الفكر السياسي في العصور الوسطى
مقــدمة
أظهر تطور الفكر والتفكير في الميدان السياسي مدى تقدم الإنسان والمجتمعات البشرية ومدى تأثير التراكمات المعرفية الكمية والنوعية في هذا التطور ، كما دل على أهمية التجارب التي يمر بها البشر في صنع الحضارة وتأمين الأفضل لحياة الإنسان والمجتمعات ، و أظهر أهمية دور إبداعات المفكرين في هذا التطور.
إذ أن العلاقة الجدلية ما بين التراكمات المعرفية والظروف الخاصة للمجتمع وإبداع المفكرين هو الأساس الذي قامت وتقوم عليه التطورات المتلاحقة في الفكر وفي الفعل الحضاري ،فقد كان تقدم الفكر السياسي كما الفكر الإنساني بشكل عام,نتاجا لتلك التراكمات المعرفية الكبيرة وللتجارب التي مرت بها كل الأمم، كل واحد ة حسب ظروفها الخاصة، حيث كانت الحضارة تلو الأخرى تشارك بدورها في صنع الأفضل للإنسان، وذلك من خلال إبداعات المفكرين في الحضارات المختلفة.
وإذا كان الإنسان يتعلم من التجارب المتلاحقة ويتطور في فهمه وإدراكه ، فإن الفكر الإنساني ، ومنه الفكر السياسي مازال حتى الآن ينمو ويتطور مستندا دوما إلى التراكمات المعرفية المتلاحقة التي تصنعها الشعوب المختلفة ويبتدعها المفكرون ، والتي تشكل دوما أرضية إنطلاق لأفكار جديدة أيا تكن مجالاتها وميادين أبحاثها،وقد تبين بشكل واضح أن الفكر السياسي بدأ خطواته الفكرية ورؤاه الفلسفية الأولى في الإجابة عن التساؤلات المختلفة بأفكار أسطورية غيبية،وصولا إلى الأساطير المختلفة والمتعددة بالإجابات حول كل القضايا بما فيها السياسية، وهو ما كان موضوع دراستنا : “الفكر السياسي الروماني ” فكانت كل حضارة تغتني بأفكار وتجارب تقدم منها، وفق بنيتها الذهنية أجوبتها الخاصة عن التساؤلات المتعددة حول الكون والمجتمع والإنسان ومنها التساؤلات السياسية كذلك (*)
ويمكن القول أن الحضارة اليونانية ساهمت بشكل بارز في تطوير ونهضة الفكر السياسي البشري، بحيث تمثلت القضية المحورية التي إنشغل بها الإغريق في طبيعة العدالة وماهية النظام السياسي الفاضل، ثم من بعدها الحضارة الرومانية صحيح أن هذه الأخيرة لم تتمكن من التوصل إلى مستوى الإبداع الفكري الذي بلغته الحضارة الإغريقية
من قبلها، غير أن إبداعها تجلى بإمتياز واضح في المجالات العملية ، سواء من الناحية الفكرية على صعيد القانون والإدارة ، أم من ناحية
الإبداعات الفنية والمعمارية التي لازالت أثارها ماثلة للعيان حتى يومنا هذا في أماكن متعددة من المناطق الواقعةعلى المتوسط ولاشك بأن الحضارة الرومانية قد مثلث محطة هامة جدا في تاريخ الحضارة البشرية.
فالرومان نبغوا في القانون بحيث أصبحوا في هذا الميدان قدوة لغيرهم على مر الأجيال ولا تزال أثار قوانينهم قائمة في العصر الحديث،فإنهم على عكس ذلك من الناحية الفلسفية إذ لم تكن للرومان فلسفة سياسية أصيلة نابعة من بيئتهم وثمار فكرهم الحر وإنما اعتمدوا في هذا المجال على الفلسفة اليونانية ونهلوا من مواردها ونسجوا على منوالها وتأثروا بكثير من مبادئها. فالحضارة الرومانية تأثرت بالحضارة اليونانية ونقلت عنها وأفادت منها كما نقلت عن الحضارة الشرقية القديمة مثل الحضارة المصرية البطليموسية والحضارة الفارسية ، فالرومان لم يخلقوا ولم يخترعوا كل نظمهم وإنما أخذوا من الحضارات القديمة والمعاصرة لهم والسابقة عليهم ما يتفق مع ظروفهم وأوضاع بلادهم وصبغوا ما تلقوه عن الغير بصبغتهم الخاصة وهي صبغة عملية.
وقد قطعت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي عدة مراحل حتى تمكنت من الوصول إلى تأسيس إمبراطورية ضخمة ذات سلطان خطير على المستوى الداخلي والخارجي وقد عرفت في تطورها هذا أشكالا مختلفة للحكم وأوضاعا دستورية متباينة، ولكي نوضح ذلك نشير بإيجاز إلى مختلف المراحل التي قطعتها الحضارة الرومانية في نظامها السياسي ثم إلى أبرز المفكرين السياسيين في روما القديمة وهما بوليبيوس وشيشرون. المبحث الأول : النظام السياسي الروماني
مرت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي الطويل بمراحل عدة ، حتى وصلت إلى تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف ذات سلطان ضخم وخطر في الداخل والخارج ، وقد عرفت روما في تاريخها أشكالا للحكم مختلفة وأوضاعا دستورية متباينة فقام فيها النظام الملكي والنظام الجمهوري وفي ظل هذين النظامين وجدت حكومات فردية ، وحكومات أقلية (أرستقراطية و أوليغارشية ) ثم حكومات ديمقراطية ، لكن فكرة الديمقراطية هذه لم تستطيع أن تثبت جذورها في روما لأسباب ترجع إلى طبيعة الرومان وتعلقهم الشديد بالتقاليد الموروثة وعدم تحمسهم للمبادئ الخلابة ( كانوا عكس اليونانيين ) ولم يكن الرومانيون يحفلون بالنظريات والمذاهب السياسية والأفكار المثالية، التي شغل اليونانيون أنفسهم بها وإنما اهتموا بالنواحي العلمية والواقع الملموس ، ولما انهارت طبقة المزارعين التي هي عماد الديمقراطية المستقرة لم يثبت في روما نظام ديمقراطي سليم (1) .
وينقسم تاريخ الدولة الرومانية ، منذ تأسيسها في القرن 8 ق.م إلى ثلاث فترات متتالية وهي كالتالي:المطلب الأول: فترة الحكم الملكي
بدأت هذه الفترة مع تأسيس مدينة روما في عام 753 ق.م على يد الملك رومولوس (romolus) حسب رواية الأساطير الرومانية ، (2) فلم تكن الملكية في عصورها الأولى وراثية ،بل إن الملك كان يختار قيد حياته من يخلفه في تدبير شؤون المملكة ، وإن مات الملك دون أن يقوم بتعيين خلفه يتم الرجوع إلى مجلس الشيوخ الذي يختار من يتولى سلطة الحكم وكانت سلطات الملك مطلقة وشاملة لكافة الاختصاصات مع وجوب إحترامه للعرف (3) .
أما مجلس الشيوخ فقد كان مكونا من رؤساء القبائل كما أن سلطات هذا المجلس كانت تتمثل في المصادقة على قرارات المجلس الشعبي ، وكان مجلس الشيوخ إضافة إلى ذلك بمثابة مجلس استشاري للملك ، دون أن يكون هذا الأخير ملزما بالأخذ برأي هذا المجلس .
