشعر الجاهلي و الإسلامي لم يكن على هذه الصورة التي هو عليها الآن، أي لم يعد كله نقيا سليما ، وإنما أصبح فيه ما يحتاج إلى تمحيصه وفحص ودراسة ، وأن الكثير مما في هذه الأشعار التي بين أيدينا منحولة ومنسوبة ويؤكد على ذلك في قوله : ” وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه فالشعر الجيد في نظره ينبغي أن يكون حجة في عربيته حتى يصلح للدراسة العلمية واللغوية ، وأن يكون شعرا يستفاد منه ، وحتى يكون جديرا بالرواية من قبل الرواة و المؤدبين ، وأن يكون ذا معنى يستخرج مع مثل يضرب ومديح رائع وهجاء مقذع وفخر معجب وبنسيب مستطرف ” .
وقد حمل ابن سلام بعض الرواة المسؤولية في ذلك اللون من الشعر المصنوع المفتعل كونهم لم يأخذوه من مصادره إنما هو شعر منحول ” تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء ” .. ويعنى بذلك العلماء بالشعراء أي النقاد .
وقد خصص لمشكلة الانتحال حيزا واسعا في مقدمة كتابه المذكور. ونلاحظ أنه وبالرغم من أن العديد من العلماء الذين سبقوه كانوا قد أشاروا إلى خطورة هذه القضية ونبهوا إلى ظاهرة الوضع في الشعر وإلى بعض الوضاعين فإن ابن سلام تناولها بعقلية العالم الذي يستخدم عقله وخبرته وثقافته وذوقه للوصول إلى الحكم السليم تجاه كثير من النصوص المنحولة وإلى الرواة الذين قاموا بعملية الوضع ، فقد لاحظ أن ما وصلنا من الشعر القديم قليل إذا ما قيس بما قاله الشعراء فعلا، نظرا لندرة التدوين وانشغال الناس في صدر الإسلام بالفتوحات وهلاك كثير من رواة وحفاظ الشعر مما سبب ضياع الكثير من الشعر ، وحينما انتهت الفتوحات وعاد الناس إلى الشعر وروايته لاحظوا بعض النقص ومن ثم وقع نوع من الزيادة التي كانت وراءها أسباب ودوافع يحصرها في ثلاثة هي :
1 – العصبية القبلية :
حيث لاحظت بعض القبائل قلة شعر شعرائها بالنظر إلى وقرة شعر شعراء القبائل الأخرى فأرادت أن تلحق بمن له الوقائع والأشعار فقال البعض على ألسنة شعرائهم ، ثم زاد الرواة على ذلك بما نحلوه من شعر .
2 – دور الرواة :
وصنّفهم صنفين : رواة أخبار لا ينتمون إلى علم الشعر بصلة، وقد قاموا بنقل الكثير من الأشعار المنحولة ، وقد هاجم ابن سلام هذا الصنف من الرواة الذين أورد بعضهم أشعارا لنساء ورجال مجهولين تماما لم يقولوا شعرا قط، كروايتهم أشعار لعاد وثمود زاعمين أنها صحيحة ، وهناك قسم ثان من الرواة الحقيقيين لكنهم قاموا بنحل أشعار تحت تأثير دوافع الطمع والرغبة في الشهرة لدى الخلفاء و العلماء من رجال اللغة حتى يظهروا بمظهر الراوي المتفوّق عن غيره من الرواة .
