أ.د.عبدالرحمن أحمد هيجان 10/9/1424هـ الموافق 4/10/2003م
مفهوم «المجتمع المدني» الذي نحن بصدده في هذه الورقة هو مفهوم أوروبي المولد والنشأة والعقيدة. أما من حيث الممارسة فهو ليس محصورًا على الثقافة الأوروبية وإنما شائع في جميع حضارات وثقافات الأمم وإن اختلفت تسمية هذه الممارسة والدرجة التي تطبق بها. هذا المفهوم في صورته الراهنة ينتمي إلى عائلة كبيرة من المفاهيم، بغض النظر عن الترتيب التاريخي لظهورها، من أبرزها مقاومة السلطة المطلقة والليبرالية، والعقد الاجتماعي أو التعاقد الاجتماعي، ونظرية الحق الإلهي للمملوك، والفصل بين الدين والدولة، والتعددية السياسية بدلاً من الحكم المطلق، والحريات العامة في الحياة والملكية والعمل والرأي والمعتقد، وسيادة الأمة أو الشعب، والمواطنة، ونبذ الانتماءات في صيغها الدينية والمذهبية والعرقية،وحركة الشعب أو المواطنين في مقابل الحكومة، ومقاومة البرجوازية، وحقوق الإنسان، والحد من هيمنة الحكومة،والحد من تمركز السلطة في الدولة بفصل الأجهزة التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية، والعلمانية، والتطور الاقتصادي والسياسي والثقافي، والاقتصاد الرأسمالي، والشيوعية والاشتراكية، والشفافية والحاكمية وغير ذلك من المفاهيم الأخرى المرتبطة بالسياسة والإدارة. وكما هي العادة بالنسبة لأي مفهوم يتم تداوله في أوروبا ويوزع على العالم بسهولة، فإنه غالبًا ما يعمد الكتاب الأوروبيون إلى إعادة هذا المفهوم إلى الثقافة اليونانية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبأسلوب سلس أو قسري، ليثبتوا لمجتمعاتهم ولخارج مجتمعاتهم بأن المفهوم قديم، وأن الحديث فيه متواصل، وأن أي حديث عن أي إسهام حضاري لا معنى له إذا لم يرتبط بالحضارة الأوروبية. من ناحية أخرى فلعل المتتبع للكتابة في مثل هذه المفاهيم التي غالبًا ما يكون مصدرها علماء الاجتماع أو التاريخ أو الاقتصاد أو علماء النفس يجد أن هؤلاء الكتاب غالبًا ما ينتمون إلى العقيدة اليهودية أو من خلفية يهودية، كما سنرى لاحقًا، حيث تسعى هذه الفئة إلى تسويق أفكارها بسهولة بحكم أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات والحضارات التي يعيشون فيها. ومن أجل استجلاء طبيعة مفهوم «المجتمع المدني» وعلاقته بواقع مجتمعنا الراهن فإن هناك العديد من الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا الشأن وذلك على النحو الآتي:
1. ما إرهاصات أو مقدمات ظهور مفهوم «المجتمع المدني»؟ ومن أبرز الكتاب في هذا المفهوم؟
2. ما التعريفات المطروحة لمفهوم المجتمع المدني؟ وما التعريف الذي نراه ملائمًا؟
3. ما وسائل أو أدوات تفعيل مفهوم المجتمع المدني؟
من أجل الإجابة على هذه الأسئلة سوف نحاول الاختصار قدر الإمكان وذلك بالتركيز على أبرز النقاط الأساسية بالنسبة لكل سؤال:
السؤال الأول: ما إرهاصات أو مقدمات ظهور مفهوم «المجتمع المدني»؟ ومن أبرز الكتّاب في هذا المفهوم؟ كما ذكرت سلفًا فإن المفهوم أوروبي المولد والنشأة والعقيدة، لذا فإن المؤرخين له بعد أن يتجاوزوا مرحلة الربط بينه وبين الثقافة اليونانية يقفزون مباشرة إلى الحديث عن تاريخ أوروبا الحديثة؛ وذلك من خلال نقد ما كان سائدًا فيها من ممارسات دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية في العصور الوسطى. لقد كانت أبرز الإرهاصات أو المقدمات التي أدت إلى ظهور المجتمع المدني في أوروبا ماثلة في النقاط الآتية:
أ ــ مقاومة النظام السياسي المرتكز على «الحق الإلهي» للملوك والسلطة المطلقة المقدسة بالمعنيين الديني والسياسي. هاتان السلطتان تارة ما تكون مندمجة ومتداخلة فيما بينها بحيث تكون السلطة السياسية هي السلطة الدينية، وتارة ما تكون متكاملة وتارة أخرى تكون متنافرة ومتصارعة كما حصل بين سلطة الكنيسة والسلطة السياسية المتمثلة في الأباطرة الرومان أو الجرمان. وبغضِّ النظر عن طبيعة العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية فقد كان للكنيسة اليد الطولى في تسيير أمور الحياة، وكان الملكُ الذي هو الحاكم السياسي في تلك الفترة غالبًا ما يستمد سلطته من السلطة الدينية حيث أفرز ذلك الوضع مفهوم أو نظرية الحق الإلهي وهو ما أدى ــ من وجهة نظر الكتّاب الأوروبيين ــ إلى إقصاء المجتمع وتهميشه لصالح سلطة مطلقة متعالية.
