الحوار في صحة جر الجوار
أو
مذاكرة الشيخ البشير الإبراهيمي في صحة قول العرب: ( هذا جحر ضب خرب)
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: فأنا أقرأ في جزء لطيف من روائع ما دبجه يراع الشيخ الإبراهيمي ــــ رحمه الله ــــ موسوم “برسالة الضب“،([1]) والتي استعرض فيها الشيخ ما كان يحفظه عما قيل في الضب وعلى لسانه، وما ضرب من الأمثال المتعلقة به، ومن ذلك ما يذكره النحاة استشهادا للجر بالمجاورة: (هذا جحر ضب خرب).
وكان أن وقف الشيخ منه موقفا عجيبا حيث قال: ((هذا المثال البارد الفج الصامط، الذي لا يثير في النفس اهتماما بل يثير فيها اغتماما))!!.
وأثار كلام الشيخ البشير هذا اهتمامي؛ إذ إن علماء اللغة لا يشترطون في الذي يذكرونه من شواهد أن تكون مما يطرب السامع وتهتز له أعطاف القارئ ويجد الأريحية في ترديده، كما أنهم لا يجعلون أمر هذه الشواهد متوقفا على استحسان الدارس أو استهجانه، بل الأصل عندهم في صحة شواهد اللغة ثبوتها عن أهل اللسان، دون النظر إلى أي اعتبار أخر. فشأن الشواهد اللغوية كما قال الشيخ محمد صادق الرافعي: (( لا يبالي الرواة فيها إلا باللفظ، فيستشهدون بكثير من كلام سفهاء العرب وأجلافهم، ولا يأنفون أن يعدوا من ذلك أشعارهم التي فيها ذكر الخنى والفحش؛ لأنهم يريدون الألفاظ وهي حروف طاهرة)).([2])
وهكذا ذهب الشيخ البشير مغتما إلى التشكيك في ثبوت المثال وصحته فقال: (( فلست على ثقة من أن مثال النحاة مسموع من العرب)). وهي دعوى يستغرب صدورها من مثل الشيخ البشير؛ إذ قد نقل هذا المثال العدول من أئمة العربية وأساطينها، ويكفي حكاية سيبويه له، قال في “الكتاب”: (( وقد حملهم قرب الجوار على أن جر هذا جحر ضب خرب ونحوه)).([3])
بل زاد الشيخ الإبراهيمي على التشكيك في ثبوت المثال إلى القطع بأنه منتحل مصنوع حيث قال: (( وإنما هو مثال سوقي انتحلوه، ثم قلد أخرهم أولهم فيه على عادتهم)).
وهو كلام شديد رمى فيه الشيخ البشير عن قوس واحدة المثال وناقليه ومنهجهم. واستنتج الشيخ بعد ذلك إشكالا غريبا صاغه في قالب الإنكار فقال: ((وهل يصح لهم أن يمثلوا لمسألة سماعية بمثال مصنوع)). وعلى تسليم كون المثال مصنوعا منتحلا فإن أهل اللغة لا يقتصرون في التمثيل لقضية الجر بالجوار بجحر الضب الخرب بل يذكرون من متماسك الشواهد الكثير. قال أبو البقاء في “الإملاء”: ((هذا موضع يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد)).([4])
وفي بعض تلك الشواهد من الروح والخفة والإيناس ما يستحق أن يستولى به على هوى النفوس، و ينال الحظ الأوفر من ميل القلوب. ومن ذلك قول ذي الرمة:
تـريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب
حيث خفض غير للمجاورة، ومن ذلك أيضا قول امرئ القيس:
وظل طهاة اللحم ما بين منضج صفيف شواء أو قدير معجل
بحر قدير للمجاورة .
ثم إن الشيخ البشير في اعتراضه على مثال النحاة ذكر أمرين احتجاجا لدعواه:
الأمر الأول: (( إن نطق العرب لا يساعد على ما ادعاه النحاة فيه؛ لأن كلمة خرب التي يدعي النحاة جرها مقطعا في الجملة لم يعقبها كلمة أخرى، فإذا نطق بها عربي نطق بها ساكنة الأخر بلا شك، فمن أين يظهر الجر الذي ادعوه فيها)).
