التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

أقوال النحاة والمفسرين في قوله تعالى : {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ .} ووجه دخول أن

هذه نبذة من أقوالهم
قال الطبري
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول”أن” في قوله:”وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله”، وحذفه من قولهتعليم_الجزائر وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ )؟
قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف”أن” مرة مع قولها: “ما لك”، فتقول:”ما لك لا تفعل كذا”، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر:
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * …
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.
وتثبت”أن” فيه أخرى، توجيها لقولها:”ما لك” إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكرهتعليم_الجزائر مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره تعليم_الجزائر مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ )فوضع”ما منعك” موضع”ما لك”، و”ما لك” موضع”ما منعك”، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر:
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت:… ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم?
انتهى
وهذا يقرب من قول الفراء إن لم يكنه
قال الفراء
وقوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ…}
جاءت (أَن) فى موضع، وأُسقطت من آخر؛ فقال فى موضع آخر: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنونَ بالله والرَّسُولُ يَدْعُوكم} وقال فى موضع آخر: {وما لنا ألاَّ نتوكّل على الله} فمن ألقى (أن) فالكلمة على جهة العربيّة التى لا عِلة فيها، والفعل فى موضع نصب؛ كقول الله – عزَّ وجل -: {فما لِلَّذينَ كفروا قِبَلَكَ مُهْطعين} وكقوله: {فما لَكُمْ فى المنافِقِين فِئَتَيْنِ} فهذا وجه الكلام فى قولك: مالك؟ وما بالُك؟ وما شأنك: أن تنصب فعلها إذا كان اسما، وترفَعه إذا كان فعلا أوّله الياء أو التاء أو النون أو الألف؛ كقول الشاعر:
* مالك تَرْغِين ولا تَرْغُو الخَلِفْ *
الخَلِفَة: التى فى بطنها ولدها.
وأما إذا قال (أن) فإنه مِما ذهب إلى المعنى الذى يحتمل دخول (أن)؛ ألا ترى أن قولك للرجل: مالك لا تصلى فى الجماعة؟ بمعنى ما يمنعك أن تصلى، فأدخلت (أن) فى (مالك) إذ وافق معناها معنى المنع. والدليل على ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {مَا مَنَعَكَ أن لا تسجد إذ أمرتك} وفى موضع آخر: {مالك ألاّ تكون مع الساجدين} وقصة إبليس واحدة، فقال فيه بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا.
انتهى
القول الثاني
أنّ أن زائدة قاله الأخفش
قال الاخفش في معاني القرآن
قال {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فـ{أنْ} ها هنا زائدة كما زيدت بعد “فلما” و”لَما” و”لَوْ” فهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. ومعناه “وَمالنَا لا نُقَاتِلُ” فأعملَ “أَنْ” وهي زائدة كما قال: “ما أَتاني منْ أحَدٍ” فأعمل “مِنْ” وهي زائدة قال الفرزدق: [من البسيط وهو الشاهد السابع والاربعون بعد المئة]:
لَوْ لَمْ تَكُن غَطَفانٌ لا ذُنُوب لَها * إليَّ لامَتْ ذَوو أَحْسابِها عُمَرَا
المعنى: لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفانٌ لَها ذُنُوب. و”لا” زائدة وأعملها.
انتهى
وقد رُد على هذا القول
قال الطبري
أنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل” أن” زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن” أن” زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * …
فإن” لا” غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:”لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها”، إثبات الذنوب لها، كما يقال:”ما أخوك ليس يقوم”، بمعنى: هو يقوم.
القول الثالث
الكسائي كما نقل عنه الفراء
قال الفراء
وقال الكسائى فى إدخالهم (أنْ) فى (مالَك): هو بمنزلة قوله: “مالكم فى ألا تقاتلوا” ولو كان ذلك على ما قال لجاز فى الكلام أن تقول: مالك أَنْ قمت، ومالك أنك قائم؛ لأنك تقول: فى قيامك، ماضيا ومستقبلا، وذلك غير جائز؛ لأن المنع إنما يأتى بالاستقبال؛ تقول: منعتك أن تقوم، ولا تقول: منعتك أن قمتَ. فلذلك جاءت فى (مالك) فى المستقبل ولم تأت فى دائم ولا ماض. فذلك شاهد على اتفاق معنى مالك وما منعك.
ونقل هذا الكلام الطبري في تفسيره وأخذه من الفراء