ب ــ تقسيم المجتمعات إلى طبقات أبرزها طبقة النبلاء، وطبقة رجال الدين، وطبقة العاملين بمختلف فئاتها، والتي كانت تشكل الأخيرة منها حوالي 98% من السكان، ولكنها محرومة الحقوق، الأمر الذي قاد إلى حركة الإصلاح الديني والسياسي في أوروبا، حيث مهّد هذا الوضع إلى وقوع الثورة الفرنسية.
جـ ــ ظهور الحركات الإصلاحية المناوئة للأوضاع السياسية والدينية التي كانت قائمة في أوروبا خلال العصور الوسطى، وكان من أبرزها حركة مارتن لوثر والإصلاح الديني البروتستانتية (1483-1546م). لقد حاول مارتن لوثر مقاومة سيطرة الكنيسة وهيمنتها؛ حيث نادى بالتخلص من كل العبوديات التي كانت تنادي بها الكنيسة ما عدا العبودية للخالق. غير أنّه في حركته هذه لم يستطع الخروج من قالبه المسيحي؛ إذ لم يكن يتصور أن هناك خلاصًا لأي إنسان خارج المسيحية، حيث كان يرى أن الإنسان الكامل هو الإنسان المسيحي المؤمن.
د ــ بروز حركة التنوير أو الثورة العلمية منذ القرن السابع عشر الميلادي، وذلك من خلال المفكرين الذين حاولوا أن يغيروا التصورات القديمة عن العالم الطبيعي وبخاصة ما جاء منها في أفكار بطليموس والتصورات اليونانية المختلفة عن الإنسان. لقد كانت أفكار نيوتن وهارفي وديكارت وباسكال وكيبلر وجاليلوا من أهم الأفكار البارزة في عصر حركة التنوير الأولى. لقد كانت الفكرة الأساسية التي ميزت مفكري التنوير هي أن البشر يستطيعون أن يبلغوا قدرًا من الكمال على الأرض؛ وذلك من خلال سيطرة الإنسان على الطبيعة، والبعد عن الميتافيزيقيات، واستثمار طاقات العقل، ومن ثم ربط التقدم العلمي بالمعنى الثقافي والأخلاقي للأمة. لقد قادت أفكار التنويريين الأوائل إلى ظهور مفكرين بارزين من أمثال آدم سمث صاحب كتاب «ثروة الأمم» وجان جاك رسوا وجون آدمز وفولتير. لقد قادت حركة التنويريين إلى ظهور الدستور في إنجلترا، كما مهدت للثورة الفرنسية، وظهور الموسوعة الثقافية أداة فاعلة للصراع ضد السلطة إلى جانب ظهور حركة الليبرالية بعدها خطًا مقاومًا للأفكار المسيحية الدينية، وبالتحديد الأفكار الكاثولوكية.
على أن النتيجة البارزة لحركة التنويريين هي صياغة «مفهوم المجتمع المدني» على أساس المواطنة القومية، وإسقاط كل الانتماءات السائدة آنذاك من طائفية أو مذهبية، وتغيير مفهوم الأغلبية الذي كان دينيًا؛ ليصبح سياسيًا مستندًا إلى قاعدة سياسية وحزبية تستمد قوتها من خلال أصوات الناخبين التي قادت في النهاية إلى ظهور الدساتير.
هـ ــ مقاومة أي دعوة للسلطة المطلقة التي كان يدعو إليها أشخاص، مثل: بوسية وتوماس هوبز صاحب كتاب «التنين» (1797-1709م) الذي كانت أفكاره مماثلة لأفكار «بودان» الذي سبقه بحوالي قرن من الزمان. لقد كان أبرز مقاومي السلطة المطلقة كتّاب، مثل: «جون لوك» و «روسو»، حيث ظهر في كتاباتهما مفهوم التعاقد الاجتماعي وحق الملكية، والمواطنة والمساواة والملكية الخاصة والحالة الطبيعية «الفطرة» والأهلية في السيادة والسلطة بدلاً من الخضوع المطلق للحاكم. لقد تمثّلت أهم مكونات المجتمع المدني في هذه المرحلة التأسيسية في مبدأ الحرية الفردية الذي ينطوي على حق الملكية أولاً، اعتمادًا على مفهوم المواطن الذي يشكل اللبنة الأساسية في مضمار المجتمع المدني. أما ما يشكل المبدأ الثاني المكمل لسابقه فهو التعاقد الاجتماعي بين مواطنين أحرار بغية تنظيم شؤون مجتمعهم، في ظل مبدأ سيادة القانون، وهو الركن الثالث، والمبدأ الذي لا غنى عنه لاستمرار الجماعة. وأخيرًا يأتي مبدأ فصل السلطات، ليضمن عدم إساءة استخدام السلطة من قبل فرد أو أقلية، وليؤمّن المشروعية المجتمعية للسلطة القائمة على الاختيار الطوعي للجماعة، لينتج عن المبادئ السابقة ما يسميه «لوك» الحكم المدني الصحيح.
