التصنيفات
علم الاجتـماع

الهوية

مفهو الهوية : تاريخه وإشكلات

اكتسح مفهوم الهوية في بحر بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية. فقد فرض هذا
المفهوم نفسه حتى غدا بمثابة كلمة سحرية، وذلك في تحليل حقائق جد متنوعة
مثل علم نفس الأفراد، وتحولات الأديان، والعلاقات بين النساء والرجال،
وموضوعات المهن، والحياة الأسرية، والهجرة، والصراعات العرقية. يشهد على
ذلك ما يكتب من افتتاحيات كثيرة عن هذا الموضوع.

لكن لكل نجاح سلبياته؛ فنجاح انتشار مفهوم ما يكون دائماً على حساب تفهمه ومن ناحية أخرى، من النادر أن نجد تعريف “الهوية”.

إذن ماذا وراء هذا الانتشار الكبير؟ ما تعليل هذا النجاح؟

لاشك أنه من أجل الإجابة على هذا السؤال من المفيد أن نسطر -ولو بالخطوط
العريضة- تاريخ تطور دلالة هذه اللفظة في العلوم الإنسانية. فمتى ظهر
مفهوم الهوية بكثافة في الفكر الغربي، وفي أية ظروف؟

إنه سؤال غريب، كما قد يخطر على البال؛ إذ يبدو أن الهوية يمكن أن تعد ضمن
هذه المفاهيم التي ليس لها تاريخ. فهي تعتبر بمثابة كلمة مجردة، يرجع
استعمالها إلى الأصول الأولى للفكر. إن الفلاسفة ما قبل سقراط، مثل
بارميندس أو هراقليطس، كانوا دائماً محتارين حول مسألة هو ذاته والآخر(1)،
وكيف يمكن التوفيق بين التغير والهوية؟ كذلك طرح السؤال. وبالنسبة
لبارميندس، وللإيليين تبعاً له، من الصعب أن نفكر في التحول، لأنه إذا لم
يكن “أ” على ما كان عليه، فهل “أ” يبقى هو “أ”؟ وعلى خلاف ذلك بالنسبة
لهراقليطس: كل شيء في حركة دائمة(2)، ونحن نعرف قولته الشهيرة: “نحن لا
نغطس مرتين في الوادي نفسه”(3).

إذن لمفهوم الهوية -كما نرى- دلالة واسعة وجدّ عامة تتجاوز بكثير قضية
الهوية الإنسانية. يدل على ذلك لغز سفينة تيزوس التي عوضت أجهزتها ومواد
بنائها شيئاً فشيئاً طوال مدة رحلاتها بين بيراس وديلوس(4): فسوفسطائيو
أثينا تساءلوا هل فعلاً يتعلق الأمر في النهاية بالسفينة نفسها؟ المشكلة
إذن تكمن في هذه السفينة التي تم تجديدها كليًّا أو في ذاك الشخص المسمى
سقراط بالنظر إلى جميع مراحل حياته، هل يمكن أن نقول: إنهما هما أنفسهما
بالرغم من التحولات التي طرأت عليهما.

لكن لاشك أن الإشكالية المعاصرة لمفهوم الهوية لا تعود في أصلها إلى
التراث الميتافيزيقي. إذ بعد أكثر من عشرين قرناً، تحددت المسألة، حيث
بدأت تقترب بما يشغل العلوم الإنسانية والاجتماعية حالياً، وذلك بفضل
الطريقة التي طرح بها الفلاسفة الإمبريقيون -وعلى رأسهم دافيد هيوم وجون
لوك-(5) مشكلة الهوية الشخصية: كيف يمكن التفكير في وحدة الأنا في الزمان؟
هل أنا الشخص نفسه الذي كنته قبل عشرين سنة؟ لقد اقترح لوك حل إشكال
الهوية الشخصية بفكرة الذاكرة: إذا كنت الشخص ذاته الذي كان قبل عشرين
سنة، فلأنني أذكر مختلف المراحل التي مر بها وعيي أو شعوري.

إن الإشكال وحله قضيتان عصيبتان، لكنهما تظلان محصورتين في إطار الفلسفة.
وفي الحقيقة، تبقى الهوية الشخصية مسألة تقنية ودقيقة من اختصاص الفلاسفة.
أما بالنسبة للرأي العادي لعموم الناس، فالجواب نعم، فأنا هو نفسه من كان
قبل سنتين، فهذا أمر بدهي. ونذكر أخيراً أنه -فيما بعد- تبنت علوم
“الإدراك البشري”(6) إشكالية لوك ودرستها بطريقة خاصة أكثر نفاذاً. وفي
جميع الأحوال، لا نجد في هذه الأعمال الفلسفية الأصل الحقيقي لتسرب مفهوم
الهوية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية.

* إريك إريكسون: صاحب مفهوم الهوية

لقد قام عالم النفس إ. إريكسون(7) بدور مركزي في انتشار استخدام هذه
الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية. ففي سنة 1933 غادر هذا العالم
-الذي تكوّن في مدرسة التحليل النفسي- فيينا حيث تابع دروس أنا فرويد(
إلى الولايات المتحدة. وهناك اكتشف الأعمال الأنثروبولوجية للمدرسة
الثقافوية، وكان ذلك دافعاً له لتطوير أسس نظرية فرويد في مجال العلوم
الاجتماعية. وفي الواقع، كانت مدرسة “الثقافة والشخصية” -بعلمائها
الأنثربولوجيين كأبرام كاردينر أو مارغريت ميد(9)- تعكف على دراسة العلاقة
بين النماذج الثقافية لمجتمع معين وأنواع الشخصية السائدة بين الأفراد
الذين يشكلون هذا المجتمع. وفي سنوات الثلاثينات عمل إريكسون في المحميات
الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية(10) وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا
الشمالية، ودرس “الاجتثاث الثقافي” لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة.
ثم نشر في سنة 1950 كتاب “طفولة ومجتمع”، حاول فيه تجاوز نظرية فرويد
بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن
الهوية الشخصية تتطور طوال وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية أعمار
في دورة الحياة. و “أزمة الهوية” (وهذا التعبير الذي نقرؤه اليوم في كل
مكان… هو من صياغة إريكسون) تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية:
والأزمة الأبرز هي تلك التي تحدث في المراهقة، لكن يمكن أيضاً أن تحدث في
مرحلة لاحقة من عمر الشخص حين تعرضه لصعوبات خاصة.

لكن في البداية لم يطلع على عمل إريكسون إلا المختصون في علم النفس. وفي
نهاية الخمسينات اشتهر هذا العمل بين جمهور أوسع، خصوصاً مع إعادة طبع
كتاب “طفولة ومجتمع” سنة 1963، والذي يعد حدثاً حقيقياً.

* استخدام علم الاجتماع للمفهوم

كل هذا معروف، ويكاد الجميع يتفق على أن إريكسون هو أب كلمة “الهوية”
بالمعنى المعاصر. لكن يجب أيضاً -كما بينه المؤرخ فيليب كليزون(11) في
التأريخ الدلالي الذي يقترحه للهوية- رصد مسارب أخرى لتوسع استعمال
المفهوم عن طريق استعارة مفهوم “التكنه”، خارج الإطار التحليلي النفسي
(والتكنه يعني لدى سيغموند فرويد الأسلوب الذي به يتمثل الطفل أشياء أو
شخوصاً خارجية)(12).

من جهة، ولأول مرة، ربط الكتاب الهام لعالم النفس كوردن آلبور(13): “في
حقيقة الإذاية”، المنشور سنة 1954، بين تحقيق الذاتية والعرقية. ومن جهة
أخرى، ربط مفهوم التكنه بعلم الاجتماع عبر نظرية الأدوار، وكذلك عبر نظرية
“جماعة المرجعية”. هكذا فسر نيلسون فوت، في بداية الخمسينات، التكنه
باستعارة الفرد الواحد لهوية واحدة أو لسلسلة من الهويات. وعنده أن التكنه
هي الصيرورة التي تمكن من فهم لماذا نبحث عن القيام بدور ما. أما نظرية
مجتمع المرجعية (والتي تعني الجماعة التي يحدد الفرد هويته عبرها وفي
إطارها، فيستعير قيمها ومعاييرها بدون أن يكون بالضرورة عضواً فيها) فقد
كسبت احتراماً بين المشتغلين بعلم الاجتماع، خصوصاً بتأثير روبر
ميرتون(14)، كما ساهمت في توسيع شعبية الهوية ومشتقاتها. وللعلم فقد
اكتسبت هاتان النظريتان الجديدتان أهمية استثنائية داخل حقول علم الاجتماع
وعلم النفس الاجتماعي في الخمسينات.

لكن لم يحتل مفهوم الهوية أهمية حاسمة في معجم علم الاجتماع إلا بواسطة
“التفاعلية الرمزية”؛ إذ هذه المدرسة تبحث بالضبط في الطريقة التي تشكل
عبرها التفاعلات الاجتماعية -وبناء على أنساق رمزية مشتركة- وعي الفرد
بنفسه. وهذا بحث في صميم إشكالية الهوية.

وبالرغم من ذلك لم يستعمل التفاعليون في البداية هذا اللفظ. ولهذا تفسير
قريب، ذلك أن الآباء المؤسسين لمنهج المدرسة -شارل كولي وجورج ميد-(15)
تكلما عن “الذات” Soi، وهو المصطلح الذي راج بين التفاعليين في الستينات.
ثم إن التفاعلية الرمزية انتقلت من استعمال اصطلاح الذات إلى استخدام
اصطلاح الهوية بدءاً من سنة 1963، وذلك حين نشر إيرفين جوفمان -أحد رؤوس
هذه المدرسة-: “آثار الجراح: ملاحظات على أسلوب التعاطي مع هوية
مدمرة”(16) وفي السنة ذاتها شهر بيتر برجر مفهوم الهوية وساهم في انتشار
استعماله، بكتابه: “دعوة إلى دراسة علم الاجتماع”(17)، وذلك حين خصّص له
حيّزاً هاماً في تقديمه لنظريات الأدوار والجماعة المرجعية، وكذا من خلال
المقاربة الظاهراتية التي طورها في كتابه هذا.

