تجربة الصين … دروس وعبر
مدخل…..ان التجربة التنموية الصينية تعد من اكبر وانجح التجارب التنموية في العالم وذلك للظروف الصعبة التي واجهت هذه التجربة وفي مقدمتها كبر حجم السكان وقلة الموارد قياساً بالسكان ، لذا فان التعرف على اساسيات هذه التجربة يجعلنا نقف على الدرب السليم عند القيام بالتخطيط لاي عملية تنمية .
الوضع العام في الصين قبل التنمية …
في القرن التاسع عشر كانت الصين امبراطورية تعيش منغلقة على نفسها الى حد كبير وفي هذا القرن كثرت الحروب ، وانشرت الثورة الصناعية بشكل كبير، فبدات حرب الافيون بين الصين وبريطانيا عام (1842) وانتهت بسيطرة بريطانيا على هونك كونك ، ثم بدأ التخلي عن تايوان لليابان عام (1895) ، وحصلت روسيا والمانيا على امتيازات خطوط الحديد فيها ، وكان لهذه الاوضاع ردود فعل عميقة في البلاد وانتشار روح الثورة ضد الحكم القائم الضعيف ، وانتهت بثورة عام (1911) وقيام الجمهورية عام (1921) ، التي انهت الحكم الضعيف في الصين .
وفي العشرينات بدأ هناك جناحين الاول يرى ان النموذج الشيوعي لايناسب الصين واوضاعها العامـة ، والثاني يميل الى النموذج السوفيتي الشيوعي ويرى انه الضمان لتحقيق التغيير الايجابي . وفي عام (1925) اشتد الخلاف داخل الحكم وحسم الامر عام (1927) باخراج الشيوعيين من الحكم واضطرو الى الذهاب الى الريف الذي كان بعيد عن سلطة الدولة وكونوا هناك نفوذ قوي بقيادة قائد الحزب (ماوتسي تونغ) ثم نشبت الحرب الاهلية في نهاية الاربعينيات واستمرت عامين وانتهت الحرب بسيطرة الجيش الاحمر وهو تنظيم للحزب الشيوعي على السلطة عام (1949) .
اجراأت ما قبل التنمية …
كانت الخطوات الاولى للقيام بتنمية شاملة هي القيام بعدة اجراأت منها :(الغاء الامتيازات الاجنبية – تأمين التجارة الخارجية – تحديد حدود دنيا للاجور ترتبط هذه الحدود باسعار الارز (سلعة الغذاء الرئيسية) – تطبيق نظام البطاقات التموينية لاستهلاك السلع الاساسية مع تحديد اسعارها – فرض نظام تراخيص العمل والاقامة في المدن – تأمين المشروعات الكبيرة ومصادرة الملكيات الكبيرة واملاك بعض الاجانب –ألغاء العملة السابقة – تنظيم الملكيات الزراعية الصغيرة والمتوسطة في شكل جمعيات تعاونية (تشبه هذه المرحلة الى حد كبير الاجراأت التي قامت في الاتحاد السوفيتي بعد الثورة) .