وكان بعض أهل العربية يقول: أدخلت” أن” في:”ألا تقاتلوا”، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:”ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم”، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:”منعتك أن تقوم”، ولا يقال:”منعتك أن قمت”، فلذلك قيل في” مالك”:”مالك ألا تقوم” ولم يقل:”ما لك أن قمت”.
القول الرابع
أيضا ذكره الفراء ونقله منه الطبري( والطبري كثيرا ما ينقل اقوال الفراء في تفسيره )
وهذا كلام الفراء وهو مفيد
وقد قال بعض النحويين: هى مما أضمِرت فيه الواو، حذِفت من نحو قولك فى الكلام: مالك ولأن تذهب إلى فلان؟ فألقى الواو منها؛ لأن (أن) حرف ليس بمتمكن فى الأسماء.
فيقال: أتجيز أن أقول: مالك أن تقوم، ولا أجيز: مالك القيام [فقال]: لأن القيام اسم صحيح و(أن) اسم ليس بالصحيح. واحتجّ بقول العرب: إياك أن تتكلم، وزعم أن المعنى إياك وأن تتكلم. فردّ ذلك عليه أن العرب تقول: إياك بالباطل أن تنطق، فلو كانت الواو مضمرة فى (أن) لم يجز لما بعد الواو من الأفاعيل أن تقع على ما قبلها؛ ألا ترى أنه غير جائز أن تقول: ضربتك بالجارية وأنت كفيل, تريد: وأنت كفيل بالجارية, وأنك تقول: رأيتك وإيّانا تريد، ولا يجوز رأيتك إيَّانا وتريد؛ قال الشاعر:
فبُحْ بالسرائر فى أهلها * وإيّاك فى غيرهم أن تبوحا
فجاز أن يقع الفعل بعد (أن) على قوله (فى غيرهم)، فدلّ ذلك على أن إضمار الواو فى (أن) لا يجوز.
وأمّا قول الشاعر: * فإياك المَحَايِن أن تحينا *
فإنه حذّره فقال: إياك، ثم نوى الوقفة، ثم استأنف (المحاين) بأمر آخر، كأنه قال: احذر المحايِن، ولو أراد مثل قوله: (إيّاك والباطلَ) لم يجز إلقاء الواو؛ لأنه اسم أُتبع اسما فى نصبه، فكان بمنزلة قوله فى [غير] الأمر: أنت ورأيُكَ وكلُّ ثوب وثمنُه، فكما لم يجز أنت رأيك، أو كلُّ ثوب ثمنه فكذلك لا يجوز: (إيَّاك الباطل) وأنت تريد: إيّاك والباطل.
في الأوهام
وهم السمين الحلبي عند تفسير هذه الاية
ونسب قولا للطبري لم يقله
قال في الدر المصون
والثالث : – وهو أضعفها – مذهب الطبري أن ثم واوا محذوفة قبل قوله : » أن لا نقاتل « . قال : » تقديره : وما لنا ولأن لا نقاتل ، كقولك : إياك أن تتكلم ، أي : إياك وأن تتكلم ، فحذفت الواو ، وهذا كما ترى ضعيف جدا .
فنسب هذا القول للطبري والحقيقة ان هذا ليس قوله ولكن أورده في تفسيره ورد عليه كما سبق ذكره!!!!
الوهم الثاني
وهم الخطيب محقق كتاب مغني اللبيب
قال جاء في إعراب القران للنحاس أن الفراء قال ان معناها وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله
وهذا أجودها
بالرجوع لاعراب القران للنحاس وجدت الآتي
قال الأخفش أن زائدة وقال الفراء هو محمول على المعنى أي وما منعنا كما تقول ما لك ألا تصلي أي ما منعك وقيل المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله وهذا أجودها
أي ان قول الفراء خلاف ما توهمه الدكتور الخطيب
ما يتفرع من المسألة
على قول أن التقدير مالنا في ألا نقاتل
أي تقدير في فيكون ألا نقاتل مصدر مؤول لكن هل هو في محل نصب أم جر
وهذا الجار يتعلق بنفس الجار الذي هولنا أو بما يتعلق هو به
قال سيبويه والبصريون أنه في محل نصب على الحال من لنا العامل في الاستقرار (أي أن في المقدرة متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به العمل الاول لنا
أما الخليل فقوله أنه في محل جر إذ أن في متعلق بنفس الجار لنا وليس الاستقرار