* الاعتراف بالأقليات

إذن فانتشار كلمة الهوية وتوسع استخدامها في علوم الاجتماع بالولايات
المتحدة كان في الستينات. ثم إن هذا الاستعمال كثر وتوسع وانتشر بسرعة
كبيرة حتى صار من المستحيل -كما قال ب. كليزون- أن نحدد المعنى الدقيق لكل
استخدام خاص لمفهوم الهوية. ثم إن الوضع السياسي بأمريكا ساهم بدوره في
ترسيخ اصطلاح الهوية، وفرضه على لغة الإعلام كما على التحليل الاجتماعي
والسياسي. ذلك أنه في نهاية الستينات برزت الأقلية الأمريكية من أصل
إفريقي، خصوصاً بظهور منظمة “الفهود السود” سنة 1966. ثم حذت أقليات أخرى
حذو حركة السود مطالبة بالاعتراف بخصوصيتها. وهذه الظرفية أنتجت “صحوة
هوية حقيقية” في سنوات السبعينات. وكما لاحظ ذلك عالم الاجتماع الأمريكي
روجر بروباكر(18)، فإن “تجربة الأمريكيين من أصل إفريقي مع قضية “الإثنية”
باعتبارها تصنيفاً يفرض نفسه، وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديداً ذاتياً
للهوية… هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة،
بل أيضاً في تقديمها لنموذج الاحتجاج على أساس من الهوية، وهو النموذج
الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات، بدءاً من تلك التي تتعلق بالجنس أو
بالاختيار الجنسي، وانتهاء بتلك التي تتأسس على “الانتماء الإثني أو
العرق”.

وقد انعكس هذا في حقل العلوم الاجتماعية على مستوى الهيكلة بتأسيس أقسام
متنوعة بالجامعة الأمريكية مثل الدراسات الأفرو-أمريكية (ويسمى هذا القسم
بـ”الدراسات السوداء”)، والدراسات النسوية، والدراسات الخاصة بطائفة
الشاذين جنسياً، والدراسات عن المكسيكيين المستقرين بالولايات
المتحدة(19)، والدراسات اليهودية. وتبدو هوية الأقلية بالنسبة لهذه الحقول
الدراسية معطى أوليًّا. كذلك قام مفكرو ما بعد الاستعمار من جانبهم،
كإدوارد سعيد وكاياتري سبيفاك، بمساءلة الهويات الهجينة والمختلطة التي
صنعها التاريخ الاستعماري.

إن عاطفة الانتماء إلى هوية ما لم تضعف في الثمانينات والتسعينات. ويذكر
تود جيتلان(20) إحصاءات جدّ معبرة: فبين سنتي 1980 و 1990 ارتفع عدد
الأمريكيين الذين يصرحون رسمياً بأن أصولهم تعود إلى الهنود الحمر بنسبة
255%، كما تضاعف عدد الذين صرحوا بأنهم أكاديون(21) عشرين مرة في الفترة
ذاتها! ومن الصعب أن نميز السبب في هذا التجوال الدائم بين حركة مطالب
الهوية واحتجاجاتها وتحليلات وسائل الإعلام ودراسات العلوم الإنسانية: إن
الخطاب الأكاديمي والإعلامي يعكس بلا شك وضعية يساهم هو نفسه في صنعها.
وعلى كل حال، فقد أصبح من غير الممكن تجاوز مفهوم الهوية، لا في الأبحاث
حول الهجرة، والمسألة القومية، والدين، ودراسات النوع(22)، ولا في الأبحاث
حول الإثنية.

وبالرغم من أن المصطلح نشأ ضمن العلوم الاجتماعية بالولايات المتحدة
وانتشر بها، فإن الأمر نفسه ينطبق على أوروبا التي أصبحت فيها الهوية
مفهوماً رئيساً. وبالطبع يعتبر تميز التاريخ الأمريكي -خصوصاً في مسألة
أهمية الأقليات التي نشأت عن موجات متعددة من الهجرة- عاملاً حاسماً في
انتشار المفهوم. لكن من المؤكد أنه توجد أيضاً أسباب سياسية صرفة كانت لها
آثار هامة على العلوم الاجتماعية، فكما يقول ر. بروباكر: “كان انتشار
مطالبات الهوية أمراً سهلاً بسبب الضعف النسبي المؤسسي لأحزاب اليسار
بالولايات المتحدة، والذي تزامن بدوره مع ضعف التحليل الاجتماعي والسياسي
القائم على اصطلاح الطبقية. ورغم أنه يمكننا جداً أن ننظر إلى الطبقة
الاجتماعية نفسها باعتبارها هوية، تبقى حقيقة أن ضعف سياسة الطبقية
بالولايات المتحدة (مقارنة بأوروبا الغربية) أمر شكّل تربة جد خصبة وحقلاً
حراً لتطور الاحتجاجات المؤسسة على الهوية”.

هذه الفكرة جذابة وتفسر لماذا بدا مفهوم الهوية فائق الأهمية بالولايات
المتحدة أولاً قبل أن يصير كذلك بأوروبا لاحقاً. إذن يمكن أن نفترض -بحق-
وجود علاقة بين تقوّي خطاب الهوية في العلوم الاجتماعية بأوروبا وبين
تراجع رؤية أكثر ماركسية للشأن الاجتماعي(23) وإذا كان التحليل بمصطلحات
الطبقية لا يزال قائماً ومستمراً، فإنه الآن مجرد معطى واحد من جملة
معطيات أخرى، ومكون ضمن مكونات الهوية. وعلى المستوى السياسي ساهم سقوط
الشيوعية في تسارع تراجع هذا التحليل، وهو السقوط الذي تصاعدت على إثره
الوطنيات الأوروبية.

* ترسخ الفردانية

لكن -بغض النظر عن هذه المؤثرات التاريخية المحددة- كيف لا نرى كذلك في
نجاح مصطلح الهوية ترجمة لاتجاه تاريخي أكثر أهمية وشمولاً: أعني تأكيد
الفردانية؟ وهذه أطروحة عدد كبير من الباحثين في خصائص الحداثة التي
نعيشها. هكذا يلاحظ عالم الاجتماع جون كلود كوفمان في “ابتكار الذات”(24)
أن “الهوية صيرورة ذاتية للحداثة ومرتبطة تاريخياً بها. لم يكن الإنسان
المندمج في مجتمع تقليدي يطرح مشاكل الهوية كما نفعل نحن اليوم. رغم أنه
عملياً كان يعيش فردانيتة”. إننا إذ نلج عصر الهويات فبالضبط لأنها لم
تبقَ بدهية، بل هي أشكال متغيرة ويلزم بناؤها وتأسيسها.

لقد بدأت عاطفة الهوية الفردانية تنتشر بالتدريج في القرن التاسع عشر،
ولاشك أن الرومانسية هي إحدى أقوى تجليات هذا الشعور. لكن هذه “الحداثة
الأولى” لم تطرح بحدة قضية الهويات التي كانت لا تزال حاضرة واضحة تفرض
نفسها من أعلى. والأمر لا يختلف بالنسبة إلى النصف الأول من القرن
العشرين. بالمقابل شهدت الستينات انقلاباً حقيقياً، فأصبح على الشخص نفسه
أن يؤسس ذاتيته، وهذا يثير مشاكل حقيقية، كما يشير لذلك عالم الاجتماع
آلان إيرنبرغ. لقد بيَّن في كتابه “التعب من الذات”(25) كم هي مضنية مسيرة
البحث عن الهوية: إن الاكتئاب هو بلا ريب العرض المرضي الأشد بروزاً لهذه
الصعوبة الجديدة في التحديد الشخصي للهوية. هكذا ظهر بسرعة الجانب السلبي
لهذه الثورة: فللحرية ثمن غالٍ. وفي الواقع يتميز الدخول فيما يسميه
أنطوني جيدن(26) بـ”الحداثة المتقدمة”(27) بدرجة متزايدة من التأمل:
فالناس يتساءلون عن كل شيء، مما يجعل سلوكهم متردداً باستمرار. وفي هذا
يوجد مفتاح الهوية بالنسبة لكوفمان الذي يقول: “يندرج الفكر السؤول ضمن
منطق الانفتاح، فهو يحطم اليقينيات، ويشكك فيما اعتبر مكسباً نهائياً. على
خلاف ذلك لا تكفُّ الهوية عن جمع الشظايا وتركيبها، فهي نسق مستقر يحفظ
المعنى ويسيّجه، ونموذجها هو الكلية”(28). إنما لا يمكن للهوية أن تؤدي
هذه الوظيفة إلا بشكل مؤقت.

* محاذير المفهوم

من جهته حاول الفيلسوف الكندي شارل تايلور في كتابه “أصول الأنا”(29) أن
يتتبع نشأة الهوية الحديثة والفردانية عبر تاريخ الفلسفة وتاريخ العقليات
وبحسبه فإن الهوية الحديثة ترتكز على ثلاثة جوانب:

1- اكتشاف أو ابتكار السريرة الداخلية
(القديس أغسطين، ومونتيني، وديكارت، ثم جون لوك. فقد كان دور هؤلاء
حاسماً، إذ بدأ الإنسان شيئاً فشيئاً يتعلم أن ينظر إلى نفسه باعتباره
“أنا” باطني).

2- تثمين الحياة العادية (ودور البروتستانتية هام هنا، لأنها تثمن الحياة
المادية عبر: العمل، وصناعة الأشياء المفيدة في الحياة، والأسرة،
والزواج…).