بداية الخطط التنموية … 1-
بدأت الخطة الخمسية الاولى بين (1953-1957) باعطاء وزن كبير للصناعة بمختلف مستويـاتها ، مع التاكيد على الزراعة واعادة تنظيم الجمعيات لضمان تقديمها لفائض اكبر لتمويل عملية التنمية ، أي ان (ماوتسي تونغ) كان يؤكد على الزراعة والصناعة معاً ، كما ان التوازن كان موجوداً بين الاستهلاك والتراكم وتوسيع نظام التعليم والقضاء على الامية . وقد نجحت الخطة نجاح كبير فارتفعت معدلات نمو الصاعة الى (20%) عما كان متوقعاً وارتفعت مستويات الصحة والتعليم بشكل واضح ، ومعدلات نمو الزراعة (41%) مما ضمن تحسناً ملحوظاً في مستوى التغذية ، وارتفع تراكم الدخل القومي الى (24%) ومعدلات الاستثمار المادي الى (71%) .2- ادت النتائج الايجابية للخطة الخمسية الاولى الى زيادة الثقة بامكان تحقيق انجازات اكبر ، فوضعت الخطة الخمسية الثانية (1958-1962) لتحقيق القفزة العظيمة الى امام ، والهدف هو مضاعفة الانتاج خلال سنة واحدة تحت شعار (بقدر ما يجسر الانسان بقدر ماتنتج الارض) وقد ركزت الخطة على الصناعة الثقيلة وتمويلها من خلال زيادة نسبة التراكم المقرر من الانتاج المحلي ومعنى ذلك زيادة الفائض المطلوب من الزراعة والصناعة الاستخراجية ، ولم تنجح القفزة في دفع الانتاج الصناعي الى المستويات المرجوة في الوقت الذي ضعف فيه دور الصناعات الصغيرة ، فقد شهدت الفترة مابين (1957-1960) النزاع ثم الفراق بين الصين والاتحاد السوفيتي ، وتعاقب ظروف مناخية مدمرة عصفت بالانتاج الزراعي ، وكان الفشل في الصناعة واستمر التنظيم الزراعي وفق الخطة .
3- وضعت الخطة الخمسية الثالثة بين (1963-1967) وسط مشاكل عديدة ، فقد ارهقت المواجهات الخارجية الامكانيات العامة وانخفضت انتاجية الصناعة عما كان مقدراً لها وظهر فتور في حماس العاملين لضعف الحوافز المادية ، وكانت قيادة الصين تشعر ان النظام فيها كان مستهـدف ، فمن حرب في كوريا الى اخرى مع الهند والى ثالثة لمواجهة القوى التي حاولت اعادة السيطرة على الهند الصينية ، وخوفاً من انتكاس الثورة قامت حركة سميت بـ(الثورة الثقافية) عام (1966) وكان هدف (ماو) من اثارة الثورة الثقافية تكتيل قوى الشبيبة بأعتبارها صاحبة المصلحة في التغيير وانها الوحيدة القادرة على دفع الصين الى امام وماجهة الاعداء دون اعتماد على أحد من الخارج ، وقد تبع التوجه الجديد تعديل اسلوب الخطة الثالثة ومدها حتى عام (1970) لكي توائم التغيرات الجديدة ، وكانت مشكلة الثورة الثقافية ليست في المسائـل التي طرحتها ولكن في العنف الذي شملها واتساع نطاق تطبيقها في المدن التي هي المراكز الحساسة للتغير الاجتماعي مهما قيل عن الريف وطاقاته ، وقد واكب الثورة الثقافية تغيير مادي واضح من مضاعفة نصيب الصناعة الثقيلة التي اصبحت قاعدة التطور الصناعي ، وزيادة انتاج الصناعات الخفيفة والمحلية التي مكنت من تغطية نسبة هامة من احتياجات الاقاليم وكانت انتاجيتها مرتفعة الى حد جعلت الصين مكتفية ذاتياً في اغلب السلع الغذائية ويتمتع المواطنون بمستوى تغذية اعلى بكثير عما كانوا يحصلون عليه .
كما كان لها الاثرفي بروز القيم الصينية التقليدية مثل العمل باجتهاد في سبيل المصلحة الذاتية وطغيانها على بعض قيم الحزب الشيوعي ، ومن ثم عادت الاسرة لتكون الوحدة الاهم في الريف الصيني ، وبعدان كان الصيني في الماضي يخدم الشعب اصبح يخدم الاسرة ونفسه .
