التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

الاشتراكية socialism


تمثل الاشتراكية socialism عند عدد من المفكرين مجموعة متكاملة من الأفكار والمناهج والوسائل السياسية والاجتماعية التي تشترك، بصرف النظر عن الاختلاف في التفاصيل، في رفض المجتمع الاستغلالي، وتؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتقدم الحتمي للمجتمعات، مؤكدة إرادتها في إقامة مجتمع أكثر عدلاً وكفاية وفي تحقيق المساواة الفعلية بين جميع الناس وجميع الأمم.
وتستخدم كلمة الاشتراكية مجموعات سياسية متباينة تختلف فيما بينها حول أسلوب تطبيق الاشتراكية، فالاشتراكية الخيالية أو الطوباوية utopic، التي سادت أفكارها في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر رداً على ما جلبته الثورة الصناعية ونمط الإنتاج الرأسمالي من بؤس وظلم واستغلال، نادت بالقضاء على النظام الرأسمالي وبالتحول السلمي التدريجي إلى النظام الاشتراكي. وحلم الاشتراكيون الطوباويون بمستقبل يتم فيه بناء مجتمع تتعايش فيه مصالح الرأسماليين والعمال بطريق الإقناع.
أما الاشتراكية الديمقراطية التي تمثل تياراً في الحركة العمالية المعاصرة ونوعاً من الاشتراكية الإصلاحية، فتقر باتباع الطرائق السلمية والتدريجية للتحول، وتفهم الاشتراكية على أنها مقولة أخلاقية أدبية.
وأما الاشتراكية الشعبية populism وهي نوع من الاشتراكية الطوباوية البرجوازية الصغيرة التي ظهرت في روسية القيصرية، فإنها تمزج بين أفكار الديمقراطية الزراعية الفلاحية والأحلام الاشتراكية والأمل في تجنب الرأسمالية. في حين تؤكد الاشتراكية العلمية مبادئ إلغاء استغلال الإنسان للإنسان، والتطور المخطط للمجتمع من أجل تحسين الوضع المعاشي والحياتي للجماهير الشعبية بما يتفق عموماً مع تحسين وضع كل فرد في المجتمع. وتعد الاشتراكية العلمية نظرية في إثبات الحتمية والضرورة التاريخية للاشتراكية وقانونية تحولها التدريجي إلى الشيوعية.
ومن وجهة النظر الماركسية، تمثل الاشتراكية المرحلة الأولى للشيوعية، وأساسُها الاقتصادي الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، وقاعدتها السياسية الجماهير الكادحة بقيادة الطبقة العاملة.
بذور الفكر الاشتراكي
عرفت بذور الفكر الاشتراكي منذ العصور القديمة وتعد جمهورية أفلاطون المثالية المبنية أساساً على النخبة المتميّزة الموهوبة من الناس جمهورية اشتراكية أرستقراطية. كما جاءت الديانتان السماويتان المسيحية والإسلام بمجموعة مبادئ تعد من صميم الفكر الاشتراكي. كذلك عرف العالم حركات تمثل رفضاً للواقع، ومحاولة لبناء مجتمع جديد يقوم على أساس العدالة والمساواة مثل ثورات العبيد في رومة وثورات الزنج والقرامطة في العصر العباسي، وحركات الفلاحين في الوطن العربي وسواه.
عرفت العصور الوسطى عدداً من رجال الدولة ورجال الدين من حملة المبادئ الاشتراكية والإصلاحية مثل «أبي ذر الغفاري» الصحابي المشهور و«توما الإكويني» و«توماس مور» المفكر الإنكليزي الإنساني النزعة و«كامبانيلا» الذي نادى ببناء مجتمع لا يعرف الاستغلال وسلطة المال، وغيرهم.
ورداً على فعل المظالم والتفاوت الطبقي الذي ولده نشوء الرأسمالية في أوربة طرح عدد من المفكرين الأوربيين مبادئ تهدف إلى نبذ الرأسمالية وإقامة اشتراكية بديلة تستند على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج. وقد انتقد هؤلاء تناقضات المجتمع البرجوازي وانعكاساته السلبية على الطبقات المقهورة من السكان. ويأتي في مقدمة هؤلاء المفكرين الذين وصفوا «بالاشتراكيين الطوباويين» سان سيمون، وشارل فورييه الفرنسيان، وروبرت أوين الإنكليزي. وكان هؤلاء يعتقدون أن بالإمكان إقامة مجتمع اشتراكي جديد بإقناع الطبقات الحاكمة بضرورة الاشتراكية من خلال تطوير «الطبيعة البشرية» وإقامة الجمعيات التعاونية. ومع أن الاشتراكيين الطوباويين استطاعوا التنبؤ ببعض ملامح النظام الاشتراكي المستقبلي فإنهم لم يكونوا قادرين على ربط نظرياتهم بنضال الطبقة العاملة من أجل إقامة المجتمع الاشتراكي والقضاء على أسلوب الإنتاج الرأسمالي.