3- علمنة المجتمع.وكان من المفروض -عند تايلور- ألَّا تحطم الفردانية التي تميز مجتمعاتنا الحديثة الروابط التي توجد بين الناس. (مجرد أمنية صادقة؟).

إنها العودة القوية للفرد، فهذا إذن ما يعنيه مفهوم الهوية، لكن هذا يمكن
أن يشكل أيضاً مشكلة مقلقة. وهذا كلود ليفي ستراوس -في الحلقة الدراسية
التي أدارها بمعهد فرنسا، سنة 1974/1975، حول موضوع الهوية- لم يستطع
إخفاء انزعاجه من هذه الميول النرجسية التي تمنّى لها نهاية قريبة، يقول:
“إن إيماننا المستمر بـ(فكرة الهوية) ربما لم يكن إلا انعكاساً لحالة
حضارية من المفروض ألَّا تتجاوز بضعة قرون. لكن ها هي أزمة الهوية الشهيرة
-والتي كثر عنها الكلام- تكتسي معنى جديداً..”(30).

في الواقع يعكس نجاح المفهوم العودة القوية للفرد في مجال العلوم
الاجتماعية والإنسانية بالرغم من البنيات التي تحدده. فالفرد يتصدر كل
شيء. لكن من الملاحظ أن الدراسات حول الهوية كثيراً ما بيّنت أهمية
المؤسسات في بناء الهوية. وهذا لا يمنع من الإقرار بأن بعض الخطابات في
الموضوع تخطئ حين تغيب بسهولة دور الإكراهات المجتمعية. إن التناقض في
مفهوم الشخصية يكمن في أنها تعبر عن نفسها بالانتماء إلى جماعات، أي في
تشابك هويات جماعية (أنا رجل، مهنتي كتبي، ورب عائلة، ومناضل سياسي، كما
أنني أهوى الأوبرا، وأصلي إيطالي…).

ألا يجدر بالعلوم الإنسانية أن تهجر هذه المقولة “التي تتحدث إلى الناس”،
والتي يطرد استعمالها أكثر فأكثر في الحياة اليومية في كلام الواحد عن
نفسه، لصالح مفاهيم أكثر تحديداً وأقل التباساً؟ إن ج. ك. كوفمان يطرح
السؤال نفسه: تبدو الهوية في المعرفة العادية وكأنها عبارة عن ماهية
مستقلة أو معطى أولي، وهذا بالضبط ما تنكره البحوث الاجتماعية أكثر فأكثر،
والتي تؤكد جميعاً على أن الهوية هي في الحقيقة نتاج تركيب معين. ورغم ذلك
من الصعب أن نهجر مصطلحاً يعكس -في العمق- مشكلة اجتماعية، وإن كان في
نفسه غامضاً. ومن المؤشرات على هذا التحول صدور كتاب حديث بهذا العنوان:
هستريا الهوية(34). لقد بدأ المفهوم يغيظ. ولاشك أن هذا الفأل حسن بالنسبة
لحيوية العلوم الإنسانية التي ستشهد لذلك بدء مناقشات بناءة. لكن أليست
الكتابة ضد مفهوم الهوية نوعاً من الكلام عنها؟ ثم ألا يجدر بنا أن نحذر
الهستريا المضادة للهوية كما نحذر من الافتتان الذي تحدثه أحياناً..
moutia salah eddine
عضـــو جديد

عدد المساهمات: 20
تاريخ التسجيل: 27/06/2008
العمر: 28
الموقع: Cyworld – morocco’s Profile

الهوامش:
من طرف moutia salah eddine في السبت 28 يونيو 2022, 01:51

* كاتبة دائمة بمجلة “علوم إنسانية” الفرنسية (sciences humaines) وهذا المقال يوجد بعدد يوليوز 2022، رقم 151، بعنوان: Faut-il en finir avec l’identité.

** كاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ظهر المهراز، المغرب.

(1) يقول المترجم: هو ذاته -أو العين أو النفس- والآخر (le même et l’autre). إن موضوع الهوية في الفلسفة غيره في علم الاجتماع. فهو -في الفن الأول- يعني الشيء في ذاته، ونترجم عن ذلك بقولنا: الشيء “ج” هو “ج”، والمقصود به ثبات كنه الشيء واستمراره. لكن يشكل على ذلك التغيرات التي تطرأ على هذا الشيء: هل تمس جوهره -أو هويته- أم لا؟ هل أبو حامد الغزالي الشاب هو نفسه الغزالي الشيخ؟ ومبدأ الهوية يشكل مع مبدأ الثالث المرفوع أساس العقلانية القديمة.

(2) المترجم: بارميندس تلميذ اكسينوفانس، التحق بأثينا، له فلسفة خاصة في الوجود: حقيقته ووحدته واستمراره. توفي سنة 450 قبل الميلاد. وهراقليطس ينتمي إلى المدرسة الإيونية، له فلسفة التناقض، توفي سنة 480 ق.م. أما الإيليون فنسبة إلى مدرسة إيليا -مستعمرة يونانية بإيطاليا- اشتهرت بفلسفة خاصة.

(3) هامش المؤلف: كتاب “النبذ”، لهراقليطس. المطابع الجامعية بفرنسا، 1986 (بالفرنسية). قلت: معنى هذه القولة أن الأشياء في تغير أبدي، فأنت إن غطست في النهر ثانية، ففي ماء آخر، ماء جديد، والماء الأول سار في مكان آخر.

(4) المترجم: تيزوس بطل من الأساطير الإغريقية، وبيراس ميناء هام، أما ديلوس فجزيرة، وكلاهما باليونان.

(5) المترجم: جون لوك فيلسوف إنجليزي انتقد ديكارت. له “رسالة في الفهم البشري”، توفي سنة 1704. وهيوم فيلسوف اسكتلندي، اشتهر بنقده للعلاقة السببية في كتابه “بحث في الفهم البشري”، توفي سنة 1776.

(6) تعليق المترجم: علوم الإدراك البشري sciences cognitifs عبارة عن حقل معرفي جديد يدرس طبيعة الإدراك وطرقه وآلياته، ويستمد مواده من علوم: النفس، والاقتصاد، والأعصاب، والمعلومات، واللسانيات، والذكاء الاصطناعي.

(7) المترجم: إريكسون أمريكي من أصل ألماني، وهو من أهم رؤوس تيار الثقافة داخل التحليل النفسي. له دراسة أخرى عن: “المراهقة والأزمة: في البحث عن الهوية”، توفي سنة 1994.

( المترجم: أنا هي ابنة فرويد مؤسس التحليل النفسي، وهي بدورها عالمة نفسانية تخصصت في التحليل النفسي للصغار. توفيت بلندن سنة 1982.

(9) المترجم: كاردينر عالم نفس، ودرس أيضاً علم السلالات البشرية، من كتبه: الفرد ومجتمعه. الحدود النفسية للمجتمع. وهو أمريكي توفي سنة 1981. أما ميد فأمريكية متخصصة في الأنتروبولوجيا، درست بعض الشعوب البدائية، توفيت سنة 1978.

(10) المترجم: شعب السيو أشد من قاوم البيض بأمريكا الشمالية. توجد منهم بقايا إلى اليوم.

(11) المؤلف: ب. كليزون: “تحديد مفهوم الهوية: تأريخ دلالي”، بمجلة التاريخ الأمريكي، عدد 4، مارس 1983 بالإنجليزية.

(12) يقول المترجم: التكنه Identification هو تحقيق الذاتية أو تحققها، أي اكتساب هوية معينة، هذا الاكتساب عند فرويد يقع بنوع من التقليد، حيث يجد الطفل نفسه في الآخر، فيتمثله لكن المقصود هنا -أعني في علم الاجتماع- هو توصل الفرد إلى اكتساب هويته عبر الجماعة بتمثل منظومتها من القيم أو بالقيام داخلها بدور محدد.

(13) المترجم: آلبور عالم نفس أمريكي، من أهم مطوري علم النفس الإكلينيكي، له: التفسير النفسي للشخصية، توفي سنة 1967.

(14) المترجم: عالم اجتماع أمريكي من الاتجاه الوظيفي، وهو تلميذ بارسون.

(15) المترجم: كولي عالم اجتماع أمريكي، تخصص في دراسة العلاقات بين الأفراد في إطار المجموعة. توفي سنة 1929. وميد فيلسوف وعالم اجتماع أمريكي، درس تطور الفكر واللغة. توفي سنة 1931 من كتبه: العقل والأنا والمجتمع.

(16) المؤلف: إ. جوفمان: “العلامة والهوية الاجتماعية”، ضمن كتابة: “الندوب: الاستعمالات الاجتماعية للعوائق”. دار نشر نصف الليل، 1996، بالفرنسية، وبالإنجليزية سنة 1963. قلت: جوفمان عالم اجتماع أمريكي توفي سنة 1982.

(17) المؤلف: ب. بيرجر: دعوة إلى دراسة علم الاجتماع. أفق إنساني. دار بانكوان، 1988. بالإنجليزية. يقول المترجم: بيرجر عالم اجتماع اشتهر بهذا الكتاب الذي أصدره مع طوماس لوكمان: البناء الاجتماعي للواقع سنة 1966.

(18) المؤلف: ر. بروباكر: “ما وراء الهوية”، بمجلة أعمال البحث في العلوم الاجتماعية، عدد 139، سبتمبر 2001. بالفرنسية.

(19) المترجم: يطلق على دراسة مجتمع الشواذ Gay’s studies، وعلى المكسيكيين المهاجرين chicano studies.

(20) المؤلف: ت. جيتلان: “أفول الأحلام البسيطة: لماذا تضررت أمريكا من ثقافة الحروب؟” نشر أووليت. 1996 بالإنجليزية.

(21) المترجم: نسبة إلى منطقة فقدها الفرنسيون لصالح بريطانيا، ولجؤوا إلى لويزيانا.