والجواب: أن الجر يظهر بلا إشكال باعتبار كون هذا المقطع في درج الكلام، بمعنى أن العبارة نطق بها موصولة بكلام يعقبها، والنحويون اقتصروا على محل الاستشهاد وموضع الاحتجاج. وهو مضطرد كثير في تصرفاتهم.
وأما دليل الشيخ الثاني على أن مثال النحاة مصنوع فقد قال الشيخ البشير: (( إن معنى المثال على برودته وجفافه لا يتفق مع ما يعرف العرب عن الضب من أنه لا يبني جحره إلا في الأماكن الصلبة المتماسكة)). وقد ساق الشيخ البشير في بيان هذه الحقيقة جملة من الشواهد والأشعار.
وعلماء اللغة لا يخالفون الشيخ في صحة صلابة وتماسك جحور الضباب، ولكنهم لا يعتقدون أن ذلك من قواعد العقول التي لا تنخرم بحال. ثم إن الضباب ليست على درجة واحدة من القوة والمهارة في بناء الأجحار؛ فالفوضى في البناء في عالم العقلاء فاشية فضلا عن عالم الأحناش. ثم إن صاحب تلك العبارة لم يجر في وصفه لجحر الضب ذاك على صناعة الحدود والتعاريف حتى يرد عليه ما ذكره الشيخ البشير، إذ قد يكون في مقام وصف جحر ضب رأى خرابه وعاين انقضاضه، ولا تثريب على من أخبر بما عاين وشاهد. وكأن الشيخ البشير تنبه لوهاء هذا الذي احتج به فقال: ((ولا ننكر أن بعض جحر الضباب يخرب وقد خربت مدائن الرومان والفراعنة فضلا عن جحور الضباب)).
ومع قوله هذا أصر الشيخ البشير على الطعن في المثال فقال: ((ولكنه أي المثال بارد جاف مخاذل، خاذل لحافظه إذ يوهمه خلاف الواقع)). وهذا عجيب من الشيخ. أويقال إن شواهد اللغة كلها تعبر عن حقائق ومسلمات لا تخالف الواقع؟ أوليس غالب شواهدها أشعار هام فيها أصحابها في أودية الباطل والخيال، أم هل يقال إنه لا ينبغي ولا يصح الاستشهاد بمثل قوله تعالى: {إن هذان لسحاران}؛ لأنه يوهم خلاف الواقع. ولو عاملنا شواهد النحو وأمثلته بما قد يفهم من كلام الشيخ البشير لنسفناها جملة، ولم يبق لنا منها إلا قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
والشيخ البشير ليس هو أبو عذر تخطئة هذا المثال، فقد عده بعض النحاة المتقدمين كابن النحاس وغيره من قبيل الغلط واللحن، بل قد تجاسر ابن جني ونقل إجماع العلماء على عده من غلطات العرب فقال: ((قولهم هذا جحر ضب خرب يتناوله آخر عن أول، وتال عن ماض على أنه غلط من العرب، لا يختلفون فيه ولا يتوقفون فيه)).([5])وما أدري مستنده في هذا النقل العجيب، الذي لا يختلف الناس في بطلانه، ولا يتوقفون في رده؛ إذ لا يزال النحاة واللغويون والمفسرون والفقهاء يستدلون بهذا المثال، وينقلونه آخر عن أول، وتال عن ماض، وعلى أساسه قعدوا باب الجر بالجوار. واعجب لابن جني نفسه ينـقــل اعتبار الكــافـة له، قــال في “الخصـائص”: (( وأما الجوار في المنفصل فنحو ما ذهبت الكافة إليه في قولهم هذا جحر ضب خرب)).([6])
