العولمة مصطلح حديث النشأة والعهد. لكنه تمكن، على الرغم من ذلك، من غزو أكثر من خطاب واختراق أكثر من ممارسة.
فعلى مستوى الخطاب الاقتصادي أسس المصطلح، من بين ما أسس له، لما اعتيد على تسميته بالعولمة الاقتصادية، بينما أسس بالنسبة لخبراء التكنولوجيا لما سمي بالعولمة التكنولوجية في الوقت الذي تبناه “أهل الثقافة” فيما أسموه بالعولمة الثقافية أو رجال الأعمال فيما اصطلحوا على نعته بعولمة المال والأعمال ورأس المال.
على مستوى الممارسة وظف المصطلح، من بين ما وظف فيه، لتبرير وبالتالي تمرير برامج ومخططات لم ينجح الخطاب السائد إلا جزئيا في تبريرها وتمريرها. فنجد من هنا من يفسر طبيعة الأزمة بظاهرة العولمة، وينادي بضرورة مسايرتها أو على الأقل التكيف معها. ونجد من يرى فيها إحدى فرص الخلاص على اعتبار ما توفره من حوافز وما يمنحه تبنيها من امتيازات.
ما نعيبه على الخطاب السائد في العالم الثالث حول العولمة (وخصوصا الخطاب الأكاديمي منه) عدم تحديده للمفهوم وتركيزه الجلي على أبعاده وتجلياته. فتأتي الإسقاطات إما مؤد لجة (من الإيديولوجيا) أو عديمة الموضوعية أو مجانبة للسياق العام. وهو ما يفرغها في كل الأحوال من طابعها العلمي وفرضية تجردها.
وما نعيبه على الممارسة تبنيها للمصطلح من باب الترويج الديماغوجي المحض وعلى خلفية من “تحيزها” الصارخ إذ باسمه تفسر الأوضاع وتحت مسوغته تبرر السياسات.
ليس من الوارد في هذا المقام الوقوف عند أوجه قصور الخطاب الأكاديمي السائد حول ظاهرة العولمة، أو تفكيك إشكالية المصطلح الإبستمولوجية، ولا مساءلة الممارسة (السياسية بالأساس) حول “استغلالها” له بغية تجديد خطابها، بقدر ما نهدف إلى مقاربة ظاهرة ومصطلح العولمة بحثا في مضمونها ومحاولة لتحديد فضائها على ضوء التحولات التكنولوجية الكبرى التي ميزت العقود الثلاثة الأخيرة لهذا القرن سيما في ميدان الإعلام والاتصال.
ا- حول مفهوم وظاهرة العولمة
دأبت الأدبيات الاقتصادية، منذ عهود بعيدة، على الحديث عن اقتصاد أو علاقات اقتصادية بين الدول والشعوب للتدليل على وجود علاقات تبادل للسلع والخدمات وتنقل للأفراد والرساميل بين هذه الدول والشعوب. وقد نظر لذلك بعمق ومؤسس له بجدية كبيرة على الأقل منذ الثورة الصناعية وانتصار الرأسمالية وتقدم القيم اللليبيرالية.
لم يكن الجدل دائرا حول الاعتراف بوجود هذه العلاقات أو عدم وجودها، قدر ما تأتى من المجادلة التي دارت حول طبيعتها ودرجة عدالة معادلة تبادل فائض القيمة الناتج عنها وبداخلها، سيما مع ظهور نمط الإنتاج والتوزيع والتبادل الرأسمالي… وهو النمط الذي ساد وهيمن على العلاقات الدولية بلا منازع وأبان عن مناعة كبرى وتجدد مستمر على الرغم من الحروب والأزمات والنكسات.
بالتالي ، فالمصطلح، مصطلح الاقتصاد الدولي، إنما جاء لتكريس وجود علاقات اقتصادية دولية يتم من خلالها تبادل السلع والخدمات بين الدول وفي إطارها تتنقل الرساميل و في سياقها يتحرك الأفراد وتنتقل المجموعات.
هذه العلاقات الدولية لم يكن لها، مع مرور الزمن، إلا أن تتطور أكثر وتتعقد بتطور الاقتصاديات الوطنية وتعقدها، وظهور شركات إنتاجية ضخمة ومؤسسات مالية عملاقة تتواجد بكل أنحاء العالم عبر فروعها أو استثماراتها أو تمويلاتها. فأصبحت العلاقات “أكثر تدويلا” وأصبحت الشركات الكبرى متعددة الجنسيات.