أخيرا أكثر أقوال النحاة على أن التقدير مالنا في ألا نقاتل
واختار الفراء والطبري القول المذكور أعلاه.


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

موقف النحاة من رواية الحديث بالمعنى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا بحث كتبته عن موقف النحاة من رواية الحديث بالمعنى وأثره في الشاهد النحوي
أسأل الله أن ينفع به,
——————–

قال ابن الضائع: “… تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة –كسيبويه وغيره- الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث …”([1]).
وقال أبو حيان: “… وإنما كان ذلك – أي ترك النحاة الاستدلال بالحديث- لأمرين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى …”([2]).
وتابع ابنَ الضائع وأبا حيان كثيرٌ من المعاصرين في تعليل إعراض النحاة الأول عن الاستدلال بالحديث في بناء القواعد النحوية؛ لأن الحديث مروي بالمعنى، ومعظم رواته غير عرب بالطبع، مما أدى إلى تسرب اللحن في مروياتهم وهم لا يشعرون.
وقد بلغ هذا القول مبلغا عظيما عند (دعاة الإلحاد) على حد قول الدكتور محمد أبو زهو “يقول دعاة الإلحاد: إن الأحاديث قد رواها الرواة بالمعنى، لا بالألفاظ المسموعة منه (ص)، وكان هذا شأن الرواة في كل طبقة، يسمعون الأحاديث بألفاظ، ثم يروونها بألفاظ أخرى، وهكذا، حتى وصلت إلينا وقد انطمست معالم ألفاظها ومعانيها، فكان للرواية بالمعنى ضرر كبير في الدين واللغة والأدب؛ ولهذا لم يثق العلماء على اختلاف مشاربهم بالأحاديث، فالمتكلمون ردوا منها ما لا يتفق وما ذهبوا إليه من أصول، والفقهاء أخذوا منها وتركوا، وعلماء العربية لما رأوا الأحاديث قد رويت بالمعنى، ولم يعلموا على اليقين لفظه r الذي نطق به؛ رفضوا أن يستشهدوا بها في إثبات اللغة أو قواعد النحو، في الوقت الذي يستشهدون فيه بكلام أجلاف العرب الذين كانوا يبولون على أعقابهم. قالوا (أي دعاة الإلحاد): وقد كان الواجب يقضي أن تكتب الأحاديث بين يديه صلى الله عليه وسلم كالقرآن، ويتلقاها الرواة طبقة بعد طبقة، مضبوطة الألفاظ، متواترة الإسناد، حتى يمكن الوثوق بها”([3]).
وبادئ ذي بدء يمكن أن أعرف رواية الحديث بالمعنى بأنها رواية الحديث بمعناه دون لفظه الذي تكلم به النبي (ص)، وذلك عن طريق الزيادة أو النقصان في المتن، أو إبدال كلمة مكان أخرى من المترادفات اللفظية، أو تأخيرٍ أو تقديم في المتن، ويشمل ذلك كلام النبي (ص)، وكلام الصحابي إذا كان الحديث موقوفا عليه.([4])
وقد اختلف العلماء في مسألة رواية الحديث بالمعنى إلى فريقين: فريق يرى أنه لا تجوز رواية الحديث بالمعنى، وأنه ينبغي للراوي تأدية الذي سمعه بحروفه دون تدخل منه، وفريق يرى جواز ذلك بشروط اختلفوا فيها اختلافا بيّنا، وقد استدل كل فريق بأدلة عقلية ونقلية لتأييد مذهبه، لا يتسع المقام لبسطها، غير أنهم اتفقوا فيما اتفقوا عليه أنه لا يجوز للجاهل بمعاني المفردات والأساليب العربية رواية الحديث على المعنى([5]).