وليت أن الشيخ توقف عند الاعتراض على هذا المثال كما ظن ذلك أخونا الفاضل بوسلامة فقال: (( ولم يكن هذا اعتراض من الإمام على الخفض بالمجاورة، وإنما هو اعتراض على المثال، والاعتراض على المثال لا يقدح في القواعد)).([7]) ذلك أن الشيخ يقرر في رسالته تلك: ((أن هذا النوع من الجر مقصور على ما سمع من العرب؛ فلا يسوغ لنا نحن طرده من كلامنا حتى لا نفسد اللغة على أنفسنا، بهدم القواعد الصحيحة، والجري على غير منهاج)). فأنت ترى كيف أن الشيخ لم يقتصر على المثال، بل تجاوزه إلى رد قاعدة الجوار. وهذا من الشيخ جريا على مذهب شاذ لبعض النحــاة والمفسرين. قال ابن الأنباري في “الإنصاف”: (( وقولهم جحر ضب خرب محمول على الشذوذ، الذي يقتصر فيه على السماع لقلته، ولا يقاس عليه)).([8]) والحق الذي عليه المحققون من أئمة اللغة والتفسير أن الجر بالمجاورة مطرد، ينسج على منوال ما سمع عن العرب فيه. قال أبو البقاء: (( وقد جعل النحويون له بابا، ورتبوا عليه مسائل، ثم أصلوه بقولهم هذا جحر ضب خرب، حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حذاقهم؛ قياسا على المفرد المسموع، ولو كان لا وجه له في القياس بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقط)).([9])
وليس الأخذ بقاعدة الجر بالجوار جريا على غير منهاج كما قال الشيخ البشير، بل هو مهيع ظاهر المعالم له ضوابطه وقواعده. وقد ذكر علماء اللغة لتسويغ الجر بالمجاورة جملة شروط:
الشرط الأول: عدم الإلباس. قال السمين الحلبي عند كلامه عن الجر بالجوار: (( وهذه المسألة عنذ النحويين لها شروط: أن يؤمن اللبس فلا يجوز قام غلام زيد العاقل، إذا جعلت العاقل نعت للغلام امتنع جره على الجوار لأجل اللبس، بخلاف قولهم هذا جحر ضب خرب ففي هذا المثال خرب صفة للجحر لصحة اتصافه به والضب لا يوصف به)).([10])
الشرط الثاني: أن لا يفصل بين المتجاورين بحرف العطف.قال ابن هشام: (( ولا يكون خفض الجوار في النسق؛ لأن التعاطف يمنع من التجاور)).([11])والحق جواز الجر بالمجاورة ولو في النسق، قال القاسمي: ((وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار مردود بأنه ورد في العطف كثير في كلام العرب)).([12]) ومن مجيء الجوار في النسق قراءة أبي عمر و غيره {وأرجلكم} بالخفض. وجزم البيهقي في “السنن” أن من قرأ وأرجلكم خفضا فإنما هو للمجاورة.
الشرط الثالث: أن تتفق الكلمتان المتجاورتان إفرادا وتثنية وجمعا وتنكيرا وتعريفا وتذكيرا وتأنيثا. نص على ذلك الخليل([13]) وغيره. إلا أن سيبويه يجيز الحمل على الجوار وإن اختلف المتجاوران، إذ لم يشكل المعنى.([14])
الشرط الرابع: أن يتضمن جر الجوار نكتة. قال القاسمي: ((وشرط حسن الجر بالجوار عدم الإلباس مع تضمن نكتة)).([15])ومن دقق النظر في مثال النحاة هذا جحر ضب خرب رأى أنه يتضمن جملة من النكت:
أولا: أن الخراب مستثقل معنى، و الضم مستثقل لفظا، فجر خرب حتى لا يجتمع على اللفظ ثقلان.
ثانيا: إنه لما خالف جحر ضبنا الأصل في جحور بني جنسه من كونها متماسكة صلبة، خولف له في الإعراب، ونزع له ما هو أصل إعراب نظائره وهو الإتباع وجر على الجوار.
ثالثا: لما وصف الجحر بالخراب وكان الوصف مظنة الاختصاص أجراه على الجوار لا على الإتباع؛ بيانا لكون الخراب وصفا عارضا لا ملازما.