4- خفت حدة الثورة الثقافية عند وضع الخطة الخمسية الرابعة وفي ظل الانفراج الدولي أزاء الصين وخروجها من عزلتها وانضمامها الى الامم المتحدة ، واستمرت الخطة في سياسة الاعتماد على الذات وزيادة الاستثمار المخصص للصناعة مع استمرار الجهود الاجتماعية للقضاء على الامية وتوسيع فرص التعليم وتحسين المستوى الصحي والمعاشي للمواطنين ، اما الانتاج الزراعي فقد قفز الى ما قيمته (223) مليون دولار في السنة ، أي بمعدل (600%) عما كان عليه عام (1949) ، وقد احتلت الصين بعد هذه الخطة المركز الثالث في العالم بعد روسيا وامريكا من حيث حجم الانتاج الصناعي وتنوعه .
5- اما الخطة الخمسية الخامسة (1976-1980) والتي توفي فيها (ماو) خلال السنة الاولى بدأت سياسة اصلاح جديدة ترى ان العبرة هي في ثبات الخطوات ومواجهة الواقع وليس في القفز فـوقه ، كما وجهت الدعوى الى تحديث الصناعة واعطاء البحث العلمي والتقدم التكنلوجي دوراً اكبر تحت رعاية الدولة واعادة النظر في المشروعات وتقويمها على اساس ادائها وحسن انتاجها وليس على اساس حجم هذا الانتاج بغض النظر عن نوعيته وهي المشكلة التي واجهت الدولة الاشتراكية في المراحل الاولى لعملها . وبعد رحيل (ماو) ضعفت الايدلوجية الاشتراكية وعادت الوطنية الصينية الى البروز ومعها فكرة (انـ الصـين مـركز العـالم) .
ظهور بعض مظاهر التغيير…
أ?- في محاولة لارجاع (شنغهاي) لسابق عهدها كمركز تجاري وصناعي دولي ، اقيمت في الثمانينات (14) شركة امريكية – صينية مشتركة في مجالات (الاجهزة الكهربائية – المعدات النفطية – العطور – …الخ) اضافة الى مجموعة شركات مشتركة مع اليابان وهولندا وألمانيا .
ب?- أنشاء عدد من المشاريع الخاصة ، ففي عام (1984) كان هناك (9,3) مليون مشروع متوزعة بين النقل والبناء وصناعة الاحذية والخدمات . وقد خلف هذا طبقة برجوازية صغيرة في الصين .
ج?- انشاء مناطق حرة في عدة اقاليم على الساحل الصيني الجنوبي الشرقي لجلب رؤوس الاموال الاجنبية .
د- بدأت الصين تستجيب الى كتابات الغرب الرأسمالي حول ضرورة تحديد النسل لايجاد نوع من التوازن بين السكان والموارد ، وقد قررت فرض نوع من العقوبات على من ينجب اكثر من طفل واحد ، مما ادى الى عودة ظاهرة ( وأد البنات) في الريف التي اختفت عند قيام الثورة .
مؤشرات النجاح بالارقام حتى منتصف الثمانينات ….
1- ارتفع الدخل الصناعي بعد الخطة الاولى (128%) عما كان عليه في السابق .
2- يقدر انتاج الصين من مادة الارز بـ أكثر من (38%) من انتاج العالم .
3- ارتفع انتاجها من القمح من (30) مليون طن عام (1970) الى (41) مليون طن عام (1975) واحتلت المرتبة الثالثة في العالم بعد روسيا وامريكا ، وكان نصيب الفرد من القمح (394كغم) .
4- ارتفعت نسبة الادخار الى (40%) وهي اعلى نسبة في العالم ، حتى اعلى من اليابان .
5- ارتفع معدل الدخل القومي للفرد الصيني الى (4,7%) خلال (33) سنة من عام (1952- 1985) على الرغم من زيادة السكان (400) مليون نسمة ، وهو من اعلى المعدلات في العالم .
6- ارتفع معدل العمر من (48) سنة عام (1949) الى قرابة السبعين في نهاية السبعينات وانخفض معدل الوفيات الى حوالي (6) بالالف .
اسباب نجاح التجربة الصينية …
1- التعاون بين الدولة والقاعدة العريضة من الجماهير ، وبخاصة الفلاحين الذين يشكلون الجزء الاعظم من السكان ، كما ان بداية الثورة كانت في الريف الذي انطلق منه الحزب الشيوعي .
2- اصلاح الزراعة وهي القطاع الرئيسي في الصين من خلال القضاء على الاقطاع وتوزيع الاراضي وتكوين الجمعيات الفلاحية ونجاح الاستثمارات الزراعية وقيام بعض الصناعات في الريف وبالتالي لم ينعكس سلباً على العمالة الريفية ( واصبح الفلاح احد اهداف التنمـية ، بعد ان كان ضحية في تجارب دولية اخرى) .
3- نجاح الثورة الثقافية الى حد ما في تطوير ابناء الصين بكافة فئاتهم ونشر القيم الاشتراكيـة .
4- كفاءة الجهاز التخطيطي كان له الدور الفاعل في تعبئة الطاقات والموارد وموازنتها بشكل دقيق بحيث حققت اشباع هذا الكم الهائل من السكان والقيام بالتصدير وتحقيق مكانة متقدمة بين الدول الصناعية .
5- القيم والعوامل الاجتماعية كان لها الاثر البالغ في نجاح خطط التنمية مثل تحديد الاستهـلاك – الادخار – تحديد النسل – احترام العمل وتقديسه – التعاون .
6- الاستفادة من الاخطاء السابقة في الخطط الخمسية وتجنب الاخطاء التي وقعت بها الاشتراكية وتطبيقاتها في روسيا .
7- انخفاض معدل الضرائب الى ادنى مستوى مما ساهم في تخفيف العبىء على المواطنين (الفلاحين بالذات) .
8- الموازنة بين قطاعات التنمية والسير في تطويرها بمسارات متقاربة .
9- استقلالية النظام السياسي في الصين وعدم تبعيته بالرغم من المساعدات الهائلة التي قدمها الاتحاد السوفيتي ، الا انها انتهت بعد فتور العلاقة بينهما عام (1960) .
العبرة من التجربة التنموية الصينية …
ان اهم درس يؤخذ من هذه التجربة الكبيرة هو امكانية قيام التنمية اذا ما توفرت الارادة لذلك واذا ما توفرت القيادة التي تعتمد التخطيط السليم وتحقق التعاون مع الشعب فلن يقف حجم السكان الهائل عائق امام التنمية ، بل العكس فقد تم استغلاله بشكل جيد بحيث قفزت الصين الى مصاف الدول المتقدمة خلال فترة قصيرة ، وفي هذا درس مهم جداً لكل الدول النامية ذات الموارد المحدودة وحجم السكان الكبير في ان يستفادوا من هذه التجربة العظيمة ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ضرورة الاستقلال السياسي والغاء التبعية التي كانت العامل الاساسي في نهضة الصين ونهضة أي دولة تحاول القيام بالتنمية الناجحة .
المصادر :
.
2. دولت احمد صادق وآخرون ، جغرافية العالم ، القاهرة ، مكتبة الانجلو المصرية ، الجزء الاول ، 1976 .
3. عبد المنعم الحسني وعادل شكارة ، التخطيط الاجتماعي ، بغداد ، دار الحكمة للطباعة والنشر ، 1992 .
4. غالب محمود عريبات ، تخلف العرب والعالم الثالث ، عمان ، المطبعة الاردنية ، 1989 .
5. ميدال لبلاش ، اصول الجغرافية البشرية ، ترجمة شاكر خصباك ، بغداد ، دار المأمون ، 1987 .
6. نهوض الصين ، مجلة المنتدى ، عمان ، منتدى الفكر العربي ، العدد (133) ، 1996 .
7. وقائع وبحوث ندوة (التنمية المستقلة في الوطن العربي ) ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1987 .
8. يوان شانغ ، الاصلاح البنيوي والتنمية الاقتصادية في الصين ، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية ، اليونسكو ، العدد (120) ، 1989 .
التصنيفات