وعلى نقيض (دعاة الإلحاد) رأى فريق من العلماء أن جواز الرواية بالمعنى في الحديث النبوي من آثار رحمة الله بالناس، فـ”كما حفظ الله شريعتَه بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، رفع الإصر والحرج عن خلقه؛ فأنزل على نبيه الكريم إلى جانب القرآن العزيز نوعا آخر من الوحي هو السنة، أنزلها عليه بالمعنى، وجعل اللفظ إليه إيذانا بأن في الأمر سعة على الأمة، وتخفيفا عليها، وأن المقصود هو مضمونها لا ألفاظها؛ فيجوز لصحابته ومن بعدهم أن يبلغوها عنه صلى الله عليه وسلم باللفظ النبوي، وهو الأولى والأحوط؛ لما في قوله r من أنوار النبوة، وضياء الرسالة، والفصاحة العربية التي لا يلحق شأوه فيها. ويجوز لهم أن يبلغوها عنه r بعبارات ينشؤونها، وأقوال تفي بالمعنى المقصود، ولا يكون ذلك إلا للماهر في لغة العرب وأساليبها، العارف بمعاني الشريعة ومقاصدها؛ حتى لا ينشأ عن الرواية بالمعنى خلل يذهب بالمقصود من الحديث، وفي ذلك من الخطر ما فيه، فإن السنة تبيان للقرآن العزيز، ووحي من رب العالمين، وثاني مصادر التشريع، فالخطأ فيها أثره جسيم، وخطره عظيم …”([6]).
بينما ذهب المانعون من الاستدلال بالحديث في بناء القواعد النحوية إلى أن وقوع الرواية بالمعنى قد أدى إلى عدم وثوقهم بأن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذا علموا يقينا أنه (ص) لم يلفظ بجميع الألفاظ الواردة في الأحاديث، وأن الرواة أتت بالمرادف، ولم تأتِ بلفظه؛ إذ المعنى هو المطلوب عندهم، ولا سيما مع تقادم السماع, وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما ضبط اللفظ فبعيد جدا([7])، وتابعهم بعض المعاصرين في ذلك، فجعلوا “من المعروف المستفيض أن الحديث النبوي الذي وصل إلينا ليس كله كلام الرسول (ص) لفظا، ولكنه كلامه معنى([8])، وقد ضربوا لذلك أمثلة من الحديث النبوي، منها اختلاف روايات حديث (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل، وملائكة في النهار)، وأنه مثال للروايات المختلفة في نص الحديث؛ حتى ليحار النحوي بأي صورة يأخذ([9]).
وفي المقابل ذهب آخرون إلى أن الصورة ليست بهذه القتامة، وأن كثيرا من الروايات التي حكم عليها المانعون أنها مروية بالمعنى ليست إلا لغة من لغات العرب قليلة الاستعمال، أو من بقايا الظواهر اللغوية المدروسة، وخير شاهد على ذلك (لغة يتعاقبون) والتي أثبتت الدراسات الحديثة أن “هذه الظاهرة هي الأصل في اللغات السامية، ففي اللغة العبرية (فماتا كلاهما محلون وكليون)، وكذلك (لا يقومون الأشرار بالعدل)، وفي الآرامية (لئلا يزنوا الآخرون بامرأتك)، وفي الحبشية (فعادوا الشعوب)، وفيها كذلك (وكثروا أطفالهم)، وتعد هذه الظاهرة من الركام اللغوي، أي من بقايا الظواهر اللغوية المندثرة، حيث لا تمحى الظاهرة القديمة دفعة واحدة، بل يتبقى منها بعض الأمثلة التي تبرهن على وجودها على الرغم من اندثارها”([10]).
وعليه فلا يلزم من تعدد الروايات أن نترك الاستدلال بالحديث لأدنى شبهة تعرض في المتن؛ لأن الأصل أن هذه الروايات من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يثبت لدينا أنها من كلام الرواة، وقد قرر هذا الأصل غير واحد من العلماء، مع تسليمهم بوقوع الرواية بالمعنى، ومن هؤلاء الدهلوي، حيث قال: “وكان اهتمام جمهور الرواة عند الرواية بالمعنى برءوس المعاني دون الاعتبارات التي يعرفها المتعمقون من أهل العربية، كاستدلالهم بنحو الفاء والواو، وتقديم كلمة وتأخيرها، ونحو ذلك من التعمق، وكثيرا ما يعبر الراوي الآخر عن تلك القصة فيأتي مكان ذلك الحرف بحرف آخر، والحق أن كل ما يأتي به الراوي فظاهره أنه كلام النبي (ص)، فإن ظهر دليل آخر، وجب المصير إليه …”([11]). وأشار العلامة ابن خلدون في كلامه النفيس أن “غلبة الظن هي مناط الأحكام الشرعية كلها، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فليس اليقين مطلوبا في شيء من ذلك، وهذا الذي عليه كافة العلماء في أن أكثر مدارك الأحكام ظنية، وإذا غلب الظن أن صيغ هذه الأحاديث والكلمات المنقولة لم تبدل، كان ذلك كافيا في صحة الاستدلال بها …”([12]).