ظهور الشركات المتعددة الجنسيات هاته عبر فروعها الموزعة في كل مناطق العالم وانتشار المؤسسات المالية عبر وكلائها لم يزد الاقتصاد الدولي إلا اتساعا و تدويلا ناهيك عن تعقيد طبيعة العلاقات بين الأمم و الدول سيما بين دول الشمال ودول الجنوب أو لنقل بين الدول الصناعية الكبرى ودول العالم الثالث.
هناك إذن في مرحلة أولى علاقات اقتصادية دولية من طراز تقليدي نظر لها بامتياز الكلاسيكيون والكلاسيكيون الجدد. وهناك في مرحلة ثانية تدويل للاقتصاديات الوطنية من خلال ظاهرة تعدد الجنسيات التي طالت المؤسسات الإنتاجية وميزت نشاطها لسنين عديدة ولا سيما خلال فترة ما اعتاد علماء الاقتصاد على تسميتها بمرحلة “الثلاثين الخوالد”(1).
من الوارد القول إذن، بناء على ذلك، إن العولمة إنما هي ظاهرة انبثقت من بطن ظاهرتين(2) سابقتين لها تاريخا وطبيعة سيرورة، هما ظاهرتي التدويل و تعدد الجنسية(3).
يحدد ريكاردو بتريلا ظاهرة العولمة(4) في كونها “مجموعة المراحل التي تمكن من إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات:
+ من أجل أسواق عالمية منظمة (أو في طريقها إلى التنظيم) وفق مقاييس ومعايير عالمية.
+ من طرف منظمات ولدت أو تعمل على أساس قواعد عالمية، بثقافة تنظيم منفتحة على المحيط العالمي، وتخضع لاستراتيجية عالمية من الصعب تحديد فضائها (القانوني والاقتصادي والتكنولوجي) بحكم تعدد ترابطات وتداخلات عناصرها في مختلف العمليات ‘الإنتاجية’ قبل عملية الإنتاج و…حتى بعده”(5).
ويعتبر بتريلا، فضلا عن ذلك، أن عولمة الاقتصاد تخضع (من بين ما تخضع له) لانبعاث تداخلات كثيفة بين الدول لا على المستوى الاقتصادي الخالص فحسب، ولكن أيضا على مستوى تسيير المشاكل الكبرى كمشاكل البيئة والمخدرات وغيرها. وهو ما يتطلب البحث عن أشكال جديدة بهدف إقامة تنظيم ” سياسي” جديد للاقتصاد والمجتمع عوض المنظمات العالمية “التقليدية” التي عجزت عن مواكبة الطبيعة المتجددة لهذه المشاكل.
هذا التحديد المتميز لظاهرة العولمة (على دقته وعمق تصوره) يطرح، على الرغم من ذلك، بعض الملاحظات المنهجية، ثلاث منها تتراءى لنا أساسية:
– الملاحظة الأولى وتتجلى في الصعوبة الموضوعية التي يطرحها أمر ترسيم حدود فضاء العولمة لا على اعتبار الطابع العالمي للظاهرة فحسب، ولكن أيضا بالاحتكام إلى ضعف الأدوات الإحصائية الكفيلة بتحديد ذات الفضاء، وهو ما لم يكن مطروحا (و لا واردا حتى) بالنسبة لمقاربي ظاهرتي التدويل وتعدد الجنسية.
– الملاحظة الثانية وتتعلق بعدم قارية مصطلح العولمة وتطوره المستمر، بالتالي انفتاح طرحه وتفتحه على ظواهر جديدة له، مواكبة لظهوره كتزايد دور العلم والتكنولوجيا في الأنشطة الإنسانية وتطور انتشار تكنولوجيا الإعلام والاتصال على نطاق عالمي واسع متجاوز للحدود والتنظيمات والقوانين.
– الملاحظة الثالثة وتحيل إلى خاصية التناقض التي تتسم بها ظاهرة العولمة في إحدى جوانبها سيما ظاهرة علمية(6) التكنولوجيا وتكنولوجية(7) العلم، وهي الظواهر التي تنبئ بما سيكون عليه النشاط الإنساني طيلة القرن الحادي والعشرين اقتصادا واجتماعا وطبيعة معرفة.
