مفهوم المجتمع المدني..نشأة وتطور المجتمع المدنى : مكوناته وإطاره التنظيمى
عبد الغفار شكر
مع انهيار نظم الحكم الشمولية فى أواخر الثمانينات فى شرق أوروبا وبعض دول العالم الثالث وتزايد الاتجاه نحو الديمقراطية برزت الدعوة إلى المجتمع المدنى كمصطلح جديد علينا فى الوطن العربى لم يكن متداولاً من قبل فى خطابنا العام أو يحظى باهتمام الباحثين. وكعادة المثقفين العرب فقد تلقفوا المصطلح الوافد بالدراسة والتحليل وصدرت العديد من الدراسات حوله كما عقدت ندوات علمية وخصصت بعض الدوريات أعدادًا كاملة لتناوله من مختلف جوانبه. واختلف الموقف من المجتمع المدنى فهناك من يتحمس له ويرى فيه الحل لكثير من مشاكلنا، وهناك من يتحفظ عليه بل ويناصبه العداء خاصة وأن الدعوة للمجتمع المدنى جاءت أساساً من هيئات أجنبية قدمت مساعدات مالية لبعض مراكز البحث لدعم الفكرة ونشرها على نطاق واسع. كما يأتى التحفظ من بعض الباحثين الذين يرون أنه لا يمكن استعارة هذا النموذج الذى تبلور ونضج فى أوروبا فى سياق مختلف تماماً وزرعه فى الوطن العربى الذى له تاريخه الخاص وتراثه المختلف.
إلا أن المؤيدين لفكرة المجتمع المدنى ينطلقون من أن التطور الديمقراطى للمجتمعات العربية وتحديثها يتطلب قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطاً يكمل دور الدولة ويساعد على اشاعة قيم المبادرة والجماعية والاعتماد على النفس مما يهيىء فرصاً أفضل لتجاوز هذه المجتمعات مرحلة الاعتماد على الدولة فى كل شىء، وكذلك تصفية أوضاع اجتماعية بالية موروثة من العصور الوسطى. ولأن العديد من المجتمعات العربية تشهد بالفعل جهوداً حثيثة للتوسع فى تكوين هذه التنظيمات والمؤسسات وسيكون لها آثارها القريبة والبعيدة فإنه من الخطأ أن نتجاهل هذه الظاهرة أو أن ننعزل عنها بل يتعين علينا أن نبحث عن الموقف السليم الذى نتخذه منها مما يتطلب أن نتابع أولا نشأة المجتمع المدنى تاريخياً وكيف تبلور وأهم الوظائف التى يقوم بها حتى نكون قادرين على حسم موقفنا منه والتعرف على مدى الحاجة إليه فى الوطن العربى والدور الذى يمكن أن ينهض به فى المرحلة الحالية من تطور المجتمعات العربية.ما هو المجتمع المدنى ولماذا؟
نشأ مفهوم المجتمع المدنى لأول مرة فى الفكر اليونانى الاغريقى حيث أشار اليه أرسطو باعتباره “مجموعة سياسية تخضع للقوانين” أى أنه لم يكن يميز بين الدولة والمجتمع المدنى، فالدولة فى التفكير السياسى الأوروبى القديم يقصد بها مجتمع مدنى يمثل تجمعا سياسيا أعضاؤه هم المواطنون الذين يعترفون بقوانين الدولة ويتصرفون وفقا لها.
تطور المفهوم بعد ذلك فى القرن الثامن عشر مع تبلور علاقات الإنتاج الراسمالية حيث بدأ التمييز بين الدولة والمجتمع المدنى.. فطرحت قضية تمركز السلطة السياسية وأن الحركة الجمعياتية هى النسق الأحق للدفاع ضد مخاطر الاستبداد السياسى.
وفى نهاية القرن الثامن عشر تأكد فى الفكر السياسى الغربى ضرورة تقليص هيمنة الدولة لصالح المجتمع المدنى الذى يجب أن يدير بنفسه أموره الذاتية وأن لا يترك للحكومة إلا القليل.
وفى القرن التاسع عشر حدث التحول الثانى فى مفهوم المجتمع المدنى حيث اعتبر كارل ماركس أن المجتمع المدنى هو ساحة الصراع الطبقى.
وفى القرن العشرين طرح جرامشى مسألة المجتمع المدنى فى اطار مفهوم جديد فكرته المركزية هى أن المجتمع المدنى ليس ساحة للتنافس الاقتصادى بل ساحة للتنافس الايديولوجى منطلقا من التمييز بين السيطرة السياسية والهيمنة الأيديولوجية.
فمع نضج العلاقات الرأسمالية فى أوروبا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر وانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متفاوتة أو متعارضة واحتدام الصراع الطبقى، كان لابد للرأسمالية (أى الطبقة السائدة) من بلورة آليات فعالة لإدارة هذا الصراع واحتوائه بما يضمن تحقيق مصالحها واستقرار المجتمع. ونجحت الرأسمالية الأوروبية بالفعل فى أن تحقق هذا الهدف من خلال آليتين: آلية السيطرة المباشرة بواسطة جهاز الدولة، وآلية الهيمنة الأيديولوجية والثقافية من خلال منظمات اجتماعية غير حكومية يمارس فيها الأفراد نشاطاً تطوعياً لحل مشاكلهم الفئوية والاجتماعية وتحسين أوضاعهم الثقافية والاقتصادية والمعيشية.. الخ.
وتأتى أهمية الآلية الثانية من أنها تؤكد استجابة مختلف الفئات الاجتماعية بقيم النظام الرأسمالى وقبولها لها وممارستها نشاطها للدفاع عن مصالحها فى اطارها، وبذلك تتأكد قدرة الطبقة السائدة (الرأسمالية) على إدارة الصراع فى المجتمع بما يدعم أسس النظام الرأسمالى وأيديولوجيته. ونتيجة لهذا التطور فنحن أمام ثلاثة مفاهيم مختلفة ولكنها فى نفس الوقت متكاملة: المجتمع، المجتمع السياسى، المجتمع المدنى. أما المجتمع فهو الإطار الأشمال الذى يحتوى البشر وينظم العلاقة بينهم فى إطار اقتصادى اجتماعى محدد ويتطور من خلال علاقة فئاته ببعضها وصراعاتها. فى حين أن المجتمع السياسى هو مجتمع الدولة الذى يتكون من الدولة وأجهزتها والتنظيمات والأحزاب السياسية التى تسعى للسيطرة عليها أو الضغط عليها. والمجتمع المدنى هو الأفراد والهيئات غير الرسمية بصفتها عناصر فاعلة فى معظم المجالات التربوية والاقتصادية والعائلية والصحية والثقافية والخيرية وغيرها. ويتكون المجتمع المدنى من الهيئات التى تسمى فى علم الاجتماع بالمؤسسات الثانوية مثل الجمعيات الأهلية والنقابات العمالية والمهنية وشركات الأعمال والغرف التجارية والصناعية وما شابهها من المؤسسات التطوعية. والمقصود بالدعوة للمجتمع المدنى هو تمكين هذه المؤسسات الأهلية من تحمل مسئولية أكبر فى إدارة شئون المجتمع كى يصبح مداراً ذاتياً إلى حد بعيد. وهكذا يستبعد من المفهوم المؤسسات الاجتماعية الأولية كالأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة الإثنية أو المذهبية أو الدينية. كما يستبعد منه المؤسسات السياسية والحكومية، ويبقى بذلك فى نطاق المجتمع المدنى المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التى يقوم نشاطها على العمل التطوعى. ومن المهم الا نستنتج من هذا التعريف أن التعارض مطلق بين المجتمع المدنى والمجتمع الرسمى أو الدولة، فلا يمكن قيام مجتمع مدنى قوى فى ظل دولة ضعيفة بل هما مكونان متكاملاً يميز بينهما توزيع الأدوار وليس الانفصال الكامل. كذلك فإن استبعاد الأحزاب السياسية من تعريف المجتمع المدنى لا يعنى أنها خارج الموضوع تماماً فالحقيقة أن الأحزاب باعتبارها طليعة لقوى اجتماعية تعبر عن مصالحها وتسعى للوصول إلى سلطة الدولة تهتم كثيراً بمؤسسات المجتمع المدنى وتسعى للتجنيد من صفوفها، وبالتالى فإننا نلاحظ وجود مساحة مشتركة بين المجتمع المدنى والمجتمع السياسى تشغلها حركة الأحزاب السياسية. وتؤكد هذه الحقيقة أنه بالرغم من أن المجتمع المدنى هو نتاج للتطور الرأسمالى إلا أنه ليس شأناً رأسمالياً بحتا بل يمكن أن تحقق من خلاله مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية مصالحها مثل النقابات العمالية واتحادات صغار المنتجين والمستهلكين.
أخطأ البعض في الوطن العربي عندما اتخذوا موقفا سلبيا من الدعوة إلى تقوية المجتمع المدني لأنهم تصوروا أنه يقتصر فقط على تلك المنظمات غير الحكومية التي تأسست حديثا في سياق العولمة، ونشطت في بداية تأسيسها وفق أجندة خارجية حددت موضوعاتها مؤسسات التمويل الدولية الرأسمالية ومنظمات غير حكومية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وغاب عن هؤلاء أن المجتمع المدني يضم العديد من المنظمات الشعبية والجماهيرية، وأنه قائم في المجتمعات العربية منذ أكثر من مائة سنة مع تأسيس الجمعيات الأهلية في القرن التاسع عشر والنقابات العمالية والمهنية في بداية القرن العشرين وكذلك الجمعيات التعاونية إلى آخر هذه المنظمات التي تدخل في إطار تعريف المجتمع المدني.
والمجتمع المدني هو من حيث المبدأ، نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وهى علاقات تقوم على تبادل المصالح والمنافع، والتعاقد والتراضى والتفاهم والاختلاف والحقوق والواجبات والمسئوليات، ومحاسبة الدولة في كافة الأوقات التي يستدعى فيها الأمر محاسبتها، ومن جهة إجرائية، فإن هذا النسيج من العلاقات يستدعي، لكي يكون ذا جدوي، أن يتجسد في مؤسسات طوعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية متعددة تشكل في مجموعها القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها مشروعية الدولة من جهة، ووسيلة محاسبتها إذا استدعى الأمر ذلك من جهة أخرى(1)
والمجتمع المدني هو مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الدولة المباشر، فهو يتميز بالاستقلالية والتنظيم التلقائي وروح المبادرة الفردية والجماعية، والعمل التطوعي، والحماسة من أجل خدمة المصلحة العامة، والدفاع عن حقوق الفئات الضعيفة، ورغم أنه يعلى من شأن الفرد إلا أنه ليس مجتمع الفردية بل على العكس مجتمع التضامن عبر شبكة واسعة من المؤسسات (2)
تزداد أهمية المجتمع المدني ونضج مؤسساته لما يقوم به من دور في تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من إفقارهم، وما يقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، ثقافة الإعلاء من شأن المواطن، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي وجذبهم إلى ساحة الفعل التاريخي والمساهمة بفعالية في تحقيق التحولات الكبرى للمجتمعات حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.(3). وفى هذا الإطار يرى المفكر والمناضل الإيطالي انطونيو جرامشى أن المجتمع المدني ساحة للصراع داخل المؤسسات السياسية والنقابية والفكرية للمجتمع الرأسمالي، تمارس من خلاله الطبقة البورجوازية هيمنتها الثقافية أو تصعد من خلاله بشائر الهيمنة المضادة للطبقة العاملة(4). أي هو مفهوم صراعي وليس شأنا رأسماليا بحتا حيث يتعين على الطبقة العاملة والطبقات الكادحة أن تواجه الأيديولوجية الرأسمالية والثقافية السائدة بثقافة مضادة، مما يعزز استقلالية مؤسسات المجتمع المدني ودورها في حماية الإنسان العادي من سطوة الدولة، وقدرته على ممارسة التضامن الجماعي في مواجهتها ، مما يمكنه من الضغط عليها والتأثير علي السياسيات العامة للدولة. أن المجتمع المدني عند جرامشى والمجتمع المدني بهذا المفهوم هو أحد أركان الديمقراطية ويلعب دورا هاما في بنائها ودعم تطورها، ويمكن أن نتعرف مبدئيا على العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية من خلال متابعتنا لكافة الجوانب المتعلقة به من حيث تعريف المجتمع المدني ومكوناته ووظائفه ، كما يمكن أن نتعرف عليه تفصيليا من خلال دراستنا للجوانب المشتركة بينهما.تعريف المجتمع المدني :
استقر الرأي من خلال الدراسات الأكاديمية والميدانية والمتابعة التاريخية لنشأته وتطوره أن المجتمع المدني هو “مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها”هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضى والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف.
وللمجتمع المدني بهذا المفهوم أربعة مقومات أساسية هي :
– الفعل الإرادي الحر أو التطوعي
– التواجد في شكل منظمات.
– قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين
– عدم السعي للوصول إلى السلطة.
مكونات المجتمع المدني :
يدخل في دائرة مؤسسات المجتمع المدني طبقا لهذا التعريف أي كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة تبعا للغرض العام أو المهنة أو العمل التطوعي، ولا تستند فيه العضوية غلى عوامل الوراثة وروابط الدم والولاءات الأولية مثل الأسرة والعشيرة والطائفة والقبيلة، وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني هي :
– النقابات المهنية
– النقابات العمالية
– الحركات الاجتماعية .
– الجمعيات التعاونية
– الجمعيات الأهلية
– نوادي هيئات التدريس بالجامعات
– النوادي الرياضية والاجتماعية
– مراكز الشباب والاتحادات الطلابية
– الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال
– المنظمات غير الحكومية الدفاعية والتنموية كمراكز حقوق الإنسان والمرأة والتنمية والبيئة.
– الصحافة الحرة وأجهزة الإعلام والنشر
– مراكز البحوث والدراسات والجمعيات الثقافية.
وهناك من يضيف إلى هذه المنظمات هيئات تقليدية كالطرق الصوفية والأوقاف التي كانت بمثابة أساس المجتمع المدني في المجتمعات العربية منذ مئات السنين قبل ظهور المنظمات الحديث.تطور المجتمع المدنى فى ظل العولمة :
لاشك في أن العولمة الرأسمالية هي أهم الظواهر العالمية المعاصرة وأهمها تأثيراً في حياة الشعوب ومستقبلها .ومن أبرز مظاهر العولمة إعادة هيكلة الرأسمالية المعاصرة بإدماج اقتصاديات مختلف بلدان العالم في الاقتصاد الرأسمالي بالشروط التي وضعتها رأسمالية المراكز المتقدمة على أساس إعلاء شأن السوق وآلياته وفرض حرية انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات والسلع والخدمات دون قيود أو عقبات تطبيقا لأفكار الليبرالية الجديدة التي تشكل العنصر الأيديولوجي المسيطر والمركزي في عملية إعادة الهيكلة هذه التي تجرى على امتداد العالم، وقد عانت دول الجنوب ومن ضمنها الأقطار العربية من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة نتيجة تطبيق السياسات التي أو أوصت بها المؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهى السياسات المعروفة بالتكيف الهيكلي.
ولتخفيف حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي حرصت قوى العولمة على توظيف المجتمع المدني ليكون بديلا للدولة الوطنية التي تنسحب من أدوارها التقليدية ومسئولياتها في دعم الفئات الفقيرة وتوزيع الدخل لصالح الطبقات العاملة والكادحة والفئات الضعيفة، وتهدف قوى العولمة من دعمها للمجتمع المدني أن يقوم بدور البديل للدولة في مجال دعم الفئات الفقيرة وتستخدم كملطف لحدة المشاكل الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي مثل الفقر والبطالة والتهميش فيكون إطاراً يعبئ شرائح وقوى اجتماعية تتحمل عبء مواجهة هذه المشاكل وسيكون ذلك بالقطع على حساب دوره في دعم التطور الديمقراطي للبلاد.
تؤكد التقارير السنوية للبنك الدولي هذه النظرة حيث يشير في تقرير 1995 إلى المجتمع المدني كظاهرة اقتصادية باعتباره القوة المحركة بالنسبة لنشاطات ونمو القطاع الخاص، من هنا تأتى أهميته لأهداف التكيف الهيكلي فيما يتعلق بتقلص دور الدولة، وخصخصة الخيرات العامة والسلع الاجتماعية، ونمو القطاع الخاص الذي تعرض للتقهقر في مراحل سابقة، ويؤكد البنك الدولي أنه من المأمول مع الانفتاح السياسي أن تحدث نقله من مرحلة التسامح مع القطاع الخاص إلى مرحلة التحمس له، بوصفه محرك النمو والمحدد الرئيسي لمستقبل البلاد، ويشير البنك في تقرير 1998 أن القطاع المستقل عن الدولة أو غير الحكومي والذي يضم أنواعا مختلفة من المنظمات غير الحكومية عليه دور حاسم في التصدي للمظاهر التي تحول دون تطور القطاع الخاص. وينظر البنك؛ الدولي إلى المجتمع المدني لما يستطيع أن يقوم به من مساعدة في تعبئة الموارد بالطرق التي تعجز الدولة عن القيام بها وباعتباره “دولة الظل” التي تقوم بوظائف تقليدية للدولة مثل إنشاء وإدارة المدارس ومراكز الرعاية الصحية ومشروعات الأشغال العامة كشق الطرق والترع(5)، بل إن تعريف البنك للمنظمات الأهلية يؤكد إصراره على دورها كملطف لحدة المشاكل وليس باعتبارها الوسيط بين المجتمع والدولة أو باعتبارها إطارا مناسباً للمساهمة في التحول الديمقراطي للمجتمع أو لإمكانية قيامها بدور تغييري تنموي شامل، يتضح ذلك من تعريف البنك الدولي لها بأنها مؤسسات وجماعات متنوعة الاهتمامات مستقلة كليا أو جزئيًا عن الحكومات، وتتسم بالعمل الإنساني والتعاون وليس لديها أهداف تجارية ويساعد على تحقيق أهداف المؤسسات الرأسمالية الدولية في توظيف مؤسسات المجتمع المدني لخدمة سياساتها بناء منظمات غير حكومية عابرة للقوميات ترتبط بشبكات عالمية تساهم في تمويل أنشطة المنظمات الأهلية وغير الحكومية الوطنية وفق اجندة الرأسمالية العالمية بدلا من أن تكون أولوياتها طبقا لاحتياجات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أدت العولمة إلي إدخال تغييرات على خريطة المجتمع المدني بالعديد من الأقطار العربية، حيث نلاحظ أن أساس هذه الخريطة في المجتمعات العربية حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين كان منظمات شعبية تعبر عن مصالح فئات اجتماعية معينة كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والمنظمات النسائية والشبابية، أو منظمات غير حكومية دفاعية، أو جمعيات أهلية خيرية وثقافية واجتماعية تقدم لأعضائها خدمات متنوعة كما تقدم خدماتها للفئات الضعيفة في المجتمع، أو أندية رياضية وثقافية واجتماعية تشبع احتياجات أعضائها لأنشطة متطورة في هذه المجالات، وكذلك الجمعيات التعاونية. لكن العولمة جاءت معها بقضايا جديدة ومشاكل جديدة مثل حماية البيئة من التلوث، والفقر، والهجرة واللاجئين وضحايا العنف والسكان الأصليين والمخدرات والإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية، ولأن منطق العولمة يستبعد قيام الدولة بدور أساسي في مواجهة هذه المشكلات فإنها شجعت على قيام منظمات غير حكومية للتعامل معها، كما أن نشطاء المجتمع المدني سارعوا في كثير من الأقطار لتكوين منظمات غير حكومية لمواجهة هذه المشكلات والتخفيف من حدتها. وسواء كان المشجع على قيام هذه المنظمات الجديدة هو العامل الخارجي أو الأوضاع الداخلية إلا أن النتيجة واحدة هي قيام مئات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الجديدة التي تنشط حول أهداف مفتتة وقضايا جزئية دون ارتباط بالأسباب المشتركة لهذه المشاكل الجزئية، ودون وضوح حول إمكانية التنسيق والتعاون بينها لمواجهة هذه الأسباب التي تعود بالأساس إلى العولمة الرأسمالية وسياساتها. وهذا التغيير في خريطة المجتمع المدني يهدد مؤسسات المجتمع المدني بالتحول عن دورها الأساسي كجزء من المجتمع الديمقراطي إلى ملطف ومخفف لحدة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الناجمة عن سياسات العولمة وتأثيراتها على مجتمعاتنا وهى تكرس في نفس الوقت الحكم الاستبدادي.