والحقيقة أن أفكار الاشتراكية الطوباوية جاءت رداً على تناقضات الرأسمالية وقدمت نقداً مصيباً لها، كما حملت بعض المبادئ التي أسهمت في بناء النظرية الاشتراكية إلاّ أنها لم تستطع أن تجعل من الاشتراكية نظرية علمية تتبناها الطبقة العاملة، وتتسلح بها في صراعها مع البرجوازية واستغلالها، في حين استطاع ماركس وأنغلز[ر] تحويل الاشتراكية من مذهب طوباوي إلى علم، ووضعا الأسس العلمية للاشتراكية، واستطاعا صوغ القوانين الرئيسية لتطور الاشتراكية في ضوء النظرية المادية الديالكتية والمادية التاريخية وفسرا على أساس اقتصادي الطابع العابر أو العرضي للرأسمالية ودور الطبقة العاملة التاريخي والعالمي.
بذور الفكر الاشتراكي عند العرب: حفل التاريخ العربي منذ الجاهلية بعدد من الاتجاهات والمذاهب ذات الطابع الثوري التقدمي، وتجسد بعضها في حركات تناهض الظلم والاستعباد. فظاهرة الصعلكة في العصر الجاهلي لم تكن سوى نتيجة مباشرة للتمايز الاقتصادي والاجتماعي، وكان صعاليك العرب فئة من الفقراء الذين انسلخوا عن قبائلهم، وأشهروا السلاح في وجه الأثرياء من قومهم، وناضلوا من أجل مجتمع تسوده المساواة وعلاقات الإخاء والتضامن بين الناس، في وقت كان فيه مجتمع الجزيرة العربية يتطور باتجاه الملكية الخاصة وعلاقات الاستغلال.
وفي صدر الإسلام عاش أبو ذر الغفاري مدافعاً عن مبادئ الإسلام الحنيف في المساواة والعدالة ورفض النظام الاجتماعي الجديد الذي أوجد طبقة من الأثرياء وأتاح لهم أن يكتنزوا الذهب والفضة ويستكثروا من المال من غير حد.
وفي العصر العباسي كانت دولة القرامطة أول تجربة اشتراكية على الأرض العربية في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). والقرامطة فرقة كانت تؤلف الجناح الأكثر ثورية في الإسماعيلية[ر]، وانخرطت في صفوفها فئات مختلفة من سواد الناس ومثقفيهم. وقد سعى القرامطة للقضاء على الدولة العباسية وعلى نظامها الاجتماعي الإقطاعي. وتلخصت أهدافهم في النضال من أجل تأسيس مجتمع يقوم على قواعد المساواة والعدل والشورى، مجتمع لا طبقي تنتفي فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الأساسية، وتسوده علاقات التعاون بين الجميع. كذلك ساوى القرامطة بين المرأة والرجل في الحقوق الأسرية وفي المجتمع.
ويعد ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي رائداً في مجال المادية التاريخية. وقد درس ابن خلدون تاريخ المغرب العربي على ما فيه من تناقضات ووصل إلى استخلاص العلاقة بين الأحداث والقوانين التي تحدد سير التاريخ، مبيناً أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين على درجة من الثبات والدوام، وأن هذه القوانين مرتبطة أساساً بالتطور الاقتصادي.
ماركس والاشتراكية الديمقراطية: قدم المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس الكثير من الأفكار القيّمة التي رفدت الفكر الماركسي الذي سيطر في أوربة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. فقد جمع كارل ماركس (1818-1883) بين الفلسفة الألمانية المثالية والاقتصاد السياسي البريطاني والاشتراكية الفرنسية. وفي «البيان الشيوعي» الذي تضمّن نظرياته حول جدلية تطور المجتمعات، ميّز ماركس نظريته من الاشتراكية العلمية واشتراكية الذين سبقوه ممن اسماهم بالاشتراكيين المثاليين. وأكد ماركس أن أفكاره تستند إلى الفحص العلمي لحركة التاريخ وإلى تطور الرأسمالية ومنجزاتها في زمنه. ويقول ماركس في هذا السياق «إن التاريخ يصنعه صراع الطبقات، وإن صراع البروليتارية مع أرباب العمل الرأسماليين سيقود في النهاية إلى إقامة مجتمع اشتراكي يقرر فيه المنتجون مصيرهم المشترك والمتحرر من أي قيود اقتصادية أو اجتماعية. وعند ذاك يصل الصراع الطبقي إلى نهايته». وقد اتفق فرديناند لاسال Ferdinand Lassale مهندس الحركة العمالية في ألمانية مع ماركس على ضرورة التنظيم الطوعي الموحد للطبقة العاملة، إلا أنه خالف ماركس إذ دعا إلى أن تبادر الدولة إلى توفير الرأسمال اللازم لتأسيس التعاونيات الإنتاجية التي ستحرر العمال من التسلط الرأسمالي وكان ماركس يرى، على النقيض من لاسال، أن التماس ذلك من الدولة البرجوازية أمر خارج عن أي طرح.