ما يميز ظاهرة العولمة، فضلا عن كل هذا، أنها لم تمأسس فقط لقطيعة في التوجهات السابقة لها (انفتاح وتداخل الاقتصاديات عبر تطور المبادلات وظهور أقطاب اقتصادية جديدة كالدول الآسيوية، وكذلك زيادة وتيرة الاستثمارات الدولية وما إلى ذلك)، بقدر ما ساهمت في تعميقها وإثراء محتوياتها.
وهذا الإثراء تمثل أساسا لا في كون ظاهرة العولمة قد مست جميع مراحل العملية الإنتاجية بما في ذلك عملية البحث والتطوير(8)، وتزامنت وظهور أشكال جديدة لتنظيم الأسواق (التحالفات بين المؤسسات قصد امتلاك التكنولوجيا الجديدة والتقسيم السريع والممنهج للمعرفة وكذا تنظيم قطاعات صناعية جديدة…الخ)، ولكن بالخصوص في تأثيرها على مكانة ودور بعض المؤسسات الرسمية كمؤسسة الدولة/الأمة(9)، حيث تزايد نسبية السياسات الاقتصادية الوطنية، وكذا مؤسسة البحث العلمي حيث مكنت العولمة من تعميق العلاقات بين المؤسسات الإنتاجية الوطنية والدولية وبين مؤسسات إنتاج المعرفة ومحيطها الاقتصادي وما إلى ذلك.
لو كان لنا أن ننبش في المحددات الكامنة وراء بروز ظاهرة العولمة وتكريسها التدريجي كواقع حال قائم لكان لنا أن نقف بداية عند مستويين:
+ المستوى الأول ويتعلق بالعوامل المرتبطة جوهريا بالطلب. ومعنى هذا أن الطلب لم يعد محصورا في الزمان والمكان بقدر ما بدأ يخضع هو الآخر لظاهرة العولمة. فالأسواق، يقول بتريلا، بدورها ” تتعولم، بمعنى أنها تتسم بميزات متشابهة كيف ما كان البلد. لكن تدويل الأسواق لا يعني توحيد الطلب سيما وأن عدم الاستقرار النقدي والمالي وكذا الحواجز الجمركية يحول دون الحديث عن سوق عالمي موحد”.
والمعنى من ذلك أن عولمة الأسواق إنما تنتج على المدى الطويل وفق مجموعة من التوجهات أهمها الميل النسبي باتجاه توحيد الطلب والعلاقة المتزايدة بين بيع السلعة وتوفير الخدمة وكذا الأهمية القصوى للمعايير والمقاييس.
وعلى الرغم من ذلك فإن ظاهرة عولمة الأسواق (أو عولمة الطلب) تجد جزءا من محدوديتها في أمرين اثنين على الأقل:
°- الأمر الأول ويرتبط أساسا بصمود مفهوم الأسواق الوطنية والطلب الوطني على الرغم من “طغيان” العالمي.
°- والأمر الثاني ويتمثل في واقع التجزئة الذي ما زال يعيشه الاقتصاد الدولي بحكم عدم الاستقرار القطري واستمرار الحواجز الجمركية وتزايد النعرات الحمائية وما إلى ذلك.
وهما أمران لا تنفيهما العولمة ولا تعمل على نفيهما مادام أن هذه الأخيرة ليست مرادفا لنهاية الأسواق الوطنية ولكن أخذ هذه الأسواق بعين الاعتبار من طرف مؤسسات تعمل انطلاقا من قواعد عالمية ولأسواق تتعولم تدريجيا.
+ المستوى الثاني ويحيل مبدئيا على مستوى العرض وبالتحديد على مسألتين: مسألة البحث والتطوير ومسألة تنظيم المؤسسات الإنتاجية.
فالعولمة لم تزد المؤسسات الإنتاجية إلا تشبتا بالبحث والتطوير سيما وأن الابتكار أضحى إحدى سبل تنافسية هذه المؤسسات وإحدى أسرار تميزها وإشعاعها.