و ــ ظهور الحركة الليبرالية. لقد كانت هذه الحركة استمرارًا لمقاومة سيطرة الكنيسة والحكم المطلق، حيث كانت النزعة الفردية أبرز مرتكزات الليبرالية. لقد كانت أهم دعوات هذه الحركة ماثلة في القول: «إن على كل فرد أن يسوي أموره مع الله بطريقته الخاصة» أو تطبيق مبدأ «دعه يعمل دعه يمر» الذي تبناه المذهب المنفعي في الاقتصاد.
ز ــ التعددية. يُعبَّر عن التعددية بصيغ مختلفة منها التيارات الثقافية والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية وصيغ التعاون النقابي والجمعيات والاتحادات المختلفة. من هذا المنطلق يُفضي مبدأ التعددية إلى أهمية بناء التحالفات، بغية استقطاب الرأي العام، خصوصِا على المستوى السياسي. وقد بينت التجربة الديمقراطية الليبرالية، أهمية ومعنى وجود المعارضة، ودور وسائل الإعلام وحرية التعبير، بصفتها وسائل رقابة اجتماعية، على سبل ممارسة السلطة ومدى التزامها وتطبيقها للقوانين السائدة، بل وإمكانية محاسبتها طبقًا للدستور. وبهذا المعنى، تكون المعارضة صاحبة سلطة أيضًا؛ وإن كانت ممارستها لهذه السلطة متوقفة على شروط وظروف خاصة؛ مما يمنع من احتكار السلطة وتمركزها. ولا يكتمل دور التعددية إلا من خلال تطبيق مبدأ التداول السلمي للسلطة، هذا المبدأ الذي يشكل أحد الأسس التي يتركز عليها النظام الليبرالي. إن تداول السلطة أو دورانها كما يُقال يوسع القاعدة الاجتماعية المعنية باتخاذ القرار والمشاركة في صنعه، عبر الهيئات البرلمانية، وعلى مستوى المجالس المحلية في المدن والمصانع المنتخبة مباشرة، والتي تشارك الإدارة في الإشراف على سير العمل وتقديم الخدمات للمواطنين.
إن أهم رسالة في تيار التعددية تتمثل في ثنائية المجتمع والدولة؛ أي: القبول بوجود مجتمع مدني متعدد الأشكال؛ مما يتيح لعدد كبير من الفاعلين الاجتماعيين إمكانية تولي جزءًا من سلطة الدولة، وخضوع الإدارة العامة لرقابة الرأي العام. لقد ارتكزت التعددية على الأفكار الليبرالية التي نادى بها جون لوك وجون ستيورات مل وجون رولز في كتابه الشهير «نظرية العدالة»، وفوكوياما صاحب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».
ح ــ ظهور الأعمال المساندة لمفهوم المجتمع المدني المتمثلة في كتابات هيغل، وماركس وغرامشي. فلقد ركز هيغل على قضية الضوابط والنظم والقوانين في مقابل السلطة المطلقة، وظهور الهيئات المدنية الحرفية كالنقابات والأندية والجمعيات التعاونية وغرف التجارة والصناعة، وغيرها من المنظمات التعاونية الأخرى التي ينشط عبرها أعضاء المجتمع المدني، ويعبرن عن فعالياتهم السياسية، ومشاركتهم في صنع القرار وفق قوانين ونظم الدولة الليبرالية أو ربما على النقيض منها، وإن كان بالطبع لم يقلل هيغل من مكانة الدولة؛ حيث جعلها تعلو على المجتمع وتقوده. أما كارل ماركس فقد ربط مفهوم المجتمع المدني بالاقتصاد، وذلك بارز من خلال كتاباته المختلفة في إسهام منه في نقد الاقتصاد السياسي «ورأس المال»، وربط مفهوم المجتمع المدني بالقوى الإنتاجية حيث يقول: «إن شكل التعامل المحدد بالقوى الإنتاجية الموجودة في جميع المراحل التاريخية السابقة، والمحدد بدوره لهذه المراحل، هو المجتمع المدني، وإن لهذا المجتمع المدني مقدماته وأسسه في الأسرة البسيطة والمركبة. وأنه لمن الواضح سلفًا أن المجتمع المدني يشكل البؤرة الحقيقية أو المسرح الحقيقي للتاريخ كله». كما يقول في مكان آخر: «يشتمل المجتمع المدني على جميع علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة. إنه يشتمل على مجمل الحياة التجارية والصناعية لمرحلة معينة، وبذلك يتجاوز الدولة والأمة، بالرغم من أنه لابد له على أية حال، من تأكيد ذاته في الخارج من حيث هو دولة، وفي الداخل من حيث هو قومية». لقد كان الاختلاف البارز بين هيغل وماركس ماثلاً في إقرار الأول بأهمية الدولة في حين يقلل ماركس من أهمية الدولة، ويرى أهمية المجتمع المدني على حسابها. أما «غرامشي» فتعد كتاباته من أبرز الأطروحات في مجال المجتمع المدني، وبخاصة للمثقفين العرب؛ حيث ركز على عنصر الثقافة. فلقد عرّف غرامشي المجتمع المدني بأنه «الهيمنة الثقافية والسياسية، حيث تمارس الطبقة الاجتماعية هيمنتها على كامل المجتمع كاحتواء أخلاقي للدولة». كما ينظر غرامشي إلى الدولة بصفتها المجتمع السياسي زائد المجتمع المدني. لقد كان غرامشي ينظر إلى المجتمع المدني بصفته فضاء للهيمنة الثقافية الأيديولوجية حيث تسعى التنظيمات الخاصة، مثل: دور العبادة، والنقابات، والمدارس إلى تنسيق، وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية؛ كمقدمة لابد منها لتحقيق السيادة السياسية؛ وذلك من خلال فاعلية الحزب «المثقف الجمعي»، وقدرته على تعبئة وحشد كل أصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته كونه يحمل لواء الإصلاح والتغيير، ويسعى لنشر هيمنته الثقافية والسياسية على كامل المجتمع المدني. وهكذا يرى غرامشي على غرار «ابن خلدون» أن المطاولة الثقافية هي أساس وشرط نجاح المطاولة السياسية.