يطرح هذا التطور في بنية المجتمع المدني في دول الجنوب والأقطار العربية قضية الحركات الاجتماعية كمكون أساسي من مكونات المجتمع المدني، وكعنصر هام من عناصر التطور الديمقراطي وتحولات المستقبل الاجتماعية. ووجه الأهمية هنا في طرح قضية الحركات الاجتماعية أننا مع هذا التغيير في بنية المجتمع المدني أمام حركات اجتماعية جديدة تختلف عن الحركات الاجتماعية التقليدية سواء من حيث الأهداف أو الأدوار، فالحركات التقليدية كالحركة العمالية والحركة الفلاحية والحركة الطلابية والحركة النسائية كانت جزءًا من الصراع الطبقي في المجتمع هدفها حماية مصالح فئات اجتماعية واسعة أو طبقات اجتماعية في مواجهة الاستغلال والقهر الذي تمارسه فئات أخرى، ورغم أنها لم تكن تمارس نشاطا حزبيا مباشرا، إلا أنها أدت في بعض الأحيان إلى تأسيس أحزاب سياسية لهذه الفئات الاجتماعية، وقد نجحت هذه الحركات الاجتماعية القديمة أن توحد نضالها حول أهداف عامة تجمع كل المنتمين إلى تلك الفئة الاجتماعية كالمرأة مثلا أو العمال، وقد لعبت دورًا هاما في تعديل موازين القوى الطبقية في المجتمع في كثير من الأقطار في فترات مختلفة، ولكننا نلاحظ أن نفوذ هذه الحركات وتأثيرها يضعف باستمرار نتيجة لنجاح السلطة في استعابها واحتواء حركتها، أو لتغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغياب طرح فكرى مناسب لهذه التطورات ، أو لانصراف أعضائها عن نشاطها، وفى نفس الوقت تنشأ حركات اجتماعية جديدة حول قضايا وأهداف جزئية في مجالات حقوق الإنسان والبيئة والعاطلين والأمومة والطفولة والأقليات .. الخ. حيث نلاحظ قيام تنظيمات متعددة لا صلة بينها داخل المجال الواحد للتعامل مع جانب واحد فقط من القضية، كما هو الحال مثلا في مجال حقوق الإنسان حيث توجد تنظيمات منفصلة للمساعدة القانونية وتنظيمات أخرى لنشر ثقافة حقوق الإنسان، وتنظيمات ثالثة لرصد الانتهاكات .. الخ.
وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام انفجار في الحركات الاجتماعية والتنظيمات الجديدة التي تنشأ حول أهداف محدودة للغاية دون أن يربط بينها رابط مشترك لتنسيق الجهود، أو إدراك واضح للارتباط الضروري بينها مما يهدد المجتمع المدني بالانحراف عن دوره الحقيقي في دعم التطور الديمقراطي نتيجة لغياب الرؤية المشتركة والتنسيق المشترك بين هذه المنظمات والحركات الاجتماعية واكتفائها بالنشاط حول الهدف الخاص بكل منها.
ونحن لا نستطيع أن نتجاهل هنا أن أحد أسباب التسارع في تأسيس هذه الحركات هو تزايد وعى الناس بأن الدولة ومؤسساتها وكذلك الأحزاب السياسية عاجزة عن مواجهة الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن ظاهرة العولمة وما ترتب عليها من مشاكل اجتماعية، وتترك الناس تحت رحمة هذه الأوضاع. واستجابة من الناس لهذه الأوضاع فإنهم ينشئون حركاتهم الاجتماعية الخاصة، أو ينضمون إلى حركات اجتماعية قائمة، أو منظمات دفاعية تقوم على أسس دينية أو عرقية أو قومية أو جنسية أو بيئية أو سلامية أو محلية أو على أساس أي قضية منفردة، وتقوم معظم هذه الحركات بالتعبئة والتنظيم باستقلال عن الدولة ومؤسساتها والأحزاب السياسية لأنها لا تراها قادرة على مواجهة هذه القضايا أو المشاكل بفاعلية.
من هذا العرض للمجتمع المدني ومقوماته الأساسية ومكوناته ومالحق به من تطورات نتيجة للأوضاع العالمية المستجدة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية يمكن القول أننا أمام نوعين من المجتمع المدنى إن صح التعبير في الأقطار العربية :
– مجتمع مدني شعبي
– مجتمع مدني نخبوى
تكتفي القوى الرأسمالية والفئات الحاكمة بوجود مؤسسات للمجتمع المدني في إطار نخبوى تقوم بدورها في تلطيف حدة المشاكل الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلي والتحول إلى اقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفق الشروط التي تضعها المراكز الرأسمالية المتقدمة، وينحصر دور هذه المنظمات من وجهة نظر الفئات الحاكمة والقوى الرأسمالية في تقديم الرعاية للفقراء والمحتاجين، وإشباع حاجات خدمية لفئات اجتماعية معينة، بما لا يؤدى إلى تغيير الأوضاع بل يعيد إنتاج الأوضاع القائمة بما فيها من فقر وبطالة وتهميش وافتقاد العدالة وفى هذه الحالة فإن مؤسسات المجتمع المدني النخبوية لن تزعج الفئات الحاكمة ولن تلعب دوراً في تغيير الأوضاع القائمة من خلال المساهمة الفعالة بدور ديمقراطي في المجتمع. وعلى العكس، من هذا فإن القوى الديمقراطية والتقدمية يجب أن تدفع في اتجاه اكتساب مؤسسات المجتمع المدني طابعا شعبيًا يساعدها على القيام بدور تعبوي تغييري تحتاجه مجتمعاتنا تتمكن مؤسسات المجتمع المدني من خلاله من المساهمة في عملية التحول الاجتماعي والسياسي للمجتمع. والمشاركة بشكل جماعي (كمؤسسات) في صياغة السياسات العامة والضغط من أجل تعديلها بما يحقق مصالح الأغلبية ويكفل مشاركتها السياسية تدعيما للديمقراطية (6) .
يتطلب دعم الطابع الشعبي للمجتمع المدني الاهتمام أكثر بالمنظمات الشعبية ذات الجذور العميقة فى المجتمع التي تهملها حاليًا المنظمات غير الحكومية المنشأة حديثًا وتشمل المنظمات الشعبية تحديدا النقابات المهنية والعمالية ، والمنظمات الفلاحية، والتعاونيات، واتحادات الطلاب، ومنظمات الحرفيين والمنظمات المهنية وتنظيمات الخدمة الاجتماعية، ويوفر هذا التنسيق استفادة المنظمات غير الحكومية وسائر مكونات المجتمع المدني من التراث الطويل والخبرات الواسعة للحركة النقابية في مجالات التعبئة وحشد القوى، ولديها الوسائل والكوادر المدربة على ذلك، ولها خبرات هامة في المجال المطلبى، وتتوفر لدى المنظمات الأخرى التعاونية والاجتماعية والطلابية والفلاحية خبرات متنوعة وإمكانيات بشرية تطوعية يمكن أن تستفيد منها المنظمات الأخرى حديثة النشأة لاكتساب القدرة على التأثير والاستناد إلى قاعدة اجتماعية واسعة وامتلاك خبرات جديدة في مختلف المجالات ، وسوف يساعدها ذلك على تجاوز وضعها الحالي كمنظمات منعزلة عن بعضها تعمل في إطار أهداف جزئية بحيث تتجه إلى إقامة تحالفات مع المنظمات الأخرى العاملة في نفس المجال مثل حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والتنمية .. الخ، وتجاوز وضعها النخبوى إلى آفاق جماهيرية وشعبية أوسع تساعدها على تفعيل نشاطها واكتساب المقومات الضرورية لتحولها إلى حركات اجتماعية لها عمق شعبي كاف.
بهذا التوجه يمكن أن يقوم المجتمع المدني بدوره المأمول في بناء الديمقراطية. التي يلتقي معها في إطار نسق مشترك من القيم.الهوامش
(1) د. حامد خليل ، الوطن العربي والمجتمع المدني، كراسات استراتيجية ، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق.
العدد الأول – السنة الأولى – خريف 2000. ص 12.
(2) د. الحبيب الجنحانى، المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، مجلة عالم الفكر، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، العدد الثالث، المجلد السابع والعشرون، يناير / مارس ،1999 ص 36.
(3) د. أحمد ثابت، الديمقراطية المصرية على مشارف القرن القادم، كتاب المحروسة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر القاهرة، الطبعة الأولى، يناير 1999- ص 20.
(4) د. مصطفى كامل السيد، مفهوم المجتمع المدني ومصر، ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطي في مصر، جماعة تنمية الديمقراطية 2-3 نوفمبر ،1997 القاهرة. ص 3.
(5) أجوسا واى أوساجاى ، التكيف الهيكلي والمجتمع المدني والتماسك الوطني في أفريقيا، مجلة أفريقية عربية، مركز البحوث العربية بالقاهرة المجلد الثالث . ص 19-52.
(6) شهيدة الباز، دور المنظمات الأهلية العربية في تنمية المجتمعات المحلية، مجلة أفريقية عربية، مركز البحوث العربية بالقاهرة، المجلد الثالث أكتوبر ،2000 ص 19.
(7) إبراهيم السوري، ورقة مقدمة إلى حلقة الحوار حول قضايا بناء القدرات للمنظمات غير الحكومية، اللجنة الاقتصادية الاجتماعية للأمم المتحدة غرب آسيا، القاهرة 19/ 21 سبتمبر 2000.
(8) د. كمال المنوفي، التعليم كيف يكون رافدا لتعزيز التطور الديمقراطي، الأهرام 7 أكتوبر 2001.دور المجتمع المدنى فى بناء الديمقراطية-الجزء الأول
مقـدمـة
حول ضرورة الديمقراطيةتواجه الأمة العربية العديد من التحديات والمخاطر الداخلية والخارجية، تتنوع وتتعدد هذه التحديات والمخاطر لتشمل كافة مجالات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. كما تتسع ساحة المواجهة لتشمل الوطن العربي بأكمله وتتجاوزه إلى آفاق إقليمية وعالمية، فهناك تحديات التنمية والتحديث والتحول الديمقراطي وإشاعة العقلانية، بالإضافة إلى مخاطر الوجود الصهيونية التوسعي، والهيمنة الأمريكية، والتهميش المتزايد للأقطار العربية في ظل العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية المعاصرة التي فرضتها العولمة الرأسمالية تحقيقا لمصالح الدول الرأسمالية الكبرى، ورغم أن طبيعة هذه التحديات والمخاطر تتطلب أوسع تعبئة ممكنة للشعوب العربية باعتبارها الطرف الأساسي في المواجهة، وضرورة قيامها بدور فعال في صياغة سياسات المواجهة، وتحديد أولوياتها، إلا أن نظم الحكم القائمة حرصت على الانفراد بإدارة هذه المواجهة وحرمت شعوبها من القيام بدور فعال رغم أن هذه الشعوب هي التي تتحمل أعباء المواجهة وقدمت بالفعل تضحيات كبيرة في مواجهة هذه المخاطر والتحديات.
دفعت الشعوب العربية ثمنا باهظا وتحملت الأعباء المترتبة علي انفراد الحكام بمواجهة هذه المخاطر والتحديات، فقدمت آلاف الشهداء في حروبها ضد إسرائيل، وتحملت معاناة الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليها الولايات المتحدة الأمريكية، كما تحملت المعاناة الاقتصادية والتقشف الذي وصل إلي حد الحرمان من أبسط ضروريات الحياة، علاوة علي البطالة والفقر وتهميش فئات واسعة من السكان، فضلا عن القمع السياسي والقهر الطبقي والتضليل الفكري والإعلامي. ولم يكن هناك مبرر معقول لأن تتحمل الشعوب العربية هذه المعاناة وتقدم هذه التضحيات بينما هي محرومة من المشاركة السياسية ومستبعدة من القيام بدورها الطبيعي في اتخاذ القرار وصياغة سياسات المواجهة وتحديد أهدافها وأولوياتها، خاصة بعد أن أثبتت التجربة والممارسة لمدة تزيد عن نصف قرن فشل هذه النظم في خوض معارك التنمية والتحديث والعقلانية والصراع العربي الصهيوني والهيمنة الأجنبية بكفاءة لإيثارها مصالحها الخاصة علي المصالح العامة للمجتمع في هذه المواجهة، واستبعادها القوي الشعبية خوفا من أن تتجاوزها هذه القوي في اللحظات الحرجة من الصراع أو أن يهدد اتساع نطاق المواجهة أو تصاعد المعارك المصالح الضيقة للفئات الحاكمة. التقت حول هذا المنهج كثير من نظم الحكم العربية: ملكية وجمهورية، رجعية وتقدمية، ثورية وتقليدية، لأنها بصرف النظر عن المسميات مارست الحكم من خلال سلطة أبوية أو تسلطية أو ديمقراطية انتقائية مقيدة، أي أن الاستبداد السياسي الذي عانت منه الشعوب العربية وما تزال تعاني الآن هو الجذر الأساسي لفشل العرب حكاما ومحكومين في خوض معارك الاستقلال والتنمية والتحديث والعقلانية والديمقراطية ومواجهة الخطر الصهيوني والهيمنة الأمريكية بكفاءة. ونتيجة لهذا كله فقد أجمع المفكرون والمثقفون العرب يساندهم في هذا قوي سياسية متعددة علي أن الديمقراطية هي المخرج الأساسي للشعوب العربية من مأزقها الحالي وما تعانيه من مشاكل وأزمات. فلا يمكن بدون الديمقراطية الحديث عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو التطلع إلي تحديث حقيقي للمجتمع، أو توفير العدالة الاجتماعية، او تعميق المشاركة الشعبية، أو الحد من مخاطر الوجود الصهيوني والهيمنة الأمريكية. كما لا يمكن بدون بروز الشعوب كطرف أساسي في المواجهة ومشاركتها الفعلية في صياغة السياسات العامة وتحديد أهدافها وأولوياتها أن تحقق نجاحا يذكر في مواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد الأمة العربية حاليا.
أن الدرس الأساسي المستفاد من خبرة النصف الثاني للقرن العشرين هو أنه رغم الجهود المضنية والتضحيات الكبيرة والمعاناة الشديدة فإن آمال العرب تحطمت أكثر من مرة علي صخرة الاستبداد والحكم الفردي والعسكري والقبلي والعشائري.
ان الانتقال في الوطن العربي من الاستبداد إلي الديمقراطية يتطلب أولا وفي الأساس تحرير الإنسان العربي وإطلاق طاقاته ليصبح القوة الأساسية في المواجهة، ولا يمكن الحديث عن تحرير الإنسان العربي طالما بقيت رواسب الاستبداد قائمة في المجتمعات العربية علي شكل نظم حكم سلطوية وثقافة غير ديمقراطية، وما لم يشمل التحول الديمقراطي كافة مجالات المجتمع فإنه لا مجال للحديث عن تحرير الإنسان العربي، لأن الديمقراطية هي في جوهرها طريقة في الحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وإدارة صراعاته بوسائل سلمية، وهي بهذا المفهوم تتطلب سيادة قيم معينة ومؤسسات وآليات تضع الديمقراطية بهذا المفهوم موضع التطبيق، فلا يمكن بناء الديمقراطية في أي مجتمع بدون إشاعة ثقافة ديمقراطية تعمق القيم الموجهة لسلوك المواطنين في هذا الاتجاه. كما لا يمكن استكمال التحول إلي الديمقراطية بدون بناء المؤسسات التي تمارس من خلالها هذه الطريقة في الحياة، أو بدون توافر الآليات التي يتم من خلالها وضع هذه القيم الديمقراطية موضع التطبيق وشمولها المجتمع كله.(1)
للقيم الديمقراطية إذن دور محوري في انضاج عملية الانتقال إلي الديمقراطية وتوفير شروطها الأساسية. ويتطلب ذلك إنجاز ثلاثة مهام أساسية هي:
-إشاعة الثقافة المدنية الديمقراطية في المجتمع.
-الاهتمام بتربية المواطنين لتمثل هذه الثقافة وقيمها في حياتهم اليومية وفي علاقتهم بالآخرين.
-تدريب المواطنين عمليا علي الممارسة الديمقراطية، واكتسابهم خبرة هذه الممارسة من خلال النشاط اليومي الذي يقومون به في مختلف مجالات الحياة. وتعتبر مؤسسات المجتمع المدني الإطار الأمثل للقيام بهذه المهام لأنها تقوم أيضا علي القيم الديمقراطية، ولأنها تجتذب إلي عضويتها دائرة واسعة من المواطنين الذين يسعون إلي الاستفادة من خدماتها أو ممارسة نشاط جماعي للدفاع عن مصالحهم، أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة. فكيف تقوم مؤسسات المجتمع المدني. بهذا الدور، وما هي علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية، وما هو دورها المحدد في بناء الديمقراطية؟
هذا ما نعرضه بدرجة أكبر من التفصيل في هذه الدراسة عن “دور المجتمع في بناء الديمقراطية”. نأمل أن نساهم من خلالها في توفير الوضوح الفكري المطلوب للسير قد ما علي طريق التحول الديمقراطي في مجتمعاتنا العربية.الفصل الأول
مفهوم الديمقراطية ومقوماتها الأساسيةللديمقراطية تاريخ طويل في الوطن العربي، يرجع في بعض الأقطار العربية إلي القرن التاسع عشر، وفي معظمها للنصف الأول من القرن العشرين، حيث ارتبط النضال من أجل الديمقراطية بالنضال من أجل الاستقلال الوطني، ومع موجة الاستقلال الأولي في عشرينيات هذا القرن ورغم استمرار قوات الاحتلال قامت نظم حكم عربية علي أساس مفاهيم الديمقراطية الليبرالية من تعددية حزبية وسلطات تشريعية منتخبة في ظل دساتير تعترف بالحقوق الأساسية للمواطنين، ولكنها كانت في أغلب الأحيان ديمقراطية شكلية تنعم بها الفئات الحاكمة وبعض قطاعات الطبقة الوسطي، ولهذا فإنها لم تصمد طويلا أمام موجات المد الثوري مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وما صاحبه من انقلابات عسكرية، وقيام نظم حكم شمولية أعطت الأولوية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتأكيد الاستقلال الوطني علي حساب الحريات السياسية والتعددية الحزبية والانتخابات البرلمانية. ومع إخفاق هذه النظم في تحقيق التنمية والمحافظة علي استقلالية الإرادة الوطنية في مواجهة الرأسمالية العالمية، والذي رافقه تدهور ملحوظ في مستوي معيشة المواطنين، وتراجع القدرة علي إشباع حاجاتهم الأساسية في الربع الأخير من القرن العشرين ارتفعت من جديد الأصوات المطالبة بالديمقراطية، بعد أن تأكد للجميع أنه لا يمكن المقايضة علي حريات الشعوب وحقوقها السياسية ومشاركتها في صياغة السياسات العامة مقابل وعد لا تتوفر له أي ضمانات بحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية. وقد أثبتت التجربة العملية بالفعل طوال خمسين سنة أن ما تحقق من مكاسب وإنجازات اقتصادية واجتماعية سرعان ما تم التراجع عنه دون مقاومة تذكر بسبب غياب التنظيمات السياسية والنقابية الفعالة للطبقات العاملة والكادحة والوسطي.
عاد الحديث والاهتمام بالديمقراطية في الوطن العري في أواخر القرن العشرين في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية مغايرة أساسها والعامل المؤثر فيها هو ظاهرة العولمة التي أثرت كثيرا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الوطن العربي، واخترقت كل مناحي الحياة وأدخلت معظم الأقطار العربية في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية طاحنة، ولم يعد النضال من أجل الديمقراطية في الوطن العربي قضية داخلية، بل هناك العديد من المؤثرات الخارجية التي تتحكم فيه وتحدد توجهاته.
نتيجة لهذه التطورات الداخلية والخارجية شهدت كثير من الأقطار العربية تطورات ملموسة نحو التعددية الحزبية والحياة البرلمانية، ولكن نظم الحكم في هذه الأقطار لا يمكن وصفها رغم هذه التطورات بأنها نظم ديمقراطية، فهي ما تزال تندرج تحت ما يمكن أن نسميه بالتعددية السياسية المقيدة التي لا تزيد في حقيقتها عن “قبول النظام السياسي مبدأ التعددية السياسية في شكل أحزاب سياسية ولكن في أطر قيود وضوابط معنية تحد من إمكانية تداول السلطة وممارسة هذه الأحزاب لوظائفها المتعارف عليها في النظم الديمقراطية التعددية”. (2)
أن نظم التعددية السياسية المقيدة الموجودة في معظم الأقطار العربية هي في حقيقتها استمرار للنظم الشمولية نشأت الحاجة إليها لإنقاذ هذه النظم التي تآكلت شرعيتها ولتخفيف الصراع الطبقي والسياسي في مجتمعات تعمقت أزمتها نتيجة لسياسات الحكم التي تطبقها هذه النظم. وهي بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية وما زالت تندرج في إطار الاستبداد لأنها لم تحقق مبدأ سيادة القانون وإعلاء إرادة الشعب. أنها ديمقراطية انقاذية لنظم الحكم هدفها استمرار الأمر الواقع بإجراءات جديدة، وهي من ثم تتسم بخصائص ثلاث:
الأولي: التحول إلي التعددية يتم من أعلي بقرار من قمة السلطة التنفيذية.