ليس من المفارقة في شيء إذن إذا كانت ميزانيات البحث والتطوير غالبا ما لا تتأثر بظروف وملابسات الأزمة، إذ تثبت الإحصائيات أن وجود الأزمة أو غيابها لا يؤثر كثيرا (ولربما يؤثر بطريقة إيجابية) على مجهودات البحث والتطوير.
ثم أن مد العولمة أثر وبجدية على أساليب وطرق تنظيم المؤسسات، بمعنى أن التنافسية والربحية أصبحتا تكمنان تدريجيا في طرق التنظيم الداخلي وكذا في التحالفات والاندماجات والانصهارات التي تتم بين هذه المؤسسات. وهما أمران ساهما وبعمق في ظاهرة عولمة المؤسسات الإنتاجية وعولمة سلعها وخدماتها.
هذه المعطيات و”الملابسات” هي التي كانت، فيما نتصور، وراء بروز ومأسسة مفهوم وظاهرة العولمة، عولمة الاقتصاد الدولي. وقد مكنها من ذلك توفر أرضية لم تكن متوفرة زمن التدويل وتعدد الجنسية سيما انفراج العلاقات الدولية وتعدد قطبية الاقتصاد الدولي وكذا التطور المطرد لظاهرة “الاقتصاد اللامادي” بفضل التحولات التكنولوجية الضخمة التي عرفها العالم على امتداد السنوات العشرين الماضية (أنظر الجدول البياني التالي) سيما في ميدان الإعلام والاتصال وكذلك النقل والمواصلات.
ظاهرة العولمة
ظاهرة تعدد الجنسية
ظاهرة التدويل
مقاولات الثلاثي (الولايات المتحدة، اليابان، السوق الأوروبية).
دعم الدول لهذه المقاولات ومراكز إنتاج المعرفة كشركاء لهذه المقاولات.
مقاولات أمريكية وإنجليزية بالأساس
مقاولات الدول الغربية، الدول المتخلفة كدول مصدرة للمواد الأولية
الفاعلون
التقدم باتجاه عالم متعدد الأقطاب على مستوى الإنتاج وكذا الطلب.
الأهمية المتزايدة ل “اللامادة” من بحث وتطوير وتنظيم ومال.
وسائل اتصال متقدمة.
أهمية المنافسة على أساس الأسعار: تكلفة اليد العاملة واقتصاد السلم، تحرير المبادلات
أهمية توافر العوامل سيما بالنسبة لاستراتيجيات التصدير
العوامل المفسرة
كل مراحل الإنتاج. السلع والخدمات والتكنولوجيا
تبادل المواد الأولية، تبادل وإنتاج السلع بالخارج
تبادل المواد الأولية والسلع
الهدف
التصدير، تأسيس الفروع، اتفاقات بين المؤسسات وبينها وبين لجامعات.
تصدير، تأسيس الفروع
التصدير
الأشكال
أشكال جديدة لتنظيم السوق. الاحتكار هو القاعدة، المنافسة الحرة ليست هي المرجعية.
أشكال جديدة لتنظيم المؤسسات وعلاقات جديدة مع الدولة في مرحلة التوسع الجغرافي.
تداخل ماكرو-اقتصادي، محتكرون محددون في بعض القطاعات
تداخل ماكرو-اقتصادي
النتائج
اا- عن دور تكنولوجيا الإعلام والاتصال في عولمة الاقتصاد
أن نتحدث عن عولمة الاقتصاديات الوطنية (المتقدمة منها على وجه التحديد) أمر، وأن نتحدث عن عولمة قطاعات محددة من هذه الاقتصاديات أمر ثان. والمقصود هو أن ربط تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال بظاهرة العولمة إنما يجب أن يتم عبر مسألتين نعتبرهما متلازمتين:
+ المسألة الأولى وتتعلق بكون تكنولوجيا الإعلام والاتصال (من معلوماتية واتصالات وسمعي- بصري) لم تحدد لمسار العولمة بقدر ما مهدت لها الطريق ويسرت لها السبل.
+ والمسألة الثانية وترتبط بكون هذه التكنولوجيا لم تسلم هي نفسها من ظاهرة العولمة، كما لم تسلم من ذي قبل وإن بمستويات أخف، من ظاهرتي التدويل وتعدد الجنسية.