وقد حاول ابن سلام كشف زيف تلك الأشعار اعتمادا على ثقافته التاريخية و الدينية و الأدبية، وما هداه إليه ذوقه الأدبي ، كما يبدو في دفعه لأشعار عاد وثمود، وعلى الرغم من دقة وسلامة منهج الشك الذي اعتمده و الأدلة الثابتة التي استعان بها فإنه لم يحسم القضية وصرح بأن قضية النحل قضية صعبة خاصة تلك الأشعار التي صدرت ممن يتميزون بالذكاء و القدرة الشعرية بحيث يستطيعون تقمص شخصية الشاعر، ومن ثم يصعب التمييز بين الصحيح والمنحول. ويصرح بأن المسؤولية مازالت ملقاة على عاتق نقاد الأجيال اللاحقة لتواصل التمحيص والفرز حتى تصل إلى تحقيق النصوص الشعرية الصحيحة التي تطمئن إليها وفي هذا الإطار يدعو إلى ضرورة وجود الناقد المتخصّص الذي يتولى القيام بهذه المهمة و الجدير بإصدار الحكم على النصوص الشعرية وتمييز جيدها من رديئها دون غيره .
وابن سلام بهذا الموقف إنما يريد إخراج الشعر من الفوضى و الأحكام العامة المبنية على الانطباع الشخصي، بمعنى أنه من الآن فصاعدا يجب أن يخضع الشعر إلى دراسة ومناقشة العلماء و المختصين به قبل أن يقبل ويعتمد كمادة للدراسة العلمية و التاريخية و اللغوية وغيرها ، وهو يصرح في ذلك بوضوح قائلا : ” وليس لأحد – إذا أجمع أهل العلم و الرواية الصحيحة على إبطال شيء منه – أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي ، وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه ” .
ويضرب مثلا مما يمارسه بعض المختصين في بعض الأعمال و المهن أو الصناعات الخاصة بهم دون غيرهم حاول أن يجعل مثل ذلك التخصص كذلك في دراسة الشعر مؤكدا أن أي عمل حرفي أو فني لا يمكن أن يقوم به إلا الخبير به دون غيره ويلح على هذا الشرط بقوله : ” وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم و الصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان … يعرف ذلك العلماء عند المعاينة و الاستماع له … كذلك الشعر يعلمه أهل العلم به ” .
وقد ردّ على من شكك في صحة ما ذهب إليه من ضرورة وجود الناقد المتخصص الخبير بقضايا الشعر قائلا : ” قال قائل لخلف الأحمر : إذا سمعت أنا الشعر استحسنته فما أبالي ما قلت أنت فيه وأصحابك ، قال : إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف : إنه رديء فهل ينفعك استحسانك إياه ؟ ” .
1 – أصول منهج بن سلام في نقد الشعر :
اعتمد في فحصه الشعر ودراسته أولا على المنهج التاريخي المعتمد على تاريخ الأحداث ويشير إنه إذا جهلنا تاريخ وحضارة ما أو تنظيمات الأمم البائدة فإنه حتما تنقطع الصلة التاريخية بيننا وبينها وبالتالي لا يمكن أن تصلنا أشعار شعرائها كما هو الأمر في أشعار عاد وثمود، وهو بهذا يشير بإصبع الاتهام إلى أولئك الذين يتحملون مسؤولية تزوير النص الشعري بنسبه إلى عاد وثمود فعقدوا مهمة الناقد، ثم في نفس الوقت يشير إلى ذلك الخلط الذي لحق بالشعر والذي أدى إلى أغلاط علمية وتاريخية وأدبية بما وضعوا من شعر موضوع ومنحول. وقد كان من أشهر واضعيه من الرواة – كما يذكر ابن سلام – إسحاق بن يسار المسؤول في نظره عن الكثير من ذلك الخلط الذي لحق الشعر الجاهلي و الإسلامي فيقول عنه: ” كان إسحاق بن يسار أكثر علمه بالمغَازي والسِّيَر وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول : لا علم لي بالشعر أتينا به فأحمله ” .
ويذكر أن إسحاق قد روى – أي نقل – أشعار رجال ونساء لم يقولوا شعرا ثم جاوز ذلك لعاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة وليس بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف فيعلق على ذلك التزوير فيقول : ” أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر ؟ ومن أداه منذ آلاف السنين ؟ ”
ثم يؤكد أن إسناد الشعر إلى العرب البائدة دليل على عدم صحته وذلك في قوله : ” نحن لا نجد لأولية العرب المعروفين شعرا فكيف بعاد وثمود ؟ “.
2 – منهجه اللغوي :
وقد اعتمد في دراسته للشعر المنحول كذلك على المنهج اللغوي أي على عامل اللغة ليرد من خلالها بعض الأشعار ويقوي وجهة نظره في القضية ويخرج في الأخير بأن هناك اختلافا بين لهجات قبائل العرب البائدة وقبائل العرب اللاحقة، ويرى في هذا الاختلاف ما يحسم القضية، أي نسبة الشعر إلى العرب البائدة مستعينا برأي أبي عمرو بن العلاء العالم باللغة وصاحب الخبرة الذي يقر بوجود اختلاف بين لهجات قبائل العرب البائدة و اللاحقة إذ يقول : ” وقال عمرو بن العلاء في ذلك : ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا ، فكيف بعهد عاد وثمود ؟ ” .
إن ابن سلام يعني بهذا أن لغة الشعر الجاهلي ولغة عصره هي غير لغة الحقب السابقة، وأن لغة الشعر الجاهلي إنما هي فرع للغة عربية كانت من قبل لا تشبه لغة الشعر الجاهلي، وذلك نتيجة ما طرأ عليها من تبدّل وتطوّر، أي أن لغة العرب القدماء هي لغة عربية من حيث النسبة، وبالتالي لا علاقة بين الشعر الجاهلي أو الإسلامي الذي يروى بعربية العرب اللاحقة، وبين ذلك الشعر الذي ينسب للعرب البائدة ، لما في ذلك من تبايُن واختلاف .
ويبدو لنا من خلال كل هذا مدى ذكاء ابن سلام ودقة منهجه الذي أزال به الكثير من الغبار الذي كان يغمر هذه المسألة، واعتبارا لذلك ولمجهوده في وضع الأسس النقدية عُدّ من الأوائل الذين أخرجوا النقد من الإطار العام إلى الإطار الخاص، حيث أصبح له رجاله وخبراؤه الذين يحق لهم إصدار الأحكام دون غيرهم لما لهم من خبرة ودراية بشؤون الشعر وقواعده .
التطبيق 1 :
وفي الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته . وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف . وكان أكثر علمه بالمغازي و السير وغير ذلك فقبل الناس عنه الأشعار . وكان يعتذر منها ويقول : ” لا علم لي بالشعر أوتى به فأحمله ” . ولم يكن ذلك له عذرا، فكتب في السير أشعارا لرجال لم يقولوا شعرا قط,، وأشعارا لنساء فضلا عن الرجال ، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة ، وليس بشعر إنما هو كلام مولّف معقود بقواف، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول : من حمل هذا الشعر ؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين؟
ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة و التقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. وترى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير غير أن الذي ناله من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل كثير.
المصدر : مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي .
• المطلوب :
اشرح النص بالتفصيل مبرزا حُجَجَ ابن سلام بأن بعض الشعر العربي الجاهلي و الإسلامي شعر منحول منسوب .
التطبيق 2 :
قال ابن سلام الجمحي :
وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم ، كسائر أصناف العلم و الصناعات ، منها ما تثقفه العين ، ومنها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان ، من ذلك اللؤلؤ و الياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ، ومن ذلك الجهبذة بالدينار و الدرهم لا تعرف جودتها بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة ، فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها . وقال قائل لخلف الأحمر : إذا سمعت أنا بالشعر استحسنته، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك . قال له : إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف إنه ردئ هل ينفعك استحسانك له ؟
– المطلوب :
إن نقد الشعر عملية خاصة لا يمارسها إلا الناقد المتخصص صاحب الخبرة و العلم بقواعد الشعر . اشرح النص تبيّن فيه هذه الشروط بالتفصيل .
• ملاحظة : الاستعانة بالقاموس لشرح الألفاظ الصعبة .