وتابعه في ذلك جل النحاة المجيزين للاستدلال بالحديث في بناء القواعد النحوية([13])، فغلبة الظن هي المطلوب في كل مسائل اللغة، وإذا طلبنا اليقين في ذلك لأصابنا العنتُ، ولشق ذلك على النحاة أولهم وآخرهم، وقد أجاب ابن مضاء على من قال: ل”ا يثبت شيء في اللسان بالظن”. فقال له: أما ما لا حاجة تدعو إليه فلا يثبت إلا بدليل قطعي، وأما ما يحتاج إليه مثل ألفاظ اللغة، فإنها إذا نقلها الثقات قُبِلَت، وإن كانت مظنونة، وكذلك غيرها مما تدعو الحاجة إليه”([14]).
ونص ابن الأنباري على ذلك في شروط نقل اللغة، فقال: “…، ويقبل نقل العدل الواحد، ولا يشترط أن يوافقه في النقل غيره؛ لأن الموافقة لا تخلو: إما أن تشترط لحصول العلم أو لغلبة الظن، بطل أن يقال لحصول العلم؛ لأنه لا يحصل العلم بنقل اثنين، فوجب أن يكون لغلبة الظن، وإذا كان لغلبة الظن فقد حصل غلبة الظن بخبر الواحد من غير موافقة”([15]).
وقد نص علماء الحديث على هذا الأصل في مواضع من كتبهم([16])، فليس الأمر على ما ذكره المانعون من أن الرواية بالمعنى قد أدت إلى ارتفاع الوثوق بالأحاديث عند أئمة اللغة والنحو، بل أرجو ألا أكون مخطئا إذا قلتُ: إنهم لم يشيروا إليه، فهذه آثارهم بين أيدينا، فأين ما قالوه، وما نسب إليهم ، بل غاية ما في الأمر أنه قول المانعين، حيث اجتهدوا في تفسير موقفهم الغامض من الاستدلال بالحديث، فقالوا ما قالوه، ونسبوه إلى النحاة الأول، وأظن أنهم برآء منه.
وفي السطور التالية سوف أذكر بعون الوهاب ما انتهيت إليه من أدلة تبرئ النحاة الأول مما نسب إليهم من تركهم الاستدلال بالحديث؛ لأنه مروي بالمعنى:
Ý-لم يصرح أئمة النحاة بذلك. علمنا مما سبق أن هذا التعليل هو قول ابن الضائع وأبي حيان، وأن النحاة لم يصرحوا به، “ولم يشيروا إليه لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك اختلف المتأخرون في تعليل ذلك، وافترضوا عللا من عند أنفسهم”([17])؛ فلا يصح إذا نسبة هذا القول إلى أوائل النحاة.
ȝ-عدم ذكر المسألة في الخلاف بين المدرستين. فلم تنقل لنا الكتب التي عنيت بذكر الخلاف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة أي شيء عن مسألة الاستدلال بالحديث، بله الرواية بالمعنى، وهذا يعني أنهم متفقون على ترك الاستدلال بالحديث، أو على قبول الاستدلال بالحديث، والأول لا يصح عنهم لما نقل من استدلالهم بالحديث، فلزم القول الثاني، والله أعلم.
ʝ-جواز الاستدلال بالحديث هو الأصل، وعلى القائلين بالمنع أن يأتوا بالدليل، فهم مطالبون أولا بتثبيت أنهم لا يستدلون بالحديث في بناء القواعد النحوية، وهذا غير حاصل؛ لاستدلال النحاة الأول بالحديث على قلة, ثم إنهم مطالبون ثانيا بإثبات أنهم تركوا الاستدلال بالحديث من أجل روايته بالمعنى، وأنَّى لهم أن يأتوا بذلك، وهذه كتبهم بين أيدينا لم تشر إلى ما فهمه المانعون.
˝-تأليفهم لكتب غريب الحديث. حيث ألف كثير من أئمة النحاة كتبا في غريب الحديث، منهم أبو زيد الأنصاري([18])، والأخفش([19])، والفراء([20])، والمبرد([21])، وغيرهم الكثير([22])، حتى وصل عددها في نهاية القرن الرابع الهجري إلى ما يقرب من ستين كتابا ورسالة([23])، فكيف يصنفون هذا العدد، وهم يعتقدون أن هذه الأحاديث مروية بالمعنى؟! ولماذا لم يصرح أحدهم بما يضمرون في صدورهم تجاه الحديث؟ ولماذا يتعبون أنفسهم ويهدرون أوقاتهم في تفسير كلام الرواة الذين يروون بالمعنى، حتى إن كثيرا منهم قد يُسأل عن لفظة فلا يعرفها، ويصرح بذلك، وكان الأولى أن يتهم الرواة الذين أتوا بما لا يُعرف، وهم سدنة اللغة، وأساطين النحو.