ط ــ تبني الحركات الديمقراطية لمفهوم المجتمع المدني بعدها محققًا لمطالب الليبرالية والعدالة والمساواة والتصويت وحركة الشعب، والالتزام بالقانون، والحد من السيادة المطلقة للحاكم… . هذه المفاهيم وجدت صداها في ظهور قانون الحقوق في بريطانيا 1689م، والدستور الأمريكي 1787م، والثورات الفرنسية المتتالية في الأعوام 1830- 1848- 1871م. وبإيجاز يمكن القول بأن مفهوم المجتمع المدني في الثقافة الأوروبية هي نتاج الوضع التاريخي في أوروبا بخاصة ما يتصل منها بسيادة الكنيسة والحاكمية المطلقة؛ حيث أدى هذا الوضع إلى النظر إلى الدولة نظرة سلبية إما بعدها وضعًا متطرفًا أو جهازًا قمعيًا أو وسيلة للسيطرة، وأن الدولة ليست هي الذي يكيف المجتمع المدني بل إن المجتمع المدني هو الذي يكيف الدولة. هذه النظرة للدولة في مقابل المجتمع المدني جعل الاهتمام يتحول من الكتابة في مكانتها ودورها في المجتمع إلى الاهتمام بموضوعات أخرى، مثل: الحركات الاجتماعية والطلابية والثقافية والعمالية والنسوية.
أما في العالم العربي فإن تعامله مع مفهوم المجتمع المدني يدخل في جملته في إطار تأثر الثقافة العربية بالثقافات الأجنبية، وعلى وجه التحديد الثقافة الأوروبية والأمريكية مثله في ذلك مثل التأثر بمعطيات التقنية أو الموضة بشتى صورها المختلفة. على أنه ومع الإقرار بوجود مثل هذا التأثر إلا أن تلقي واستجابة المفكرين والمثقفين العرب للمفاهيم الأجنبية بشكل عام والغربية بشكل خاص ليس على وتيرة واحدة، فمنهم من يرفضها على الإطلاق، ومنهم يقبلها أيضًا على الإطلاق، ومنهم من يحاول إرجاع هذه المفاهيم إلى بعض الممارسات العربية أو الإسلامية؛ ليسوغ ويسوق لقبولها في المجتمع، وهناك طرف ثالث يحاول أن يكيّف هذه المفاهيم بما يتفق وقيم المجتمع العربي بشكل عام ومجتمعه الذي يتواجد فيه بشكل خاص، هذا الوضع المتعلق بالتعامل مع المفاهيم الأجنبية إذا ما حاولنا تطبيقه على مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي فإننا وقبل كل شيء يجب أن نفهم حقيقة المجتمع العربي في الوقت الراهن. هذا المجتمع العربي في جملته يعاني في الوقت الراهن من كثير من الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية الناجمة عن البنية الاقتصادية الهشة، والحملات الإعلامية الغربية، وعلى وجه التحديد الأمريكية والصهيونية، والآثار الناجمة عن حروب الخليج المتوالية، ومفاهيم العالم الجديد والعولمة. والمعتنقين من مثقفي العالم العربي لأي أفكار غربية بغض النظر عن ملاءمتها لقيمنا العربية التي جعلت مقاومته للمفاهيم الأجنبية ضعيفة جدًا.
انطلاقًا من هذه الحقيقة يأتي مفهوم المجتمع المدني كأحد المفاهيم التي برزت الدعوة إليها حديثًا، وعلى وجه التحديد بعد حرب الخليج الثانية، على الرغم من أن ظهورها يعود إلى بداية السبعينيات الميلادية؛ نتيجة للتأثر بأفكار ومؤلفات أنطونيو غرامشي التي وجدت ميولاً كبيرًا لها وبخاصة في بلدان المغرب العربي.