وقد تأكد لماركس، الذي كان يؤيد في البداية الاشتراكية الديمقراطية، استحالة تحول الدول البرجوازية إلى أداة اشتراكية.
ومع أن زعماء الاشتراكية الديمقراطية الألمان كانوا يبدون ميلاً ظاهراً إلى التحدث حول نظريات ماركس الثورية، فقد كانوا، في واقع الأمر، ينساقون باطّراد إلى النشاط البرلماني، وكان منهم إدوارد بيرنشتاين (1850-1932) الذي أعلن أنه ليس على ألمانية أن تمر في تحولات ثورية عنيفة كي تحقق الأهداف الاشتراكية، وكان يأمل بتطوير الرأسمالية تدريجياً، وباستخدام البرلمان أداة ضغط لإجراء إصلاحات اشتراكية.
الماركسية في روسية قبل الثورة: كان ألكسندر ايفانوفيتش غيرتسن (1812-1870) يرى في الكومونات الفلاحية وليد المجتمع الاشتراكي في المستقبل ويعتقد أن الاشتراكية الروسية قد تتجاوز مرحلة الرأسمالية وتبني مجتمعاً تعاونياً قائماً على التقاليد الشعبية والفلاحية القديمة.
وخلافاً لغيرتسن كان غيورغي بليخانوف، الأب الروسي للماركسية الروسية، يرى أن الاشتراكية الروسية يجب أن تعتمد على شغيلة (بروليتارية) المصانع والمعامل، كما أن روسية لا تمثل حالة استثنائية، لأن الثورة الاشتراكية أوربية الصفة، ومكانة روسية فيها تتقرر بحركتها العمالية ذاتها.
هاجم بليخاتوف في عدد من مؤلفاته حركة الشعبيين الروس وبيّن أن ماركس أثبت الضرورة التاريخية والموضوعية للاشتراكية. كما أكد حتمية الثورة البرجوازية في روسية في إطار حركة التطور الصناعي، وقال إن الطبقة العاملة المنظمة ستدرك كيفية الاستفادة من الثورة البرجوازية، وكيفية دفع هذه الثورة إلى الأمام.
وبالمقابل أكد فلاديمير إيليتش لينين أهمية العمل العسكري للثورة. وأشار إلى ذلك في مؤلفه «ما العمل» الذي أتمه عام 1902، بقوله: إن الاشتراكية لن تتحقق إلا عندما ينجح ثوريون محترفون في تعبئة العمال والفلاحين وتقويتهم، وهي في حاجة إلى تنظيمات ثورية منضبطة لا تعرف المهادنة من أجل تعبئة الجماهير وتحريضها على العمل.
شارك أتباع لينين والماركسيون الروس الآخرون في المؤتمر الثاني لحزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الروسي الذي انعقد في لندن عام 1903.
وفي هذا المؤتمر أعلن مارتوف وجهة نظرٍ خالف فيها لينين، فقال: «إن حزب العمال ليس تنظيماً للثوريين المحترفين وحسب، بل يتكون منهم، ومن التجمع العام للعناصر القيادية والنشيطة من البروليتارية».
وعلى الرغم من التعاون الأولي بين الاتجاهات المختلفة في الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، فقد ازدادت التناقضات الفكرية والسياسية عمقاً وانبثق عن ذلك اتجاهان أساسيان. ضم الاتجاه الأول منهما الأقلية التي عارضت لينين فسُموا «المناشفة» (الأقلية) وفيهم بليخانوف وتروتسكي، اللذان وقفا إلى جانبه في البداية، ومعهما أكثر المثقفين ولاسيما اليهود منهم. وأما الاتجاه الثاني فضم الأغلبية المؤيدة للينين التي عرفت باسم البلاشفة (الأغلبية) وأكثرهم من أبناء الطبقة العاملة.
اللينينية تطور للماركسية: تعرّف اللينينية بأنها الماركسية في عصر الامبريالية وثورة البروليتارية، عصر انهيار الكولونيالية (الاستعمار) وانتصار حركات التحرر الوطني، عصر انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية وبناء المجتمع الشيوعي.
طور لينين العناصر الأساسية في الماركسية كالفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية، وهو الذي صاغ نظرية الامبريالية بوصفها أعلى مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية وآخرها، وأكد أن الإمبريالية في جوهرها رأسمالية احتكارية بل هي احتكار الدولة الرأسمالية، مبيناً السمات الأساسية لمرحلة الإمبريالية والتناقضات التي تكتنفها، توطئة لتكوّن الشروط المادية والاجتماعية والسياسية لانتصار الثورة الاشتراكية. واستنتج لينين أن قوة البروليتارية تكمن في تأثيرها في مجرى التاريخ وأنها أكبر بكثير من حجمها بالقياس إلى إجمالي عدد السكان.
كذلك طور لينين النظرية الماركسية حول الثورة الاشتراكية وفقاً لخصائص المرحلة التاريخية الراهنة، إذ أوضح ايضاحاً وافياً دور البروليتارية القيادي في الثورة، والأهمية الخاصة لتحالف الطبقة العاملة والطبقة الفلاحية الكادحة، مبيناً طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بين البروليتارية والشرائح الفلاحية المختلفة في المراحل المتعاقبة لهذه الثورة.