أما الهيئة الثانية فهي مجلس الشعب فقد كان المجلس يضم الرجال الأحرار ويذهب البعض إلى إضافة صفة القدرة على حمل السلاح إلى هؤلاء الرجال فهم وحدهم المواطنون، أما صلاحية هذه الهيئة فكانت في الواقع تختلف من عهد إلى آخر إلا انه يمكن القول بأن من وظائفها إقتراح القوانين وتقرير السلم والحرب وكذلك عقد المعاهدات(4).
وتقسم فترة الحكم الملكي إلى مرحلتين :المرحلة الأولى : حكم ملوك الرومان الأصليين وتقول الرواية التي تناقلها المؤرخون القدامى أن روميلوسromulus وأخاه ريموس remos أسسا مدينة روما ، وعندما قُتـِلَ هذا الأخير على يد
أخيه، حكم روميلوس بمفرده وتعاقب بعده ثلاثة ملوك من أصل روماني حتى الغزو الإتروسكي لإيطاليا (5) .المرحلة الثانية : حكم الملوك الإتروسكيين الذين وفدوا من آسيا الصغرى وأحكموا السيطرة على روما ، وهناك بعض الروايات تقول إنهم من مؤسسيها أيضا ، الذين نقلوا حضارتهم إليها وكان آخر ملوكهم يدعى تاركان العظيم الذي حكم حكما ديكتاتوريا على كافة الشعب الأمر الذي أثار قلق الأشراف الذين ثاروا عليه بمساندة اليونان ،والذين تمكنوا من السيطرة على البلاد في العهد الجمهوري اللاحق (6) .
المطلب الثاني : فترة الحكم الجمهوري.
على إثر تمرد الرومانيين على هيمنة الاتروسك عام 509 ق.م ، تخلوا عن النظام الملكي واستبدلوه بنظام جمهوري وذلك بإحلال حاكمين على رأس السلطة التنفيذية محل الملك ، ويسميان “بالقنصلين” ويتم انتخابهم سنويا من لدن المجالس الشعبية ، ويتناوبان على الحكم شهرا لكل واحد منهم (7).
وقد شهدت فترة الجمهورية هذه صراعا مريرا بين طبقة الأشراف و الطبقة الشعبية لمدة طويلة تجاوزت القرنين من الزمن ، وإستطاعت هذه الأخيرة ( الطبقة الشعبية )أن تحقق بعض الإمتيازات التي إنتزعتها من طبقة الأشراف عام 494 ق.م مما أرغم مجلس الشيوخ على المصادقة على إلغاء الديون التي تراكمت على العامة ، وفي أواسط ق 15 تمكنت كذلك من تحقيق إنتصار آخر وهو فرض إيجاد قوانين مكتوبة وواضحة ومعلومة من الجميع بدلا من القانون العرفي الذي كان موضوعا تحت هيمنة الأشراف والكهنة الذين كان لهم وحدهم الحق في تفسيره وتأويله (8) .
إن تغيير نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية أدى إلى إنتقال سلطة الملك إلى هيئة جديدة تقوم بتدبير شؤون الجمهورية . ولو قارنا سلطات القنصل بسلطات الملك يتبين 1لنا بأنها تضاءلت إلى حد كبير ،فبعدما كانت السلطة الدينية مثلا من اختصاص الملك إبان فترة الحكم الملكي ، نجدها أصبحت من إختصاص الكهنة في فترة الحكم الجمهوري هذا إضافة إلى أن فترة حكم القنصل تعد أقل من الفترة التي كانت للملك أبدية ، ثم إن مركز القنصل يعد أضعف بكثير من المركز الذي كان يشغله الملك.المطلب الثالث : فترة الحكم الإمبراطوري.
ظهر هذا النظام مع توسيع روما وضمها لأراضي شاسعة وشعوب متعددة ولم يعد بمقدور النظام الروماني إدارة هذه الإمبراطورية الضخمة.وكانت الإرهاصات الأولى لبداية النظام الإمبراطوري مع” يوليوس قيصر 101 – 44 ق.م “الذي إستولى بحد السيف على السلطة ، تم جاء بعده إبنه بالتبني أوغستAUGUST 27 ق.م الذي أصبح إمبراطورا وإتسم نمط الحكم هذا بإحلال إمبراطور ذي سلطات مطلقة محل القنصلين ، وكان ينظر له وكأنه إلاه أو ابن للإله قبل ظهور المسيحية ، وهوالذي كان يشرف على الشؤون الخارجية وعلى الجيش وله صلاحيات قضائية واسعة ، وكان يستعين في عمله هذا بمجلس إستشاري يعين أفراده بنفسه من أقربائه وكبار موظفيه ومن أصحاب الخبرة والاختصاص(9).
وهناك من يميز بين عصرين من الإمبراطورية . عصر الإمبراطورية العليا :
أعلن قيامها أكتافيوس بعد انتصاره على خصمه أنطونيوس وحليفته كليوباترة وكان ذلك في سنة 27 ق.م وإنتهت بذلك الحروب الداخلية الأهلية كما توقفت فتوحات روما الخارجية ، وأصبح ذلك العصر عهد سلم ، وتغير نظام الحكم من جمهوري إلى حكم فردي مطلق من حيث الواقع :لأن الإمبراطور رئيس الدولة استأثر بكل مظاهر السلطة تقريبا وجمعها في يده .
وعلى إثر ذلك تم تقليص سلطات مجلس الشيوخ وسلبت منه اختصاصاته وبالرغم من استمرار قيام المجالس الشعبية إلا أنها أخذت تفقد سلطاتها التشريعية بالتدريج حتى أندثرت تلك السلطة في نهاية ق الأول م (10). عصر الإمبراطورية السفلى ( العصر البيزنطي ).
قامت هذه الإمبراطورية على يد الإمبراطور” دوقلديانوس “، سنة 284 م بعد أن سادت الفوضى العسكرية وتدهورت الحالة الإقتصادية في أواخر عهد الإمبراطورية العليا.وقد تأكد في ذلك العصر نظام الحكم الفردي المطلق الإستبدادي إذ تركزت السلطة
السياسية في يد الإمبراطور وإندثرت تماما إختصاصات الحكام الآخرين ومجلس الشيوخ و المجالس الشعبية وثم فصل المدينة عن السلطة العسكرية ،وساد نظام الإدارة المركزية لكن الإمبراطور دوقلديانوس أحدث تعديلا جوهريا في النظام الإداري للإمبراطورية إذ لاحظ إتساع رقعتها وكثرة ولايتها وظهور تيارات ونزعات إنفصالية في أقاليم الدولة ، فقام بتقسيم الإمبراطورية إلى أربعة أقسام إدارية كبرى يرأس كل إقليم إداري حاكم إداري عام يحمل لقب أوغسطس أو قيصر وبهذه الوسيلة أصبح حكام الإمبراطورية أربعة أشخاص يحمل اثنان منهم لقب أوغسطس والإثنان الآخران يحملان لقب قيصر ويعتبران أقل درجة من الأولين ويحلان محلهما في حالة العجز عن العمل (11) المبحث الثاني : أسس الفكر السياسي الروماني .
إذا كان اليونانيون يفكرون بطريقة فلسفية وأخلاقية، فالرومانيون يفكرون بطريقة حقوقية وقانونية ، وإذا كان اليونانيون يفتخرون بفلاسفتهم وفلسفتهم فالرومانيون يفتخرون بقانونهم وقوانينهم هذه الصبغة القانونية التي إندمجت مع فكرهم السياسي ، ترجع لإعتبارات عملية تتعلق بالمشاكل والتحديات المترتبة على التعامل مع دولة ذات أعراف متعددة ومترامية الأطراف ، فكان لابد من بحث دقيق عن توازن يحفظ للدولة إستمراريتها وإستقرارها ، ولن يتأتى ذلك إلا عن طريق القانون الدقيق والمنظم.