الثانية: هذا التحول يتم بصورة تدريجية وفق إرادة السلطة التنفيذية وليس من خلال النضال السياسي والجماهيري. ويلاحظ أن هذه النظم لم تتسع فيها الحقوق والحريات السياسية منذ قيامها ولأكثر من عشرين سنة، بل علي العكس أدت أزمة نظم الحكم إلي سلب بعض الحقوق والحريات والانتقاص من مكاسب ديمقراطية تحققت من قبل لضمان استمرار الحكم.
الثالثة: هيمنة السلطة التنفيذية علي العملية كلها وخاصة رئيس الدولة الذي يملك في الواقع صلاحيات وسلطات واسعة تجعل هذه النظم أقرب إلي الحكم الفردي منها لأي نظام آخر.(3)
وإذا كان من الصعب أن نصف هذه النظم بأنها ديمقراطية، فماذا نقصد بالديمقراطية؟ وما هي أهم مقوماتها؟ وما علاقة ذلك بعملية الانتقال في الوطن العربي إلي الديمقراطية؟
مفهوم الديمقراطية:
الديمقراطية بمعناها الواسع هي مشاركة الشعب في اتخاذ القرار، ومراقبة تنفيذه، والمحاسبة علي نتائجه. وقد تصورت بعض القوي السياسية في الوطن العربي أن الديمقراطية يمكن أن تتحقق بمجرد السماح بقيام أحزاب متعددة وإجراء انتخابات دورية لتشكيل البرلمان وإصدار صحف حزبية، وتصورت أيضا نتيجة لهذا الفهم الخاطئ أن التحول إلي الديمقراطية يمكن أن يتم في فترة وجيزة، وغابت عنها الرؤية السلمية التي تساعدها علي السير بنجاح نحو هذا الهدف وتوفير ما يتطلبه من شروط وإجراءات. ومن ناحية أخري فقد اختلفت النظرة إلي الديمقراطية باختلاف المواقع الطبقية والإيديولوجية وتعددت مسمياتها بين ديمقراطية اشتراكية وديمقراطية شعبية وديمقراطية اجتماعية وديمقراطية تحالف قوي الشعب العامل.. الخ، ورغم الأهداف والغايات النبيلة التي كانت تكمن خلف هذه المسميات إلا أن تطبيقاتها دارت أساسا في ظل أوضاع شمولية أو سلطوية وعجزت عن توفير الشروط الضرورية للمشاركة الشعبية وتمكن الشعوب من اختيار حكامها والقيام بدور أساسي في صياغة السياسات العامة وفرض رقابتها علي السلطة التنفيذية ومحاسبتها طبقا للنتائج المتحققة. وقد توفر الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام الديمقراطية بالفعل في المجتمعات الرأسمالية المتطورة ومجتمعات أخري كالهند عندما تعاملت مع الديمقراطية وفق مفهوم إجرائي يعتبرها “صيغة لإدارة الصراع في المجتمع الطبقي بوسائل سلمية، من خلال قواعد وأسس متفق عليها سلفا بين جميع الأطراف، تضمن تداول السلطة بين الجميع من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة”، فالمجتمع ليس مجرد كم من الأفراد، بل هو طبقات يترتب علي وجودها علاقات ومنافسات وصراعات، وإذا لم ينجح المجتمع في تنظيم هذه الصراعات بوسائل سلمية فإنه يتعرض لمخاطر العنف الذي قد يصل إلي حد الحرب الأهلية، من هنا فإن الديمقراطية كإطار لتنظيم الصراع الطبقي سلميا هي “مسألة نسبية وعملية تاريخية متدرجة، تبدأ عندما يتمكن المجتمع المعني من السيطرة علي مصادر العنف وإدارة أوجه الاختلاف سلميا تعبيرا عن إجماع القوي الفاعلة علي ضمان الحد الأدنى من المشاركة السياسية الفعالة لجميع المواطنين دون استثناء”.(4) ومع استقرار الممارسة الديمقراطية تتطور وتنضج هذه العملية التاريخية، وقد احتاجت أوروبا إلي أربعة قرون لإنجاز عملية الانتقال إلي الديمقراطية بهذا المفهوم.
تنجح الديمقراطية في تنظيم الصراع الطبقي سلميا بقدر ما توفر للمجتمع نظاما للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ينظم العلاقات بين أفراد وطبقات المجتمع من ناحية، وتنظيم العلاقات بين الدولة والمجتمع من ناحية أخري، والعلاقات بين مؤسسات الدولة نفسها (تنفيذية، تشريعية، قضائية) من ناحية ثالثة. وغنى عن الذكر أن هذا التنظيم للعلاقات فى المجتمع وبين مؤسسات الدولة يفضي في النهاية إلي الآلية الرئيسية لتحقيق سلمية الصراع وأعني بها تداول السلطة السياسية سلميا بين مختلف الطبقات من خلال الانتخابات العامة الدورية .
المقومات الأساسية للديمقراطية البورجوازية:
تبلورت من خلال الممارسة مجموعة المقومات الأساسية التي لا يمكن بدون توافرها تحقيق الديمقراطية ومنها:
– إقرار مبدأ سيادة القانون، ودولة المؤسسات، واستقلال السلطة القضائية.
– الاعتراف بمجموعة الحريات العامة وحقوق الإنسان كأساس لمجتمع مدني وإعلام حر بما يكفل حرية تكوين الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية وحرية الرأى والاعتقاد والاجتماع.. الخ.
– الاعتماد علي مبدأ الانتخاب العام لعناصر السلطة التشريعية والتنفيذية كأساس لتداول السلطة من خلال انتخابات دورية حرة تجسد نتائجها بصدق إرادة الناخبين.
– الاعتراف بالتعددية السياسية والحزبية بكل ما يترتب عليها من نتائج.
نقد الديمقراطية البورجوازية:
ومن المهم هنا ونحن نتحدث عن الديمقراطية البورجوازية أن يكون واضحا لنا أنه إذا كانت الديمقراطية في أوروبا قد قامت وتقوم بدور في تنظيم العلاقات وإدارة الصراع في المجتمع الرأسمالي سلميا، فليس هناك ما يبرر اعتبارها جزءاً من العلاقات الرأسمالية نفسها، بل بالعكس فالعلاقات الرأسمالية تقوم في جوهرها علي التسلط والاحتكار والاستغلال بينما تهدف الديمقراطية إلي الحد من ذلك إلي أدني درجة ممكنة بما تقيمه من أجهزة للمراقبة وما تقدمه من إمكانات للمقاومة وتغيير موازين القوي. (5) وما طرحته الرأسمالية هو الليبرالية السياسية وليس الديمقراطية البورجوازية التي نعرفها الآن، وكانت الليبرالية السياسية في حقيقتها مجموعة من الأفكار والقيم تدور حول الفرد وحريته نشأت تاريخيا كتعبير عن واقع اجتماعي هو تبلور السوق الرأسمالي. لم تكن الحرية آنذاك مطروحة للجميع ولم تكن المشاركة السياسية من حق الجميع، بل كانت مرتبطة بالملكية، أي أن الليبرالية السياسية كانت هي المقابل السياسي للرأسمالية في الاقتصاد وكانت نشأة الليبرالية هذه منفصلة عن الديمقراطية ثم تم استيعابها فيها تدريجيا. فقد ولدت الليبرالية أولا ثم تمقرطت بعد ذلك عبر توسيع الحقوق والحريات التي ناضلت من أجلها الجماهير لتشمل جميع المواطنين. حيث أفرز السوق الرأسمالي ضغوطا دفعت نحو الديمقراطية وفرضتها. وقد جاء ذلك التحول عندما أدركت الطبقة العاملة أن حرمانها من التصويت أو قيامها بدورها السياسي لا يمكنها من التأثير في القرار السياسي فناضلت من أجل حقها في التصويت وحقها في التنظيم السياسي المستقل وتشكيل أحزاب تعبر عن مصالحها وكان إقرار حق الاقتراع العام هو نقطة التحول الحاسمة من عصر الدولة الليبرالية إلي عصر الدولة الديمقراطية الليبرالية (6)
ونحن نلاحظ أن الأنظمة الرأسمالية الغربية قد ركزت علي مفهوم الحرية في تحديد الديمقراطية وممارساتها. كما ركزت علي مفاهيم الاقتصاد والحر وتقوية القطاع الخاص والمبادرة الشخصية وحقوق الإنسان، وربطت بين مفهومي الديمقراطية والرأسمالية وتصوير الأمر وكأن الأولى نتيجة للثانية، وأهملت بذلك مفهوم العدالة الاجتماعية وخاصة ما يتعلق بمحاربة الفقر والتخفيف من الفروقات الطبقية والفئوية والعنصرية والجنسية بين الرجل والمرأة وتأييد تكافؤ الفرص، فالطبقات والجماعات الفقيرة المغلوبة علي أمرها لا تستطيع أن تمارس حريتها في غياب العدالة الاجتماعية وبذلك لم تستكمل الديمقراطية البورجوازية شروط ممارسة الحرية نفسها. والتحدي الحقيقي الآن أمام القوي الاشتراكية في الوطن العربي هو بلورة وتطبيق مفهوم للديمقراطية يستفيد مما أنجزته الديمقراطية البورجوازية وتراثها ويضيف إليها، يمكن من ممارسة الحرية بالفعل لكافة المواطنين بدون تمييز. وفي هذا الصدد يؤكد المفكر العربي د. سمير أمين أن الديمقراطية التي تطمح إليها شعوب العالم الثالث يجب أن تجمع بين التأكيد علي البعد الاجتماعي الاصلاحي واحترام استقلالية المبادرة الشعبية. كما يمكن النظر إلي الديمقراطية الاشتراكية باعتبارها نفي للديمقراطية البورجوازية، ولكنه نفي بالمعني الجدلي، حيث تلغي العناصر الرجعية في الديمقراطية البورجوازية التي تحرم أوسع الجماهير من المشاركة في صنع القرارات، وتتلاعب مراكز الضغط الرأسمالية والبيروقراطية وأجهزة الإعلام بإرادة الجماهير …الخ. ولكنها (أي الديمقراطية الاشتراكية) تحتفظ بالعناصر الإيجابية في الديمقراطية البورجوازية وتدمجها في تركيب أعلي بصورة كيفية أوفر حرية يتلاءم مع محتواها الطبقي الجديد. وذلك من خلال الجمع بين الأشكال التمثيلية والأشكال المباشرة للديمقراطية، التي توفر مشاركة شاملة لجماهير الطبقة العاملة والفلاحين ومختلف الفئات الكادحة الأخرى في صنع القرارات التي توجه مختلف نواحي الحياة في المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا..الخ.
وهي تضع بذلك أساسا أرسخ وأعمق لحرية الصحافة والتعددية الحزبية وحرية التنظيم النقابي، وتكوين مختلف أشكال الجمعيات والاتحادات، وتكفل حق الإضراب والتظاهر والحريات والحقوق السياسية والمدينة بالترابط مع كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبار كل ذلك شروطا ضرورية لعملية تحرير العمل وممارسة الديمقراطية المباشرة والتمثيلية، وإطلاق مبادرات أوسع جماهير الطبقة العاملة والطبقات الشعبية في المشاركة في صنع القرارات، وحل التناقضات التي تثور فيما بينهم بصورة ديمقراطية” (7)
من المهم أن ينعكس هذا الفهم الذي طرحناه هنا لمسألة الديمقراطية علي عملية الانتقال إلي الديمقراطية في الوطن العربي وأن تتشكل منذ البداية رؤية واضحة لهذه العملية وطبيعتها ومتطلباتها وأولوياتها والمراحل التي ستمر بها والمدى الزمني المحتمل لها.
حول الانتقال إلي الديمقراطية:
القضية الأساسية في عملية الانتقال إلي الديمقراطية في الوطن العربي هي أنها عملية تاريخية بدأت منذ سنوات طويلة وستتم عبر فترة زمنية طويلة نسبيا، وستتم تدريجيا وربما تنتكس في بعض مراحلها نتيجة للصراع حول السلطة وإصرار قوي معنية علي إيقاف التحول الديمقراطي، وهي لكي تنجح يجب أن تشمل المجتمع كله لأن الديمقراطية بالمفهوم الذي طرحناه هي طريقة في الحياة وأسلوب لتسيير المجتمع يتضمن قيما وآليات ومؤسسات، فلا يمكن الحديث عن الانتقال إلي الديمقراطية بدون تعميق القيم الموجهة لسلوك المواطنين في هذا الاتجاه، أو بدون توافر الآليات التي يتم من خلالها تأكيد القيم الديمقراطية ووظائف الممارسة الديمقراطية، أو بناء المؤسسات التي تمارس من خلالها.
من هنا فإن القوي الاجتماعية والسياسية صاحبة المصلحة في استكمال عملية الانتقال إلي الديمقراطية مطالبة بأن تعطي اهتماما أكبر لبعض المسائل الضرورية التي تكتسب أهمية أكثر من غيرها مثل:
– تبني مفهوم سليم للديمقراطية يتجاوز الديمقراطية البورجوازية دون أن يلغي إنجازاتها.
– تحديد المقومات الأساسية للديمقراطية طبقا للمفهوم الجديد الذي يتجاوز الديمقراطية البورجوازية.
– التنشئة الديمقراطية لإشاعة الثقافة المدنية الديمقراطية في المجتمع.
– دعم استقلالية المبادرة الشعبية بالتوسع في تنظيم الجماهير وإقامة مؤسسات المجتمع المدني.
– السير علي طريق التنمية الوطنية المتمحورة علي الذات للحد من العلاقات الاقتصادية اللامتكافئة مع المراكز الرأسمالية وتحقيق قدر مناسب من العدالة الاجتماعية تمكن القوي الشعبية من ممارسة دورها في دعم التطور الديمقراطي للمجتمع.
وفيما يلي نعرض بعض الأفكار والتوجهات حول هذه المسائل الخمسة.
أولا: المفهوم السليم للديمقراطية:
ينطلق هذا المفهوم مما أوضحناه من قبل أن الديمقراطية بمعناها الواسع هي مشاركة الشعب في اتخاذ القرار السياسي، ومراقبة تنفيذه، والمحاسبة علي نتائجه. وأنها بالمفهوم الاجرائي “صيغة لإدارة الصراع في المجتمع الطبقي بوسائل سلمية، من خلال قواعد وأسس متفق عليها سلفا بين جميع الأطراف، تضمن تداول السلطة بين الجميع من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة. وإن الديمقراطية البورجوازية أرست القواعد والأسس التي تكفل ممارسة الديمقراطية في حدها الأولي ولكنها لا تكفي لإتاحة الفرصة أمام كل الطبقات للمساواة السياسية لعدم توافر العدالة الاجتماعية وغياب تكافؤ الفرص للطبقات العاملة والكادحة والجماعات المهمشة والفقيرة المغلوبة علي أمرها، مما لا يوفر قوة سياسية متكافئة لجميع الطبقات. ومن ثم فإن التحدي الحقيقي الآن في الوطن العربي هو بلورة وتطبيق مفهوم سليم للديمقراطية يستفيد مما أنجزته الديمقراطية البورجوازية وتراثها ويضيف إليها ما يمكن من ممارسة الحرية لكافة المواطنين دون تمييز. يمكن وصف هذا المفهوم بديمقراطية المشاركة التي تتيح لأوسع الجماهير مشاركة سياسية حقيقية وهي خطوة علي الطريق نحو بلورة مفهوم جديد للديمقراطية الاشتراكية يواكب قيم العصر ويقدم الاشتراكية للشعوب بشكل مختلف عما كان قائما من قبل في ظل النظم الشمولية أي يقدمها في صورة اشتراكية تقوم علي إرادة الشعوب وتمتعها بحرياتها الأساسية ويتحقق ذلك من خلال التأكيد علي ما يلي:
– لا تتحقق الديمقراطية السياسية ما لم يتوفر للمواطنين حد أدني من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن الحقوق السياسية المتساوية لا تكفي وحدها لتمتع الأفراد والطبقات بقوي سياسية متساوية.
– أهمية تجاوز البرلمانية التمثيلية إلي صور من الديمقراطية المباشرة لتوسيع نطاق المشاركة الشعبية لكل فئات الشعب.
– فتح الباب واسعا أمام استقلالية المبادرة الشعبية وبصفة خاصة من خلال المنظمات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني.
– لا يمكن السير بنجاح علي طريق التطور الديمقراطي بدون النجاح في تحقيق ثورة ثقافية ترسخ في المجتمع القيم التي تخدم التطور الديمقراطي في وبصفة خاصة قيم التسامح والحوار والتعاون واحترام الآخر والتنافس والصراع السلمي. (8)
– إذا كانت الطبقة الرأسمالية هي الحامل الاجتماعي للديمقراطية في المراكز الرأسمالية المتقدمة نظرا لظروف أوروبا وأمريكا في القرنين التاسع عشر والعشرين، فهناك شكوك كثيرة حول إمكانية واستعداد الرأسماليين العرب ورجال الأعمال للقيام بهذا الدور لأسباب كثيرة. والأرجح أن الحامل الاجتماعي للديمقراطية في الوطن العربي سيكون تحالفا وطنيا شعبيا من العمال والفلاحين والفئات الوسطي يلعب فيه المثقفون التقدميون دورا أساسيا وسيكون هناك مكان في هذا التحالف لقطاع من الرأسمالية المحلية التي ترتبط مصالحها باستقلال الاقتصاد.
ثانيا: المقومات الأساسية لديمقراطية المشاركة:
تأتي أهمية هذه المقومات لما توفره من وضوح فكري وسياسي حول الديمقراطية باعتبارها طريقا طويلا يبدأ بتوافر شروط معنية تتطور وتتسع من خلال الممارسة، وباعتبارها نظاما للحياة يشمل مختلف جوانب المجتمع، وباعتبارها إطار أساسيا لنضال القوي الشعبية له مضمون اقتصادي واجتماعي يوفر لكافة المواطنين القدرة الاقتصادية إلي تكفل لهم قدرا من القوة السياسية في الصراع السياسي، وأن تكون هذه المقومات أساس العمل الفكري والنضال السياسي من أجل الانتقال إلي الديمقراطية مثل:
– احترام التعددية السياسية والنقابية والثقافية، وتوافر الحقوق والحريات المدنية والسياسية الأساسية، وإقرار مبدأ سيادة القانون ودولة المؤسسات وتداول السلطة من خلال انتخابات برلمانية دورية حرة ونزيهة.
– توافر حد أدني من الدخل يضمن المستويات الغذائية والصحية والتعليمية والسكنية اللائقة بحياة كريمة من خلال الالتزام بإشباع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
– حكم محلي ديمقراطي حقيقي يقوم علي انتخاب المجالس المحلية ورؤسائها وإعطاء المحليات علي كافة المستويات (قري- مدن- محافظات) صلاحيات فعلية في اتخاذ القرار والتنفيذ وتدبير موارد مالية محلية.
– مشاركة العمال في إدارة الوحدات الإنتاجية لضمان انتظام العملية الإنتاجية وتعميق التفاهم بين العمال والإدارة حول الشروط الواجب توافرها لاستقرار العمل.
– مشاركة المستفيدين في إدارة وحدات الخدمات بحيث ينتخب المنتفعون من خدمات الوحدة الصحية أو المستشفي أو المدرسة.. الخ. مجلسا يشارك في تطوير وتحسين الخدمة. وكذلك في المرافق العامة.
– إطلاق الحرية كاملة للقطاع الأهلي وسائر مؤسسات المجتمع المدني طبقا لما أقرته الدساتير من مبادئ عامة وإنهاء الوصاية الحكومية عليها.
– حرية وتعدد وسائل الإعلام فمن حق المواطن أن يعرف حقائق الأمور وأن يتابع اختلاف الآراء باعتبار حرية تدفق المعلومات من مصادر مختلفة شرط أساسي لكي يشارك المواطنون فعلا في صنع القرارات والاختيار بين البدائل المطروحة عليهم.
– ثقافة ديمقراطية تقوم علي قيم الحوار واحترام الرأي والرأي الأخر والتسامح… الخ.
– تبني مفهوم جديد للتنمية يقوم علي التنمية للشعب بالشعب وتوفير ضرورات الحياة للمواطنين والتوزيع العادل لعائد التنمية وبذلك تجمع التنمية بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية.
ثالثا: التنشئة الديمقراطية وإشاعة الثقافة الديمقراطية في المجتمع:
تقوم الديمقراطية كأسلوب حياة في المجتمع وتنظيم العلاقات فيه بما يضمن حل صراعاته سلميا علي مجموعة من المعايير تترجم إلي قيم ومعتقدات وسلوك تشكل ثقافة الإنسان ونظرته إلي هذه القضية ومواقفه العملية فيها. وهذا يعني أن الفرد الذي يتمسك بقيم الديمقراطية سيدفعه ذلك إلي أن يلتزم في سلوكه بالخصائص التالية:
– المشاركة الاجتماعية والمساواة في هذه المشاركة.
– الاجتهاد في فهم مشاعر الآخرين واهتماماتهم.
– أن يتقبل الآخرين علي أنهم متساوون معه.
– تجنب العنف في الصراع وحله بوسائل سلمية في إطار الحوار، وتقبل الصراع الذي قد يكون محتوما في بعض الأحيان.
تلعب التنشئة الاجتماعية دورا هاما في اكتساب الفرد (وخاصة الطفل) الحساسية للمثيرات الاجتماعية مثل ضغوط والتزامات حياة الجماعة ويتعلم كيف يتعامل معها، وكيف يتصرف مثل الآخرين الذين هم في جماعته الثقافية، وفي إطار هذه التنشئة الاجتماعية تتم التنشئة الديمقراطية التي يتم بمقتضاها تلقين الفرد مجموعة القيم والمعايير المستقرة في ضمير المجتمع بما يضمن بقاءها واستمرارها، وهكذا سيكون السلوك السياسي امتداداً للسلوك الاجتماعي” (9)
وفي هذا الإطار فإن التنشئة الديمقراطية تشمل كل قطاعات المجتمع ابتداء من الأسرة إلي المدرسة إلي النادي إلي جماعة العمل في المصنع والمزرعة ووحدة الخدمات، فهي تبدأ منذ الصغر وتستمر مع الإنسان في كل مراحل حياته، حيث يتعين أن نغرس في وجدان الأطفال والشباب مجموعة القيم والسلوكيات الديمقراطية لتكون أساس تصرفاتهم مع الأهل والأصدقاء والزملاء، فما لم تكن هذه القيم والسلوكيات أساس التعامل وأساس العلاقات في المجتمع فإنه من المشكوك فيه أن يشهد هذا المجتمع ديمقراطية سياسية، بل يصبح العمل السياسي والنشاط الحزبي والانتخابات العامة ظواهر معزولة عن السياق العام لحركة المجتمع، ومقطوعة من جذورها وبيئتها، وبالتالي فإنها تصبح مجرد شكليات أو طقوس تمارس دون جدوي. أن التنشئة الديمقراطية مطالبة باعطاء اهتمام خاص لقيم الحوار والنقد الذاتي والعمل الجماعي بروح الفريق والأمانة والصدق، والتسامح المتبادل والشفافية، والمثابرة وهذه مسئولية المجتمع كله، الآباء والأمهات داخل الأسرة، المعلمون في المدرسة والجامعة، قيادات العمل في مؤسسات الإنتاج والخدمات، وهي أيضا مسئولية الاحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية في حياتها الداخلية وفي علاقتها بجماهيرها. وهي أيضا مسئولية الحكم الذي يتحمل مسئولية توفير المناخ وتهيئة الشروط لتحقيق ذلك في مختلف المجالات والمؤسسات. وسنعود إلي هذا الموضوع عند معالجتنا لدور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية في الفصل الثالث من هذه الدراسة.
رابعا: دعم استقلالية المبادرة الشعبية بالتوسع في تنظيم الجماهير وإقامة مؤسسات المجتمع المدني:
تؤكد التجربة في كثير من الأقطار أن تنظيم الجماهير هو الحلقة الرئيسية في النضال الديمقراطي، فالجماهير المنظمة هي القوة الأساسية التي تستطيع أن توفر الشروط الضرورية في المجتمع لاقرار الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين وتضمن حماية هذه الحقوق من أي عدوان عليها أو محاولة الانتكاس بها، وبقدر النجاح في تعبئة الجماهير في هذا القطر أو ذاك بقدر النجاح في انتزاع المزيد من المكاسب الديمقراطية. من هنا فاننا لا نبتعد عن الحقيقة كثيرا إذا ذكرنا أن بناء حركة جماهيرية منظمة ومستقلة للطبقات والقوي الاجتماعية الكادحة والمنتجة هو الحلقة الرئيسية والواجب الملح في الفترة الحالية من تطور المجتمعات العربية، أننا في حاجة ماسة إلي بناء شبكة واسعة من المنظمات الجماهيرية والجمعيات الاجتماعية والثقافية في مختلف قطاعات المجتمع بحيث تتكامل جهودها من أجل دعم نفوذ الجماهير ومشاركتها السياسية، والقضية الأساسية في تنظيم الجماهير هي جذبها إلي مجال العمل العام انطلاقا من وعيها الملموس بمدي الارتباط بين مشاكلها المعيشية والأوضاع العامة للمجتمع وإداراكها لمسئوليتها في المساهمة في نشاط جماعي لحل هذه المشاكل. وهنا تبرز أهمية المجتمع المدني باعتباره مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك يقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. وسوف نعالج هذا الموضوع بقدر أكبر من التفصيل في الفصل الثالث من هذه الدراسة.
خامسا: تحقيق نتائج فعلية في عملية التنمية الوطنية المتمحورة علي الذات:
هناك علاقة قوية بين الديمقراطية والتنمية. ويري الدكتور سمير أمين أن غياب الديمقراطية في أطراف النظام الرأسمالي العالمي ومن ضمنها الوطن العربي أو هشاشة هذه الديمقراطية ليست من آثار الفترات التاريخية السابقة، بل هي نتيجة للاستقطاب الناتج عن التوسع الاقتصادي الرأسمالي العالمي الذي يؤدي بدوره إلي استقطاب اجتماعي له تجليات متعددة علي رأسها التفاوت الكبير في نمو المداخيل وسوء التوزيع، والبطالة الكثيفة، وظاهرة تهميش فئات واسعة من المجتمع، وهذه التجليات تلعب دورا كبيرا في أضعاف التطور الديمقراطي في هذه المجتمعات، وأن خضوع نظم الحكم في هذه الأقطار لمتطلبات التوسع الرأسمالي والأخذ بسياسات التكيف الهيكلي هو الذي يشكل الخلفية العامة التي ترسم عليها من حين لآخر الانفجارات الاجتماعية التي تطرح مسألة الديمقراطية علي بساط البحث، بمعني آخر فإن التنمية الاقتصادية الاجتماعية تحدد بدرجة كبيرة مدي إمكانية النجاح في تحقيق الديمقراطية أو أعاقتها، وأنه ما لم تعتمد سياسة تنموية وطنية متمحورة علي الذات أي تتحدد أولوياتها وتتخذ قراراتها انطلاقا من المصلحة الوطنية والأوضاع الداخلية وليس تنفيذا لسياسات تحددها المؤسسات الرأسمالية العالمية فإن السير بنجاح علي طريق الديمقراطية أمر مشكوك فيه. ويري سمير أمين أنه عندما تنشأ نظم تعترف بمبدأ الانتخابات والتعددية الحزبية وبدرجة معينة من حرية التعبير ولكنها تمتنع عن مواجهة المشاكل الاجتماعية ولا تواجه علاقات التبعية بجدية فإنها لن تكون سوي تعبير عن أزمة النظام الاستبدادي في أطراف النظام الرأسمالي العالمي. وأن هذه النظم أمام أحد خيارين، فإما أن يقبل النظام بالخضوع لمتطلبات التكيف العالمي، وعندها عليه التخلي عن أي محاولة لإصلاح اجتماعي عام وبالتالي فإن الديمقراطية ستدخل في أزمة ولو بعد حين، وإما أن تسيطر القوي الشعبية علي الديمقراطية وتفرض بواسطتها هذه الإصلاحات. عندها سيدخل النظام في صراع مع الرأسمالية العالمية السائدة، وعليه بالتالي الانتقال من المشروع الوطني البورجوازي إلي المشروع الوطني الشعبي (10)
وبعد.. كانت هذه أفكارا وتوجهات حول مفهوم الديمقراطية ومقوماتها الأساسية وطبيعة عملية الانتقال إلي الديمقراطية في الوطن العربي التي لا يمكن إنجازها بدون دور للحركة الجماهيرية المنظمة، خاصة بعد أن تبين بوضوح استحاله بناء الديمقراطية من أعلي بإرادة الفئات الحاكمة، وأنه لا مفر من بناء الديمقراطية من أسفل بإرادة الحركة الجماهيرية المنظمة ولا يمكن اتمام هذه العملية بدون استقرار قيم الديمقراطية في وجدان المواطنين وإشاعة ثقافة مدنية ديمقراطية في المجتمع، ويطرح هذا كله قضية المجتمع المدني ودوره في بناء الديمقراطية. فماذا نقصد بالمجتمع المدني؟ وما هي مؤسساته؟ وما هي القيم التي ينبني عليها وما علاقته بالديمقراطية؟ هذا ما نعالجه في الفصل التالي.هوامش الفصل الأول
(1) عبد الغفار شكر، الجمعيات الأهلية الإسلامية وعلاقتها بالديمقراطية، ورقة غير منشورة مقدمة إلى ندوة المنظمات غير الحكومية والحكم الجيد في الوطن العربي، معهد دراسات التنمية ومركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام. مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية والتوثيق (سيداج) القاهرة 1999.
(2) أيمان محمد حسن، وظائف الأحزاب السياسية في نظم التعددية المقيدة، كتاب الأهالي رقم ،54 القاهرة، أكتوبر 1995 ص82.
(3) المرجع السابق، ص 45 -50.
(4) على خليفة الكواوي، مفهوم الديمقراطية المعاصرة، مجلة المستقبل العربي، بيروت، العدد ،168 فبراير 1993. ص 25.
(5) محمد عابد الجابري، إشكالية الديمقراطية والمجتمع المدني في الوطن العربي، مجلة المستقبل، العدد ،167 يناير ،1993 بيروت ص 14.
(6) إيمان محمد حسن، مرجع سابق، ص ،38 39.
(7) صلاح العمروسى، حدود البرلمانية في ظل نظام استبدادي، كتاب اليسار العربي وقضايا المستقبل إصدار مركز البحوث العربية بالقاهرة، مكتبة مدبولى القاهرة، 1998. ص229.
(8) عبد الغفار شكر، الديمقراطية والطريق العربي إلى الاشتراكية كتاب اليسار العربي وقضايا المستقبل، المرجع السابق ص 197- 198.
(9) د. مصطفى تركي، السلوك الديمقراطي، مجلة عالم الفكر، المجلد الثاني والعشرون، أكتوبر. نوفمبر ديسمبر، وزارة الإعلام، دولة الكويت. ص 118- 119.
(10) د. سمير أمين، البديل الوطني الشعبي الديمقراطي، مجلة المستقبل العربي، العدد يونيو ،1993 بيروت ص 106-107.
* يتضمن هذا الفصل اقتباسات مطولة من مقال للمؤلف نشرته مجلة النهج بعنوان “من الاستبداد إلي الديمقراطية في الوطن العربي” العدد 44 السنة 11 صيف/ خريف 1996.دور المجتمع المدنى فى بناء الديمقراطية – الجزء الثانى
الفصل الثاني
المجتمع المدني والقيم الديمقراطيةأخطأ البعض في الوطن العربي عندما اتخذوا موقفا سلبيا من الدعوة إلى تقوية المجتمع المدني لأنهم تصوروا أنه يقتصر فقط على تلك المنظمات غير الحكومية التي تأسست حديثا في سياق العولمة، ونشطت في بداية تأسيسها وفق أجندة خارجية حددت موضوعاتها مؤسسات التمويل الدولية الرأسمالية ومنظمات غير حكومية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وغاب عن هؤلاء أن المجتمع المدني يضم العديد من المنظمات الشعبية والجماهيرية، وأنه قائم في المجتمعات العربية منذ أكثر من مائة سنة مع تأسيس الجمعيات الأهلية في القرن التاسع عشر والنقابات العمالية والمهنية في بداية القرن العشرين وكذلك الجمعيات التعاونية إلى آخر هذه المنظمات التي تدخل في إطار تعريف المجتمع المدني.
والمجتمع المدني هو من حيث المبدأ، نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وهى علاقات تقوم على تبادل المصالح والمنافع، والتعاقد والتراضى والتفاهم والاختلاف والحقوق والواجبات والمسئوليات، ومحاسبة الدولة في كافة الأوقات التي يستدعى فيها الأمر محاسبتها، ومن جهة إجرائية، فإن هذا النسيج من العلاقات يستدعي، لكي يكون ذا جدوي، أن يتجسد في مؤسسات طوعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية متعددة تشكل في مجموعها القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها مشروعية الدولة من جهة، ووسيلة محاسبتها إذا استدعى الأمر ذلك من جهة أخرى(1)
والمجتمع المدني هو مجتمع مستقل إلى حد كبير عن إشراف الدولة المباشر، فهو يتميز بالاستقلالية والتنظيم التلقائي وروح المبادرة الفردية والجماعية، والعمل التطوعي، والحماسة من أجل خدمة المصلحة العامة، والدفاع عن حقوق الفئات الضعيفة، ورغم أنه يعلى من شأن الفرد إلا أنه ليس مجتمع الفردية بل على العكس مجتمع التضامن عبر شبكة واسعة من المؤسسات (2)
تزداد أهمية المجتمع المدني ونضج مؤسساته لما يقوم به من دور في تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من إفقارهم، وما يقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، ثقافة بناء المؤسسات، ثقافة الإعلاء من شأن المواطن، والتأكيد على إرادة المواطنين في الفعل التاريخي وجذبهم إلى ساحة الفعل التاريخي والمساهمة بفعالية في تحقيق التحولات الكبرى للمجتمعات حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة.(3). وفى هذا الإطار يرى المفكر والمناضل الإيطالي انطونيو جرامشى أن المجتمع المدني ساحة للصراع داخل المؤسسات السياسية والنقابية والفكرية للمجتمع الرأسمالي، تمارس من خلاله الطبقة البورجوازية هيمنتها الثقافية أو تصعد من خلاله بشائر الهيمنة المضادة للطبقة العاملة(4). أي أن المجتمع المدني عند جرامشى هو مفهوم صراعي وليس شأنا رأسماليا بحتا حيث يتعين على الطبقة العاملة والطبقات الكادحة أن تواجه الأيديولوجية الرأسمالية والثقافية السائدة بثقافة مضادة، مما يعزز استقلالية مؤسسات المجتمع المدني ودورها في حماية الإنسان العادي من سطوة الدولة، وقدرته على ممارسة التضامن الجماعي في مواجهتها ، مما يمكنه من الضغط عليها والتأثير علي السياسيات العامة للدولة. والمجتمع المدني بهذا المفهوم هو أحد أركان الديمقراطية ويلعب دورا هاما في بنائها ودعم تطورها، ويمكن أن نتعرف مبدئيا على العلاقة بين المجتمع المدني والديمقراطية من خلاتل متابعتنا لكافة الجوانب المتعلقة به من حيث تعريف المجتمع المدني ومكوناته ووظائفه ، كما يمكن أن نتعرف عليه تفصيليا من خلال دراستنا للجوانب المشتركة بينهما.
تعريف المجتمع المدني :
استقر الرأي من خلال الدراسات الأكاديمية والميدانية والمتابعة التاريخية لنشأته وتطوره أن المجتمع المدني هو “مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي بين مؤسسات القرابة ومؤسسات الدولة التي لا مجال للاختيار في عضويتها” هذه التنظيمات التطوعية الحرة تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضى والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف.
وللمجتمع المدني بهذا المفهوم أربعة مقومات أساسية هي :
– الفعل الإرادي الحر أو التطوعي
– التواجد في شكل منظمات.
– قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين
– عدم السعي للوصول إلى السلطة.
مكونات المجتمع المدني :
يدخل في دائرة مؤسسات المجتمع المدني طبقا لهذا التعريف أي كيان مجتمعي منظم يقوم على العضوية المنتظمة تبعا للغرض العام أو المهنة أو العمل التطوعي، ولا تستند فيه العضوية غلى عوامل الوراثة وروابط الدم والولاءات الأولية مثل الأسرة والعشيرة والطائفة والقبيلة، وبالتالي فإن أهم مكونات المجتمع المدني هي :
– النقابات المهنية
– النقابات العمالية
– الحركات الاجتماعية .
– الجمعيات التعاونية
– الجمعيات الأهلية
– نوادي هيئات التدريس بالجامعات
– النوادي الرياضية والاجتماعية
– مراكز الشباب والاتحادات الطلابية
– الغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال
– المنظمات غير الحكومية الدفاعية والتنموية كمراكز حقوق الإنسان والمرأة والتنمية والبيئة.
– الصحافة الحرة وأجهزة الإعلام والنشر
– مراكز البحوث والدراسات والجمعيات الثقافية.
وهناك من يضيف إلى هذه المنظمات هيئات تقليدية كالطرق الصوفية والأوقاف التي كانت بمثابة أساس المجتمع المدني في المجتمعات العربية منذ مئات السنين قبل ظهور المنظمات الحديث.
الاختراق الخارجي للمجتمع المدني :
لاشك في أن العولمة الرأسمالية هي أهم الظواهر العالمية المعاصرة وأهمها تأثيراً في حياة الشعوب ومستقبلها .ومن أبرز مظاهر العولمة إعادة هيكلة الرأسمالية المعاصرة بإدماج اقتصاديات مختلف بلدان العالم في الاقتصاد الرأسمالي بالشروط التي وضعتها رأسمالية المراكز المتقدمة على أساس إعلاء شأن السوق وآلياته وفرض حرية انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات والسلع والخدمات دون قيود أو عقبات تطبيقا لأفكار الليبرالية الجديدة التي تشكل العنصر الأيديولوجي المسيطر والمركزي في عملية إعادة الهيكلة هذه التي تجرى على امتداد العالم، وقد عانت دول الجنوب ومن ضمنها الأقطار العربية من مشاكل اقتصادية واجتماعية حادة نتيجة تطبيق السياسات التي أو أوصت بها المؤسسات الرأسمالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهى السياسات المعروفة بالتكيف الهيكلي.
ولتخفيف حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي حرصت قوى العولمة على توظيف المجتمع المدني ليكون بديلا للدولة الوطنية التي تنسحب من أدوارها التقليدية ومسئولياتها في دعم الفئات الفقيرة وتوزيع الدخل لصالح الطبقات العاملة والكادحة والفئات الضعيفة، وتهدف قوى العولمة من دعمها للمجتمع المدني أن يقوم بدور البديل للدولة في مجال دعم الفئات الفقيرة وتستخدم كملطف لحدة المشاكل الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي مثل الفقر والبطالة والتهميش فيكون إطاراً يعبئ شرائح وقوى اجتماعية تتحمل عبء مواجهة هذه المشاكل وسيكون ذلك بالقطع على حساب دوره في دعم التطور الديمقراطي للبلاد.
تؤكد التقارير السنوية للبنك الدولي هذه النظرة حيث يشير في تقرير 1995 إلى المجتمع المدني كظاهرة اقتصادية باعتباره القوة المحركة بالنسبة لنشاطات ونمو القطاع الخاص، من هنا تأتى أهميته لأهداف التكيف الهيكلي فيما يتعلق بتقلص دور الدولة، وخصخصة الخيرات العامة والسلع الاجتماعية، ونمو القطاع الخاص الذي تعرض للتقهقر في مراحل سابقة، ويؤكد البنك الدولي أنه من المأمول مع الانفتاح السياسي أن تحدث نقله من مرحلة التسامح مع القطاع الخاص إلى مرحلة التحمس له، بوصفه محرك النمو والمحدد الرئيسي لمستقبل البلاد، ويشير البنك في تقرير 1998 أن القطاع المستقل عن الدولة أو غير الحكومي والذي يضم أنواعا مختلفة من المنظمات غير الحكومية عليه دور حاسم في التصدي للمظاهر التي تحول دون تطور القطاع الخاص. وينظر البنك؛ الدولي إلى المجتمع المدني لما يستطيع أن يقوم به من مساعدة في تعبئة الموارد بالطرق التي تعجز الدولة عن القيام بها وباعتباره “دولة الظل” التي تقوم بوظائف تقليدية للدولة مثل إنشاء وإدارة المدارس ومراكز الرعاية الصحية ومشروعات الأشغال العامة كشق الطرق والترع(5)، بل إن تعريف البنك للمنظمات الأهلية يؤكد إصراره على دورها كملطف لحدة المشاكل وليس باعتبارها الوسيط بين المجتمع والدولة أو باعتبارها إطارا مناسباً للمساهمة في التحول الديمقراطي للمجتمع أو لإمكانية قيامها بدور تغييري تنموي شامل، يتضح ذلك من تعريف البنك الدولي لها بأنها مؤسسات وجماعات متنوعة الاهتمامات مستقلة كليا أو جزئيًا عن الحكومات، وتتسم بالعمل الإنساني والتعاون وليس لديها أهداف تجارية ويساعد على تحقيق أهداف المؤسسات الرأسمالية الدولية في توظيف مؤسسات المجتمع المدني لخدمة سياساتها بناء منظمات غير حكومية عابرة للقوميات ترتبط بشبكات عالمية تساهم في تمويل أنشطة المنظمات الأهلية وغير الحكومية الوطنية وفق اجندة الرأسمالية العالمية بدلا من أن تكون أولوياتها طبقا لاحتياجات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أدى الاختراق الأجنبي إلي إدخال تغييرات على خريطة المجتمع المدني بالعديد من الأقطار العربية، حيث نلاحظ أن أساس هذه الخريطة في المجتمعات العربية حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين كان منظمات شعبية تعبر عن مصالح فئات اجتماعية معينة كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والمنظمات النسائية والشبابية، أو منظمات غير حكومية دفاعية، أو جمعيات أهلية خيرية وثقافية واجتماعية تقدم لأعضائها خدمات متنوعة كما تقدم خدماتها للفئات الضعيفة في المجتمع، أو أندية رياضية وثقافية واجتماعية تشبع احتياجات أعضائها لأنشطة متطورة في هذه المجالات، وكذلك الجمعيات التعاونية. لكن العولمة جاءت معها بقضايا جديدة ومشاكل جديدة مثل حماية البيئة من التلوث، والفقر، والهجرة واللاجئين وضحايا العنف والسكان الأصليين والمخدرات والإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية، ولأن منطق العولمة يستبعد قيام الدولة بدور أساسي في مواجهة هذه المشكلات فإنها شجعت على قيام منظمات غير حكومية للتعامل معها، كما أن نشطاء المجتمع المدني سارعوا في كثير من الأقطار لتكوين منظمات غير حكومية لمواجهة هذه المشكلات والتخفيف من حدتها. وسواء كان المشجع على قيام هذه المنظمات الجديدة هو العامل الخارجي أو الأوضاع الداخلية إلا أن النتيجة واحدة هي قيام مئات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الجديدة التي تنشط حول أهداف مفتتة وقضايا جزئية دون ارتباط بالأسباب المشتركة لهذه المشاكل الجزئية، ودون وضوح حول إمكانية التنسيق والتعاون بينها لمواجهة هذه الأسباب التي تعود بالأساس إلى العولمة الرأسمالية وسياساتها. وهذا التغيير في خريطة المجتمع المدني يهدد مؤسسات المجتمع المدني بالتحول عن دورها الأساسي كجزء من المجتمع الديمقراطي إلى ملطف ومخفف لحدة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الناجمة عن سياسات العولمة وتأثيراتها على مجتمعاتنا وهى تكرس في نفس الوقت الحكم الاستبدادي.
يطرح هذا التطور في بنية المجتمع المدني في دول الجنوب والأقطار العربية قضية الحركات الاجتماعية كمكون أساسي من مكونات المجتمع المدني، وكعنصر هام من عناصر التطور الديمقراطي وتحولات المستقبل الاجتماعية. ووجه الأهمية هنا في طرح قضية الحركات الاجتماعية أننا مع هذا التغيير في بنية المجتمع المدني أمام حركات اجتماعية جديدة تختلف عن الحركات الاجتماعية التقليدية سواء من حيث الأهداف أو الأدوار، فالحركات التقليدية كالحركة العمالية والحركة الفلاحية والحركة الطلابية والحركة النسائية كانت جزءًا من الصراع الطبقي في المجتمع هدفها حماية مصالح فئات اجتماعية واسعة أو طبقات اجتماعية في مواجهة الاستغلال والقهر الذي تمارسه فئات أخرى، ورغم أنها لم تكن تمارس نشاطا حزبيا مباشرا، إلا أنها أدت في بعض الأحيان إلى تأسيس أحزاب سياسية لهذه الفئات الاجتماعية، وقد نجحت هذه الحركات الاجتماعية القديمة أن توحد نضالها حول أهداف عامة تجمع كل المنتمين إلى تلك الفئة الاجتماعية كالمرأة مثلا أو العمال، وقد لعبت دورًا هاما في تعديل موازين القوى الطبقية في المجتمع في كثير من الأقطار في فترات مختلفة، ولكننا نلاحظ أن نفوذ هذه الحركات وتأثيرها يضعف باستمرار نتيجة لنجاح السلطة في استعابها واحتواء حركتها، أو لتغير الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغياب طرح فكرى مناسب لهذه التطورات ، أو لانصراف أعضائها عن نشاطها، وفى نفس الوقت تنشأ حركات اجتماعية جديدة حول قضايا وأهداف جزئية في مجالات حقوق الإنسان والبيئة والعاطلين والأمومة والطفولة والأقليات .. الخ. حيث نلاحظ قيام تنظيمات متعددة لا صلة بينها داخل المجال الواحد للتعامل مع جانب واحد فقط من القضية، كما هو الحال مثلا في مجال حقوق الإنسان حيث توجد تنظيمات منفصلة للمساعدة القانونية وتنظيمات أخرى لنشر ثقافة حقوق الإنسان، وتنظيمات ثالثة لرصد الانتهاكات .. الخ،
وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام انفجار في الحركات الاجتماعية والتنظيمات الجديدة التي تنشأ حول أهداف محدودة للغاية دون أن يربط بينها رابط مشترك لتنسيق الجهود، أو إدراك واضح للارتباط الضروري بينها مما يهدد المجتمع المدني بالانحراف عن دوره الحقيقي في دعم التطور الديمقراطي نتيجة لغياب الرؤية المشتركة والتنسيق المشترك بين هذه المنظمات والحركات الاجتماعية واكتفائها بالنشاط حول الهدف الخاص بكل منها.
ونحن لا نستطيع أن نتجاهل هنا أن أحد أسباب التسارع في تأسيس هذه الحركات هو تزايد وعى الناس بأن الدولة ومؤسساتها وكذلك الأحزاب السياسية عاجزة عن مواجهة الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن ظاهرة العولمة وما ترتب عليها من مشاكل اجتماعية، وتترك الناس تحت رحمة هذه الأوضاع. واستجابة من الناس لهذه الأوضاع فإنهم ينشئون حركاتهم الاجتماعية الخاصة، أو ينضمون إلى حركات اجتماعية قائمة، أو منظمات دفاعية تقوم على أسس دينية أو عرقية أو قومية أو جنسية أو بيئية أو سلامية أو محلية أو على أساس أي قضية منفردة، وتقوم معظم هذه الحركات بالتعبئة والتنظيم باستقلال عن الدولة ومؤسساتها والأحزاب السياسية لأنها لا تراها قادرة على مواجهة هذه القضايا أو المشاكل بفاعلية.
من هذا العرض للمجتمع المدني ومقوماته الأساسية ومكوناته ومالحق به من تطورات نتيجة للأوضاع العالمية المستجدة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية يمكن القول أننا أمام نوعين من المجتمع المدنى إن صح التعبير في الأقطار العربية :
– مجتمع مدني شعبي
– مجتمع مدني نخبوى
تكتفي القوى الرأسمالية والفئات الحاكمة بوجود مؤسسات للمجتمع المدني في إطار نخبوى تقوم بدورها في تلطيف حدة المشاكل الناجمة عن سياسات التكيف الهيكلي والتحول إلى اقتصاد السوق والاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وفق الشروط التي تضعها المراكز الرأسمالية المتقدمة، وينحصر دور هذه المنظمات من وجهة نظر الفئات الحاكمة والقوى الرأسمالية في تقديم الرعاية للفقراء والمحتاجين، وإشباع حاجات خدمية لفئات اجتماعية معينة، بما لا يؤدى إلى تغيير الأوضاع بل يعيد إنتاج الأوضاع القائمة بما فيها من فقر وبطالة وتهميش وافتقاد العدالة وفى هذه الحالة فإن مؤسسات المجتمع المدني النخبوية لن تزعج الفئات الحاكمة ولن تلعب دوراً في تغيير الأوضاع القائمة من خلال المساهمة الفعالة بدور ديمقراطي في المجتمع. وعلى العكس، من هذا فإن القوى الديمقراطية والتقدمية يجب أن تدفع في اتجاه اكتساب مؤسسات المجتمع المدني طابعا شعبيًا يساعدها على القيام بدور تعبوي تغييري تحتاجه مجتمعاتنا تتمكن مؤسسات المجتمع المدني من خلاله من المساهمة في عملية التحول الاجتماعي والسياسي للمجتمع. والمشاركة بشكل جماعي (كمؤسسات) في صياغة السياسات العامة والضغط من أجل تعديلها بما يحقق مصالح الأغلبية ويكفل مشاركتها السياسية تدعيما للديمقراطية (6) .
يتطلب دعم الطابع الشعبي للمجتمع المدني الاهتمام أكثر بالمنظمات الشعبية ذات الجذور العميقة فى المجتمع التي تهملها حاليًا المنظمات غير الحكومية المنشأة حديثًا وتشمل المنظمات الشعبية تحديدا النقابات المهنية والعمالية ، والمنظمات الفلاحية، والتعاونيات، واتحادات الطلاب، ومنظمات الحرفيين والمنظمات المهنية وتنظيمات الخدمة الاجتماعية، ويوفر هذا التنسيق استفادة المنظمات غير الحكومية وسائر مكونات المجتمع المدني من التراث الطويل والخبرات الواسعة للحركة النقابية في مجالات التعبئة وحشد القوى، ولديها الوسائل والكوادر المدربة على ذلك، ولها خبرات هامة في المجال المطلبى، وتتوفر لدى المنظمات الأخرى التعاونية والاجتماعية والطلابية والفلاحية خبرات متنوعة وإمكانيات بشرية تطوعية يمكن أن تستفيد منها المنظمات الأخرى حديثة النشأة لاكتساب القدرة على التأثير والاستناد إلى قاعدة اجتماعية واسعة وامتلاك خبرات جديدة في مختلف المجالات ، وسوف يساعدها ذلك على تجاوز وضعها الحالي كمنظمات منعزلة عن بعضها تعمل في إطار أهداف جزئية بحيث تتجه إلى إقامة تحالفات مع المنظمات الأخرى العاملة في نفس المجال مثل حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والتنمية .. الخ، وتجاوز وضعها النخبوى إلى آفاق جماهيرية وشعبية أوسع تساعدها على تفعيل نشاطها واكتساب المقومات الضرورية لتحولها إلى حركات اجتماعية لها عمق شعبي كاف.
بهذا التوجه يمكن أن يقوم المجتمع المدني بدوره المأمول في بناء الديمقراطية. التي يلتقي معها في إطار نسق مشترك من القيم.القيم المشتركة للديمقراطية والمجتمع المدني :
يلتزم المجتمع المدني في وجوده ونشاطه بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمنية للتنوع والاختلاف، وما يتطلبه ذلك من قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين وهى نفس القيم والمعايير التي تقوم عليها الديمقراطية كصيغة لادارة الصراع في المجتمع الطبقي بوسائل سلمية وباعتبارها أيضًا أسلوب حياة يشمل كافة مجالات المجتمع. في هذا الإطار تبرز »قيم التسامح، والروح الجمعية، والتقدير المرتفع للذات من منظور الأهلية للفعل الاجتماعي والسياسي، الإيمان بكرامة الإنسان، الوفاء بالوعود، الشفافية والمثابرة، ولتأسيس الديمقراطية كنظام حكم وطريقة حياة لا يكفى أن تكون هذه القيم أساس تحرك الإنسان في المجتمع وموقفه من الذات ومن الآخر بل ينبغي أيضًا تنمية المهارات الذهنية ومهارات المشاركة التي تمكنه من التفكير والتعرف على نحو يوازن بين حقوقه الفردية وبين الصالح العام، هذه المهارات تمكن المواطن من تحديد ووصف وشرح المعلومات والأفكار ذات العلاقة بالقضايا العامة. فضلاً عن إبداع بدائل حل المشكلات الناجمة عنها، والمفاضلة بينها، أما مهارات المشاركة فتمكن المواطن من التأثير في قرارات السياسة العامة ومساءلة ممثليه في المجالس والهيئات المنتخبة.(18)
وتعتبر مؤسسات المجتمع المدني الإطار الأمثل والمدرسة الأولية للتمكين لهذه القيم والمهارات عند المواطنين الذين ينضمون إلى عضويتها وينشطون في إطارها ولما كانت هذه القيم هي جوهر الثقافة الديمقراطية، والمهارات هي أساس الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية في المجتمع فإن إسهام مؤسسات المجتمع المدني في ترسيخها لدى المواطن ولدي المجتمع يمثل جانبا هاما من دوره في بناء الديمقراطية على النحو الذي سنوضحه تفصيلا في الفصل التالي.هوامش الفصل الثاني
(1) د. حامد خليل ، الوطن العربي والمجتمع المدني، كراسات استراتيجية ، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق.
العدد الأول – السنة الأولى – خريف 2000. ص 12.
(2) د. الحبيب الجنحانى، المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، مجلة عالم الفكر، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، العدد الثالث، المجلد السابع والعشرون، يناير / مارس ،1999 ص 36.
(3) د. أحمد ثابت، الديمقراطية المصرية على مشارف القرن القادم، كتاب المحروسة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر القاهرة، الطبعة الأولى، يناير 1999- ص 20.
(4) د. مصطفى كامل السيد، مفهوم المجتمع المدني ومصر، ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطي في مصر، جماعة تنمية الديمقراطية 2-3 نوفمبر ،1997 القاهرة. ص 3.
(5) أجوسا واى أوساجاى ، التكيف الهيكلي والمجتمع المدني والتماسك الوطني في أفريقيا، مجلة أفريقية عربية، مركز البحوث العربية بالقاهرة المجلد الثالث . ص 19-52.
(6) شهيدة الباز، دور المنظمات الأهلية العربية في تنمية المجتمعات المحلية، مجلة أفريقية عربية، مركز البحوث العربية بالقاهرة، المجلد الثالث أكتوبر ،2000 ص 19.
(7) إبراهيم السوري، ورقة مقدمة إلى حلقة الحوار حول قضايا بناء القدرات للمنظمات غير الحكومية، اللجنة الاقتصادية الاجتماعية للأمم المتحدة غرب آسيا، القاهرة 19/ 21 سبتمبر 2000.
(8) د. كمال المنوفي، التعليم كيف يكون رافدا لتعزيز التطور الديمقراطي، الأهرام 7 أكتوبر 2001.دور المجتمع المدنى فى بناء الديمقراطية- الجزء الثالث
هناك صلة قوية بين المجتمع المدنى والتحول الديمقراطى، فالديمقراطية كما أوضحنا من قبل هى مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التى تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع فى المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس الأساس المعيارى للمجتمع المدنى حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدنى من أهم قنوات المشاركة الشعبية، ورغم أنها لا تمارس نشاطا سياسيا مباشرًا وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية إلا أن أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعدادا للانخراط فى الأنشطة الديمقراطية السياسية، وبالإضافة لهذا فإن الادارة السلمية للصراع والمنافسة هى جوهر مفهوم المجتمع المدنى كما استخدمه منظور العقد الاجتماعى وهيجل وماركس ودى توكفيل وجرامشى. وكل ما فعله مستخدمو المفهوم من المحدثين هو تنقيته أو توسيع نطاق مظاهره فى المجتمعات المعاصرة المعقدة. ويلاحظ الدارسون والمراقبون أن تعثر التحول الديمقراطى فى الوطن العربى يرجع إلى غياب أو توقف نمو المجتمع المدنى. وما يستتبعه من تعزيز القيم الديمقراطية وازدهار ثقافة مدنية ديمقراطية توجه سلوك المواطنين فى المجتمع وتهيئتهم للمشاركة فى الصراع السياسى وفق هذه القيم ويمر الوطن العربى حاليًا بعمليتى بناء المجتمع المدنى والتحول الديمقراطى فى نفس الوقت. والصلة بين العمليتين قوية، بل أنهما أقرب إلى أن تكونا عملية واحدة من حيث الجوهر، ففى الوقت الذى تنمو فيه التكوينات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة وتتبلور، فإنها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدنى التى تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة فى الحكم(1)
وهكذا فإن الدور الهام للمجتمع المدنى فى تعزيز التطور الديمقراطى وتوفير الشروط الضرورية لتعميق الممارسة الديمقراطية وتأكيد قيمها الأساسية ينبع من طبيعة المجتمع المدنى وما تقوم به منظماته من دور ووظائف فى المجتمع لتصبح بذلك بمثابة البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتسيير المجتمع وهى من ثم أفضل إطار للقيام بدورها كمدارس للتنشئة الديمقراطية والتدريب العملى على الممارسة الديمقراطية.
ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية فى أى مجتمع مالم تصير منظمات المجتمع المدنى ديمقراطية بالفعل باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية فى المجتمع بما تضمه من نقابات وتعاونيات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية.. الخ. حيث توفر هذه المؤسسات فى حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطيا ، وتدريبهم عمليا لاكتساب الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية فى المجتمع الأكبر بما تتيحه لعضويتها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية من خلال :
– المشاركة التطوعية فى العمل العام.
– ممارسة نشاط جماعى فى إطار حقوق وواجبات محددة للعضوية
– التعبير عن الرأى والاستماع إلى الرأى الأخر والمشاركة فى اتخاذ القرار.
– المشاركة فى الانتخابات لاختيار قيادات المؤسسة أو الجمعية وقبول نتائج الانتخابات سواء كانت موافقة لرأى العضو من عدمه.
– المشاركة فى تحديد أهداف النشاط وأولوياته والرقابة على الأداء وتقييمه(2).
عندما ينشط المواطن فى جمعيته الأهلية أو منظمته النقابية أو أى مؤسسة أخرى من مؤسسات المجتمع المدنى وفق هذه الأسس والقيم فإنه يتدرب عمليا علي أهم مقومات الديمقراطية ويصبح مهيأ للانخراط فى النشاط العام بالمجتمع فى إطار ديمقراطى، وعندما يكتسب المواطن خبرة الممارسة وفق هذه الأسس أو القيم فإنه يصبح طرفا فاعلا ومشاركا فى الممارسة الديمقراطية فى المجتمع كله.
يتحقق له ذلك عندما يشارك فى العمل العام متطوعا، وعندما يمارس نشاطا جماعيا فى إطار حقوق وواجبات محددة، وعندما يشترك فى المناقشات داخل هيئات المنظمة أو يمارس حقوقه فى التصويت والترشيح لعضوية هذه الهيئات ويلعب دورًا فى متابعة النشاط وتقييمه ويراقب أداء الهيئات القيادية بالمؤسسة.
وعندما تتوفر لأوسع دائرة من المواطنين امكانية المشاركة الفعالة من خلال منظمات المجتمع المدنى، وعندما تتوفر لهذه المنظمات حياة داخلية ديمقراطية تمكن الأعضاء من القيام بهذه الأدوار فى نشاط هذه المنظمات وحياتها الداخلية، هنا تنشأ امكانية حقيقية لقيام مجتمع مدنى شعبى وديمقراطى يكون بمثابة البنية التحتية لنظام ديمقراطى فاعل فى المجتمع كله. وبذلك تصبح الديمقراطية بناءًا من أسفل يشمل الشعب كله تربية وتريبا وممارسة فى مختلف ميادين الحياة اليومية، ويصبح الشعب عندها طرف أساسيا فى معادلة الحكم، وتكون الديمقراطية السياسية محصلة هذا كله، وبذلك يتأكد مفهوم الديمقراطية كنظام للحياة وأسلوب لتيسير المجتمع، ويتأكد أيضًا أن الديمقراطية لا يمكن أن تأتى كمنحة من الحكام ولكن الشعب ينتزعها كحقوق وآليات ومؤسسات عندما يكون قادرا على ممارستها، وعندما تنضج حركته فى إطار قيمها، وتتوفر له القدرة من خلال عمل جماعى منظم لتعميمها فى سائر مجالات الحياة اليومية وفى مؤسسات الحكم أيضًا، وفى علاقة الدولة بالمواطنين ومؤسسات الدولة ببعضها وعلاقات المواطنين ببعضهم وذلك بعد أن أعيتنا الحبل فى أن يتم بناء الديمقراطية من أعلى بواسطة الحكام الذين طالما توجه إليهم الخطاب السياسى للمعارضة والقوى الديمقراطية أن يتخذوا الأجراءات ويصدروا التشريعات اللازمة لتحقيق التطور الديمقراطى ولكن دون جدوى.
يقوم المجتمع المدنى بدوره فى بناء الديمقراطية على مستويين أولهما دور ثقافى وتعبوي يتحقق من خلال نهوض مؤسسات المجتمع المدنى بوظائفها الأساسية فى المجتمع، وثانيهما دور تربوى يتحقق من خلال الممارسة الديمقراطية والتدريب العملى على الأسس الديمقراطية فى الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدنى . وفيما يلى نعرض بقدر أكبر من التفصيل لهذين الدورين من خلال استعراض وظائف المجتمع المدنى وتأثيرها على المجتمع فيما يتصل ببناء الديمقراطية، والحياة الداخلية الديمقراطية لمؤسسات المجتمع المدنى ودورها فى اكساب الاعضاء الخبرة اللازمة لممارسة الديمقراطية فى المجتمع.
وظائف المجتمع المدنى وعلاقتها بالديمقراطية :
المجتمع المدنى من وجهة نظر الطبقات الحاكمة هو وسيلتها لاستكمال سيطرتها على المجتمع من خلال آلية الهيمنة الايديولوجية الثقافية حيث لا تسعفها آلية القمع باستخدام أجهزة الدولة فى ضمان السيطرة الكاملة على المجتمع . ولكن المجتمع المدنى من وجهة نظر الطبقات المحكومة هو ساحة للصراع تستطيع من خلاله أن ترسى أساسا هيمنة مضادة تمكنها من توسيع نطاق تأثيرها فى المجتمع، والدفع فى اتجاه توسيع الهامش المتاح لها للحركة والتأثير وبلورة آليات ديمقراطية تسمح بتسوية المنازعات سلميًا وتعمق عملية التطور الديمقراطى للمجتمع، وقد تبلورت فى هذا الاطار خمس وظائف أساسية تقوم بها مؤسسات المجتمع المدنى لتحقيق هذا الدور هى :
1 – وظيفة تجميع المصالح :
حيث يتم من خلال مؤسسات المجتمع المدنى بلورة مواقف جماعية من القضايا والتحديات التى تواجه اعضاءها، وتمكنهم من التحرك جماعيا لحل مشاكلهم وضمان مصالحهم على أساس هذه المواقف الجماعية، وتمارس هذه الوظيفة بشكل أساسى من خلال النقابات العمالية والمهنية والغرف التجارية والصناعية وجماعات رجال الأعمال وسائر المنظمات الدفاعية. من خلال هذه الوظيفة يتعلم الأعضاء كيفية بحث مشاكلهم ودراسة الأوضاع القائمة فى المجتمع وتحديد كيفية الحفاظ على مصالحهم فى مواجهة مصالح فئات أخرى وصياغة مطالب محددة قد تكون جزئية فى بعض الأحيان أو تتضمنها برامج متكاملة، وتكشف هذه البرامج المطلبية للأعضاء عن وحدة مصالحهم وأهمية التضامن بينهم. لحمياتها ولتنفيذ البرامج المطلبية التى تعبر عنها. ومن خلال تحركهم لتنفيذها يكتشفون أهمية التضامن فيها بينهم وأهمية التحرك الجماعى، كما يكتسبون قدرة متزايدة على التفاوض حولها مع الأطراف الأخرى. وهذه كلها خبرات ضرورية لممارسة الديمقراطية على مستوى المجتمع كله. يستوى فى ذلك خبرة صياغة الأهداف والمطالب أو البرامج، وخبرة التحرك الجماعى، وخبرة التفاوض والوصول إلى حلول وسط . وبهذا فإن وظيفة تجميع المصالح التى تقوم بها مؤسسات المجتمع المدنى لا تقتصر نتائجها على العمل المباشر لهذه المؤسسات بل تمتد إلى المجتمع فتوفر لاعضائه هذه الخبرات الهامة للممارسة الديمقراطية السياسية.
2 – وظيفة حسم وحل الصراعات :
حيث يتم من خلال مؤسسات المجتمع المدنى حل معظم النزاعات الداخلية بين أعضائها بوسائل ودية دون اللجوء إلى الدولة وأجهزتها البيروقراطية، وبذلك فإن مؤسسات المجتمع المدنى تجنب أعضاءها المشقة وتوفر عليهم الجهد والوقت ، وتجنبهم كثيرا من المشاكل التى تترتب على العجز عن حل ما ينشأ بينهم من منازعات، وتسهم بذلك فى توطيد وتقوية أسس التضامن الجماعى فيما بينهم، وإذا كانت الديمقراطية بالمفهوم الأجرائى الذى عرضناه من قبل هى صيغة لإدارة الصراع فى المجتمع بوسال سلمية فإن حل المنازعات بين الأعضاء بوسائل ودية داخل مؤسسات المجتمع المدنى هو أساس ممارسة الصراع سلميا على مستوى المجتمع بين الطبقات والقوى الاجتماعية والسياسية، وعندما ينجح الأعضاء فى حل منازعاتهم بالطرق الودية داخل مؤسساتهم المدنية فإنهم يكتسبون الثقافة والخبرة اللازمة لممارسة الصراع الطبقى والسياسى فى المجتمع بوسائل سلمية. تشمل هذه الخبرة والثقافة الاعتراف بالآخر وبحقوقه ومصالحه والحوار معه والوصول إلى حلول وسط من خلال التفاوض، وهكذا تلعب وظيفة حسم وحل الصراعات وديا داخل مؤسسات المجتمع المدنى دورا هامًا فى تهيئة المجتمع لممارسة الديمقراطية السياسية وجوهرها إدارة الصراع والمنافسة بوسائل سلمية.
3 – زيادة الثروة وتحسين الأوضاع :
بمعنى القدرة على توفير الفرص لممارسة نشاط يؤدى إلىزيادة الدخل من خلال هذه المؤسسات نفسها مثل المشروعات التى تنفذها الجمعيات التعاونية الانتاجية والنشاط الذى تقوم به الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والمشروعات الصغيرة والمدرة للدخل التى تقوم بها الجمعيات الأهلية ومشروعات التدريب المهنى الذى تقوم به النقابات المهنية والعمالية لزيادة مهارات أعضائها مما يمكنهم من تحسين شروط عملهم وزيادة دخولهم ، وقد أثبتت الدراسات الميدانية أن تمتع المواطنين بأوضاع اقتصادية جيدة وقدرتهم على تأمين مستوى دخل مناسب لأسرهم يساعدهم على ممارسة النشاط السياسى والاهتمام بالقضايا العامة للمجتمع. وعلى العكس من ذلك فإن سوء الأحوال الاقتصادية يشغل الناس فى البحث عن لقمة العيش فلا يتوفر لهم الوقت الكافي للمشاركة السياسية مما يعطل التطور الديمقراطى للمجتمع نظرا لانصراف الناس عن الاهتمام بقضايا المجتمع العامة والمشاركة فى حلها.
4 – افراز القيادات الجديدة :
يتطور المجتمع وتنضج حركته بقدر ما يتوفر له من قيادات مؤهلة للسير به إلى الأمام باستمرار. ولكى يواصل المجتمع تقدمه فإنه فى حاجة دائمة لاعداد قيادات جديدة من الاجيال المتتالية.
ونحن نقصد بالقائد ذلك الانسان الذى يتمتع بنفوذ حقيقى على جماعة محددة من الناس تثق فيه وتسعى إليه كلما واجهتها مشكلة، تتلمس منه الحل لهذه المشكلة أو تعرف منه على الأقل كيفية مواجهتها، وتستجيب لنصائحة وتتحرك فى الاتجاه الذى يحدده لها وتسير معه واثقة من قدرته على قيادتها نحو ما يحقق مصالحها، وثقة الجماهير فى قائدها لا تأتى من فراغ ولكنها تتحقق عبر التجربة والممارسة، وتتم عبر فترة زمنية مناسبة تختبر خلالها قدرته على فهم مشاكلها والتفاعل معها وسلامة رؤيته لكيفية حل هذه المشاكل. من هنا فإن الصفات الأساسية التى يجب أن تتوفر فى القائد لكى يكون جديرا حقا بالقيادة هى : الحركية والمعرفة العلمية والشعبية. ولا يختلف هذا كثيرا عن قولنا أن القيادة موهبة وعلم وفن. فالخط الطبيعى لتطور القائد هو أنه من خلال حركته وسط جماعة محددة من الناس ونشاطه معهم يكتسب المعرفة بأحوالهم وظروفهم ويطور هذه المعارف باستمرار، وعلى قدر تفاعله مع هذه الجماعة وخدمته لها وبخاصة فى حل مشاكلها فإنه يكتسب شعبية بين أفرادها فيلجأون إليه كلما دعت الحاجة إلى ذلك. ومن خلال هذه المسئولية فإنه يطور معرفته بأحوالهم ويزداد الماما بأوضاعهم فتزداد قدرته على التنبة مبكرا إلى مشاكلهم قبل أن تستفحل ويكون أول من يطرح عليهم هذه المشاكل وكيف يمكن مواجهتها فتزداد شعبيته ويزداد نفوذه وتأثيره لدى دوائر أوسع من هذه الجماهير، ويتحول من قائد نوعى أو محلى يعمل فى قطاع جماهيرى أو جغرافى محدد إلى قائد سياسى ينشط على مستوى المجتمع كله، وبذلك تزداد ثروة المجتمع من القيادات.
وتكوين القيادات الجديدة بهذا المفهوم يبدأ داخل مؤسسات المجتمع المدنى فى النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية والتعاونيات والمنظمات الشبابية والنسائية.. إلخ. حيث تعتبر مؤسسات المجتمع المدنى فى الحقيقة المخزن الذى لا ينضب للقيادات الجديدة، ومصدرًا متجددًا لإمداد المجتمع بها فهى تجتذب المواطنين إلى عضويتها، وتمكنهم من اكتشاف قدراتهم من خلال النشاط الجماعى، وتوفر لهم سبل الممارسة القيادية من خلال المسئوليات التى توكلها لهم، وتقدم لهم الخبرة الضرورية لممارسة هذه المسئولية، وتؤكد الدراسات الميدانية أن العناصر النشطة فى مؤسسات المجتمع المدنى والتى تتولى فيها مسئوليات قيادية هى القاعدة الأساسية التى يخرج منها قيادات المجتمع المحلية والقومية ابتداء من أعضاء المجالس الشعبية المحلية إلى القيادات البرلمانية فى المجالس التشريعية إلى قيادات الأحزاب السياسية على كل المستويات، وبذلك تساهم مؤسسات المجتمع المدنى فى دفع التطور الديمقراطى بالمجتمع وانضاجه من خلال ممارستها لوظيفة افراز القيادات (3)
5 – اشاعة ثقافة مدنية ديمقراطية :
من أهم الوظائف التى تقوم بها مؤسسات المجتمع المدنى إشاعة ثقافة مدنية ترسي فى المجتمع احترام قيم النزوع للعمل الطوعى، والعمل الجماعى، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر، وإدارة الخلاف بوسائل سلمية فى ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمى، مع الالتزام بالمحاسبة العامة والشفافية، وما يترتب على هذا كله من تأكيد قيم المبادرة الذاتية وثقافة بناء المؤسسات، وهذه القيم هى فى مجملها قيم الديمقراطية. من هنا فإن اشاعة الثقافة المدنية التى تمكن لهذه القيم فى المجتمع هى خطوة هامة على طريق التطور الديمقراطى للمجتمع حيث يستحيل بناء مجتمع مدنى دون توافر صيغة سلمية لإدارة الاختلاف والتنافس والصراع طبقا لقواعد متفق عليها بين جميع الأطراف، ويستحيل بناء مجتمع مدنى دون الاعتراف بالحقوق الأساسية للانسان خاصة حرية الاعتقاد والرأى والتعبير والتجمع والتنظيم ومن ثم فإن دور المجتمع المدنى فى إشاعة الثقافة المدنية بهذا المفهوم هو تطوير ودعم للتحول الديمقراطى فى نفس الوقت، ويتأكد دور المجتمع المدنى أيضًا فى نشر هذه الثقافة من خلال الحياة الداخلية لمؤسساته التى ترعى وتنشئ الأعضاء على هذه القيم وتدربهم عليها عمليا من خلال الممارسة اليومية.
الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدنى والتدريب على الممارسة الديمقراطية :
تعتبر مؤسسات المجتمع المدنى الاطار الأمثل لتربية المواطنين لتمثل القيم الديقمراطية فى حياتهم اليومية وتدريبهم عمليًا على الممارسة الديمقراطية واكسابهم خبرة هذه الممارسة من خلال النشاط اليومي لهذه المؤسسات خاصة وأن هذه المؤسسات تضم فى عضويتها عشرات الملايين من المواطنين الذين اجتذبتهم إلى عضويتها لما تقوم به من دور فى الدفاع عن مصالحهم، أو تقديم خدمات لهم، أو تحسين أحوالهم المعيشية. وتلعب مؤسسات المجتمع المدنى دورها التربوى والتدريب على العملية الديمقراطية من خلال العلاقات الداخلية لكل مؤسسة والتى تنظمها لائحة داخلية أو نظام أساسى يحدد حقوق وواجبات الأعضاء، وأسس إدارتها من خلال مجلس إدارة منتخب وجمعية عمومية تضم كل الأعضاء وتعتبر أعلى سلطة فى المؤسسة تنتخب مجلس الإدارة وتراقب أداءه وتحاسبه على ما يحققه من نتائج. وما تتضمنه هذه العملية من مشاركة فى النشاط والتعبير عن الرأى والاستماع إلى الرأى الآخر، والتصويت على القرارات، والترشيح فى الانتخابات، وانتخاب أعضاء مجلس الإدارة، وهى جمعيا أمور ضرورية لأى ممارسة ديمقراطية. وكلما أصبحت مؤسسات المجتمع المدنى أكثر ديمقراطية فى حياتها الداخلية فإنها تكون أقدر على المساهمة فى التطور الديمقراطى للمجتمع كله، وأكثر قدرة على اكساب اعضائها الثقافة الديمقراطية، وتدريبهم عمليا من خلال النشاط اليومى على خبرة الممارسة الديمقراطية.
هناك معايير محددة يمكن من خلالها قياس مدى ديمقراطية مؤسسات المجتمع المدنى وقدرتها على المساهمة فى بناء الديمقراطية على نطاق المجتمع كله، فى مقدمة هذه المعايير :
1 – مدى النمو فى العضوية الفاعلة والنشطة :
تتحدد ديمقراطية أى مؤسسة أو منظمة بعوامل متعددة يأتى على رأسها مدى اتساع العضوية النشطة والفاعلة فيها ونموها فترة بعد أخرى، كما تقاس ديمقراطية المنظمة بمدى مشاركة الأعضاء فى نشاطها ابتداء من تخطيط النشاط إلى التنفيذ ومراقبة الأداء وتقييمه، وانتخاب قيادة المؤسسة (مجلس الإدارة). وكلما نجحت مؤسسات المجتمع المدنى فى اجتذاب أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى عضويتها ، وكلما نجحت فى اجتذابهم للمشاركة النشطة فى برامجها وفى حياتها الداخلية فإنها تساهم بذلك فى تهيئة المجتمع للممارسة الديمقراطية حيث ستزداد قاعدة المواطنين المؤهلين المتحمسين للديمقراطية الذين اكتسبوا بالفعل من خلال عضويتهم للمنظمات الشعبية والمدنية قيما ديمقراطية وخبرات عملية فى ممارسة المفاهيم الديمقراطية والعمل وفق الآليات الديمقراطية. وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للمجتمعات العربية التى لا تسودها ثقافة مدنية ديمقراطية ومازالت الثقافة الأبوية تؤثر فى حركة شعوبها ، كما أنها مازالت حديثة العهد بالمؤسسات الديمقراطية والآليات الديمقراطية وكلما زاد عدد المواطنين المسلحين بالثقافة الديمقراطية والممارسة الديمقراطية داخل مؤسساتهم المدنية كلما انعكس ذلك ايجابيا على المجتمع كله.
2 – مستوى المشاركة فى حضور الجمعية العمومية :
من المعروف أن الجمعية العمومية فى أى مؤسسة مدنية كالنقابات والجمعيات والتعاونيات هى أعلى سلطة بهذه الجمعية وهى تضم جميع أعضاء المؤسسة وتجتمع دوريا مرة كل سنة على الأقل. وإذا كان النمو فى عضوية المؤسسة يعتبر مؤشرا على قدرة المنظمة على اجتذاب نشطاء جدد وتهيئتهم للممارسة الديمقراطية، فإن مستوى مشاركة هؤلاء الأعضاء فى اجتماعات الجمعية العمومية يشير إلى مستوى فاعليتهم، لأنهم يساهمون من خلال ذلك فى تحديد برامج عملها وأولويات نشاطها، ويتعلمون من خلال اجتماعات الجمعية العمومية كيفية مناقشة القضايا العامة، وكيفية إدارة الحوار مع الأخرين والاستماع إلى آرائهم وتحديد القضايا موضع الاتفاق، وصياغة القرارات على أساس هذه القضايا المشتركة، وهى جميعا خبرات ضرورية للممارسة الديمقراطية. كما يتاح للاعضاء من خلال حضور اجتماعات الجمعية العمومية مراقبة الأداء ومحاسبة مجلس الادارة على نشاطه، وما حققه من انجازات ويساهمون بذلك فى إعلاء شأن قيم الشفافية والمحاسبة فى الحياة الداخلية للمؤسسة أو المنظمة وهى قيم أساسية فى الممارسة الديمقراطية فى المجتمع كله ويساعدهم ذلك على العمل وفق هذه القيم فى الحياة العامة للمجتمع وخاصة فى الحياة السياسية.
ويمارس الأعضاء أيضًا من خلال حضور اجتماعات الجمعية العمومية الترشيح لعضوية مجلس الادارة وانتخاب اعضاء المجلس الجديد وبذلك يكتسبون خبرة إدارة العملية الانتخابية وفق آليات ديمقراطية سواء فى الترشيح أو التصويت أو الدعاية أو فرز الأصوات وإعلان النتائج، وهى صورة مصغرة مما يحدث فى الانتخابات البرلمانية أو انتخابات المجالس الشعبية المحلية. وعندما يحرص المواطنون على أن تتم عملية الانتخابات داخل مؤسساتهم المدنية وفق الآليات الديمقراطية فإنهم سوف يحرصون بعد ذلك على توافرها فى العملية الانتخابية للسلطة التشريعية والمجالس المحلية. وتكون هذه خطوة أخرى نحو دفع التطور الديمقراطي للمجتمع كله.
3 – معدلات التغيير فى عضوية مجالس الادارة :
تقاس ديمقراطية أى مؤسسة أيضاً بمعدلات التغيير فى هيئاتها القيادية لإتاحة الفرصة لتداول القيادة أمام أكبر عدد ممكن من أعضائها للتدريب على القيادة واكتساب خبراتها . ومن ثم يتأهل هؤلاء الأعضاء للمشاركة فى العمل العام خارج مؤسستهم أو منظمتهم ويتزودون بالخبرة اللازمة للقيام بدور قيادى. وبذلك تساهم مؤسسات المجتمع المدنى فى تزويد مجالات المجتمع المختلفة بالقيادات الجديدة مما يعزز التطور الديمقراطى للمجتمع بصفة عامة حيث يتوفر للمجتمع اعداد متزايد باستمرار من الموطنين المسلحين بخبرات قيادية والذين مارسوا بالفعل عملية القيادة على نطاق محدود يتطلعون إلى القيام بدور أكبر فى المجتمع فينشطون فى الاحزاب السياسية ويصعدون إلى مواقع قيادية أعلى فيها كما يتقدمون لعضوية المجالس التشريعية والمحلية وبذلك تزداد ثروة المجتمع من القيادات ذات الخبرة، وينعكس ذلك على الحياة السياسية للبلاد وعلى المنافسة السياسية التى يمكن أن تتم وفق قيم وآليات ديمقراطية إذا نجحت مؤسسات المجتمع المدنى فى تحقيق التداول داخلها فى هيئاتها القيادية المنتخبة ووفرت بذلك أعدادا متزايدة من القيادات تتحرك للنشاط فى مجالات سياسية مباشرة وتساهم فى تعزيز الديمقراطية السياسية فى المجتمع كمحصلة ونتيجة لتعزيز الممارسة الديمقراطية فى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالمجتمع.