(22) المترجم: دراسات النوع genre شكل من التحليل ينظر إلى كل من الذكر والأنثى باعتبارهما بناءً اجتماعياً.

(23) المؤلف: يقدم ل. شوفيل أرقاماً بليغة عن تراجع استعمال مفهوم “الطبقة” في علم الاجتماع: “بين سنتي 1970 و1979 كانت نسبة 3% من الأطروحات -في علم الاجتماع- تذكر كلمة الطبقة، ثم 1.5% في الثمانينات، ثم 1% بين 1990 و 1995، ثلثها يتعلق بأقسام المدرسة، وهذا استعمال نادر في السابق (يقول المترجم: لفظة classe تعني الطبقة أو القسم، فهي من المشترك). وكانت سنة 1984 سنة قطيعة بامتياز. واليوم تعتبر كلمة “الطبقة” -في علم الاجتماع- قديمة، ويتخلص منها بشكل أو بآخر”. عن: قدر الأجيال. نشر المطابع الجامعية الفرنسية، 1988. طبع مرة أخرى سنة 2022. بالفرنسية.

(24) المؤلف: ج. ك. كوفمان: ابتكار الذات، نظرية في الهوية. طبع أرمون كولان، 2022. بالفرنسية. قلت: كوفمان عالم اجتماع برز في العقدين الأخيرين، وألف خصوصاً في سوسيولوجيا الأسرة.

(25) المؤلف: أ. إيرنبرغ: التعب من الذات. الاكتئاب والمجتمع. نشر أوديل جاكوب، 1998، وطبعة أخرى في 2000. بالفرنسية.

(26) المؤلف: يتحدث جيدن عن “الحداثة المتقدمة” وليس عن (ما بعد الحداثة)، لأن هذه المرحلة الجديدة لا تشكل قطيعة مع الحداثة بقدر ما تمثل شكلها الأقصى والأكثر تطرفاً. قلت: جيدن من علماء الاجتماع المعاصرين البارزين، من كتبه: تأسيس المجتمع. نتائج الحداثة. نظرية في الجغرافيا الاجتماعية.

(27) المترجم: المتقدم هنا -avancé- بمعنى الذي يوجد في مرحلة متأخرة من تطوره، لا أنه متقدم بالمعنى المضاد للتخلف.

(28) المؤلف: كوفمان، مرجع سابق.

(29) المؤلف: ش. تايلور: “أصول الأنا”، دار لوسوي، 1998. الطبعة الأولى في 1989. بالفرنسية.

(30) المؤلف: تأليف مشترك بتنسيق من ليفي ستراوس: الهوية. مطابع فرنسا، 2000. الطبعة الأولى، 1977. بالفرنسية.

(31) المؤلف: ج. ف. بايار: وهم الهوية. دار فايار، 1996. بالفرنسية.

(32) المؤلف: أ. كروسر: الهويات المستغلة، مقال بلوموند، 28 يناير 1994. بالفرنسية.

(33) المؤلف: بروباكر، مرجع سابق.

(34) المؤلف: أ.دوبان: هيستريا الهوية. دار لوشيغش ميدي، 2022، بالفرنسية


merci pour l’informationتعليم_الجزائر

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله … لك مني أجمل تحية .

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
تاريـخ,

في المعرفة التاريخية .تأسيس الفهم وتأصيل الهوية

في المعرفة التاريخية …تأسيس الفهم وتأصيل الهوية

كتب: د / نجيب بن خيرة ¬

27/05/1431 الموافق
10/05/2010

إن التاريخ ليس كما يُخيّل للبعض مجرد حروب تُشن ، أو معاهدات تُبرم ، أو سلالات تحكم ثم تسقط ، أو شخصيات تملأ سمع الزمان وبصره ثم يطويها الموت الزؤام فتصير ذكرى..
إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ، ومشروع للتعامل مع الإنسان ، وفرصة لاختبار قدرة العقائد ومنظومات القيم على التحقق في الزمان و المكان ، فتؤكد على واقعيتها ومصداقيتها .
وعلى هذا فإن عرض تاريخنا لابد أن ينطلق مما لدينا من الحقائق التي تُظهر أصالتنا وقدرتنا على الإبداع والعطاء ، لا أن نتلهى بالنظر الغرير إلى مفاخرنا ، فيصدق علينا قول الشاعر :
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة * * قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ومنذ عقود وقر في أذهان الآباء في ديارنا أن المعرفة التاريخية لا قيمة لها في ثقافة الأبناء ، وينسحب ذلك على معظم الفروع الإنسانية الأخرى ، دافعين أبناءهم صوب الفروع العلمية التطبيقية ؛ بدعوى أن المنتسبين إليها مستقبلهم مضمون ، ومكانة أصحابها في المجتمع أرفع !.
وقد آن الأوان أن نُكفّر عن هذه الخطيئة المعرفية التي تجاوزتها المعرفة المعاصرة ، وصار الأخذ بها مما يثير الضحك والإشفاق معا !!. فنغري الأجيال الحاضرة بالإفادة من فرص التعليم الجامعي ، فنولي هذا النوع من المعارف اهتماما خاصا ، نُكوّن به جبهة قادرة على التحدي الحضاري، باحثة عن الرصيد الباقي القدير على الحضور في قلب العصر ، وموطئةً لمستقبل أفضل ، يعيد صياغة الإنسان ، ويحقق مطامحه ، ويقوي مناعته ، ضد الثقافة الهاجمة التي تسعى إلى سحبه من دينه وتراثه وثقافته .
وإن المعرفة التاريخية لا تعني التمسك بشرانق الماضي ، والتصلب على أفكار فوضوية ، وشعارات ساخنة ، وتعصبات لا أول لها ولا آخر … بل هي تفتح الذهن على آفاق أرحب ، وتنأى بالدارس لها بعيدا عن التعصب والغلو والتطرف ، لأن في التاريخ وأزمانه المتلاحقة تعايشت الأفكار والعقائد والمذاهب ، وفي شواهده ما يثبت أن التطرف قصير النفس ، ضعيف الحجة ، منكور الجانب ، تمجُّه الفطر السليمة ، ويتهافت عبر الزمن …
ومن حق المدارس والجامعات اليوم أن تفكر في مستقبل أبنائها ، وتسعى جاهدة إلى التخطيط الجيد لإدماجهم في سوق العمل ، وكسب لقمة العيش ، وتأمين ضرورات الحياة ، ولكن الخطر يكمن في طبيعة المعرفة التقنية البحتة التي يتلقاها الطلاب بعيدا عن تأهيلهم للمساهمة في إيقاف التدهور الحاصل في المجتمع ، والإسفاف البيّن في القيم والمبادئ …بالإضافة إلى جهل الأبناء بالرصيد التاريخي للمعارف والعلوم التي يتلقونها عبر مسيرة الحضارة الإسلامية ، من النشأة والتطوير إلى الإبداع والإضافة ، فيشعرون بالفخار والعزة ، وتنشط مواهبهم في ما نشط فيه أسلافهم ، ويضيفون كالذي أضافوا….وقد صدق من قال : " إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي " .
والواقع أن صناعة الوعي بالتاريخ تجعل منه محركا دافعا للشعور القومي ، وموقظا للحس الوطني ، الذي تجهد الدولة الوطنية المعاصرة إلى إنمائه وترسيخه في مواجهة الأجنبي الدخيل الذي تنكر لتاريخنا وأمجادنا وحضارتنا ..وإليك في الجزائر خير مثال على هذا المسلك :
فقد كانت الفئة الواعية من النخب المثقفة والمؤرخين الأثبات يدركون أن مزاعم فرنسا من أن الجزائر ليس لها تاريخ ، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا ، وأن الكتابات الفرنسية عن شمال إفريقيا والجزائر خاصة ، مثل كتابات " ستيفن غزال "(steven gzell)، واوغستان برنار"(augustain Bernard)…وأضرابهم ، كانت تسعى إلى نفي العروبة والإسلام والوطنية عن الجزائر ، فانبرت هذه الفئة إلى التصدي لهذا المسخ والتجهيل ، فوضعوا التآليف ، وصنفوا الكتب ، وكتبوا الأبحاث والمقالات ، ووضعوا المناهج في المدارس الحرة ..فألف محمد مبارك الميلي " تاريخ الجزائر في القديم والحديث " ، وكتب أحمد توفيق المدني كتاب " الجزائر " ، كما نشر عبد العزيز الثعالبي بحوثا عديدة عن تاريخ شمال إفريقيا وتاريخ العرب والمسلمين عموما ، وكتب عثمان الكعاك " موجز التاريخ العام للجزائر منذ العصر الحجري إلى الاحتلال الفرنسي " وجمع عبد الرحمن الجيلالي مصنفه الفذ حول " تاريخ الجزائر العام " …
وقد ساهمت هذه الكتابات في إيقاظ الشعب من سباته ، وصناعة الوعي في قلبه وعقله ليدرك تراثه المسلوب ، ويرتبط بوطنه المحروب ، وينتفض لنصرة قضيته ، وتحرير بلده ، وتخليص نفسه من بين مخالب مستعمر متعصب كفور ..
وإن كنا نحسب أن هذه المنازعة في ساحات البقاء أمر طبيعي ومفهوم ، ولا يخلو من إيجابيات ، فالصراع يوجِدُ روح المقاومة ، والأمة التي لا تُنَازل غيرها تُصاب بالتأسن والترهل والانحلال ..ويتراجع إنتاجها الحضاري بشكل عام !.
وفي تصوري أن المدافعة الثقافية مع الآخر في هذا الميدان لا تتحقق إلا باستحضار عنصرين أساسيين :
1 ـ إبراز قيمة الأحداث التاريخية بما تحمله من ثقل أشخاصها وأبطالها ومواقفها .
2 ـ حسن عرض هذا الرصيد المعرفي الهام بالوسائل المعاصرة التي تقرب من عقل الناشئة وقلوبها ، فتستوعبه وتعيه ، ثم تحبه ، وتفخر بالانتساب إليه وينشأ ما يسميه " أرنولد توينبي "(Arnold Joseph Toynbee):" بمبدأ الأبوة والبنوة " أي تواصل الأجيال ، فإن الأبناء من دون تاريخ الآباء يعيشون لقطاء ، مقطوعي الصلة بماضيهم ، ذاهلين عن حاضرهم ، ويبقون فاشلين في صناعة مستقبلهم ، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :

مثل القوم نسو تاريخهم * * كلقيط عيّ في الحي انتسابا

أو كمغلوب على ذاكرة * * يشتكي من صلة الماضي انقضابا

ولن يتم ذلك إلا بعد غربلة التاريخ ، وتخليصه من المبالغات والفذلكات والأكاذيب ، وعرضه عرضا ممحصا تنويريا يبعث على العمل لا على الفخر فحسب ، وينشط قارئه على القدوة لا على الذكرى …، وهذا دور منوط بالمؤسسات الأكاديمية ، والمخابر العلمية ، والمجامع المتخصصة ، التي ينبغي أن تلقى الدعم والسند من الدولة والمجتمع على حد سواء .
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى بلورة منهج متميز نصوغ به التاريخ الذي لابسه الغموض والتداخل وسوء التناول ، فنُعدّ أعمالا تاريخية بنائية تفكر في التاريخ وتفسره ، وتمضي بالتدرج الجاد إلى الحسم والترجيح ، ويتم ذلك في أطر من الشخصية الإسلامية المطلوبة ، التي تجمع بين التأطُّر والانفتاح ، فليست بتلك الشخصية المنغلقة الحسيرة ، والساعية دوما إلى التقزم والانزواء ، ولا تهجس إلا بالخصوصيات ، ولا تحسن الخوض مع الآخر في شأن من شؤون العالم الذي نحن جزء منه ، كما أنها ليست بتلك العائمة الهائمة وراء موج هدّار من الثقافة المتدافعة ، تتسول ثقافة الآخر ، وتعيش على فتات موائد فكره ، دون أن يكون لها قرار من الخصوصية والمرجعية ، فهي وسط بين هذا وذاك .
مع الحرص على أن لا نستصحب معنا الشعور الدائم بالجبرية إزاء المخططات التي تُضبط ، والمؤامرات التي تُحاك ، فنصبح كأحجار الشطرنج يحركها غيرنا كما يشاء ، ومن ثم يعوقنا هذا الشعور عن النقد الذاتي لأنفسنا ومعرفة عللنا وأدوائنا ، والاجتهاد في تقصي أسبابها ، ومن ثم تشخيص ووصف الدواء الناجع لها .
وإذا استطعنا أن نصوغ فصول هذا التاريخ على نحو متوازن ، وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية متقنة ، فإننا تؤسس لمعرفة تاريخية قادرة على تقديم الفهم الراقي ، وقديرة على التأصيل لهويتنا ووعينا …وكرامتنا أيضا !!.

المصدر : موقع التاريخ


التصنيفات
علوم الإعلام والإتصال

الإعلام الثقافي والهوية


  • الإعلام الثقافي والهوية

    الإعلام الثقافي والهوية

    :

    يصعب على غير المشتغلين أو المهتمين بالثقافة والإعلام أن يقوموا بدور فاعل وحيوي في الإعلام الثقافي ، سواء أكان ذلك في الإذاعة أو التليفزيون أو الصحافة أو أية وسيلة من الوسائل الإعلامية أو التثقيفية المقروءة أو المسموعة أو المشاهدة ، فإن لم يتوفر قدر مناسب من الثقافة والمعرفة فلن يتمكن هؤلاء من القيام بهذه المهمة الصعبة ، التي لها آثار ونتائج بعيدة المدى في إنجاح خطط التنمية ، وزيادة وعي ومشاركة وتفاعل الأفراد في المجتمع . ومن هذه الرؤية يتضح أهمية أن يكون الإعلامي الذي يود أن يضع أو يصيغ أو يخطط أو ينفذ برامج وسياسات الإعلام الثقافي على دراية بالثقافة والتثقيف وأهمية المثقف ، وأثر الواقع عليه ، وأهمية الهوية والحفاظ عليها ، وطبيعة الهوية الثقافية للمجتمع العربي ، والهوية وأزمات المثقف العربي ، ودور المثقف في الحفاظ على الهوية ، وما يطرح من قضايا العولمة وسعي بعض أصحاب الثقافات للهيمنة ، إن مدى وعي وإدراك الإعلامي الراغب في العمل في مجال الإعلام الثقافي لهذه القضايا يجعله على المستوى اللائق للعمل الجاد في هذا المجال
    .

    المثقف وتحديات الواقـع

    على المشتغل في وسائل الإعلام عامة والإعلام الثقافي خاصة أن يدرك أن المثقف العربي يواجه تحديات راهنة عميقة ، داخلية وخارجية ، وقد اعتدنا أن نستمرئ إحالة الانكسارات إلى المفاعيل الخارجية في هروب واضح من تحميل أنفسنا المسؤولية إزاء الكثير من أوضاعنا المحلية ، التي تراكمت سلبياتها داخل حياتنا عبر قرون عديدة ساهمت فيها منظومات الاستعمار والاحتلال والتخلف والاستغلال الاقتصادي والأفكار الجامدة ، والتي مجتمعة عطلت التفكير ، وأدت هذه المنظومات إلى أن يكون التخلف العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي من نصيب شعوب كثيرة ومنها منطقتنا العربية ، وعليه ازداد العبء الذي يواجه المثقف العربي والدور المناط به ، فعليه الآن أن يدخل إلى جوهر الصراع بين التقدم والتخلف ليكون له دورٌ مؤثرٌ وإيجابي في تخليص النظم الاجتماعية والفكرية من جمودها
    .
    ليس من اللائق بالمثقف العربي أن يربأ بنفسه عن حاجات مجتمعه وقضاياه الكبيرة ليدخل إلى التنظير والتجريد ، ويضع نفسه في صف النخبة متجاهلاً رسالته الثقافية والاجتماعية ، وعليه أن يتصدى بشكل واضح ضد النظم التربوية والتعليمية التي تجعل من العقل العربي مقلداً وناقلاً ومستظهراً، وكأن هناك مخططا لإماتة ملكة الإبداع والبحث والتفكير العلمي.
    فالمثقف الذي يلتزم بقضايا أمته هو الذي يتفاعل إيجابياً مع مشاكلها ويستغرق في همومها ، ولا بد أنه سيصدم حين يعاين النسبة المرتفعة للأمية، أمية القراءة والكتابة ، ويرى تَعَطُّل التفكير المنهجي ، وكيف يزدحم التفكير العربي بالخرافة والإشاعة والاستسلام مما يقعده عن العمل للمستقبل ، المثقف العربي يكتشف يومياً عمق الرداءة الثقافية التي تبثها الفضائيات إلى جمهور عريض يظن نفسه قد أصبح مثقفاً ، لذا عليه أن يتصدى لهذه الرداءة وأن يتفاعل مع الوسائل المختلفة للإعلام ليقدم رؤيته وآرائه .
    إن الإنسان بشكل عام يكون مغلوباً على أمره إزاء القهر الذي يمارس عليه ، وعلى حقوقه السياسية والأساسية ، لدرجة قد يظن البعض أنه لا يعي ذلك ، وإذا وعاه لا يملك أدوات مقاومته ، والدفاع عن المقهورين هو الدور الطليعي للمثقف . ولنا أن نتساءل عن تحديات عديدة تواجه المثقف العربي ، تحتاج منه إلى موقف وجرأة النقد والتناول ، حيث يشيع لدى المواطن العربي الإحباط السياسي ، والثقافي ، وجلد الذات ، والانكسارات المتوالية ، والبيروقراطيـة ، في حيـن أن رغبته هي في حيـاة ديمقراطية حقيقية في مجتمع يحترم مواطنيه ويعمل على رفاهيتهم … الخ
    .
    ويلاحظ ظهور العديد من الهيئات الثقافية التي تتجاوز القطرية والقومية إلى الإقليمية أو الدولية بهدف التأثير ثقافياً في الشرائح الاجتماعية المختلفة ، خاصة في البلدان المتخلفة والفقيرة لتغيير نظم وأنماط الحياة السائدة لمصلحة القوى المتحكمة في الاقتصاد والاستهلاك .. فأين يقف المثقف والإعلام الثقافي أمام هذا الواقع وهذه التحديات ؟!
    إن انصباب جهود بعض المثقفين العرب على النقل النظري لأفكار الغرب بحجة الإطلاع إن لم يصاحبها إعمال لطاقة العقل العربي في الخلق والإبداع والمقارنة ، ستحيلنا إلى هيمنة أعمق تحوّل المثقف إلى مجرد ناقل ، ونحن نريده قادراً على تنوير وقيادة فكر وثقافة الأمة للنهوض والمستقبل. يقول الكاتب محمد سعيد مضية : أنه” في ظروف العزلة والاغتراب اقتصرت جهود المثقفين العرب على مهمة نقل أنساق فكرية من الغرب إلى الوطن العربي أفلحت في تعميق التبعية وإطالة أمدها وأوهنت طاقة الإبداع وإنتاج المعرفة بالواقع العربي ومشكلاته وبقضاياه العيانية وأوهنت من قدرة المثقف على قيادة الأمة على دروب النهوض الحضاري وتحرير الإنسان العربي” (1) .
    فالمثقف العربي أمامه تحدي خلق الاستجابة المجتمعية للتفكير العلمي ، وأن يكون في طليعة الرافضين للاحتواء والقطرية والمحلية ، فالانفتاح على العالم لا يعني الهيمنة . إن التحدي الحقيقي للمثقف العربي هو في قدرته على تخليص المجتمع العربي من إحباط وفشل التجارب السابقة التي تسعى ثقافة الهيمنة إلى ترسيخها ، ليصبح العجز والفشل جزءاً من مكونات العقل العربي، لذا فهو من خلال مثابرته بنشر أفكاره من خلال الوسائل الإعلامية ووسائل الإعلام الثقافي يمكن أن يشكل مع غيره التغيير المطلوب
    .