وقد تأثر القانون الروماني منذ نشأته وتطوره بالواقع الاجتماعي والفكري حيث كان في بدايته يختلط بالدين والسحر والعادات… فالقانون كان في البداية جزءا من الديانة وقانون المدينة هو شعائرها وفرائضها الدينية ، فكانت شخصية رجل الدين تختلط بشخص الحاكم أو القاضي ، وأحيانا تتجسد في شخص واحد وقد عرف الفقيه أوليبانوس القانون بأنه:” المعرفة بالأمور الإلهية والأمور الإنسانية والعلم بما هو عدل وما هو ظلم ” .
لكن مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تطور القانون الروماني حيث تم التمييز بين الدين والقانون ،فأصبحت القواعد القانونية من صنع البشر وتهتم بتنظيم الروابط بين أرباب الأسر والعشائر داخل المدينة، أما القواعد الدينية فهي أوامر صادرة من الآلهة لتنظيم الصلة بين الإنسان وربه(12) .
أما مصادر القانون الروماني فكان البعض منها مستمد من رجال القانون الرومانيين ، والآخر مستمد من أفكار الرواقية إلا أن التحول العام في المنحى الفكري القانوني والسياسي يعود الفضل فيه إلى أفكار المدرسة الرواقية فقد أعطت المدرسة الرواقية لروما الإيديولوجية التي تنقصها وتنتظرها ، أي جاءت الفلسفة الرواقية ودعوتها إلى العالمية والقانون الطبيعي الإلهي لتضفي صبغة شرعية على الهيمنة الرومانية على الشعوب الأخرى ، والفضل يعود تحديدا إلى Panituis170-110 ق.م الذي خلق نوعا من المصالحة بين الفكر الرواقي والفكر الروماني
الأرستقراطي العلمي ، وكان للعلاقة التي أقامها الرواقيان بنائيتوس وبوليبيوس مع الطبقة الرومانية دورا في تسرب الفكر إلى الطبقة الرواقية الحاكمة بروما، وكانت أهم تأثيراتها تتجسد في القانون الطبيعي وفكرة الدولة العالمية وهما ما ظهرا في أفكار كل من بوليبيوس وشيشرون (13).المطلب الأول : الفكر السياسي عند بوليبيوس
جاء بوليبيوس بتبرير التاريخ ، وذلك حين جيء به إلى روما كرهينة في سنة 168 ق.م فعومل كصديق وأطلق صراحه سنه 146 ق.م وعاش صديقا لأدباء ومفكرين رومان ، وجعل من نفسه أول منظر للدستور الروماني في كتابه ” التواريخ ” وفيه حلل الدولة الرومانية وبذات الوقت يعرف أفضل حكومة (14) .
حاول كتابة التاريخ الروماني والفتوحات بشكل منهجي وعالج النظام السياسي الروماني في مجده ، وربط في روما بين النظام السياسي والعسكري ،إستوحى أكثر أعماله من أعمال أرسطو الذي إستعار منه التصنيف السداسي للدساتير، وجعل أهداف السياسة الحقيقية :الفضيلة والحكمة في الحياة الخاصة والعدالة في الحياة العامة .ولقد بحث في كتابه ” تواريخ histoires “عن تفسير لأسباب رفعة روما التي أخضعت في نصف قرن تقريبا كل الأرض المسكونة ، وقد وجده في دستورها الذي جعل منه النقطة المركزية في مؤلفه ، فكتب :” إن الأشكال الثلاثة للحكم كانت ممزوجة في الدستور الروماني وحصة كل منها كانت محسوبة بدقة ، فكل شيء كان ممزوجا فيه بإنصاف ، بحيث أن أي شخص ، حتى من بين الرومانيين ، لم يكن يستطيع القول إن كان الدستور أرستقراطيا ، أو ديمقراطيا أو ملكيا فلدى تفحص سلطات القناصل يقال عنها نظام ملكي ،وإذا حكم عليه من خلال سلطان مجلس الشيوخ كان بالعكس أرستقراطيا ، وإذا أخذت بالاعتبار حقوق الشعب كان يبدو بوضوح أنه ديمقراطي “.
هذا المديح للدستور المختلط عبر عنه بوليب كما أرسطو بوجود ثلاثة أشكال
أساسية من الأنظمة التي هي : الملكية ، الأرستقراطية والديمقراطية ،وهذه الأنظمة هي نماذج ولكن ليست الوحيدة ،والشكل الأمثل بالنسبة له هو الشكل الذي يجمع بين عناصر هذه الأنظمة الثلاث .
وروما التي إعتمدت هذا النظام يفسر مجدها وعظمتها في تنظيمها الداخلي كما في تنظيمها للفتوحات، هذا التحليل لبوليب ليس موضوعيا إذا إنه يحاول تمجيد عظمة روما وشرح قوتها بعرض الوقائع التي استعملها واستعارها ليثبت برهنته لذلك، لأن العنصر الديمقراطي الذي
تطرق إليه غير موجود، لأن السلطة الفعلية بيد مجلس الشيوخ هي التعبير الأمثل عن الارستقراطية .يؤمن بوليب بأن الحياة السياسية تمر بمراحل أو بطريقة دورية وهي في حركة دائمة، فالتطور يبدأ مع الملكية : حكم الفرد الواحد ، لأن الناس البدائيين وضعوا ثقتهم بشخص واحد لإشباع المصلحة العامة ومبدأ هذا النظام هو المساواة والخير أكثر منه القوة والطغيان ، ولكن مع تطور الحياة تفسد الملكية ، ويستلم الملوك لإغراءات السلطة وينجرون وراء نزواتهم .
وتتحول بالتالي الملكية إلى طغيان، فتثور طبقة النبلاء – القيادة الأفضل بنظر الرعايا – وتتسلم السلطة برضا الناس، لكن هذه الارستقراطية أيضا تفسد عندما يفقد النبلاء الحس العام والمصلحة العامة ويستغلون الشعب فتحل الأوليغارشية محل الارستقراطية،لكن الشغب يثور ضد الأوليغارشيين لأن الأوليغارشية تتطابق مع الطغيان،ويقيم الشعب حكم الديمقراطية التي تفسد وتسيء ، لأن الشعب يبعد الأغنياء ويأخذ مالهم وغناهم ، فيبدأ الصراع الاجتماعي والأزمات والكوارث جراء عدم التوازن والفوضى والغوغائية التي تسود المجتمع ، وبعد كل هذه التجارب يعود الشعب ويسلم نفسه إلى ملك وهكذا تتم الدورة بكاملها : (ولادة- نمو- ذروة ورشد- إنحدار فموت).
من هذا التصنيف نستخلص ثلاثة أنظمة صالحة هي : الملكية المعتدلة ، الأرستقراطية والديموقراطية.يقابلها ثلاثة أنظمة فاسدة هي :الطغيان، الأوليغارشية والديماغوجية.وهذا التقسيم يذكرنا بتقسيم أرسطو .ويعتبر بوليب أن كل نظام يتضمن في داخله عوامل فساده وإنحلاله وكل واحد منها لا يصلح بحد ذاته ليكون نظاما للدولة الصالحة لذلك لا بد من المزج بين هذه الأنظمة والحفاظ على التوازن بينها بواسطة القوى المضادة وهنا يظهر أثر أرسطو وأفلاطون .(15). المطلب الثاني : الفكر السياسي عنذ شيشرون 106 – 43 ق.م.