من الثابت إذن، على الأقل من الناحية الكرونولوجية لتتابع الأحداث، أن مرحلة عولمة الاقتصاديات والمؤسسات الإنتاجية قد تزامنت ومرحلة عولمة الإعلام والاتصال والرموز وكذا للمؤسسات المنتجة والمروجة لها، سيما مؤسسات الإعلاميات والاتصالات وتقنيات ومحتويات السمعي-البصري. إذ أن ” تراسل المعطيات بسرعة الضوء (300000 كيلومتر في الساعة) ورقمنة النصوص والصوت والصورة، والالتجاء لأقمار الاتصالات وثورة الهاتف وتعميم المعلوميات في قطاعات إنتاج السلع والخدمات وتصغير الحواسيب وربطها داخل شبكة كوكبية، قد مكنت من خلق انقلاب ضخم وشامل في نظام العالم”(10).
وعلى أساس كل هذا لم يتردد البعض في وصف اقتصاد نهاية هذا القرن واقتصاد القرن المقبل باقتصاد الرموز على اعتبار أن المعطى التكنولوجي المركزي الذي مكنته وسائل الإعلام والاتصال يتمحور حول اللامادية والسرعة والآنية والشمولية وما إلى ذلك.
فالمؤسسات المالية الكبرى مثلا تتناقل وتتبادل، على مدى أربعة وعشرين ساعة متصلة، معطيات من كل نقطة من نقط الأرض، في الوقت الذي تعمل فيه كبريات بورصات العالم عبر شبكات تربط بعضها البعض… مؤسسة بذلك لما بدأ يصطلح عليه بالشمولية أو بالشوملة(11).
ما يصدق على المؤسسات المالية حيث تنتقل، عبر الكوابل والأقمار الصناعية، مئات ملايير الدولارات في هنيهات من الزمن، يصدق بالتأكيد أيضا على مؤسسات أخرى غيرها كشركات النقل الجوي مثلا، إذ نلاحظ أن شركة طيران كبرى كالخطوط الجوية السويسرية قد نقلت نظام محاسبتها ومصالح حجوزاتها إلى الهند.
نفس الشيء بالنسبة لشركة سيمنس الألمانية التي نقلت إلى الفليبين نظامها للمحافظة المعلوماتية(12)، فيما يعمل المجلس الوطني الفرنسي للأعيان على طبع نصوصه وترقينها بدولة ساحل العاج وهكذا.
وقصد القول هو أن السلطة (في ظل العولمة) لم تعد تكمن في امتلاك الأدوات المادية من أرض وموارد طبيعية وآلات وغيرها، بقدر ما أصبحت تتمحور تدريجيا حول التحكم في الأدوات اللامادية من بحث علمي وتحكم في التكنولوجيا العالية، في الإعلام والاتصال والمال لدرجة بدأ الحديث يتركز على مجتمع الإعلام والاتصال والمعرفة أكثر ما يتركز على المجتمع الإنتاجي المادي المقدم في كونه تقليديا.
ولعل إحدى أبرز العلامات على الميل المضطرد باتجاه الاقتصاد اللامادي بروز شركات كبرى للإعلام والاتصال وتوسع نشاطها على المستوى الكوني. إذ من بين 20 مؤسسة صناعية كبرى نجد ستة منها متخصصة في الإلكترونيات الدقيقة وفي المعلوماتية في حين لم يكن لمثل هذه الشركات أثر يذكر قبل عشرين سنة مضت.
يقول ريكاردو بتريلا في هذا السياق، إن “عولمة رأس المال قد سرعت من وتيرة الاستثمارات والقطاع الإنتاجي موازاة وتداخل التيارات التجارية عبر الجهات العالمية الكبرى. وقد مكن هذا التداخل بدوره، عبر التنمية الخارجية، من تحفيز عولمة المؤسسات والاستراتيجيات والأسواق: استثمارات مباشرة بالخارج، نقل الصناعات، تحالفات، امتصاصات …الخ. وهكذا فكل مجموعة صناعية ومالية مهمة تتبع استراتيجية في كل جهات العالم وخصوصا بأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وشرق وكذا جنوب شرق آسيا”(13).
ف “90 بالمائة من ال 37000 شركة متعددة الجنسيات وال 206000 فرع خارجي تابع لها هي ملك هذا العالم الأول”، والمائة القوية منها تمارس نفوذا ضخما داخل دولها: قدرات استثمارية، هيمنة تكنولوجية وامتلاك البراءات في القطاعات العالية الدقة…الخ.