ومن جهة أخرى استطاع أن يستكمل نظرية تطور الثورة البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية مؤكداً العلاقات المتلازمة بين النضال من أجل الديمقراطية والنضال من أجل الاشتراكية. وفي محاولته شرح مفعول قانون التطور غير المتوازن للرأسمالية في مرحلة الامبريالية، توصل إلى استنتاج كانت له أهمية نظرية وسياسية، وهو احتمال، بل حتمية، انتصار الثورة الاشتراكية في دولة واحدة، أو في عدد من الدول الرأسمالية، مع إمكان انتصار الثورة بالطرق السلمية في ظروف خاصة معينة.
شرح لينين خاصية المسألة القومية من منطلق نضال طبقة البروليتارية، مؤكداً مبدأ المساواة الكاملة بين الدول، وحق الشعوب المستعمرة والمقهورة في تقرير مصيرها، وحقها في الدفاع عن مبادئ الأممية في إطار الحركات العمالية وتنظيمات البروليتارية. إنه حق نضال الكادحين المشترك من كل القوميات وفي كل البلدان من أجل التحرر الوطني والاجتماعي، ومن أجل تكوين اتحاد طوعي للشعوب. وقد بين لينين جوهر القوى المحركة والفاعلة في حركات التحرر الوطني في وجه الإمبريالية عدوها المشترك. كما أوضح أنه في أحوال خاصة معينة يمكن للبلدان المتخلفة الانتقال إلى الاشتراكية متجاوزة المرحلة الرأسمالية.
طور لينين نظرية متكاملة لمرحلة التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية محدداً قوانينها ونواظمها، مستنتجاً من تجربة «كومونة باريس» والثورات الروسية ما استطاع به تطوير نظرية ماركس وأنغلز حول ديكتاتورية البروليتارية، مبيناً الأهمية التاريخية لإقامة دولة المجالس (السوفييتات)، وهي دولة ديمقراطية من نوع جديد، لا تقاس بأي جمهورية برجوازية برلمانية. ويرى لينين أن التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية يمكن، ويجب،أن يتم بأساليب سياسية متنوعة، على أن جوهر هذه الأساليب جميعاً إنما هو ديكتاتورية البروليتارية، مؤكداً أن عنصرها الرئيسي ليس القوة، بل العمل على شد الفئات غير البروليتارية ولاسيما الفئات الفلاحية الكادحة، حول الطبقة العاملة، والنضال لبناء الاشتراكية وأن الشرط الأساسي لتحقيق ديكتاتورية البروليتارية يتمثل في قيادة الحزب الشيوعي.
لقد وضعت أعمال لينين النظرية والسياسية أسس مرحلة لينينية جديدة من مراحل تطور الماركسية ونضال الطبقة العاملة العالمية. ولعل الإسهام الرئيسي لأعمال لينين في تطوير الماركسية يكمن في تمييزه ما هو عام عالمي في الثورة الروسية مما هو خاص بروسية، وذلك من أجل الاستفادة من تجربة الثورة الروسية في حدود خصائصها العالمية وعدم الانسياق وراء تقليدها في خصائصها الروسية البحتة.
تطور الفكر الاشتراكي في أوربة الغربية
تمثل الاشتراكية الديمقراطية في أوربة الغربية مجموعة مبادئ سياسية تدافع عن تحول المجتمع سلمياً من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وتعتمد بالأساس على اشتراكية القرن التاسع عشر وعلى أعمال ماركس وأنغلز، وتتفق مع الاشتراكية العلمية في أساسها الإيديولوجي العام.
وقد نمت الحركة الاشتراكية الديمقراطية بجهود أوغست بيبل August Bebel الذي كان يعتقد أن تحقيق الاشتراكية يجب أن يتم بالوسائل الشرعية بعيداً عن استخدام القوة. كذلك يعود الفضل في نمو الاشتراكية الديمقراطية الألمانية أيضاً إلى المفكر والمنظر الألماني ادوارد بيرنشتاين E.Bernstein الذي تحدى بعض مقولات النظريات الماركسية «الأرثوذكسية» مثل حتمية انهيار الرأسمالية، مشيراً إلى أن الرأسمالية ذاتها تتغلب على الكثير من نقاط ضعفها، كظاهرة البطالة وفائض الإنتاج ومشكلة التوزيع التعسفي للثروة. ويرى بيرنشتاين أن نجاح الاشتراكية لا يعتمد على ثورة الطبقة العاملة رداً على البؤس والقهر الذي تعانيه من تسلط الرأسمالية، ولكنه يعتمد على إزالة البؤس ذاته. كما أن الطبقة العاملة تستطيع تحقيق الاشتراكية بانتخاب ممثلين عنها يؤمنون بالاشتراكية.