يعد شيشرون أول مفكر روماني ، حاول الإستفادة من التراث الفلسفي اليوناني وتوظيفه في معالجة الإشكالات السياسية التي طرحت خلال المرحلة الأخيرة للنظام الجمهوري ،فشيشرون الذي بدأ مشواره كرجل دولة سنة 76 .ق.م ،نهل من المصادر الأصلية للفكر اليوناني ، كما أن بلاغته المشهود بها كمحام ، جعلته يتبوأ منصب قنصل للجمهورية سنة 63 ق.م قبل أن يعدم بسبب إنخراطه في الصراعات الدامية التي أفضت إلى قيام الإمبراطورية(16) .ومن أهم المؤلفات التي تركها شيشرون والتي تعكس إرادته في تطبيق المبادئ الرواقية على المستوىالسياسي ، نلقى كتابه” في الجمهورية ” و ” في القوانين ” و ” الواجب ” فضمن هذه المصادر الثلاثة ، يمكن استجلاء تصوره للقانون الطبيعي ، ومدلول تمييزه بين المنفعة المشتركة والشيء العام، وكذلك تأويله المتميز لنظرية الدستور المختلط التي عرفت انتشارا واسعا لدى الأوساط اليونانية المهتمة بإكتشاف سر عظمة روما وأسباب تفوق نظامها السياسي.
ويشكل مؤلف ” في الجمهورية ” الذي كتبه شيشرون سنة 51 ق.م منعطفا هاما في تاريخ الفكر السياسي الروماني ،فلئن كان مطمح صاحبه هو إعادة كتابة أفلاطون ،وتحيين القضايا والإشكالات التي طرحها هذا الفيلسوف اليوناني – كما يدل على ذلك إختيار عنوان المؤلف- فإن المقاربة التي إنتهجها شيشرون ، كانت تحكمها عقلانية خاصة بفعل تمايز الواقع السياسي في روما ،والمسألة الأولى التي تتصدر مؤلف شيشرون تتعلق بالنظام السياسي الأصلح بالنسبة للدولة الرومانية ، بإعتبار أن شكل الحكم يعد عاملا حاسما لتفسير نجاح أو فشل دولة من الدول .ولقد سبق لبوليبيوس ، هذا المؤرخ اليوناني الذي أصبح رومانيا (عام 201- 120 ق.م )،أن حلل في مؤلفه “تواريخ” دستور روما واعتبره سببا لقوة هذه المدينة ومدى العظمة التي أدركتها .فبوليبيوس الذي أراد فهم وتفسير ضوابط السياسة الرومانية ،إعتمادا على التراث اليوناني ،نوه بفضائل الدستور المختلط وأشاد بمزاياه المختلفة بالنسبة لسير عمل المؤسسات السياسية في روما خلال القرن الثاني قبل الميلاد فالسمة الأساسية للدستور المعمول به ، تتمثل في توزيعه للسلطات داخل الدولة على أساس قاعدة الإنصاف ، بحيث لا تطغى إختصاصات مجلس الشيوخ على الإمتيازات التي يتمتع بها الشعب، كما أن مجالات تدخل القناصلة ، رغم أهميتها ، محددة بكيفية صارمة .
وهذا ما يجعل من الصعب وصف الدستور الروماني ، بالدستور الارستقراطي أو الديمقراطي أو الملكي.وتبرز أهمية هذا الاستنتاج إذا ما انتبهنا إلى أن بوليبيوس لا يعتمد مقاربة قانونية صرفة لإبراز فعالية النظام السياسي الروماني وأفضلية القواعد التي يرتكز عليها ، فلقد كان هدفه هو القيام بمحاولة تركيبية تتألف بفضلها عناصر المنهجية التاريخية والسياسية مع وجهة نظر الفقيه الدستوري .
إنه لا يرشدنا فقط إلى الاختصاصات المعترف بها لمختلف الهيئات السياسية الفاعلة، ولكنه يبرز لنا ما يمكن لهذه الهيئات أن تقوم به فعليا وبكيفية ملموسة ، بحكم العلاقات التي تحكمها موازين القوى التي تحدد مركزها الواقعي .
ولقد اعتمد شيشرون على الخلاصات التي توصل إليها بوليبيوس ، لتطويرنظريته الخاصة حول الدستور المختلط ،بيد أنه إذا كان بوليبيوس قد ألح كثيرا على أهمية وسائل الضغط المتبادلة التي تتوفر عليها الأجهزة المختلفة،فان شيشرون سيركز على ما أسماه بالمداولة العقلانية أو تحولهم إلى مجرد عبيد للسلطة أو ناقمين عليها .
فبإسم واجب السهر على المصلحة العامة ، لم يتردد في قمع كل المحاولات الرامية لخلق الشقاق داخل الدولة ، أو نسف مرتكزاتها الإيديولوجية وهذا ما يفسر موقفه المعادي للمسيحية ،بل ونتقاده حتى لطريقة موت المؤمنين بها فاستشهاد هؤلاء ، لم يكن بالنسبة إليه نتيجة الإقتناع بعقيدتهم الدينية،وإنما هو تعبير عن عناد في معارضة السلطة ورغبة مخالفة للمألوف ،ولقد أدرك جيدا بأن العناية الإلهية التي جعلته يتبوأ منصب إمبراطور روماني هي التي تفرض عليه الإحتراس من الخطر الذي تشكله الدعوة المسيحية ، بحكم تهديدها لإستقرار وأمن الدولة .
فوظيفته كحارس للإمبراطورية ،تضطره للإستئناس مع مختلف مظاهر الرذيلة ، والتعود على الأمور التي لا يحبها ،دون أن ينتابه اليأس أو الإنقباض من البشر فالإنسان الضال ” إذا أخطأ ، علمه بين له سبب زلته، وإذا كنت غير قادر على ذلك ،فما عليك إلا أن تعاقب نفسك – ونفسك فقط (17).الهوامش:
(*) د: عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة الإغريقي –الهلنسيتي –الروماني ص. 5 وما بعدها.
1: محمد كامل ليلة : النظم السياسية ( الدولة . الحكومة ) دار النهضة العربية بيروت لبنان ص 381
2 : د. عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة : الإغريقي – الهلنيستي- الروماني الطبعة الأولى 2001 ص 305 .
3: د.إبراهيم أبراش : تاريخ الفكر السياسي من حكم الملوك الآلهة حتى نهاية عصر النهضة الجزء الأول ص 108 – 109
(4) د محمد كريم : تاريخ الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى ص 110
(5) د. عادل خليفة : الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى الجزء الأول ص 157 .
(6) د. عادل خليفة : نفس المرجع ص 157 .
(7) د. إبراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 109 .
(8) د.عمر عبد الحي : مرجع سابق ص 306(9) د. ابراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 111 .
(10)د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص.387.(11) د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص 388
(12)د إبراهيم أبراش مرجع سابق ص 113 .
(13)إبراهيم أبر اش : نفس المرجع السابق ص 114
(14) جان توشار : تاريخ الفكر السياسي ص 59 .(15): الدكتور عادل خليفة الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى.الجزء الأول ص 161 وما بعدها.
(16) وذلك بعد انتصار Octavien على Antoine الذي تحالف مع كليوباترة ملكة مصر وذلك في المعركة المشهورة باسم Actium التي جرت بتاريخ 2 شتنبر 31 ق.م(17)د يوسف الفاسي الفهري : تاريخ الفكر السياسي 1 العصور القديمة والوسطى ص 87 وما بعدها.
الوسم: الوسطى
مقــدمة
أظهر تطور الفكر والتفكير في الميدان السياسي مدى تقدم الإنسان والمجتمعات البشرية ومدى تأثير التراكمات المعرفية الكمية والنوعية في هذا التطور ، كما دل على أهمية التجارب التي يمر بها البشر في صنع الحضارة وتأمين الأفضل لحياة الإنسان والمجتمعات ، و أظهر أهمية دور إبداعات المفكرين في هذا التطور.