̝- سؤالات المحدثين والنحاة عن معاني الحديث وإعرابه. فقد نُقِلَ إلينا أن كثيرا من المحدثين وأهل اللغة كانوا يسألون النحاة عن معاني الحديث وإعرابه، ومع ذلك لم يُنقل إلينا قولٌ واحد يفيد بأن أحدهم تعلل بالرواية بالمعنى، وانظروا على سبيل المثال كتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام، حيث نراه يكثر من سؤالاته لأبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، والكسائي، وأبي عبيدة معمر بن المثنى عن الأحاديث النبوية ومعانيها، وقد يجيب أحدهم بأن هذه اللفظة من الحديث لا يعرف له معنى، أو أن الذي يعرفه عنها كذا، وقد يجتمع على عدم معرفة معنى جماعةٌ منهم، وكل ذلك بما لا يقدح في الحديث
͝-توجيه الأحاديث التي استدل بها أحد النحاة نحويا. كانت طائفة من النحاة توجه الحديث الذي استدل به أحد النحاة على غير الوجه الذي استدل به ذلك النحوي، فيسقط الاستدلال به بعد توجيه موضع الشاهد من الحديث([25])، ويؤخذ من هذا أن النحوي الذي تأوَّل الشاهد كان يكفيه أن يرد على مخالفه بأن الحديث مروي بالمعنى, كما يفعل المانعون من الاستدلال مع كل حديث يخالف مذهبهم، فمعنى أنهم يوجهون الحديث نحويا أن مسألة الاستدلال بالحديث لم يتطرق إليها الشك عندهم؛ بسبب روايته بالمعنى، أو غير ذلك من أسباب.
Ν-احتجاج النحاة بروايات الحديث المتعددة. حيث استفاد النحاة من الروايات المختلفة للحديث الواحد، ولو كانوا يذهبون إلى ما ذهب إليه المانعون من ترك الاستدلال بالحديث لروايته بالمعنى ما قبلوا أي حديث هذه صفته؛ لأن الروايات المتعددة للحديث الواحد هي من آثار الرواية بالمعنى على زعم المانعين، فكيف سكتوا على مثل هذا؟ بل كيف استدلوا بهذه الروايات المختلفة الناشئة عن تصرف الرواة، وتغييرهم لكلام النبي (ص) إن نظرة سريعة لاستدلال النحاة بحديث (نهى عن قيل وقال) بروايتي النصب والجر([26]) لكافية في الرد على المانعين، وبيان فساد زعمهم هذا.
فكل هذه الأدلة تؤكد للباحث أن النحاة الأول برآء من تهمة ترك الاستدلال بالحديث لأنه مروي بالمعنى، وأنهم تداولوا الحديث بينهم بلا حرج، ولكنهم لم يكثروا من الاستدلال منه كاستدلالهم بمصادر الاحتجاج الأخرى.
وقد تساءل بعض الباحثين عن السبب الذي حمل “أبا حيان أو غيره على أن يخصوا الحديث النبوي وحده بهذه الصفة، صفة اختلاف الألفاظ في المعنى الواحد، دون سائر المصادر التوثيقية الأخرى للغة العربية”([27])، فإن الشواهد الشعرية على سبيل المثال قد أصابها ما أصاب الحديث النبوي من تعدد الروايات واختلافها، فقد قرر السيوطي أن “كثيرا ما تروى الأبيات على أوجه مختلفة، وربما يكون الشاهد في بعض دون بعض، وقد سئلت مرة قديما فأجبت باحتمال أن يكون الشاعر أنشد مرة هكذا، ومرة هكذا، ثم رأيت ابن هشام قال في شرح الشواهد: “روي قوله: ولا أرضَ أبقلَ إبقالها” بالتذكير والتأنيث مع نقل الهمزة، فإن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير صح الاستشهاد به على الجواز من غير الضرورة، وإلا فقد كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن هنا تكثرت الروايات في بعض الأبيات”([28])، والكلام عن اختلاف الروايات في الشواهد الشعرية طويل الذيل، وفيما ذكرته كفاية([29]).