انتشرت أفكار الاشتراكية الديمقراطية عقب الحرب العالمية الثانية في معظم أنحاء أوربة الغربية. وكانت تدعو إلى التخلي عن الصراع الطبقي والمبادئ الماركسية الأخرى، وإلى ضرورة مشاركة كل فئات الشعب في قيادة السلطة السياسية والاقتصادية، وتكوين مجتمع يعمل فيه جميع الناس متساوين. ومع أن الحركات الديمقراطية الاشتراكية الغربية أيدت مبدأ رقابة الدولة على الاقتصاد، فإنها رفضت أسلوب التخطيط المركزي الشامل وتبنت مدخل السوق التنافسية الحرة. بحيث يتوافر أكبر قدر ممكن من المنافسة والقدر الضروري من التخطيط.
وكان لانتشار أفكار الاشتراكية الديمقراطية في أوربة الغربية أثر بالغ في تبني الكثير من الدول الأوربية الغربية إجراءات اقتصادية واجتماعية متعددة مثل تأميم بعض أجزاء الصناعة الثقيلة والمناجم والمؤسسات المالية، واعتماد إجراءات واسعة أخرى في نطاق الرقابة الحكومية على الاقتصاد، وتحقيق إصلاحات بنيوية في حقل الضمان الاجتماعي. وفي العقود الأخيرة تحولت حركات الاشتراكية الديمقراطية الغربية إلى حركات إصلاح تنادي ببناء مجتمع الرفاه أو اقتصاد الرفاه[ر].
الاشتراكية في أمريكة
لم يكن للاشتراكية في الولايات المتحدة الأمريكية تأثير أو صوت مسموع كما كان عليه الحال في أوربة. ففي عام 1901 تأسس الحزب الاشتراكي الأمريكي، ولم يتجاوز عدد أعضائه العشرة آلاف، ثم ازدادوا إلى 150ألفاً عام 1912. وقد استندت الأفكار الاشتراكية لهذا الحزب إلى تلك التي حملها إليه بعض المهاجرين الحديثين القادمين من أوربة، إضافة إلى بعض مبادئ الاشتراكية المثالية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وإلى قيم إلغاء العبودية في الولايات المتحدة، وأفكار بعض النقابيين والمصلحين الزراعيين، وبعض الفرق الاشتراكية المنعزلة كالحزب الاشتراكي العمالي، (وهو حزب سابق للحزب الاشتراكي الأمريكي، تألف عام 1877، ولم يصبح له تطلعات مميزة إلا ابتداء من عام 1890 عندما حاول بعض قادته إدخال أفكار ماركسية إلى الحركة العمالية التي كانت تتأثر كثيراً بالنقابية الفرنسية، إلا أنه بقي حزباً مغموراً). وقد استطاع الحزب الاشتراكي الأمريكي أن يبني قاعدة جماهيرية واسعة بجهود أحد قادته إيوجين دبس E.Debs على الرغم من ضعف الانسجام الفكري والسياسي بين أعضائه. فقد كان يضم في صفوفه عناصر من الإصلاحيين reformists والراديكاليين والماركسيين الثوريين والشعبيين populists. ولم يقدم هذا الحزب أي أفكار جديدة، بل تركز نشاطه على محاولة جعل صوته حول الاشتراكية مسموعاً في الولايات المتحدة. وقد انهار بعد الحرب العالمية الأولى.
الاشتراكية في إفريقية
ظهرت في القارة الإفريقية حديثاً صيغ متنوعة من الأفكار الاشتراكية ففي السنغال كان الرئيس ليوبولد سنغور يدافع عن الاشتراكية الإنسانية التي تستند جزئياً إلى الماركسية وفي غينية حاول الرئيس سيكوتوري مزج أفكار الماركسية اللينينية بالقيم الشعبية لإفريقية ما قبل الاستعمار، داعياً إلى أفرقة الماركسية. أما الرئيس نكروما في غانة فقد أعلن مبدأ التعقل أساساً لنظامه مؤكداً أن إجراءات التوتاليتارية (الكليانية) وحدها قادرة على ضمان الحرية. وقد سقط نظامه في عام 1966.
وفي كينية وتنزانية وعدد آخر من الدول الإفريقية كانت النخبة الحاكمة والمثقفة تترجح بين نوع أو آخر من الاشتراكية الإفريقية، في حين انصب التزامها الأساسي على عملية التحديث والتصنيع السريع.
وقد أكد كثير من الكتاب الاشتراكيين الأفارقة الحاجة إلى بناء اشتراكية تستند إلى القيم والعادات الإفريقية القديمة، وإلى مبادئ المساواة الاجتماعية والسياسية، وغير ذلك من المفاهيم والالتزامات التي كانت تسود المجتمعات القبلية الإفريقية.
ويكاد معظم المفكرين الأفارقة يجمعون على أن أكثر الأمور إلحاحاً لإفريقية، كان وما يزال، ضرورة النضال من أجل الانتقال من مجتمع الكفاف إلى اقتصاد السوق، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية والسكنية، وضبط الإدارة الحكومية.