4 – آلية اصدار القرارات :
من المهم لتعزيز الطابع الديمقراطى لأى منظمة أن يتم توزيع السلطة داخلها وأن تصدر القرارات من هيئاتها القيادية باسلوب ديمقراطى وألا تكون المؤسسة أو المنظمة صورة مصغرة مما يجرى فى المجتمع من احتكار فئة محدودة للسلطة أو انفراد فرد واحد بها، ونحن نلاحظ أن نمط القيادة الأبوية هو النمط السائد فى مجتمعاتنا العربية حيث ينفرد بالقيادة شخص واحد هو الأب فى الاسرة والناظر فى المدرسة والمدير فى وحدة العمل والرئيس على نطاق المجتمع كله. وما لم يتغير هذا النمط فى القيادة فإنه لا أمل فى تطور المجتمع ديمقراطيا، ومن هنا أهمية بلورة نمط قيادى مختلف هو النمط الديمقراطى داخل مؤسسات المجتمع المدنى من خلال اصدار القرارات فيها طبقا لما يحدده نظامها الأساسى أى من السلطة المختصة سواء كانت مجلس الادارة أو الجمعية العمومية. وأن تطرح أولا كافة الآراء حول القضية المطلوب استصدار قرار بشأنها ويتم الاستماع إلى اصحابها، ويجرى النقاش بحرية قبل صدور القرار ، وأن تطرح الآراء المختلفة للتصويت ويحترم رأى الأغلبية. ومن جهة أخرى يجب توزيع المسئولية داخل الهيئة القيادية وداخل المؤسسة كلها فلا ينفرد بالتنفيذ شخص واحد ولا ينفرد بإدارة العمل اليومى شخص واحد بل يقوم كل عضو قيادى بتحمل جانب من مسئولية التنفيذ، وبذلك يكتسب أكبر عدد منهم خبرات لها قيمتها فى تكوين شخصيته القيادية تساعده على مزيد من النضج للممارسة القيادية وتعزيز القيم والآليات الديمقراطية، فتصبح بذلك الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدنى مثالا ايجابيا ينعكس على مجالات المجتمع الأخرى.
5 – حجم العمل التطوعى فى نشاط وإدارة المؤسسة :
يعتبر العمل التطوعى بمؤسسات المجتمع المدنى أساس العضوية الفاعلة وشرطًا ضروريًا للمارسة الديمقراطية داخلها، ويتوقف عليه حجم مشاركة الأعضاء فى نشلطها والرقابة على أدائها ومدى مشاركتها فى تحديد أهداف النشاط وأولوياته والمشاركة فى الإدارة. فإذا زاد حجم العاملين بأجر عن المتطوعين فإن ذلك يعكس انحرافًا كبيرًا عن الأسس التى قامت عليها مؤسسات المجتمع المدنى وهو العمل التطوعى، ويحولها إلى مؤسسات خدمية يؤدى الخدمة فيها مجموعة من الموظفين والعاملين بأجر مما يبعدها عن رسالتها الحقيقية فى المجتمع، وما يتصل بصفة خاصة بتهيئة الفرصة للمواطنين للقيام ينشاط جماعى تطوعى يكتشفون من خلاله كيف يساهمون فى حل مشاكلهم واشباع حاجاتهم الأساسية وممارسة الأنشطة المفيدة لهم، ويكتسبون فى نفس الوقت ثقافة وخبرة الممارسة الديمقراطية التى تقوم فى أساسها على العمل التطوعى سواء فى المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أو فى المجال السياسى.
6 – مشاركة المرأة فى نشاط وإدارة المؤسسة :
للموقف من المرأة أثره فى التطور الديمقراطى للمجتمع، مما يتطلب أتاحة الفرصة كاملة أمام المرأة للمشاركة فى مختلف مجالات العمل الوطنى وما يتصل منها بصفة خاصة بمؤسسات المجتمع المدنى التى تعبئ الجهود الشعبية من أجل أوسع مشاركة فعالة فى مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وضمان اسهام الناس فى حل مشاكلهم بأنفسهم مما يعزز ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على تحمل مسئوليات عامة من خلال المشاركة الشعبية السياسية. ويحول دون مشاركة المرأة فى هذه المجالات نظرة تقليدية محافظة تقوم على التمييز بين الرجل والمرأة ولا توافق على منحها فرصة متساوية للمشاركة فى العمل العام وهو ما يتعارض مع الديمقراطية ويحول فى نفس الوقت دون تعبئة كل طاقات المجتمع لمواجهة مشاكله المتعددة. من هنا فإن الاهتمام يتوسيع مشاركة المرأة داخل مؤسسات المجتمع المدنى وزيادة مشاركتها فى قيادة هذه المؤسسات يساهم بلاشك فى تعزيز التطور الديمقراطى للمجتمع حيث ستمكنها هذه المشاركة من اكتساب الخبرات اللازمة للقيام بدور قيادى فى مجالات أخرى ومن بينها المجال السياسى.
هكذا يمكن القول أن مؤسسات المجتمع المدنى تقوم بدور هام فى تهيئة المجتمع لممارسة ديمقراطية حقيقية سواء من خلال وظائفها التقليدية أو من خلال حياتها الديمقراطية، ويكون للمجتمع المدنى دور حقيقى فى بناء الديمقراطية فى مجتمعاتنا عندما تتاح له الفرصة كاملة للقيام بهذه الوظائف أو بتعزيز الطابع الديمقراطى للحياة الداخلية لمؤسساته.هوامش الفصل الثالث
(1) د. سعد الدين ابراهيم، المجتمع المدنى والتحول الديمقراطى فى الوطن العربى، مركز ابن خلدون، القاهرة، التقرير السنوى 1993. ص 13.
(2) د. أمانى قنديل، إلى أى حد يمكن الحديث عن مجتمع مدنى متطور فى مصر؟، ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطى فى مصر، جماعة تنمية الديمقراطية 2-3 نوفمبر ،1997 القاهرة. ص 3.
(3) عبد الغفار شكر، المجتمع المدنى العربى، جريدة البيان، الامارات العربية المتحدة، 16 ابريل 1994.
ودور العمل الجماهيرى فى اكتشاف قيادات جديدة، محاضرة غير منشورة، أمانة التثقيف، حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، القاهرة.
دور المجتمع المدنى فى بناء الديمقراطية-الجزء الرابع والأخير
مشكلات الواقع وآفاق المستقبل
لا تستطيع مؤسسات المجتمع المدنى أن تقوم بدورها المأمول بفاعلية فى بناء الديمقراطية فى المجتمعات العربية، فهذه المجتمعات تعانى من بقايا الاستبداد وتمركز السلطة فى يد فئات محدودة، كما تعانى من ضعف شديد فى المشاركة الشعبية فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد انعكست هذه الأوضاع على موسسات المجتمع المدنى سلبيا حيث توجد العديد من القيود التى تحول دون تطور مؤسسات المجتمع المدنى وتحولها بالفعل إلى مؤسسات ديمقراطية قادرة على الاسهام فى البناء الديمقراطى بالمجتمع، وتتحمل القوى الديمقراطية مسئولية العمل على تقوية المجتمع المدنى وتحريره من القيود التى تحد من حركته وتأثيره والسير فى نفس الوقت على طريق التطور الديمقراطي، وأى نجاح تحرزه القوى الديمقراطية فى إحدى المهتمين سوف يؤثر ايجابيا فى الأخرى وسيساعد بالتالى علي مضاعفة الآثار المترتبة على النتائج المتحققة. ومن الخطأ أن تركز القوى الديمقراطية على إحدى المهمتين فقط متصورة أن إنجازها سوف يساعد على معالجة المهمة الأخرى، فلا يمكن بناء الديمقراطية فى أى مجتمع تغيب عنه مؤسسات مدنية فعالة، ولا يمكن كذلك تقوية المجتمع المدنى فى مجتمع تغيب عنه الحريات والحقوق الأساسية والمؤسسات والآليات اللازمة للممارسة الديمقراطية، وبالتالى لن تتحقق نتائج ملموسة باعطاء الأولوية لاحدى المهتمين بل يتعين السير نحو تحقيقهما معا. ولكى تتمكن القوى الديمقراطية من صياغة استراتيجية نضالية تهدف إلى تحقيق مزيد من التطور الديمقراطية وتقوية المجتمع المدنى فى آن واحد، فإنه يتعين علينا أولاً أن نتعرف على الأوضاع الحالية لمؤسسات المجتمع المدنى وكيف أثرت عليها الأوضاع السلطوية وحاصرتها ومن ثم نطرح كيفية معالجة هذه الأوضاع التي تجسد مشكلات الواقع الراهن في معظم المجتمعات العربية من خلال الاستراتيجية المقترحة للانتقال إلي آفاق مستقبلية تنضج في إطارها عملية البناء الديمقراطي وتقوية المجتمع المدني
أولاً: تأثير السلطوية على المجتمع المدنى
يمر المجتمع المدنى فى الوطن العربى بمرحلة انتقالية بالغة الصعوبة والتعقيد، تتشابك فيها الأبعاد العالمية والدولية، والمتغيرات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتيارات الفكرية والثقافية. وقد اتسع نطاق المجتمع المدنى المنظم من 20 ألف مؤسسة فى منتصف الستينات إلى 70 الف فى أواخر الثمانينيات، ومع ذلك فهى تعانى فى مجملها العديد من القيود والعوامل المحبطة الناجمة عن تعثر التحول الديمقراطى فى الوطن العربى. وتتفاوت أوضاع هذه المؤسسات من قطر لأخر باختلاف النظم السياسية رغم أنها تلتقى جميعا فى تركيز السلطة فى يد فرد أو نخبة محدودة تهيمن من خلالها السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى وعلى المجتمع. ففى مجموعة الأقطار التى تشهد تعددية سياسية وحزبية مقيدة أو توجها نحو الديمقراطية مثل لبنان والمغرب ومصر والأردن واليمن والجزائر وتونس هناك اتجاه لنمو الجمعيات الأهلية والمنظمات الاجتماعية الأخرى أكثر من النظم السياسية الأخرى المحافظة. وبالتالى تتنوع المنظمات وتنشط فى مجالات لا نجدها فى الأقطار الأخرى، وأوضح مثال لذلك منظمات حقوق الإنسان ومنظمات الدفاع عن المرأة والمنظمات التنويرية. أما فى أقطار الخليج العربى فإننا نلاحظ انخفاض حجم الجمعيات، وتكاد تختفى جمعيات حقوق الإنسان وكذلك المنظمات الدفاعية، ويتجه جزء كبير من الجمعيات إلى العمل الخيرى الذى يرتبط بالوازع الدينى كما هو الحال فى السعودية والكويت والبحرين والامارات. وفى دول أخرى حيث تسود نظم ذات طبيعة شعبوية تسلطية أو شمولية، فإن الدولة لا تسمح بتأسيس منظمات أهلية تعكس مبادرات المواطنين، لكنها تؤسس لجانا شعبية تكون امتداد للدولة كما هو الحال فى ليبيا، أو تؤسس اتحادات نوعية تهمين عليها الدولة كما هى حالة العراق (1) . وأيا كانت درجة الاختلاف فى وضع مؤسسات المجتمع المدنى من قطر لأخر فإن معظمها يعانى من التوتر فى العلاقة مع الأجهزة الإدارية لأكثر من سبب:
1-أعطت القوانين صلاحيات كاملة للحكومة من خلال الوزارات المختصة كالشئون الاجتماعية أو العمل أو الشباب أو الداخلية فى الإشراف على الجمعيات والمنظمات الأخرى. وقد تحولت هذه الصلاحيات فى التطبيق الفعلى إلى نوع من الإشراف والرقابة البيروقراطية التى انتقصت من استقلالية هذه المنظمات، كما تحولت فى بعض الأحيان إلى رقابة أمنية أثرت سلباً عليها.
2-فى بعض الأقطار العربية تتعدد مستويات الأشراف والرقابة من قبل الحكومة على المنظمات، مما يخلق مشاكل عديدة تعوق تنفيذ المشروعات التى تتبناها هذه المنظمات.
3-السلطات التى منحها القانون للحكومة فى بعض الأقطار العربية (مصر، سوريا، الامارات، الجزائر) لحل المنظمات الأهلية أو دمجها فى أخرى، تصبح أيضاً مصدراً للتوتر وعدم الثقة بين الطرفين، أو قد تتحول إلى سلطة للتهديد فى يد الدولة فى بعض الاحيان.
4-أصبحت عملية توزيع المخصصات المالية على الجمعيات الأهلية مصدراً آخر للتوتر بينها وبين الحكومة، وقد ارتبط ذلك بتدفق المعونات الاجنبية التى يجب أن تحظى بموافقة الحكومة، وفى حالات أخرى يتم توزيعها من خلال الحكومة مما يخلق حساسية بينها وبين القطاع الأهلى.
5-تختلف درجات التعاون أو التوتر بين الحكومات والجمعيات الأهلية باختلاف الأقطار العربية وباختلاف مجالات النشاط، فالتعاون يزداد بين الحكومة والمنظمات التى تسهم فى مساندة الدولة من خلال سد الفجوات أو ثغرات الأداء الحكومى، أو من خلال اضطلاع البعض منها بدور فى تنفيذ الخطة القومية بينما ترتفع حدة التوتر بين الحكومة والمنظمات إذا أدركت الأولى أن نشاط بعض هذه المنظمات يتضمن تهديداً أو تحديا لها. من أمثلة ذلك العلاقة بين بعض الحكومات العربية ومنظمات حقوق الإنسان. كذلك فإن التوتر بين الطرفين قد يجد مصدره فى الأشخاص القائمين على بعض هذه المنظمات حيث تبرز قيادتها كعناصر معارضة للحكم. ومن ثم فإننا نلحظ اتجاه بعض المنظمات نحو اختيار شخصيات على علاقة طيبة مع الحكومة، ليكونوا واجهة طيبة لهذه المنظمات ولضمان رضا الحكومة عما تقوم بـه من نشاط (2).
وقد استخدمت الحكومات أكثر من آلية لضمان سيطرتها على مؤسسات المجتمع المدنى.
أولاً: آلية التشريع:
استخدمت النظم السلطوية آلية التشريع للهيمنة على مؤسسات المجتمع المدنى واخضاعها للسيطرة الحكومية مما يحد من نموها وقيامها بالدور المطلوب منها واسهامها فى دعم التطور الديمقراطى للمجتمع وأجريت تعديلات على القوانين القائمة عندما تبين أنها لا تكفى لاحكام السيطرة على مؤسسات المجتمع المدنى من جمعيات أهلية ونقابات مهنية وعمالية واتحادات طلابية. ومنظمات حقوقية ودفاعية. وكان لهذا الإطار التشريعى الذى يفرض قيوداً عديدة على إنشاء ونشاط هذه المنظمات أكبر الأثر فى الحد من قدراتها وامكانيات نموها. وفيما يلى نعرض لنماذج من هذه القيود وما ترتب عليها من آثار سلبية:-
1-بالنسبة للتسجيل والاشهار:
تشترط كل الدول العربية ما عدا لبنان والمغرب موافقة السلطات الحكومية قبل بدء النشاط، وتوضع شروط مبهمة وغامضة لقيامها مثل عدم مخالفة النظام العام واثارة الفتنة وتستخدم هذه الشروط لرفض قيام الجمعيات التى لا تطمئن إليها الحكومة. ويعتبر قرار الرفض نهائياً لا يجوز التظلم منه أمام جهة قضائية فى بعض الأقطار العربية. ونرى نفس القواعد بالنسبة للنقابات العمالية والمهنية حيث لا يجوز إنشاء أكثر من نقابة لكل مهنة او أكثر من لجنة نقابية فى نفس الموقع.
2-سلطة حل الجمعيات:
يعتبر حل الجمعيات بواسطة السلطة الإدارية لا يقل خطورة وربما كان أكثر من رفض تأسيسها خاصة إذا أعطيت الجهات الإدارية حق حل الجمعيات فى غير المخالفات الخطيرة وبدون حق الاستئناف إلى القضاء. وفيما عدا لبنان والمغرب فإن معظم التشريعات العربية تعطى للسلطة الإدارية حق حل الجمعيات لأسباب متنوعة يمكن أن تصدر بشأنها عقوبات أقل مثل الانذار أو لفت النظر وليس حل الجمعية.
3-العلاقة بين السلطة الحكومية والمنظمات الأهلية
يتجاوز دور السلطات الحكومية بالنسبة للجمعيات حدود الرقابة والتوجيه بما يضمن سلامة الأداء وانتظام الأمور المالية وسلامة التصرفات المالية إلى حد الهيمنة والسيطرة الإدارية على الجمعيات، حيث تنص بعض القوانين على حق السلطة الإدارية فى إدماج الجمعيات وتعديل أغراضها واستبعاد بعض المرشحين لمجالس الإدارة وحق الاعتراض على القرارات، وتحديد الهياكل التنظيمية بشكل تفصيلى من خلال لائحة نموذجية تضعها الجهة الإدارية وتلتزم بها مجالس إدارة الجمعيات وللسلطات الحكومية حق الإطلاع على السجلات والغاء أنشطة معينة.
4-الموارد المالية:
تلتزم الجمعيات بمسك الدفاتر التى تحددها الجهة الإدارية وعدم الحصول على تبرعات ألا بعد موافقة الجهة الإدارية وضرورة تحديد مصادر التمويل، ويستخدم التمويل الأجنبى ذريعة لمحاربة الجمعيات واتخاذ إجراءات ضدها.
5-فرض عقوبات مغلظة على أعضاء مجالس الإدارة المخالفين يصل إلى عقوبة السجن مما يؤدى إلى أحجام المواطنين عن المشاركة فى العمل التطوعى خوفاً من التعرض لهذه العقوبات (3) .
ومن الجدير بالذكر أن النقابات العمالية والمهنية والجمعيات التعاونية والاتحادات الطلابية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدنى تخضع لنفس القيود تقريباً فى علاقتها مع السلطات الحكومية.
ورغم أن الدساتير فى معظم الأقطار العربية تؤكد حق المواطنين فى إنشاء الجمعيات والنقابات ألا أن التشريعات المطبقة تسلب المواطنين هذا الحق وتحرمهم من ممارسته بحرية. وكنموذج لهذا الوضع فإن قانون النقابات العمالية فى مصر يعطى للجهة الإدارية وهى وزارة العمل سلطات واسعة بالنسبة للنقابات مثل الحق فى الاعتراض على تكوين النقابة وطلب حل مجلس الإدارة المنتخب ومنح وزير العمل سلطة تحديد شروط العضوية فى مجلس الإدارة وقواعد تمثيل أعضاء اللجان النقابية فى النقابات العامة. وحق تحديد مواعيد الانتخابات وإجراءات الترشيح والانتخاب لمجالس الإدارة، وإصدار اللائحة النموذجية واعتماد اللائحة المالية ومراقبة مالية النقابات. وما تزال هذه الوصاية الإدارية قائمة رغم صدور حكم المحكمة الدستورية فى 15/4/1995 الذى ينص على “حق النقابة ذاتها فى أن تقرر بنفسها أهدافها ووسائل تحقيقها وطرق تمويلها، والمواد والقواعد التى تنظم بها شئونها، ولا يجوز بوجه خاص ارهاقها بقيود تعطل مباشرتها لتلك الحقوق أو تمتعها بالشخصية الاعتبارية على قبولها الحد منها ولا أن يكون تأسيسها بأذن من الجهة الإدارية، ولا أن تتدخل هذه الجهة الإدارية فى عملها بما يعوق إدارتها لشئونها ولا أن تقرر حلها أو وقف نشاطها عقابا لها، ولا أن تحل نفسها محل المنظمة النقابية فيما تراه أفضل لتأكيد مصالح أعضائها والنضال من أجلها”.
ويؤكد موقف الحكومات من مؤسسات المجتمع المدنى أنها ما تزال تدير تفاعلات المجتمع بمنطق الحزب الواحد أو المسيطر وبآليات الاحتكار للقوة السياسية ولصناعة القرار، بل إن حصار المجتمع الأهلى يدل على رغبة هذه السلطة فى عدم السماح للتطورات والمبادرات المستقلة للجماهير بالإفلات من قبضة نظام الحكم (4) .