إذ أن العلاقة الجدلية ما بين التراكمات المعرفية والظروف الخاصة للمجتمع وإبداع المفكرين هو الأساس الذي قامت وتقوم عليه التطورات المتلاحقة في الفكر وفي الفعل الحضاري ،فقد كان تقدم الفكر السياسي كما الفكر الإنساني بشكل عام*نتاجا لتلك التراكمات المعرفية الكبيرة وللتجارب التي مرت بها كل الأمم، كل واحد ة حسب ظروفها الخاصة، حيث كانت الحضارة تلو الأخرى تشارك بدورها في صنع الأفضل للإنسان، وذلك من خلال إبداعات المفكرين في الحضارات المختلفة.
وإذا كان الإنسان يتعلم من التجارب المتلاحقة ويتطور في فهمه وإدراكه ، فإن الفكر الإنساني ، ومنه الفكر السياسي مازال حتى الآن ينمو ويتطور مستندا دوما إلى التراكمات المعرفية المتلاحقة التي تصنعها الشعوب المختلفة ويبتدعها المفكرون ، والتي تشكل دوما أرضية إنطلاق لأفكار جديدة أيا تكن مجالاتها وميادين أبحاثها،وقد تبين بشكل واضح أن الفكر السياسي بدأ خطواته الفكرية ورؤاه الفلسفية الأولى في الإجابة عن التساؤلات المختلفة بأفكار أسطورية غيبية،وصولا إلى الأساطير المختلفة والمتعددة بالإجابات حول كل القضايا بما فيها السياسية، وهو ما كان موضوع دراستنا : "الفكر السياسي الروماني " فكانت كل حضارة تغتني بأفكار وتجارب تقدم منها، وفق بنيتها الذهنية أجوبتها الخاصة عن التساؤلات المتعددة حول الكون والمجتمع والإنسان ومنها التساؤلات السياسية كذلك (*)
ويمكن القول أن الحضارة اليونانية ساهمت بشكل بارز في تطوير ونهضة الفكر السياسي البشري، بحيث تمثلت القضية المحورية التي إنشغل بها الإغريق في طبيعة العدالة وماهية النظام السياسي الفاضل، ثم من بعدها الحضارة الرومانية صحيح أن هذه الأخيرة لم تتمكن من التوصل إلى مستوى الإبداع الفكري الذي بلغته الحضارة الإغريقية
من قبلها، غير أن إبداعها تجلى بإمتياز واضح في المجالات العملية ، سواء من الناحية الفكرية على صعيد القانون والإدارة ، أم من ناحية
الإبداعات الفنية والمعمارية التي لازالت أثارها ماثلة للعيان حتى يومنا هذا في أماكن متعددة من المناطق الواقعةعلى المتوسط ولاشك بأن الحضارة الرومانية قد مثلث محطة هامة جدا في تاريخ الحضارة البشرية.
فالرومان نبغوا في القانون بحيث أصبحوا في هذا الميدان قدوة لغيرهم على مر الأجيال ولا تزال أثار قوانينهم قائمة في العصر الحديث،فإنهم على عكس ذلك من الناحية الفلسفية إذ لم تكن للرومان فلسفة سياسية أصيلة نابعة من بيئتهم وثمار فكرهم الحر وإنما اعتمدوا في هذا المجال على الفلسفة اليونانية ونهلوا من مواردها ونسجوا على منوالها وتأثروا بكثير من مبادئها. فالحضارة الرومانية تأثرت بالحضارة اليونانية ونقلت عنها وأفادت منها كما نقلت عن الحضارة الشرقية القديمة مثل الحضارة المصرية البطليموسية والحضارة الفارسية ، فالرومان لم يخلقوا ولم يخترعوا كل نظمهم وإنما أخذوا من الحضارات القديمة والمعاصرة لهم والسابقة عليهم ما يتفق مع ظروفهم وأوضاع بلادهم وصبغوا ما تلقوه عن الغير بصبغتهم الخاصة وهي صبغة عملية.
وقد قطعت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي عدة مراحل حتى تمكنت من الوصول إلى تأسيس إمبراطورية ضخمة ذات سلطان خطير على المستوى الداخلي والخارجي وقد عرفت في تطورها هذا أشكالا مختلفة للحكم وأوضاعا دستورية متباينة، ولكي نوضح ذلك نشير بإيجاز إلى مختلف المراحل التي قطعتها الحضارة الرومانية في نظامها السياسي ثم إلى أبرز المفكرين السياسيين في روما القديمة وهما بوليبيوس وشيشرون.
المبحث الأول : النظام السياسي الروماني
مرت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي الطويل بمراحل عدة ، حتى وصلت إلى تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف ذات سلطان ضخم وخطر في الداخل والخارج ، وقد عرفت روما في تاريخها أشكالا للحكم مختلفة وأوضاعا دستورية متباينة فقام فيها النظام الملكي والنظام الجمهوري وفي ظل هذين النظامين وجدت حكومات فردية ، وحكومات أقلية (أرستقراطية و أوليغارشية ) ثم حكومات ديمقراطية ، لكن فكرة الديمقراطية هذه لم تستطيع أن تثبت جذورها في روما لأسباب ترجع إلى طبيعة الرومان وتعلقهم الشديد بالتقاليد الموروثة وعدم تحمسهم للمبادئ الخلابة ( كانوا عكس اليونانيين ) ولم يكن الرومانيون يحفلون بالنظريات والمذاهب السياسية والأفكار المثالية، التي شغل اليونانيون أنفسهم بها وإنما اهتموا بالنواحي العلمية والواقع الملموس ، ولما انهارت طبقة المزارعين التي هي عماد الديمقراطية المستقرة لم يثبت في روما نظام ديمقراطي سليم (1) .
وينقسم تاريخ الدولة الرومانية ، منذ تأسيسها في القرن 8 ق.م إلى ثلاث فترات متتالية وهي كالتالي:
المطلب الأول: فترة الحكم الملكي
بدأت هذه الفترة مع تأسيس مدينة روما في عام 753 ق.م على يد الملك رومولوس (romolus) حسب رواية الأساطير الرومانية ، (2) فلم تكن الملكية في عصورها الأولى وراثية ،بل إن الملك كان يختار قيد حياته من يخلفه في تدبير شؤون المملكة ، وإن مات الملك دون أن يقوم بتعيين خلفه يتم الرجوع إلى مجلس الشيوخ الذي يختار من يتولى سلطة الحكم وكانت سلطات الملك مطلقة وشاملة لكافة الاختصاصات مع وجوب إحترامه للعرف (3) .
أما مجلس الشيوخ فقد كان مكونا من رؤساء القبائل كما أن سلطات هذا المجلس كانت تتمثل في المصادقة على قرارات المجلس الشعبي ، وكان مجلس الشيوخ إضافة إلى ذلك بمثابة مجلس استشاري للملك ، دون أن يكون هذا الأخير ملزما بالأخذ برأي هذا المجلس .
أما الهيئة الثانية فهي مجلس الشعب فقد كان المجلس يضم الرجال الأحرار ويذهب البعض إلى إضافة صفة القدرة على حمل السلاح إلى هؤلاء الرجال فهم وحدهم المواطنون، أما صلاحية هذه الهيئة فكانت في الواقع تختلف من عهد إلى آخر إلا انه يمكن القول بأن من وظائفها إقتراح القوانين وتقرير السلم والحرب وكذلك عقد المعاهدات(4).
وتقسم فترة الحكم الملكي إلى مرحلتين :
المرحلة الأولى : حكم ملوك الرومان الأصليين وتقول الرواية التي تناقلها المؤرخون القدامى أن روميلوسromulus وأخاه ريموس remos أسسا مدينة روما ، وعندما قُتـِلَ هذا الأخير على يد
أخيه، حكم روميلوس بمفرده وتعاقب بعده ثلاثة ملوك من أصل روماني حتى الغزو الإتروسكي لإيطاليا (5) .
المرحلة الثانية : حكم الملوك الإتروسكيين الذين وفدوا من آسيا الصغرى وأحكموا السيطرة على روما ، وهناك بعض الروايات تقول إنهم من مؤسسيها أيضا ، الذين نقلوا حضارتهم إليها وكان آخر ملوكهم يدعى تاركان العظيم الذي حكم حكما ديكتاتوريا على كافة الشعب الأمر الذي أثار قلق الأشراف الذين ثاروا عليه بمساندة اليونان ،والذين تمكنوا من السيطرة على البلاد في العهد الجمهوري اللاحق (6) .
المطلب الثاني : فترة الحكم الجمهوري.
على إثر تمرد الرومانيين على هيمنة الاتروسك عام 509 ق.م ، تخلوا عن النظام الملكي واستبدلوه بنظام جمهوري وذلك بإحلال حاكمين على رأس السلطة التنفيذية محل الملك ، ويسميان "بالقنصلين" ويتم انتخابهم سنويا من لدن المجالس الشعبية ، ويتناوبان على الحكم شهرا لكل واحد منهم (7).
وقد شهدت فترة الجمهورية هذه صراعا مريرا بين طبقة الأشراف و الطبقة الشعبية لمدة طويلة تجاوزت القرنين من الزمن ، وإستطاعت هذه الأخيرة ( الطبقة الشعبية )أن تحقق بعض الإمتيازات التي إنتزعتها من طبقة الأشراف عام 494 ق.م مما أرغم مجلس الشيوخ على المصادقة على إلغاء الديون التي تراكمت على العامة ، وفي أواسط ق 15 تمكنت كذلك من تحقيق إنتصار آخر وهو فرض إيجاد قوانين مكتوبة وواضحة ومعلومة من الجميع بدلا من القانون العرفي الذي كان موضوعا تحت هيمنة الأشراف والكهنة الذين كان لهم وحدهم الحق في تفسيره وتأويله (8) .
إن تغيير نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية أدى إلى إنتقال سلطة الملك إلى هيئة جديدة تقوم بتدبير شؤون الجمهورية . ولو قارنا سلطات القنصل بسلطات الملك يتبين 1لنا بأنها تضاءلت إلى حد كبير ،فبعدما كانت السلطة الدينية مثلا من اختصاص الملك إبان فترة الحكم الملكي ، نجدها أصبحت من إختصاص الكهنة في فترة الحكم الجمهوري هذا إضافة إلى أن فترة حكم القنصل تعد أقل من الفترة التي كانت للملك أبدية ، ثم إن مركز القنصل يعد أضعف بكثير من المركز الذي كان يشغله الملك.
المطلب الثالث : فترة الحكم الإمبراطوري.
ظهر هذا النظام مع توسيع روما وضمها لأراضي شاسعة وشعوب متعددة ولم يعد بمقدور النظام الروماني إدارة هذه الإمبراطورية الضخمة.وكانت الإرهاصات الأولى لبداية النظام الإمبراطوري مع" يوليوس قيصر 101 – 44 ق.م "الذي إستولى بحد السيف على السلطة ، تم جاء بعده إبنه بالتبني أوغستAUGUST 27 ق.م الذي أصبح إمبراطورا وإتسم نمط الحكم هذا بإحلال إمبراطور ذي سلطات مطلقة محل القنصلين ، وكان ينظر له وكأنه إلاه أو ابن للإله قبل ظهور المسيحية ، وهوالذي كان يشرف على الشؤون الخارجية وعلى الجيش وله صلاحيات قضائية واسعة ، وكان يستعين في عمله هذا بمجلس إستشاري يعين أفراده بنفسه من أقربائه وكبار موظفيه ومن أصحاب الخبرة والاختصاص(9).
وهناك من يميز بين عصرين من الإمبراطورية .
عصر الإمبراطورية العليا :
أعلن قيامها أكتافيوس بعد انتصاره على خصمه أنطونيوس وحليفته كليوباترة وكان ذلك في سنة 27 ق.م وإنتهت بذلك الحروب الداخلية الأهلية كما توقفت فتوحات روما الخارجية ، وأصبح ذلك العصر عهد سلم ، وتغير نظام الحكم من جمهوري إلى حكم فردي مطلق من حيث الواقع :لأن الإمبراطور رئيس الدولة استأثر بكل مظاهر السلطة تقريبا وجمعها في يده .
وعلى إثر ذلك تم تقليص سلطات مجلس الشيوخ وسلبت منه اختصاصاته وبالرغم من استمرار قيام المجالس الشعبية إلا أنها أخذت تفقد سلطاتها التشريعية بالتدريج حتى أندثرت تلك السلطة في نهاية ق الأول م (10).
عصر الإمبراطورية السفلى ( العصر البيزنطي ).
قامت هذه الإمبراطورية على يد الإمبراطور" دوقلديانوس "، سنة 284 م بعد أن سادت الفوضى العسكرية وتدهورت الحالة الإقتصادية في أواخر عهد الإمبراطورية العليا.وقد تأكد في ذلك العصر نظام الحكم الفردي المطلق الإستبدادي إذ تركزت السلطة
السياسية في يد الإمبراطور وإندثرت تماما إختصاصات الحكام الآخرين ومجلس الشيوخ و المجالس الشعبية وثم فصل المدينة عن السلطة العسكرية ،وساد نظام الإدارة المركزية لكن الإمبراطور دوقلديانوس أحدث تعديلا جوهريا في النظام الإداري للإمبراطورية إذ لاحظ إتساع رقعتها وكثرة ولايتها وظهور تيارات ونزعات إنفصالية في أقاليم الدولة ، فقام بتقسيم الإمبراطورية إلى أربعة أقسام إدارية كبرى يرأس كل إقليم إداري حاكم إداري عام يحمل لقب أوغسطس أو قيصر وبهذه الوسيلة أصبح حكام الإمبراطورية أربعة أشخاص يحمل اثنان منهم لقب أوغسطس والإثنان الآخران يحملان لقب قيصر ويعتبران أقل درجة من الأولين ويحلان محلهما في حالة العجز عن العمل (11)
المبحث الثاني : أسس الفكر السياسي الروماني .
إذا كان اليونانيون يفكرون بطريقة فلسفية وأخلاقية، فالرومانيون يفكرون بطريقة حقوقية وقانونية ، وإذا كان اليونانيون يفتخرون بفلاسفتهم وفلسفتهم فالرومانيون يفتخرون بقانونهم وقوانينهم هذه الصبغة القانونية التي إندمجت مع فكرهم السياسي ، ترجع لإعتبارات عملية تتعلق بالمشاكل والتحديات المترتبة على التعامل مع دولة ذات أعراف متعددة ومترامية الأطراف ، فكان لابد من بحث دقيق عن توازن يحفظ للدولة إستمراريتها وإستقرارها ، ولن يتأتى ذلك إلا عن طريق القانون الدقيق والمنظم.
وقد تأثر القانون الروماني منذ نشأته وتطوره بالواقع الاجتماعي والفكري حيث كان في بدايته يختلط بالدين والسحر والعادات… فالقانون كان في البداية جزءا من الديانة وقانون المدينة هو شعائرها وفرائضها الدينية ، فكانت شخصية رجل الدين تختلط بشخص الحاكم أو القاضي ، وأحيانا تتجسد في شخص واحد وقد عرف الفقيه أوليبانوس القانون بأنه:" المعرفة بالأمور الإلهية والأمور الإنسانية والعلم بما هو عدل وما هو ظلم " .
لكن مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تطور القانون الروماني حيث تم التمييز بين الدين والقانون ،فأصبحت القواعد القانونية من صنع البشر وتهتم بتنظيم الروابط بين أرباب الأسر والعشائر داخل المدينة، أما القواعد الدينية فهي أوامر صادرة من الآلهة لتنظيم الصلة بين الإنسان وربه(12) .
أما مصادر القانون الروماني فكان البعض منها مستمد من رجال القانون الرومانيين ، والآخر مستمد من أفكار الرواقية إلا أن التحول العام في المنحى الفكري القانوني والسياسي يعود الفضل فيه إلى أفكار المدرسة الرواقية فقد أعطت المدرسة الرواقية لروما الإيديولوجية التي تنقصها وتنتظرها ، أي جاءت الفلسفة الرواقية ودعوتها إلى العالمية والقانون الطبيعي الإلهي لتضفي صبغة شرعية على الهيمنة الرومانية على الشعوب الأخرى ، والفضل يعود تحديدا إلى Panituis170-110 ق.م الذي خلق نوعا من المصالحة بين الفكر الرواقي والفكر الروماني
الأرستقراطي العلمي ، وكان للعلاقة التي أقامها الرواقيان بنائيتوس وبوليبيوس مع الطبقة الرومانية دورا في تسرب الفكر إلى الطبقة الرواقية الحاكمة بروما، وكانت أهم تأثيراتها تتجسد في القانون الطبيعي وفكرة الدولة العالمية وهما ما ظهرا في أفكار كل من بوليبيوس وشيشرون (13).
المطلب الأول : الفكر السياسي عند بوليبيوس
جاء بوليبيوس بتبرير التاريخ ، وذلك حين جيء به إلى روما كرهينة في سنة 168 ق.م فعومل كصديق وأطلق صراحه سنه 146 ق.م وعاش صديقا لأدباء ومفكرين رومان ، وجعل من نفسه أول منظر للدستور الروماني في كتابه " التواريخ " وفيه حلل الدولة الرومانية وبذات الوقت يعرف أفضل حكومة (14) .
حاول كتابة التاريخ الروماني والفتوحات بشكل منهجي وعالج النظام السياسي الروماني في مجده ، وربط في روما بين النظام السياسي والعسكري ،إستوحى أكثر أعماله من أعمال أرسطو الذي إستعار منه التصنيف السداسي للدساتير، وجعل أهداف السياسة الحقيقية :الفضيلة والحكمة في الحياة الخاصة والعدالة في الحياة العامة .ولقد بحث في كتابه " تواريخ histoires "عن تفسير لأسباب رفعة روما التي أخضعت في نصف قرن تقريبا كل الأرض المسكونة ، وقد وجده في دستورها الذي جعل منه النقطة المركزية في مؤلفه ، فكتب :" إن الأشكال الثلاثة للحكم كانت ممزوجة في الدستور الروماني وحصة كل منها كانت محسوبة بدقة ، فكل شيء كان ممزوجا فيه بإنصاف ، بحيث أن أي شخص ، حتى من بين الرومانيين ، لم يكن يستطيع القول إن كان الدستور أرستقراطيا ، أو ديمقراطيا أو ملكيا فلدى تفحص سلطات القناصل يقال عنها نظام ملكي ،وإذا حكم عليه من خلال سلطان مجلس الشيوخ كان بالعكس أرستقراطيا ، وإذا أخذت بالاعتبار حقوق الشعب كان يبدو بوضوح أنه ديمقراطي ".
هذا المديح للدستور المختلط عبر عنه بوليب كما أرسطو بوجود ثلاثة أشكال
أساسية من الأنظمة التي هي : الملكية ، الأرستقراطية والديمقراطية ،وهذه الأنظمة هي نماذج ولكن ليست الوحيدة ،والشكل الأمثل بالنسبة له هو الشكل الذي يجمع بين عناصر هذه الأنظمة الثلاث .
وروما التي إعتمدت هذا النظام يفسر مجدها وعظمتها في تنظيمها الداخلي كما في تنظيمها للفتوحات، هذا التحليل لبوليب ليس موضوعيا إذا إنه يحاول تمجيد عظمة روما وشرح قوتها بعرض الوقائع التي استعملها واستعارها ليثبت برهنته لذلك، لأن العنصر الديمقراطي الذي
تطرق إليه غير موجود، لأن السلطة الفعلية بيد مجلس الشيوخ هي التعبير الأمثل عن الارستقراطية .يؤمن بوليب بأن الحياة السياسية تمر بمراحل أو بطريقة دورية وهي في حركة دائمة، فالتطور يبدأ مع الملكية : حكم الفرد الواحد ، لأن الناس البدائيين وضعوا ثقتهم بشخص واحد لإشباع المصلحة العامة ومبدأ هذا النظام هو المساواة والخير أكثر منه القوة والطغيان ، ولكن مع تطور الحياة تفسد الملكية ، ويستلم الملوك لإغراءات السلطة وينجرون وراء نزواتهم .
وتتحول بالتالي الملكية إلى طغيان، فتثور طبقة النبلاء – القيادة الأفضل بنظر الرعايا – وتتسلم السلطة برضا الناس، لكن هذه الارستقراطية أيضا تفسد عندما يفقد النبلاء الحس العام والمصلحة العامة ويستغلون الشعب فتحل الأوليغارشية محل الارستقراطية،لكن الشغب يثور ضد الأوليغارشيين لأن الأوليغارشية تتطابق مع الطغيان،ويقيم الشعب حكم الديمقراطية التي تفسد وتسيء ، لأن الشعب يبعد الأغنياء ويأخذ مالهم وغناهم ، فيبدأ الصراع الاجتماعي والأزمات والكوارث جراء عدم التوازن والفوضى والغوغائية التي تسود المجتمع ، وبعد كل هذه التجارب يعود الشعب ويسلم نفسه إلى ملك وهكذا تتم الدورة بكاملها : (ولادة- نمو- ذروة ورشد- إنحدار فموت).
من هذا التصنيف نستخلص ثلاثة أنظمة صالحة هي : الملكية المعتدلة ، الأرستقراطية والديموقراطية.يقابلها ثلاثة أنظمة فاسدة هي :الطغيان، الأوليغارشية والديماغوجية.وهذا التقسيم يذكرنا بتقسيم أرسطو .ويعتبر بوليب أن كل نظام يتضمن في داخله عوامل فساده وإنحلاله وكل واحد منها لا يصلح بحد ذاته ليكون نظاما للدولة الصالحة لذلك لا بد من المزج بين هذه الأنظمة والحفاظ على التوازن بينها بواسطة القوى المضادة وهنا يظهر أثر أرسطو وأفلاطون .(15).
المطلب الثاني : الفكر السياسي عنذ شيشرون 106 – 43 ق.م.