الاشتراكية في آسيا
كانت عدة حكومات آسيوية تعد نفسها حكومات اشتراكية مثل الهند وبورمة وسيلان (سابقاً) وإندونيسية وسنغافورة. إلا أن الأحزاب الاشتراكية في هذه البلدان بدأت تفقد قوتها وتأثيرها. ففي الهند حيث تتنافس عدة تنظيمات اشتراكية، كان حزب المؤتمر حزباً وطنياً يحاول أن يوحد في صفوفه عدة اتجاهات سياسية واجتماعية. وفي بورمة كان الحزب الاشتراكي البورمي عضواً في تحالف يحكم البلاد، إلا أنه غدا حزباً ملاحقاً. وفيما عدا سنغافورة فإن بقية الأحزاب الاشتراكية في جنوب شرقي آسيا لم تستطع أن تقوم بدور ذي شأن بعد الحرب العالمية الثانية.
أما في فييتنام فكان الحزب الشيوعي وما يزال الحزب الحاكم، ولاسيما بعد توحيد شطري البلاد، كما أن غالبية الحركات الثورية في منطقة الهند الصينية تستوحي مبادئها من الإيديولوجية الماركسية، وتتحدى القوى التقليدية التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية وتشتبك في صراع معها إلى جانب جمهورية الصين الشعبية الدولة الاشتراكية العظمى في آسيا منذ عام 1949.
والواقع أن الأحزاب الاشتراكية في دول جنوب شرقي آسيا لم تستطع القيام بدور فعال من أجل الاستقلال، بل عجزت عن أن تكون لنفسها جذوراً عميقة في بلدانها. وحاول قادة هذه الأحزاب من المثقفين المتأثرين بالثقافة الأوربية إدخال نماذج الاشتراكية الديمقراطية الأوربية، إلا أنهم لم يستطيعوا تحقيق نجاحات ملحوظة، واتجهت حكومات هذه الدول إلى إقامة أنظمة أوتوقراطية تعنى عناية خاصة بالتنمية الصناعية، ولم تُثبت محاولات دمج الديمقراطية البرلمانية بالتخطيط الاشتراكي وجودها إلا في الهند وسنغافورة.
وفي اليابان، أكثر الدول الآسيوية تطوراً، كانت التنظيمات الاشتراكية تملك قاعدة جماهيرية واسعة. ففي عام 1901 تألف أول حزب اشتراكي ياباني لم يلبث أن حُلَّ وتحول إلى تنظيم سري. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى وعقبها عادت التنظيمات الاشتراكية إلى الظهور. وفي عام 1946 حصل الحزب الاشتراكي الياباني على 90 مقعداً في البرلمان، وفي عام 1947، تمكن هذا الحزب من الحصول على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، وغدا زعيمه كاتا ياما تيتسو رئيساً لحكومة إئتلافية. وفي عام 1948 انقسم الحزب الاشتراكي إلى جناحين بعد تسلم المحافظين السلطة. وكان جناحه اليساري شديد العداء للولايات المتحدة وأكثر ميلاً إلى الاتحاد السوفييتي السابق، وقد انفرد هذا الجناح باسم «الحزب الاشتراكي الياباني» أما الجناح اليميني فكان يؤيد تحقيق تنمية متدرجة، ويفضل إقامة علاقات عسكرية وسياسية بالولايات المتحدة، واستقل بذاته تحت اسم «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» وتشير الظواهر إلى حدوث تحولات في الاشتراكية اليابانية على غرار ما حدث للاشتراكية الأوربية عقب الحرب العالمية الثانية.
الحوار حول الاشتراكية في الفكر العربي الحديث
لعل من أبرز التطورات في الاقتصاد العربي نمو الأفكار ذات النزعة الاشتراكية وامتزاجها بقضايا التنمية وطموحات الوحدة على الصعيد العربي.
وقد عانى الفكر الاقتصادي والسياسي العربي طويلاً، ولاسيما في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين نوعاً من الفصام الكبير بين الاتجاه القومي الاشتراكي والاتجاه الاشتراكي اللاقومي.
وفي حقبة الستينات أخذ أنصار الفكر القومي يضمنون برامجهم الكثير من الأفكار الاشتراكية. فقد ورد في المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي [ر] التي أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب «إن بناء الاشتراكية يجعل الوحدة الإطار البشري والاقتصادي الأكثر انسجاماً مع متطلبات شمول التجربة وجذريتها. فالبلدان الصغيرة لا تستطيع أن تصعد في طريق الاشتراكية منعزلة لأن التطور الاقتصادي (والتصنيع بوجه خاص باعتباره القاعدة المادية للاشتراكية) سيبقى دوماً مهدداً بالجمود والاختناق. لذا فإن الوحدة العربية والاشتراكية قضيتان متلازمتان على الصعيد التاريخي والاقتصادي».