ثانياً: احتكار الإعلام والحد من حرية الصحافة:
يعتبر الإعلام الحر والمستقل جزءاً من المجتمع المدنى بما يوفره للمواطنين من معارف تساعد على غرس قيم الثقافة المدنية وتطورها مساهما بذلك فى تكوين رأى عام متفهم لضرورات تطوير مؤسسات يمارس المواطنون من خلالها دوراً إيجابياً فى الدفاع عن مصالحهم وتحسين أحوالهم، وممارسة التضامن الجماعى بما يقوى قدرتهم فى مواجهة إمكانيات الدولة الهائلة، كما يساعد الإعلام الحر والمستقل على تأكيد قيم الحوار والتسامح والتراضى على حلول وسط من خلال وسائل التنافس السلمية. ونحن نلاحظ أن هذا الدور الإعلامى مفتقد فى كثير من الأقطار العربية حيث تحرص الحكومات على إحكام سيطرتها على أجهزة الإعلام الجماهيرى كالتليفزيون والاذاعة واحتكارها بحيث لا تعبر ألا عن رأى الدولة، وتعمل هذه الحكومات أيضاً على الحد من حرية الصحافة. ولهذا فإن جزءاً هاماً من تحرك مؤسسات المجتمع المدنى والقوى الديمقراطية يجب أن يوجه إلى تحرير الإعلام من السيطرة الحكومية، واتاحة الفرصة لكل اتجاهات الرأى أن تعبر عن نفسها، وأن تتحول أجهزة الإعلام إلى منابر للحوار الحر ومصادر للمعلومات المتحررة من أى قيد، وإثراء معارف المواطنين بما يمكنهم من التجاوب مع متطلبات المشاركة الإيجابية، والتفاعل بشكل سليم مع التعددية الثقافية والدينية والسياسية التى هى احدى السمات الأساسية فى المجتمع العربى، ولتحقيق ذلك يكتسب تحرير الاذاعة والتليفزيون من سيطرة الحكومة أهمية خاصة، وتعديل القوانين المنظمة لها لتصبح جهازاً إعلاميا مستقلا تمثل فيها التيارات الفكرية والسياسية وتحصل من خلالها الأحزاب السياسية على فرص متكافئة لمخاطبة الشعب. والغاء الرقابة الحكومية على الإذاعة والتليفزيون عدا ما يتعلق بالآداب العامة. وتعديل قوانين الصحافة والمطبوعات والنشر لفتح الباب أمام حرية إصدار الصحف، وتعديل المواد والنصوص القانونية التى تفرض عقوبات قاسية على قضايا الرأى والنشر(5) .
ثالثاً: الحد من الحريات والحقوق الأساسية:
لا يمكن ان ينمو المجتمع المدنى وتنضج مؤسساته فى ظل مناخ غير ديمقراطى، وهناك ارتباط قوى بين تطور المجتمع المدنى والانتقال إلى الديمقراطية فى أى مجتمع من المجتمعات. وقد ربط الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بين الحق فى تكوين الجمعيات والحق فى المشاركة الشعبية وتوافر الحقوق والحريات الأساسية فى المجتمع، وحيث تتكامل هذه الجوانب الثلاثة باعتبارها شروطاً ضرورية للتطور الديمقراطى للمجتمع. ويلعب التضييق على الحريات والحقوق الأساسية دوراً محبطاً بالنسبة لإمكانيات تطور مؤسسات المجتمع المدنى وتشكل القيود المفروضة فى معظم الأقطار العربية على حرية التنظيم بما فى ذلك حق تشكيل الجمعيات وتأسيس النقابات عاملاً سلبياً يحول دون إسهام المواطنين فى العمل العام، كما يلعب دوراً مماثلاً القيود المفروضة على حرية الرأى وحق التعبير وما يتعرض له المواطن من انتهاك لحقوقه المدنية. ومن المهم أن تنتهى كافة القيود المفروضة على ممارسة الإنسان العربى لحقوقه وحرياته الأساسية لتمكينه من المشاركة فى القضايا العامة للمجتمع والمساهمة الإيجابية فى تكوين مؤسسات اجتماعية وشعبية متحررة من أى قيود حكومية.
الآثار السلبية للتضييق على مؤسسات المجتمع المدنى:
سوف نكتفى هنا بمعالجة الآثار السلبية لموقف النظم السلطوية من مؤسسات المجتمع المدنى على دور هذه المؤسسات فى دعم التطور الديمقراطى للمجتمع بشكل عام بما تقوم به من دور فى تربية أعضائها وفق قيم ديمقراطية وتدريبهم من خلال الممارسة ومن خلال الحياة الداخلية للجمعية على السلوك الديمقراطى واكسابهم الخبرة التى تمكنهم من المساهمة فى تعزيز التطور الديمقراطى بالمجتمع خارج مؤسساتهم. وقد أدت القيود التى أشرنا إليها فى علاقة الأجهزة الإدارية بمؤسسات المجتمع المدنى وبالنسبة لحق تأسيس الجمعيات وتمتع المواطنين بحرياتهم الأساسية واحتكار الإعلام للفئات الحاكمة، أدى هذا كله إلى آثار سلبية اضعفت الطابع الديمقراطى والدور الديمقراطى لمؤسسات المجتمع المدنى. ويمكن التعرف على هذه الحقيقة من خلال رصد واقع هذه المؤسسات فى المجالات الآتية:
1-مدى النمو فى العضوية الفاعلة والنشطة بالجمعية:
تتحدد ديمقراطية أى مؤسسة اجتماعية بعوامل متعددة يأتى على رأسها مدى مشاركة الأعضاء فى نشاطها ابتداءً من تخطيط النشاط إلى التنفيذ والتقييم ومراقبة الأداء وانتخاب القيادات، كما تتحدد ديمقراطية المؤسسة بمدى اتساع العضوية الفاعلة والنشطة ونموها فترة بعد أخرى. ولكننا نلاحظ أن عضوية كثير من الجمعيات الأهلية والمؤسسات القائمة على العضوية الاختيارية تتآكل عاما بعد الآخر ولا يوجد زيادة فى العضوية إلا بالنسبة للمؤسسات التى تشترط للاستفادة من خدماتها أن يكون المستفيد عضواً بها.
2-مستوى المشاركة فى حضور الجمعية العمومية للمنظمة:
وإذا كان النمو فى العضوية يعتبر مؤشراً على قدرة المنظمة على اجتذاب نشطاء جدد، فإن مستوى مشاركة العضوية وحضورها الجمعية العمومية للمنظمة (وهى أعلى سلطة فى المنظمة بحكم القانون) يشير إلى مستوى فاعلية الأعضاء ومشاركتهم فى صنع توجهاتها، وتحديد أولويات أنشطتها، والرقابة على أعمالها، وانتخاب قياداتها. وتؤكد الدراسات الميدانية عزوف الأعضاء عن حضور اجتماعات الجمعيات العمومية التى تنعقد بأقل نصاب قانونى بعد تأجيلها أكثر من مرة، وغالباً ما يقتصر الحضور على أعضاء مجلس الإدارة والعناصر المرتبطة بها والعاملين بأجر فى المنظمة. وبالتالى فإن اجتماعات الجمعية العمومية التى تعتبر أهم مؤسسات المشاركة داخل المنظمة هى اجتماعات شكلية لا تعكس مشاركة حقيقية وفاعلة للأعضاء، وتنفرد قلة محدودة العدد بإدارة المنظمة، مما يضعف الطابع الديمقراطى للمنظمة.
3-معدلات التغيير فى عضوية مجالس الإدارة:
تقاس ديمقراطية أى مؤسسة أيضاً بمعدلات التغيير فى عضوية هيئاتها القيادية لاتاحة الفرصة لتداول القيادة أمام أكبر عدد ممكن من أعضائها للتدريب على القيادة واكتساب خبراتها. ومن ثم يتأهل هؤلاء الأعضاء للمشاركة فى العمل العام خارج المنظمة ويتزودون بالخبرة اللازمة للقيام بدور قيادى. وبذلك تساهم مؤسسات المجتمع المدنى فى تزويد مختلف مجالات المجتمع بالقيادات الجديدة مما يعزز التطور الديمقراطى للمجتمع بصفة عامة. وتشير نتائج الدراسات الميدانية فى أكثر من قطر عربى إلى محدودية الدور الذى تقوم به هذه المؤسسات فى هذا الصدد، حيث يلاحظ جمود النخبة داخل المؤسسة واستمرارها فى القيادة لسنوات طويلة وارتفاع متوسط اعمارها مما لا يتيح للأجيال الجديدة فرصة حقيقية لتولى القيادة واكتساب خبراتها، وتتقاعس بذلك عن أداء أحد أدوارها الأساسية وهو تزويد المجتمع بالقيادات الجديدة.
4-آلية إصدار القرارات:
تنفرد النخبة المحدودة فى قيادة المنظمة باصدار القرارات المحددة لسياساتها وأولوياتها، ولا تتوفر بالتالى فرصة واسعة للمشاركة فى صنع سياسات المنظمة وتوجهاتها، حيث ينفرد مجلس الإدارة بالسلطة الفعلية فى إصدار معظم القرارات. ويشرف رئيس المجلس على العمل اليومى ويصدر القرارات المطلوبة لتسييره. وهكذا تصبح مؤسسات المجتمع المدنى صورة مما يجرى على مستوى السلطة العليا فى المجتمع من تركز القرار فى يد قلة محدودة أو فرد واحد، ولا يتوفر لها امكانية حقيقية لتجسيد نمط ديمقراطى فى القيادة ينعكس بعد ذلك على دوائر أوسع من مؤسسات المجتمع المدنى.
هكذا فإنه فى ظل السلطوية والسيطرة الحكومية على مؤسسات المجتمع المدنى لا تستطيع هذه المؤسسات أن تقوم بدور فعال فى التمكين للتطور الديمقراطى للمجتمع. وما يزال هناك فجوة كبيرة بين الدور المنوط بها وما تقوم به فعلاً. ومن المهم اختراق هذا الوضع بعمل نضالى طويل المدى يستهدف تحرير الإنسان العربى وتمكينه من السيطرة على مصيره انطلاقا من قدرته على بناء منظمات شعبية مستقلة يمارس من خلالها عملا جماعياً يؤهله للقيام بدور أكبر فى المجتمع، ويساهم أيضاً من خلال تطور هذه المنظمات فى دفع التطور الديمقراطى للمجتمع. وهناك بالفعل جهود مستمرة ومعارك متصلة بين مؤسسات المجتمع المدنى والقوى الديمقراطية وبين بقايا الاستبداد والأنظمة السلطوية سوف يحسمها فى النهاية قدرة هذه القوى والمؤسسات على ترسيخ ثقافة مدنية ديمقراطية فى المجتمع وتوفير أكبر قدر من الحريات والحقوق الأساسية وتطوير أشكال مناسبة للعمل الجماعى وإفراز قيادات جديدة تواصل حركة التطور الديمقراطى استناداً إلى مجتمع مدنى قوى ومستقل.
ثانياً: برنامج الإصلاح الديمقراطي: ويتضمن بشكل خاص:
1- اقرار مبدأ سيادة القانون ودولة المؤسسات.
2- احترام التعددية السياسية والنقابية والثقافية.
3- دعم استقلالية المبادرة الشعبية وإنهاء كافة القيود التي تحول دون تواجد مجتمع مدني قوي يتكون من منظمات مستقلة لمختلف فئات المجتمع: تنظيمات سياسية ونقابية واجتماعية وثقافية.
4- احترام الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
5- اشاعة ثقافة ديمقراطية تقوم علي قيم الحوار واحترام الرأي الآخر ورأي الأغلبية والتسامح والشفافية.
6- قيام إعلام ديمقراطي حر يكفل حرية تدفق المعلومات في المجتمع وتداول الآراء من مصادر متعددة دون قيود.
7- التوسع في أشكال المشاركة الشعبية المباشرة.
ثالثا: تقوية مؤسسات المجتمع المدني:
في إطار هذا البرنامج الديمقراطي للمجتمع كله يصبح من الممكن تطوير أوضاع منظمات المجتمع المدني لتكون أكثر فعالية ولتصبح بالفعل مؤسسات ديمقراطية قادرة علي الإسهام في التطور الديمقراطي للمجتمع كله وذلك من خلال:
1- تعديل التشريعات المنظمة للعمل الأهلي والمدني بحيث توفر استقلالية حقيقية في ممارسة النشاط.
2- تطوير التعاون بين مؤسسات المجتمع المدني وإنشاء أجهزة فنية مشتركة لها وتنسيقها حملات إعلامية مشتركة لطرح قضاياها ومشاكلها علي الرأي العام بحيث يصبح مساندا لقيامها بدور حقيقي في التنمية والتطور الديمقراطي.
3- توفير المناخ المناسب لقيامها بنشاط فعال من خلال التمكين للقيم الثقافية المساعدة علي التحول الديمقراطي وانعكاسها في سلوك المواطنين كقيم التسامح والحوار والاعتراف بالآخر والإدارة السلمية للاختلافات والتنوع.
4- تطوير العلاقة مع الدولة: حيث أثبتت التجربة حرص الحكومات علي وضع مؤسسات المجتمع المدني تحت وصايتها، وتمارس معها سياسة مزدوجة، فهي تتخوف من المبادرات الأهلية المنظمة خاصة تلك التي تحمل رؤية شاملة وتتخذ موقفا متحفظا من المنظمات الدفاعية كمنظمات حقوق الإنسان ومنظمات المرأة، ولكنها تتسامح مع المنظمات التي تنشأ في إطار اتفاقيات مع الدول المانحة للمساعدات لمواجهة المشاكل الناجمة عن التحول إلي اقتصاد السوق وسوف تبقي المواجهة بين الدولة والمجتمع المدني طالما بقيت سياسة الدولة تجاهها علي هذا الحال. ولذلك فمن المهم تطوير هذه العلاقة بحيث لا يفهم أن تقوية مؤسسات المجتمع المدني واستقلالها سيكون علي حساب أضعاف الدولة، لأننا في حاجة في ظروف العولمة إلي دولة قوية، قادرة، عادلة، تطبق الديمقراطية وتعطي المجتمع المدني فرصة النمو والازدهار. وفي هذا لإطار تعالج قضايا عديدة منها تطوير التشريعات القائمة وإلغاء القيود المفروضة علي مؤسسات المجتمع المدني لضمان استقلاليتها وديمقراطيتها الداخلية، والتأكيد علي أن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني علاقة جدلية، تقوم علي التأثير المتبادل والمتطور، تبعا لتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي علاقة تتراوح بين التكامل والصراع تبعا لمجال نشاط المؤسسة والتأكيد علي التكامل بين الدولة والمجتمع المدني فلكل منهما دوره الخاص. ويتطلب التعاون بين الطرفين لتحقيق هذا التكامل تحديد الأطر والآليات التي تكفل صياغة العلاقة بينها علي أسس موضوعية ومؤسسية مما ينعكس إيجابيا علي المجتمع.
5- تعميق الطابع المؤسسي للمجتمع المدني: يتطلب تقوية منظمات المجتمع المدني وتحولها إلي مؤسسات حقيقية تتوفر لها المقومات الأساسية التي لا يمكن بدونها أن تمارس نشاطها كمؤسسة مثل توفير البيئة الحقوقية التي تحدد وضعها القانوني في المجتمع وتكسبها الشرعية والاعتراف وتجديد شكلها القانوني ومجال تحركها، ووجود نظام أساسي يتضمن شروط العضوية، وتوزيع المهام وكيفية اتخاذ القرار وشروط تنفيذه وكذلك تحقيق الديمقراطية الداخلية. ومن المقومات الأساسية لتعميق الطابع المؤسسي تحديد أهداف المنظمة متضمنة إستراتيجياتها وبرامجها. ويتطلب تعميق الطابع المؤسسي لهذه المنظمات استنادا إلي الحقائق السابقة العمل الجاد من أجل تحسين البيئة الحقوقية بحيث تتوفر لها الشرعية وتدخل في إطار القوانين المرعية، والحرص علي تعميق الديمقراطية الداخلية لهذه المنظمات وتأكيد مبدأ الشفافية بالنسبة لبرامج النشاط والتمويل. وتنظيم برامج مستمرة لبناء الكادر البشري وما يتضمنه ذلك من بناء قدرات فردية وجماعية وتحديد اختصاصات الجميع وتزويدهم باستمرار بالمعارف والمهارات الضرورية. واستكمال البناء التنظيمي المتصل بالجهاز الإداري، وخلق الوظائف المناسبة في علاقة عمل سليمة بين العمل التطوعي والعمل المأجور. والحرص علي توافر الخبرة بالنسبة لإعداد الخطط وترجمة الأهداف إلي برامج عمل، وتقييم الإنجازات وضمان استدامة النشاط استنادا إلي الأنشطة المنفذة، وتطوير القدرة في الحصول علي تمويل مناسب لضمان استمرار النشاط واتساع نطاقه.
6- تطوير القدرات البشرية: وتشمل هذه العملية تدريب القيادات القائمة وتطوير قدراتها، واكتشاف قيادات جديدة، وتأهيلها لتحمل مسئوليات التخطيط والمتابعة والتقييم، وتوفير المهارات والخبرات الضرورية لها لممارسة مسئولياتها في كافة مجالات النشاط، ويدخل في ذلك تقديم مساعدات فنية لمؤسسات المجتمع المدني حول كيفية إعداد التقارير وإنشاء برنامج وطني لتدريب القيادات الوسيطة، والعمل علي إدخال مقررات دراسية عن العمل الأهلي بمؤسسات التعليم العالي وقيام هذه المؤسسات بدراسات وأبحاث حول المجتمع المدني ويشمل تطوير القدرات البشرية أيضا التدريب علي التكنولوجيا الجديدة وكيفية استعمال الكمبيوتر والفاكس والانترنيت، وذلك لبناء نوع من الارتباط مع المؤسسات الإقليمية والدولية ومراكز المعلومات بحيث تصبح مؤسسات المجتمع المدني جزءاً من شبكة من العلاقات والمصالح المشتركة علي مستوي القطر ومستوي الوطن العربي كله.
7- التمويل: تعتبر مشكله التمويل من أهم العوامل التي تعرقل عمل مؤسسات المجتمع المدني وتحد من نشاطها، وتلعب المساعدات المادية دوراً محوريا في تحديد اتجاهات عمل هذه المنظمات، ويرتبط التمويل بشروط عديدة تضع هذه المؤسسات تحت وصاية المانحين، مما يتطلب معالجة واعية لمشكلة التمويل حفاظا علي استقلالية مؤسسات المجتمع المدني وعدم الانحراف بنشاطها عن الدور الذي يجب أن تلعبه في دعم التطور الديمقراطي للمجتمع ويتطلب ذلك العمل علي تخصيص موارد مالية من مصادر وطنية، وتوزيع الموارد المالية في جدول زمني محدد، وإنشاء صندوق قومي لدعم العمل الأهلي والمدني من موارد حكومية ومن القطاع الخاص والمؤسسات الدولية بحيث يكون متحرراً من أي شروط علي المجتمع المدني. وهناك حاجة ماسة إلي تطوير مهارات تدبير الموارد المالية وبصفة خاصة من خلال الأنشطة التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني.
8- توافر المعلومات: يتطلب بناء قدرات مؤسسات المجتمع المدني وتقويتها توافر معلومات كافية لديها عن مجالات نشاطها وعن أوضاع المجتمع في نطاق مسئولياتها، ويتطلب ذلك إنشاء بنك للمعلومات علي المستوي القومي، وإنشاء قاعدة بيانات لكل منظمة والتنسيق بين المنظمات في تبادل المعلومات، والاستفادة من شبكة الانترنيت في الحصول أولا بأول علي أي معلومات أو بيانات تحتاجها لممارسة نشاطها وتنفيذ برامجها.
9- التنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني: من المهم لتقوية مؤسسات المجتمع المدني وتعزيز نشاطها أن تبرز في المجتمع كطرف أساسي تتكامل أنشطته من خلال التنسيق بين هذه المؤسسات بحيث يزيد تأثيرها في المجتمع. ويشمل هذا التنسيق تطوير عملية إنشاء شبكات من المنظمات التي تعمل في مجالات مشتركة أو تنشط في نطاق جغرافي واحد، لدعم جهودها في هذه المجالات. ووضع آليات وأطر تكفل التبادل المنتظم للمعلومات والخبرات، وعقد اجتماعات دورية لبحث المشاكل المشتركة، والتنسيق في مواجهة الأطراف الأخرى لتقوية الوضع التفاوضي لها. ومن المهم أن يشمل التنسيق أيضا المنظمات ذات الجذور العميقة في المجتمع مثل النقابات والتعاونيات واتحادات الطلاب والحركات الاجتماعية للاستفادة من خبراتها الطويلة في مجالات العمل الشعبي. وأن يتم التنسيق أيضا علي مستوي الوطن العربي كله وتبادل الخبرات بين مختلف المؤسسات في الأقطار العربية وما يتصل منها بصفة خاصة بالتطور الديمقراطي وتعبئة الحركة الجماهيرية لتحقيق مزيد من التطور الديمقراطي.
هوامش الفصل الرابع(1) د. أماني قنديل، المجتمع المدني في العالم العربي، منظمة التحالف العالمي لمشاركة المواطن، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1994. صــ68،69.
(2) د. أماني قنديل، المرجع السابق. صــ82.
(3) د. أمين مكي مدني تشريعات وقوانين المنظمات الأهلية العربية، ورقة مقدمه إلي المؤتمر الثاني للمنظمات الأهلية العربية، القاهرة 17-19 مايو 1997.
(4) د. أحمد ثابت، الديمقراطية المصرية علي مشارف القرن القادم، كتاب المحروسة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر، القاهرة، الطبعة الأولي، يناير 1999 صــ98.
(5) حسين عبد الرازق، الديمقراطية، كتاب مصر وقضايا المستقبل، سلسلة كتاب الأهالي، العدد رقم60، سبتمبر 1997. جريدة الأهالي صــ52.
======
*- المواطن