    الهويـــة
    :

    ” إن معرفة القائمين على برامج الإعلام الثقافي بمدلولات هويتنا التي ترتكز على مجمل تراثنا الحضاري يساعد في وضع برامج ثقافية ذات خصوصية للحفاظ على جوهر الانتماء ، وتبقى هويتنا في ثقافتنا العربية الإسلامية هي ” الامتياز عن الغير من كافة النواحي ” ، والجرجاني عرّف الهوية بأنها ” الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق ” ، وفي الكتابات الأدبية والنقدية والفكرية تعريفات عديدة منها أن الهوية تعبر عن ” خاصية المطابقة ، مطابقة الشيء لنفسه أو مطابقته لمثيله”، والهوية هي حقيقة الشيء .. التي تميزه عن غيره ” .
    يقول يوسف مكي عن الهوية ” هي مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعا بعينه وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والحقوق ، وهي الوعي المتطور للفكر الإنساني والإنجاز الرائع “
    (2) .
    وعليه فالهوية في معناها العام رغم اختلاف التوصيفات هي خصوصية الفرد أو المجتمع عن أفراد أو مجتمعات أخرى ، من حيث القيم والمعتقدات والموروثات والتراث ، بحيث يصبح للمجتمع أو الأمة ما يميزها عن غيرها ويطبعها بطابع حضاري خاص تُعرف به .
    ويمكن أن نلاحظ أن أي جزء من الهوية الفردية أو الجماعية يشكلها النقاش والحوار والصراع مع الآخر ، فليس هناك هوية تكون منقطعة الوشائج مع غيرها نهائياً ، أو تشكلت من ذاتها دون أن يكون لعوامل كثيرة أثراً في تشكلها
    .
    لذا فيمكن ملاحظة تعدد الهويات في مجتمعنا الإنساني الذي حتما تصاحبها تعدد في الخصوصيات ، لذا نشأت العلاقات الثقافية والحضارية والإنسانية بين الشعوب في شكل من التأثر والتأثير دون تنازل عن الخصوصية أو ذوبان الأنساق الخاصة المكونة لكل هوية من الهويات . وهذه الأنساق التي تشكل الهويات للمجموعات الإنسانية المختلفة وعلى مر الصراع الإنساني في البيئات البشرية المتعددة لم تؤدِ ـ ولن تؤدي ـ إلى وجود هوية واحدة للجميع مهما اشتد الصراع والرغبة في الهيمنة ، ذلك لأن الهوية مُكوِّن يدخل في صلب وجود الجماعات وتمايزها .
    إن انطلاق الإعلامي والمثقف من وعيه لطبيعة مكونات هوية أمته التي ينتمي إليها ، وقناعته بهذه المكونات ، هو الذي يشكل له خطة وخطاب الدفاع عن الهوية ، وبرنامج العمل والفكر والإبداع والانطلاق ، ليعمل من خلال الإعلام وغيره على تحصين ثقافة أمته ضد التيارات الثقافية الغازية ، ويدعوه لمنطلقات تجديدية مدروسة تفتح آفاق المستقبل والفكر والوعي ، والأخذ من الثقافات ما يناسب هوية الأمة للتحسين والتطوير دون انغلاق على الذات أو استسلام إلى الآخر .
    جاء في إعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي ” تتشكل جميع الثقافات بما فيها من تنوع خصب وما بينها من تباين وتأثير متبادل كجزء من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعاً ” . وهنا حض على التنوع والتباين والتبادل وليس على هيمنة هوية ثقافية على أخرى ، فالمثقف العربي أمامه تحد كبير في هذا الجانب ، وعليه مسؤولية جسيمة في التصدي ، وفي فتح فضاءات جديدة عصرية مفيدة وضرورية يسانده في ذلك إعلام قوي

    المصدر :

    اسم الكتاب :الاعلام الثقافي في الاذاعة والتليفزيون

    اسم المؤلف: د.عبدالله تايه

    تعليم_الجزائر
    [تعليم_الجزائر



    تعليم_الجزائررد مع اقتباس

  • 08-09-2009 17:50
    #2


    تعليم_الجزائرالملاك
    تعليم_الجزائر تعليم_الجزائر تعليم_الجزائر تعليم_الجزائر l عضو مميز l <a href="http://javascript://” target=”_blank” rel=”nofollow”>تعليم_الجزائر <a href="http://javascript://” target=”_blank” rel=”nofollow”>تعليم_الجزائر <a href="http://javascript://” target=”_blank” rel=”nofollow”>تعليم_الجزائر

    حـالـة التـواجـد : تعليم_الجزائر


    تاريخ التسجيل : Feb 2022


    مكان الإقــامــة : الجزائر – سطيف – العلمة


    الـجـــــنـــــس : ذكر


    الــــعـــــمـــــر : 21


    المشـاركــــات : 255


    معدل تقييم المستوى:466


    قــوة الترشيح : تعليم_الجزائر

    رقمية، الإعلام والثقافة بالمغرب
    محمد أسليـم

    تتيح ورقة عمل هذه الندوة التقاط ثلاثة مفاهيم تقع في صلب الراهنية، وهي: الرقمية، الإعلام والثقافة، وستشكل محور هذه المداخلة التي تتمحور حول الفكرة البسيطة التالية: نحن في مجتمع يباشر، كسائرمجتمعات دول العالم الثالث والجنوب عموما، الخطوات الأولى في عملية التحديث، مما يعني عدم اكتمال عصرنة جميع قطاعاته ومؤسساته بعد، بل إن مجموعة من هذه المؤسسات لا زالت قيد التشكل لا غير، لكنه يشهد الآن مداهمة تحولات قسرية كبرى تفد إليه من المكان نفسه الذي داهمتنا منه الحداثة، وهو الغرب الذي يطالب سائر المجموعات البشرية اليوم الانخراط في عملية ما يسمى بـ « ما بعد الحداثة». فهل يكون هذا مناسبة لحرق المراحل عبر إجراء طفرة تتيح تدارك ما فات الوصول إليه على نحو ما يتحدث البعض عندما يعتبر الرقمية فرصة جديدة أمام دول الجنوب للحاق بالغرب أم سنخطئ هذا الدخول مثل سابقه؟ للاستجابة لهذا النداء، أيجب التخلي عن الورشات المفتوحة أم يتعين إغلاقها لفتح أخرى جديدة أم يجب العمل على واجهتين: واجهة مواصلة التحديث مع الدخول في ما بعد الحداثة في آن؟ لا تزعم هذه الورقة الإجابة عن هذه الأسئلة ولا تقديم وصفة سحرية للخروج من مأزقنا الجديد، وفي المقابل ستكتفي بمحاولة وصف بعض مما يجري الآن في القطاعات الثلاثة موضوع التأمل.

    1. الرقمية:
    بتعريف بسيط هي الثورة الصناعية الثالثة، ومثلما كان للثورتين السابقتين عناوين بارزة للحالية أيضا سماتها الجلية؛

    – الثورة الأولى انطلقت باكتشاف الفحم الحجري والآلة البخارية، مما أدى إلى تغيير في إدراك مقولة المكان وفتح الباب أمام التوسعات الاستعمارية الكبرى؛

    – في الثانية تم اكتشاف الكهرباء والبترول، ما أدى إلى تغيير في مقولة الزمان عبر البث المباشر بواسطة المذياع والتلفزة، وظهور وسائل نقل جديدة، مما سيؤدي إلى كثافة الاتصال والتواصل وإعادة هيكلة المدن، الخ.

    – أبرز ما يميز الثورة الرقمية التي انطلقت منذ سبعينيات القرن الماضي ظهور ما يسمى بـ «الآلات المفكرة» التي يتوقع أن ينجح بعضها في أداء مهام وعمليات ذهنية تفوق نظيرها لدى الإنسان متوسط الذكاء[1]. هذه الآلات تتيح مضاعفة الإنتاج وخفظ كلفته، مما يغرق الأسواق بالمنتوجات الصناعية بشكل غير مسبوق، من جهة، ويخفظ تدخل الإنسان في عمل أهم قطاعات الشغل في الأزمنة الحديثة، وهي الفلاحة والصناعة والخدمات، من جهة ثانية، وبالتالي انتشار البطالة بشكل غير مسبوق أيضا في الأزمنة الحديثة. ثمة من يرى أن الثورة الرقمية ستضع نهاية للعمل البشري المأجور نفسه، مما يحتم على المجتمعات الحالية إعادة التفكير في توزيع الترواث، وهو ما سيؤدي بالتأكيد إلى ظهور ثقافة جديدة[2]. وبما أن الرقمية تدشن حضارة جديدة، فحديث النهايات صار يتردد اليوم في كل مكان: «نهاية التاريخ»، «نهاية العمل المأجور»، «نهاية السياسة»، «نهاية الأدب»، الخ.