يعد شيشرون أول مفكر روماني ، حاول الإستفادة من التراث الفلسفي اليوناني وتوظيفه في معالجة الإشكالات السياسية التي طرحت خلال المرحلة الأخيرة للنظام الجمهوري ،فشيشرون الذي بدأ مشواره كرجل دولة سنة 76 .ق.م ،نهل من المصادر الأصلية للفكر اليوناني ، كما أن بلاغته المشهود بها كمحام ، جعلته يتبوأ منصب قنصل للجمهورية سنة 63 ق.م قبل أن يعدم بسبب إنخراطه في الصراعات الدامية التي أفضت إلى قيام الإمبراطورية(16) .ومن أهم المؤلفات التي تركها شيشرون والتي تعكس إرادته في تطبيق المبادئ الرواقية على المستوىالسياسي ، نلقى كتابه" في الجمهورية " و " في القوانين " و " الواجب " فضمن هذه المصادر الثلاثة ، يمكن استجلاء تصوره للقانون الطبيعي ، ومدلول تمييزه بين المنفعة المشتركة والشيء العام، وكذلك تأويله المتميز لنظرية الدستور المختلط التي عرفت انتشارا واسعا لدى الأوساط اليونانية المهتمة بإكتشاف سر عظمة روما وأسباب تفوق نظامها السياسي.
ويشكل مؤلف " في الجمهورية " الذي كتبه شيشرون سنة 51 ق.م منعطفا هاما في تاريخ الفكر السياسي الروماني ،فلئن كان مطمح صاحبه هو إعادة كتابة أفلاطون ،وتحيين القضايا والإشكالات التي طرحها هذا الفيلسوف اليوناني – كما يدل على ذلك إختيار عنوان المؤلف- فإن المقاربة التي إنتهجها شيشرون ، كانت تحكمها عقلانية خاصة بفعل تمايز الواقع السياسي في روما ،والمسألة الأولى التي تتصدر مؤلف شيشرون تتعلق بالنظام السياسي الأصلح بالنسبة للدولة الرومانية ، بإعتبار أن شكل الحكم يعد عاملا حاسما لتفسير نجاح أو فشل دولة من الدول .ولقد سبق لبوليبيوس ، هذا المؤرخ اليوناني الذي أصبح رومانيا (عام 201- 120 ق.م )،أن حلل في مؤلفه "تواريخ" دستور روما واعتبره سببا لقوة هذه المدينة ومدى العظمة التي أدركتها .فبوليبيوس الذي أراد فهم وتفسير ضوابط السياسة الرومانية ،إعتمادا على التراث اليوناني ،نوه بفضائل الدستور المختلط وأشاد بمزاياه المختلفة بالنسبة لسير عمل المؤسسات السياسية في روما خلال القرن الثاني قبل الميلاد فالسمة الأساسية للدستور المعمول به ، تتمثل في توزيعه للسلطات داخل الدولة على أساس قاعدة الإنصاف ، بحيث لا تطغى إختصاصات مجلس الشيوخ على الإمتيازات التي يتمتع بها الشعب، كما أن مجالات تدخل القناصلة ، رغم أهميتها ، محددة بكيفية صارمة .
وهذا ما يجعل من الصعب وصف الدستور الروماني ، بالدستور الارستقراطي أو الديمقراطي أو الملكي.وتبرز أهمية هذا الاستنتاج إذا ما انتبهنا إلى أن بوليبيوس لا يعتمد مقاربة قانونية صرفة لإبراز فعالية النظام السياسي الروماني وأفضلية القواعد التي يرتكز عليها ، فلقد كان هدفه هو القيام بمحاولة تركيبية تتألف بفضلها عناصر المنهجية التاريخية والسياسية مع وجهة نظر الفقيه الدستوري .
إنه لا يرشدنا فقط إلى الاختصاصات المعترف بها لمختلف الهيئات السياسية الفاعلة، ولكنه يبرز لنا ما يمكن لهذه الهيئات أن تقوم به فعليا وبكيفية ملموسة ، بحكم العلاقات التي تحكمها موازين القوى التي تحدد مركزها الواقعي .
ولقد اعتمد شيشرون على الخلاصات التي توصل إليها بوليبيوس ، لتطويرنظريته الخاصة حول الدستور المختلط ،بيد أنه إذا كان بوليبيوس قد ألح كثيرا على أهمية وسائل الضغط المتبادلة التي تتوفر عليها الأجهزة المختلفة،فان شيشرون سيركز على ما أسماه بالمداولة العقلانية أو تحولهم إلى مجرد عبيد للسلطة أو ناقمين عليها .
فبإسم واجب السهر على المصلحة العامة ، لم يتردد في قمع كل المحاولات الرامية لخلق الشقاق داخل الدولة ، أو نسف مرتكزاتها الإيديولوجية وهذا ما يفسر موقفه المعادي للمسيحية ،بل ونتقاده حتى لطريقة موت المؤمنين بها فاستشهاد هؤلاء ، لم يكن بالنسبة إليه نتيجة الإقتناع بعقيدتهم الدينية،وإنما هو تعبير عن عناد في معارضة السلطة ورغبة مخالفة للمألوف ،ولقد أدرك جيدا بأن العناية الإلهية التي جعلته يتبوأ منصب إمبراطور روماني هي التي تفرض عليه الإحتراس من الخطر الذي تشكله الدعوة المسيحية ، بحكم تهديدها لإستقرار وأمن الدولة .
فوظيفته كحارس للإمبراطورية ،تضطره للإستئناس مع مختلف مظاهر الرذيلة ، والتعود على الأمور التي لا يحبها ،دون أن ينتابه اليأس أو الإنقباض من البشر فالإنسان الضال " إذا أخطأ ، علمه بين له سبب زلته، وإذا كنت غير قادر على ذلك ،فما عليك إلا أن تعاقب نفسك – ونفسك فقط (17).
الهوامش:
(*) د: عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة الإغريقي –الهلنسيتي –الروماني ص. 5 وما بعدها.
1: محمد كامل ليلة : النظم السياسية ( الدولة . الحكومة ) دار النهضة العربية بيروت لبنان ص 381
2 : د. عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة : الإغريقي – الهلنيستي- الروماني الطبعة الأولى 2001 ص 305 .
3: د.إبراهيم أبراش : تاريخ الفكر السياسي من حكم الملوك الآلهة حتى نهاية عصر النهضة الجزء الأول ص 108 – 109
(4) د محمد كريم : تاريخ الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى ص 110
(5) د. عادل خليفة : الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى الجزء الأول ص 157 .
(6) د. عادل خليفة : نفس المرجع ص 157 .
(7) د. إبراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 109 .
(8) د.عمر عبد الحي : مرجع سابق ص 306
(9) د. ابراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 111 .
(10)د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص.387.
(11) د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص 388
(12)د إبراهيم أبراش مرجع سابق ص 113 .
(13)إبراهيم أبر اش : نفس المرجع السابق ص 114
(14) جان توشار : تاريخ الفكر السياسي ص 59 .
(15): الدكتور عادل خليفة الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى.الجزء الأول ص 161 وما بعدها.
(16) وذلك بعد انتصار Octavien على Antoine الذي تحالف مع كليوباترة ملكة مصر وذلك في المعركة المشهورة باسم Actium التي جرت بتاريخ 2 شتنبر 31 ق.م
(17)د يوسف الفاسي الفهري : تاريخ الفكر السياسي 1 العصور القديمة والوسطى ص 87 وما بعدها
[CENTER][B][COLOR="DarkOrange"]
جزائري فالدم
نموت على بلدي الجزائر
سبع معارك فاصلة فى العصور الوسطى داهموس، جوزيف.-الشاعر, محمد فتحى.
الحجم : 9.88 MB
http://www.mediafire.com/?kzvwmah8ih34bjw
اضمحلال العصور الوسطى : دراسة لنماذج الحياة و الفكر و الفن بفرنسا و الاراضى المنخفضة / هويزنجا، يوهان.-جاويد، عبد العزيز توفيق
الحجم : 12.88 MB
تاريخ اوروبا فى العصور الوسطى / سعيد عبد الفتاح عاشور
الحجم : 9.7 MB
http://www.4shared.com/get/UYi8wjsu/____.html