لقد حمل المجتمع المدني في طياته الدعوة إلى التعددية والحزبية، والممارسة للديموقراطية الغربية، والتركيز على الثقافة، وإعطائها الدور الأكبر في الإسهام في حركة المجتمع السياسية، وقيام تنظيمات أو منظمات توعية أو رسمية مستقلة عن السلطة السياسية تهدف إلى تعزيز التماسك والتضامن بين أعضاء المجتمع في مقابل الاستقلال النسبي عن الدولة أو الحد من قوتها بل وإقصاء الدولة إذا اقتضى الأمر ذلك. ومن أجل تحقيق هذه المطالب فقد برزت مفاهيم مصاحبة للمجتمع المدني، مثل: المواطنة، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية والشرعية والثقافية … .
على أن التعامل مع مفهوم المجتمع المدني وتسويقه في الثقافة العربية لم يكن على وتيرة واحدة. ففي الوقت الذي حاول فيه بعض المفكرين قبول هذا المفهوم بمضامينه الأوروبية أو الغربية كاملة نجد أن هناك من يحاول إيجاد مفاهيم وتصورات بديلة لهذا المفهوم الغربي من خلال البحث في مخزون ذاكرة الثقافة العربية بما يسهل قبوله لدى المواطن والمفكر العربي وتعبيرًا عن رفض الهيمنة الغربية. هذه المفاهيم البديلة تمثلت في استخدام مصطلحات من قبيل «المجتمع الأهلي» بدلاً من المجتمع المدني «والجماعة» عوضًا عن المجتمع السياسي ومجتمع المدنية والسياسة المدنية. بل لقد حاول بعض المتحمسين للثقافة العربية ربط مفهوم المجتمع المدني ببعض الممارسات التاريخية الإسلامية، وبخاصة ما حدث في عهد الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيما تم التعبير عنه بمسمى «وثيقة المدينة» أو «الصحيفة» أو ما أطلق عليه البعض «دستور المدينة». وكما حاول بعض المفكرين العرب تكييف هذا المفهوم بما يتفق وقيم الثقافة العربية نجد البعض يعترض بل ويرفض مفهوم المجتمع المدني انطلاقًا من مفاهيم الخطاب الماركسي الذي نظر إلى هذا المفهوم بعده مفهومًا برجوازيًا، وأنّ تداوله أو تبنيه يصب في خدمة الأيديولوجية البرجوازية. هذا التناقض في التعامل مع مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي ازداد تعقيدًا نتيجة لعدم الاتفاق على تعريف موحد للمفهوم، ومحاولة التأكيد على المفهوم البديل وبخاصة مفهوم المجتمع الأهلي الذي يتذبذب بين قبول ورفض مكونات المجتمعات الطائفية والقبلية والعائلية، وحرصه على الاستقلال النسبي عن الدولة ومؤسساتها من خلال قيام الأهالي بأدوار التنظيم الاجتماعي والتعليم، وتقديم بعض الخدمات الصحية والاجتماعية عبر معطيات متأصلة في التاريخ الإسلامي، مثل: الزكاة والوقف والمسجد والزوايا والتكايا والمستشفيات، أو ممارسات حديثة كالجلسات الخاصة أو الاجتماعات الدورية أو الديوانيات. من ناحية أخرى فإن التأكيد على الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي وعدّ الثاني خصمًا للأول قد أوجد نوعًا من الاختلاط والتشويش في فهم مصطلح المجتمع المدني في الثقافة العربية، وممارسته على أسلوب واضح نزيه. وأخيرًا فإن الأمر بالنسبة لتسويق مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي قد واجه معوقات أخرى جعلته يعاني في حد ذاته من القصور بل والنبذ؛ حيث تم ربطه بمفاهيم فضفاضة أو غير مقبولة لأغلب قطاعات المجتمع العربي. من هذه المفاهيم: التسامح الديني والاجتماعي والفكري، وحقوق المرأة والديموقراطية الغربية والعلمانية. بل لقد وصل البعض إلى حد القول إلى أنه لا يمكن تطبيق مفهوم المجتمع المدني دون ديموقراطية، وأنه لا يمكن تصور ديموقراطية دون علمانية، ليحصر القضية بعد ذلك في صورة خلاف بين الدين والسياسة. بناءً على هذه النتيجة يدعو بعض المتحمسين للمجتمع المدني إلى إعادة التفكير بالعلمانية؛ بغية إعادة تصور مختلف للعلاقة بين رجل الدين ورجل السياسة يُنهي على حد تعبيره القطيعة بينهما، ويمكن العلمانية من الاندراج في نسيج المجتمع المدني.
مما سبق نخلص إلى القول بأن مفهوم المجتمع المدني هو مفهوم أوروبي بشكل خاص وغربي بشكل عام. لقد وُلد هذا المفهوم في أحضان الثقافة الأوروبية بسبب العلاقة بين الكنيسة والمجتمع والدولة والكنيسة والدولة والمجتمع؛ حيث نشأ الصراع بينهما من أجل الحد من هيمنة أيًّا منهما حيث كانت نتيجتها الدفع نحو إشراك أفراد المجتمع ومؤسساته الخاصة في قرار وأنشطة المجتمع، وإن كانت حدود هذه المشاركة ومجالاتها غير محددة أو واضحة المعالم. لذلك نجد على سبيل المثال أن مفهوم المجتمع المدني لا يحظى بكثير من القبول في الثقافة البريطانية في مقابل قوة الدولة وبالعكس في إيطاليا التي تتولى مؤسسات المجتمع المدني الكثير من أنشطة المجتمع بل وتنافس الحكومة في كثير من أدوارها بينما نجد الصورة مختلفة في فرنسا وبقية بلدان أوروبا وأمريكا.