من الطبيعي إذن أن نقاسم ريكاردو بتريلا الرأي بأن الغزاة الجدد (وهم صانعو العولمة دون منازع) هم أشخاص معنويون (أو عاديون حتى) ذوو قدرات مالية هائلة يتصرفون بفضلها في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية، يحددون القيم والرهانات والأولويات و” يفبركوا” على مزاجهم قواعد اللعبة على المستوى العالمي: “أسياد العالم هم اليوم قلة تتمثل في بضعة مئات أشخاص، رؤساء وأعضاء لجن تسيير لمؤسسات قليلة العدد تعمل في ميادين الإلكترونيات والمعلوماتية والاتصالات والبرامج والسمعي-البصري والصحافة والنشر والتوزيع. ربعهم متمركز في أوروبا، ومثيل له في آسيا والباقي في أمريكا…الخ”.
وعلى اعتبار التحالفات الاستراتيجية التي يبرمونها فيما بينهم والاندغامات التي يخضعون لها فإن عشرة شبكات عالمية متداخلة وضخمة فقط هي التي تسير الاقتصاد وترسم معالمه المستقبلية على خلفية أنه قليلة اليوم هي الشركات التي تستطيع لوحدها فرض منطقها وسلطانها على السوق العالمي، بالتالي فمفهوم القطب ذاته لم يعد ذو قوة تفسيرية ذات بال إذ انصرف عنه لصالح مصطلح شبكات التحالفات المتعددة الأقطاب(14).
لم يعد السوق العالمي إذن في ظل ظاهرة العولمة مجرد فضاء مادي تتم من خلاله العمليات التجارية والمالية كما عهدناه في مرحلتي التدويل وتعدد الجنسية، بل أضحى ملتقى إعلاميا كوكبيا يتم في إطاره تبادل المعطيات والتحكيمات المالية على حساب الاقتصاد الواقعي أو المادي(15)، وخرجت من صلبه مافيات نشيطة ذات خبرة واسعة في مجال المضاربات المالية والعقارية واندحرت داخله مفاهيم المنافسة الحرة وقيم الشفافية لصالح الممارسات الاحتكارية وثقافة الارتشاء والتهرب من الضرائب وتبييض مال المخدرات…الخ.
هذه العولمة، التي صنعتها وكرستها وسايرتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال (من بين عوامل أخرى)، لم تسحب السجاد من تحت أقدام مفاهيم القومية (بمعنى القطرية) والسوق الوطني والحدود الجغرافية فحسب، بل سحبته أيضا من تحت أقدام الدولة (أو الدولة/ الأمة) بتشريعاتها ومعاييرها ونظم تسييرها، فتحولت الدولة إلى مجرد متفرج على قرارات تتخذ داخلها من طرف شبكات المال والأعمال العالمية النشاط، فأفرغت بذلك من دورها كفاعل رئيسي في عملية تحديد السياسة الاقتصادية وحتى من سلطتها الجبائية على الموارد “العابرة” لكيانها الجغرافي.
وقد زادت من تعميق أزمة الدولة سياسات الخوصصة واللاتقنين ومناهضة التشريعات التي من شأنها أن تحول دون التنقل الحر للموارد ودون “احترام” المبادئ “المقدسة” لليبرالية الجديدة.
هذه العولمة خلقت إذن “مجتمع شبكات عالمي”(16) لا ” قرية كوكبية”(17) كما تنبأ بذلك ماك لوهان، إذ لا يعدو الأمر كونه “نقلا للسلطات القطرية لا لصالح مؤسسات فوق- قطرية ولكن لقوى خاصة ذات مصالح عالمية آنية ستدخل لا محالة في صراع مع ضرورات تنمية مستديمة، موزعة توزيعا عادلا، مقررة ديموقراطيا ومقبولة إيكولوجيا…”.
فعوض أن تخلق قرية كوكبية ” تعمل الشركات العملاقة على نسج شبكات للإنتاج والاستهلاك والترويج المالي لا يستفيد منها إلا أقلية من سكان المعمور في حين تهمش الأغلبية وتقصى وقد تتضرر من هذه الشبكات…”(18).