    الحاسوب الذي بدأ انتشاره منذ أوساط السبعينيات ويتوقع أن يتزايد انتشاره بشكل كبير بالنظر إلى أن أحد أهداف ما يسمى بـ «الأهداف الألفية للتمنية» OMD التي صاغتها الأمم المتحدة عام 2000 وضعُ التكنولوجيات الجدية، بالخصوص تكنولوجيات الإعلام والتواصل في متناول الجميع»[3]، نقول: الحاسوب هو أحد هذه الآلات المفكرة. وهو يتجاوز مجرد وسيط إلى كونه جهازا يختزل مجموعة من الأجهزة، ويتيح القفز على مؤسسات عريقة النشأة والرسوخ في المجتمعات البشرية. إليكم بعض الأمثلة:

    – ثمة برامج في مجال تعدد الوسائط تتيح للمستخدم الفرد إذا ما تعلمها وأجاد استعمالها أن يمتلك بمفرده ما يعادل استدويو إذاعيا بكامله؛

    – ثمة برامج معلوماتية تتيح للمستخدم بمفرده إنشاء محطة بث إذاعي، عبر شبكة الأنترنت، انطلاقا من منزله، تغطي مجموع أنحاء الأرض، مستغنيا ليس عن سائر آليات وطواقم محطات البث التقليدية فحسب، بل وكذلك عن الإجراءات الإدارية والقانونية الضرورية لإنشاء محطة مماثلة في العالم الواقعي ؛

    – المراسلة بالبريد الإلكتروني تتيح التواصل السريع بين المرسل والمرسل إليه في وقت قياسي، وبتكلفة تكاد تبلغ الصفر، مما يجعل مقارنته بنظيره التقليدي غير واردة؛ لإرسال رسالة بالبريد العادي يجب: تحرير الصفحة، طيها، إدخالها في ظرف بريدي، تحرير العنوان في واجهة الظرف، إلصاق طابع البريدي في الظرف، إيداع الرسالة في صندوق رسائل البريد لتدخل في دورة من التدخلات: الفرز، الشحن برا أو جوا، الإيداع في مؤسسة بريد الاستقبال، الفرز، التسليم لساعي البريد، لتصل أخيرا، وبعد هذا كله، إلى المتلقي. مقابل ذلك، لدى استخدام البريد الإلكتروني، لا يتطلب وصول الرسالة إلى متلقيها سوى تحريرها والضغط على زر الإرسال، وها هو يستلمها في بضع ثوان أنى كان مسكنه في أرجاء الكوكب الأربعة.

    وما قيل في الأمثلة السابقة يصدق أيضا على النشر الإلكتروني عبر الحاسوب والشبكة؛ امتلاك جهاز حاسوب ومساحة استضافة صار اليوم معادلا لامتلاك دار نشر بكاملها لبث سائر أنواع الملفات التي ظلت مهمة إيصالها إلى القراء حتى اليوم مقصورة على – بل ومن اختصاص – المطابع ودور النشر الورقية: كتب، مجلات، صحف. أكثر من ذلك، كلفة النشر الإلكتروني هي من القلة بحيث لا فائدة في المقارنة بينها وبين نظيرتها المادية، مما جعل المسألة نظريا في يد الجميع. وكون الشبكة قارة جديدة مفتوحة لكل الناس، لا تعود ملكيتها لأية جهة، فمن الطبيعي ألا تشهد عملية النشر كثافة غير مسبوقة فحسب، بل وتشهد أيضا ما يمكن أن يوصف بـ «الفوضى» و«التسيب» من منظور مصافي النشر التقليدي متمثلة في لجان القراءة بدور النشر وهيآت تحرير الصحف والمجلات. لم يعد إنتاج الخطاب اليوم مقصورا على أهله؛ صار بإمكان أي كان أن يلتقط أحداثا بجهازه الخلوي ويبثها في أحد مواقع مشاركة الأشرطة، مثل اليوطوب والـ myspace والـ dailymotion وغيرها، وها هو يستولي على قسم من عمل الصحافة وهو تقديم الروبورتاج الحي لحدث ما. والأمر نفسه ينطبق على قطاعات الأدب ونشر الخبر سياسيا كان أم ثقافيا؛ بالمثل، صار بإمكان أي كان أن يكتب ما شاء، ويودعه في الشبكة، مقدما إياه بالصفة التي يشاء، ناعتا نفسه بـ «الشاعر» أو «الكاتب» أو «الناقد»، بل وحتى بالصحفي، الخ.

    2. الإعـلام
    أ) لمحة تاريخية موجزة جدا:
    الإعلام بتعريفه البسيط هو تدوين معلومة وإشاعتها في المكان. يرتبط تاريخه بتاريخ الكتابة نفسها، ولكن نشأته الحقيقية ترتبط بظهور المطبعة عام 1448؛ فلكي يكون إعلام لابد من توفر عناصر: الطباعة، انتظام الظهور، وجود جمهور من القراء الفضوليين.

    أول منشور منتظم الظهور صدر في فرنسا عام 1631، هو La gazette، ولكن يجب انتظار حوالي قرنين عن ظهور المطبعة لتصدر أول يومية في فرنسا وهي صحيفة لوفيغارو، ومن ثمة يشهد الحقل الصحفي بداية تشكل حقيقية له، حيث ستظهر وكالات للأنباء، وستظهر مهنة «الصحفي» بعد كانت الحدود بين الصحافة والأدب غير واضحة تماما في البداية.

    في عام 1917، بلغ مجموع سحب اليوميات الباريزية وحدها 6.5 مليون نسخة.

    بيد أن ظهور الراديو سنة 1930 والتلفزة عام 1950 سيعرض هذا القطاع لمنافسة حقيقية، ستشهد ذروتها في الثورة الرقمية التي نعيش بدايتها الآن، وذلك بظهور منافس جديد يدعى بـ «الصحافة الإلكترونية المجانية». هكذا، ففي فرنسا وحها فقدت الصحف الباريزية 12% من قرائها، أي ما يعادل 000 800 قارئ يومي[4]، وفي أمريكا، في عام 2022، سيفقد 000 18 صحفي وظائفهم بسبب التمدد المتزايد للصحافة الإلكترونية في شبكة الأنترنت[5].

    ب) المشهد الإعلامي المغربي في الشبكة:
    يشكل قطاع الإعلام بالمغرب، وضمنه الإعلام الثقافي، مثالا حيا لما تحدثنا عنه في مستهل هذا العرض، وهو: في غمرة انغماس مجموعة من الحقول في عملية التحديث، بل وحتى قبل اكتمال تشكل مجموعة منها، بحكم جدتها الكاملة، ومنها قطاع الإعلام، يُداهمها إكراه وجوب اللحاق بتحولات ما بعد الحداثة؛

    في سياق تتجاوز نسبة الأمية بمعناها التقليدي (عدم معرفة القراءة والكتابة) نسبة 50% من مجموع السكان، مما يعني غياب قاعدة واسعة من القراء تتيح الحديث عن وجود صحافة حقيقية احترافية، وهو ما يعاين واقعيا، حيث لا يتجاوز سحب أول يومية مقروءة في المغرب اليوم 000 186 نسخة (صحيفة المساء). في هذا السياق، يفاجأ قطاع الصحافة قيد التشكل بميلاد الصحافة الإلكترونية المجانية ومنافستها الشرسة للإعلام المكتوب. وبقدر ما يصعب التكهن بما ستؤدي إليه هذه المنافسة يصعب اقتراح حل سحري للخروج من هذا الوضع، ومن ثمة، وقوف هذا التأمل عند حدود وصف ما يجري لا غير:

    مجموع مواقع البث الإعلامي المغربية بالشبكة 33 يومية، وهو ما يجعله يحتل المرتبة الثانية على صعيد شمال إفريقيا بعد مصر التي تتوفر على 42 موقعا، ويحتل الرتبة الرابعة عربيا بعد لبنان التي تتوفر على 59 موقعا والعراق التي تملك 50 موقعا، ثم مصر التي لها 42 موقعا[6]. تقتضي هذه الإشارة الإحصائية وقفة لمقارنة حجم الإصدارات الإلكترونية مقارنة مع نظيرتها الورقية، من جهة، ثم مقارنة عدد الإصدارات الإلكترونية بالعدد الإجمالي لسكان كل بلد على حدة أيضا، من جهة ثاية، وهو ما لا نزعم القيام به في هذا السياق. في المقابل نود إبداء ملاحظاتين:

    – معظم ما ينشره الإعلام المغربي الرقمي هو إعادة نشر لما يصدر في الورق، ولكن بخصم، إن جاز هذا التعبير؛ باستثناء صحيفة الصباح التي تتطابق نسختاها الرقمية والورقية كل الصحف تحذف العديد من مواد إصداراتها الورقية كما لا توظف تقنيتي الصوت والصورة. الاستثناءات في هذا الباب تتجسد في المواقع الإسلامية وبوابات، مثل منارة، ومواقع صحفية غير مهنية مثل هسبريس.

    – جل المواقع لا تجدد أخبارها على مدار الساعة. وسبب ذلك يعود دون شك إلى اعتماد هذه الصحف في بناء مواقعها وتحيينها على معلوماتيين وليس على صحفيين، وهو ما يعكس غياب التكوين المعلوماتي لدى الصحفيين، من جهة، ويولد تبعية معلوماتية تبلغ حد انقطاع تحيين بعض المواقع لمدة طويلة كما في حالة موقع صحيفة «العلم» الذي يوجد منذ عدة أسابيع ظاهريا تحت الصيانة والتطوير وباطنيا ربما في مشاكل أو صعوبات تقنية، وتعذر تصفح مواقع أخرى مثل «الأحداث المغربية» و«المساء» و«بيان اليوم» وملازمة مواقع أخرى مرحلة البناء منذ عدة شهور، كموقع «نيشان»؛

    يستنتج مما سبق وجود ما يمكن تسميته بـ «مكان فارغ» في حقل الإعلام الرقمي. هذا المكان الفارغ الذي له نظيره في الفن ويستغله في المغرب شباب ضعيف التكوين فنيا وثقافيا، استحوذ عليه على صعيد الإعلام الثقافي أيضا شباب لا يبدو أنهم ذوي تكون صحفي أو فني. مكنهم من هذا الاستيلاء امتلاك المعرفة والتقنية المعلومياتيين، فأسسوا بذلك منابر نجحت في استقطاب رقميا ما لم تنجح في تحقيقيه معظم الصحف الورقية. باستثناء موقع صحيفة هسبريس الإلكترونية، المحتويات التي تروجها هذه المواقع هي: الغناء والأفلام والبرامج المعلوماتية والدردشة والشات وكرة القدم والفكاهة؛ الموقع المغربي الأول الذي لا منازع له في الوقت الراهن هو موقع «الحيوح» No title المتخصص في الغناء والفيديوكليبات: أقل عدد زيارات شهدها في الشهر الأخير كان 867 642 زائر يوم 25 شتنبر 2022 وأكبر عدد: 774.158 يوم 13 من الشهر نفسه متجاوزا ثاين موقع في الترتيب، وهو «هسبريس» بحوالي 7 مرات.