أما في العالم العربي فإنَّ المفهوم ما يزال متأرجحًا بين القبول والرفض بسبب ما ارتبط به من مفاهيم غير مقبولة سواءً بالنسبة لأعضاء المجتمع أو الحكومة كإقصاء الدولة، أو الحد من هيمنتها والديموقراطية الغربية والعلمانية. وإن كانت الضغوط الغربية على المجتمع العربي تبرز في وقتنا الراهن أكثر مما سبق، وتدفع باتجاه تبني هذا المفهوم وغيره من المفاهيم الغربية الأخرى السياسية والاجتماعية.
السؤال الثاني: ما التعريفات المطروحة لمفهوم المجتمع المدني؟ وما التعريف الذي نراه ملائمًا؟ لا يوجد في الواقع اتفاق بين المفكرين أو المنظرين حول تعريف مفهوم المجتمع المدني، وذلك عائد إلى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في كل عصر يتم فيه طرح هذا المفهوم والتعامل معه. ففي المراحل الأولى لظهور هذا المفهوم نجد التركيز قائمًا على أساس الحد من سلطة الكنيسة، ومشاركة المجتمع في بعض قراراتها؛ ليتطور الأمر بعد ذلك إلى التأكيد على أهمية مشاركة المجتمع مع بقاء التأكيد على أهمية دور السلطة المالكة أو الملك كما كان سائدًا في أوروبا. هذا الوضع تغير بعد ذلك؛ حيث تحولت الدعوة إلى مهاجمة الحكومة ذاتها، والعمل على الحد من قوتها أو مشاركتها في السلطة من خلال المؤسسات الاجتماعية، وذلك على الرغم من عدم تحديد نطاق هذه المشاركة أو مجالاتها حيث بقي المفهوم عائمًا في هذا الصدد سواء من حيث التعريف أو الممارسة .
وبغض النظر عن الإشكالية المرتبطة بتعريف مفهوم المجتمع المدني فإن ذلك لن يحول دون تقديمنا لبعض التعريفات لهذا المفهوم والتي نختار من بينها التعريفات الآتية:
1. المجتمع المدني: هو المفهوم القائم على أساس المواطنة القومية، وإسقاط الانتماءات القديمة من طائفية ومذهبية وقبلية.
2. المجتمع المدني: هو المجتمع الذي يعترف بحق المواطن الإنسان الفرد بدلاً من مفاهيم المؤمن وغير المؤمن الرجل أو المرأة الحر والعبد.
3. المجتمع المدني: تعني قوة المجتمع بجانب السلطة حيث تنطلق مكونات هذا المجتمع من مبدأ الحرية الفردية الذي ينطوي على حق الملكية أولاً، واعتمادًا على مفهوم المواطن الذي يشكل اللبنة الأساسية في مضمار المجتمع المدني. أما ما يشكل المبدأ الثاني المكمل لسابقه فهو التعاقد الاجتماعي بين مواطنين أحرار؛ بغية تنظيم شؤون مجتمعهم، في ظل مبدأ سيادة القانون، وهو الركن الثالث، والمبدأ الذي لا غنى عنه لاستمرار الجماعة. وأخيرًا يأتي مبدأ فصل السلطات؛ ليضمن عدم إساءة استخدام السلطة من قبل فرد أو أقلية، وليؤمِّن المشروعية المجتمعية للسلطة القائمة على الاختيار الطوعي للجماعة؛ لينتج عن المبادئ السابقة ما يسميه «لوك» الحكم المدني الصحيح.
4. المجتمع المدني: يعني الليبرالية والتعددية والمعارضة، وبناء التحالفات؛ بغية استقطاب الرأي العام، ومشاركة الدولة في اتخاذ القرار عبر الهيئات البرلمانية والمجالس المحلية.
5. المجتمع المدني: هو المجتمع القائم على أساس الفرد الجزئي؛ حيث يصبح المجتمع المدني تركيبًا من أعضاء مستقلين يتخذ كل منهم نظرة خاصة تجاه الأشياء، ويعمل من أجل غاياته الخاصة.
6. المجتمع المدني: هو المجتمع المحدد بالقوى الإنتاجية الموجودة في جميع المراحل التاريخية، وأن لهذا المجتمع مقدماته أو أسسه في الأسرة البسيطة والمركبة، وأنه لمن الواضح سلفًا أن المجتمع المدني يشكل البؤرة الحقيقية أو المسرح الحقيقي للتاريخ كله.
7. المجتمع المدني: يعني الهيمنة الثقافية والسياسية، حيث تمارس الطبقة الاجتماعية هيمنتها على كامل المجتمع كاحتواء أخلاقي للدولة.
8. المجتمع المدني: هو جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة؛ لتحقيق أغراض عدة. منها: أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرارات على المستوى القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة. ومنها أغراض مهنية كما هي الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة، والدفاع عن مصالح أعضائها. ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقًا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية؛ وبالتالي يمكن القول بأن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي : الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، النقابات المهنية، الجمعيات الاجتماعية والثقافية.