رابعا: إن هذه الجملة على وجازتها تصلح أن تكون مثالا جامعا لأنواع الإعراب الثلاث المحلي والظاهر والمقدر. فكلمة (هذا) إعرابها محلي، والكلمة المركبة في الوسط (جحر ضب) إعرابها ظاهر، وكلمة (خرب) الإعراب فيها مقدر.
هذا وإن إعمال الفكر في الإطلاع على أسرار سنن أهل اللسان يبين أنهم قد بلغوا مبلغا عظيما في تصرفهم فيه. وقد أحسن من قال:
هي العرب تأتي من وجوه كثيرة يتيه بها بعض النحاة الأكابر
وفي الأخير لم استطع تجاوز عبارة وجدتها في مقال أخينا الفاضل بـو سلامة، فإنه لما ذكر اعتراض الشيخ البشير على مثال النحاة. قال: (( ولست رديفه على هذه المطية التي اقتحم بها أبواب الجراءة على النحاة، فكان أجرأ من غضافر)).([16]) وهي عبارة شديدة أتمنى أن ينفعه معها ليت وأختها لعل.
وأرجو أن أكون بما كتبت قد حققت ما أراده الشيخ البشير ـــ نور الله عليه قبره ــ فإنه قال بعد إيراد الاعتراض: (( وددت لو ذاكرت بعض نحاة العصر المفتونين بالمباحث اللفظية العقيمة في هذا التوجيه؛ لأسمع رأيهم وما عسى أن يأتوا به من حجج فارغة)).
مذكرا أنني لست ـــ علم الله ــ من نحاة العصر، ولا ممن شغف ببعض مباحثهم اللفظية العقيمة، ولكنني فضولي أعبر عن توجيهات وحجج من نقلوا ذاك المثال، وأصلوا قاعدة الجوار من أنمة العربية و أساطينها كالخليل وسيبويه والأخفش وأبو البقاء وغيرهم.
والبحث ليس في الانتصار لتعليلات نحوية بعيدة، أو توجيهات إعرابية مستكرهة، يمكن وصفها بالمباحث اللفظية العقيمة والحجج الفارغة، ولكن الشأن في الانتصار لأسلوب من أساليب لغتنا قال عنه الإمام ابن كثير: ((المجاورة وتناسب الكلام وهذا سائع ذائع في لغة العرب شائع)).([17])
وكذا في الاحتجاج لشاهد نحوي نقله وأثبته أئمة فحول.
فإن كان الذي نقلت مقنعا فذاك، وإن كان غير ذلك فالأمر كما قيل:
غاية نفس عذرها مثل منجح
والله أسأل أن يرحم الشيخ البشير، وأن يجمعني وإياه في مستقر رحمته في جوار الأنبياء والصالحين.
[1] مطبوعة ضمن “آثار الشيخ البشير الإبراهيمي” ( 2/40 ـ 52 ).
[2] “تاريخ آداب العرب” للرافعي (1/354 ).
[3] “كتاب سيبويه” (1/437 ).
[4] “إملاء ما من به الرحمان” لأبي البقاء العكبري (1/118 ).
[5] “الخصائص” لابن جني (1/191 ).
[6] “الخصائص” لابن جني (3/220 ).
[7]مقال (لسان لحلو يرضع اللبة) لمحمد بوسلامة مجلة “منابر الهدى” العدد (04)
[8] “الانصاف” لابن الأنباري (1/610 ).
[9] “إملاء ما من الرحمان” لأبي البقاء (1/118 ).
[10] “الدر المصون” للسمين الحلبي (4/210 ).
[11] “مغني اللبيب” لابن هشام ( 2/683 ).
[12] “محاسن التأويل” للقاسمي(6/109 ).
[13] “كتاب سيبويه” (1/437 ).
[14] “كتاب سيبويه” (1/437 ).
[15] “محاسن التأويل” للقاسمي (6/109 ).
[16] مقال (لسان لحلو يرضع اللبة) لمحمد بوسلامة مجلة “منابر الهدى”.
[17] “تفسر القرآن العظيم” لابن كثير (3/53 ).