([1]) الاقتراح،صـ57، 58.

([2]) السابق،صـ56،

([3]) الحديث والمحدثون،صـ199.

([4]) انظر: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي صـ529, ورواية الحديث بالمعنى وأثره في الفقه: (رسالة دكتوراه) لعبد الكريم عبد الرزاق الخطيب, دار العلوم القاهرة 2022م صـ69, 71

([5]) انظر: شرح علل الترمذي لابن رجب الحنبلي، 1/ 145، وتدريب الراوي للسيوطي، 2 /98، وتوجيه النظر إلى أصول الأثر لطاهر الجزائري، 2/ 671، وفي الأخير بسط كبير للمسألة قد لا يوجد في موضع آخر.

([6]) الحديث والمحدثون،صـ18، 19.

([7]) انظر: الاقتراح،صـ56.

([8]) أصول النحو العربي لمحمد خير حلواني،صـ49.

([9]) السابق،صـ51، وانظر: فيض نشر الانشراح، 1/ 519.

([10]) انظر: بحوث ومقالات في اللغة: للدكتور رمضان عبد التواب صـ58

([11]) الإنصاف في بيان سبب الاختلاف، شاه ولي الله الدهلوي (1176هـ)، وقف على طبعه محب الدين الخطيب، القاهرة، 1385هـ،صـ25.