    3. الثقافـة:
    تتيح الثورة الرقمية وإحدى أبرز مُلازمتيها في الوقت الراهن، وهما العولمة والشوملة، إجراء مراجعة جذرية لمفهوم الثقافة على نحو ما صاغه الحقل الأنثروبولوجي سابقا. من هذه المراجعات التعريف الذي يحددهها باعتبارها حقلا لتوترات ثلاثة تُضفي عليها (أي الثقافة) صبغة الدينامية: توتر (فرد – جماعة)، توتر (داخل – خارج)، ثم توتر (ماضي – حاضر).

    – في الأول يُحدد الفرد باعتباره عنصرا داخل جماعة، ولكن لا يمكن اختزاله إلى حاصل مجموع سمات ثقافة أفراد الجماعة مقسوما على عددهم. على هذا النحو يتم الحديث عن فرد أكثر ثقافة من الآخر داخل الثقافة الواحدة (الروسي الذي يقرأ شكسبير والمغربي الذي يقرأ فوكو، الخ)؛

    – في الثاني يتم الحديث عن مجالات ثقافية محددة جغرافيا، ولكن هذا الانغلاق لا يكون كاملا كما يبدو لأول وهلة؛ فالثقافة كانت على الدوام – ولا زالت – حصيلة اتصالات وتفاعلات مع الخارج (حروب، علاقات اقتصادية، تبادل الديانات، النساء، الخ.)؛

    – في التوتر الثالث: الثقافة تراكم ماض، ولكن لا حياة لها إذا لم تتطور ولم تنفتح على المستقبل[7].

    هذه التجاذبات تشهد اليوم، في سياق الرقمية، حركة قوية بسبب كثرة التنقلات (شمال – جنوب عبر السياحة والاستثمار ثم جنوب – شمال عبر الهجرة)، واجتياح الصورة ووسائل الإعلام السمعية – البصرية لحياتنا. صار اليوم بإمكان الفرد، داخل بيته ومن وراء شاشته، أن ينظم إلى أية جماعة بشرية في أي نقطة من الكوكب، بمعنى أنه صار بإمكانه أن يتواصل مباشرة مع المجموعة البشرية الكونية، وهو ما يرى فيه بعض الباحثين أحد مظاهر تحول عميق تشهده كافة الثقافات البشرية اليوم، يتميز بظهور تقنيات جديدة لتخزين المعارف وإيصالها، من جهة، وبتحول المرجعيات التقليدية للهوية[8]. والأمر نفسه يقال عن التوتر الثاني (داخل – خارج)، حيث زحف العولمة والفرضنة virtualisation يُزيحان بشكل منهجي حدود ما يُسمى بالدولة القطرية المؤطرة بحدود جغرافية مادية كانت إلى وقت قريب هي ما يتيح الحديث عن جهات أو مناخات ثقافية. في هذا المستوى، يمكن طرح السؤال: أين تقف حدود ما هو مغربي عن غيره عندما نكون إزاء منبر ليس له من المغربية إلا جنسية صاحبه في حين يتكون قراؤه وكتابه من خليط من الأفراد متعددي الجنسيات على نحو ما نجد في العديد من المنابر الرقمية وفي مقدمتها المنتديات التفاعلية والمجلات الثقافية الرقمية؟ تتضح هذه النقطة أكثر بالنظر إلى إمكانيات النشر والانتماء الثقافيين المتاحين لرواد الشبكة المغاربة.

    ب ) فضاءات وأشكال رواج الثقافة في شبكة الأنترنت:
    – قوائم الاتصالات الفردية: تتيح جميع الحسابات البريدية الرقمية للمستخدم إنشاء قائمة عناوين للاتصال، وبذلك يمكنه أن ينشر، وبضغة زر واحدة، أية معلومة ثقافية أو إبداع شخصي إلى مجموع أعضاء قائمة اتصاله ولو عُدَوا بالمئات. هذه الإمكانية مستغلة بكثرة من لدن المغاربة؛

    – المجموعات البريدية: خدمة مجانية تقدمها العديد من الشركات، مثل قوقل والياهو ومكتوب. وعبر إنشاء مجموعة أو الانضمام إليها يُتاحُ للعضو الحصول على نُسخة من كل رسالة يبثعها باقي أعضاء المجموعة الذين يمكن أن يبلغوا الآلاف، كما يتاح للمستخدم نفسه أن يُبلغ أي معلومة ثقافية إلى مجموع زملائه برسالة واحدة تصل نسخة منها للجميع؛

    – المدونات: خدمة مجانية تقدمها العديد من الشركات، مثل مكتوب وموقع www.blogger.com وغيرهما، تمكن كل فرد من الحصول في بضع دقائق على ما يشبه موقعا جاهزا يمكنه أن ينشر فيه ما شاء (أخبار، شعر، حكي، خواطر، فيديوهات، صور، أغاني، الخ.)، عمليا خارج أية رقابة. هذه الخدمة يستفيد منها المغاربة بكثرة، بل وينتضمون في هيأة لهم تسمى «تجمع المدونين المغاربة».

    – مواقع نشر أشرطة الفيديو: تقدمها شركات عديدة، مثل غوغل وMyspace وDailymotion، على أن أشهرها هو موقع اليوتوب الذي يعرفه جل المغاربة للتداعيات المترتبة عن نشر أشرطة فيه استقطبت الرأي العام المغربي (قناص تارجيست، حفل الشواذ بالقصر الكبير؛

    – المنتديات الثقافية: تعد بالمئات، وتتيح لكل منخرط أن ينشر أعماله الإبداعية والفكرية والفنية بغاية القراءة والمناقشة بقدر ما تتيح له مناقشة أعمال باقي الأعضاء. هنا أيضا ينتشر عدد كبير من الكتاب والمبدعين المغاربة؛

    – الصحف الإلكترونية: هي الأخرى عديدة، والنشر فيها متيسر جدا لمن شاء.

    – المجلات الرقمية: عديدة أيضا، وينتشر فيها المغاربة بكثرة، لا سيما في المنابر التي تعرف احتشادا كبيرا مثل دروب وكيكا.

    – تجمعات ثقافية عبارة عن خليط من هيئات ومؤسسات ومنتديات، كاتحاد كتاب الأنترنت العرب والجمعية الدولية للمترجمين العرب والمركز الاستراتيجي العربي ومنتدى من المحيط إلى الخليج…

    ترتب عن تعدد هذه الفضاءات الناتجة عن هذا المنعطف الكبير المتمثل في ظهور تقنيات جديدة لتسجيل المعلومات وتخرينها وإيصالها نتيجتان أساسيتان على الأقل:

    الأول: وجود الخبر في جميع الأمكنة دون أن يكون في مكان بعينه؛ صار من المتعذر مواكبة كل ما يُنشر بقدر ما صار عمليا من المستحيل حصر جميع أماكن تنقل المثقفين والمبدعين مغاربة كانوا أو غيرهم والإحاطة بكل ما ينشرونه. والسبب في ذلك أنه مع حادث الشبكات دخل العالم إلى مرحلة لم يعد يوجد فيها أي مركز سمته الأساسية تدفق المعلومات بما يتيح الحديث عن «الطوفان الثاني»[9].

    الثاني: دمقرطة بث المعلومة والخبر الثقافيين والوصول إليهما. بيد أن هذه الدمقرطة وإن كانت إيجابية من حيث إنهائها احتكار مؤسسات ومنابر الإعلام التقليدية الكتابية والسمعية البصرية امتلاك المعلومة ونشرها، فإنها (الدمقرطة) في إتاحتها لأي كان أن ينشر ما شاء، بمنتهى السهولة وخارج أي رقابة، تعيد حقل الإعلام بمعنى ما إلى مرحلة بداية تشكله، حيث كانت تسود النميمية والمشافهة، مما يجعل سؤال المصداقية يُطرح بحدة.

    خلاصة:
    الثورة الرقمية التي نعيش بداياتها الآن هي بصدد التأثير جديا على عدد كبير من مؤسسات العالم القديم، عالم ما قبل الرقمية. وقطاع الإعلام عموما، وضمنه الإعلام الثقافي، لا يسلم من هذا التأثر الذي تتجلى أبرز مظاهره في ما يُشبه عودة إلى حقبة ما قبل تشكل قطاع الإعلام. هل هو مؤشر نهاية لهذه المؤسسة أم هو بداية إعادة تشكل لهذا الحقل؟

    في السياق المغربي، التغيير على صعيد الإنتاج الثقافي عموما، وضمنه الإعلام الثقافي، هو من السرعة والمداهمة بحيث يُدخل تغييرات عميقة على ما لم يكتمل تشكله بعد. نشأة الصحافة المغربية حديثة جدا، وشريحة القراء لازالت ضعيفة جدا، ومع ذلك نجحت بعض الصحف الرقمية في استقطاب من القراء ما لم تنجح في استقطابه معظم الصحف الورقية.

    لاستمرار منابر النشر الحالية يجب عليها استغلال جميع الإمكانيات التي تمنحها الرقمية، من تكوين معلوماتي للصحفيين، وتجديد الخبر على مدار الساعة، والتكيف مع البيئة الجديدة لرواج المعلومات، هذه البيئة التي توفر وثائق من الكثرة والمجانية بما يجعل القراءة تأخذ شكل ترحال متزايد من لدن مبحري الشبكة.