9. المجتمع المدني: هو مجموعة التنظيمات التطوعية التي تنشأ بالإرادة الحرة؛ لتملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وتشمل تنظيمات المجتمع المدني كلاً من الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية والتعاونيات؛ أي: كل ما هو غير حكومي، وكل ما هو غير عائلي أو إرثي (من الوراثة). والمجتمع المدني هو الأجزاء المنظمة من المجتمع العام. المجتمع المدني هو مجتمع عضويات فبقدر ما يحمل أي مواطن من بطاقات عضوية فبقدر ما يكون عضوًا نشيطًا في مجتمعه المدني.
من التعريفات السابقة نخلص إلى ما يأتي:
1. لا يوجد تعريف محدد لمفهوم المجتمع المدني؛ حيث إن كل تعريف يمثل المرحلة أو الفترة الزمنية التي ظهر فيها هذا التعريف.
2. إن التعريفات الراهنة لمفهوم المجتمع المدني تتجه نحو تفعيل حركة المجتمع فيما يتصل بالمشاركة في اتخاذ القرار على مستوى الدولة، وذلك من خلال الأحزاب أو المنظمات أو الجمعيات أو الأفراد، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى الحد من قوة أو سلطة أو ممارسة الدولة.
3. إن مفهوم المجتمع المدني في العالم العربي هو انعكاس لتعريفه في المجتمع الغربي، وإن كان هذا التعريف محددًا لكثير من القيم الإسلامية العربية التي جعلت قبوله صعبًا جدًا سواء من قبل قطاع المجتمع أو السياسيين، نظرًا لتداخله مع مفاهيم أخرى، مثل: الليبرالية والماركسية والعلمانية والتعددية والجزئية.
وتبعًا لذلك يمكننا تعريف المجتمع المدني بأنه حركة المجتمع غير الرسمية من خلال أفراد أو جمعيات معينة تهدف جميعها إلى مشاركة الدولة في اتخاذ القرار بأبسط صورة أو تقليص دورها إلى أقصى حد ممكن.
السؤال الثالث: ما وسائل أو أدوات تفعيل مفهوم المجتمع المدني؟ بالرجوع إلى تاريخ ظهور مفهوم المجتمع المدني نجد أن هناك العديد من الوسائل أو الأدوات التي تم استخدامها من أجل تفعيل هذا المفهوم في المجتمع. هذه الأدوات تتراوح ما بين الحوار ومحاولة الإصلاح إلى اللجوء إلى العنف، وتغيير النظام السياسي بالكامل. لذا يمكن أن نجمل وسائل تفعيل المجتمع المدني في النقاط الآتية:
1. ظهور الحركات التصحيحية.
2. توظيف مفهوم التربية المدنية.
3. استثمار واستغلال بعض المفاهيم والممارسات السائدة في المجتمعات الغربية والشرقية، مثل: الحرية، والديموقراطية، والعدالة، والمساواة، إما لأغراض مباشرة أو غير مباشرة نبيلة أو غير نبيلة.
4. تفعيل المؤسسات والتنظيمات الحرة المدافعة عن مصالح الأفراد والجماعات في إطار القوانين التي تسنها الدولة.
5. تحرير السوق والتركيز عليه كمجال للتبادل والتنافس وفق شروط مدروسة أو مقررة.
6. الضغط على الحكومات من خلال الاستعانة بالمنظمات العالمية أو الحكومات الأجنبية.
7. الدعوات الفردية التي تعمل على مساندة ودعم الحكومة من خلال تبصيرها ببعض جوانب القصور لديها.
8. الدعوات الفردية التي تعمل على التعبير عن وجهة نظرها حول عدم إقرارها لممارسات الحكومة، وذلك من خلال وسائل الإعلام، أو الانضمام لبعض المنظمات والجمعيات الوطنية أو العالمية.
9. استثمار المؤسسات والتنظيمات القائمة التي تسمح بوجودها الدولة كالأندية الأدبية والرياضية والثقافية والاجتماعية والخيرية والجمعيات العلمية والجلسات الخاصة الدورية.
10. استخدام العنف والعنف المضاد من قبل بعض الأفراد والجماعات بهدف تغيير الأوضاع القائمة.
يعتقد المنادون بتطبيق مفهوم المجتمع المدني بأن الطبيعة التطوعية لتنظيمات أو مؤسسات المجتمع المدني هي سر قوتها في مقابل قوة الدولة، وأن عضوية هذه التنظيمات تعطي الفرد إحساسًا بأنه قادر على التأثير، ولو بقدر متواضع في بيئته الاجتماعية. كما تعطيه قدرًا ولو متواضعًا من الشعور بالأمان الجماعي في مواجهة الدولة، وتتيح له عددًا كبيرًا من فرص النمو الذاتي، كما تزوده بقدر لا بأس به من المهارات التنظيمية والسياسية. بل يذهب البعض إلى القول بأن تنظيمات المجتمع المدني هي التي تملأ الفراغ الذي يترتب على تقهقر الدولة في مجالات خدمية أو إنتاجية كانت تقوم بها أو تعوض ولو جزئيًا من عجز الدولة عن الوفاء بهذه المتطلبات الخدمية الإنتاجية.
وخلاصة القول بأن هناك العديد من الوسائل أو الأدوات التي تُطبق من أجل تفعيل مفهوم المجتمع المدني، والتي تتراوح ما بين أسلوب الحوار والسِّلم إلى أسلوب العنف والمقاومة، والتي تتباين غايتها من محاولة إصلاح مسيرة وأخطاء الحكومة إلى محاولة إقصائها. هذه الوسائل في مجملها لا تنظر بعين الرضا إلى الحكومة في وقتها الراهن، ولا تؤمن بسيادتها المطلقة في القرار بل قد يصل الأمر إلى عدم الثقة بها وبخاصة في العالم العربي.
انطلاقًا من الحقائق السابقة يمكن القول بأننا أمام أربع خيارات رئيسية للتعامل مع مفهوم المجتمع المدني، هذه الخيارات هي على النحو الآتي:
الخيار الأول: رفض مفهوم «المجتمع المدني»، وكل ما يحمله من مضامين بعده مفهومًا غربيًا غير محمود الدلالة والمقاصد. هذا الخيار قد لا يكون مقبولاً في وقتنا الراهن، وذلك بسبب تشابك مصالح وثقافة المجتمع السعودي مع مصالح وثقافات المجتمعات الأخرى التي تفرض علينا الاستفادة من تجاربها، والتجاوب مع أطروحاتها بما يتفق مع ثقافتنا الإسلامية العربية.
الخيار الثاني: قبول مفهوم «المجتمع المدني» بالكامل بغض النظر عن إيجابياته أو سلبياته. هذا الخيار ليس بأحسن حالاً من سابقه؛ وذلك لأن مفهوم المجتمع المدني يتضمن الكثير من المعطيات والمتطلبات التي تتعارض مع معتقداتنا وقيمنا الإسلامية العربية السعودية. ذلك أن قبول هذا المفهوم على إطلاقه يقتضي ما يأتي:
أ ـ الإيمان بحرية حركة الناس، وذلك فيما يتصل باختيار من يحكمهم، ومن يمثلهم في مؤسسات الدولة، وأن ينتظموا بالشكل المناسب الذي يحقق مصالحهم.
ب ـ كف الدولة عن إدخال يدها في التأثير على التشريعات أو الأنظمة التي تحكم حركة وسير مؤسسات وتنظيمات وأنشطة المجتمع المدني.
جـ ـ إعطاء ضمانات للأفراد والتنظيمات المنخرطة في مسيرة المجتمع المدني بأن حركتهم وأنشطتهم لن تستغل ضدهم في المستقبل من قبل الدولة.
د ـ تغيير كامل الأنظمة أو التشريعات التي تحد من حركة أفراد المجتمع، ومنها حركة المرأة والأقليات والطوائف وبعض التجمعات ذات التوجه الفكري أو السلوكي الذي قد يتناقض مع القيم الإسلامية.
هـ ـ تطبيق منهج التربية المدنية القائم على أساس تعليم المواطن أن يكون مواطنًا وتعليمه طبيعة وحدود العلاقة بينه وبين الحكم والمكان والزمان.
و ـ الدعوة إلى إجراء حوار وطني مع كل فئات المجتمع بغض النظر عن انتماءاتها العقدية أو المذهبية أو القبلية أو الثقافية.
ز ـ إيجاد ميثاق أو نظام يحدد العلاقات بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، على أن يُترك لهذه المؤسسات حرية اختيار الوسائل التي تناسبها فيما يتعلق بممارسة أنشطتها وتحقيق أهدافها.
الخيار الثالث: قبول مفهوم المجتمع المدني وتطويعه بما يتفق وثقافتنا المحلية.
هذا الخيار ليس جديدًا في الواقع بل هو ما يطبق في جله في الوقت الراهن سواء ما يتعلق منه بإتاحة المجال للجمعيات الأهلية، أم الجمعيات الخيرية، أم الجمعيات العلمية أم النوادي أم المجالس الخاصة. غير أننا هنا يجب أن نعيد تقييم تجربتنا في هذا المجال، لتحديد إيجابيات وسلبيات الوضع الراهن، واقتراح الوسائل الممكنة للاستعداد والتهيؤ ما هي؟ ومن يقوم بذلك؟ أو أن المقصود شيء آخر بما يضمن تلبية احتياجات المجتمع، والمواطن والمثقف فيما يتصل بتفعيل مضامين مفهوم المجتمع المدني.
إن تبني مفهوم المصلحة العامة مفهومًا مستمدًا من الشريعة الإسلامية سوف يوفر لنا البديل الأقوى في مواجهة أطروحات وتحديات المجتمع المدني. بل إن تبني مفهوم المصلحة العامة سوف يقلل من انتقادات الآخرين لممارسات الحكومة، كما سيعمل على جلب المزيد من المؤيدين من أبناء المجتمع لمفهوم «المصلحة العامة» بصفته مفهومًا إسلاميًا بديلاً عن المفهوم الغربي «المجتمع المدني».