وفي الاتجاه المقابل بدأ أنصار الفكر الماركسي يراجعون بعض مقولاتهم وأفكارهم حول العلاقة الجدلية بين قضايا البناء الاشتراكي وقضايا الوحدة، وضرورة النظر إلى الوحدة العربية على أنها وعاء تاريخي لازم لدفع عمليات التنمية ونجاح مهمات التحويل الاشتراكي.
إن القضية المركزية التي ظلت تشغل أذهان الاقتصاديين العرب طوال مُدة الستينات هي محاولة الإجابة عن السؤال التالي: هل الاشتراكية في الوطن العربي تطبيق للاشتراكية العلمية أو طريق عربي لها، أو أنها اشتراكية عربية ذات ملامح خاصة خالصة؟.
يعبر أحد المفكرين العرب عن موقع هذه الإشكالية في خريطة الفكر الاقتصادي العربي على النحو التالي: «إن محتوى الثورة العربية في الحقل الاجتماعي والسياسي يمثل جانباً حيوياً منها. وهذا المحتوى يتمثل في الاشتراكية العربية، لأنها تمثل مفهوم العدالة الاجتماعية بمعناها الواسع في المجتمع العربي الجديد. وطبيعي أن يتجه الفكر العربي إلى بحث الاشتراكية العربية وإلى تحديد إطارها الفكري ورسم خطوطها النظرية. وطبيعي في مرحلة مثل هذه أن يكون المجال رحباً للاجتهاد والنقل وأن تمر بأزمة فكرية قوية».
وهكذا فإن فكرة الاشتراكية العربية تعني لعدد كبير من الاشتراكيين العرب، من ذوي الاتجاه القومي، ضرورة الانطلاق من تحليل الواقع العربي مع استلهام الخبرات والتجارب الإنسانية المختلفة لرسم معالم الطريق الذي يمكن أن يسير فيه الشعب العربي نحو الاشتراكية. فالمبدأ الأساسي لهذه الفكرة يعني قبل كل شيء ضرورة وضع النضال في سبيل الاشتراكية في إطاره القومي، وربط المطالب الاشتراكية بالمطالب القومية في الوحدة والحرية. إلا أن شعار الاشتراكية العربية هذا ما لبث أن أعطاه بعضهم محتوى فكرياً وتطبيقياً خاصاً، فأخذوا يتحدثون عن نظرية اشتراكية عربية وفلسفة عربية خاصة بها، وقالوا بخصائص عربية ومزايا لا بد أن تمتاز بها الاشتراكية العربية. وهكذا نلاحظ في الكتابات المتداولة حول خصوصية الاشتراكية العربية، إصراراً على أنها، أي الاشتراكية العربية، دعوة أخلاقية أو نظرة إلى العدالة نابعة من التراث الفكري والروحي والقيم الخاصة بالمجتمع العربي.
ويؤكد رفعت المحجوب في إشارة إلى التجربة التي شهدتها مصر: «أن الاشتراكية العربية قامت لمعالجة مشكلات المجتمع العربي في مصر وفي حدود قيمه. واتفاقاً مع ذلك ذهب الميثاق إلى أن الاشتراكية العربية ليست التزاماً بنظريات جامدة لم تخرج من صميم الممارسة والتجربة الوطنية، وعلى ذلك يمكن أن نخلص إلى أن للاشتراكية العربية قيمها وفلسفتها الذاتية».
ومنذ العام 1963 بدأت تظهر أولى الكتابات النقدية للمفاهيم والمقولات الاشتراكية المتداولة، وكانت، في غالب الأحيان، ترديداً للمفاهيم السائدة في الوثائق الإيديولوجية الرسمية في مصر وسورية والعراق والجزائر. فقد تضمنت المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي التي أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب حول «ملامح الطريق العربي إلى الاشتراكية» بعض عناصر النقد لمفهوم الاشتراكية العربية الذي غلب على كتابات حزب البعث منذ نشأته، فقد جاء في تلك المنطلقات: «وبدلاً من أن يكون المنطلق القومي للاشتراكية في الحزب سبباً لإعطاء وجهة نظر واضحة مدروسة تتلمّس خصائص الواقع العربي بكل تفاصيله وتناقضاته، والخروج بدراسات نظرية توضح الطريق العربي إلى الاشتراكية، عن طريق تحليل التكوين الاقتصادي والطبقي للمجتمعات العربية، وبدلاً من أن يكون هذا المنطلق سبباً لانفتاح علمي واع على الواقع العربي، تحوّل في عدد من كتابات الحزب إلى مجرد شعارات عامة ومسميات عاطفية حول الخصائص العربية للاشتراكية ومزاياها الأصيلة». وعلى العكس من ذلك، فقد حدث تطور مهم لدى أنصار التيار الماركسي، عندما شرعوا في التخلّي عن التزمت الفكري الذي طبع كتابات هذا التيار حول مفاهيم الاشتراكية. وقد كتب فؤاد مرسي في مقال له عن «التطبيق العربي للاشتراكية من الواقع المصري»: «إن الاشتراكية بوصفها نظاماً اجتماعياً يقضي على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان يظل جوهرها واحداً على الدوام. لكن الاشتراكية ليست وصفة جاهزة لجميع الشعوب. كما أنها ليست تقنيناً لعقائد لا تقبل التغيير عندما تتغير ظروف الإنسان، وإنما الاشتراكية في بلد معيّن ثمرة لنضال شعبه المعيّن. ولذلك لا يمكن أن يكون طريق هذا الشعب سوى طريقه الخاص، أعني طريقه القومي».
والحقيقة أن اعتراف الاقتصاديين العرب بتعدد طرائق الانتقال إلى الاشتراكية قد أفسح في المجال أمام مصالحة تاريخية بين التيارين القومي والماركسي في الفكر الاقتصادي العربي الحديث.
النظرة المستقبلية للاشتراكية
اتسمت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم بانتشار أفكار الاشتراكية الديمقراطية في معظم البلدان الأوربية وفي كثير من البلدان الآسيوية والأمريكية اللاتينية وفي كندا وأسترالية. واستطاعت بعض الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في عدد من الدول تأليف حكومات ائتلافية تسلمت السلطة في أزمنة متفاوتة.
كذلك يشهد هذا العصر تبدلات عميقة في مجموعة البلدان الاشتراكية وتخلي معظم البلدان الاشتراكية الأوربية عن الاشتراكية العلمية وتبنيها مذهب الإصلاح الاقتصادي وأفكار «الاشتراكية الديمقراطية» والانتقال إلى اقتصاد السوق.
ففي الاتحاد السوفييتي السابق أدت الممارسة البيروقراطية زمناً طويلاً إلى تباطؤ معدلات النمو وبروز عدد كبير من حالات عدم التوازن الاقتصادي، وتضاؤل مستويات التطور التقني في بعض فروع الصناعة والإنتاج.
وقد تضمن برنامج إعادة البناء (البريسترويكا) الذي طرحه غورباتشوف في الاتحاد السوفييتي عام 1985 دعوة إلى التعددية الحزبية والانتقال المبرمج إلى اقتصاد السوق، وتعايش أشكال متنوعة من ملكية وسائل الإنتاج، وإنهاء الحرب الباردة، وكان لهذه الأمور أثر بالغ في تسريع وتائر التحولات الاقتصادية والسياسية الأخيرة التي جرت في البلدان الاشتراكية الأوربية، وفي زيادة نشاط الاتجاهات التي تنادي بالإصلاح في أماكن عدة من العالم.
ومع التأييد الواسع الذي لقيته أفكار العلنية (الانفتاح) وإعادة البناء في المستويين الداخلي والعالمي، فقد عانى الاتحاد السوفييتي صراعاً حاداً بين الاتجاهات السياسية والتنموية في البلاد، بدءاً من الاتجاه الذي يحاول التمسك بأسلوب الإدارة التقليدية السابقة للبلاد، والمحافظة على أصول الماركسية اللينينية ويطلق عليه بعضهم «الاتجاه الماركسي الأصولي» ثم الاتجاه الذي يمثله غورباتشوف، والذي يركز على الانتقال التدريجي إلى اقتصاد السوق مع إقامة نظام ملائم للمراجعة والإشراف، واستمرار التعايش بين أشكال متنوعة من ملكية وسائل الإنتاج، وأخيراً الاتجاه الليبرالي الذي يدعو إلى الانتقال إلى الاقتصاد الرأسمالي بالسرعة الممكنة على غرار البلدان الرأسمالية الغربية.
وبغض النظر عن الأسلوب الذي تم في إطاره حسم الصراع الجاري في الاتحاد السوفييتي السابق وتبني روسية الاتحادية الاتجاه الليبرالي، فإن أفكار العلنية وإعادة البناء تركت بصماتها على الوضع الذي آل إليه هذا الصراع مستبعدة نهائياً العودة إلى الصورة السابقة لإدارة المجتمع والاقتصاد الوطني. وقد انتقلت عدوى الإصلاح الذي ابتدأ في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية السابق إلى البلدان الاشتراكية الأوربية الأخرى، وأثر بصورة أو بأخرى على الأنظمة الاشتراكية في بلدان آسيا وإفريقية وأمريكة اللاتينية، ولعل أبرز آثاره تقليص نفوذ الأساليب الأوتوقراطية في إدارة الاقتصاد الوطني وتخطيطه، والفسح في المجال لمزيد من الديمقراطية في الاقتصاد والسياسة.
ولعل الحدث الأكثر أهمية هو في تخلي جميع البلدان الاشتراكية الأوربية رسمياً عن المذهب الماركسي والاشتراكية العلمية وانتقالها إلى التعددية الاقتصادية والسياسية. ويلفت النظر هنا ظاهرة استمرار الأنظمة الاشتراكية التوتاليتارية في البلدان الأقل تطوراً في الوقت الذي انتهت فيه هذه الأنظمة في الدول الأكثر نمواً والأكثر تقدماً مما يطرح أمام المفكرين مستقبلاً مهمة تفسير نشأة الأنظمة الاشتراكية وطريق تطورها.
عصام خوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.