([12]) أجوبة للاستدلال بالأحاديث النبوية على إثبات القواعد النحوية (مخطوط) الورقة الثانية

([13]) منهم الدماميني ، والصبان، والبغدادي.

([14]) الرد على النحاة،صـ90.

([15]) لمع الأدلة في أصول النحو،صـ85.

([16]) قال العراقي: “باب الرواية مبني على غلبة الظن”. طرح التثريب، 2/ 105، وقال بدر الدين الزركشي: “وبالجملة فرواة الأخبار على غلبة الظن…”. النكت على مقدمة ابن الصلاح، 3/ 429، وقال الأمير الصنعاني: “…لأن باب الرواية بالمعنى مبني على غلبة الظن”. توضيح الأفكار بمعاني تنقيح الأنظار 2/222 وانظر: فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، للسخاوي، 3/ 130.

([17]) موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث، صـ400.

([18]) معاجم غريب الحديث والأثر والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو،صـ89.

([19]) السابق،صـ87.

([20]) السابق،صـ85.

([21]) السابق،صـ106.

([22]) منهم النضر بن شميل (ت203هـ)، وأبو عمرو الشيباني (ت206هـ)، وقطرب (ت206هـ)، والأصمعي (ت216هـ)، وابن قادم (ت251هـ)، وشمر بن حمدويه (ت255هـ)، وثعلب (ت291هـ)، وابن كيسان (ت299هـ)، وأبو موسى الحامض (ت305هـ)، وابن دريد (ت321هـ).

([23]) معاجم غريب الحديث والأثر والاستشهاد بالحديث في اللغة والنحو ،صـ82- 126.

([25]) مثال ذلك حديث “إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون”، فقد استدل به الكسائي على حذف ضمير الشأن، وقيل على زيادة (من) في الإيجاب، انظر شرح التسهيل لابن مالك، 2/ 11، وانظر زيادة إيضاح 2/13، وشرح الكافية الشافية، 1/516، 518.

([26]) انظر: الكتاب لسيبويه، 3/ 368، ومعاني القرآن للفراء، 1/ 468، 469، وكتاب اللامات للزجاجي،صـ53، والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري، 2/ 522.

([27]) الحديث النبوي وأثره في الدراسات اللغوية والنحوية،صـ401.

([28]) الاقتراح،صـ74، وانظر: النحو العربي ومناهج التأليف والتحليل،صـ375.

([29]) انظر: حاشية الخضري على شرح ابن عقيل، 1/ 143، والاستشهاد في النحو العربي،صـ325، 326.


التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

الاستدلال بالأولى عند النحاة

يعبر عنه أحيانا بالأولى وأحيانا بالأجدر وهو أن يتبين في الفرع المعنى الذي تعلق به الحكم في الأصل وزيادة .
مثاله : أن يستدل على بناء اسم الإشارة و “ما” التعجبية بأن النحاة أجمعوا على أن الاسم إذا تضمن معنى حرف منطوق به فإنه مبني واسم الإشارة و “ما” التعجبية تضمنا معنى حرف غير منطوق به فبناؤهما أجدر وأولى من بناء غيرهما المتضمن لمعنى حرف منطوق به

مشكوووور على الموضوع

التصنيفات
اللغة العربية وعلومها

من مسالك العلة لدى النحاة

النص
وهو أن ينص العربي الفصيح المحتج بفصاحته على العلة التي بنى عليها كلامه .
من ذلك ما حكاه الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء

أنه سمع بعضهم يقول: جاءته كتابي فاحتقرها . قال أبو عمرو: فقلت: أتقول جاءته كتابي؟ قال: نعم، أليست هي صحيفة؟ .
ففي هذا المثال قد صرح العربي بعلة تأنيثه لكلمة “كتاب” و هو ما فيها من معنى الصحيفة < انظر هذه الحكاية في شرح المرزوقي لحماسة أبي تمام عند شرحه لبيت رويشد بن كثيرٍ الطائي
يأيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت >