التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

مراجع البحث حول البرلمان

التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

اسئلة سنة ثانية علوم سياسية للفصل الأول مجموعة ب 2022 بجامعة الجزائر

هذه اسئلة سنة ثانية علوم سياسية للفصل الأول مجموعة ب 2022 بجامعة الجزائر

1/ مدخل للعلاقات الدولية :

ناقش نموذج مركزية الدولة عند الواقعيين على ضوء التحولات التي عرفتها العلاقات الدولية غداة 11 ديسمبر 2001.

2/ تاريخ الجزائر المعاصر :

اكتب ملخصا عن اللجنة الثورية للوحدة والعمل تبين فيه ظروف انشائها واهداف المشاركين فيها وعملها ، ويقول آخرون : ان هذه اللجنة هي التي فجرت ثورة اول نوفمبر. ما رأيك في هذا القول ؟

3/سياسة التنمية :

اشرح حسابيا نظرية ريكاردو للتكاليف المقارنة ؟
ماهو منطق التبادلات التجارية عند آدم سميث ؟

4/النظم السياسية المقارنة :

سؤال تحليلي ( تشكل المشاركة السياسية المنطق المحدد لعملية بناء مشروعية النظام السياسي )
حلل وناقش مستدلا بامثلة؟

5/نظرية الدولة:

سؤال تحليلي يشكل العقد الاجتماعي مدخلا وضعيا لتصور طبيعة الدولة في عصر ما بعد الدولة الدينية .)
حلل وناقش مستدلا بامثلة ؟.

6/مدخل الى علم الادارة :

ان الادارة علم متعدد المصادر اي انه يعتمد على مصادر علمية من العلوم الأخرى.
ناقش هذه الفكرة مبينا علاقة الادارة بعلم ادارة الأعمال؟.

7/تاريخ الفكر السياسي :

( سنكون مخطئين اذا نحن اعتقدنا ان الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات التي كانت توجه فلسفة التاريخ والمستشرقين ، وانه الآن غرب علماني ، عقلاني ،براغماتي ، لاغير ، سنكون مخطئين اذا جردنا الغرب من ذاكرته التاريخية …)
1 استخرج المفاتيح الجوهرية لهذه الفكرة مع امكانية وضع عنوان ؟
2 حلل وناقش هذه الفكرة ؟



التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

أصـــــل نشـــأة الدولـــة

أصـــــل نشـــأة الدولـــة

من الحقائق الأولية بالنسبة للإنسان أنه كائن اجتماعي أي لا يتصور له حياة إلا داخل جماعة يعيش في ظلها ويتبادل مع أفرادها المنافع والخبرات. ومن واقع هذه الحقيقة تولد قول بعض الفلاسفة بأن الإنسان حيوان اجتماعي أو أنه مدني بالطبع أي أنه لا يستطيع أن يشبع بنفسه لنفسه حاجاته الاساسية ولذلك يعيش دائماً ضمن جماعات . ومن هنا أيضاً لم يعترف أكثر الفلاسفة بصفة الإنسان لذلك الكائن الذي يقال إنه كان يشبه الإنسان في تكوينه الجسدي وأنه عاش قديماً يهيم على وجهه في الاحراش والمستنقعات دون أية علاقات أجتماعية.
وقد أنقسم العلماء والمفكرون والفلاسفة في تحديد طبيعة التجمعات البشرية الأولى بين فريقين يرى أولهما أن الأسرة كانت أول شكل للتجمعات البشرية ويري الأخرون أن التجمع البشري أتخذ شكل القطيع .
وسواء كان هذا الشكل أو ذاك فقد كان الأفراد كبار السن هم الأكثر خبرة وألماماً بظروف البيئة ومشاكل الجماعة وطرق الحياة وبالتالي ما يجب الاقدام عليه وما يجب اجتنابه من أعمال، وأخذوا في توجيه الجماعة باتجاه ما لديهم من خبرات ودراية تفوق من هم دونهم سناً وخبرة . ومع مرور الوقت تنامي أحساس الجماعة بضرورة الخضوع لتوجيهات هؤلاء الافراد كبار السن وتعود الصغار على طاعة الكبار وسؤالهم النصيحة والأمر، فبدأت تتكون بذلك أول ملامح لمفهوم السلطة كضرورة في كل مجتمع بشري ، وأصبحنا بإزاء ما يمكن أعتباره مجتمعاً سياسياً بدائياً لم يلبث أن تنامي بتعقد حياه الجماعة مما أوجب نمو العديد من القواعد التي تبيح أفعالاً معينة وتحرم أفعالاً اخرى ثم أزداد نمو هذه القواعد وتأصلها بزيادة حجم العلاقات بين أفراد الجماعة وتشعبها ثم تنامي علاقات أخري موازية بين كل جماعة والجماعة أو الجماعات المحيطة بها أو القريبة منها ، وفي كل الأحوال كان بعض أعضاء الجماعة يمارس سلطة الأمر والنهي على الأخرين .
وقد وصل البعض، وتدل على ذلك بعض الأبحاث، الى أنه قبل أن يعرف الإنسان نظام الاسرة ، كان يعيش في جماعات تشكل قطيعاً لا يعرفون ذلك النمط من العلاقات الخاصة التي تربط الرجل بزوجته. فكان الرجال والنساء يعيشون مشاعاً على السواء وكانت الأم هو واسطة القرابة التي تربط العلاقات داخل الجماعة باعتبارها الصلة الوحيدة المعروفة داخلها في ظل حياة المشاع هذه . ثم تطور هذا الوضع البدائي عندما بدأ الإنسان بترك حياته الأولى في الصيد وجمع الثمار ويشتغل بالرعي ثم بالزراعة بما تنطوي عليه من قدر من الاستقرار في حياة الرعي ثم قدر كبير من الاستقرار مع اكتشاف الزارعة. وحينذاك بدأت حياة المشاع تنحصر بأتجاه أختصاص الرجل بزوجة أو زوجات متعددات ليبدأ بذلك نظام الاسرة بأعتبارها الجماعة الاساسية للمجتمعات البشرية في ذلك الطور من حياتها والذي كان مفتاحاً لسائر تطورات المجتمع البشري وصولاً إلي وقتنا الراهن. على أن ما تقدم جميعه هي أجتهادات لا تفسر كافة حالات نشأة المجتمع البشري ولاسائر تطورات هذه المنشأة .
وقد عرفت بعض التجمعات البشرية المشار إليها سابقاً نوعاً من حياة الاستقرار مع أكتشاف الزراعة غير أنها كانت تضطر إلى التنقل الدائم كلما ضعفت خصوبة الارض إلى أن أحدثت فيضانات بعض الانهار خصوصاً على ضفاف النيل وبلاد ما بين الرافدين تجديداً دائماً في خصوبة الارض ساعد الجماعات شبة المستقرة حول ضفاف هذه الانهار إلى التحول إلى حياه الاستقرار الدائم الذي أدى – في رأي بعض مؤرخي وعلماء السياسة – إلى ظهور نمط جديد من التنظيم السياسي أطلقوا عليه أسم المدينة المعبد ، وتمثلت نماذجه الأولى في معبد من الحجر والطين تؤدي فيه الطقوس الدينية وحوله عدد من الاكواخ التي يسكنها الكهان حيث يجئ سكان المنطقة المحيطة في بعض الاوقات أو المناسبات لاداء المناسك الدينية وتقديم القرابين ، ونشأت إلى جوار هذه المعابد بعض الاسواق الصغيرة لتلبية حاجات الكهنة أو المتنسكين ولتبادل السلع . ويرى أصحاب هذا الرأي أنه كان من الطبيعي أن تتركز السلطة في هذه المدينة المعبد في أيدي الكهنة باعتبارهم الواسطة بين البشر والالهة وأن يكون كبير الكهان هو الملك الكاهن المتصف بالقداسة باعتباره ألهاً أو سبيلاً للالهة .
وقد أدى الاستقرار حول الانهار وسهولة الانتقال خلالها إلى تكون وحدات سياسية أوسع نطاقاً شملت عدداً من مدن المعبد هذه وخضعت لنظام مركزي موحد وبدأت تتكون في هذه الوحدات طبقة من المحاربين المحترفين شكلت أرستقراطية سياسية وعسكرية كانت كثيراً ما تنتزع الحكم لنفسها من الملك الكاهن بقوة السلاح، ثم بدأ الصراع بين هذه الوحدات السياسية الكبيرة فظهرت الامبراطوريات الكبري مثل الفراعنة والهكسوس والحيثيين والبابليين والفرس، وكانت هذه الامبراطوريات ذات طابع عسكري يقوم على القوة والغزو . وكانت فلسفة حكمها دينية في الاساس .
هذا الشكل من أشكال المدينة – المعبد في الشرق تطور في الغرب عند الاغريق ثم الرومان في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد إلى شكل المدينة الدولة أو الدولة المدينة حيث بدأت تتبلور أول مفاهيم لعلم السياسة والتنظيم السياسي بعد ان استفادت من التراث البشري المتراكم عبر التاريخ السابق عليها في الحضارات الشرقية القديمة. وكان أبرز ما ميز هذا التطور الجديد في الدولة المدينة هو نمو قواعد مدنية جديدة مما أدى إلى أنحصار الاساس الديني البحت والقوة السافرة التي مثلت اساس الامبراطوريات الشرقية الافلة . كما بدأ الاهتمام بالفرد بوصفه أحد العناصر التي يتحدد بها هدف التنظيم السياسي، وكان الفرد في الامبراطوريات السابقة يذوب داخل الجماعة . ثم تطور نظام الدولة المدينة في ذات الاتجاه الامبراطوري الذي تطور إليه نظام المدينة المعبد السابق وبدأ ذلك بالامبراطورية المقدونية التي أسسها الاسكندر الأكبر والامبراطورية الرومانية من بعده والتي كانت امبراطوريات توسعيه تضم عن طريق القوة والغزو بلاداً متعددة وأجناساً مختلفة من الناس. وقد ظل هذا الشكل هو الشكل السائد من اشكال الدولة حتى مطلع العصر الحديث .
وقد مزجت الامبراطوريات الجديدة بين الاساس الديني لأمبراطوريات الشرق القديمة وما يضفيه من تقديس على الحكام خصوصاً الحاكم الأعلى وبين ما ورثته من أفكار سياسية عن الأغريق . وقد تحولت الامبراطورية الرومانية إلى حكم عسكري كامل يقوم على القوة والغزو وتنعقد سائر أموره بيد الامبراطور . ثم إنه مع ضعف الامبراطورية الرومانية بعد القرن الرابع الميلادي بدأت تتعرض للغزوات المتتالية من القبائل التي بسببها تقطعت إلى عدد كبير من الاقطاعيات فدخلت أوربا حينذاك إلى العصر الاقطاعي ثم ما لبثت كل مجموعة من الاقطاعيات أن تجمعت وكونت ممالك تنتخب ملكاً من بين رؤساء القبائل ويخضع الجميع للأعراف والتقاليد السائدة . ومن هذه الممالك نشأت الدول الأوربية بشكلها الحديث الذي يطلق عليه الدولة القومية والذي تميز عن جميع اشكال التنظيمات السياسية القديمة بمقوماته التي سبق شرحها في الفصل الأول من هذه الدراسة .
وهذا التحليل كان هو المدخل الذي حاولت على أساسه العلوم الفلسفية والقانونية تقديم نظرياتها المفسرة لأصل نشأة الدولة. وتنقسم هذه النظريات إلى أتجاهين اساسيين أولهما يقول بالأساس الديني والآخر بالأساس المدني .

أولاً : الأساس الديني لنشأة الدولة (نظرية الحق الألهي)

عاش أنسان ما قبل التاريخ أفراداً وجماعات في مواجهه قوى الطبيعة الشرسة من عواصف ورمال ، ورياح وأمطار ، كما أنه عاش بين الجبال العالية والوديان المنخفضة والأراضي السهلة ، في الغابات والأحراش ، والبرك والمستنقعات ، بين الحيوانات البرية المفترسة والحشرات السامة القاتلة … الخ وهو يعيش على ما تطاله يداه من جني الثمار أو الصيد . فكانت حياته رهن قوته أو قوة الجماعة التي يعيش معها وقدرتها على مواجهه قوى الطبيعة ودرء أخطارها . وكانت هذه الأخطار المحيطة بالإنسان من كل جانب تهدد حياته في كل وقت وقد تتسبب في هلاكه وفنائه أو على الأقل هجرته وتركه للمكان بحثاً عن مكان جديد أكثر أمناً وهكذا دواليك .
وكان من الطبيعي أن يؤمن الإنسان بوجود قوى ألهية مطلقة القدرة والأرادة هي التي تتحكم في قوي الطبيعة هذه وتوجه سلوكها وتحركها في عنف أو تقيد حركتها . و كان من الطبيعي أيضاً أن يلحظ الإنسان البدائي أن قوي الطبيعة هذه ليست من شكل واحد ولا طبيعة واحدة وأن قدراتها على تدمير حياته وأهلاك ثروته هي قدرة تختلف بين كل عنصر وأخر من عناصر الطبيعة. فما تحدثه الرياح غير ما تحدثه الأمطار ، وما ينتج عن الفيضان هو غير ما تخلفه الزلازل والبراكين ، وكل هذا يختلف عن أفتراس الأسد أو لثغة الثعبان أو العقرب … الخ .
كما كان من الطبيعي أن يلحظ هذا الإنسان البدائي أن القدرة التي يمتلكها تختلف من فرد لأخر فليس القوي الشديد كالضعيف الواهن ، وليس الذي يتقن حرفة الصيد كالذي يملك القدرة على الجري من أمام السباع المهاجمة وليس هذا وذاك كالذي يسقط بين أنياب الوحوش هلعاً . وقد أنتقلت هذه المشاعر والخبرات جميعاً مع الإنسان حين بدأت ملامح تطوره الأجتماعي مع حياة الأستقرار بعد أن أنتقل من طور الصيد وجمع الثمار إلى حياة الرعي ثم حياة الزراعة. فلما بدأ أنقسام البشر إلى حكام ومحكومين بفعل تطور حياة الجماعات البشرية وتشابك وتعقد مصالحها كان من الطبيعي أن يلحظ الإنسان من واقع خبراته السابقة أن الحكام يختلفون في طبائعهم وقدراتهم عن المحكومين . وأن للحكام أراده حرة تجعلهم يتصرفون كما يشاؤون وينفذون ما يرونه صالحاً، أما المحكومون فهم بلا حيله وليس عليهم إلا الخضوع للحكام وتنفيذ اوامرهم .
ولم يجد الإنسان من واقع خبراته في ذلك الوقت إلا تفسيراً واحداً هو أن الحكام والمحكومين ليسوا من طبيعة بشرية واحدة ، وكما أن القوة التي تحرك الطبيعة المحيطة بالإنسان وتخضعها لأرادتها هي قوة ألهية مطلقة الإرادة والحرية فلابد أن تكون هذه القوة هي التي تحرك البشر أيضاً وتخضعهم لأرادتها لحكم البشر وذلك من خلال الأفراد اللذين تصطفيهم للحكم . ومن هنا ظهرت نظريات الحق الألهي لتفسير نشأة الدولة والسلطة السياسية ، حيث أن السلطة مصدرها الله الذي يختار لممارستها من يشاء . ولما كان الحاكم يستمد سلطته من الله فإنه لابد أن يسمو على الطبيعة البشرية وتكون طبيعته علوية ألهية تسمو فوق إرادة المحكومين .
وقد شهدت هذه النظرية عدة تطورات. ففي البداية أعتبر الحاكم من طبيعة ألهية بل هو الأله نفسه أو أبن الأله في بعض المعتقدات ومع ظهور المسيحية تم الفصل بين الأله والحاكم وأصبح الحاكم أنساناً يصطفيه الله للسلطة والحكم ولا يستمد سلطته من أي مصدر أخر فهو يحكم بمقتضي الحق الألهي المباشر .
وتصبح الدولة بالتالي في رأي هذا الفريق من خلق الله تعالي وهو الذي يختار الملوك مباشرة لحكم الشعوب لأنه خالق كل شئ ولأن ارادة تعلو كل أرداه لأنه خالق كل أراده وهو يصطفي بعض البشر ويلقي فيهم روحاً من عنده ويوجب على باقي البشر طاعتهم والانصياع لهم باعتبار ذلك من طاعته وبالتالي فلا يسئل هؤلاء الملوك عن أفعالهم إلا أمام الله وحده وقد ظلت هذه النظرية سائدة لوقت طويل ولكنها فكرة الحق الألهى المباشر.
ولما وقع الصراع بين الكنيسة والملوك في أوروبا في العصور الوسطى بدأت تظهر فكرة جديدة للفصل بين السلطة والحكام اللذين يمارسون هذه السلطة . فالسلطة هي من عند الله ولكن الحاكم الذي يمارسها لا يكون من أختيار الله مباشرة بل إنه تعالى يوجه الأمور وإرادات البشر نحو أختيار هذا الحاكم بالذات. وبالتالي فإن الحاكم يتولى السلطة بواسطة الشعب ولكن من خلال الأرادة الألهية وقد عرفت هذه الفكرة الجديدة بنظرية الحق الألهي غير المباشر .
وهو الحق الناتج من العناية الالهية التي توجه الأمور والاحداث وارادات الافراد بأتجاه معين يسير على مقتضي العناية الالهية لأختيار فرد معين أو أسرة معينة لتولي الحكم. فإذا كانت السلطة نفسها من عند الله إلا أنه لا يتدخل مباشرة في أختيار الحاكم ولكنه يرشد الافراد لاختياره ، فالحاكم طبقاً لهذه النظرية يختاره الشعب بتوجيه الارادة الالهية .
وهي نظرية مخففة من النظرية الأولى التي تعرضت لهجوم شديد. لكن النظريتين كليتهما لا يمكن نسبتهما إلى الدين بحال بل كانتا من اختراع بعض رجال الدين بالتواطؤ مع بعض الحكام لتبرير الاستبداد بالحكم وعدم مسئولية الحاكم مطلقاً عن أفعاله أمام الناس . ومنذ بدايات عصر الثورة الفرنسية وحتى اليوم تطورت الأمور بأتجاه هجر هذه النظرية بشقيها المباشر وغير المباشر لصالح الاتجاه الثاني في تفسير نشأة الدولة وهو الذي يمكن تسميته بالتفسير المدني .

ثانياً: الاساس المدني لنشأة الدولة

لقد تطور الإنسان وتطورت الحياة البشرية على أمتداد التاريخ وغادر الإنسان حياة القبائل الرحل القديمة وعرف الأستقرار مع أكتشاف الزراعة ثم عرف البشر دورات حضارية متجددة في العصر القديم مع الفراعنة والبابليين والأشوريين والفنيقيين والفرس في الشرق ثم مع الأغريق والأمبراطورية الرومانية في الشرق والغرب معاً، وظهرت الرسالات السماوية وعرف الإنسان أفكاراً وطرقاً جديدة للحياة والعمل ومواجهه الطبيعة . ولم يعد ذلك الإنسان العاجز في مواجهه قوي الطبيعة ،كما لم يعد هو نفسه الإنسان الذي يجهل كل شئ عن حركة الطبيعة ، ويمكن في هذا الأطار رصد أربعة معالم أساسية نرى أنها مثلت خبرة وخلفية تاريخية كبرى في تطور البشر .

1- أن الإنسان تطور نوعيا من خلال تقدم العلوم والأكتشافات وخصوصاً بعد الثورة الصناعية الأولى أعتباراً من القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا . واصبح الإنسان بذلك كله أكثر قدرة على تقييم الأراء ومواجهة الحكام كما أصبح معتزاً بذاته وقدراته الهائلة .

2- أن الإنسان مع امتداد تاريخه الطويل قد خبر ظهور الأمبراطوريات ، وزوالها ، وأنتصاراتها وهزائمها ، وعرف أنواعاً متعددة من الحكام فيهم الحاكم البصير القادر ، وفيهم الحاكم الضعيف العاجز ، وفيهم الحاكم العادي الذي لا يترك حكمه أثراً ، وفيهم القائد الفذ الذي يقيم الدنيا ويقعدها ولا ينتهي ذكره بوفاته. ومن خلال هذه الخبرة أدرك الإنسان أن الحاكم هو أيضاً بشر وأن الدول هي ظواهر بشرية وأن الحكام والدول يجوز عليهم ما يجوز على البشر من أحوال الضعف والقوة ، الشباب والشيخوخة ، الحياة والموت. وبالتالي فليس ثمة طبيعة ألهية لأي بشر ولو كان حاكماً، كما أنه ليس ثمة مصدر إلهي لقيام دولة أو تنصيب حاكم لأن ذلك كله من فعل البشر.

3- أن الإنسان وقد أحتفظ بأيمانه المتوارث القديم بوجود اله قوي قادر هو رب كل شئ وخالق كل شئ ومقدر كل شئ إلا أن ظهور الأديان السماوية كان منعطفاً حاسماً في تطور فكر الإنسان في هذا الاتجاه باتجاه الفصل الكامل بين الله والبشر وبين الحكام والسلطة. وجاء ظهور الإسلام تحديداً لينهي تماماً نظريات الحق الألهي فاذا كانت الدولة في الإسلام تقوم علي أساس الدين إلا أنها هي نفسها دولة مدنية يفترض أن السلطة فيها لأبنائها الإسلام يكون لهم حق أختيار الحكام وعزلهم ، بل وقد أشترط علماء الإسلام في الحكام شروطاً متعددة يعني أشتراطها أن الأمة هي مصدر الحكم لأنه ما دامت ثمة شروط معينة لابد أن تتوافر في شخص من يتولى الحكم فلابد أن يكون هناك جهة ما أو هيئة تتولى تحقيق هذه الشروط . وسواء كانت هذه الهيئة هي أهل الحل والعقد كما يقرر بعض الفقهاء أو كانت الأمة كلها فما دام هناك شروط يجب توافرها ويجب التحقق منها فإن لازم ذلك ألا يكون هناك حق ألهي أو حاكم من طبيعة الهية أختاره الله بنفسه أو وجه الأحداث والبشر لأختياره .
ومع ظهور الرسالات السماوية خصوصاً الإسلام أيقن الإنسان أن نظريات الحق الألهي لا تمت للدين بصلة وإنما هي من أختراع الحكام المستبدين وأتباعهم من رجال الدين حتى يتاح لهم جميعاً الأستبداد بالسلطة المطلقة والتمتع بمزاياها ومغانمها .

4- أن الإنسان قد خبر خلال هذه الفترة الطويلة من حياته القديمة والجديدة مظالم الحكام المستبدين الإسلام زعموا أنهم ممثلو الله في الأرض وخلفاؤه عليها وأنهم غير مسئوولين إلا أمامه وحده وأنه لا مسئولية عليهم في مواجهه المحكومين .
ولقد كانت أوروبا أعتباراً من القرن السابع عشر الميلادي ثم مع الثورة الفرنسية ومن بعدها الثورة الأمريكية هي الميدان الأبرز لتفاعل هذه الأفكار والخبرات التي اكتسبها الإنسان على مدى تاريخه الذي أصبح طويلاً ممتداً يصل لألوف السنين .
وهكذا بدأ الفكر الأوروبي يقود الفكر في كافة أنحاء العالم إلى نظريات جديدة وأفكار جديدة لتفسير نشأة الدولة والسلطة السياسية بعيداً عن نظريات الحق الألهي وبأتجاه الأساس المدني الذي يعتبر الدولة والسلطة ظواهر بشرية من صنع البشر .
وقد تعددت النظريات في هذا الاتجاه بحيث يمكن رصد أربع نظريات أساسية هي نظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الاسرة ونظرية القوة ونظرية التطور التاريخي .

1 – نظرية العقد الاجتماعي :

قال بها العديد من الفلاسفة ورجال الفكر والدين وكان لها تأثير كبير في قيام الثورة الفرنسية. ومع أختلاف في التفاصيل لا داعي للخوض فيه، فهي تقوم على فكرة أساسية مقتضاها أن الاساس في نشأه الدولة يرجع إلي الارادة المشتركة لافراد الجماعة الإسلام اجتمعوا واتفقوا على انشاء مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا ، أي أنهم اتفقوا على أنشاء دولة بارادتهم المشتركة . فالدولة إذن هي نتيجة الاتفاق النابع من إرادة الجماعة.
ومن بين الفلاسفة الذين قالوا بهذه النظرية من يرى أن حالة الإنسان في حياته البدائية الأولى قبل وجود الدولة كانت بؤساً وشقاء وحروباً مستمرة مبعثها الانانية والشرور المتأصلة في النفس البشرية وكانت الغلبة فيها للاقوياء والهزيمة والهوان للضعفاء، فكان الحق ينبع من القوة ويخضع لها. ولما كانت هذه الحياة غير محتملة فقد توافق افراد الجماعة على تعيين شخص منهم يكون رئيساً عليهم وتكون مهمته التوفيق بين مصالحهم المختلفة وحماية الضعفاء من العدوان والعمل على تحسين حال الجماعة واسعادها. وقد تنازل الافراد عن كامل حقوقهم لهذا الرئيس بلا قيد ولا شرط كما أن هذا الرئيس لا يكون طرفاً في العقد الاجتماعي وبالتالي فهو ليس مسؤولاً أمامهم وتعتبر سلطته مطلقة ويكون عليهم الخضوع والطاعة .
أما الفريق الآخر من الفلاسفة الذين قالوا بنظرية العقد الاجتماعي فهم يرون أن حاله الإنسان البدائي قبل نشأة الدولة لم تكن كما صورها الفريق السابق من البؤس والشقاء ، بل كانت حياه طبيعية فطرية يتمتع فيها كل فرد بحريته المطلقة ومع ذلك فإن الافراد رغبوا في الخروج من هذه الحالة نظراً لتشابك العلاقات بينهم وتعقدها وتعارضها وغموض أحكام القانون الطبيعي وعدم وجود القاضي المنصف الذي يعطي لكل ذي حق حقه . وهكذا ترك الافراد حياتهم الحرة هذه إلى حياه اخرى تكفل التعاون فيما بينهم والخضوع لحاكم عادل فأجتمعوا فيما بينهم وتعاقدوا على أختيار أحدهم لتولي أمورهم وقد تنازلوا له عن جزء فقط من حقوقهم وأحتفظوا بالباقي بحيث لا يكون هذا الحاكم قادراً على المساس به .
كما أن الحاكم يعتبر طرفاً في العقد. فإذا أخل بشروطه كان للجماعة أن تقوم بعزله وأبرام عقد جديد لحاكم جديد أو العودة إلى حياتهم الطبيعية الأولى .
وذهب فريق ثالث الى أن الافراد لم يتنازلوا عن جزء من، بل تنازلوا عن جميع حرياتهم الطبيعية السابقة على العقد ، لكنهم استبدلوها بمجموعة أخرى من الحريات المدنية يضمن لهم المجتمع حمايتها و كفالة المساواة بينهم فيما يتعلق بها ، وأنه تتولد عن العقد إرادة عامة هي إرادة مجموع المتعاقدين أو إرادة الأمة صاحبة السلطة على الافراد جميعاً والذي لا يكون الحاكم بالنسبة لها إلا وكيلاً عن الجماعة يحكم وفق أرادتها فلا يكون طرفاً في العقد ويكون للجماعة أن تعزله متي شاءت. كما أن إرادة الامة هذه تكون مستقله عن إرادة كل فرد فيها وتكون مظهراً لسيادة المجتمع ولا يجوز التنازل عنها أو التصرف فيها .
وقد أنتقدت هذه النظرية بشدة على أساس أنها نظرية خيالية لا يوجد أي برهان عليها على إمتداد التاريخ، كما أنها تقوم على أساس أن الفرد كان يعيش في عزله عن غيرة قبل إبرام العقد الاجتماعي مع أن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش إلا في جماعة كما أن الإنسان في حياته الطبيعية الأولى التي تقررها هذه النظرية لم يكن له من القدرات الفكرية والذهنية والخبرات في التعامل البشري ما يقرب إلى ذهنه فكرة قانونية متقدمة مثل فكرة التعاقد ، كما أن قدراته التنظيمية حتى ذلك الوقت لم تكن تسمح له بابتكار الطرق والوسائل التي تؤدي إلى أجتماع ناجح للجماعة والحصول على رضا افرادها جميعاً على العقد وهو رضا ترى النظرية أنه ركن اساسي في العقد . كما لاحظ البعض تناقضاً شكلياً في منطق هذه النظرية لأن المفروض أن الجماعة لم تنشأ إلا بعد العقد فمن هو الذي تعاقد.
ورغم هذا النقد فقد كانت هذه النظرية من أكبر النظريات التي ساهمت في تفسير أهم تحولات التاريخ الإنساني بأتجاه تقرير سيادة الامة وأعتبار الحكام مجرد وكلاء عنها يعملون وفق أرادتها ولها حق عزلهم وأستبدالهم ، وهي الافكار التي مثلت بداية انتقال العالم من نظريات الحكم الالهي والاستبداد المطلق إلى عصور الديمقراطية التي تطورت إلى شكلها الحديث اليوم.

2- نظرية القوة أو التغلب :

وهي تقوم على أن الدولة لم تنشأ إلا على أساس القوة والتغلب سواء منذ البداية حيث كانت نظاما أجتماعيا معينا فرضه فرد أو مجموعة من الافراد على الأخرين بالقوة والاكراه أو في مراحلها الامبراطورية التالية التي قامت على الغزو والتوسع. وقد رأى البعض أن التاريخ والوقائع تنتصران – في أغلب الاحوال – لهذه النظرية وإن كانت ثمة وقائع أخرى لنشأة وقيام دول بغير طريق القوة والعنف. كما أنه لم يفت هؤلاء أن يلاحظوا أنه إذا صح قيام أغلب الدول على القوة والغلبة على أمتداد مسيرة التاريخ فإنه يندر أن تستمر أي دولة وتدوم على هذا الاساس وحده دون أن يلقى رضا وقبول الجماعة حتى وإن كان رضا سلبياً يقوم في حدوده الدنيا على الخضوع لسلطة الدولة دون مقاومة أو أحتجاج.

3- نظرية تطور الأسرة:

يرجع أصحاب هذه النظرية نشأة الدولة إلى الاسرة وتطورها لما بينهما من تشابه. فالروح العامة التي تجمع بين أفراد الاسرة وحرصهم عليها هي ذات الروح التي تجمع بين أفراد الدولة كما أن سلطة الأب في الأسرة تشبه سلطة الحاكم في الدولة ، والدولة ما هي إلا نتاج تطور الأسرة التي ما إن تكاثرت وتنامت حتى أصبحت قبيلة وتحولت سلطة الأب إلى شيخ القبيلة ثم أنقسمت القبائل بعد نموها وتكاثرها إلى عشائر لكل عشيرة رئيس خاص بها. ولم تلبث العشائر بدورها أن تكاثرت وتنامت وأستقرت كل واحدة أو كل مجموعة منها على قطعة من الأرض فقامت الدولة، أو أن الأسرة قد تنشأ وتستقر في مكان معين فإذا تنامت وتكاثرت تحولت إلى قرية لم تلبث أيضاً أن تتكاثر وتنمو وتتزايد حتى تصبح مدينة سياسية ومن هذه المدينة تنشأ الدولة .
ورأى بعض الفلاسفة إن الدولة نظام طبيعي ينشأ ويتطور طبقاً لسنة التطور والارتقاء، وأن الأسرة هي المصدر الصحيح لكل دولة .
وقد وجهت لهذه النظرية إنتقادات كبيرة تقوم على أوجه التمايز الواضحة بين طبيعة الأسرة وطبيعة الدولة حيث الدولة سلطة دائمة على أفرادها و لا ترتبط بشخص حاكمها ولا تزول بزواله وتتسع أهدافها كثيراً بما لا يقارن بأهداف الأسرة وعبر أجيال عديدة متتابعة من أبنائها على عكس الأسرة التي تزول حين يكبر أبناؤها ويتركونها لتكوين أسر جديدة. كما أن السلطة فيها أبوية طبيعية لا يد للأسرة فيها وهي سلطة ترتبط بالأب وتزول بوفاته . غير أن أنصار هذه النظرية يدافعون عنها ويرون أنه لا يدحض الفكرة في جوهرها حيث أن الأسرة أيضاً كفكرة – وليس كأسرة محددة بالذات – هي فكرة مستمرة بما تخلقه من علاقات وأرتباطات بين افرادها تشبه تلك العلاقات بين أفراد الدولة الواحدة. كما أن وجود حالات لنشأة الدول بعيداً عن فكرة تطور الأسرة لا يدحض في صحتها بأعتبار هذه الحالات حالات استثنائية لا تمثل القاعدة التي يعول عليها في تفسير نشأة الدولة .

4- نظرية التطور التاريخي:

ويرى أصحابها أن نشأة الدولة لا يمكن تفسيرها بأي من النظريات السابقة وحدها وإنما الدولة نشأت كحصيلة لتطور أجتماعي وسياسي وتاريخي طويل وممتد أسهمت فيه عوامل متعددة من داخل وخارج الجماعة واختلفت درجة التفاعل بين هذه العوامل ونصيب كل منها في نشأة كل دولة على حدة عن غيرها من الدول .
ولعل ما مر أمام أعيينا في النصف الثاني من القرن العشرين وحده بل في السنوات الخمس عشر الأخيرة فقط منه ما يؤيد أنه ليس ثمة إمكانية لأعتماد نظرية واحدة لنشأة الدولة وأن ظروفاً تاريخية متعددة تسهم في قيام الدول وأختفائها أو أنقسامها إلى دول متعددة على النحو الذي شاهدناه في تحلل دولة الاتحاد السوفيتي ودولة يوغسلافيا السابقتين إلى عدة دول جديدة مستقلة وتوحد دولة ألمانيا وقد كانت دولتين ، وعودة أجزاء من دولة الصين إليها وبدء تكون دولة فلسطينية مستقله … الخ .
ويلاحظ أن هذه النظريات جميعاً قد عنيت في الحقيقة بأصل نشأة السلطة السياسية وهو أحد عناصر الدولة وليست كل عناصر الدولة ، وبالتالي فإن هذه النظريات قد أقامت أفكارها على أساس الهدف الذي رغبت في تحقيقه بالنسبة للسلطة السياسية القائمة في المجتمع ، فالإسلام أيدوا هذه السلطة ورغبوا في أستمرارها والتمتع بمزايا استبدادها وأنفرادها بالحكم ابتدعوا النظريات التي تخدم هذا الهدف على عكس أولئك الذين رغبوا في تقييد السلطة وأعتبارها نابعة من أراده الجماعة ومسئولة أمامها فهؤلاء ايضاً ابتدعوا النظريات التي تحقق هدفهم.

5 – نشأة الدول العربية المعاصرة:

في ضوء الشرح السابق لأسباب نشأة الدول يمكن القول بأن نشأة الدول العربية في العصر الحديث ترجع إلى تطورات ثلاثة وقعت خلال القرنين التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين وهذه التطورات هي:

أ – زوال دولة الخلافة العثمانية وأنفراط عقد الأمم والشعوب والأقاليم التي كانت تدخل تحت لوائها .

ب- خضوع الأقاليم العربية للاستعمار الغربي بعد تجزأتها بين الدول الأستعمارية المختلفة على النحو الذي قررته معاهدة سايكسبيكو بين أنجلترا وفرنسا عام 1904 وبمقتضى هذه المعاهدة توزعت معظم أجزاء الوطن العربي بين الدولتين .

ج – ظهور حركات التحرر الوطني ضد الأستعمار في كل قطر عربي على حدة وعدم نشوء حركة تحرر وطني واحدة في كل الوطن العربي تستهدف تحرير جميع أجزائه ، وقد ترتب على ذلك أن كل قطر عربي قد حصل على أستقلاله بشكل منفرد وفي عام يختلف عن الأعوام التي حصلت فيها بقية الأقطار على أستقلالها تباعاً وقد أدى هذا إلى نشوء الدول العربية بشكلها وحدودها الحالية .
وهي نشأة خاصة يمكن التعويل عليها كنموذج عملي في نقد نظريات نشأة الدولة على أساس نظريات الحق الألهي أو العقد الأجتماعي أو تطور الأسرة . إذ أن هذه النشأة الحديثة للدول العربية لم تتولد مباشرة من حياة الطبيعة البدائية الأولي حيث كان الإنسان يعيش حياته البدائية متمتعاً بحرياته الطبيعية. ولم يجتمع أبناء أي أقليم عربي ويتفقوا فيما بينهم على التنازل عن جزء من حرياتهم لحاكم أختاروه بأنفسهم ليتولى تنظيم حقوقهم ومحو التعارض بينها على النحو الذي تقرره نظرية العقد الأجتماعي. كما أن هذه النشأة لا يمكن أن تعود إلى نظرية تطور الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو القرية بحيث تصبح دولة معبد أو دولة مدينة .
كما أنه بالطبع لا يمكن تحليل الأمور على أساس الأرادة الألهية التي حركت الأمور بشكل مباشر أو غير مباشر بأتجاه نشأة الدول العربية بشكلها الحالي .
والحق أن نشأة الدول العربية في شكلها الحديث وكنتيجة للتطورات الثلاثة التي ذكرناها سابقاً إنما ينتصر لنظريات التطور التاريخي في قيام الدول، حيث كان قيام الدول العربية في هذا الشكل الحديث نتيجة تطورات تاريخية محددة نبعت من ظروف الأمة العربية مجتمعة من ناحية ثم من التطورات الخاصة بكل قطر عربي على حدة من ناحية أخرى .
كذلك يمكن ملاحظة قيام عنصر الغلبة والقوة في نشأة الدول العربية الحديثة فقد خضعت الأقاليم العربية التابعة لدولة الخلافة الإسلامية تباعاً لسلطان أهل عثمان الذين تغلبوا بالقوة علي سائر البلدان الإسلامية وتولوا بسبب هذه الغلبة موقع الخلافة الإسلامية وأنشأوا الأمبراطورية العثمانية التي امتدت لأنحاء كثيرة من العالم وخضعت لها شعوب وأجناس وأقاليم متعددة .
ومع بدايات القرن التاسع عشر ما لبث الوهن أن لحق بدولة الخلافة العثمانية وقامت الحروب بين أجزائها المختلفة في وقت بدأ فيه صعود الشعوب الأوربية ونهضتها من جديد ، حيث شهد القرن التاسع عشر غلبة الشعوب الأوربية بالتدريج على دولة الخلافة العثمانية ، بل وأنتزاع أقاليم كثيرة منها وأخضاعها للأستعمار الأوروبي ثم بلغت هذه الغلبة الأوربية على الدولة العثمانية منتهاها منذ بداية القرن العشرين حين أحتلت الدول الأوربية معظم أجزاء الأمبراطورية العثمانية واستعمرتها ثم أنهت وجود الأمبراطورية العثمانية نفسها بعد الحرب العالمية الأولى . وهكذا ومن خلال عنصر القوة والتغلب خضعت أقاليم الوطن العربي للأستعمار الأوربي وتوزعت بين دول أوروبا الأستعمارية .
كما يمكن القول إن قيام حركات التحرر في كل قطر عربي قد تضمن نوعاً من القوة التي لم تلبث أن تغلبت على الدول الأستعمارية في كل قطر عربي على حده فتحقق أستقلال الدول العربية وقيامها في شكلها الحديث . على أنه أياً كانت اسباب نشأة فكرة الدولة ونشأة الدول فأنها تتعدد في أشكالها ونظم حكمها .



التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

الفكر السياسي في العصور الوسطى

الفكر السياسي في العصور الوسطى

مقــدمة

أظهر تطور الفكر والتفكير في الميدان السياسي مدى تقدم الإنسان والمجتمعات البشرية ومدى تأثير التراكمات المعرفية الكمية والنوعية في هذا التطور ، كما دل على أهمية التجارب التي يمر بها البشر في صنع الحضارة وتأمين الأفضل لحياة الإنسان والمجتمعات ، و أظهر أهمية دور إبداعات المفكرين في هذا التطور.
إذ أن العلاقة الجدلية ما بين التراكمات المعرفية والظروف الخاصة للمجتمع وإبداع المفكرين هو الأساس الذي قامت وتقوم عليه التطورات المتلاحقة في الفكر وفي الفعل الحضاري ،فقد كان تقدم الفكر السياسي كما الفكر الإنساني بشكل عام,نتاجا لتلك التراكمات المعرفية الكبيرة وللتجارب التي مرت بها كل الأمم، كل واحد ة حسب ظروفها الخاصة، حيث كانت الحضارة تلو الأخرى تشارك بدورها في صنع الأفضل للإنسان، وذلك من خلال إبداعات المفكرين في الحضارات المختلفة.
وإذا كان الإنسان يتعلم من التجارب المتلاحقة ويتطور في فهمه وإدراكه ، فإن الفكر الإنساني ، ومنه الفكر السياسي مازال حتى الآن ينمو ويتطور مستندا دوما إلى التراكمات المعرفية المتلاحقة التي تصنعها الشعوب المختلفة ويبتدعها المفكرون ، والتي تشكل دوما أرضية إنطلاق لأفكار جديدة أيا تكن مجالاتها وميادين أبحاثها،وقد تبين بشكل واضح أن الفكر السياسي بدأ خطواته الفكرية ورؤاه الفلسفية الأولى في الإجابة عن التساؤلات المختلفة بأفكار أسطورية غيبية،وصولا إلى الأساطير المختلفة والمتعددة بالإجابات حول كل القضايا بما فيها السياسية، وهو ما كان موضوع دراستنا : “الفكر السياسي الروماني ” فكانت كل حضارة تغتني بأفكار وتجارب تقدم منها، وفق بنيتها الذهنية أجوبتها الخاصة عن التساؤلات المتعددة حول الكون والمجتمع والإنسان ومنها التساؤلات السياسية كذلك (*)
ويمكن القول أن الحضارة اليونانية ساهمت بشكل بارز في تطوير ونهضة الفكر السياسي البشري، بحيث تمثلت القضية المحورية التي إنشغل بها الإغريق في طبيعة العدالة وماهية النظام السياسي الفاضل، ثم من بعدها الحضارة الرومانية صحيح أن هذه الأخيرة لم تتمكن من التوصل إلى مستوى الإبداع الفكري الذي بلغته الحضارة الإغريقية
من قبلها، غير أن إبداعها تجلى بإمتياز واضح في المجالات العملية ، سواء من الناحية الفكرية على صعيد القانون والإدارة ، أم من ناحية
الإبداعات الفنية والمعمارية التي لازالت أثارها ماثلة للعيان حتى يومنا هذا في أماكن متعددة من المناطق الواقعةعلى المتوسط ولاشك بأن الحضارة الرومانية قد مثلث محطة هامة جدا في تاريخ الحضارة البشرية.
فالرومان نبغوا في القانون بحيث أصبحوا في هذا الميدان قدوة لغيرهم على مر الأجيال ولا تزال أثار قوانينهم قائمة في العصر الحديث،فإنهم على عكس ذلك من الناحية الفلسفية إذ لم تكن للرومان فلسفة سياسية أصيلة نابعة من بيئتهم وثمار فكرهم الحر وإنما اعتمدوا في هذا المجال على الفلسفة اليونانية ونهلوا من مواردها ونسجوا على منوالها وتأثروا بكثير من مبادئها. فالحضارة الرومانية تأثرت بالحضارة اليونانية ونقلت عنها وأفادت منها كما نقلت عن الحضارة الشرقية القديمة مثل الحضارة المصرية البطليموسية والحضارة الفارسية ، فالرومان لم يخلقوا ولم يخترعوا كل نظمهم وإنما أخذوا من الحضارات القديمة والمعاصرة لهم والسابقة عليهم ما يتفق مع ظروفهم وأوضاع بلادهم وصبغوا ما تلقوه عن الغير بصبغتهم الخاصة وهي صبغة عملية.
وقد قطعت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي عدة مراحل حتى تمكنت من الوصول إلى تأسيس إمبراطورية ضخمة ذات سلطان خطير على المستوى الداخلي والخارجي وقد عرفت في تطورها هذا أشكالا مختلفة للحكم وأوضاعا دستورية متباينة، ولكي نوضح ذلك نشير بإيجاز إلى مختلف المراحل التي قطعتها الحضارة الرومانية في نظامها السياسي ثم إلى أبرز المفكرين السياسيين في روما القديمة وهما بوليبيوس وشيشرون.

 المبحث الأول : النظام السياسي الروماني

مرت الحضارة الرومانية في تاريخها السياسي الطويل بمراحل عدة ، حتى وصلت إلى تأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف ذات سلطان ضخم وخطر في الداخل والخارج ، وقد عرفت روما في تاريخها أشكالا للحكم مختلفة وأوضاعا دستورية متباينة فقام فيها النظام الملكي والنظام الجمهوري وفي ظل هذين النظامين وجدت حكومات فردية ، وحكومات أقلية (أرستقراطية و أوليغارشية ) ثم حكومات ديمقراطية ، لكن فكرة الديمقراطية هذه لم تستطيع أن تثبت جذورها في روما لأسباب ترجع إلى طبيعة الرومان وتعلقهم الشديد بالتقاليد الموروثة وعدم تحمسهم للمبادئ الخلابة ( كانوا عكس اليونانيين ) ولم يكن الرومانيون يحفلون بالنظريات والمذاهب السياسية والأفكار المثالية، التي شغل اليونانيون أنفسهم بها وإنما اهتموا بالنواحي العلمية والواقع الملموس ، ولما انهارت طبقة المزارعين التي هي عماد الديمقراطية المستقرة لم يثبت في روما نظام ديمقراطي سليم (1) .
وينقسم تاريخ الدولة الرومانية ، منذ تأسيسها في القرن 8 ق.م إلى ثلاث فترات متتالية وهي كالتالي:

المطلب الأول: فترة الحكم الملكي

بدأت هذه الفترة مع تأسيس مدينة روما في عام 753 ق.م على يد الملك رومولوس (romolus) حسب رواية الأساطير الرومانية ، (2) فلم تكن الملكية في عصورها الأولى وراثية ،بل إن الملك كان يختار قيد حياته من يخلفه في تدبير شؤون المملكة ، وإن مات الملك دون أن يقوم بتعيين خلفه يتم الرجوع إلى مجلس الشيوخ الذي يختار من يتولى سلطة الحكم وكانت سلطات الملك مطلقة وشاملة لكافة الاختصاصات مع وجوب إحترامه للعرف (3) .
أما مجلس الشيوخ فقد كان مكونا من رؤساء القبائل كما أن سلطات هذا المجلس كانت تتمثل في المصادقة على قرارات المجلس الشعبي ، وكان مجلس الشيوخ إضافة إلى ذلك بمثابة مجلس استشاري للملك ، دون أن يكون هذا الأخير ملزما بالأخذ برأي هذا المجلس .
أما الهيئة الثانية فهي مجلس الشعب فقد كان المجلس يضم الرجال الأحرار ويذهب البعض إلى إضافة صفة القدرة على حمل السلاح إلى هؤلاء الرجال فهم وحدهم المواطنون، أما صلاحية هذه الهيئة فكانت في الواقع تختلف من عهد إلى آخر إلا انه يمكن القول بأن من وظائفها إقتراح القوانين وتقرير السلم والحرب وكذلك عقد المعاهدات(4).
وتقسم فترة الحكم الملكي إلى مرحلتين :

المرحلة الأولى : حكم ملوك الرومان الأصليين وتقول الرواية التي تناقلها المؤرخون القدامى أن روميلوسromulus وأخاه ريموس remos أسسا مدينة روما ، وعندما قُتـِلَ هذا الأخير على يد
أخيه، حكم روميلوس بمفرده وتعاقب بعده ثلاثة ملوك من أصل روماني حتى الغزو الإتروسكي لإيطاليا (5) .

المرحلة الثانية : حكم الملوك الإتروسكيين الذين وفدوا من آسيا الصغرى وأحكموا السيطرة على روما ، وهناك بعض الروايات تقول إنهم من مؤسسيها أيضا ، الذين نقلوا حضارتهم إليها وكان آخر ملوكهم يدعى تاركان العظيم الذي حكم حكما ديكتاتوريا على كافة الشعب الأمر الذي أثار قلق الأشراف الذين ثاروا عليه بمساندة اليونان ،والذين تمكنوا من السيطرة على البلاد في العهد الجمهوري اللاحق (6) .

المطلب الثاني : فترة الحكم الجمهوري.

على إثر تمرد الرومانيين على هيمنة الاتروسك عام 509 ق.م ، تخلوا عن النظام الملكي واستبدلوه بنظام جمهوري وذلك بإحلال حاكمين على رأس السلطة التنفيذية محل الملك ، ويسميان “بالقنصلين” ويتم انتخابهم سنويا من لدن المجالس الشعبية ، ويتناوبان على الحكم شهرا لكل واحد منهم (7).
وقد شهدت فترة الجمهورية هذه صراعا مريرا بين طبقة الأشراف و الطبقة الشعبية لمدة طويلة تجاوزت القرنين من الزمن ، وإستطاعت هذه الأخيرة ( الطبقة الشعبية )أن تحقق بعض الإمتيازات التي إنتزعتها من طبقة الأشراف عام 494 ق.م مما أرغم مجلس الشيوخ على المصادقة على إلغاء الديون التي تراكمت على العامة ، وفي أواسط ق 15 تمكنت كذلك من تحقيق إنتصار آخر وهو فرض إيجاد قوانين مكتوبة وواضحة ومعلومة من الجميع بدلا من القانون العرفي الذي كان موضوعا تحت هيمنة الأشراف والكهنة الذين كان لهم وحدهم الحق في تفسيره وتأويله (8) .
إن تغيير نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية أدى إلى إنتقال سلطة الملك إلى هيئة جديدة تقوم بتدبير شؤون الجمهورية . ولو قارنا سلطات القنصل بسلطات الملك يتبين 1لنا بأنها تضاءلت إلى حد كبير ،فبعدما كانت السلطة الدينية مثلا من اختصاص الملك إبان فترة الحكم الملكي ، نجدها أصبحت من إختصاص الكهنة في فترة الحكم الجمهوري هذا إضافة إلى أن فترة حكم القنصل تعد أقل من الفترة التي كانت للملك أبدية ، ثم إن مركز القنصل يعد أضعف بكثير من المركز الذي كان يشغله الملك.

المطلب الثالث : فترة الحكم الإمبراطوري.

ظهر هذا النظام مع توسيع روما وضمها لأراضي شاسعة وشعوب متعددة ولم يعد بمقدور النظام الروماني إدارة هذه الإمبراطورية الضخمة.وكانت الإرهاصات الأولى لبداية النظام الإمبراطوري مع” يوليوس قيصر 101 – 44 ق.م “الذي إستولى بحد السيف على السلطة ، تم جاء بعده إبنه بالتبني أوغستAUGUST 27 ق.م الذي أصبح إمبراطورا وإتسم نمط الحكم هذا بإحلال إمبراطور ذي سلطات مطلقة محل القنصلين ، وكان ينظر له وكأنه إلاه أو ابن للإله قبل ظهور المسيحية ، وهوالذي كان يشرف على الشؤون الخارجية وعلى الجيش وله صلاحيات قضائية واسعة ، وكان يستعين في عمله هذا بمجلس إستشاري يعين أفراده بنفسه من أقربائه وكبار موظفيه ومن أصحاب الخبرة والاختصاص(9).
وهناك من يميز بين عصرين من الإمبراطورية .

 عصر الإمبراطورية العليا :
أعلن قيامها أكتافيوس بعد انتصاره على خصمه أنطونيوس وحليفته كليوباترة وكان ذلك في سنة 27 ق.م وإنتهت بذلك الحروب الداخلية الأهلية كما توقفت فتوحات روما الخارجية ، وأصبح ذلك العصر عهد سلم ، وتغير نظام الحكم من جمهوري إلى حكم فردي مطلق من حيث الواقع :لأن الإمبراطور رئيس الدولة استأثر بكل مظاهر السلطة تقريبا وجمعها في يده .
وعلى إثر ذلك تم تقليص سلطات مجلس الشيوخ وسلبت منه اختصاصاته وبالرغم من استمرار قيام المجالس الشعبية إلا أنها أخذت تفقد سلطاتها التشريعية بالتدريج حتى أندثرت تلك السلطة في نهاية ق الأول م (10).

 عصر الإمبراطورية السفلى ( العصر البيزنطي ).
قامت هذه الإمبراطورية على يد الإمبراطور” دوقلديانوس “، سنة 284 م بعد أن سادت الفوضى العسكرية وتدهورت الحالة الإقتصادية في أواخر عهد الإمبراطورية العليا.وقد تأكد في ذلك العصر نظام الحكم الفردي المطلق الإستبدادي إذ تركزت السلطة
السياسية في يد الإمبراطور وإندثرت تماما إختصاصات الحكام الآخرين ومجلس الشيوخ و المجالس الشعبية وثم فصل المدينة عن السلطة العسكرية ،وساد نظام الإدارة المركزية لكن الإمبراطور دوقلديانوس أحدث تعديلا جوهريا في النظام الإداري للإمبراطورية إذ لاحظ إتساع رقعتها وكثرة ولايتها وظهور تيارات ونزعات إنفصالية في أقاليم الدولة ، فقام بتقسيم الإمبراطورية إلى أربعة أقسام إدارية كبرى يرأس كل إقليم إداري حاكم إداري عام يحمل لقب أوغسطس أو قيصر وبهذه الوسيلة أصبح حكام الإمبراطورية أربعة أشخاص يحمل اثنان منهم لقب أوغسطس والإثنان الآخران يحملان لقب قيصر ويعتبران أقل درجة من الأولين ويحلان محلهما في حالة العجز عن العمل (11)

 المبحث الثاني : أسس الفكر السياسي الروماني .

إذا كان اليونانيون يفكرون بطريقة فلسفية وأخلاقية، فالرومانيون يفكرون بطريقة حقوقية وقانونية ، وإذا كان اليونانيون يفتخرون بفلاسفتهم وفلسفتهم فالرومانيون يفتخرون بقانونهم وقوانينهم هذه الصبغة القانونية التي إندمجت مع فكرهم السياسي ، ترجع لإعتبارات عملية تتعلق بالمشاكل والتحديات المترتبة على التعامل مع دولة ذات أعراف متعددة ومترامية الأطراف ، فكان لابد من بحث دقيق عن توازن يحفظ للدولة إستمراريتها وإستقرارها ، ولن يتأتى ذلك إلا عن طريق القانون الدقيق والمنظم.
وقد تأثر القانون الروماني منذ نشأته وتطوره بالواقع الاجتماعي والفكري حيث كان في بدايته يختلط بالدين والسحر والعادات… فالقانون كان في البداية جزءا من الديانة وقانون المدينة هو شعائرها وفرائضها الدينية ، فكانت شخصية رجل الدين تختلط بشخص الحاكم أو القاضي ، وأحيانا تتجسد في شخص واحد وقد عرف الفقيه أوليبانوس القانون بأنه:” المعرفة بالأمور الإلهية والأمور الإنسانية والعلم بما هو عدل وما هو ظلم ” .
لكن مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تطور القانون الروماني حيث تم التمييز بين الدين والقانون ،فأصبحت القواعد القانونية من صنع البشر وتهتم بتنظيم الروابط بين أرباب الأسر والعشائر داخل المدينة، أما القواعد الدينية فهي أوامر صادرة من الآلهة لتنظيم الصلة بين الإنسان وربه(12) .
أما مصادر القانون الروماني فكان البعض منها مستمد من رجال القانون الرومانيين ، والآخر مستمد من أفكار الرواقية إلا أن التحول العام في المنحى الفكري القانوني والسياسي يعود الفضل فيه إلى أفكار المدرسة الرواقية فقد أعطت المدرسة الرواقية لروما الإيديولوجية التي تنقصها وتنتظرها ، أي جاءت الفلسفة الرواقية ودعوتها إلى العالمية والقانون الطبيعي الإلهي لتضفي صبغة شرعية على الهيمنة الرومانية على الشعوب الأخرى ، والفضل يعود تحديدا إلى Panituis170-110 ق.م الذي خلق نوعا من المصالحة بين الفكر الرواقي والفكر الروماني
الأرستقراطي العلمي ، وكان للعلاقة التي أقامها الرواقيان بنائيتوس وبوليبيوس مع الطبقة الرومانية دورا في تسرب الفكر إلى الطبقة الرواقية الحاكمة بروما، وكانت أهم تأثيراتها تتجسد في القانون الطبيعي وفكرة الدولة العالمية وهما ما ظهرا في أفكار كل من بوليبيوس وشيشرون (13).

المطلب الأول : الفكر السياسي عند بوليبيوس

جاء بوليبيوس بتبرير التاريخ ، وذلك حين جيء به إلى روما كرهينة في سنة 168 ق.م فعومل كصديق وأطلق صراحه سنه 146 ق.م وعاش صديقا لأدباء ومفكرين رومان ، وجعل من نفسه أول منظر للدستور الروماني في كتابه ” التواريخ ” وفيه حلل الدولة الرومانية وبذات الوقت يعرف أفضل حكومة (14) .
حاول كتابة التاريخ الروماني والفتوحات بشكل منهجي وعالج النظام السياسي الروماني في مجده ، وربط في روما بين النظام السياسي والعسكري ،إستوحى أكثر أعماله من أعمال أرسطو الذي إستعار منه التصنيف السداسي للدساتير، وجعل أهداف السياسة الحقيقية :الفضيلة والحكمة في الحياة الخاصة والعدالة في الحياة العامة .ولقد بحث في كتابه ” تواريخ histoires “عن تفسير لأسباب رفعة روما التي أخضعت في نصف قرن تقريبا كل الأرض المسكونة ، وقد وجده في دستورها الذي جعل منه النقطة المركزية في مؤلفه ، فكتب :” إن الأشكال الثلاثة للحكم كانت ممزوجة في الدستور الروماني وحصة كل منها كانت محسوبة بدقة ، فكل شيء كان ممزوجا فيه بإنصاف ، بحيث أن أي شخص ، حتى من بين الرومانيين ، لم يكن يستطيع القول إن كان الدستور أرستقراطيا ، أو ديمقراطيا أو ملكيا فلدى تفحص سلطات القناصل يقال عنها نظام ملكي ،وإذا حكم عليه من خلال سلطان مجلس الشيوخ كان بالعكس أرستقراطيا ، وإذا أخذت بالاعتبار حقوق الشعب كان يبدو بوضوح أنه ديمقراطي “.
هذا المديح للدستور المختلط عبر عنه بوليب كما أرسطو بوجود ثلاثة أشكال
أساسية من الأنظمة التي هي : الملكية ، الأرستقراطية والديمقراطية ،وهذه الأنظمة هي نماذج ولكن ليست الوحيدة ،والشكل الأمثل بالنسبة له هو الشكل الذي يجمع بين عناصر هذه الأنظمة الثلاث .
وروما التي إعتمدت هذا النظام يفسر مجدها وعظمتها في تنظيمها الداخلي كما في تنظيمها للفتوحات، هذا التحليل لبوليب ليس موضوعيا إذا إنه يحاول تمجيد عظمة روما وشرح قوتها بعرض الوقائع التي استعملها واستعارها ليثبت برهنته لذلك، لأن العنصر الديمقراطي الذي
تطرق إليه غير موجود، لأن السلطة الفعلية بيد مجلس الشيوخ هي التعبير الأمثل عن الارستقراطية .يؤمن بوليب بأن الحياة السياسية تمر بمراحل أو بطريقة دورية وهي في حركة دائمة، فالتطور يبدأ مع الملكية : حكم الفرد الواحد ، لأن الناس البدائيين وضعوا ثقتهم بشخص واحد لإشباع المصلحة العامة ومبدأ هذا النظام هو المساواة والخير أكثر منه القوة والطغيان ، ولكن مع تطور الحياة تفسد الملكية ، ويستلم الملوك لإغراءات السلطة وينجرون وراء نزواتهم .
وتتحول بالتالي الملكية إلى طغيان، فتثور طبقة النبلاء – القيادة الأفضل بنظر الرعايا – وتتسلم السلطة برضا الناس، لكن هذه الارستقراطية أيضا تفسد عندما يفقد النبلاء الحس العام والمصلحة العامة ويستغلون الشعب فتحل الأوليغارشية محل الارستقراطية،لكن الشغب يثور ضد الأوليغارشيين لأن الأوليغارشية تتطابق مع الطغيان،ويقيم الشعب حكم الديمقراطية التي تفسد وتسيء ، لأن الشعب يبعد الأغنياء ويأخذ مالهم وغناهم ، فيبدأ الصراع الاجتماعي والأزمات والكوارث جراء عدم التوازن والفوضى والغوغائية التي تسود المجتمع ، وبعد كل هذه التجارب يعود الشعب ويسلم نفسه إلى ملك وهكذا تتم الدورة بكاملها : (ولادة- نمو- ذروة ورشد- إنحدار فموت).
من هذا التصنيف نستخلص ثلاثة أنظمة صالحة هي : الملكية المعتدلة ، الأرستقراطية والديموقراطية.يقابلها ثلاثة أنظمة فاسدة هي :الطغيان، الأوليغارشية والديماغوجية.وهذا التقسيم يذكرنا بتقسيم أرسطو .ويعتبر بوليب أن كل نظام يتضمن في داخله عوامل فساده وإنحلاله وكل واحد منها لا يصلح بحد ذاته ليكون نظاما للدولة الصالحة لذلك لا بد من المزج بين هذه الأنظمة والحفاظ على التوازن بينها بواسطة القوى المضادة وهنا يظهر أثر أرسطو وأفلاطون .(15).

 المطلب الثاني : الفكر السياسي عنذ شيشرون 106 – 43 ق.م.

يعد شيشرون أول مفكر روماني ، حاول الإستفادة من التراث الفلسفي اليوناني وتوظيفه في معالجة الإشكالات السياسية التي طرحت خلال المرحلة الأخيرة للنظام الجمهوري ،فشيشرون الذي بدأ مشواره كرجل دولة سنة 76 .ق.م ،نهل من المصادر الأصلية للفكر اليوناني ، كما أن بلاغته المشهود بها كمحام ، جعلته يتبوأ منصب قنصل للجمهورية سنة 63 ق.م قبل أن يعدم بسبب إنخراطه في الصراعات الدامية التي أفضت إلى قيام الإمبراطورية(16) .ومن أهم المؤلفات التي تركها شيشرون والتي تعكس إرادته في تطبيق المبادئ الرواقية على المستوىالسياسي ، نلقى كتابه” في الجمهورية ” و ” في القوانين ” و ” الواجب ” فضمن هذه المصادر الثلاثة ، يمكن استجلاء تصوره للقانون الطبيعي ، ومدلول تمييزه بين المنفعة المشتركة والشيء العام، وكذلك تأويله المتميز لنظرية الدستور المختلط التي عرفت انتشارا واسعا لدى الأوساط اليونانية المهتمة بإكتشاف سر عظمة روما وأسباب تفوق نظامها السياسي.

ويشكل مؤلف ” في الجمهورية ” الذي كتبه شيشرون سنة 51 ق.م منعطفا هاما في تاريخ الفكر السياسي الروماني ،فلئن كان مطمح صاحبه هو إعادة كتابة أفلاطون ،وتحيين القضايا والإشكالات التي طرحها هذا الفيلسوف اليوناني – كما يدل على ذلك إختيار عنوان المؤلف- فإن المقاربة التي إنتهجها شيشرون ، كانت تحكمها عقلانية خاصة بفعل تمايز الواقع السياسي في روما ،والمسألة الأولى التي تتصدر مؤلف شيشرون تتعلق بالنظام السياسي الأصلح بالنسبة للدولة الرومانية ، بإعتبار أن شكل الحكم يعد عاملا حاسما لتفسير نجاح أو فشل دولة من الدول .ولقد سبق لبوليبيوس ، هذا المؤرخ اليوناني الذي أصبح رومانيا (عام 201- 120 ق.م )،أن حلل في مؤلفه “تواريخ” دستور روما واعتبره سببا لقوة هذه المدينة ومدى العظمة التي أدركتها .فبوليبيوس الذي أراد فهم وتفسير ضوابط السياسة الرومانية ،إعتمادا على التراث اليوناني ،نوه بفضائل الدستور المختلط وأشاد بمزاياه المختلفة بالنسبة لسير عمل المؤسسات السياسية في روما خلال القرن الثاني قبل الميلاد فالسمة الأساسية للدستور المعمول به ، تتمثل في توزيعه للسلطات داخل الدولة على أساس قاعدة الإنصاف ، بحيث لا تطغى إختصاصات مجلس الشيوخ على الإمتيازات التي يتمتع بها الشعب، كما أن مجالات تدخل القناصلة ، رغم أهميتها ، محددة بكيفية صارمة .
وهذا ما يجعل من الصعب وصف الدستور الروماني ، بالدستور الارستقراطي أو الديمقراطي أو الملكي.وتبرز أهمية هذا الاستنتاج إذا ما انتبهنا إلى أن بوليبيوس لا يعتمد مقاربة قانونية صرفة لإبراز فعالية النظام السياسي الروماني وأفضلية القواعد التي يرتكز عليها ، فلقد كان هدفه هو القيام بمحاولة تركيبية تتألف بفضلها عناصر المنهجية التاريخية والسياسية مع وجهة نظر الفقيه الدستوري .
إنه لا يرشدنا فقط إلى الاختصاصات المعترف بها لمختلف الهيئات السياسية الفاعلة، ولكنه يبرز لنا ما يمكن لهذه الهيئات أن تقوم به فعليا وبكيفية ملموسة ، بحكم العلاقات التي تحكمها موازين القوى التي تحدد مركزها الواقعي .
ولقد اعتمد شيشرون على الخلاصات التي توصل إليها بوليبيوس ، لتطويرنظريته الخاصة حول الدستور المختلط ،بيد أنه إذا كان بوليبيوس قد ألح كثيرا على أهمية وسائل الضغط المتبادلة التي تتوفر عليها الأجهزة المختلفة،فان شيشرون سيركز على ما أسماه بالمداولة العقلانية أو تحولهم إلى مجرد عبيد للسلطة أو ناقمين عليها .
فبإسم واجب السهر على المصلحة العامة ، لم يتردد في قمع كل المحاولات الرامية لخلق الشقاق داخل الدولة ، أو نسف مرتكزاتها الإيديولوجية وهذا ما يفسر موقفه المعادي للمسيحية ،بل ونتقاده حتى لطريقة موت المؤمنين بها فاستشهاد هؤلاء ، لم يكن بالنسبة إليه نتيجة الإقتناع بعقيدتهم الدينية،وإنما هو تعبير عن عناد في معارضة السلطة ورغبة مخالفة للمألوف ،ولقد أدرك جيدا بأن العناية الإلهية التي جعلته يتبوأ منصب إمبراطور روماني هي التي تفرض عليه الإحتراس من الخطر الذي تشكله الدعوة المسيحية ، بحكم تهديدها لإستقرار وأمن الدولة .
فوظيفته كحارس للإمبراطورية ،تضطره للإستئناس مع مختلف مظاهر الرذيلة ، والتعود على الأمور التي لا يحبها ،دون أن ينتابه اليأس أو الإنقباض من البشر فالإنسان الضال ” إذا أخطأ ، علمه بين له سبب زلته، وإذا كنت غير قادر على ذلك ،فما عليك إلا أن تعاقب نفسك – ونفسك فقط (17).

الهوامش:
(*) د: عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة الإغريقي –الهلنسيتي –الروماني ص. 5 وما بعدها.
1: محمد كامل ليلة : النظم السياسية ( الدولة . الحكومة ) دار النهضة العربية بيروت لبنان ص 381
2 : د. عمر عبد الحي : الفكر السياسي في العصور القديمة : الإغريقي – الهلنيستي- الروماني الطبعة الأولى 2001 ص 305 .
3: د.إبراهيم أبراش : تاريخ الفكر السياسي من حكم الملوك الآلهة حتى نهاية عصر النهضة الجزء الأول ص 108 – 109
(4) د محمد كريم : تاريخ الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى ص 110
(5) د. عادل خليفة : الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى الجزء الأول ص 157 .
(6) د. عادل خليفة : نفس المرجع ص 157 .
(7) د. إبراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 109 .
(8) د.عمر عبد الحي : مرجع سابق ص 306

(9) د. ابراهيم أبراش : نفس المرجع السابق ص 111 .
(10)د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص.387.

(11) د. محمد كامل ليلة : نفس المرجع السابق ص 388

(12)د إبراهيم أبراش مرجع سابق ص 113 .
(13)إبراهيم أبر اش : نفس المرجع السابق ص 114
(14) جان توشار : تاريخ الفكر السياسي ص 59 .

(15): الدكتور عادل خليفة الفكر السياسي في العصور القديمة والوسطى.الجزء الأول ص 161 وما بعدها.
(16) وذلك بعد انتصار Octavien على Antoine الذي تحالف مع كليوباترة ملكة مصر وذلك في المعركة المشهورة باسم Actium التي جرت بتاريخ 2 شتنبر 31 ق.م

(17)د يوسف الفاسي الفهري : تاريخ الفكر السياسي 1 العصور القديمة والوسطى ص 87 وما بعدها.




شكرا جزيلا

merciiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii iiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiiii

شكراا على الموضوع وبالتوفيق.

pour se formidable exposé c’est gentille de votre partتعليم_الجزائرmercii

التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

المسؤولية الادارية

إذا حاولنا إيجاد تعريف عام للمسؤولية فإننا نجد من الناحية اللغوية أنه يقصد بكلمة المسؤولية قيام شخص ما بأفعال أو تصرفات يكون مسؤولا عن نتائجها ، أما من الناحية الإصطلاحية فإن المسؤولية هي : ” تلك التقنية القانونية التي تتكون أساسا من تداخل إرادي ينقل بمقتضاه عبء الضرر الذي وقع على شخص مباشر بفعل قوانين الطبيعة أو البيولوجيا أو البسيكولوجيا أو القوانين الإجتماعية إلى شخص أخر، ينظر إليه على أنه هو الشخص الذي يجب أن يتحمل هذا العبء ” .
والمسؤولية عامة يختلف مفهومها بإختلاف المجال الذي تدرس فيه ، فإذا كانت المسؤولية الأدبية تنتج عن مخالفة واجب أدبي ( لاينص عليه القانون ) ، فإن المسؤولية القانونية تنتج- على عكس ذلك – عن مخالفة إلتزام قانوني ، كما نجد المادة 124 من القانون المدني الجزائري تأتي بقاعدة عامة بحيث تنص على أنـه : ” كل عمل أيا كان ، يرتكبه المرء ويسبب ضررا للغير يلزم من كان سببا في حدوثه بالتعويض ” .
فنجد المسؤولية المدنية في القانون المدني ، والمسؤولية الجنائية في القانون الجنائي ، والمسؤولية الدستورية في القانون الدستوري ، والمسؤولية الدولية في القانون الدولي العام ، وفي القانون الإداري نجد المسؤولية الإدارية وهي ما يهمنا في بحثنا هذا ، وهذه الأخيرة تترتب في حالة حدوث ضرر ما من جراء أعمال الإدارة العامة .
ومسؤولية الإدارة العامة ، نجدها في الوقت الراهن في معظم التشريعات ، إلا أنها حديثة النشأة ، إذ أنه لم يبدأ الأخذ بها سوى في أواخر القرن الماضي خاصة مع إتساع مجال تدخل الدولة في جميع الميادين ، فنظرا لما تتمتع به الإدارة من إمتيازات السلطة العامة ، فإن المشرع لأجل تحقيق النفع العام و الراحة العمومية والسكينة العامة والأمن العام والتي تشكل من أهم الإلتزامات التي تقع على عاتق الدولة بحيث تلتزم بتحقيقها
بهدف احترام سيادتها والحفاظ على استمرارها . ولما أن حاجات الأفراد ومتطلباتهم تزداد كلما ازداد عددهم فإن حاجات الدولة لتحقيق التزاماتها نحو الفرد تزداد أيضا ، وبذلك تحاول الدولة خلق وسائل قانونية تستطيع من خلالها التوفيق بين تحقيق مصالح الجماعة وإرضاء الفرد .
فإن المكانة التي تحتلها النشاطات العامة في مجتمعنا ، وكذا الحاجة الحالية إلى تغطية كافة الأضرار ، بالإضافة إلى تطور مفهوم دولة القانون ، تبرر ظهور وتوسع فكرة المسؤولية الإدارية . فنشاط الإدارة كأي عنشاط أخر قد يكون سببا في إحداث أضرار – قد تكون بجسامة معتبرة – بإعتبار الإدارة كسلطة تنفيذية تستعمل وسائل ضخمة وأحيانا خطرة في أداء مهمتها . فهل يحق للضحايا طلب جبر هذه الأضرار ؟ و بأية شروط ؟ .
إن المسؤولية التي تنجر في هذه الحالة هي مسؤولية مدنية وليست جزائية ، فالمسؤولية الجزائية للأشخاص المعنوية يتناولها القانون الجنائي ، بينما ينحصر موضوع بحثنا في المسؤولية الإدارية ، أي في مجال القانون الإداري . كما أنها تخرج عن مجال المسؤولية العقدية ، إذ أن مسؤولية الإدارة التي تنجر عن عدم تنفيذ التزام تعاقدي تدخل ضمن نظرية العقود الإدارية .
إن الإجتهاد القضائي في مجال القضاء الإداري عمل عبر مراحل متتالية على إيجاد حلول خاصة لهذه المسؤولية ، فوضع نظام قائما بذاته يتعلق بها . أما التشريع فلم يتدخل سوى في حالات معينة لتغطية أضرار خاصة . وسوف نرى عبر تحليلنا لهذا الموضوع مختلف الفروق بين نظام المسؤولية في القانون الإداري ، وما هو متداول عليه في القانون المدني بإعتباره القاعدة العامة .
فكيف ظهر مبدأ المسؤولية الإدارية ؟ وكيف تطور ؟ وماهي أهم خصائصه ؟ والأسس التي يقوم عليها ؟ وفي الأخير ماهي النتائج المترتبة عن تحميل الإدارة المسؤولية عن الأضرار المترتبة عن ادائها لنشاطها ؟
و لمعالجة هذه الإشكاليات ، ارتأينا اتباع الخطة المبينة أدناه :

المبحث الأول: نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية:
ظلت الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة و لحقبة طويلة من الزمن غير مسؤولة عن أعمالها ووظائفها المختلفة، و كذا عن أخطاء موظفيها، و يعود ذلك إلى الفكرة التي كانت سائدة آنذاك و هي أن الدولة شخص معنوي مجسدة في شخص الملك الذي لا يخطئ أبدا، و كذا إلى فكرة السيادة باعتبار أن المسؤولية التزام و هو ما يتناقض مع السيادة في شكلها التقليدي بما تنطوي عليه من سمو و إطلاق.
إلا انه في نهاية القرن 19 و بداية القرن 20 بدأ المفهوم المطلق لعدم مسؤولية الدولة يندثر خاصة مع اتساع مجال تدخل الدولة في جميع المجالات مما ينتج عنه تعدد الأضرار على الأشخاص و الأموال، وبدأت فكرة المسؤولية تشق طريقها نحو التطبيق، إذ لجأ في بعض القوانين إلى منح تعويضات عن الأضرار الناتجة عن نشاط الإدارة دون أن يعترف بمسؤولية الإدارة، و طبق القضاء هذا المبدأ بعد مدة طويلة، إذ تطورت مفاهيمه ، و لجأ إلى عدة نظريات حاول من خلالها إيجاد أساس قانوني لهذه المسؤولية و من بينها نظرية الدولة المدينة و نظرية المرفق العام.
و لم يتم خضوع الإدارة بما لها من سلطات و امتيازات للقضاء العادي أو الإداري دفعة واحدة، وإنما تم ذلك ببطئ، و عبر حقب زمنية متتالية، و قد اختلفت مواقف النظم القضائية المقارنة حول تكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، إذ ظهرت في الدول الانجلوسكسونية و خاصة انجلترا عدة محاولات لإخضاع تصرفات الإدارة لرقابة القضاء بالرغم من وجود مبدأ عدم مسؤولية التاج.
و مع تمتع الإدارة بسلطات و امتيازات واسعة في الدول الأوربية و على رأسها فرنسا، فإنه لم يكن بإمكان القاضي العادي أن يوجه لها أمرا بالقيام بعمل أو الامتناع عنه أو إلزامها بالقيام بعمل، إلا أن قيام الثورة الفرنسية و ظهور مبدأ الفصل بين السلطات على يد الفقيه ” مونتسكيو” أعطيا دفعا قويا لتكريس مبدأ مسؤولية الإدارة، و هو ما نتج عنه منح القاضي الإداري مهمة الفصل في القضايا التي تكون الإدارة طرفا فيها.
أما عن الدولة الجزائرية فقد عرفت هي الأخرى عدة تطورات بخصوص تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة و هو ما سنتطرق له تباعا.
المطلب الأول: عدم مسؤولية الإدارة
تملصت الإدارة و لمدة طويلة من الزمن من مسؤوليتها عن أعمالها و أخطاء موظفيها على أساس الإعتقاد الذي كان سائدا و هو أن الملك لا يخطئ “The king can do no wrong ” فباعتبار أن التاج صاحب السيادة لا يخطئ فإن الدولة لا تسأل عن أعمالها و أعمال موظفيها .
و يمكن حصر الأسباب و العوامل التي أدت أو ساعدت على سمو مبدأ عدم مسؤولية الدولة فيما يلي:
1- طبيعة الدولة قديما و ظروفها الإجتماعية، السياسية و الإقتصادية، إذ كانت في معظمها دول دكتاتورية بوليسية لا تخضع لمبدأ الشرعية و لا لرقابة القضاء، و هو ما ساعد على انتشار و توسع دائرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها غير المشروعة و الضارة.
2- طبيعة العلاقة القانونية التي كانت تربط الموظف بالدولة و التي عرفت بالتعاقدية لاسيما في النظام الانجلوسكسوني، و بالتالي فإن الإدارة لا تسأل عن الأضرار التي يسببها موظفوها للغير، على أساس أن هذه الأضرار تعد خارجة عن نطاق حدود العقد المتعلق بالوظيفة و يتحملون المسؤولية المدنية أمام القاضي العادي .
و قد كرست فرنسا هذه الحماية لموظفيها بعدم إمكانية مقاضاتهم وفقا لنص المادة 75 من دستور السنة الثامنة للثورة، إلا أن هذه الحماية القانونية التي منحت للموظفين والعاملين استعملت بطريقة مبالغ فيها، مما أدى إلى إلغاء المادة 75 بموجب المرسوم الصادر في19/09/ 1970 .
3- الإهتمام بقضايا حقوق الإنسان و الدولة القانونية و العدالة الإجتماعية بصفة نظرية بغض النظر عن أساليب و فنيات تطبيقها.
4- إنعدام الأساليب القانونية و الإجرائية اللازمة لإخضاع الإدارة للرقابة القضائية.
5- عدم بروز و بلورة فكرة التفرقة بين الخطأ المرفقي و الخطأ الشخصي و نظرية المخاطر، و هو ما ساعد على عدم تحديد الخطأ الإداري
6- سمو مبدأ سيادة الدولة، إذ كان ينظر إليه على أنه يتنافى مع مبدأ المسؤولية و لا يلتقيان، فالدولة شخص معنوي تتمتع بكافة الحقوق والإمتيازات و أساليب السلطة العامة، و تتمتع بالسيادة و بالتالي فإنه لا يمكن مساءلتها عن أعمال سلطاتها بما فيها التنفيذية.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
كغيرها من الدول القديمة خضعت فرنسا لمقولة ” الملك لا يسيء صنعا ” le roi ne peut mal faire و أنه امتداد لإرادة و ظل الله في أرضه، و هو ما جعله يتمتع بسلطة مطلقة في تسيير شؤون الدولة و عدم خضوعه للرقابة بما فيها الرقابة القضائية، و اعتباره مصدرا للعدالة، و التكفل شخصيا بالفصل في أي منازعة، و كذا وقف تنفيذ الأحكام أو إصدار حق العفو فيها.
و بانتقال فرنسا بعد الثورة الفرنسية سنة 1789 من النظام الملكي إلى الجمهوري، و بظهور نظرية مونتسكيو المتعلقة بالفصل بين السلطات، ظهر جدل فقهي كبير حول عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية، إذ أن مناقشة تصرفات الإدارة أمام القضاء، و إعلان مسؤوليتها و إلزامها بالتعويض عن الأخطاء التي يرتكبها موظفوها يؤدي إلى تدخل السلطة القضائية في أعمال السلطة التنفيذية على خلاف ما يقضي به مبدأ الفصل بين السلطات، و لم يكن الإختلاف قائما حول المبدأ و إنما حول تفسيره، إذ يأخذ البعض بالفصل المطلق بين سلطات الدولة، و هو ما كان يميل إليه رجال الثورة الفرنسية متأثرين في ذلك باعتبارات تاريخية تتمثل في تعسف محاكم النظام القديم، في حين كان الاتجاه الغالــب و الواقع العملي يرجح فكرة الفصل النسبي لما يسمح به من وجود نوع من الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة للحيلولة دون استبداد كل سلطة باختصاصاتها .
فجل الأفكار التي كانت سائدة آنذاك كانت مع فكرة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمال جميع موظفيها، إذ رأت السلطة الفرنسية أن المحاكم العادية قد تعرقل الإصلاحات التي تعزم الإدارة القيام بها لذلك عملت على إبعاد منازعات الإدارة عن ولاية المحاكم العادية، و تجسيدا لهذه الأفكار صدر قانون
16-24 سنة 1790 الذي نص في المادة 13 منه ” إن الوظائف القانونية تبقى دائما مستقلة عن الوظائف الإدارية و أن القضاة لا يمكنهم تعطيل أعمال الإدارة بأي طريقة كانت أو مقاضاة أعوانها من اجل أعمال تتصل بوظائفهم و أن كل خرق لهذا المنع يعتبر خرقا فادحا للقانون”
و قد اعتبر المدافعون عن قانون 1790 أن مقاضاة الإدارة أو أعوانها أمام القضاء يؤدي إلى عرقلة أعمالها التي تهدف إلى تحقيق الصالح العام، فمثلا إذا تمت مقاضاة الإدارة حول نزع الملكية من أجل المصلحة العامة فإن ذلك سيؤدي حتما إلى تعطيل المشاريع التي تم من أجلها نزع العقار من مالكه .
و على هذا الأساس صدر في السنة السادسة للثورة قانون يمنع المحاكم صراحة من التعرض لأعمال الإدارة أيا كان نوعها و أصبحت الإدارة بذلك تتولى مهمة الفصل في المنازعات التي تنشأ بينها و بين الأفراد، و تطبيقا لهذا القانون صدر قانون آخر بتاريخ 06/09/1790 يمنح الاختصاص في النظر في القضايا التي تكون الإدارة المحلية طرفا فيها لحكام الأقاليم، و منح للإدارة العامة ممثلة في رئيس الدولة والوزراء ـ كل في حدود اختصاصه ـ للنظر في المنازعات التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها، لتكون الإدارة بذلك الخصم و الحكم في آن واحد و سميت بالإدارة القاضية، و هو ما أعاق تحقيق و تكريس مبدأ الفصل بين السلطات، إذ أنه منع على السلطة القضائية البث في القضايا الإدارية في حين منح للسلطة الإدارية سلطة البث في القضايا الإدارية مع أنها ليست جهة قضائية.
و أمام رفض الفقهاء و القضاء لتمتع الإدارة بهذا الاختصاص الممتاز، تم فصل الإدارة العاملة عن الإدارة القاضية، و تم إنشاء جهة استشارية مختصة في الفصل في المنازعات الإدارية بموجب نص المادة 52 من دستور السنة الثامنة، و هي مجلس الدولة في العاصمة، كما تم إنشاء مجالس المحافظات في باقي الأقاليم.
إلا أن قرارات المجلس لم تكن سوى آراء و مشاريع قرارات معلقة على مصادقة رئيس الدولة، إذ أنها لم تكتسي الطابع القضائي، و لم تكن شاملة و لا نهائية، كما أنه لم يعتمد حال فصله في المنازعات على قواعد خاصة تطبق فقط على المنازعات الإدارية، و إنما طبق قواعد القانون الخاص.
كما نصت المادة 75 من دستور السنة الثامنة من الثورة الفرنسية لسنة 1800 على ضرورة استئذان مجلس الدولة قبل رفع قضايا التعويض على موظفي الحكومة بسبب أعمالهم و وظائفهم.
إلا أن المجلس لم يمنح الإذن إلا نادرا إذ أنه في الفترة الممتدة بين 1852 و 1864 قدم أمامه 264 طلبا لمنح رخصة لمقاضاة موظفين فلم يجب إلا على 34 طلبا منهم فقط و ظل هذا النص يعرقل رفع دعاوى التعويض على الموظفين إلى غاية إلغائه بموجب مرسوم 19/09/1870.
و بتاريخ 24/05/1872 صدر قانون تم الاعتراف بموجبه لمجلس الدولة بصلاحية الفصل في المنازعات الإدارية المرفوعة أمامه بصفة نهائية و دون حاجة إلى مصادقة السلطة الإدارية على قراراته و لم تعد الأحكام تصدر باسم الدولة بل باسم الشعب الفرنسي على غرار أحكام القضاء العادي، و قد نصت
المادة 9 التاسعة منه على أنه ” يختص مجلس الدولة بشكل بات و سيادي في طعون مواد المنازعات الإدارية و في طلبات الإلغاء لتجاوز السلطة “.
و أصبح بذلك مجلس الدولة جهة قضائية عليا و تم الفصل بين القضاء الإداري و القضاء العادي.
الفرع الثاني : النظام الجزائري
من المسلم به تاريخيا أن مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها مبدأ حديث النشأة وجد في أواخر القرن 19 و بداية القرن 20 مع ظهور الدولة القانونية، إلا أنه و بالخصوص في تاريخ الجزائر القانوني نجد أن ظهور المسؤولية الإدارية يعود إلى سنين بعيدة تصل إلى صدر الإسلام.
و قد مرت نشأة و تطور مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمالها في النظام الجزائري بعدة مراحل قبل الإحتلال، أثناء الإحتلال و بعد الإستقلال.
و بما أننا خصصنا هذا المطلب لعدم مسؤولية الإدارة فإننا سنتطرق لمرحلة أثناء الإحتلال التي عرفت عدم تطبيق مبدأ المسؤولية الإدارية في الجزائر مع أنها كانت مكرسة في النظام الفرنسي، و نتطرق لمرحلة ما قبل الإحتلال و بعد الإستقلال في المطلب الثاني المتضمن مسؤولية الإدارة على أساس أن النظام الجزائري قد عرف المسؤولية الإدارية في هاتين الحقبتين من الزمن.
لقد امتد تطبيق النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الإدارة عن أعمالها إلى الجزائر، إذ طبقت نفس القواعد الموضوعية و الشكلية و لاسيما المتعلقة بأسس مسؤولية الإدارة العامة عن أعمال موظفيها، و مرت بنفس التطورات التي شهدها القضاء الإداري الفرنسي، كما أقيمت جهات قضائية إدارية خاصة للنظرــر و الفصل في القضايا و الدعاوى الإدارية و من بينها المنازعات الخاصة بمسؤولية الإدارة عن
أعمال موظفيها، إذ أنشأت محاكم القضاء الإداري الثلاثة و هي محكمة الجزائر، وهران، قسنطينة بموجب المرسوم المؤرخ في 30 سبتمبر 1953 و ذلك بعد إلغاء مجالس العمالات التي كانت قائمة إلى جــانب مجلس الدولة الفرنسي ، و قد أسندت لهاته المحاكم الثلاثة مهمة النظر و الفصل في المنازعات الإدارية بما فيها المنازعات المتعلقة بمسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها، و ذلك تحت رقابة مجلس الدولة الفرنسي بباريس باعتباره جهة قضائية إدارية استثنائية و جهة نقض .
إلا أنه و رغم تقدم و تطور النظرية الفرنسية لمبدأ مسؤولية الدولة على يد القضاء الإداري، فإن تطبيقها لم يكن شاملا و لا عاما، إذ اقتصرت الإدارة على تطبيق هذا المبدأ على الفرنسيين و غيرهم من الأوربيين المستوطنين بالجزائر دون الجزائريين الذين عانوا كثيرا من بطش و تعسف الإدارة الفـــرنسية و اعتداءاتها المستمرة على حقوقهم و حرياتهم دون أن يكون لهم الحق في الاستفادة من هذا المبدأ الهام ومساءلتها أمام القضاء، لأن تطبيق مبدأ المسؤولية في الجزائر يتعارض و غرضها الاستعماري.
و لاستبعاد الجزائريين من دائرة تطبيق مبدأ مسؤولية الإدارة ، أصدرت فرنسا عدة قوانين استثنائية يقتصر تطبيقها على الجزائريين فحسب، تثبيتا لمبدأ ” فرق تسد” و تطبيقا لسياسة ” التمييز العنصري”
و هو ما أعدم لدى الجزائريين مجرد التفكير في اللجوء إلى الجهات القضائية الفرنسية لمطالبة الإدارة بالتعويض عن الأضرار التي أصابتهم من جراء أعمالها و أخطاء موظفيه.
المطلب الثاني: تقرير مسؤولية الإدارة
ظل مبدأ عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها و عدم جواز مطالبها بالتعويض عن الأضرار التي سببتها سائدا و لفترة طويلة إلى غاية أواخر القرن 19 و بداية القرن 20، أين بدأت الإدارة تعترف بمسؤوليتها مع التقدم و ارتفاع درجة الوعي، و انتقاد الرأي العام و الفقهاء لهذا المبدأ على أساس أن الأخذ به يعد مساسا بالعدالة و اهدارا للمبدأ الدستوري الذي ينص على المساواة بين المواطنين أمام الأعداء العامة و الذي لا يتحقق إلا بإلزام الدولة بدفع تعويضات عن الأضرار التي تسببها بأعمالها.
و يمكن تلخيص العوامل التي أدت إلى انهيار مبدأ عدم مسؤولية الإدارة ليقوم مقامه مبدأ مسؤوليتها، إذ أضحى هو الأصل بعد أن كان الإستثناء و لتتحقق المساواة بين الإدارة و الأفراد في:
1- الفهم الصحيح لمبدأ سيادة الدولة، إذ بعد أن كانت تفهم على أنها سلطة مطلقة لا تقيد بالقانون و بالتالي لا يمكن مقاضاتها أو إلزامها بدفع تعويض، فلم تعد حاليا تتنافي مع الخضوع للقانون و لا مطلقة، إذ تقيد بأحكام القانون الدولي العام على مستوى العلاقات الدولية، و تقيد بالقانون الداخلي على مستوى علاقاتها مع الأفراد، و بالتالي يمكن مساءلتها و تتحمل دفع تعويضات إذا ما ألحقت ضررا بأحد المواطنين.
و إن كان الفقيهان دوجي وجيز يريان أن فكرة السيادة خاطئة و تتنافي مع المنطق و المبادئ القانونية الحديثة، لأن الحكام و ممثليهم على مستوى الإدارات يتولون اختصاصاتهم في حدود القانون، و يسألون في حالة خروجهم عنهم.
2- انتشار الديمقراطية في معظم دول العالم، و هي النظام الأكثر تقبلا لفكرة المسؤولية و رقابة القضاء، و احتراما للقانون، إذ تقوم أساسا على مبدأ المشروعية و خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون.
3- إنتقال الدول من المذهب الفردي الحر إلى مذهب التدخل و تبلور دورها من مجرد حارسة تنحصر مهمتها في حماية الأفراد و السهر على أمنهم و سلامتهم داخليا و خارجيا إلى تدخلها في مختلف الأنشطة و اتساع دورها، و هو ما جعلها تقوم بأنشطة مشابهة لأنشطة الأفراد. مما نجم عند ازدياد الأضرار التي تسببها الأفراد كما و نوعا، و زادت معه الحاجة الملحة لمساءلتها و تعويض الأفراد.
و قد كانت مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية هي الأسبق في التحرر شبه الكامل من قيود مبدأ السيادة، و قد ساعد على ذلك أن الإدارة هي أداة الدولة لتنفيذ سياستها و السهر على تطبيق قوانينها و غدارة مرافقها و للاضطلاع بهذه المهام تحتك الإدارة بالأفراد بصفة دائمة و متواصلة، الأمر الذي يعرضهم للإصابة ببعض الأضرار، و هو ما أدى إلى البحث عن وسيلة لجبر هذه الأضرار، و كان من المنطقي الإنصراف عن قاعدة عدم المسؤولية الإدارية و التخلي عنها.
و قد ظهرت المسؤولية الإدارية بصفة و بدرجات متفاوتة بين الدول و ذلك بالنظر إلى نظامها القانوني، إذ طبقت الدول الأنجلوسكسونية على الإدارة نفس نظام المسؤولية المدنية المطبق على الأشخاص العاديين باعتبارها تخضع لمبدأ وحدة النظام القانوني و القضائي، في حين خصت فرنسا المسؤولية الإدارية بنظام قانوني خاص و جهات قضائية مستقلة تختلف عن نظام المسؤولية المطبق على الأشخاص العاديين
باعتبارها تخضع لمبدأ ازدواجية النظام القانوني و القضائي، و هو ما نتج عنه ازدواجية في النظام القانوني والقضائي للمسؤولية الإدارية قضاء عادي و قضاء إداري، أما الجزائر فإنها عرفت تأرجحا بين النظامين.
و لتوضيح نشأة و تطور فكرة المسؤولية الإدارية بدقة سنتطرق لها في فروع متفرقة.
الفرع الأول: النظام الفرنسي
أمام ضغط و تأثير الأفكار الفلسفية و الديمقراطية، و التحولات الاقتصادية و انتقادات الفقه والقضاء بدأت فرنسا تتراجع تدريجيا عن تطبيق مبدأ عدم مسؤولية الدولة بصفة عامة و الإدارة بصفة خاصة، و هو ما اضطر المشرع إلى التدخل و تقرير مسؤولية الإدارة بصفة صريحة و إحلال مسؤوليتها محل الموظفين، كما أنه أباح للمواطنين مقاضاة الموظفين العموميين دون حاجة إلى استئذان الإدارة و ذلك لمنع تعسفها.
إلا أن القضاء لم ينتقل مرة واحدة من مبدأ عدم المسؤولية إلى مبدأ المسؤولية الكاملة و إنما تدرج، إذ بدأ في الحد من مبدأ عدم المسؤولية على أساس التفرقة بين نوعين من أعمال الإدارة، أعمال شبيهة بأعمال الأفراد العاديين تقوم بها بوصفها تاجر أو مسير، و بصفة مجردة من مظاهر و امتيازات السلطة العامة “Actes de gestion ” ، و أعمال السلطة العامة التي تستعمل فيها مظاهر و امتيازات السلطة العامة و التي تسمي ب “Actes de puissance publique ” ، و التي تعفي فيها من المسؤولية إلا إذا وجد نص مخالف، إذ أنه بإمكان المشرع أن يقررإصلاح الأضرار الناجمة عن أعمال السلطة.
و نظرا لعدم دقة معيار التفرقة بين أعمال السلطة و أعمال الإدارة من ناحية، و عدم اتفاق مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة التنفيذية و التطورات و الأفكار المعاصرة من ناحية أخرى عدل مجلس الدولة عن هذا المعيار آخذا بمعايير أخرى .
و بذلك نقول أن قبول فكرة المسؤولية مر بمرحلتين، إذ أعرفت به أولا القوانين الخاصة التي تنص على التعويضات، ثم اعترف به القضاء بإلزام الإدارة بإصلاح الضرر الناتج عن أعمالها .
فبالنسبة للقوانين الخاصة فقد نصت المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان و المواطن لسنة 1789 على تكريس الحق في التعويض عن الإعتداء على الملكية العقارية.
كما تعرض قانون 28 بلوفيوز للسنة الثامنة في المادة 4، بصفة عارضة لمسألة التعويض في حالة الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية و منح الإختصاص لمجالس المحافظات للنظر في الشكاوى المقدمة ضد متعهدي الأشغال، و بالرغم من عدم إشارة النص إلى مسؤولية السلطة العامة، إلا أن القضاء الإداري توسع في تفسيره قاضيا باختصاصه بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المترتبة عن عقود الأشغال العمومية، و التي صنفت فيما بعد ضمن المسؤولية بدون خطأ و بالتحديد على أساس المخاطر .
و لضمان تطبيق المادة 545 من القانون المدني الفرنسي المأخوذ من نص المادة 17 من الإعلان عن حقوق الإنسان سنة 1789 تمت المصادقة على قانون 8 مارس 1810 المتضمن إجراءات نزع الملكية من أجل المنفعة العمومية، كما منح للقاضي العادي صلاحية تقرير نقل الملكية و تحديد مقدار التعويض.
و بذلك أصبحت الأضرار الناتجة عن الأشغال العمومية و نزع الملكية من أجل المنفعة العامة الحالتين الوحيدتين اللتين ينص فيهما القانون على التعويض لمصلحة الأشخاص المعنيين.
أما عن التكريس القضائي للمسؤولية الإدارية فقد ارتبط بالتنازع حول الاختصاص بين المحاكم القضائية و المحاكم الإدارية، إذ أن الأولى كانت تخص بمنح التعويضات عن الأضرار الناجمة عن نشاط
الدولة و ذلك بتطبيق قواعد القانون المدني، و هو ما كرسه الحكم الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 30/01/1843 الذي قضى بأن مبادئ المادة 1384 من القانون المدني تطبق على الإدارات العمومية بسبب الأضرار التي يسببها أعوانها و تابعيها خلال قيامهم بوظائفهم .
إلا أن مجلس الدولة اعترض على هذا الموقف و تمسك باختصاصه مؤسسا ذلك على نظرية الدولة المدينة ” L’Etat débiteur ” … ” كل دين على الدولة يسوى إداريا” .
و لم يتم حل هذا الإختلاف إلا بعد إنشاء محكمة التنازع و ظهور معايير جديدة، و قد كرس مجلس الدولة رفضه لتطبيق قواعد المسؤولية المعروفة في القانون المدني على المسؤولية الإدارية، في الحكم الصادر بتاريخ 06/12/1855 المتعلق بقضية ” ROTCHILD ” ، حيث قرر صراحة أن العلاقات بين الدولة وموظفيها والمرافق العامة من ناحية وبين الأفراد من ناحية أخرى لا تخضع لنصوص القانون المدني لوحدها، و أن مسؤولية الإدارة عن أعمال أو أخطاء موظفيها ليست عامة و لا مطلقة و تتغير تبعا لطبيعة كل مرفق عام .
ثم أيدت محكمة التنازع إتجاه مجلس الدولة الفرنسي من خلال قرار بلانكو الشهير Blanco الصادر في 08/02/1873 و الذي يعد أهم تكريس قضائي للمسؤولية الإدارية للمرفق العام، و تتمثل
وقائعه في انه تعرضت الطفلة إجينز بلانكو لحادث مرور تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ، فرفع والدها دعوى امام القضاء العادي ضد الدولة للحصول على تعويض جبرا للضرر الذي أصاب ابنته، إلا أن وكالة التبغ دفعت بعدم إختصاص المحاكم العادية، و أن مجلس الدولة هو الجهة المختصة، وهو ما ادى إلى عرض النزاع على محكمة تنازع الاختصاص التي أصدرت قرار في الموضوع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد دافيد و قد تضمن عدة مبادئ هي:
1 ـ أن الدولة مسؤولة عن الأضرار التي تصيب الأفراد و التي يسببها الأشخاص الذين تستخدمهم، و أن هذه المسؤولية لا تخضع لمبادئ القانون المدني التي تحكم العلاقة بين الأفراد على أساس أن نصوصه المراد تطبيقها في مجال مسؤولية الإدارة لا ترمي إلى تنظيم مسؤولية الإدارة حيث تنص على مسؤولية الأفراد العاديين، و هو ما لا ينطبق على الدولة أو الإدارات العامة و موظفيها، كما أن هذه النصوص وضعت في وقت سيطرت فيه قاعدة عدم مسؤولية الإدارة عن أعمالها هذا من ناحية، و من ناحية أحرى فإن القواعد المدنية تقييم المسؤولية على أساس علاقة المتبوع بالتابع، في حين أن علاقة الإدارة بموظفيها هي علاقة تنظيمية و ليست تعاقدية، كما أنه لا يمكن تطبيق قواعد مسؤولية المتبوع عن التابع في
حالة عدم إسناد الفعل الضار لموظف معين و هو ما يقتضي استبعادها لأنها لم تعد تواكب نشاط الإدارة و لا تليق بطبيعة عملها و بالنتيجة وضع قواعد بديلة أكثر ملائمة لطبيعة النشاط الإداري سميت بقواعد القانون الإداري
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد صراحة تطبيق أحكام القانون المدني، و كرس الخصائص المتعلقة بالقواعد التي تطبق على المرفق العام.
2 ـ أن هذه المسؤولية ليست مطلقة و لا عامة، و لها قواعد خاصة غير مستقرة و ثابتة و إجراءات تحكمها تختلف باختلاف حاجة المرفق و ضرورة التوفيق بين حقوق الدولة و حقوق الأفراد .
3 ـ تختص المحاكم الإدارية بالنظر و الفصل في قضايا المسؤولية الإدارية و التعويض عن الأضرار الناتجة عن سير المرافق العامة .
و يكون بذلك قرار بلانكو قد استبعد بصفة صريحة و نهائية اختصاص القضاء العادي انطلاقا من نظرية الدولة المدنية ” L’état débiteur ” و فكرة امتيازات السلطة العامة و هي نفس الأسس التي استند عليها مفوض الحكومة دافيد في تقريره . إذ أقر بمسؤولية مصنع التبغ الذي يعتبر مرفق عام كغيره من المرافق التي تشكل النظام المالي للدولة و باعتبار أن هذه المرافق هي فروع للإدارة و الدولة تستعمل في تسيير المرافق السلطة العامة، فإن منازعاتها تخضع للقضاء الإداري.
و بالتالي أصبحت الدولة مسؤولة حتى وإن كان الموظف الذي تسبب في إحداث الأضرار ليست له صفة موظف دائم و إنما عامل مؤقت أو شخص وظف من طرفها للقيام بعمل معين و بموجب عقد محدد المدة .
و بذلك أصبح مجلس الدولة الفرنسي يقر بمسؤولية الإدارة عن الأخطاء المرتكبة من طرف موظفيها و يقضي بتعويض الأفراد المتضررين، مع أن مرتكب الحادث هو شخص عادي لا يتمتع بامتيازات السلطة العامة، بعد أن كان فيما مضى يفصل فقط في دعاوى إلغاء القرارات و الأعمال الصادرة عن السلطة العامة و التي تستعمل فيها امتيازات السلطة العامة.
و بموجب هذا القرار تغير مفهوم النشاط الإداري من كل نشاط تستعمل فيه الإدارة امتيازات السلطة العامة إلى كل عمل تقوم به الإدارة لتسير المرفق العام، و هو ما ينجر عنه مسؤوليتها عن الأضرار اللاحقة بالغير أثناء سير هذا المرفق، و بذلك و بعد قرار بلانكو أصبح ينظر إلى هدف النشاط، أي هل تهدف الإدارة من وراء النشاط الممارس إلى تسيير مرفق عام و تحقيق الصالح العام ؟
و يعد بذلك قرار بلانكو نقطة تحول كبيرة في تاريخ القضاء الفرنسي و قفزة نوعية من عدم مسؤولية الإدارة إلى المسؤولية الإدارية و نقطة تحول نحو الإستقلالية، ليس فقط بالنسبة للمسؤولية الإدارية و إنما أيضا بالنسبة للقانون الإداري ككل، إذ أنه أحدث هزة كبيرة في إثبات ذاتية القانون الإداري باعتباره أ مجموعة قواعد تحكم الإدارة و تتضمن أحكاما استثنائية خاصة لا مثيل لها في القانون الخاص.
و قد صدرت عدة قرارات أخرى بعد قرار بلانكو تؤكد مسؤولية المرافق العمومية منها قرار تيريي Terrier الصادر في 06/02/1903 المتعلق بمسؤولية المرافق العامة القومية، و قضية فيتري Feutry الصادر في 28/02/1908 الذي أقر مسؤولية المرافق العامة المحلية .
الفرع الثاني: النظام الجزائري
كما أشرنا سابقا فإن الجزائر قد عرفت و كرست مبدأ مسؤولية الإدارة في مرحلتين مرحلة ما قبل الإحتلال و التي نتطرق فيها للنظام القضائي الإسلامي و تطبيقاته، و مرحلة ما بعد الإستقلال.
I ـ مبدأ المسؤولية الإدارية قبل عهد الاستقلال:
لا يمكن دراسة التاريخ القانوني للجزائر قبل الإحتلال دون التطرق للنظام القانوني الإسلامي الذي كان مطبقا في الجزائر قبل الإحتلال الفرنسي باعتبارها دولة إسلامية تطبق مبادئ و قواعد الشريعة الإسلامية.
و يعد المذهب الإسلامي أول مذهب أقر المسؤولية بصفة عامة و الإدارية بصفة خاصة عن الأضرار الناتجة عن السلطة التنفيذية الممثلة في الخلفاء و اعوانهم أو السلطة القضائية الممثلة في القضاة و معاوينهم ، و ذلك تطبيقا لمبادئ الشريعة الإسلامية التي تحث على رفع الأضرار عن الرعية و مساءلة مسببيها مهما كانت الجهة التي صدر عنها الضرر، و من هذه المبادئ و القواعد قوله صلى الله عليه و سلم: ” لا ضرر ولا ضرار في الإسلام” قوله تعالى: ” يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما فلاتظالموا
و قوله: ” اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ” فقد عمل النبي عليه الصلاة و السلام على إخضاع الخلفاء و الولاة و الجنود و الموظفين للقانون و الحرص على عدم إعتدائهم على حقوق الرعية، و لقد ااحتذىالخلفاء الراشيدين من بعده بحذواه إذ عملوا على ترسيخ و توسيع مبدأ مسؤولية الدولة الإسلامية
إلا أنه و مع التطور التاريخ الذي عرفته الأمة الإسلامية و غلبة الطابع الدنيوي أصبح من الضروري إيجاد نظام قانوني و قضائي يتولى تطبيق مبدأ المسؤولية و تعويض المتضررين عن الأضرار الناجمة عن أعمال الدولة أو موظفيها، فظهر ديوان المظالم كجهة قضائية إدارية بالمفهوم الحديث تتولى مقاضاة الولاة رجال الدولة الذين لا يمكن للقضاء العادي مقاضاتهم، و قد باشر الخلفاء الراشدون النظر في المظالم بعد الرسول صلى الله عليه و سلم بأنفسهم كما فعل عثمان بن عفان وعمر بن عبد العزيز و أو بواسطة معاونيهم.
و قد كرسوا هذا المبدأ بإعمال قاعدة مسؤولية المتبوع عن أعمال تابعيه في نطاق المسؤولية المدنية و التي يتطلب قيامها ثلاثة شروط، علاقة التبعية بين التابع و المتبوع، خطأ التابع و العلاقة السببية بين خطأ المتبوع و ما إستخدم التابع من أجله.
و إذا ما أردنا الإشارة إلى بعض الأمثلة عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الشريعة الإسلامية فإننا نجدها كثيرة نذكر منها :
1 ـ قتل خالد بن الوليد شخص في قبيلة جذيمة بعد أن أعلن أهلها الإسلام فوصل ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فدفع دية لهذه القبيلة و رفع وجهه إلى السماء قائلا: ” اللهم أني أرا إليك مما فعل خالد “.
2 ـ روى أبو يوسف أن رجلا أتى عمر بن عبد العزيز و قال له: ” يا امير المؤمنين زرعت زرعا فمر به جيش من اهل الشام فأفسده فعوض الخلفية عشرة ألاف درهم ”
و إذا ما بحثنا عن تطبيق مبدأ المسؤولية في الدولة الجزائرية فإننا نجد أن حكامها الأولين قد حذو حذوحكام الدولة الإسلامية، إذ كان أمراء بنى الأغلب و الفاطمين و سلاطين الموحدين و المرابطين و بنى مرين و بنى زيان يجلسون لنظرا لمظالم و يعتبرونها من صلب وظيفة الإمارة.و قد أبقي على ولاية المظالم في عهد الأتراك مع بعض الاختلاف.
و في عهد الأمير عبد القادر طبق مبدأ مسؤولية الدولة بصفة واسعة و موضوعية، إذ حذى حذو الخلفاء الراشدين و تولى النظر بنفسه في ولاية المظالم و حرص على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إذ كان يفصل في التظلمات المرفوعة إليه ضد موظفي الدولة و يتولى معاقبتهم مهما سمت درجة وظائفهم و مراكزهم، و يصدر في ذلك أحكام نهائية غير قابلة للطعن فيها .
II ـ مبدأ المسؤولية الإدارية بعد الاستقلال:
إختارت الدولة الجزائرية بعد الإستقلال الإستمرار في تطبيق التشريع الفرنسي خوفا من الوقوع في فراغ قانوني و طبقت ذلك وفقا للقانون 62-153 المؤرخ في 31/12/62 ، الذي قضى باستمرارية تطبيق التشريع الفرنسي إلا ما يتنافى مع السيادة الوطنية كأن يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية و الخارجية للدولة الجزائرية أو التفرقة العنصرية، و قد ورد في ديباجة هذا القانون تبرير حول إختيار المشرع لهذا التمديد بقوله: ” إذا كانت الظروف لا تسمح بإعطاء البلاد تشريع يتماشى مع احتياجاتها و طموحاتها فإنه من غير المعقول تركها تسير بدون قانون، و لذلك كان من الضروري تمديد مفعول القانون القديم و إستبعاد الأحكام التي تتنافي و السيادة الوطنية إلى أن يتم التمكن من وضع تشريع جديد ” .
و بموجب الأمر رقم 63-218 المؤرخ في 18/06/1963 تم إنشاء المجلس الأعلى كجهة نقض بالنسبة للقضاء العادي و الإداري.و لم تدم المرحلة الإنتقالية التي شهدها النظام القضائي طويلا، إذ صدر الأمر رقم 65-278 المؤرخ في 16/11/1965 و تضمن عدة إصلاحات و تنظيم قضائي جديد، إذ وضع حدا للإزدواجية في مجال المنازعات بإلغاء المحاكم الإدارية الثلاثة (الجزائر، وهران، قسنطينة) و نقل اختصاصاتها للغرف الإدارية بالمجالس القضائية التي أصبحت بموجب المادةالأولى منه 15 خمس عشرة مجلسا، و أسند للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى مهمة النظر ابتدائيا و نهائيا في الطعون بالبطلان في القرارات الإدارية و تفسيرها و فحص مدى مشروعيتها، كما تولى مجلس الثورة مهمة التشريع خلفا للمجلس الوطني، و قد جعلت هاته الإصلاحات و غيرها من النظام القضائي الجزائري نظاما متميزا عن النظام الفرنسي، و أثبتت الدولة الجزائرية من خلالها أنها حققت نجاحا على مستوى المنظمة القانونية و القضائية بالقضاء على نظام الإزدواجية باعتبار أحد مخلفات الإستعمار.
و في المقابل كان تطبيق مبدأ مسؤولية الدولة بعد الإاستقلال أمر حتمي و ضروري بعد المعاناة الطويلة التي عانى منها الجزائريين من استبداد و تعسف الإدارة الإستعمارية التي طبقت مبدأ عدم المسؤولية بكل أبعاده و آثاره رغم تقدم النظرية الفرنسية و تكريس مبدأ المسؤولية في فرنسا و حتى في الجزائر لكن بالنسبة للفرنسيين و الأجانب فقط.
و قد سار القضاء الجزائري و حتى المشرع على نفس درب التشريع و القضاء الفرنسي، إذ طبق النظرية الفرنسية المتكاملة قضائيا و تشريعا و فقهيا المتعلقة بمبدأ المسؤولية الإدارية، و كرسها في العديد من القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى أو مجلس الدولة بعد إنشائه بموجب القانون العضوى
98-01 المؤرخ في 30/05/98 ، و كذا من خلال العديد من النصوص التشريعية و التي نذكر البعض منها فقط على سبيل المثال لأنه سيتم التطرق لها بنوع من التفصيل في الفصل الثاني من المبحث.
إذ أقر مجلس الدولة (المحكمة العليا حاليا) مسؤولية الإدارة في القرار الصادر في 17/04/82 في قضية وزير الصحة العمومية و مدير القطاع الصحي لمدينة القل ضد “ع. ط” و من معه، و قدجاء في إحدى حيثياته: ” حيث أن مسؤولية الإدارة هي مسؤولية خاصة تخضع لقواعد ذاتية لها، و أن أحكام القانون المدني هي أجنبية غير مطبقة عليها، و كذا قضية حميدوش ضد الدولة إذ أقر أن الإدارة مسؤولة على أساس خطأ مرفقي و بالتالي فهي ملزمة بالتعويض، و ذلك من خلال القرار الصادر في 08/04/66 ، و أقر أيضا مسؤولية وزارة العدل في قضية بلقاسمي 17/04/1972 على أساس عدم سير مرفق القضاء .
كما صدرت عدة نصوص تشريعية هامة تم بموجبها التوسع في أسس المسؤولية القانونية من الخطأ الشخصي للموظف إلى الخطأ المرفقي ثم ظهرت نظرية المخاطر الإدارية، و من بين هذه النصوص المادة 17/2 من القانون الأساسي للوظيفة العامة.
و المادة 139-145 من قانون 90-08 المتعلق بالبلدية التي كرست مسؤولية البلدية عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدى و المنتخبون البلديون و موظفي البلدية و كذا مسؤولية البلدية عن الخسائر و الأضرار الناجمة عن الجنايات و الجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف أو خلال التجمهر والتجمعات و هو ما تقره أيضا المادة 118 من قانون 90-09 المتعلق بقانون الولاية التي تكرس مسؤولية الولاية.
و تجدر الإشارة إلى انه قد تقررت أيضا مسؤولية الإدارة بموجب نص دستوري المادة 145 من دستور 1996
و بتفحصنا لقرارات الغرفة الإدارية لمجلس قضاء بجاية وجدنا أن هناك تكريس واضح و كبير لمبدأ مسؤولية الإدارة، و مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 17/02/98 بين ع. ل القطاع الصحي لخراطة ، و القرار الصادر بتاريخ 10/06/2003 بين ورثة (ب . ع ) و رئيس بلدية اوزلاقن ، القرار الصادر بتاريخ 24/02/2004 بين خ. س و إدارة الجمارك .
المبحث الثاني: خصائص المسؤولية الإدارية
كما بيناه في المبحث السابق فإن قرار بلانكو الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية يعتبر نقطة التحول من مرحلة عدم مسؤولية الإدارة إلى مرحلة تقرير مسؤوليتها صراحة و قد اعتبر لمدة طويلة كقرار مبدئي و الحجر الأساس للقانون الإداري برمته كونه وضع القواعد الأساسية و بين خصائص المسؤولية الإدارية، لكن اليوم كثير من الكتاب يجدون أنه قديم و ليس بالأهمية التي أعطيت له، لهذا ارتأينا التطرق إليه بتفاصيل أكثر في المطلبين التاليين:
المطلب الأول: خصائص النظام القانوني للمسؤولية الإدارية على ضوء قرار بلانكو
لاستخراج هذه الخصائص يستوجب علينا الإشارة لمختلف المراحل التي مرت بها القضية، تتمثل وقائعها أن المدعوة ” Agnès Blanco” طفلة في الخامسة من عمرها تعرضت لحادث تسببت فيه عربة مقطورة تابعة لوكالة التبغ التي كانت تنقل إنتاج هذه الأخيرة من المصنع إلى المستودع، مما سبب لها أضرارا جسيمة.
بادر والد الضحية بالإجراءات فرفع دعوى أمام القاضي العادي ضد ممثل الدولة مؤسسا دعواه على أحكام القانون المدني، لا سيما المواد 1382 و 1383 منه و ما يليها، طالبا مبلغ 40 ألف فرنك فرنسي يدفع بالتضامن بين العامل، (سائق المركبة ) و الدولة كتعويض عن الضرر الذي أصاب ابنته.
دفع مدير مقاطعة بوردو بعدم اختصاص المحاكم العادية للنظر في القضية و الفصل فيها و أكد أن وكيل الدولة هو صاحب الاختصاص، و هو ما أدى إلى عرض النزاع على محكمة التنازع الفرنسية التي أصدرت قرارها في الموضوع بترجيح صوت وزير العدل باعتباره رئيسا للمحكمة بعد انقسام أعضاءها إلى
فريقين متساويين، و قضت في 08 فيفري 1873 باختصاص القضاء الإداري بالنظر في النزاع بناء على تقرير مفوض الحكومة السيد ” دافيد ” حيث جاء في حيثية القرار الشهيرة: ” إن مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تلحق الأفراد بسبب تصرفات الأشخاص الذين تستخدمهم في المرفق العام لا يمكن أن تحكمها المبادئ التي يقررها القانون المدني، للعلاقات ما بين الأفراد و هذه المسؤولية ليست بالعامة و لا بالمطلقة بل لها قواعدها الخاصة التي تتغير حسب حاجات المرفق و ضرورة التوفيق بين حـقوق الـدولة و الحـقوق
الخـاصة “.
فمن خلال هذه الحيثية يمكننا استخراج خصائص المسؤولية الإدارية و المتمثلة في:
الفرع الأول: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام قضائي أصلا
و تظهر هذه الخاصية من جهتين:
أن المصدر الأصيل و الأساسي للنظام القانوني للمسؤولية الإدارية هو القضاء الإداري الفرنسي على رأسه محكمة التنازع الفرنسية و مجلس الدولة، فمثلا من خلال فكرة التفرقة بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي أوجد القضاء الإداري قواعد المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ، و كذا العلاقة بين الخطأ المرفقي و الشخصي و النتائج المترتبة عن ذلك في إطار نظرية الجمع بين الأخطاء ثم المسؤوليات، كذلك أحكام و قواعد و تقنيات العلاقة بين الخطأ التأديبي والخطأ الجنائي بالخطأ المرفقي و نتائجهما.
إضافة إلى أحكام نظرية المخاطر كأساس لقيام المسؤولية الإدارية بدون خطأ و ذلك بتبيان أحكامها، أسسها، شروطها و نطاق تطبيقها.

و يظهر كل هذا من خلال قـــرار ” Anguet” ، ” Lemonier” ، ” Mimeur” ، ” Laruelle” ، ” Solze” ، ” Effimief” ، ” Duplany” ، ” Lafleurette” ….وغيرها والتي جسدت التطور المستمر للمسؤولية الإدارية و قبل كل هذا مبدأ مرونة النظام القانوني للمسؤولية الإدارية و قابليته للتغير طبقا لدواعي المصلحة العامة و المرفق العام المجسدين من خلال قرار بلانكو.
و أكثر أهمية مما سبق فإن المصدر الأصيل لنظام المسؤولية الإدارية و المتمثل في القضاء يرجع إلى قضاء محكمة التنازع باختصاص القضاء الإداري في نظر هذا النوع من المنازعات باعتبارها الجهة الوحيدة المختصة و بالتالي هناك ارتباط بين الاختصاص و المصدر في نظام المسؤولية الإدارية.
الفرع الثاني: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية نظام أصيل و مستقل
باعتبار أن المسؤولية الإدارية مرتبطة بالنشاط الإداري و المرافق العامة المتضمنة لمظاهر السلطة العامة، و المستهدفة لتحقيق المصلحة العامة في نطاق الوظيفة الإدارية للدولة، فإنه لا بد من استبعاد قواعد القانون المدني لاسيما المسؤولية المدنية، كونها لا تتناسب و نشاط الإدارة، و هو ما جسده قرار بلانكو بإرسائه مبدأ أن قواعد المسؤولية الإدارية ليست قواعد عامة و لا مطلقة وإانما هي قواعد خاصة تتجاوب وضرورات و دواعي المصلحة العامة ، احتياجات ، متطلبات المرافق العامة و نظامها القانوني.
بمفهوم المخالفة أن الطابع الخاص للقواعد المطبقة على المرافق العامة يحمل في طياته معنيين كونه مستقل باستبعاده القانون المدني و كونه أصيل بإيجاد نظام خاص به من حيث المنطق و النتائج المتوصل إليها، واستقلالية و أصالة هذا النظام تجد مبرراتها في حاجات المرفق العام المتغيرة بتغير النشاط الإداري.
الفرع الثالث: النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قائم على مبدأ التوفيق بين المصلحة العامة و المصلحة الخاصة
هذا يعني أن قواعد المسؤولية الإدارية تتضمن في محتواها أحكاما من أجل إيجاد التوازن بين المصلحة العامة و مقتضيات تسيير المرافق العامة، و حتمية الحفاظ على حقوق و حريات الأفراد في مواجهة الأعمال الإدارية الضارة،و يظهر هذا المبدأ جليا من خلال كفتين :
فمقابل عدم قيام مسؤولية الإدارة تقوم مسؤولية الموظف العام الشخصية في مواجهة المتضررين من جراء أخطاءه، و يدفع التعويض من ذمته المالية في نطاق قواعد و أحكام المسؤولية المدنية و أمام جهات القضاء العادي.
و أيضا عدم قيام مسؤولية الإدارة إلا على أساس الخطأ الجسيم كحالة المسؤولية الإدارية عن مرفق الضرائب، و كذا قيام المسؤولية عن الأخطاء الطبية و القضائية، عن مرفق مستشفيات الأمراض العقلية…الخ.
تقوم مسؤولية الإدارة بدوره خطأ و على أساس نظرية المخاطر لصالح حماية حقوق و حريات الأفراد.
إضافة لهذا و في إطار الآثار المترتبة عن قاعدة الجمع بين المسؤوليات، للضحية حق الاختيار في مرافعة الإدارة أمام القضاء الإداري عن الأضرار الناتجة عن الخطأ المرفقي أو مرافعة الموظف عن الخطأ الشخصي المولد للضرر، أمام جهات القضاء العادي وفقا لما يراه أصلح و أضمن لحماية حقوقه لكنه،
بالمقابل لا يمكنه طلب التعويض من الإدارة و الموظف معا كما قال الأستاذ DELAUBADER :” يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم جمع التعويضات إلا إذا كانت هذه التعويضات مبنية على أسس مختلفة “.
و ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الخصائص ليست مطلقة و هو ما سنتطرق إليه في المطلب الموالي من خلال التعليق على قرار بلانكو و الخصائص التي كرسها.
المطلب الثاني: حدود الخصائص التي أقرها قرار بلا نكو
بين الإجتهاد القضائي و التشريع أن الخصائص التي كرسها قرار بلا نكو ليست مطلقة و يظهر ذلك فيما يلي :
الفرع الأول: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية قضائي، أصلا
فيما يخص الوجه الأول: باعتباره ذو مصدر قضائي يمكن القول أن هذه الخاصية نسبية إذ أن نظم المسؤولية الإدارية تنقسم إلى قضائية و تشريعية، هذه الأخيرة تجد مصدرها في التشريع أصلا، حيث يتدخل المشرع بوضع قواعد المسؤولية الإدارية في مجالات متنوعة مثل نظام مسؤولية مرفق القضاء، نظام مسؤولية المعلمين و نظام مسؤولية البلدية .
وفيما يخص الوجه الثاني: باعتبار القضاء الإداري الجهة الوحيدة المختصة في نظر المنازعات الناشئة عن المسؤولية الإدارية فإن الأستاذ ” Renu Chapus ” يرى أن قرار بلا نكو لم يعرف المرافق العامة كما لم تعرفها القوانين السابقة كقانون 1790، و يضيف أن صياغة القرار تصبح أكثر وضوحا بتعريف العمل الإداري باعتباره كل عمل تقوم به الإدارة و يكون هدفه تحقيق الصالح العام أو تسيير مرفق عام هذا حتى تظهر الغاية من منح القضاء الإداري الإختصاص في النظر في المسائل المتعلقة بمسؤولية الإدارة عن الأضرار المرتكبة من طرف موظفيها.
كما يرى أن المعيار الأساسي الذي تم على أساسه منح الإختصاص للقضاء الإداري ليس المعيار المادي باعتباره المعيار الظاهر و المتمثل في نشاط المرفق العام، و إنما هو معيار السلطة العامة باعتبار أن الدولة في تسييرها للمرافق العامة تستعمل دائما امتيازات السلطة العامة و هي الفكرة الأساسية التي جاء
بها قرار بلا نكو و إن لم تكن واضحة، و يضيف أنه أخذ هذا المعيار من حيثيات تقرير مفوض الحكومة الذي استعمل كثيرا مصطلح السلطة العامة و إن كان يقول تارة الدعوى المرفوعة ضد الدولة بمناسبة نشاط مرفق عام و يقول في فكرة أخرى الدعوى التي ترفع ضد الدولة باعتبارها السلطة العامة، و في الحقيقة هما عبارتين مترا دفتين لهما نفس المعنى، و استعمالها بالتناوب كان لتفادي التكرار. كما أنه لم يركز على نشاط الدولة، و إنما على السلطة العامة التي تستعملها الدولة في تسيير المرافق العامة.
و بالنسبة للإجتهاد القضائي فإن معيار المرفق العام ليس معيارا مطلقا لتبرير اختصاص القاضي الإداري، بل يوجد معايير أخرى أهمها معيار السلطة العامة المثار من قبل مفوض الحكومة في تقريره حول قرار بلا نكو، كمعيار كاف لتقرير هذا الإختصاص في مجال المسؤولية و بالعكس من ذلك معيار المرفق العام وحده لا يكفي دائما لتقرير اختصاص القاضي الإداري، فيمكن أن يثار في منازعة دون أن تكون هذه الأخيرة من اختصاص القاضي الإداري كما في حالة تسيير خاص لمرفق عام.
و المشرع الفرنسي نفسه خرج عن قواعد الإختصاص المكرسة من قبل محكمة التنازع في قرار بلا نكو خاصة من خلال القانون المِِِِِِؤرخ في 31/12/1957 أين أصبح من اختصاص المحاكم العادية كل نزاع يتعلق بالتعويض بكل أنواعه عن الأضرار الناتجة عن السيارات مهما كانت.
و هو المنهج الذي سار عليه المشرع الجزائري من خلال المادة 07 مكرر من قانون الإجراءات المدنية بنصه:
” خلافا لأحكام المادة 07 ، تكون من اختصاص المحاكم:
المنازعات المتعلقة بكل دعوى خاصة بالمسؤولية المدنية و الرامية لطلب تعويض الأضرار الناجمة عن سيارة تابعة للدولة أو لإحدى الولايات أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية “.
الفرع الثاني: فيما يخص كون النظام القانوني للمسؤولية الإدارية أصيل و مستقل
إن استقلالية المسؤولية الإدارية و أصالتها عن القانون المدني ليست مطلقة كما أظهرها قرا ر بلا نكو:
ففي كثير من الحالات يقرر القاضي الإداري تطبيق القانون المدني أو المبادئ المقررة فيه بما يتماشى و الوقائع المطروحة عليه خاصة فيما يخص تقدير التعويض و طرقه و غيرها.
إضافة و باعتبار كل من المسؤولية الإدارية و المسؤولية المدنية من أنواع المسؤولية القانونية، فإن نظام كل منهما يشترك مع الآخر في بعض أحكام المسؤولية القانونية كالشروط و الأركان.
كما أنهما نظامان متكاملان و متصلان خاصة و أن نظام المسؤولية الإدارية حديث النشأة، مما يجعله يستمد أحكام و تقنيات تقدير كل من الضرر المادي و المعنوي و كيفية تقدير التعويض في المسؤولية الإدارية لتحقيق و تطبيق مبدأ التعويض الكامل في دعوى المسؤولية و التعويض الإداري.
و ما تجدر الإشارة إليه أن النظام القانوني للمسؤولية المدنية يطبق بصفة جزئية، و استثنائية في النظام القضائي القائم على أساس مبدأ ازداوجية القضاء عكس النظام القضائي الأنجلوسكسوني باعتباره نظاما موحدا.
و في الأخير يمكن القول أن قرار بلا نكو حتى و إن أكل عليه الدهر و شرب حسب البعض، إلا أنه يبقى الأساس الذي يعتمد عليه في كل زمان بدليل أن النتائج المترتبة عنه لا تزال مطبقة ليومنا هذا وصدق من قال أنه: ” ثورة حقيقية في الاجتهاد القضائي “.
بعد تطرقنا إلى المسؤولية الإدارية كمبدأ ، من حيث نشأته و تطوره و أهم خصائصه ، فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هو : على أي أساس تقوم هذه المسؤولية ؟ فهل هو نفسه الذي تقوم عليه المسؤولية المدنية في القانون العام (le droit commun) ، أم أن الأسس تختلف؟
لقد رأينا عند تطرقنا إلى تطور مبدأ المسؤولية الإدارية ، أن هذه الأخيرة كانت في بداية الأمر تقوم أساسا على فكرة ” الخطأ” ، باعتباره الأساس التقليدي للمسؤولية عامة . فهل يعني ذلك أن هذه الفكــرة – أي الخطأ- قد تمت استعارتها بنفس الصفة التي هي عليها في القواعد العامة؟ أم أنه أدخلت عليها بعض المميزات و الخصائص؟
كما رأينا كذلك أن الاجتهاد القضائي فيما بعد قد خطا خطوة كبيرة في هذا المجال حين وسع من نطاق المسؤولية الإدارية مؤسسا نظاما جديدا للمسؤولية ” بدون خطأ” ، و سوف نتطرق إلى هاذين النظامين بالتفصيل فيما يلي:
لمبحث الأول : نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ
تقوم المسؤولية عامة على ثلاثة أركان أساسية و هي – كما هو معلوم-: الخطأ و الضرر و العلاقة السببية. و ما يهمنا في مجال القانون الإداري هو ” الخطأ”، فالقانون الإداري لم يستعر هذه الفكرة بالحال الذي هو عليه في القانون المدني ، ففي مجال المسؤولية الإدارية نجد ميزة خاصة – أضفاها مجلس الدولة الفرنسي- تتمثل في التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي.
فكيف ظهرت هذه التفرقة ؟ و ما هي أهم جوانب كلا الخطأين، و العلاقة بينهما؟
المطلب الأول : ظهور التفرقة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي
الفـرع الأول : مرحلة عدم الاعتراف بمسؤولية الموظف العام
نصت المادة 15 من إعلان حقوق الإنسان و المواطن الصادر بتاريخ 26غشت 1789 – على إثر الثورة الفرنسية-، على انه: ” يحق للمجتمع مساءلة أي موظف في إدارات الدولة ” ، هذه المادة كان من شانها أن تعترف بالمسؤولية الشخصية للموظف، و لكن آنذاك أعطي لها تفسيرا ضيقا ، و تم فهمها على أنها مسؤولية سياسية للمسؤولين و أن مسؤولية الموظف هي مسؤولية تأديبية فقط .
بالإضافة إلى المنع الذي كان يصادفه القاضي العادي لمراقبة أعمال الموظفين العموميين و الذي يفرضه مبدأ الفصل بين السلطات و التفسير الضيق له الذي أتى به قانون 16-24 غشت 1790 ، في وقت لم تحدث فيه جهات قضائية إدارية ( إلى حين سنة 1872 ) .
و بالتالي فالقول بظهور فكرة المسؤولية الشخصية للموظف يتزامن مع ظهور دستور العام الثامن ، بحيث تنص المادة 75 منه – و التي جاءت في باب ضمانات الموظف – على إمكانية متابعة الموظف أمام المحاكم العادية و لكنها أوقفتها على شرط الحصول على ترخيص من مجلس الدولة .
و لكن رغم هذا، فإن مجلس الدولة – حديث النشأة آنذاك – كان يرفض تسليم هذه التراخيص خوفا من خرق مبدأ الفصل بين السلطات و هذا بتدخل القضاء في عمل الإدارة.
الفرع الثاني: مرحلة الإعتراف بمسؤولية الموظف العام
بتاريخ 19 سبتمبر 1870 صدر مرسوم تشريعي عن الحكومة المؤقتة يلغي المادة 75 من دستور العام الثامن، و على إثر صدور هذا القانون كان مجلس الدولة و محكمة النقض الفرنسية – في بادىء الأمر – يجيزان المتابعات القضائية ضد الموظفين العموميين أمام القضاء العادي و هذا بكل حرية.
و لكن بصدور قرار ” Pelletier” ، و الذي يعد قرارا مبدئيا في هذا الشأن، تم وضع مفهوم جديد لمسؤولية الموظف.
فالسيد Pelletier رفع دعوة أمام محكمة Senlis ضد كل من النقيب de L’Admirault ، الذي أمر بإعلان حالة الحصار في منطقة L’ oise إضافة إلى السيد M.Chopin محافظ المنطقة و السيــد M. Leudot محافظ الشرطة قصد إلغاء الحجز الذي وقع على صحيفته و استرجاع النماذج المحجوز عليها مع الحكم على المدعى عليهم بالتعويض تضامنا بينهم عن الأضرار اللاحقة به.
بالمناسبة تطرقت محكمة التنازع إلى أثار إلغاء المادة 75 من دستور العام الثامن من قبل المرسوم الصادر بتاريخ 19 سبتمبر 1870، فعلى خلاف التفسير الذي أعطته محكمة Senlis التي اعتبرت أن هذا المرسوم قد ألغى جميع الضمانات التي كانت ممنوحة للموظف، و التي كانت تحميه من جميع الدعاوى التي قد ترفع ضده أمام المحاكم العادية ليصبح وضعه شبيها بوضع الموظف في النظام الأنجلوساكسوني، فإن محكمة التنازع قد أعطت تفسيرا مغايرا و جد ضيق، إذ أن محافظ الحكومة دافيد ” David ” اعتبر أن نص المرسوم يجب أن لا
يتعارض أو يتناقض مع النصوص السابقة المكرسة لمبدأ الفصل بين السلطات، لا سيما قانون 16-24 غشت 1790، المادة 13 منه من الباب الثاني و كذا مرسوم 16 فروكتدور من العام الثالث .
فالمادة 75 من الدستور السالف الذكر لم تتحدث عن منع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة و إنما خصت فقط منع هذه المحاكم من مساءلة الموظفين الإداريين أمامها بسبب وظيفتهم. فمنع المحاكم العادية من مراقبة عمل الإدارة هي قاعدة اختصاص مطلقة و هي من النظام العام ، تهدف إلى حماية الأعمال الإدارية .
أما المنع من مساءلة الموظف بدون إذن مسبق فهي تهدف إلى حماية الموظف من الدعاوى التي لا أساس لها و هي ليست قاعدة اختصاص نوعي و إنما تعتبر قيدا على رفع الدعوى التي تباشر ضد الموظف العام متى كان في ذلك علاقة بوظيفته .
فالمرسوم الصادر عن الحكومة المؤقتة و الذي يلغي هذه المادة، قصد من ورائه إلغاء القيد الذي جاءت به. بالتالي، أصبحت للمحاكم العادية الحرية في قبول الدعاوى ( و هذا في حدود اختصاصها)، و لكنه من جهة أخرى لم يتم إلغاء الأحكام الأخرى التي تمنع المحاكم العادية من مراقبة أعمال الإدارة.
و منه اعتبر أن الحجز الذي قام به النقيب العسكري يعتبر إجراءا تحفظيا منوط بالضبط الإداري السامي باعتباره ممثلا عن السلطة العامة و هذا في حدود الاختصاصات التي يمنحها له القانون، فإن المسؤولية هنا ترجع على الدولة التي منحته هذه الصلاحيات.
و عليه وصل إلى النتيجة التالية:
” مادام أن طلب المدعي ينصب أساسا حول هذا التدبير التحفظي الذي يدخل ضمن الصلاحيات العسكرية للنقيب، هذا الأخير الذي لا يحمله المدعي ارتكاب أي “خطأ شخصي ” من شأنه أن تترتب عنه مسؤوليته الشخصية ، فإن الدعوى بذاتها تستهدف بذلك القرار الإداري نفسه ( قرار الحجز) و ليس الموظف
شخصيا و ما دام أنها لا تثير أي عمل شخصي من شانه أن يقضي إلى مسؤولية الموظف الشخصية ، فإنها بذلك تخرج عن اختصاص المحاكم العادية “.
و من هذا تنجر التفرقة الشهيرة بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي ، و التي تتضمن وجهتين :
وجهة فيما يخص الاختصاص ووجهة فيما يخص الموضوع.
1- فيما يخص الاختصاص :
الخطأ الشخصي هو المعيار الذي يخرجنا عن المرفق ككل ، فيصبح بإمكانية القاضي العادي تطبيق نوع من المراقبة دون أن يكون بذلك قد تدخل في صلاحيات الإدارة نفسها، بينما الخطأ المرفقي على عكس ما ذكر ، له اتصال وثيق بالمرفق بحيث لا يستطيع القاضي العادي النظر فيه دون أن يعطي تقييما لسير المرفق
و هذا لا يدخل ضمن اختصاصه.
فهذه نتيجة حتمية للتمييز بين الخطأين . و لأن الاختصاص النوعي للمحاكم هو مسألة في غاية الأهمية باعتبارها من النظام العام ، فإن هذا جعل محكمة التنازع الفرنسية تبحث عن معايير للتمييز بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي وهذا لتفادي مساءلة الإدارة أمام المحاكم العادية عن عمل لا يمكن فصله عن المرفق التابع له ، مما يجعله عملا إداريا بحثا ، تكون بموجبه المحاكم العادية غير مختصة للنظر فيه سواء كانت الدعوى موجهة ضد الموظف أم ضد الإدارة ( ولو أن توجيه الدعوى ضد الموظف شخصيا يسمح باختصاص المحاكم وإن كانت سترفضها في الموضوع متى ثبت انعدام أي خطأ شخصي ) .
2- فيما يخص الموضوع :
إن التمييز بين الأخطاء خلق تقسيما في المسؤولية بين الإدارة والموظف. فإذا كان الخطــأ الشخصي
تترتب عنه المسؤولية الشخصية للموظف وبالتالي فإنه يلتزم بالتعويض من ذمته المالية الخاصة ، فإن تحميله المسؤولية نفسها في حالة الخطأ المرفقي يعد إجحافا في حقه .
– وقد عمل القضاء بعد سنة 1873 على التمييز بين مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية ( أ ) وبين مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة (ب ) ، وهذا على النحو التالـــي :
أ – مسؤولية الموظف في مواجهة الضحية:
حماية للمواطن من إعسار الموظف ، ومن جهة أخرى حماية للموظف من المتابعات التعسفية للمواطنين ، عمل القضاء على التضييق من مفهوم الخطأ الشخصي وبالتالي على تضييق المسؤولية الشخصية للموظف فوضع مجموعة من المعايير -نتطرق إليها فيما بعد – لأنه أدرك وجوب عدم التشدد في مسؤولية الموظف ، فقد يقتل فيه ذلك روح المبادرة ويجعله يتهرب من واجباته ، كما أنه ليس من العدل أن يتحمل الموظف كل هذه النتائج ، فقد يكون الخطأ بسيطا ولكن نتائجه وخيمة .
• ملاحظة: إن مجلس الدولة رغم الحلول التي جاء بها الفقهاء فإنه لم يتقيد بقواعد عامة وإنما كان يتصدى لكل حالة على حدى.
ب – مسؤولية الموظف في مواجهة الإدارة :
أحيانا قد نكون أمام خطأ شخصي، ولكن على الرغم من ذلك تلتزم الإدارة بالتعويض ، فالخطأ الشخصي الذي قد تحاسب عليه الإدارة الموظف قد لا يكون بالضرورة نفسه الذي قد تنسبه الضحية إليه
لان علاقة الموظف بالضحية تختلف عن علاقته مع الإدارة.
و الاختصاص يعود في الحالة الأخيرة إلى القضاء الإداري مادام أن الأمر يتعلق بالعلاقة (إدارة – موظف) ، ونحن في هذه الحالة الأخيرة بعيدين كل البعد عن ما جاء به قرار ”pelletier” سواء في الموضوع أو الاختصاص.
المطلب الثاني : الخطأ الشخصي
لما يتضرر المواطن من فعل الإدارة فإنه يعين مباشرة الموظف الذي تسبب في ذلك الضرر فقد يكون رئيس البلدية الذي رفض أن يسلم له رخصة البناء أو الشرطي الذي تعدى عليه بالضرب…
فإذا كان ذلك العمل الضار يدخل في إطار الوظيفة أو بمناسبتها فإن الإدارة هي التي تتكفل بتغطية تلك الأضرار و لكن الأمر يختلف بالنسبة للحالات التي يتسبب فيها الموظف بأضرار للغير و هذا في ظروف متميزة تعطي للضحية إمكانية مقاضاة الموظف شخصيا لإلزامه بدفع التعويضات المستحقة. فالموظف في نهاية المطاف كبقية المواطنين العاديين عليه بجبر الضرر الذي قد يسببه لغيره.
كما أن الدعوى التي بإمكان الضحية رفعها ضد الموظف لا تكون ممكنة إلا في حالة ثبوت الخطأ الشخصي للموظف. فلابد إذا من تحديد مفهوم الخطأ الشخصي و تمييزه عن المفاهيم المماثلة له.
الفرع الأول : مفهوم الخطأ الشخصي
كما رأينا سابقا فإن هذا المفهوم انبثق عن قرار Pelletier الشهير الذي ميز بين الخطأ المرفقي الذي يخرج عن اختصاص القاضي العادي، و الخطأ الشخصي الذي على عكس ذلك يستطيع القاضي العادي التطرق إليه و النظر فيه دون أن يكون هناك أي مساس باستقلالية السلطات، هذا كل ما جاءت به محكمة التنازع في هذا الصدد فهي لم تعرف الخطأ الشخصي كما انها لم تضع معيارا معينا لتمييزه عن الخطأ المرفقي ، إلا ان قضاءها اللاحق بالإضافة إلى قضاء كل من مجلس الدولة و محكمة النقض حاولوا وضع معايير ثابتة للتمييز بين الخطأين، كما لعب الفقه دورا كبيرا في ذلك و هذا لتوضيح العلاقة بين الإدارة و أعوانها و جعلها أكثر شفافية.
I-أهم المعايير التي تميز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي :
حاليا يمكننا القول أن القضاء و الفقه قد توصلوا إلى وضع حلول من شأنها أن ترفع كل لبس في هذا المجال، إذ تم الإجماع على ان الخطأ الشخصي هو كل خطأ منفصل عن الوظيفة ( détachable du service)، وذلك إذا ارتكب في إطار خارج عن الوظيفة المؤداة من قبل الموظف، أو سواء كان في إطار هذه الأخيرة و لكنه ينفصل عنها لأسباب معينة.
قبل التطرق إلى هذه المعايير من الأجدر ان نحاول إيجاد تعريف للخطأ بصفة عامة و لعل التعريف الذي جاء به Planiol يؤدي الغرض المطلوب، فقد عرفه هذا الأخير على أنه كل إخلال بالتزام سابق
( Un manquement à une obligation pré-existante)، فينبغي عدم الخلط بين الخطأ و اللامشروعية ، فإذا كان كل عمل غير مشروع يعد خطأ فإن العكس غير صحيح ، باعتبار أنه ليس كل خطأ
عمل غير مشروع. فالخطأ يدخل في إطار دعاوى القضاء الكامل التي يترتب عنها التعويض، بينما مبدأ اللامشروعية فإنه يدخل ضمن قضاء الإلغاء أو تجاوز السلطة و تقدير المشروعية و ينجر عنها الإلغاء.
أ‌- الخطأ الخارج عن الوظيفة :
و هو الخطأ الأكثر تشخيصا، و هذا لارتباطه بالحياة الشخصية للموظف بصفة لا تدع مجالا للخطأ المرفقي ، و هذا ما جاء به الفقيهين : MM. Vedel و Delvolvé ، فلا يمكن تحميل الإدارة تصرفا لا يعنيها بشيء و هذا مهما اختلفت درجة جسامته أو النية في إحداثه ، كالعسكري الذي يتسبب في حادث في طريقه إلى العمل و هذا بواسطة سيارته الخاصة أو الجمركي الذي يغتال شخصا بواسطة سلاحه و هذا خارج وظيفته أو الحريق العمدي الذي يقبل عليه رجل المطافيء خارج إطار وظيفته ، أو إهمال من قبل رائد ميناء طلب منه بصفة شخصية حراسة باخرة .
و لكن قد يكون الخطأ المرتكب خارج عن الوظيفة و لكننا لا يمكننا القول أنه ليست له اية علاقة بها غير ان تشخيص هذا النوع من الأخطاء يكون أكثر صعوبة فهو يجمع كافة الأخطاء غير الإرادية و التي و إن حدثت خارج الوظيفة، إلا ان هذه الأخيرة قد سهلت وقوعها عن طريق :
– سوءا الوسائل الممنوحة للموظف بمناسبة هذه الوظيفة ، و لدينا في هذا الصدد قرار Sadoudi ، أين تسبب شرطي في قتل شخص بواسطة سلاحه الذي يلزمه النظام الداخلي على الاحتفاظ به خارج الخدمة – أو عن طريق الاستغلال لأغراض شخصية لمهمة ممنوحة في إطار الخدمة كرجل المطافيء الذي ينحرف عن المسار المحدد في مهمته ليحدث حريقا في مكان آخر .
ب‌- الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة و المنفصل عنها:
كأصل عام الخطأ المرتكب في إطار الوظيفة سواء اثناء ها او بمناسبتها يعتبر خطأ مرفقيا، و لكن إستثناءا عن هذا المبدأ فقد يعتبر هذا الخطا منفصلا عن المرفق و بالتالي شخصيا ، و هذا في حالتين اساسيتين هما :
1- الخطأ العمدي :
هذا المعيار يدعى كذلك معيار الأهواء الشخصية ( Passions personnelles ) و هي نظرية تقليدية لا تزال عبارتها الشهيرة متداولة إلى يومنا هذا و هي ما جاء به Lafferiére في خلاصته في قضية Laumonnier- Carriol :
” إذا كان العمل الضار موضوعيا و إذا كشف موظفا وكيلا للدولة معرضا لارتكاب أخطاء و ليس إنسانا بضعفه و أهوائه و غفلته فيبقى العمل إداري و بخلاف ذلك إذا انكشفت شخصية الموظف في أخطاء عادية أو اعتداء مادي أو غفلة فينسب الخطأ للموظف و ليس للوظيفة.”
« Si l’acte dommageable est impersonnel, s’il révèle un administrateur mandataire de l’état plus au moins sujet à erreur et non l’homme avec ses faiblesses, ses passions et ses imprudences, l’acte

reste administrative, si au contraire la personnalité de l’agent se révèle par des fautes de droit commun, par une voie de fait, une imprudence, la faute est imputable au fonctionnaire et non à la fonction . »
فهذا المعيار يدفع بنا إلى البحث عن النية أو الدافع الذي حفز الموظف على إتيان الفعل الضار .
فقد يدفعه على ذلك الرغبة في الإضرار و سوء النية فيستغل منصبه ووظيفته للانتقام من شخص معين، كالشرطي الذي يلجأ إلى استعمال العنف أثناء أدائه لمهمة ما ، او الذي يقتل خطأ بدافع الانتقام كقضية ( Pothier) ، او موظف البريد الذي يتعدى على أحد المتعاملين . فكل خطا يتضمن النية بالإضرار يعتبر منفصلا عن الإدارة .
أو في حالة كذلك إذا ما استغل الموظف وظيفته لتحقيق مصلحة شخصية كالإختلاسات وتحويل الأموال ، أو السرقة المنظمة .
ونجد في هذا الصدد كل من محكمة النقض الفرنسية ومجلس الدولة الفرنسي يأخذان بمعيار نية الموظف حيث إعتبرت محكمة النقض بأنه يعتبر الخطأ شخصيا لما يتصرف الموظف بسوء نية أو لأجل تحقيق مصلحة خاصة ،
كما رأى مجلس الدولة بأنه لا يعتبر خطأ شخصيا في الحالة التي لم يتصرف فيها الموظف لأهداف بعيدة عن الصالح العام ولا بدون تحيز .
الخطأ الجسيم :
هذا المعيار جاء به كل من الفقيهين : Maurice Horiou ، Gaston Jeze.
كما نجد كل من Vedel وDelvolvé، الذين اعتبرا أن الخطأ يكون بجسامة فادحة إذا تجاوز الحد المعقول للأخطاء التي يمكن توقعها .
« Il y a faute personnel, si la faute commise est d’une gravite particulière dépassant la moyenne de fautes aux quelles on peut s’attendre . »
وهناك من أتى بتعريفات أكثر حصرا كالفقيه M.Moreau الذي حصرها في الأخطاء المهنية الجد خاصة « Faute professionnelle est très caractérisées » و الفقيه M.chapus الذي تكلم عن الخطاء ذات الجسامة التي لا تفتح مجالا للنقاش .
هذا المعيار يأخذ به القضاء و لكن بحذر كبير إذ عمل على تضييق مفهومه. فقد يتمثل هذا الخطأ إما في خروج تام عن أخلاقيات المهنة، و إما أخطاءا مهنية جد فادحة ، فهذا المعيار يخص عامة الأعمال المادية و ليس التصرفات القانونية ، لأن هذه الأخيرة نبحث فيها عن نية الموظف( معيار الخطأ العمدي) و لا نأخذ بعين الاعتبار جسامة الخطأ .
– IIالتمييز بين الخطأ الشخصي و المفاهيم الأخرى:
إن التطرق إلى الخطأ الشخصي يدفعنا إلى تمييزه عن بعض الأخطاء الأخرى و هذا لتوضيح مفهومه أكثــر و تفادي اللبس، كما سنتطرق إلى أثر أوامر الرئيس على تصرفات الموظف.
أ‌- الخطأ الشخصي و الخطأ الجزائي :
إذا كان الاتجاه الفقهي في بادئ أمره يجعل من الخطأ الجزائي صورة مثلى للخطأ الشخصي فإن ما جاءت به محكمة التنازع في قرار Thepaz ، زعزع من حجية هذه الفكرة فقد يتطابق المفهومين و لكن ليس في جميع الحالات .
فإذا كان الموظف بارتكابه لجريمة ما سيمتثل حتما أمام القاضي الجنائي فهذا لا يعني أنه مضطرا لدفع التعويضات للطرف المدني إلا إذا ثبت خطأه الشخصي ، أي إذا كانت الجريمة التي إرتكبها تمثل خطأ شخصيا .
فبموجب هذا القرار تم الفصل نهائيا بين المفهومين فقد يتمثل دور الطرف المدني أساسا في تحريك الدعوى العمومية التي لا ينحصر تحريكها على النيابة العامة فقط ( كما هو معروف في ق ا ج) ، و لكن ذلك لا يعني ثبوت حقه في التعويض و هذا في حالة ما إذا كيف خطأ الموظف على أنه خطأ مرفقي ، لأن ثبوت الخطأ المرفقي لا يمنع أبدا المتابعات الجزائية.
فقد تشكل الجنايات في جميع الحالات خطأ شخصيا بينما الجنح فلابد من التمييز بين ما هو عمدي و الذي يكون خطا شخصيا ( معيار نية الموظف )، أما فيما يخص الجنح غير العمدية فلا مجال في الغالب للحديث عن الخطأ الشخصي و على أية حال فلا بد على القاضي الجزائي أن يرجع إلى المعايير السالفة الذكر لتحديد ما إذا كان الخطأ شخصيا أم انه كان يستهدف من ورائه تحقيق الصالح العام، و هذا حالة بحالة .

ب‌- الخطأ الشخصي و التعدي المادي :
التعدي المادي – كما هو معروف – هو كل عمل إداري يتسم بلا مشروعية صارخة يمس أساسا بالحريات الأساسية للأفراد أو ممتلكاتهم.
و في هذا الصدد كذلك بدأ القضاء يتراجع عن فكرة تطابق المفهومين خاصة بعد القرار الصادر عن محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 8 أفريل 1935 ، بحيث جاء في خلا صات محافظ الحكومة Josse التي جاء فيها
أن القاضي العادي يمنحه الاختصاص الاستثنائي في حالات التعدي للنظر في مسؤولية الإدارة في الوقت نفسه الذي ينظر فيه في مسؤولية الموظف، عليه أن يبحث فيما إذا كان هذا الأخير قد ارتكب خطأ شخصيا و هذا لتبرير مسؤوليته المالية و إلزامه بالتعويض.
ج- الخطأ الشخصي و أوامر الرئيس:
هل يمكننا القول بأن الموظف ارتكب خطأ شخصيا عندما يقتصر عمله على تنفيذ أوامر رؤسائه حسب ما يقتضيه التسلسل السلطاوي؟
إن مع تطور القضاء ، و القانون ، أنشىء التزام بعدم الطاعة للموظف فيما يخص أوامر رؤسائه و التي تبدو بوضوح بأنها غير مشروعة و انه من شأنها أن تمس أو تعرقل الصالح العام بصورة خطيرة.
و في حالة عدم التزام الموظف بذلك فإنه من الممكن جدا القول بارتكاب الموظف خطأ شخصيا، و هذا يخرج بنا عن المبدأ القائل بأن تنفيذ أمر صادر عن رئيس ينقل المسؤولية الشخصية إلى هذا الأخير ، فهو استثناء عن المبدأ و الذي نصت عليه المادة 129 من قانوننا المدني .
كما تكون مسؤولية المرؤوس شخصية في حالة إذا ما تجاوز حدود ما طلب منه فيكون بذلك قد إرتكب خطأ شخصيا.
الفرع الثاني : آثار الخطأ الشخصي
في حالة ارتكاب الموظف لخطأ شخصي فإنه يكون محل متابعة قضائية من قبل الضحية بقصد تعويضه عن الضرر اللاحق به ، فهذا هو المبدأ (1) ، إلا أن هناك ثمة استثناءات عن هذا الأخير (2):
1- المبدأ : الدعوى التي يرفعها الضحية ضد الموظف العام امام المحاكم العادية
هذا المبدأ تنجر عنه مجموعة من النتائج :
أ‌- الإختصاص : ( القاضي الناظر في النزاع)
لقد وضع أساس هذا المبدأ قرارPelletier – السالف الذكر- فلا يحق للقاضي الإداري مساءلة الموظف عن خطئه الشخصي الذي تنجر عنه مسؤوليته الشخصية، و هذا المنع جد منطقي ما دام أن النزاع ينحصر بين شخصين طبيعيين عاديين .
فالقاضي الذي ينظر إذا في النزاع هو القاضي المدني و قد يكون القاضي الجنائي متى كان الخطأ يشكل جريمة يعاقب عليها القانون.
ب‌- المكلف بالتعويض :
يتكلف الموظف شخصيا بالتعويض و هذا من ذمته الخاصة أي من ماله الخاص -و هذا متى طلب ذلك الضحية- ما دام أن مسؤوليته شخصية.

ج- القواعد المطبقة : ( القانون الواجب التطبيق )
إن القواعـد التي يطبقهـا القاضي في هذه الحـالة هي نفس القواعد الموجـودة في القانون العــــام ( Le droit commun) ، فعلى القاضي الرجوع إلى المبادىء العام
و من هنا نلمس أهمية التمييز بين الخطأ الشخصي و الخطأ المرفقي .
2- الإستثناءات :
نجد هذه الإستثناءات على المبدأ في مجال حلول الدولة محل الموظف فعلى الرغم من ثبوت الخطأ الشخصي في حق الموظف إلا أن الدولة تتدخل و تحل محله فيما يخص الإلتزام بالتعويض و جبر الضرر.
فنجد مثلا : – حلول الدولة محل المعلم .
– حلول الدولة محل السائق في حالة الحوادث التي تحدثها المركبات التابعة لها… .
فالاختصاص في هذه الحالات يعود إلى القاضي الإداري على الرغم من ان الخطأ شخصي ما دام ان الإدارة ستتكفل بالتعويض – ما لم ينص القانون على خلاف ذلك- .
المطلب الثالث: الخـطــأ الـمـرفـقـي
على عكس الخطأ الشخصي فإن الخطأ المرفقي حسب تعريف “Laferrière” هو الذي يكشف الرجل الإداري محلا للخطأ و ليس الرجل العادي بضعفه و عواطفه و عدم حرصه ، بمعنى آخر هو الخطأ العادي الذي نعترف بإمكانية ارتكابه من طرف أي عون في إطار المرفق دون أن يكون خطأ عمديا أو ذو جسامة غير مقبولة .
الفرع الأول : مفهوم الخطأ المرفقي و إثباته:
إن عبارة الخطأ المرفقي لها معنيان متميزان في الاجتهاد القضائي، فمن جهة الأخطاء الناجمة عن التنظيم السيئ أو التسيير السيئ كذلك للمرفق العام، و الأخطاء التي ارتكبت من طرف موظفين مجهولين هي أخطاء مرفقية بالمعنى الدقيق، و من جهة أخرى فإن الأخطاء المنسوبة لأعوان المرفق العام و المرتكبة من قبلهم في إطار تأدية مهامهم هي أخطاء شخصية و لكن بما أن المرفق لا ينفصل عنها فإنها تعتبر بالتالي أخطاء مرفقية .
و يمكن وصف الخطأ المرفقي على سبيل الاستهداء و وفقا لمعايير بعض الفقهاء بأنه ” الخطأ غير المطبوع بطابع شخصي ، و الذي يسند إلى موظف يكون عرضة للخطأ او الصواب ” ( معيار Laferrière) أو انــه
” الخطأ الذي لا يمكن فصله عن واجبات الوظيفة بحيث يعتبر من المخاطر التي يتعرض لها الموظفون ” ( معيار Horiou )، أو : ” هو الخطأ الذي يرتكبه الموظف بقصد تحقيق غرض إداري ” ( معيار Duguو أمثلة الأخطاء المرفقية عديدة كعمليات مادية مختلفة ، خرق لنص قانوني، خطأ في التقدير، السحب غير المنتظم لقرار أنتج حقوق ، رفض اتخاذ إجراء ضروري ، الإهمال في ممارسة السلطة …
إن الإلمام بمفهوم الخطأ المرفقي يتطلب التطرق إلى خصائصه و الصور التي يتخذها.
-Iالخصائص العامة للخطأ المرفقي:
للخطأ المرفقي طابعين أساسيين :
1-طابع الخطأ المجهول:
عادة ما يكون الخطأ مرتكبا ماديا من قبل أعوان عموميون معلومين ، أي أن مرتكب الخطأ يكون معلوم ، ففي هذه الصورة نتحدث عن خطا المرفق ، « Faute de service » إلا أن عبارة الخطأ المرفقي « Faute du service publique » يقصد بها حسب بعض الفقهاء أن مرتكب الخطأ مجهول ، و مهما يكن من امر هذا التمييز فإن شخص العون لا يهم كثيرا ذلك أن التزامات الإدارة هي محل مساءلة و ليس التزامات هذا العون .
و يظهر طابع الخطأ المرفقي كخطأ مجهول في صورتين:
– صورة خطأ مرفقي أرتكب من طرف شخص واحد لكنه مجهول مثل قضية Auxerre ، أين اعتبرت الإدارة مسؤولة عن حادثة أدت إلى قتل جندي إثر مناورات عسكرية كان من المفروض أن تستعمل خلالها خراطيش مزيفة ، و استحال خلالها معرفة الفاعل المسؤول عن قتل الجندي .
– صورة الخطأ المرفقي الذي ينتج عن مجموعة أخطاء ارتكبت من طرف موظفين مجهولين كما هو الحال في قضية السيدة Boigard ، حيث دخلت هذه الأخيرة إلى مستشفى عمومي في الصباح و لم يتم
فحصها إلا في آخر اليوم و مع ذلك إزداد مرضها و توفيت إثر نقلها إلى مستشفى آخر ليتبين عند إجراء التحقيق أن سبب وفاتها يعود لعدة أخطاء تتمثل في عدم المراقبة الكافية و غياب الطبيب المختص في الإنعاش و الرقابة السيئة خلال نقل الضحية . و بالتالي أعتبر مجلس الدولة ان هذه الأخطاء مرفقية تنسب للمستشفى بسبب سوء تسييره و ليس لأشخاص معينة .
فالخطأ المرفقي المرتكب من قبل أحد او عدة أعوان لا ينفصل عن ممارسة الوظائف و لا تقع المسؤولية على العون و إنما على الإدارة فتصبح بذلك المنازعات إدارية محضة.
2-الطابع المباشر :
يجب أن ينسب الخطأ المرفقي مباشرة إلبى شخص عمومي قام بتصرف خاطيء أثناء ممارسة أعماله ، و بالتالي حينما تختفي شخصية العون خلف المرفق العام الذي ينتمي إليه فإن الخطأ المرفقي يعتبر مرتكبا من قبل الإدارة ، و بمعنى آخر يعتبر القاضي أن الخطأ قد أرتكب من طرف الشخص العمومي الذي نسب إليه .
-IIصور الخطأ المرفقي :
يكون خطأ الإدارة في عدة حالات يمكن تصنيفها إلى ثلاث طوائف تمثل في ذات الوقت التطور التاريخي لقضاء مجلس الدولة الفرنسي في هذا الصدد .
1- التنظيم السيئ للمرفق العام :
إن الإدارة ملزمة بتنظيم المرفق العام و عندما لا تقوم بذلك فإنها تكون مسؤولة عن الأضرار الناتجة عن سوء التنظيم ، و تكمن أمثلة هذه الصورة عادة في : فقدان ملفات – التنفيذ المادي غير المنتظم – خرق قواعد
تنظيم القرارات الإدارية… ، وفي هذا الصدد صدر قرار عن الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضية ” بن مشيش ” ضد ” بلدية الخروب ” بتاريخ 6 أبريل 1973 ، إذ تتلخص وقائعها في أنه بتاريخ 28 ماي 1969 شب حريق في مصنع للنجارة ملك للسيد بن مشيش بسبب رمي المفرقعات من طرف أطفال يحتفلون بالمولد النبوي الشريف، و قد جاء في حيثيات قرار الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى فيما يتعلق بمرفق مكافحة الحرائق في ظل قانون البلدية السابق :
ـ حيث انه ينجم عن الملف أن الظروف التي تمت فيها مكافحة الحريق تبين نقصا في الوسائل.
ـ حيث يتبين حينئذ أنه لم يوجد أي خطأ في تنظيم و سير مرفق عام لمكافحة الحريق …”
و بذلك اعتبر القرار أن نقص الوسائل لا يشكل خطأ في تنظيم المرفق العام و بالتالي فلا وجود لأي خطأ مرفقي .
2- التسيير السيئ للمرفق العام:
إن عدم الكفاءة أو الإهمال من طرف الأعوان العموميين يؤدي إلى التسيير السيئ للمرفق العام و كذلك التأخير المفرط في تسييره، فمتى أدى ذلك إلى ضرر ما فإنه يمكن للمضرور مطالبة الإدارة بالتعويض.
و قد أصدرت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى قرارا بتاريخ 8 أفريل 1966 في هذا النطاق فيما يخص قضيـة ” حميدوش ” ضد الدولة و الذي تم توظيفه وفق شروط غير نظامية، و بعد 8 سنوات قامت الإدارة بتصحيح الإجراء و هذا بإلغاء قرار توظيفه ، فرفع الأمر أمام الغرفة الإدارية التي قررت بأن ذلك يشكل خطأ مصلحيا تنجر عنه مسؤولية الإدارة.
3-عدم تسيير المرفق أو الجمود الإداري :
في هذه الحالة لم يقم العون العمومي بعمله على الإطلاق ، و قد فصلت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى في قضية في هذا الشأن أصدرت بموجبها قرارا بتاريخ 19/04/1972 ,تتلخص وقائعها في انه تلقى أحد كتاب الضبط مبلغا من المال في شكل أوراق مصرفية لإيداعه اثر عملية حجز قامت بها الشرطة القضائية ، و بعدها تم إصدار أوراق نقدية جديدة ، فنسي هذا الكاتب إن يبدل الأوراق المحجوزة ، و بعد الحكم ببراءة صاحب المال و الإفراج عنه قام هذا الأخير برفع دعوى ضد وزارة العدل فاعترف مجلس قضاء الجزائر بمسؤولية الإدارة على أساس سوء تسيير المرفق ، وحصل المعني على حقوقه بسبب إهمال كاتب الضبط المعتبر عونا للدولة .
و قد صدر قرار مماثل عن مجلس الدولة في 31/01/2000 صرح خلاله بمسؤولية البلدية على أساس الخطأ المرفقي في قضية “بلدية الذرعان” ضد “سوايبية عبد المجيد و من معه” ، و ذالك لتأييده لقرار الغرفة الإدارية لمجلس قضاء عنابة ، إذ يتجلى من دراسة الملف أن المستأنف عليه “سوايبية” كان متابعا جزائيا أمام محكمة الدرعان بتهمة التزوير فحجزت سيارته ووضعت بالحضيرة التابعة لبلدية الذرعان , وبعد استفادته من البراءة طلب استرجاع سيارته إلا أنها ضاعت من الحضيرة فاعتبر مجلس الدولة : “أن الحضيرة تابعة للبلدية و تشرف على تسييرها و تعتبر البلدية كحارس الشيء و ملزمة برد السيارة أو تعويضها نقدا “.
ففعل البلدية هنا يدجل في إطار عدم تأدية المرفق للخدمة المتمثلة في المحا فظة على السيارة و إعادتها كما استلمتها إذ أن البلدية لم تؤد الخدمة على الإطلاق.
هذه هي الأنواع الثلاثة الأساسية التي تجسد الخطأ المرفقي, ويبقى التساؤل مطروحا حول على من يقع إثبات هذا الخطأ ؟.
-IIIإثبات الخطأ المرفقي:
حسب المبادىء العامة في الإجراءات القضائية فإنه على من يدعي الفعل الضار أن يثبته , وبناءا على ذلك فإنه على طالب التعويض الذي يدعي الخطأ المرفقي أن يثبت وجوده , إلا أن هذه القاعدة تصطدم بعدة صعوبات تواجهها الضحية ذلك لان إثبات الخطأ يوجد عادة في ملفات الإدارة , وهذا ما جعل التطورات الحديثة تتجه إلى البحث عن طرق لتسهيل إثبات الخطأ من قبل الضحية كإلزام الإدارة بتسبيب قراراتها و فرض إمكانية الإطلاع على ملفاتها , وذلك إلى جانب الدور الذي أصبح يلعبه القاضي الإداري في الإجراءات القضائية ، فعندما تمتنع الإدارة أو تعجز عن تقديم وثيقة أو ملف بناءا على طلب القاضي فان هذا الأخير يعتبر الخطأ المرفقي قائما , وكذلك الأمر في حالة ادعاء الإدارة وجود سبب لنفي مسؤوليتها فعليها إثبات ذلك .
وقد جاء الاجتهاد القضائي في بعض الميادين بما يسمى بالخطأ المفترض ومفاده نقل عبء الإثبات, إذ أن تقنية الافتراض تسمح باستنتاج حقيقة الأفعال الضارة التي يستحيل إثباتها من خلال وجود أفعال ضارة ثابتة ، وهنا نجد أن القاضي الإداري يستعمل عادة مصطلح ” يكشف” (Révèle) ،خاصة في الميدان الطبي , وبالتالي إذا كان مريض متواجد بالمستشفى بسبب مرض معين ليجد نفسه مصابا بمرض أخر لا علاقة له بمرضه الأول في نفس المصلحة , فإن القاضي يعتبر الإصابة ناتجة عن خطأ ينسب إلى المستشفى , وقد
صدر :قرار عن مجلس الدولة في هذا الإطار بتاريخ : 01 مارس 1989 قرار “BALLY” ،إذ تم نقل مكروب إلى جسم مريض خلال عملية جراحية .
كما أنه يمكن للقاضي الإداري لتكوين اقتناعه حول وجود الخطأ المرفقي أن يأمر بإجراء تحقيق تكميلي كاللجوء إلى الخبرة بخلاف الانتقال إلى المعاينة الذي هو قليل الاستعمال، و مهما يكن من أمر فإن القاضي يبقى حرا في تقديره لوجود الخطأ المرفقي و نسبته إلى الإدارة، و من تم في تقديره لأدلة إثبات الأطراف.
الفرع الثاني : درجة جسامة الخطأ المرفقي :
ينقسم الخطأ المرفقي في نظام المسؤولية الإدارية إلى خطأ بسيط و خطأ جسيم، ففي الحالات العادية و استنادا إلى قواعد القانون المدني يكون الخطأ البسيط كافيا لقيام المسؤولية، غير أن القضاء الإداري اشترط وقوع خطأ جسيم في حالات معينة كما هو الحال في القرارات الإدارية ، كما اشترط هذه الدرجة من الجسامة في الخطأ المرفقي لإقامة مسؤولية بعض المرافق العامة التي يتميز نشاطها بصعوبة معينة .
– I الخطأ في حالة القرارات الإدارية:
إذا كان الضرر يرجع إلى قرار أصدرته الإدارة ، كما لو أمرت بفصل موظف أو برفض التصريح لأحد الأفراد بمزاولة عمل معين ، أو بهدم منزل أو بإغلاق محل عام أو فرضت قيودا معينة بلائحة على نشاط فردي… ففي هذه الصور و أمثالها يأخذ الخطأ صورة ملموسة هي ” عدم المشروعية” ، ذلك ان عدم المشروعية بأوجهها الأربعة كما هي مصدر للإلغاء ، فإنها مصدر للمسؤولية .
أ-عيب عدم الإختصاص :
إن عدم الاختصاص من أول أسباب إلغاء القرار الإداري، و هو يتعلق بالنظام العام ، و من تم يملك القاضي الإداري إثارته من تلقاء نفسه، إلا أن الأمر يختلف في نطاق التعويض فلا يؤدي هذا العيب إلى
تعويض الضحية إذا كان سيقع في حالة صدور القرار من الجهة المختصة، فقد أتجه مجلس الدولة الفرنسي إلى إعلان عدم المسؤولية عن عيب عدم الاختصاص إذا ما كان الضرر المطالب بالتعويض عنه لاحقا بالفرد لو ان القرار ذاته صدر من الجهة المختصة.
ب- عيب الشكل:
عند إصدار قرار إداري فعلى الإدارة أن تحترم بعض الأشكال و الإجراءات،و القاضي الإداري لا يشترط احترام جميع الأشكال و ذلك حتى لا يعرقل نشاط الإدارة ، فنجده هنا يميز بين الأشكال الجوهرية
و الأشكال غير الجوهرية، ووفقا لذلك تؤدي مخالفة الشكل الجوهري وحدها إلى إلغاء القرار الإداري ومع ذلك لا يوجد تلازم بين إلغاء القرار لعيب الشكل والحصول على تعويض ، ذلك أن التعويض مقصور على الحالات التي يؤثر فيها الشكل على مضمون القرار .
ج- عيب الإنحراف استعمال السلطة:
تحدث حالة انحراف السلطة عندما تستعمل الإدارة سلطتها لغرض يختلف عن الغرض الذي منحت لها من اجله هذه السلطة ، إذ أن القاضي يعاقب دائما و بصفة مشددة هذه الصورة من عدم المشروعية ، و نجد نفس التشديد في ميدان المسؤولية بحيث أن كل ضرر ناتج عن الإنحراف بالسلطة من اللازم إصلاحه ،و من تم يمكن القول أن عيب الإنحراف بالسلطة يعد مصدرا للمسؤولية لأن هذا الخطأ يستوجب التعويض إذا ترتب عليه ضرر ثابت .
د- عيب مخالفة القانون:
عندما يبحث القاضي الإداري عن عيب مخالفة القانون، فإنه يفحص القرار المطعون فيه و يقوم بدراسة أسبابه ، فإذا كان الخطأ على مستوى الأسباب القانونية فإننا نكون بصدد قرار معيب بخطأ قانوني ، أما إذا
كان الخطأ يرجع إلى وقائع القرار فإننا نكون بصدد خطأ في الوقائع، و يبدو ان القضاء يعطي دائما الحق في التعويض في حالات الخطأ في القانون ، في حين انه يتبنى موقفا متباينا في حالة الغلط الفعلي و قد أخذت الغرفة الإدارية للمجلس الأعلى بهذا التمييز في قرار صادر عنها بتاريخ : 09/04/1971 ، في قضيــــة ” دخلي” ضد ” والي ولاية الجزائر” ، إذ قام هذا الأخير بغلق محل المدعي ووضعه بصفة غير مشروعة تحت حماية الدولة ليعيده إليه فيما بعد، مما جعل السيد” دخلي” يطالب بالتعويض أمام القاضي الإداري الذي منحه إياه على أساس أن اللامشروعية في حد ذاتها جسيمة .
و في الأخير يمكن القول أنه في بعض الحالات لا تشكل اللامشروعية خطأ إذا ارتكبت لفائدة الصالح العام، إذ أن مسؤولية الإدارة تقوم على أساس المساواة في تحمل اللأعباء العامة كما أن عدم قبول دعوى الإلغاء ضد قرار معين لا يعد عائقا في ممارسة دعوى التعويض المؤسسة على ضرر ناتج عن القرار اللامشروع محل دعوى الإلغاء
II- الخطأ البسيط و الخطا الجسيم:
من المفروض أن الحطأ البسيط يكفي لترتيب المسؤولية الإدارية ، إلا انه أحيانا يشترط القاضي الإداري خطأ يوصف بالخطا الجسيم و ذلك في بعض نشاطات المرافق العامة التي تجد صعوبة خاصة في تنفيذها مما يجعل الخطأ البسيط معذور ومن تم يرتب الخطأ الجسيم وحده مسؤولية هذه المرافق العامة، فعكس القانون المدني الذي يحاول في كل الحالات حماية الضحية فإننا نجد أن القاضي الإداري يلتزم بالبحث عن حل توفيقي
بين ضرورة تعويض الأشخاص و بين رغبته في إظهار بعض الامتنان اتجاه الإدارة فيما يخص بعض المرافق لأنه يعتبر أن نشاطاتها صعبة التنفيذ و تتطلب بعض التسامح و هذا كله حتى لا يعرقل نشاطاتها و من تم حتى لا يحول دون تحقيق المصلحة العامة.
و في هذا الصدد نجد ان الخطأ الجسيم يكون لازما في كل او بعض أنشطة مرافق محددة، في حين انه يكفي الخطأ البسيط لترتيب مسؤولية مرافق أخرى، و بالتالي يستند القاضي الإداري إلى طبيعة النشاطات الإدارية المتسببة في الفعل الضار في تحديده لدرجة جسامة الخطأ.
و نستهل دراستنا بأهم المرافق التي تتطلب في بعض نشاطاتها الخطأ الجسيم لترتب مسؤوليتها و الخطأ البسيط في نشاطاتها الأخرى مع المرور بمراحل التطور التي مر بها الاجتهاد القضائي في كل مرفق منها و هي
– نشاط مصالح الشرطة – نشاط مصالح السجون – نشاط الرقابة الوصائية – نشاط مصالح الضرائب – نشاط مصالح مكافحة الحريق- النشاط الطبي.
1- نشاطات مصالح الشرطة :
لم يتخلى مجلس الدولة الفرنسي عن مبدئه القديم و المتمثل في عدم مسؤولية القوة العمومية إلا في 1905 من خلال القرار ” Tomaso Gréco” الصادر بتاريخ 10/02/1905 ، حيث توسعت مسؤولية الشرطة منذ هذا التاريخ فنجدها تارة بدون خطأ و تارة تقوم على أساس الخطأ البسيط ، و أحيانا أخرى تقوم على أساس الخطأ الجسيم ، فتكون المسؤولية بدون خطأ في حالة الأضرار الناجمة عن تجمهر او حالة إستعمال سلاح ناري ضد ضحية لم تكن مستهدفة خلال مباشرة مصالح الشرطة لعملية محـــددة ، و تكون المسؤولية على أساس الخطأ البسيط في حالة الأضرار الناجمة عن استعمال سلاح ناري عندما تكون الضحية مستهدفة خلال العملية ، و بصفة عامة تكون مسؤولية مصالح الشرطة في حالة الأضرار الناجمة عن التصرفات القضائية أو المادية عندما لا يشكل التدخل صعوبة خاصة .
و مع ذلك نجد أن المسؤولية على أساس الخطأ الجسيم هي التي تحتل الصدارة في إطار مسؤولية مصالح الشرطة، إذ منذ 1925 أصبح الاجتهاد القضائي يشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن نشاط الضبطية الإدارية عندما يشكل هذا الأخير صعوبة خاصة في التدخل، و ذلك إثر قرار” Clef R.DP” الصادر عن مجلس الدولة بتاريخ 13/03/1925 ، و عادة ما يرتب نشاط الضبطية الإدارية مسؤولية المرفق على أساس خطأ بسيط لأن مباشرة الأعمال القضائية لا تشكل صعوبة خاصة إلا استثناءا، إذ أن الصعوبات
التي تتلقاها مثلا شرطة الطرق في باريس خلال تنظيمها لحركة المرور لا بد أن يرقى الخطأ الناتج عنها إلى درجة الخطأ الجسيم حتى تترتب مسؤولية ولاية باريس عن تنظيم حركة المرور فيها .
2- نشاطات مصالح السجون :
يشترط مجلس الدولة الفرنسي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مصالح السجون، و ذلك منذ سنة 1958 في قضية ” Rakotoarinovy” حيث صدر فيها قرار بتاريخ 03/10/1958 ،و قد كان لابد قبل هذا التاريخ أن يكون الخطأ جليا و ذو خطورة خاصة ، كما صدر قرار بتاريخ 05/01/1971 في قضـــية ” Veuve Picard” اعتبر فيه مجلس الدولة أن قتل مسجون من قبل مسجون آخر لا يرتب مسؤولية المرفق كونه لم يبين وجود خطأ جسيم في المراقبة، في حين قرر في قضية أخــرى بتاريخ 16/11/1988 ” Epoux Deviller” أن الإهمال الخطير من قبل الأعوان و المتمثل في عدم الإعلان الطارىء عند اكتشافهم لمسجون مغمى عليه يشكل خطأ جسيما، و بالتالي يرتب مسؤولية المرفق.
و تجدر الإشارة إلى أن الخطأ الجسيم يشترط في هذه الحالة سواء كانت الضحية مسجون أو موظف ألحق به ضرر من قبل موقوف.
3-نشاط الرقابة الوصائية :
يتعلق الأمر بالرقابة التي تمارسها الدولة على الجماعات المحلية و كذا الأشخاص المعنوية، وهنا كذلك يشترط الاجتهاد القضائي الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الإدارة عن ممارسة رقابتها الوصائية بشكل عام، و قد ظهر هذا الإتجاه من خلال قرار صادر عن مجلس الدولة يتعلق بالوصاية على الجماعات المحلية في
29/03/1946 : ” Caisse d’assurances sociales de Meurth – et- Moselle” و قرار “Meunier ” الصادر في 20/03/1966
و ما يلاحظ حاليا أن الخطأ الجسيم لم يعد لازما لترتيب مسؤولية الإدارة إذ صدرت عدة قرارات حديثة عن مجلس الدولة قضت بمسؤولية هذه الأخيرة رغم وجود خطأ بسيط مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية سلطة الرقابة التي تملكها هذه الإدارة من بينها قرار “Société Hilton internationale ” الصادر في 22/02/1991 يخص الترخيص حول عتاد الهاتف و قرار صادر في 13/03/1998 “Améon” يخص ترتيب مسؤولية الدولة في نشاطات الرقابة التقنية التي تمارسها على السفن.
4- نشاطات مصالح الضرائب:
“Yvon Bourgeois” يخص أخطاء الحفظ و المعالجة المعلوماتية للتصريحات وتنفيذ الاقتطاعات الشهرية ،قضى فيه بمسؤولية مصالح الضرائب علي
أساس الخطأ البسيط في كل نشاطاتها وذلك في غياب صعوبات خاصة في معالجة المشاركين ، أما الخطأ الجسيم فبقى لازما فيما يخص نشاط إقرار أساس الضرائب و التحصيل عليها .
5 – نشاط مصالح مكافحة الحريق:
لا يميز القضاء الإداري بين الأخطاء المتعلقة بتنظيم أو سير مصالح مكافحة الحريق وبين الأخطاء المتعلقة بتدخلها ويشترط في كل هذه الحالات الخطأ الجسيم .
إلا أنه منذ 1998 أصبحت نشاطات مكافحة الحريق و الإنقاذ في البحر ترتب مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ البسيط رغم الصعوبة الخاصة التي تمتاز بها هذه النشاطات و ذلك من خلال قرار “Améon” الصادر عن مجلس الدولة في 13/03/1998 بالنسبة للاتقاد في البحر،وقرار ” Commune de Hannapes ” الصادر في 29/04/1998 بالنسبة لمكافحة الحرائق .
6- الـنـشـاط الــطــبـي :
كان القضاء الإداري يميز ضمن نشاطات المستشفى بين النشاط الإداري لهذا المرفق وبين النشاط الطبي . وذلك إلى غاية 1992 ، فبالنسبة للأضرار الناجمة عن ظروف تنظيم أو تسيير مرفق المستشفى فإن الخطأ البسيط يكفي لترتيب مسؤولية هذا الأخير كأن لا يتضمن طاقمه أي طبيب مختص في التخدير ، أو الحراسة غير الكافية في مصلحة الأمراض العقلية . أو استعمال أدوات غير صالحة أو الإهمال مثل معالجة ضحية حادث مرور في قاعة مخصصة لمصابين بأوبئة معدية .أما بالنسبة للأضرار الناجمة عن الخطأ الطبي فإن
الاجتهاد القضائي قبل 1992 يختلف عنه بعد 1992 ، فقبل هذا التاريخ كان الخطأ الجسيم وحده يرتب مسؤولية المستشفى بسبب الخطأ الطبي ، وهذه الصرامة كانت منتقدة من قبل الفقه الفرنسي طالما أن
الجهات القضائية كانت تكتفي بالخطأ البسيـط لتحميل العـيادات الخاصة مسؤولية الأضرار الناجمة عن أخطائها الطبية .
أما بعد 1992 أصبح مجلس الدولة يرتب مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ البسيط رغم أن العمليات تتطلب صعوبة خاصة ، ومهما كانت طبيعة هذا الخطأ وذلك من خلال قرار ” Epoux .V ” الصادر عنه في 10/04 1992 وقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي أحيانا إلى أبعد من ذلك إذ قضى بمسؤولية المستشفى بدون خطأ عندما يكون الضرر ذو خطورة خاصة ناتجة عن نشاط طبي يشكل خطرا معترف به والذي يكون تحقيقه استثنائيا وذلك في قرار ” Bianchi ” الصادر عنه في 09/04/1993 .
وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في الجزائر بتاريخ 19/04/1999 يتعلق بمسؤولية المستشفى عن الخطأ الطبي ، وتتلخص وقائع القضية في أن السيدة “رقية ” انتقلت إلى مستشفى أدرار لوضع حملها فأجريت لها عمليتان جراحيتان أثناء الولادة ، فتوفيت المولودة مباشرة وأصيبت السيدة بعاهة مستديمة تتمثل في العقم ، فرفعت هذه الأخيرة دعوى أمام الغرفة الإدارية لمجلس أدرار للمطالبة بالتعويض و التي عينت خبير مختص توصل إلى أن الخطأ الطبي هو الذي أدى إلى عقم السيدة ووفاة ابنتها ، فقضت لها الغرفة الإدارية بتعويض عن الضرر المادي والمعنوي مما جعل القطاع الصحي لأدرار يستأنف القرار ، وهنا قضى مجلس الدولة بالتأييد على أساس عدة أخطاء طبية مؤكدة أثناء عملية بسيطة ، وما نلاحظه في القرار الصادر عنه أن مجلس الدولة لم
يتكلم في حيثياته عن وجوب اشتراط الخطأ الجسيم في الخطأ الطبي ، كما أنه لم يعط أي وصف لهذا الخطأ الطبي ، وبالتالي نستشف من خلال ذلك أن مسؤولية المستشفى قائمة بغض النظر عن نوعية الخطأ المرتكب .
وقد اتخذ مجلس الدولة نفس الموقف في قرار آخر صادر عنه بتاريخ 17/01/2000 في قضية المستشفى الجامعي (ض) ، ضد (س . م) ، حيث لم يقم بتكييف الخطأ المتمثل في عدم اتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة وعدم ربط الهالكة طبقا للتعليمات الطبية مما أدى إلى رمي نفسها من نافذة الطابق الأول والتي كانت مصابة بالكوليرا التي ترفع لها درجة الحمى وبالتالي تأثر على حالتها النفسية ، ونجد هنا أن مجلس الدولة قد اعتبر عدم ربط المريضة على سريرها بناءا على تعليمات الطبيب خطأ مرفقيا وليس خطأ شخصيا ذلك لأن عملية ربط المريضة هي إجراء وقائي لتفادي الحاقها الضرر بنفسها مما يشكل اهمال صادر عن موظفي المستشفى الذي يعد في هذه القضية مرفقا متوقفا عن سيره أي أننا أمام صورة عدم تسيير مرفق عام السابق ذكرها .
/2002 إذ قضت فيه بمسؤولية القطاع الصحي وعيادة الولادة على أساس الخطأ الطبي المرتكب أثناء عملية توليد المدعية ، ونلاحظ هنا أيضا عدم استعمال قضاة الغرفة لعبارة خطأ جسيم أو خطأ بسيط أي أنهم اكتفوا بتأسيس قرارهم على الخطـأ الطبي دون تحديد وصف لهم وهذا يعني عدم اشتراط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مرفق المستشفى ، كما صدر قرار آخر عن نفس الغرفة بتاريخ 13/07/2004 تحت رقم فهرسه443/04 في إحدى حيثياته : ” إن
الوفاة لم تكن ناتجة عن خطأ علاجي إلا أن مسؤولية المستشفى قائمة باعتبار أن اهمال الممرضين دورهم في مراقبة مساعدة المريضة لقضاء حاجتها ساهم في تدهور حالتها الصحية نظرا لما بذلته من جهد يفوق طاقتها وهي تتوجه بمفردها إلى دورة المياه”. فالغرفة الإدارية أسست مسؤولية المستشفى على أساس الخطأ المرتكب من طرف ممرضي المصلحة الذين يقع عليهم واجب حراسة ومساعدة المرضى .
وفي الأخير يمكن القول أنه في مختلف النشاطات والمرافق التي تطرقنا إليها فإن معيار الصعوبة ” Critère de la difficulté ” الذي أصبح مستعملا في النشاط المعني وذلك حالة بحالة وليس مرفق بمرفق كما كان الحال سابقا ، والذي بات يعد حاليا الأداة الحاسمة لتحديد مجال تطبيق نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ الجسيم .
المطلب الرابع: قــاعــدة الجــمـع
تظهر أهمية تحديد طبيعة الخطأ في توزيع المسؤوليات وبالتالي في توزيع الاختصاص بين الجهات القضائية ، فإذا كان الخطأ المرتكب خطأ شخصيا فإن الجهة القضائية العادية هي التي تنظر في الدعـوى و تحمل الموظف عبء تعويض الضحية من ماله الخاص ، أما إذا كان الخطأ المرتكب خطأ مرفقيا فـإن الإدارة تكون مسؤولة عن تعويض الضرر الذي لحق الضحية أمام جهة القضاء الإداري ، و في حـالة وجود لبس وغموض حول طبيعة الخطأ المرتكب فإن الإدارة كانت ترفع النزاع أمام محكمة التنازع بفرنسا .
ومن تمﱠ فإن فكرة الجمع بين المسؤوليات كانت مستبعدة تماما باتفاق الفقه والقضاء على عدم الجمع بين مسؤولية الإدارة ومسؤولية الموظـف على أساس الـفصل التـام بين الخطأين، وعـدم إمكان تصور اشتراك الخطأين في إحداث الضرر للضحية .
وقد أدى هذا الاتجاه إلى وضع مضر بالضحية خاصة في حالة كان الموظف مرتكب الخطأ مفلـسا وهي الحالة الغالبة ، وهذا ما جعل القضاء الإداري يتساءل عما إذا كان الخطأ الشخصي يلزم الإدارة اتجاه الضحية عوض الموظف وذلك في إطار تحسين مصير الضحية ، بتمكينها من مطالبة اّلإدارة بتعويض الضرر باعتبار هذه الأخيرة عامرة الذمة دائما ومن تم يكون حصول الضحية على التعويض أكيــدا .
وقد مرت نظرية الجمع بمرحلتين، أولـها جمع الأخطاء وثانيها جمع المسـؤوليات، كما أنه تترتب عن هذه القاعدة عدة نتائج تتعلق من جهة بحقوق الضحية ومن جهة أخـرى بدعاوى الرجوع، و سنتطرق إلى كل ذلك فيما يلـــي :
الفرع الأول : جـمــــع الأخـطــــاء:
بعد صدور قرار “Pelletier” في 1873 استبعدت كل إمكانية للجمع بين الخطأ الشخصي والخطأ المرفقي ، و جسد ت فكرة قيام إما مسؤولية الإدارة أو مسؤولية الموظف حسب طبيعة الخطأ وأمــام الجـهـة القــــضائية المختصة ، وفي 1911 منح قرار ” Anguet” للضحية إمكانية الاختيار بين متابعة الموظف المتسبب في الضرر أو متابعة الإدارة للحصول على تعويض، و هنا نكون امام خطأ شخصي و خطأ مرفقي في آن واحد .
أس وتتلخص وقائع قضيةAnguet 1 في أن هذا الأخير دخل مكتب البريد قبل غلقه لقبض حوالة ، ولما همﱠ بالخروج وجد أبوابه مغلقة ، فقصد الباب الخلفي المخصص لخروج العمال ، وفي طريقه إليه مرﱠ بقاعة الطرود فظنه بعض الموظفين لصا وهجموا عليه بالضرب ودفعوه مما أدى إلى سقوطه وكسر ساقه ، وقد ثبت أن ساعة المكتب لم تكن مضبوطة مما جعل الموظفين يغلقونه قبل الموعد الرسمي بدقائق ، فالخطأ المرفقي يتمثل في سوء تسيير مصلحة البريد بغلق أبواب المكتب قبل الموعد الرسمي ، أما الخطأ الشخصي فيتمثل في المعاملة غير العادية التي تلقاها السيد Anguet من قبل الموظفين مما أدى إلى كسر رجله.
في هذه الحالة كان يمكن للضحية الخيار بين المسؤوليتين ، فبإمكانها المطالبة بكامل التعويض عن الضرر من الموظف أمام القضاء العادي على أساس الخطأ الشخصي ، أو مطالبة الإدارة أمام القاضي الإداري بالتعويض الكامل على أساس الخطأ المرفقي .
ونلاحظ هنا أن جمع الأخطاء يطرح بصفة منطقية ، إذ أن هذه الصورة من الجمع قبلت في وقت مبكر وهي محل إجتهادات قضائية مستمرة .
الفرع الثانــي : جــمــع ا لـمـسـؤولـيـات
نكون أمام حالة جمع المسؤوليات عند حدوث ضرر ناتج عن خطأ شخصي مرتكب من قبل الموظف ويقرر القاضي الإداري مسؤولية الإدارة ، وقد ظهرت هذه الصورة من الجمع بعد فكرة جمع الأخطاء بسنوات مما أدى إلى توسيع مجال المسؤولية الإدارية ، فبعد أن كانت تقوم على أساس الخطأ المرفقي وحده ثم على اس الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي معا ، أصبحت تقوم رغم وجود خطأ شخصي فقط.
وفي هذا الإطار وقع تطور هام ، إذ بعد اعتراف القضاء الإداري بمسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب داخل المرفق أصبح يعترف بمسؤولية هذه الأخيرة رغم أن الخطأ الشخصي ارتكب خارج المرفق.
1 – مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء القيام بتسيير المرفق :
قد يرتكب العون العمومي خطأ أثناء تأديته لعمله دون أن يكون لهذا الخطأ علاقة بتسيير المرفق العام فيكون بذلك هذا الخطأ شخصيا، ورغم هذا فإن القضاء الفرنسي قرر لأول مرة في قراره المبدئي “Arrêt Lemonnier ” أن الإدارة مسؤولة عن الخطأ الشخصي ، وتتلخص وقائع هذه القضية في أنه عند التحضير لحفلة محلية نظمت ألعاب نارية أو ألعاب بالسلاح على أهداف عائمة في نهر صغير ، فأعلم رئيس البلدية بخطورة هذه الألعاب لعدم توفير الشروط الأمنية اللازمة إضافة إلى هذا عدم براعة المشاركين ، ولكن هذا الأخير لم يأخذ هذا الرأي بعين الاعتبار فلم يتخذ أي إجراء لمنع المارة من السير والمرور في الضفة الأخرى للنهر ، واكتفى بنصح اللاعبين بمزيد من المهارة في التصويب ، فحدث أن أصابت رصاصة طائشة السيدة Lemonnier التي كانت تسير مع زوجها وذلك في خذها الأيمن لتستقر بين عمودها الفقري وحنجرتها
، فقام الزوجان برفع دعوى أمام القاضي العادي ضد رئيس البلدية ، ودعوى أخرى ضد البلدية أمام مجلس الدولة ، وهنا حكم لهما هذا الأخير بالتعويض ، معلنا أن تقرير المسؤولية الشخصية للموظف لا تحول دون قيام مسؤولية الإدارة ، وإن كان هذا الجمع بين المسؤوليتين لا يعطي للمضرور الحق في التعويض مرتين تطــبـيـقا لـمـبـادئ الـعـدالـــة .
وقد سلم مجلس الدولة الفرنسي بقاعدة الجمع بين مسؤولية الإدارة و مسؤولية الموظف عند ارتكاب هذا الاخير خطأ شخصيا داخل المرفق و ذلك بناء على رأي مفوض الدولة ” Léon Blum” في هذه القضية الذي جاء فيه : ” إذا كان الخطأ قد ارتكب داخل المرفق أو بمناسبة مباشرة العمل به ، وإذا كانت وسائل وأدوات الخطأ قد وضعت تحت تصرف الجاني بواسطة المرفق ، وباختصار إذا كان المرفق قد مهد لارتكاب الخطأ فالقاضي الإداري يمكنه بل يجب عليه القول : أن الخطأ قد يكون شخصيا وينفصل عن المرفق وهذا أمر متروك تقديره للمحاكم العادية ، ولكن المرفق لا يمكن أن ينفصل عن الخطأ ” فمجلس الدولة إذن اعتمد جمع المسؤوليتين رغم أن الخطأ شخصي على أساس التسيير السيئ للمرفق .
وهناك حالات مشابهة طرحت أمام المجلس الأعلى الذي فصل في الاتجاه ذاته ، إذ ذهب أحد الجنود المناوبين في الثكنة إلى حفل أقيم في جوار الثكنة ، مصطحبا معه سلاحه ودون ترخيص فوقع حادث مميت أدى إلى صدور حكم جنائي من طرف مجلس قضاء الجزائر ضد الجندي وحكم نقدي ضد الدولة باعتبارها المسؤولة مدنيا ، وقد تعرض هذا الحكم للنقض من طرف المجلس الأعلى (04 جويلية 1966 ) لأنه من جهة الجرم الجنائي المرتكب من طرف الجندي يخضع لاختصاص المحاكم العسكرية الدائمة وليس للقاضي الجنائي العادي ، ومن جهة أخرى التعويض المدني الذي يقع على الإدارة بسبب الخطأ الشخصي للجندي يدخل في ا
ختصاص المحاكم المختصة بالنظر في المواد الإدارية ، وبالتالي نجد أن قرار المجلس الأعلى قد اعتمد ولو ضمنيا موقف القضاء الإداري الفرنسي في القضية المذكورة كونه نقض القرار الصادر عن مجلس قضاء الجزائر لمسائل إجرائية وليس موضوعية ، وهذا ما تبينه من خلال الحيثية الثانية المتعلقة بالتعويض المدني .
وتقوم مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي أثناء تسيير مرفق عام في حالات أخرى وبمقتضى نصوص تشريعية فنجد مثلا أن مسؤولية الدولة تحل محل مسؤولية المعلمين والمربين عن أخطائهم الشخصية فيما يخص الأضرار اللاحقة بالتلاميذ أو الناتجة عن أفعالهم ، وهذا الحلول لا يمس إلا أعضاء أسرة التعليم العمومي على المستوى الابتدائي و الثانوي ويتمثل الخطأ الشخصي للمعلم هنا في إخلاله بالتزام المراقبة الذي يقع عليه اتجاه تلامذته وقد ورد النص على أن مسؤولية المعلمين والمربين في المادة 135/1 ق. المدني وذلك عن الأضرار التي يسببها تلامذتهم في الوقت الذي يكونون تحت رقابتهم ، والمثير للاهتمام أن المادة اقتصرت على الأضرار تسبب فيها التلاميذ دون الأضرار التي تلحق بهم عكس ما هو وارد في القضاء الإداري الفرنسي الذي يأخذ كذلك بدعوى الرجوع التي تمارسها الدولة ضد المعلم الذي يرتكب الخطأ الشخصي في حين لا وجود لحكم مماثل في المادة المذكورة .
كما أن هناك حالة أخرى تكون فيها البلدية أو الولاية مسؤولة عن الأضرار التي يتسبب فيها منتخبوها المحليين في غياب أي خطأ مرفقي ، إذ نصت المادة 145 من القانون رقم 90-08 المؤرخ في 07 أفريل 1990 والمتعلق بالبلدية على أن البلدية تكون مسؤولة عن الأخطاء التي يرتكبها رئيس المجلس الشعبي البلدي والمنتخبون البلديون وهم أعضاء المجلس وموظفو البلدية وهذا أثناء قيامهم بوظائفهم أو بمناسبتها شريطة أن يكونوا موكلين من طرفها للعمل باسمها بصفة خاصة ، على أنه يمكن للبلدية مباشرة دعوى ضد هؤلاء في
حالة كان الخطأ المرتكب شخصيا ويبقى إذن حق البلدية في ممارسة دعوى الرجوع ضد هم منوطا بها، وقد نصت المادة 118 من قانون الولاية الصادر07أفريل 1990 تحت رقم 90-09 على مسؤولية الولاية مدنيا
عن الأخطاء التي يرتكبها أعضاء المجلس الشعبي الولائي بما فيهم رئيسه ، على أنه يمكن للولاية الطعن لدى القضاء الإداري ضد مرتكب هذه الأخطاء وذلك في شكل دعوى الرجوع .
2 – مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي المرتكب من طرف العون العمومي خارج تسيير المرفق العام :
من المنطقي أن يسند الخطأ المرتكب من طرف الموظف خارج تسيير المرفق العام له شخصيا ويؤدي إلى مسؤوليته الشخصية ، ولكن رغم ذلك ولمساعدة الضحية جاء مجلس الدولة الفرنسي بحل يختلف عن هذه القاعدة المنطقية ، وكان ذلك في عدة قضايا تتعلق كلها بحوادث المرور التي تسبب فيها سيارات الإدارة والمستعملة من طرف أعوانها العموميين خارج تخصيصها الطبيعي أولها قضية الآنسة Mimeur . وتتلخص وقائع الآنسة ميمور أن سائق شاحنة عسكرية لم يتحكم في سياقتها فاصطدم بسكن الآنسة ميمور التي رفعت دعوى ضد وزارة الدفاع تطلب فيها تعويضها عن الأضرار التي لحقت بسكنها، إلا أن دعواها رفضت على أساس أن الجندي وقت الحادث لم يكن في مهمة خاصة بالمرفق العام، إذ أتضح عند التحقيق أن العسكري بعدما أنهى مهمته كان راجعا لمقر عمله وأثناء ذلك مرﱠعلى طريق غير مباشر لزيارة عائلته، فاعتبر مجلس الدولة أنه رغم وجود خطأ شخصي قام به الجندي في سياقة شاحنة ملك للإدارة إلا أن هذا الخطأ له علاقة ولو غير مباشر مع المرفق العام مما جعل جزء من التعويض يقع على عاتق الإدارة .
ورغم أن تعويض الأضرار التي تسببت فيها سيارة الإدارة أصبح من اختصاص القاضي العادي إلا أن مسؤولية الإدارة على أساس الخطأ الشخصي للعون العمومي خارج تسيير المرفق العام مازالت تطرح بغض النظــر عن حــوادث المرور ، إذ صــدر قرار عن مجلس الدولة في 28 أكتوبر 1953
” Dame Banquet ” يخص قيام أعوان مكلفين بالتفتيش بسرقة أموال منقولة كما صدر قرار آخر عنه رتب مسؤولية الإدارة رغم وقوع الخطأ الشخصي خارج أوقات العمل في 26 أكتوبر 1973 “Sadoudi ” وتتلخص وقائعه في أن شرطيا كان بغرفته بصحبة المدعو “Sadoudi ” وعند تنظيف مسدسه انطلقت طلقة نارية أدت إلى وفاة هذا الأخير، واعتبر مجلس الدولة أن الإدارة مسؤولة مع العون العمومي رغم أن العون لم يكن يقوم بتنفيذ مرفق عام أثناء الحادث ، وذلك لأن قواعد تنظيم المهنة كانت تلزم الأعوان بإبقاء المسدس في منازلهم ونظرا للخطورة التي يشكلها التزام حفظ السلاح في منازل الأعوان على الغير فإنه لا يمكن القول بعدم وجود علاقة بين الحادث والمرفق .
وفي هذا المجال يحاول القضاء الوصول إلى علاقة بين خطأ العون العمومي والمرفق العام، وذلك حتى عندما تكون الأشياء المستعملة لارتكاب الخطأ لم تكن تلك المستعملة لتسيير المرفق العام .
حـيـث صــدر عـن مـجـلـس الـدولـة فـــي 18 نـوفـمـبـر 1988 فـي قـضـية الـزوجـيـن “RASZEWSKI” ، في هذه القضية كان دركي يقوم بسرقة السيارات ويتعدى على الأشخاص بسلاحه وذلك عن طريق إطلاق النار عليهم ، فقام بقتل شخص بمسدسه الشخصي وبينما يظهر أنه لا توجد أية علاقة بين الأخطاء الشخصية التي كان يقوم بها ذلك الدر كي والمرفق العام ، اعتبر مجلس الدولة أن الاقتتال له ارتباط مع المرفق العام بحيث أن العون العمومي كان در كيا يشرف على
التحقيق حول كل الأخطار التي كان يقوم بها شخصيا الشيء الذي جعله يستمر خلال مدة طويلة في القيام بعدة جنايات ، فمشاركته في التحقيقات حول كل الأفعال الإجرامية التي كان يقوم بها بالدائرة التي يمارس فيها مهامه ساعدته في الهروب من إلقاء القبض عليه وكشف أمره وبالتالي في القيام بفعل القتل .
وبالتالي يمكن القول أن طبيعة العلاقة بين الخطأ الشخصي والمرفق العام إما أن تكون مكانية أي أن الخطأ يرتكب بالمكان الذي يمارس فيه العون العمومي مهامه ، وإما أن تكون زمنية أي أن الخطأ يرتكب في الوقت الذي كان على العون العمومي أن يمارس خلاله مهامه .
الفرع الثالث : نتائج الجمع
إن النتائج التي ترتبها قاعدة الجمع تتعلق من جهة بحقوق الضحية المجسدة في الدعوى التي يمكنها رفعها ، وبالعلاقة الموجودة بين الإدارة والموظف مرتكب الخطأ من جهة أخرى.
1- دعوى المضرور ( حقوق الضحية ) :
إن الاعتراف بجمع المسؤوليات فيما يخص حقوق الضحية يخضع للقواعد التالية :
1 – يكون للضحية حق الاختيار بكل حرية بين رفع دعوى ضد الإدارة أمام القاضي الإداري للمطالبة بالتعويض الكامل وبين رفع دعوى ضد الموظف أمام القاضي العادي للمطالبة بكامل التعويض أيضا ، وفي الواقع نجد أن الضحية تفضل عادة متابعة الإدارة لتضمن دفع مبلغ التعويض ودون تماطل .
2 – إذا كان مبدأ جمع المسؤوليات يهدف إلى تمكين الضحية من الاختيار بين متابعة الإدارة أو متابعة الموظف ، فإنه لا يمكنه أن يسمح بتعويض الضحية مرتين نتيجة الدعويين المرفوعتين ، وبالتالي يقابل مبدأ جمع المسؤوليات مبدأ عدم الجمع بين تعويضين .
ومن أجل ضمان إمكانية تعويض واحد فإن الاجتهاد القضائي كان يعتمد مبدأ الضمان ، وتبعا لذلك يكون على القاضي الإداري أن يأخذ بعين الاعتبار ما حكم به القاضي العادي ، فإما أن يحمل الإدارة بكامل التعويض أو يحملها بجزء منه ، ونظرا للنتائج المعقدة التي تتطلبها طريقة الضمان لطول الإجراءات وتعقيدها لتجد في الأخير موظف معسر في معظم الأحوال ، هجر القضاء الإداري هذه الطريقة وأصبح يطبق مبدأ الحلول وذلك منذ قرار”THévenet” في 23 جوان 1916 ، وبالتالي أصبح القاضي الإداري يحكم على الإدارة بكامل التعويض .
2 – دعاوى الرجوع :
إذا كانت نتائج جمع المسؤوليات بسيطة فيما يخص علاقة الضحية بالإدارة والموظف فإنها أكثر تعقيدا فيما يخص عبء التعويض الذي يقع عادة على الإدارة ، إذ تكون تصفية التعويض عن طريق دعوى الرجوع التي تمارسها الإدارة ضد الموظف في حالة قيامها بدفع المبلغ كاملا للضحية أو يمارسها الموظف ضد الإدارة في الحالة العكسية .
2- 1- دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف :
نظرا لكون الضحية تفضل غالبا رفع دعوى التعويض ضد الإدارة ، فإننا نجد أن دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة على الموظف هي الأكثر استعمالا ، وهذا يثير مسؤولية الموظف اتجاه الإدارة فيما يخص متابعتها أمام القاضي الإداري بسبب الخطأ الشخصي لهذا الموظف .
• في النظام القديم :
لم يكن مسموح للإدارة المحكوم عليها بدفع كامل التعويض – دون أن يكون هناك خطأ مرفقي- إما على أساس جمع الأخطاء أو جمع المسؤوليات الرجوع على الموظف مرتكب الخطأ محل التعويض ، والذي
كانت مسؤولياته تفلت من كل عقاب ، ففكرة الجمع كانت تؤدي إلى الحصانة الكاملة للموظف من الأخطاء الشخصية ليس فيما يخص المجال المالي فقط ، وإنما حتى فيما يخص حسن سير الإدارة ، إذ أن الاجتهاد القضائي كان يعترف فقط بمبدأ الحلول منذ 1916، من خلال قرار “Thévenet” ، وقد صدر قرار عن مجلس الدولة في هذا الشأن بتاريخ 28 مارس 1924 “Poursines ” ، في هذه القضية السيد “Boxtel ” تم قتله بناءا على أمر الضابط ” Poursines” باعتباره مشبوه فيه قامت الدولة بتعويض ورثة “Boxtel ” بمبلغ أربعون ألف فرنك فرنسي ، وبعدها قام وزير الحرب آنذاك بإعذار الضابط المسؤول بدفع مبلغ التعويض للدولة ، في 02 جويلية أصدر أمر يلزمه برد المبلغ ، فطلب الضابط إلغاء هذا التصرف من مجلس الدولة الذي رأى أنه طبقا لقانون 24 ماي 1872 فإن مسؤولية الموظف غير المحاسب العمومي لا تقوم اتجاه الدولة بسبب الأخطاء التي ارتكبها عند مباشرة مهامه إلا إذا صدرت نصوص تشريعية خاصة تسمح للوزير بالتصريح بمديونية الموظف اتجاه الدولة ، وفي غياب مثل هذه النصوص تكون إدارة الحرب قد أخطأت حينما حملت الضابط عن طريق قرار بإلزامه بأن يرد لها مبلغ أربعون ألف فرنك نتيجة التعويض الذي دفعته لورثة الضحية ، وقرر مجلس الدولة في الأخير إلغاء قرار وزير الحرب .
• في النظام الحالي :
لقد جاء قرار “Laruelle ” الصادر عن مجلس الدولة في 28 /07/1951 بقواعد جديدة تقضي بمسؤولية الموظف مرتكب الخطأ الشخصي اتجاه الإدارة على أساس قيام هذه الأخيرة بتعويض الضحية عن الضرر الذي لحقها من جراء هذا الخطأ ، وتتلخص وقائع القضية في أن : “Laruelle ” ، ضابط صف قام بتاريخ15 جوان 1945 بصدم الضحية السيدة “Marchand ” بواسطة سيارة عسكرية كان يستعملها لأغراض شخصية لا علاقة لها بعمله ، فصدر قرار من مجلس الدولة بتاريخ 12 مارس 1948 يلزم الإدارة ب
تعويض الضحية وذلك على أساس أن السلطة العسكرية لم تتخذ الإجراءات اللازمة لمراقبة خروج سياراتها من المرآب ، وبناءا على هذا القرار صدر قرار “Laruelle ” مفاده ترتيب مسؤولية هذا الأخير اتجاه الإدارة وبالتالي تحميله بمبلغ التعويض الذي دفعته للضحية .
وقد صدرت عدة قرارات عن مجلس الدولة في هذا الشأن أهمها قـرار “Delville ” وقرار “Moritz” نتجت عنها عدة قواعد أهمها :
1- يمكن للإدارة بعدما تقوم بتعويض الضحية التي رافعتها أمام القاضي الإداري أن ترفع دعوى رجوع أمام نفس الجهة حتى في غياب أي دعوى ضد الموظف ترفعها الضحية (Laruelle) وكذلك حتى ولو قامت بدفع التعويض تطوعا (Moritz ).
وبالتالي يمكن للإدارة حتى تضمن رد مبلغ التعويض من قبل عونها أن تلجأ إلى إجراءات تنفيذية.
2- يكون للقاضي الإداري النظر في توزيع المسؤولية بين الإدارة والموظف وبالتالي في توزيع عبء التعويض بينهما ، وفي حالة تعدد الموظفين المتسببين في الضرر اللاحق للضحية فإن فكرة الضمان مستبعدة ويكون بذلك كل واحد منهم مسؤول اتجاه الإدارة بقدر حصته في التعويض لقاء حصته في المســـــؤولية ” Jeannier ” .
3 – وعلى القاضي الإداري أن يأخذ بعين الإعتبار وجود الأخطاء المرتكبة من طرف الإدارة والموظف ومدى خطورتها فيكون للإدارة في حالة نتج جمع المسؤوليات عن خطأ شخصي أن تعود على الموظف بكامل التعويض الذي دفعته للضحية أو بتحميله بجزء منه كما حدث في قرار ” Jeannier ” الصادر عن مجلس الدولة في 22 مارس 1957 أين حاولت الإدارة تحميل الجنود الستة الذين كانوا في الشاحنة
العسكرية المتسببة في الحادث بكامل التعويض ، وقد قرر مجلس الدولة عندما رفعت الدعوى أمامه تحميلهم بربع قيمة التعويض المحكوم به على الإدارة .
4- إن القرار القضائي الذي ألزمت بموجبه الإدارة بتعويض الضحية لا يحوز قوة الشيء المقضي فيه في مواجهة الموظف أي انه لا يمكن له أن يحتج به كدفع في دعوى الرجوع المقامة ضده من قبل الإدارة ، فيكون له أن يطلب مراجعة قيمة مبلغ التعويض أو مبدأ مسؤوليته في حد ذاته “Laruelle ” .
وقد كرس المشرع الجزائري أحيانا وبشكل قاطع دعوى الرجوع للإدارة على الموظف، فحسب المادة 145 الفقرة التالية من قانون البلدية 90-08 فإنه يحق لهذه الأخيرة أن ترفع دعوى ضد منتخبيها المحليين في حالة إرتكابهم لخطأ شخصي وحملت البلدية بموجبه بتعويض المتضررين ، وكذلك الأمر في قانون الولاية 90-09 في المادة 118 منه ، حيث يخول للولاية ممارسة دعوى الرجوع ضد منتخبيها عندما تتحمل التعويض عن أخطائهم الشخصية اتجاه الغير .
وقد ورد بالأمر رقم 75-74 المؤرخ في 12 نوفمبر 1975 المتعلق بإعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري في مادته 23 حكم خاص يرتب مسؤولية الدولة بسبب الأخطاء المضرة بالغير ، والتي يرتكبها المحافظ العقاري أثناء ممارسة مهامه ، على أن تحرك دعوى المسؤولية ضد الدولة في أجل عام واحد ابتدءا من اكتشاف الفعل الضار ، تحت طائلة سقوط الحق في الدعوى ، ويكون الدولة بناءا على ذلك حق الرجوع على المحافظ العقاري الذي ارتكب الخطأ الجسيم الذي رتب مسؤوليتها وبالتالي حملها عبء التعويض .
2-2دعوى الرجوع المرفوعة من الموظف ضد الإدارة :
يمكن استعمال دعوى الرجوع من طرف الموظف ضد الإدارة ويكون ذلك في صورتي نظرية الجمع :
1- قد يحدث أن ترافع الضحية الموظف أمام القاضي العادي الذي يقرر خطأ شخصي يسنده إلى هذا الموظف رغم أن الخطأ مرفقي ، فيحكم عليه بدفع مبلغ التعويض للضحية بكامله ، فيجد هذا الموظف نفسه يتحمل نتائج الخطأ المرفقي لوحده ، ولذلك جاء الاجتهاد القضائي لتفادي مثل هذا الوضع بحل جديد إلا أنه غير كاف إذ يعطي الحق للموظف في متابعة الإدارة في مثل هذه الحالة وذلك قبل صدور الحكم عن القاضي العادي ، وبقي الأمر كذلك بفرنسا إلى غاية صـدور قـانـون يتضمـن حـقـوق والتـزامات المـوظف بتاريخ 13جويلية1983 جاء في مادته 11 أنه على الجماعة المحاسبة أن تعيد للموظف التعويضات
لمدنية المحكوم بها ضده ، وقد اعتبر مجلس الدولة أن هذا المبدأ الجديد ليس إلا مبدأ من المبادئ العــامة للقانون .
أما في القانون الجزائري فإننا نجد ما يقابل هذه المـادة في القــانون الأساسي العام للوظيفة العمومية رقم 85-59 الصادر بـ 23 مارس 1985 ، إذ تنص المادة 17 الفقرة الثانية منها على : ” عندما يلاحق موظف بسبب خطأ مصلحي ، فإن الإدارة أو الهيئة العمومية التي يتبعها ملزمة ، حين يكون الخطأ الشخصي منفصل عن ممارسة وظائفه وغير منسوب لهذا الموظف ، بحمايته من الأحكام المدنية الموجهة ضده ” .
2- وقد يحدث أن يحاكم الموظف أمام جهة القضاء العادي رغم وجود خطأ شخصي و خطأ مرفقي في آن واحد ، فيتحمل هذا الأخير مبلغ التعويض بكامله رغم أن المسؤولية مشتركة بينه وبين الإدارة ، فنجد أن الاجتهاد القضائي قد اعترف للموظف بحقه في مباشرة دعوى الرجوع ضد الإدارة ، وفي هذه الحالة لا يكون
القاضي الإداري ملزما بما خلص إليه القاضي العادي في ما يخص تقدير التعويض الإجمالي لمبلغ التعويض أو توزيع عبء التعويض بين الإدارة والموظف .
2- 3- دعوى الرجوع المرفوعة من الإدارة ضد الغير :
تطبق نفس القواعد في حالة ما إذا كان الضرر المستحق للتعويض ناتجا عن فعل الغير ضد موظف تابع لإدارة معينة قامت بتعويضه ، إذ تحل هنا هذه الإدارة محل حقوق المضرور ألا وهو موظفها ، لاسترداد المبالغ التي دفعتها له وذلك عن طريق دعوى الرجوع ضد الغير المتسبب في الضرر ، ذلك أن فعل الغير يعفي جزئيا أو كليا الإدارة ، وبالتالي ينفي مسؤولياتها بقدر نسبة مشاركتها في الخطأ .
وقد نصت المادة 142 من قانون البلدية بإمكانية هذه الأخيرة في ممارسة دعوى الرجوع ضد المتسببين أو المشاركين في إحداث الضرر ، عندما تكون قد عوضت الموظف الذي لحــق بـه الضـرر ، وكذلك الأمر بالنـسبة لقــــانـون الـولاية إذ تضـمـن نفـس الحكم في المادة 117 منه .
وفي الأخير فإننا نشير إلى أن القضاء الإداري يكون دائما مختصا بالنظر في جميع دعاوى الرجوع باختلاف أطرافها ، باعتبار أن العلاقة بين الإدارة والموظف تخضع للقانون العام .
المبحث الثاني : نظام المسؤولية الإدارية بدون خطأ
المسؤولية الإدارية بدون خطأ كما تدل عليه تسميتها، تقوم في غياب ركن الخطأ فبعدما كانت المسؤولية الإدارية لا تقوم إلا في حالة ارتكاب خطأ ينسب للإدارة و هو ما يعرف بالمسؤولية الإدارية على أساس الخطأ، أصبحت المسؤولية الإدارية تقوم أيضا حتى في حالة عدم ارتكاب أي خطأ من جانب الإدارة، و هو ما يرتب مسؤوليتها في تعويض الأفراد جبرا للضرر الذي ألحق بهم.
و لقد عرفها مفوض الدولة Bertrand أمام مجلس الدولة الفرنسي في قضية ” سولز” و الذي أخذ مجلس الدولة برأيه في الحكم الصادر بتاريخ 06/11/1968 بمناسبة هذه القضية قـائـلا:
” إن مسؤولية الدولة بلا خطأ منها إنما هي تصحيح أدخله القضاء على ما يتسم به القانون العام من طابع اللامساواة، و هي تستوي عند نقطة التوازن بين مبدأ تغليب المصلحة العامة التي تضطلع الإدارة بتطبيقه في جميع الحالات التي يصطدم فيها بالمصالح الخاصة، و بين مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، و هو يتطلب التعويض عن كل ضرر منسوب إلى نشاط عام عندما يتجاوز الحدود اللازمة لظروف الحياة في المجتمع”.
و تتميز المسؤولية الإدارية بخصائص و هي:
– ليست مطلقة في مداها و هذا انسجاما مع خصائص المسؤولية الإدارية التي تبينها قرار بلا نكو هي تكميلية استثنائية من أجل المحافظة على التوازن بين الحقوق و الإمتيازات المقررة للإدارة و حقوق الأفراد ومتطلبات العدالة.
– يعوض عن الضرر إذا بلغ درجة معينة من الخطورة، بمعنى آخر أن يكون الضرر غير عادي و استثنائي.

– على الضحية إثبات العلاقة السببية بين الضرر و عمل الإدارة للحصول على التعويض دون حاجة لإثبات الخطأ كون المسؤولية تقوم بدونه.
– لا تعفي الإدارة من مسؤوليتها إلا في حالتين و هما القوة القاهرة و خطأ الضحية.
كما أن المسؤولية الإدارية بدون خطأ و فيما يخص الأسس القانونية التي ترتكز عليها أثارت جدلا كبيرا إلا أن غالبية الفقه و بناءا على التطبيقات القضائية لها اعتبروا أن كل من المخاطر و مبدأ المساواة في تحمل الأعباء العامة يشكلان أساس المسؤولية الإدارية بدون خطأ، و ذلك راجع لسبب منطقي و موضوعي يتمثل في وجود بعض الأضرار لا يتحملها الأفراد كونها ناتجة عن مخاطر أو نشاط إداري يمتاز بخطورة بل استنادا إلى مبدأ المساواة في تحمل الأعباء العامة.
هذا المبدأ ـ و الذي يتخذ وجهين هما المساواة في الحقوق و المنافع و المساواة في تحمل الأعبــــاء و التكاليف العامة ـ يوجب قيام مسؤولية الإدارة دون خطأ و ذلك بتحمل جميع أفراد الجماعة خسارة الأضرار الخاصة (غير العادية) و الاستثنائية اللاحقة بالأفراد و إلزامهم بالتعويض.
و على ضوء هذا الموقف الذي يجعل أساس المسؤولية الإدارية بدون خطأ هو كل من نظرية المخـاطر ومبدأ المساواة في تحمل الأعباء العامة، سنقسم دراستنا لهذا المبحث إلى مطلبين، و في كل واحد متهما سنتناول بشيء من التفصيل نظرية المخاطر و مبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العامة.
لمطلب الأول: المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر
ظهرت المسؤولية عن المخاطر أساسا في القانون الخاص، لكنها تطورت في إطار القانون العام إلى درجة أنها أصبحت تشمل مختلف ميادين النشاط الإداري و لو أنها ما زالت مسؤولية احتياطية بحيث تظل المسؤولية عن الخطأ المرفقي هي الأصل و الاستثناء هو المسؤولية بدون خطأ عن مخاطر النشاط الإداري.
و المقصود بنظرية المخاطر هو أنه من أنشأ مخاطر ينتفع منها، فعليه تحمل تبعة الأضرار الناتجة عنها.
ففي بادئ الأمر طبق القضاء الإداري هذه النظرية في مجال الأشغال العمومية ثم امتد مجال تطبيقها بداية من القرن العشرين إلى مسؤولية الإدارة عن بعض الأنشطة و الأشياء الخطرة و التي تشكل مخاطر غير عادية.
و على هذا الأساس ارتأينا دراسة المطلب الأول في فرعين: الأول نتناول فيه المسؤولية الإدارية عن الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية، و الثاني المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر غير العادية.
الفرع الأول: المسؤولية الإدارية عن الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية
إن الضرر الناجم عن الأشغال العمومية هو أول ضرر لا يشترط لتعويضه وجود خطأ مرفقي، بحيث قد تلحق أشغال عمومية أضرارا بالأفراد دون أي خطأ. و ما دامت الأضرار الناجمة عن هذه الأخيرة يتحملها جميع أفراد الجماعة، فلا مسؤولية و لا تعويض إلا إذا بلغ هذا الضرر درجة معينة من الخطورة و مس عدد محدود و معين من الأفراد.
I ـ مفهوم الأشغال العمومية:
عرف الشغل العمومي على أنه كل عمل يقوم به شخص معنوي عام لصالحه أو لصالح شخص آخر معنوي ينصب على عقار يهدف من وراء تنفيذه تحقيق مصلحة عامة، هذا التعريف التقليدي للشغل العمومي يتضمن ثلاثة عناصر و هي:
1- عمل يقوم به شخص معنوي عام: و يجب أن يكون العمل ماديا كبناء، ترميم، صيانة، حفر أو هدم، و الشخص المعنوي العام محدد بنصوص قانونية من ذلك نص المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية.
2 -ينصب على عقار سواء كان بطبيعته أو بالتخصيص: و بالمقابل تستبعد المنقولات التي تملكها الإدارة العامة و لو كانت من أموالها العامة.
3 – تهدف من وراء تنفيذه تحقيق مصلحة عامة و تؤخذ في معناها الواسع.
ولقد تجاوز القضاء هذا التعريف التقليدي و وسع من مفهوم الأشغال العمومية انطلاقا من قرار” Effimief ” أين اعتبرت محكمة التنازع الأشغال المنجزة أشغالا عامة رغم أنها ـ و إن كانت أشغالا عقارية ـ تهدف إلى إعادة بناء عقارات تشكل ملكيات خاصة، و بالتالي فإن الأشغال لم تهدف إذن إلى تحقيق مصلحة عامة.
و بذلك أصبح يهدف من وراء الشغل العمومي تحقيق خدمة المرفق، بمعنى أنه يعتبر عاما و لو أنجز لصالح شخص خاص.
و من خلال هذا التعريف، يتميز الشغل العمومي عن المبنى العمومي الذي استعمل في وقت ما كمرادف له، و بعد تطور قواعد المسؤولية الإدارية التي تحكم الشغل العمومي تم التمييز بينهما على أساس أن الشغل العمومي هو العمل و النشاط ، في حين صنف المبنى العمومي ضمن الأموال، و ارتبط هذا التمييز بالنظرة إلى
مفهوم الشغل العمومي، بحيث لم يعد الشغل العمومي منحصرا في عملية ترميم المبنى العمومي أوهدمه، و إنما اتسع مجاله و بالمقابل فإن المبنى العمومي أصبح يقام بواسطة نشاط خاص، و يترتب عن تحديد
مفهوم الشغل العمومي تطبيق النظام القانوني الخاص بالأشغال العمومية و ذلك كلما توفر في نشاط إداري ما عنصر من العناصر المذكورة حتى و لو كان عقد تموين إن تعلق موضوعه بنقل مواد بناء إلى مكان إنجاز الشغل العمومي.
II – نظام المسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية:
1 ـ معايير تحديد نظام المسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية:
طرح الفقه على ضوء التطبيقات القضائية المسؤولية عن الأشغال العمومية معيارا لتحديد قواعد المسؤولية عن الأضرار الناجمة عنها و يستند هذا المعيار إلى طبيعة الضرر، و ميز فيه بين الضرر الدائم و الضرر العرضي، ففي الأول أسس المسؤولية دون خطأ أي على أساس المخاطر باعتبار الضرر نتيجة حتمية و محسوبة ضمن مخاطر تنفيذ الأشغال العمومية، أما في الثاني اشترط لتعويضه وقوع خطأ، فهي إذن مسؤولية مشروطة لأن الضرر كان ممكنا ألا يحصل كونه ليس نتيجة حتمية للأشغال بل حادث من حوادث تنفيذها.
أما القضاء فقد هجر هذا المعيار و استند إلى معيار الضحية، و ميز بين ما إذا كانت الضحية من الغير أو المشارك أو المرتفق و رتب المسؤولية أحيانا على أساس الخطأ و أحيانا أخرى بدون خطأ و هو ما سنتناوله بالتفصيل في قواعد المسؤولية الإدارية عن أضرار الأشغال العمومية.
2 ـ قواعد المسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية:
كما سبق الإشارة إليه سالفا فإن القضاء يعتمد معيار طبيعة الضحية، و عليه فقواعد المسؤولية يختلف باختلاف هذه الأخيرة.
أ ـ الأضرار الواقعة على المشاركين:
المشارك هو الشخص الذي ينفذ بطريقة أو بأخرى الشغل العمومي (أي يشارك في إنشاء المبنى العمومي) و يندرج تحت هذا التعريف المقاول و عماله، الوكيل و مساعديه، و قد يكون المشارك شخصا اعتباريا.
إن تعويض الأضرار التي يتحملها هؤلاء يؤسس على الخطأ و ليس على المخاطر باعتبار أن المشارك ليس غريب عن مخاطر العملية كونه يشارك في إنجاز المبنى.
هذا الحل هو المتبع في الجزائر، حيث اعتبرت الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر في 16 أكتوبر 1964 بشأن حادث وقع أثناء أشغال قامت بها شركة كهرباء و غاز الجزائر بأن الشركة لا يمكن اعتبارها مسؤولة في مواجهة العمال الذين كانوا حين وقوع الحادث يشاركون في أشغال الصيانة للمنشآت المذكورة إلا إذا كان الحادث قد نتج عن خطأ ينسب لتلك المؤسسة العمومية.
ب ـ الأضرار الواقعة على المرتفقين:
المرتفق هو الشخص الذي يستعمل فعلا المبنى العمومي و المتسبب في الضرر، معنى ذلك أن العلاقة المباشرة ما بين الضحية و استعمال المبنى تعتبر معيارا أساسيا في تحديد المرفق كوقوع شجرة على أشخاص في حديقة عمومية. و يعتبر مرتفقا كذلك المستفيد بمرافق الماء، الغاز و الكهرباء، بحيث يكون الشخص مرتفقا عندما يصيبه ضررا من القناة التي يستفيد منها، و يعتبر من الغير إن كان مصدر الضرر القناة الرئيسية.
أما عن أساس المسؤولية الإدارية في حالة الضرر الذي يلحق المرتفق و لا تعفى الإدارة عن مسؤوليتها إلا إذا أثبتت أنها قامت بالصيانة العادية في حالة ما إذا كان الشخص مرتفقا.
أما إن لحق الضرر الغير فلا تعفى و لا يمكنها التذرع بقاعدة الصيانة العامة التي تعني السهر على صيانة المباني العمومية و سيرها العادي حتى يتمكن المرتفق من استعمالها دون خطر.
و لقد أخذ القضاء بنظرية غياب الصيانة العادية للمبنى العمومي كأساس للمسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية في حالة المرتفق ( اعتمد فكرة الخطأ كأساس ).
مثال ذلك ما أقر به مجلس قضاء قسنطينة في تعويض مرتفقي الطرق ( السواق )بسبب انعدام الصيانة في قراره بتاريخ 02/03/1983 عندما عوض ذوي حقوق السيد (ب،ع)الذي توفي على إثر حادث مرور من جراء انقلاب سيارته في منعرج خطير ليس به إشارة الخطر . اعتبر المجلس انعدام الإشارة بمثابة انعدام الصيانة مستوجبا قيام المسؤولية الإدارية.
كما أخذت المحكمة العليا في قرارها بتاريخ 17/04/1982 بمسؤولية الإدارة عن خطأ انعدام الصيانة عندما قررت تعويض الضحية التي اختنقت بغرفة الاستحمام بالمستشفى بسبب انعدام التهوية و المنافذ اللازمة لانفلات الغاز المحترق من جهاز تسخين مياه الاستحمام.
ج-الأضرار الواقعة على الغير:
يصعب تقديم تعريف للغير ، لذا فقد عرف بالسلب فالغير هو كل شخص لا يعتبر مرتفقا أو مشاركا.
و هناك محاولة عرفته بأنه ذلك الشخص الذي لا يستعمل المبني العمومي و لا يستفيد من أشغال عمومية.
و السؤال المطروح هنا هو : ما أساس المسؤولية الإدارية في هذه الحالة ؟و ما طبيعة الضرر الذي يلحق بالغير ؟
تؤسس المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر و تعوض الضحية الغير دون حاجة لتقديم أي إثبات سوى العلاقة السببية بين الضرر الحاصل و الأشغال العمومية.
أما بالنسبة للضرر ، فيشترط فيه أن يكون من طبيعة غير عادية ؛ بمعنى أنه يفوق الإزعاجات و العقبات البسيطة التي يتحملها عامة الناس. كما يجب أن يمس هذا الضرر حقا مشروعا بحيث لا يستفيد من التعويض الشاغل لملك عمومي.
و لقد قضى مجلس الدولة في 08/03/1999 بتأييد القرار المستأنف بتأييد القرار المستأنف كون أشغال الحفر كانت تحت إشراف البلدية و إدارتها و هي التي رخصت بها لسكان القرية، وكان يجب عليها أخذ الإجراءات السارية قانونا لحماية الحفرة و التأكد من كونها لا تشكل خطرا،و أن إهمالها لذلك يجعل مسؤوليتها قائمة.
و يتعلق موضوع القضية في سقوط طفل في حفرة أدى إلى وفاته، هذه الحفرة أنجزت لتخزين المياه حفرها سكان القرية الكائنة بعين أزال.
أقام ذوي حقوق الطفل دعوى أمام الغرفة الإدارية بمجلس قضاء سطيف ضد بلدية عين أزال، فقضى بتحميل البلدية مسؤولية سقوط الضحية في الحفرة الموجودة تحت حراسة البلدية مع إلزام هذه الأخيرة بالتعويض.
يتعلق الأمر هنا بالمسؤولية عن الأشغال العمومية، و بما أن البلدية هي المرخصة بتلك الأشغال فإنها تعتبر صاحبة الأشغال خاصة و أنها تمت تحت إشرافها و إدارتها، وأن الضحية يعتبر من الغير بالنسبة لتلك الأشغال، فهو ليس مستعملا للأشغال و لا قائما عليها فهو مجرد طفل.
و لقد استقر القضاء الإداري على اعتبار هذه المسؤولية غير قائمة على الخطأ بل على أساس نظرية المخاطر، خاصة و أن الضحية ليس بالمشارك في تلك الأشغال العامة. فعملية إحداث حفرة كبيرة يعد مشروعا عموميا ذو طابع خطير، و أن وجود حفرة غير مغطاة و عير محاطة بسياج يحول دون وصول الأطفال إليها لهو شروع خطير ، و أن إشراف البلدية على عملية الحفر يجعل مسؤوليتها قائمة، ذلك أن عملية حفر حفرة كبيرة داخل محيط القرية يشكل خطرا يتجاوز ما يجوز أن يتحمله الخواص على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة.فترك حفرة دون سياج يعد خطرا و تسأل البلدية عنه.
و يلاحظ بأن إقامة مجلس الدولة و معه الغرفة الإدارية لمجلس قضاء سطيف المسؤولية على أساس خطأ غير عمدي أو إهمال في غير محله، ذلك أنه لا يشترط في مثل هذه الحالات (الأشغال العامة) ارتكاب خطأ و لو عمدي من قبل البلدية بل يكفي أن يكون هناك ضرر استثنائي (و هو الوفاة في حالتنا هذه)، يكون نتيجة لوجود مشروع عموم(الحفرة) و التي تشكل خطرا سواء بالنسبة للغير أو لمستعملي المشروع العام.
كما يذهب القضاء الإداري الفرنسي بأنه يكفي للضحايا أو ذوي حقوقهم إثبات “عيب الصيانة العادية” للحصول على التعويض.
وفي هذه القضية فإن عيب الصيانة العادية متوفر، لعدم قيام البلدية بإحاطة الحفرة بسياج يحمي الأطفال من عدم السقوط فيها و كذا الحيوانات الأليفة، و هو ما لم تقم به البلدية و علية فهي مسؤولة و تتحمل التعويض .
3- طبيعة الضرر في نظام المسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية و صوره:
أ – طبيعة الضرر :
إلى جانب الشروط العامة للضرر القابل للتعويض بأن يكون شخصيا ، مؤكدا أو محققا ، و أن يمس بمصلحة مشروعة ، يجب أن يكون الضرر مادي و غير عادي و أن تكون العلاقة مباشرة ما بين الضرر وشغل العمومي .
ب- صور الضرر : من صور الضرر الناجم عن الأشغال العمومية ما يلي :
– ضرر ناجم عن إنجاز أشغال عمومية.
– ضرر ناجم عن عدم تنفيذ شغل عمومي كعدم وجود إشارات متعلقة بوجود أشغال عمومية، و هو ما جسد في قضية شركة التأمين Le soleil “” حيث اعتبرت الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر أن عدم الإشارة لوجود الخطر على طريق عمومي ( مبنى عمومي ) كان سبب في حدوث ضرر أدى إلى وفاة الضحية .
إذ تتلخص وقائع القضية في وفاة مسافر كان على متن شاحنة صغيرة مارة ببلدية ابن عكنون بسبب اصطدام سقف الشاحنة بشجرة تشرف على الطريق .
-ضرر ناجم عن سوء أو عدم صيانة مبنى عمومي .
– ضرر ناجم عن سوء سير مبنى عمومي كتدفق مياه ملوثة أو رائحة كريهة يعود مصدرها إلى شغل عمومي أو مبنى عمومي.
و الأضرار الواردة في هذه القائمة هي على سبيل المثال لا الحصر، لأن مسألة تحديد الأضرار الناجمة عن الأشغال العمومية تعود إلى السلطة التقديرية للقاضي الإداري حسب ظروف و ملابسات و طبيعة الضرر وعلاقته بالشغل العمومي.
III- قواعد الإختصاص في منازعات الأشغال العمومية :
1 – الإختصاص النوعي:
حسب المادة 7 فقرة أخيرة من قانون الإجراءات المدنية فإن الإختصاص النوعي في حالة المسؤولية الإدارية عن الأشغال العمومية يعود إلى الغرفة الإدارية بالمجالس القضائية كأول درجة ( إلى حين تنصيب المحاكم الإدارية في الميدان) و التي تصدر قرارات ابتدائية قابلة للإستئناف أمام مجلس الدولة ( الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا سابقا ) .
2 – الإختصاص الإقليمي :
إن قواعد الإختصاص الإقليمي في منازعات الأشغال العمومية تحكمه المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية المعدلة بقانون 90/23 و المنظمة بالمرسوم رقم 90/407 و المراسيم التنفيذية اللاحقة التي تحدد كيفية تقسيم المجالس القضائية و المادة 8 من نفس القانون و التي تنص على: ” …. في القواعد المتعلقة بالأشغال العمومية أمام الجهة القضائية التي تقع في دائرة اختصاصها مكان تنفيذ الأشغال…”
وفي فقرة أخرى نصت على أنه: ” … في الدعاوى العقارية أو الأشغال أمام المحكمة التي يقع العقار في دائرة اختصاصها “.
الفرع الثاني : المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر غير العادية
امتد مجال تطبيق نظرية المخاطر ليشمل بعض الأنشطة و الأشياء الخطرة، و كذا بعض الحالات الناجمة عن المشاركة الظرفية في المرافق العامة ، وهو ما سنتناوله في النقاط التالية :
I – الأنشطة و الأشياء الخطرة : و تندرج تحتها الحالات الآتية :
1- المتفجرات و الذخيرة:
لقد وضع القضاء الإداري قواعدها ابتدءا من قضية ٌRegnault Desroziers و تعود وقائع القضية أنه بتاريخ 04/03/1916 وقع انفجار مهول في قلعة La double couronneفي شمال Saint-Denis أين تم تخزين مجموعة من الذخيرة الحربية ، و قد خلف الحادث في المدينة و المناطق العمرانية المجاورة العديد من الضحايا و أضرارا مادية بليغة، فطلب المدعون التعويض عن الأضرار التي أصابتهم و قبل مجلس الدولة الطلب على أساس المخاطر الاستثنائية للجوار دون أن يلجأ إلى الخطأ معترفا بأن حيازة وزارة الحربية لآلات خطيرة في ظروف مماثلة تحتوي على مخاطر تفوق تلك التي تنتج عادة عن الجوار يرتب مسؤوليتها.
و لقد سنحت الفرصة بعد ذلك للمحكمة العليا للتعبير عن موقفها بوضوح و إعلانها تطبيق نظرية المخاطر الإسثنائية للجوار، و بالتالي السير على طريق الإجتهاد القضائي الفرنسي ، و يتضح ذلك من خلال قضية ” بن حسان احمد ” ضد وزير الداخلية .
حيث تتلخص وقائع القضية في اشتعال حريق في مرآب تابع لمحافظة الشرطة المركزية بالجزائر العاصمة، و كان نتيجة لانفجار خزان بنزين، فأسفر الحادث عن وفاة زوجة المدعي بن حسان احمد و جنينها
و إبنته، فرفع دعوى أمام الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر قصد تعويضه ، فقضت على الدولة ممثلة في وزير الداخلية بالتعويض .و أقرت حول تأسيس مسؤولية الإدارة أن وجود مثل هذا الخزان يشكل مخاطر استثنائية على الأشخاص و الأموال و أن الأضرار التي تلحق بالضحايا ضمن هذه الظروف تتجاوز في خطورتها الأعباء التي يتحملها عادة الأفراد.
1-المسؤولية الإدارية بسبب أنشطة مراكز التربية و المراقبة:
أنشئت هذه المراكز خصيصا لتربية الجانحين الأحداث و بهدف إدراجهم في الحياة العادية، فما هو أساس المسؤولية في حالة هروب أحدهم منها ؟ و أثناء فراره ارتكب جريمة على الغير أو على جيران المركز؟
لقد كان قرار مجلس الدولة في 03/02/1956 في قضية Thouzellier ضد وزير العدل أول قرار دشن المسؤولية بدون خطأ عن المخاطر الخاصة التي يتسبب فيها الأحداث المجرمين.
حيث هرب اثنان من الأحداث الموجودين بإحدى مراكز التربية عندما كانوا في نزهة نظمها مسؤولو الإصلاحية و قاما بسرقة أحد المنازل المجاورة . و رغم انعدام الخطأ لأن المشرفين بلغوا عن هروب الحدثين، إلا أن مجلس الدولة الفرنسي قضى بالتعويض.
و الحقيقة أن هذا القرار يضيف جديدا و يؤكد قديما ، فالجديد أنه من الآن فصاعدا فإن مخاطر الجوار ستشمل كافة النشاطات الخطرة و ليس انفجار الأشياء فقط كما كان الأمر في قضية Regnault Desroziers ، و القديم أن قرار Thouzellier مازال متمسكا بفكرة الجوار حيث لا تعوض إلا الأضرار اللاحقة بالأشخاص و الملكيات المجاورة .
ثم لين مجلس الدولة موقفه و أعاد النظر في مفهوم الجوار خاصة بعد تطور وسائل النقل السريعة التي تسمح للأحداث الفارين من ارتكاب جرائمهم بعيدا عن مراكزهم و على ذلك أصبح القضاء الإداري يأخذ
بنظرية المخاطر غير العادية للغير بدلا من المخاطر غير العادية للجوار مما أدى إلى توسيع مفهوم الضحايا الذين لهم الحق في التعويض عن هذا النوع من هذا الضرر ، مع اشتراط أن يكون تاريخ ارتكاب الجرائم غير بعيد عن تاريخ فرار الحدث من مركزه و هذا لتلاشي العلاقة السببية بين الفرار و الضرر.
أما إذا كانت الضحية هو الحدث فإن المحكمة العليا قضت في قضية ” منصوري ” ضد وزارة الشباب و الرياضة و التي تتلخص وقائعها في أن الشاب ” منصوري ” قد وضع في مركز خاص بإعادة التربية بقسنطينة وبعد 3 أيام هرب من المركز و أعيد إليه من طرف مصالح الشرطة، إلا أنه فر ثانية في نفس اليوم ثم عثر عليه في اليوم الموالي ميتا.
حيث قررت المحكمة العليا الغرفة الإدارية أن عدم المراقبة و الخلل المرتكب من طرف المركز يعد خطأ جسيم يرتب مسؤولية المركز. وعليه فهي أسست مسؤولية مراكز التربية و المراقبة على أساس الخطأ الجسيم ربما لان الهارب في القضية التي رفعت أمامها هو نفسه الضحية.
3- مسؤولية مستشفيات الأمراض العقلية :
ويحكمها الأمر المؤرخ في 23/10/1976 المتضمن قانون الصحـة المعـدل و المتمـم .
و لقد أقيمت المسؤولية في بادئ الأمر على الخطأ الجسيم ، و بالتطور أسست على المخاطر لأن الخروج منها و لو كان مرخصا لبعض المرضى فانه يشكل مخاطر غير عادية .
4- الأسلحة النارية :
ومن بينها استعمال الأسلحة النارية من طرف أعوان مصالح الأمن. ولقد استقر الفقه و القضاء الإداريين على مبدأ عدم مسؤولية الدولة عن نشاط مرفق الشرطة كقاعدة عامة و لم تنتف مسؤوليتها الخطئية إلا في 10/01/1905 بمناسبة قضية ” Tomaso – Gricco” ( وتتلخص وقائع القضية في إصابة هذا الأخير بجروح أثناء مطاردة رجال الدرك لثور هائج في إحدى الأحياء التونسية فرفض مجلس الدولة طلبه على أساس انه لم يثبت أن الطلقة التي أصابته صادرة عن الدرك ، ولا ما يثبت أن الحادثة تعود إلى خطأ مصلحي ) وذلك على أساس الخطأ الجسيم ، ثم وقع في تاريخ لاحق التمييز بين النشاط الإداري المرفقي وأسست فيه المسؤولية على أساس الخطأ البسيط ، والعمل المادي التنفيذي وأسست فيه المسؤولية على أساس الخطأ الجسيم . بعد ذلك وفي إطار العمل المادي التنفيذي فرق القضاء بين حالتين وهما:
أ – حالة عدم استعمال السلاح : أقيمت المسؤولية في هذه الحالة على أساس الخطأ الجسيم .
ب- حالة استعمال السلاح : ميز في هذه الحالة بينما إذا كانت الضحية مقصودة أو غير مقصودة . ففي الحالة الأولى يشترط القضاء الإداري لترتيب مسؤولية مصالح الشرطة الخطأ البسيط ( قرار مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 27 /07/1951 في قضية ” Aubergé et Dumant ” ) .
أما في الحالة الثانية، فتؤسس مسؤولية مصالح الشرطة على أساس المخاطر.
حيث أنه في عام 1949 حدث تحول هام في قضاء مجلس الدولة عندما قرر مسؤولية الدولة عن استعمال الشرطة للأسلحة الخطيرة دون اشتراط الخطأ ، ويتعلق الأمر بقضية ” Lecomte ” .التي تعود وقائعها إلى تاريخ 10/02/1945 عندما كان أعوان الأمن العمومي في باريس مكلفين بإيقاف سيارة
مشبوهة رغم استعمال إشارة التوقف ثم الصفارة فإن السيارة تخرق الموقف مما أدى إلى إطلاق النار باتجاه أسفل السيارة من طرف أحد رجال الشرطة ، فأصابت السيد ” Lecomte ” الذي كان جالسا إلى جانب السائق فأرداه قتيلا . فأقر مجلس الدولة الفرنسي المسؤولية دون اشتراط الخطأ لأول مرة ذلك لوجود مخاطر استثنائية ليس في هذه القضية فقط بل وأيضا في قضيتين متشابهتين وهما: Franquette و Dramy .
إن الغرفة الإدارية للمحكمة العليا اتخذت موقفا خاصا في قضية وزير الداخلية ضد السيد “سماتي نبيل” في قرارها بتاريخ 25/06/1976 تتلخص وقائعها في أن مصالح الشرطة أوقفت السيد سماتي الذي كان يحمل محلق وعلبة حبوب ممنوعة، وبعد تسليمه لمصالح الأمن بالجزائر لاستنطاقه نقل في نفس العشية إلى المستشفى الجامعي لعلاج جروح في عينه نتيجة سقوطه داخل محافظة الشرطة .
فأقرت المحكمة العليا بعد رفع الضحية دعوى تعويض أن مصالح الشرطة مسؤولة على أساس الخطأ المرفقي الناجم عن تهاون رجال الشرطة ( سوء سير المرفق ) بدل من القاعدة المطبقة في هذه الحالة و هي اشتراط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية مصالح الشرطة عن نشاطها المادي التنفيذي بدون استعمال السلاح.
غير أن هناك موقف آخر للاجتهاد القضائي الجزائري يساير اجتهاد Le comte في قضية وزارة الداخلية ضد السيدة( ل.م).

حيث تعود وقائع القضية في أنه بتاريخ 15/09/1970 أثناء قيام رجال الشرطة بعملية إلقاء القبض على أحد المجرمين في مدينة البليدة أصيب السيد ب.م برصاصة ضائعة و هو واقف أمام دكانه و توفي على إثر ذلك. فرفعت أرملة المرحوم دعوى تعويض ، فصرحت الغرفة الإدارية بالمجلس القضائي بمسؤولية الدولة على أساس الخطأ، لكن المحكمة العليا عند استئناف الحكم أقامت المسؤولية على أساس المخاطر و ليس على أساس الخطأ. حيث جاء في حيثيات القرار ما يلي:
” حيث أنه إذا كانت مسؤولية مصالح الأمن لا يمكن أن تقام إلا أساس الخطأ الجسيم فإن مسؤولية الدولة قائمة دون وجود أي خطأ عندما تستعمل مصالح الأمن أسلحة نارية قد تشكل مخاطر خاصة بالنسبة للأشخاص و الأموال تتجاوز الأضرار الناجمة عنها، الحدود العادية التي يمكن تحملها…” .
كما أقر مجلس الدولة الجزائري في 01/02/1999 بمسؤولية مصالح الشرطة في قضية المديرية العامة للأمن الوطني ضد أرملة لشاني ومن معها.
حيث أن وقائع القضية تتمثل في أن الشرطي أسندت له مهمة الحراسة بلباس مدني بمستودع ميترو الجزائر وكان حائزا على سلاحه الناري الخاص بعمله، غير أنه أهمل منصبه و ذهب لشراء ” محارق” و قد استعمل سلاحه الناري الخاص بالخدمة ضد المدعو لشاني نور الدين مصيبا إياه بجروح خطيرة أدت إلى وفاته، فرفعت أرملة المرحوم دعوى أمام الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر ضد المديرية العامة للأمن الوطني طالبة التعويض، فأصدرت قرارا يقضي بمسؤولية المديرية و ألزمتها بدفع التعويض .
و بعد استئناف المديرية للقرار أمام مجلس الدولة الذي قضى بتأييده مؤسسا قضاءه على المادة 136 من القانون المدني.
ما يلاحظ على قرار مجلس الدولة أنه في قضاءه بتأييد القرار من جعل المسؤولية قائمة على عاتق المديرية العامة للأمن الوطني يكون منصفا للمدعية ، غير أن اللجوء إلى قواعد القانون المدني في تأسيس المسؤولية غير مستساغ لأن قواعد القانون مبنية على أساس مبدأ المساواة، في حين أن نشاط الإدارة يتميز بعلاقات قانونية غير متساوية.
فمسؤولية مصالح الشرطة هي قائمة على أساس استعمال أسلحة خطيرة و ليس على خطأ الشرطي، فالطرف المدني لا يثبت الخطأ بل واقعة استعمال السلاح الناري التابع لمصالح الشرطة والضرر الواقع و العلاقة السببية المؤثرة بينهما.
فالمسؤولية هنا على أساس السلاح الناري و أن دفع المديرية بأن الشرطي كانت له وقت الحادثة السيطرة الكاملة على سلاحه الناري و أنه لم يكن في الخدمة مردود عليه من جهتين:
– السلاح الناري سلم إليه بسبب وظيفته، و على الإدارة التأكد من كونه لن يستعمل سلاحه في إحداث ضرر بالغير لكون السلاح الناري يمتاز بالخطورة.
-الشرطي استعمل سلاحه الناري بمناسبة وظيفته أي لو لا وظيفته كشرطي لما استعمل ذلك السلاح وبعبارة أخرى وظيفته سهلت له ارتكاب الجريمة. ويشترط لتطبيق المسؤولية بدون خطأ و على أساس استعمال السلاح الناري أو السلاح الخطير توافر ثلاثة شروط وهي:
– استعمال أسلحة أو آلات ذات مخاطر استثنائية للأشخاص و الأموال.
– أن تكون الأضرار نتيجة ذلك الإستعمال.
– أن تكون تلك الأضرار متميزة في جسامتها و تتجاوز المساوي العادية الناتجة عن وجود مصالح الشرطة.
و في آخر المطاف، فإن المسؤولية أساسها نظرية المخاطر و لا علاقة لقواعد القانون المدني، و على الأخص الأحكام المتعلقة بالتابع و المتبوع .
كما يقول محافظ الدولة “باربي”: “نظن بأن استعمال السلاح من طرف الأعوان المكلفين بحفظ الأمن يجعل الخواص عرضة لمخاطر غير عادية، و التي تفتح لهم الحق في التعويض إذا تحققت تلك المخاطر.”
فيكفي إذن لتقوم مسؤولية المديرية العامة للشرطة أن يكون هناك سلاحا ناريا، و أن ينتج الضرر عن استعمال ذلك السلاح دون التفكير في وجود خطأ أم لا ما دامت الإدارة هي التي منحت السلاح للشرطي، فأساس المسؤولية هو المخاطر أو خطورة السلاح.
II – حالة الأخطار الناجمة عن المشاركة الظرفية في المرافق العامة(المجانية):
نشير في البداية إلى أنه بالنسبة للأعوان الدائمين التابعين للإدارة و الذين كانوا ضحايا عملهم ، فإن مجلس الدولة أقام المسؤولية في بداية الأمر على أساس المخاطر، لكن قراره هذا عرف تراجعا و لم تكن له فائدة أو أهمية ابتداءا من صدور النصوص المتعلقة بإصابات العمل و الأمراض المهنية، و قد صدرت هذه القوانين الإجتماعية في الجزائر سنة 1983 .
أما بالنسبة للمتعاونين غير الدائمين أو كانوا من الغير و قدموا مساعدتهم مجانا، فإن مجلس الدولة وسع تدريجيا من مفهوم المعاون في علاقته مع المرفق، فبعد أن كان يشترط فيه أن يكون مقبولا من الإدارة صار مطلوبا، ثم قبلت مشاركته الفجائية و نظر إلى حالة الاستعجال نظرة مرنة.
و من أمثلة ذلك المساعدة المجانية في الحفلات المحلية، إنجاد غريق. و أقيمت المسؤولية على أساس المخاطر ، لكن و نظرا للتعويض الكبير من المصالح الإدارية و الهيئات اللامركزية اقترح البعض أن يكون التعويض على حساب الدولة بدلا من مالية الهيئات المحلية .
و كأمثلة في القوانين عن تطبيقات المسؤولية الإدارية على أساس المخاطر:
– المسؤولية عن مخاطر الكوارث الطبيعية : I
الكارثة الطبيعية فجائية – أي غير متوقعة – وطبيعية أي أن الإنسان لا دخل ولا يد له ، فما دخل مسؤولية الإنسان فيها؟ علما أن المسؤولية الإدارية هي مسؤولية إنسانية لأن الإدارة باعتبارها شخصا معنويا يباشر نشاطها الأعوان الإداريين لصالحها وباسمها .
إن التطور العلمي الذي تعرفه البشرية وسع من تدخل الإنسان في الطبيعة وسيطرته عليها ، فأصبح يغير من جغرافيتها ومحيطها ليستقر ويضمن أمنه ، فإذا لم يكن بإمكاننا استبعاد مسؤولية الإنسان في بعض الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات وانزلاق الأراضي والأعاصير والبراكين فإن هذه المسؤولية تظهر أكثر في مجموعة أخرى من الكوارث والتي تحدث أساسا بفعل الإنسان كانهيار عقارات وانفلات مياه السد ، الحوادث النووية انهيار منجم … الخ . فالإنسان بإنشائه لهذه المنشآت يكون قد أنشأ مخاطر جديدة ومحتملة فهو في هذه الحالة إما يساهم في حدوث تلك الكوارث أو يتسبب مباشرة فيها ولهذا فإن المسؤولية غالبا ما تكون على أساس المخاطر إلا أنها أحيانا تكون على أساس الخطأ وهذا ما سنراه فيما يلي:
1 _ تأسيس مسؤولية الدولة على أساس المخاطر: ومن أمثلة ذلك:
_ المرسوم رقم 25_81 المؤرخ في 28 فيفري 1981 والمتضمن تأسيس لجنة لتعويض ضحايا الشلف ، والذي تم بموجبه تعويض العائلات المنكوبة علي إثر زلزال أكتوبر 1981
_ المادة 202 من القانون رقم 20_ 87 المؤرخ في 23 ديسمبر 1987 والمتضمن قانون المالية لسنة 1988 ، التي تم بموجبها إنشاء صندوق الضمان ضد الكوارث الفلاحية والمرسوم التنفيذي رقم 158_ 90 المؤرخ في 26 ماي 1990 المحدد لكيفيات تطبيقها .
ففي هذه الحالات نحن أمام مسؤولية غير خطئية باعتبار أننا أمام قوة قاهرة بأتم معنى الكلمة إذ يتعلق الأمر بحادث طبيعي خارجي لا يد للإنسان فيه ، كما لا يمكن دفعه أو توقعه وفي القانون المقارنة نجد في التشريع الفرنسي عدة قوانين في هذا المجال نذكر منها :
– قانون 10جويلية 1964 الذي يؤسس نظام الضمان ضد الكوارث الفلاحية .
– قانون 31ديسمبر 1959 لتعويض ضحايا انفلات سد ” Malpasset” .
– قانون 21 ديسمبر 1960 لتعويض ضحايا فيضانات 1960 .
وهذه المسؤوليات جميعها يتم تأسيسها في إطار نظرية المخاطر اعتبارا لحجم الضحايا ومأساة النتائج التي تخلفها مثل هذه الكوارث والتي تفرض على المجتمع كله مجابهة هذه المخاطر الاجتماعية التي تطغى على كل خطأ ، وفكرة التضامن هذه يضمنها الدستور الجزائري في نهاية مقدمته حيث أشار إلى محافظة الشعب على تقاليده في التضامن ، فهناك تداخل بين فكرتي التضامن والمخاطر في تأسيس هذه المسؤولية .
ونشير إلى أنه في الجزائر وبعد الزلزال الرهيب الذي ضرب منطقة الجزائر العاصمة وضواحيها صدر الأمر 03 -12 المؤرخ في 26 غشت 2022 الذي ينص على إلزامية التأمين على الكوارث الطبيعية وتعويض الضحايا، فكل مالك لملك عقاري عليه أن يكتتب عقد التأمين لضمانه من أثار الكوارث الطبيعية ، وتتولى شركات التأمين تغطية الآثار الناجمة عن الكوارث الطبيعية التي عرفتها المادة 02 منه على أنها ” كل حادث طبيعي ذي شدة غير عادية … ” كما نصت المادة 13 منه على أنه ” لا يمكن لأي شخص طبيعي أو معنوي لم يمتثل لهذا الالتزام أن يستفيد من أي تعويض للأضرار التي تلحق بممتلكاته جراء كارثة طبيعية ” وهذا معناه
أن الدولة لم تعد مسؤولة عن تعويض الأضرار المادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية، أما الأضرار الأخرى فلا تزال الدولة تتكفل بها.
2 – تأسيس هذه المسؤولية على أساس الخطأ:
إن كان الأصل هو تأسيس المسؤولية في مجال الكوارث الطبيعية على أساس المخاطر فإنه أحيانا يؤسسها القانون أو القضاء على أساس الخطأ، ومن أمثلة ذلك نجد المادة 140 من قانون البلدية التي تنص على أنه ” في حالة وقوع كارثة أو نكبة أو حريق فلا تتحمل البلدية أية مسؤولية تجاه الدولة والمواطنين إلا عندما تتخلى عن أخذ الإحتياطات المفوضة إليها بمقتضى القوانين والتنظيمات ” هذه الإحتياطات نصت عليها المادة 71 من نفس القانون ضمن صلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي .
وفي هذا الصدد دائما نجد المحكمة العليا في إحدى قراراتها تقيم مسؤولية الدولة على أساس عدم أخذ الاحتياطيات اللازمة والتي نصت عليها المادة 75 من قانون الولاية القديم وكذا المادة 76 من قانون المياه،
وقد جاء في منطوق هذا القرار ” متى كان من المقرر قانونا أن الدولة تقوم على مستوى الشبكة الهيدروغرافية بإنجاز منشأة التنظيم والتعديل والمعايرة والحجز وتسوية المرتفعات الخاصة بالفيض قصد حماية الاقتصاد الوطني والأشخاص وممتلكاتهم من مخاطر الأضرار التي تحدثها المياه ومن ثم فإن حدوث فيضانات أدت إلى خسائر
ادية دون أن تقوم بمنعها أو على الأقل بتوقعها والعمل على تجنبها بجميع أشغال الصرف الضرورية، لا يعد قوة قاهرة ويجعل مسؤولية الإدارة قائمة ” .
II- مسؤولية الدولة عن الأعمال الإرهابية :
لمدة طويلة كان مصير ضحايا الأعمال الإرهابية مهمشا باعتبار أن مجلس الدولة الفرنسي كان يرفض الاعتراف بمسؤولية الدولة بدون خطا، فكان يشترط أن يكون هناك خطا جسيم مادام أن ذلك يتعلق بالنشاط المادي لمصالح الأمن . ففي قضية ” yener ” على سبيل المثال والتي تمثلت وقائعها في اغتيال سفير تركيا بفرنسا وهذا وسط مدينة باريس ، فإن الاعتراف بمسؤولية الدولة في هذه القضية كان على أساس الخطأ الجسيم بسبب عدم الاحتياط ضد الهجمات و الاعتداءات ، وعدم كفاية تدابير الأمن لحماية أعضاء بعث دبلوماسية وبقي الأمر على حاله إلى حين صدور القانون المتعلق بمحاربة الإرهاب والمساس بأمن الدولة المؤرخ في 09 سبتمبر 1986 والمعدل في 06 جويلية1990 الذي نص على إنشاء صندوق تضامن Unfond de Garantie
الذي يتكفل بتعويض ضحايا الأعمال الإرهابية المرتكبة على الأراضي الفرنسية وكذا الأشخاص من جنسية فرنسية المتضررين خارج التراب الفرنسي من جراء نفس الأعمال وهذا فيما يخص الأضرار الجسدية بينما تتكفل شركات التأمين بتغطية الأضرار اللاحقة بالممتلكات من جراء هذه الأعمال .
أما في الجزائر فأول نص صدر في هذا المجال هو المادة 145 من قانون المالية لسنة 1993 ، والمرسوم التنفيذي رقم 93-181 المؤرخ في 19 يناير 1993 ، المحدد لكيفيات تطبيق أحكام هذه المادة أين تم إنشاء صندوق خاص بتعويض ضحايا الإرهاب الذي يتكفل بتعويض ذوي حقوق الضحايا المتوفين وكذا الأضرار
الجسدية والمادية ، أما فيما يخص بعض الفئات كموظفي مصالح الأمن والمستخدمين العسكريين والأشخاص المنتمين إلى فئات الموظفين والأعوان العموميين ضحايا الإرهاب بسبب نشاطاتهم المهنية فإنهم يتقاضون معاشات خدمة وتعويضات أخرى من ميزانية الدولة بالإضافة إلى المرسوم التنفيذي رقم 99-47 المؤرخ في 13 فبراير 1993 والذي يعرف ضحية عمل إرهابي على أنه” كل شخص تعرض لعمل ارتكبه إرهابي أو جماعة إرهابية يؤدي إلى الوفاة أو إلى أضرار جسدية أو مادية” والذي تضمن تعويض الناجين من الاغتيالات الجماعية في شكل مساعدات مالية بالإضافة إلى تدابير مطبقة لصالح عائلات ضحايا الاختطاف كما أضاف الأطفال المكفولين ضمن ذوي الحقوق ووسع من دائرة الضحايا بحيث أضاف ضحايا الحوادث الواقعة في إطار مكافحة الإرهاب بالنسبة للأضرار الواقعة بمناسبة القيام بإحدى مهمات مصالح الأمن .
/06/2000 تحت رقم 405 ، الذي قضى بإلزام والي ولاية بجاية بأن يدفع للمدعين مبلغ مالي كمنحة إلى حين سقوطها ومراجعتها قانونا باعتباره تعرض لطلقات نارية بالمكان المسمى آيت شتلة صادر عن عناصر دورية المكلفة بمراقبة إقليم سيدي عيش في إطار مكافحة الإرهاب .
III- نظام مسؤولية البلدية عن التجمهر والتجمعات :
لقد كان التعويض عن الأضرار الناجمة عن التجمهر والتجمعات في فرنسا يخضع إلى نظام تشريعي خاص منذ الثورة الفرنسية في 1789 خاصة بعد المشابكات التي وقعت خلالها وما نتج عنها من أضرار إذ كان يتحمل عبء تعويضها سكان البلدية باعتبارهم المتسببين في الفوضى الواقعة ، وبالتالي فإن عبء التعويض لم
يكن يقع علي ميزانية البلدية بل على سكانها الذين يتحملون دفع غرامة للخزينة إلى جانب التعويض والذين لم يكن بإمكانهم نفي مسؤوليتهم إلا إذا أثبتوا أن التجمهر جاء من خارج البلدية .
وقد غير هذا النظام بالقانون الولائي الصادر في 05/04/1884 الذي جعل مسؤولية البلدية تقوم على أساس الخطأ المفترض المسند إلى الشرطة الولائية ولم يكن بإمكان البلدية نفي مسؤوليتها إلا أثبتت أنها اتخذت كافة الإحتياطات للحفاظ على الأمن العام، إلا أن عبء التعويض بقي على عاتق سكانها وبالتالي إذا كانت الضحية من سكان البلدية فإنها تتحمل دفع الضريبة المخصصة للتعويض عن أضرار هذه التجمهرات أو التجمعات، وبقي الأمر كذلك إلى غاية صدور قانون 16/04/1914 الذي جاء بنظام جديد مفاده أن البلدية مسؤولة مدنبا عن الأضرار الناجمة عن الجنايات والجنح المرتكبة خلال التجمهرات المسلحة أو غير المسلحة المقامة في إقليمها تجاه الأشخاص والأموال العامة أو الخاصة، وفي حالة ما إذا كانت هذه التجمهرات أو التجمعات مشكلة من سكان عدة بلديات فإن كل واحدة منها تكون مسؤولة بالقدر الذي يحدده القاضي، كما أن عبء التعويض كان يقع على البلدية والدولة معا وكان بإمكانها الرجوع على المتسببين في هذه الأضرار، وتجدر الإشارة إلى أن اختصاص النظر في مسؤولية البلدية كان يؤول إلي القاضي العادي بفرنسا وذلك إلى غاية صدور قانون البلدية في 09/01/1986 كما أنه بصدور قانون 07/01/1983 أصبحت الدولة الفرنسية مسؤولة مدنيا ولوحدها عن أضرار التجمهر مع إمكانية ممارسة دعوى الرجوع ضد البلدية في حالة ثبوت قيام مسؤولية هذه الأخيرة .
في الجزائر كرست المادة 139 من قانون البلدية مسؤوليتها عن التجمهر والتجمعات إذ نصت على ” تكون البلدية مسؤولة مدنيا عن الخسائر والأضرار الناجمة عن الجنايات والجنح المرتكبة بالقوة العلنية أو بالعنف غي

ترابها فتصيب الأشخاص أو الأموال أو خلال التجمهرات والتجمعات على أن البلدية ليست مسؤولة عن الإتلاف والأضرار الناجمة عن الحرب أو عندما يساهم المتضررون في إحداثها”.
عند استقراء المادة نلاحظ أن هناك جملة من الشروط الواجب توافرها حتى تترتب مسؤولية البلدية يمكن حصرها في :
– أن ينتج العمل الضار عن تجمهر أو تجمع وبالتالي تستبعد الأعمال الانفرادية إذ أن تزاحم مجموعة من الأشخاص لا بكفي لتطبيق النص، في حين أنه يمكن أن يطبق في حالة تجمع مجموعة من المضربين إذا نتج عنه أضرار إذ لا يشترط طابع العصيان ضد النظام القائم .
والجدير بالذكر أن المادة 139 لم تحدد إن كانت هذه التجمعات أو التجمهرات مسلحة أو غير مسلحة عكس ما هو الحال في قانون البلدية الفرنسي .
– استعمال القوة العلنية والعنف أثناء التجمهرات في ارتكاب الجنايات والجنح خلالها .
– أن يقع الفعل الضار في تراب البلدية ونظرا لعدم وجود نص قانوني يحدد بدقة مفهوم تراب البلدية فإنه يبقى أن نعتمد على ما هو جاري العمل به في القضاء الفرنسي والذي قصد بها الطرق والساحات العمومية إلا أنه تم توسيع مجال تطبيق المادة 131 _1 من قانون البلدية الفرنسي إذ أصبح تراب البلدية يضم حتى الممتلكات الخاصة إذا وقعت بها أعمال العنف بسبب التجمهر والتجمعات .
-فيما يخص صفة مرتكب الضرر فإن القضاء الفرنسي عالج المسألة تحت منظار واسع إذا لم يشترط أن ترتكب أعمال العنف من أحد المشاركين في التجمهر أو التجمع فقط بل جعل مسؤولية البلدية تقوم بناءا على أعمال العنف التي يمارسها رجال الشرطة لتهدئة الوضع.
– فيما يخص صفة الضحية ،فإنه حسب المادة 139 فإن البلدية لا تكون مسؤولة عن الأضرار التي لحقت بالضحية المشاركة في التجمهر ،وينبغي التمييز بين المشارك وغير المشارك جد صعب على عكس القانون الفرنسي الذي يمنح المشارك المتضرر التعويض عما لحقه جراء التجمهر أو التجمع .
وتجدر الملاحظة أنه طبقا لهذه المادة فإن البلدية هي المسؤولة الوحيدة عن الأضرار الناجمة عن التجمهر أو التجمع ، رغم أن المادة 142 من نفس القانون تثير بعض اللبس بقولها :” للدولة أو البلديات المصرح بمسؤوليتها حق الرجوع على المتسببين أو المشتركين في إحداث الأضرار .” لكن لا يرقى المر إلى حد التصريح بمسؤوليتها بصفة قطعية عكس ما كان الحال عليه في ظل قانون البلدية القديم الأمر رقم 24-67 المؤرخ في 18/01/1967 حيث كانت مساهمة الدولة في تعويض الأضرار تساوي النصف .
أما إذا كانت التجمهرات أو التجمعات مكونة من سكان عدة بلديات فإن كل واحدة منها تكون مسؤولة عن الخسائر أو الأضرار الناجمة ، وذلك حسب النسبة التي تحددها الجهة القضائية المختصة وهي الجهة الإدارية طبعا .
وقد صدر قرار عن مجلس الدولة بخصوص مسؤولية البلدية عن التجمهرات والتجمعات باعتبارها مخاطر اجتماعية بتاريخ 26/07/1999 في قضية بلدية حاسي بحبح ضد (ج . ع ) ومن معه إذ قضى مجلس الدولة بتأييد القرار المستأنف الصادر عن مجلس قضاء الجلفة والذي قرر مسؤولية بلدية حاسي بحبح على أساس المادة 139 بشأن طلقة نارية تعرض لها طفل قاصر بمناسبة الاحتفال بفوز السيد اليامين زروال ، رغم أن البلدية دفعت بكون المظاهرات غير مرخص بها أنها قامت باحترام أحكام الماد ة 140 المتعلقة باتخاذ كافة الإحتياطات المفروضة عليها ،وذلك لأن المادة 139 لم تشترط أن تكون التجمعات أو التجمهرات مرخصا

بها حتى تكون البلدية مسؤولة، محل الدفع تتعلق بحالة وقوع نكبة أو حريق وليس بحالة وقوع جرائم بالعنف أو بالقوة العلنية أو في حالة التجمهر أو التجمع .
وفي مجلس قضاء بجاية نجد أن الغرفة الإدارية حملت بقرارها الصادر بتاريخ10/06/2003 تحت رقم فهرسة 500-2003 بلدية القصر المسؤولية عن الأضرار المادية التي لحقت بالمدعي ( د ع م ) بأثاث منزله إثر العمال التخريبية التي جرت بالبلدية .
IV – مسؤولية الدولة عن السيارات التابعة لها :
فيما يخص مسؤولية الدولة عن السيارات التابعة لها نجد المادة الأولى من الأمر 74-15 تنص على إلزامية التأمين على المركبات لتغطية الأضرار التي تسببها هذه الأخيرة للغير ، وفي المادة الثانية من نفس الأمر أعفيت
الدولة من هذا التأمين غير أنه يقع عليها التزامات المؤمن بالنسبة للمركبات التي تملكها أو الموجودة في حراستها وبهذا فهي ملومة بتعويض ضحايا حوادث المركبات التابعة لها ، ويعود الاختصاص ويعود الاختصاص في تقدير ومنح هذا التعويض إلى القضاء العادي وهذا تطبيقا لما جاء في نص المادة 07 مكرر من قانون الإجراءات المدنية والتي تنص على :” خلافا لأحكام المادة 07 تكون من اختصاص :
1- المحاكم :
2- – المنازعات المتعلقة بكل دعوى خاصة بالمسؤولية والرامية لطلب تعويض الأضرار الناجمة عن سيارة تابعة للدولة أو لإحدى الولايات أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري ………. ”

بعد أن وجد تنازع بين الغرفة الإدارية والغرفة الجزائية بالمجلس الأعلى حول هذا الاختصاص حيث اعتمدت الأولى على نص المادة 07 من قانون الإجراءات المدنية الذي يخول لها الاختصاص للنظر في الدعاوى التي تكون الدولة والبلدية والولاية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري طرفا فيها ، في حين اعتمدت الثانية على المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجزائية والتي تنص على : ” يجوز مباشرة الدعوى المدنية مع الدعوى العامة في وقت واحد أمام الجهة القضائية نفسها .
وتكون مقبولة أيا كان الشخص المدني أو المعنوي المعتبر مسؤولا مدنيا عن الضرر.
وكذلك الحال بالنسبة للدولة، والولاية، والبلدية أو إحدى المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري في حالة ما إذا كانت غاية دعوى المسؤولية ترمي إلى التعويض عن ضرر تسببه مركبة.
المطلب الثاني: المسؤولية الإدارية على أساس مبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العامة
تهتم نظرية المساواة أمام الأعباء العامة أساسا بالضرورة وتركز على إصلاحه دون أنى اهتمام بالخطأ أو المخاطر الذين يعتبران حسب وجهة نظر بعض أنصار النظرية مجرد شروط لقيام المسؤولية وليس أساسا لها فحسب الأستاذ ” Delaubadere ” لا يمكن أن ينسب الخطأ في مجال القانون الإداري إلى الإدارة مباشرة. فالخطأ يرتكب من قبل موظفين مجهولين و تتحمل المسؤولية ذمة مالية أخرى غير ذمة مرتكب الخطأ و هو ما يبين أن الخطأ ليس سوى شرط من شروط قيام المسؤولية و ليس أساسا لها.
كذلك فكرة المخاطر فهي لا تتعلق بتأسيس المسؤولية و إنما بالتوازن فقط بين المغانم و المغارم .
إن مبدأ المساواة حسب هذا التحليل هو في حقيقته أساس عام و وحيد للمسؤولية الإدارية و يتطلب تعميمها، فكلما حصل ضرر كلما كان هناك مساس بمبدأ المساواة .
إن مبادئ العدل و الإنصاف تقتضي أن لا يتحمل أي فرد بسبب أضرار الإدارة أعباء إضافية أكثر من الآخرين ، و لذلك ينبغي أن تعوض الدولة – و هي الفاعل غير المباشر- ضحايا هذه الأضرار .
ا لقضاء طبق هذا المبدأ في حالتين و هما مسؤولية الإدارة عن عدم تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية و المسؤولية الإدارية بسبب نصوص قانونية و هو ما سنتعرض إليه .
الفرع الأول : مسؤولية الإدارة عن عدم تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية
نصت المادة 145 من دستور 1996 م الجزائري على أنه :
“على كل أجهزة الدولة المختصة أن تقوم في كل وقت و في كل مكان و في جميع الظروف بتنفيذ أحكام القضاء.” كما نصت المادة 324 من قانون الإجراءات المدنية على أن :

“جميع الأحكام قابلة للتنفيذ في كل أنحاء أراضي الجمهورية .و لأجل التنفيذ الجبري للأحكام و القرارات يطلب قضاة النيابة العامة مباشرة استعمال القوة العمومية ، و يشعر الوالي بذلك و عندما يكون التنفيذ من شأنه الإخلال بالنظام العام إلى درجة الخطورة ، يمكن للوالي و بطلب مسبب يقدمه في أجل ثلاثين (30) يوما من تاريخ إشعاره أن يلتمس التوقيف المؤقت لمدة أقصاها ثلاثة (3) أشهر.”
و حسنا فعل المشرع عند تعديله لهذه المادة خاصة الفقرة الثالثة منها بموجب قانون رقم 01-05 المؤرخ في : 22/05/2001 المعدل و المتمم للأمر 66/154 المتضمن قانون الإجراءات المدنية بتقييده لحق الوالي في الاعتراض على تنفيذ الحكم القضائي المشعر به إذا كان تنفيذه يشكل إخلال جسيم بالنظام العام .
إذن القاعدة العامة هي أن الأحكام و القرارات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي فيه واجبة النفاذ و يقع على السلطة العامة واجب مد يد العون و القوة العمومية لمساعدة الجهات المعنية على تنفيذها.
و عدم تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية قد يكون بدون مبرر و هنا تكون الإدارة قد أخلت بالتزامها و هو ما يشكل خطأ جسيم يستوجب مسؤوليتها ، و قد يكون بمبرر ، و هنا يكون للمضرور حق في التعويض جراء ما لحقه من أضرار على أساس المسؤولية بدون خطأ و الامتناع يكون في حالتين :
I– حالة رفض الإدارة تنفيذ قرار قضائي صادر ضدها :
غالبا ما ترفض الإدارة تنفيذ القرارات القضائية الصادرة ضدها و هي إشكالية تخص المنازعات الإدارية ذلك أنه في المنازعات العادية نجد جزاءات لعدم التنفيذ من طرف الأفراد كالحجز مثلا .
و لقد أبعدت هذه الجزاءات عن الإدارة لعدم إمكانية الحجز على المال العام ( أموال الإدارة ) أو التصرف فيه أو تملكه بالتقادم ( المادة 689 من القانون المدني ).
و في هذه الحالة أي رفض الإدارة تنفيذ قرار قضائي صادر ضدها نميز بين القرارات المتعلقة بدعوى تجاوز السلطة و تلك المتعلقة بدعوى التعويض .
– مسؤولية الإدارة عن عدم تنفيذ القرارات القضائية المتعلقة بدعوى الإلغاء :1
تتوقف سلطة القاضي الإداري في دعوى الإلغاء عند حد النطق بإلغاء القرار الإداري غير المشروع ، فإذا رفضت الإدارة تنفيذ قرار قضائي لصالح من حكم له فعليه أن يرفع دعوى قضائية للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحقه من جراء عدم التنفيذ لأن ذلك يعتبر مخالفة للقانون و يرتب مسؤولية الإدارة .
2- مسؤولية الإدارة عن عدم تنفيذ قرار قضائي المتعلقة بدعوى التعويض:
نظم المشرع الجزائري كيفيات التعويض بموجب الأمر 75-48 الملغى بموجب القانون رقم 91-02 المؤرخ في 18-01-1991م الذي يحدد القواعد الخاصة المطبقة على بعض أحكام القضاء .
نصت المادة (5) علما أن القرارات القضائية هي المتعلقة فقط بالتعويض بتوفر شرطان و هما:
أ‌- أن تكون القرارت نهائية .
ب‌- أن يحدد المبلغ المحكوم به على الإدارة .
كما نصت المواد من 6 إلى 10 على إجراءات و كيفيات المطالبة بالتعويض عن طريق الخزينة العمومية.
II- حالة رفض الإدارة تنفيذ قرار قضائي صادر لفائدة شخص آخر غير الأشخاص المعنوية العامة :
اعتبر الفقه رفض الإدارة تنفيذ أو منح يد المساعدة من أجل تنفيذ قرار أو حكم نهائي لفائدة فرد ضد آخر يعد خرقا لمبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العامة و يرتب مسؤوليتها عن تعويض الأضرار اللاحقة بالمدعي صاحب الحكم أو القرار على أساس هذا المبدأ.
أما القضاء ، فإن أول قرار قضائي وضع مبدأ مسؤولية الإدارة بسبب الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء من خلال قرار كوتياس Couiteas اليوناني الأصل و تتلخص وقائع القضية في أنه بتاريخ
13/02/1908 أقرت محكمة سوسة التونسية حق السيد “كوتياس ” في ملكية قطعة أرض اكتسبها من الدولة ، لكن الحكومة الفرنسية رفضت منح القوة المسلحة لتنفيذ الحكم و طرد القبيلة التونسية الحائزة للأرض منذ مدة من الزمن و الرافضة للخروج منها ، و ذلك بحجة الحفاظ على النظام العام.
أقر مجلس الدولة الفرنسي شرعية الامتناع عن التنفيذ في هذه القضية كون الحكومة لم تستعمل سوى صلاحياتها في الحفاظ على النظام و الأمن العموميين .
و في نفس الوقت أقر حق المدعي “كويتاس” في التعويض عن الأضرار اللاحقة به جراء عدم تمكنه من تنفيذ الحكم الصادر لمصلحته ، لأن هذه الأضرار لا يمكن اعتبارها من تلك الأعباء التي يتحملها المدعي بصفة عادية .
بمعنى أن مجلس الدولة منح التعويض للسيد” كويتاس” تجسيدا لمبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العامة.
و لقد أخذت الغرفة الإدارية للمحكمة العليا بنفس الحل الذي توصل إليه القضاء الفرنسي ، فأقرت بمسؤولية الإدارة عن عدم تنفيذ الأحكام و القرارات القضائية، و مثال قراراتها تلك الصادرة في قضية “بوشــــباط و سعيدي” بتاريخ 20/01/1979، و التي تتلخص وقائعها في أن محكمة الجزائر أصدرت حكما يقضي بإلزام السيدين” قرومي” و “مراح” بدفعهما للمدعين بوشباط و سعيدي مبلغ مالي مقابل إيجار محل تجاري واقع على ملكيتهما ، و هو الحكم المصادق عليه من طرف المجلس، تقدم المدعيان لتنفيذ القرار ، لكن والي الجزائر تقدم برسالة اعتراض على التنفيذ ، حينها تظلم المدعيان أمام وزير العدل و وزير الداخلية ملتمسان تعويضهما عن الأضرار الناجمة بسبب اعتراض الوالي و امتناع عون التنفيذ ، إن هذا السكوت يعد بمثابة قرار بالرفض.
فرفع المعنين دعوى أمام الغرفة الإدارية بمجلس قضاء الجزائر ضد هذا القرار الضمني بالرفض ، فقضت بالرفض ، لذلك لجأ المعنيان إلى المحكمة العليا التي أقرت مسؤولية الدولة على أساس الخطأ الجسيم ، لأن الامتناع عن التنفيذ في هذه القضية لا يتعلق بدواعي النظام العام و لأن سلوكها يعتبر غير شرعي.
و في نفس الوقت ذكرت المحكمة العليا بمبدأ المسؤولية بدون خطأ عند الإمتناع عن التنفيذ بسبب ضرورات النظام العام مستعملة نفس العبارات التي استعملها القضاء الفرنسي خاصة في قرار “كوتياس” و القرارات اللاحقة له.
ملاحظـات هـامـة :
1- إذا تعلق الأمر بالامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء بسبب دواعي الحفاظ على النظام و الأمن العموميين ، فإن الإدارة تكون مسؤولة رغم أنها لم ترتكب أي خطأ. بمعنى أن المسؤولية هنا تقوم بدون خطأ. على عكس ما إذا كان امتناع الإدارة عن تنفيذ أحكام القضاء بعيدا عن مبدأ الحفاظ على النظام و الأمن العموميين و بل لأسباب أخرى ، فإن المسؤولية الإدارية هنا تكون على أساس الخطأ المرتكب من جانب الإدارة ، و هنا تخرج عن مجال المسؤولية الإدارية بدون خطأ .
و لقد نص المشرع الجزائري في المادة 138 مكرر من قانون العقوبات ( قانون 01/09 المؤرخ في 26 يونيو 2001) على ما يلي :
«كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته لوقف تنفيذ حكم قضائي أو امتنع أو اعترض أو عرقل تنفيذه يعاقب بالحبس من ستة (6) أشهر إلى ثلاثة (3) سنوات و بغرامة من 5.000 دج إلى 50.000 دج »
و حسنا ما فعل المشرع في هذا التعديل ، إذ أضفى الطابع الجزائي على وقف أو امتناع أو اعتراض أو عرقلة تنفيذ حكم قضائي من طرف الموظف العمومي و قرر عقوبته بالحبس ، و هذا ما يجعل في رأينا نوعا ما من الصرامة في تنفيذ أحكام القضاء.
2- فيما يتعلق بمسؤولية الإدارة بسبب نصوص قانونية ، فإنه يجب التمييز بين مســؤولية هذه الأخيرة و مسؤولية الدولة عن أعمالها التشريعية حيث أن تقرير كلتا المسؤوليتين يقوم على نفس الأساس ألا و هو مبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العامة .
و هو المبدأ الذي اتبعه مجلس الدولة الفرنسي في قضية شركة منتجات الحليب La fleurette و تتلخص وقائعها في أن قانون 09/06/1934 منع صناعة و بيع الكريمة الأمن الحليب الخالص . و من آثار هذا القانون أن توقفت شركة منتجات الحليب من صناعة نوع من الكريمة يدعى «La Gradine» كانت تنتجها من الحليب الخالص و زيت الفول السوداني و صفار البيض .
و من خـلال تنفيذها لهـذا القانون ظهر أنها هي الوحيدة التي توقف إنتاجها لهذا النوع من المنتوج ، مما جعلها ترفع دعوى من أجل طلب التعويض عن الأضرار غير العادية التي لحقت بها و الناجمة عن صدور هذا القانون.
إن مجلس الدولة في قراره الصادر في: 14/01/1938 بهذه المناسبة أقر بعدم وجود ما يسمح بأن المشرع قصد تحميل شركة “لا فلوريت” عبء غير عـادي لا في النص القانوني و لا في الأعمال التحضيرية و لا من ظروف القضية ، حيث أن هذا العبء الذي شرع لفائدة الجميع يجب أن يتحمله الجميع دون إستثناء .
من هنا، قبل مجلس الدولة منح الشركة المتضررة تعويضا على أساس مبدأ المساواة في تحمل الأعباء و التكاليف العـامة .
و عليه يتضح أنه و لقيام المسؤولية الإدارية بسبب نصوص تشريعية لابد من توافر شروط و تتمثل فيما يلي
1- عدم النص في التشريع على مبدأ عدم التعويض عن الأضرار الناجمة عن تنفيذه .
2- النص على منع نشاط غير مشروع .
3- أن يكون الضرر غير عـادي و خاص .
المسؤولية في القانون العام مثلها في القانون الخاص تستلزم توافر شروط حتى يمكن القول بقيامها،
و بالتالي حق المتضرر في الحصول على التعويض وهو ما سنتطرق إليه من خلال المبحثين الآتيين:
المبحث الأول: شروط قيام المسؤولية الإدارية:
حتى تقوم المسؤولية الإدارية فلا بد من ثلاث شروط أساسية : وجود الضرر، العلاقة السببية بين الفعل الضار و الضرر الناتج عنه، و إمكانية إسناد الضرر أو الفعل الضار الناتج عنه الضرر إلى شخص عمومي معين:
المطلب الأول : الضرر القابل للتعويض في إطار المسؤولية الإدارية (Le préjudice )
القاعدة ” لا مسؤولية و لا تعويض بدون ضرر” ، و حتى يكون الضرر قابلا للتعويض فلا بد من أن تتوفر فيه مجموعة من المميزات و المتمثلة في مميزات عامة تتعلق بالمسؤولية الإدارية سواء القائمة على خطأ أو بدون خطأ، و مميزات خاصة تنفرد بها المسؤولية الإدارية بدون خطأ:
الفرع الأول: المميزات العامة
I- الطابع المؤكد للضرر:
عرفه القضاء الإداري بأنه الضرر الحالي(Actuel)والضرر المقبل(Future)و استثنى الضرر المحتمل.
1 ـ الضرر الحالي: هو الضرر الذي يمكن للقاضي تقديره.
2 ـ الضرر المقبل: هو الضرر الممكن وقوعه لوجود مؤشرات تدل على ذلك، و هو يتميز بالطابع المؤكد في أساسه ، و من أمثلة هذا النوع :
– الطفل الذي سيعاني حتما في المستقبل من نقص في قدراته العملية نتيجة العجز الذي أصابه.

ـ قضيتي ” دبوز ” و ” بن قرين” للتعويض عن الضرر اللاحق بأولياء التلاميذ بسبب وفاة أولادهم في مؤسسات تربوية ، و قررت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا أن الضررر اللاحق بالمدعين مؤكد حتى و إن لم
يكن حاليا، كما قررت أن هذا الضرر قابل للتعويض بحيث سيمنح أولياءهم مساعدة تقدم لهم في المستقبل
3 ـ الضرر المحتمل: استثنى القضاء الإداري هذا النوع من الضرر من التعويض، و من أمثلته قضـية ” زلاقين” ، حيث طلب إثرها المدعي تعويض ضرر ناجم عن إمتناع غير قانوني للإدارة فأجاب القاضي أن هذا الضرر له طابع إحتمالي، و بالتالي فهو لا يستحق التعويض
و يظهر الطابع المؤكد للضرر أيضا في حالة ” تفويت فرصة” بشرط أن تكون هامة و جدية و من أمثلتها:
ـ منع مترشح لمسابقة الوظيف العمومي من اجتياز الإمتحان، بطريقة غير شرعية يعتبر حالة تفويت فرصة يمكن منح التعويض على أساسها.
ـ كذلك حالة الخطأ في تشخيص المرض المسبب لعجز المريض، فلو كان التشخيص صحيحا كان يمكن تفادي العجز الذي أصيبت به الضحية.
و هو نفس ما سار عليه مجلس الدولة الجزائري في قراره الصادر بتاريخ 07/05/2001 قضية ( ل.أ) ضد رئيس بلدية حاسي بحبح، معتبرا أن الضرر الذي أصاب المستأنف هو تفويت فرصة له في الحصول على سكن آخر كونه كان ينتظر الحصول على المفاتيح منذ سنة 1995.
و مسألة الطابع المؤكد للضرر متروكة لسلطة قاضي الموضوع التقديرية حسب اتجاه مجلس الدولة الفرنسي من خلال قرار 26 نوفمبر 1993.
IIـ الطابع الشخصي للضرر:
يرتبط هذا الطابع بقاعدة الصفة و المصلحة في التقاضي طبقا لنص المادة 459 من قانون الإجراءات المدنية، و هذا الأمر لا يثير إشكالا إلا بالنسبة للضرر اللاحق بالأفراد:
1 ـ الضرر الذي يلحق الأموال:
يطرح هذا الطابع بالنسبة للأملاك العقارية و يحدد حسب العلاقة بين المال و المتضرر (المدعي):
ـ إذا كان الضرر يمس بجوهر العقار فالتعويض هنا يكون لمالك العقار فقط.
ـ أما إذا كان الضرر يمس بحق الإنتفاع فالطابع الشخصي هنا يرتبط بصاحب حق الإنتفاع سواءا كان المستأجر أو المنتفع و المالك في نفس الوقت.
2 ـ الضرر الذي يلحق الأفراد:
الإشكال هنا لا يطرح بالنسبة للضحية و إنما بالنسبة لذوي حقوقها، و هو ما أطلق عليه القضاء الإداري مصطلح ” الضرر المنعكس” ، كما طبق مبدأ عام ” الحق في التعويض ينتقل إلى الورثة” ، و هنا ميز بين حالتين:
ـ الحالة الأولى: إذا طالبت الضحية بالتعويض قبل وفاتها فهنا ينتقل هذا الحق إلى الورثة سواء كان الضرر ماديا أو معنويا.
ـ الحالة الثانية: إذا توفيت الضحية قبل طلب التعويض فلا يحق للورثة طلب التعويض عن الضرر المتعلق بالآلام الجسدية المتعلقة بالضحية دون غيرها.
● و تبعا لهذا تتأثر العلاقة التي تربط الضحية بذوي حقوقها:
ـ للأصول الحق في التعويض عن الضرر المعنوي بسبب وفاة أحد الأبناء و هو ما جسدته الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضية ” حطاب ” ضد الدولة.
كذلك الضرر المتعلق بالإخلال بظروف المعيشة و هو ما أقرته أيضا الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضيـة ” أرملة مريش” ضد الدولة.
ـ للفروع أولاد الضحية الحق في التعويض عن الضرر المعنوي و عن الإخلال في ظروف المعيشة، أما بالنسبة للتعويض عن الضرر المادي فيشترط أن يكونوا تحت نفقته و هو ما سايرته الغرفة الإدارية بمجلس قضاء بجاية في قضية بين ذوي حقوق المرحومة ” د.ص” ضد ” مدير مستشفى أقبو “.
ـ للزوج الحق في طلب التعويض المادي و الإخلال في ظروف المعيشة.
ـ أخ و أخت الضحية المتوفية لهما الحق في التعويض عن الضرر المعنوي و الإختلال في ظروف المعيشة إذا كانوا تحت نفقته.
IIIـ الطابع المباشر للضرر:
بمعنى أن يكون الضرر ناتجا مباشرة عن العمل الإداري الضار و هو ما يثير قاعدة السببية التي سنتطرق إليها في المطلب الثاني، من هذا المبحث.
IVـ أن يمس الضرر بحق مشروع أو بمصلحة مشروعة :
« Le dommage doit porter à une situation, où a un intérêt légitime et juridiquement protégé (e) »

قبلا كان القضاء الإداري يشترط المساس بحق مشروع و في إطار البحث عن تعويض كل من تضرر نتيجة أعمال الإدارة بالبحث عن الأطراف التي لها الحق في التعويض فوجد أن هناك أشخاصا غير شخص الضـحية
نفسها و تربطهم علاقة بها يلحقهم ضرر par ricochet) ( ، مما أدى به إلى تليين موقــفه و تقرير
تعويض الضرر في حالة المساس بمصلحة مشروعة. و من هنا يخرج من مجال الضرر القابل للتعويض:
ـ الحالات المخالفة للقانون.
ـ الحالات المستبعدة قانونا.
و رغم هذه الحالات يمكن للقاضي الإداري تقدير و رفض التعويض إذا تبين له أنه غير مشروع و هذا حسب المعطيات القانونية و الاجتماعية المقدمة أمامه.
و من بين القرارات التي أشارت لهذا الشرط:
ـ قرار مجلس الدولة الفرنسي في قضية السيدة ” Muësser ” بتاريخ 03 مارس 1978 ،
و هو نفس ما ذهبت إليه الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في قضية ” بوشاة سحنون” و ” سعدي مالكي” ضد وزيري الداخلية و العدل ، فأشار للطابع المشروع للضرر اللاحق بالضحايا.
الفرع الثاني: المميزات الخاصة بالمسؤولية الإدارية بدون خطأ
إضافة للميزات العامة المذكورة سابقا، هناك ميزتين أساسيين بالنسبة للمسؤولية الإدارية بدون خطأ و تتمثل فيما يلي:
Iـ الطابع الخاص للضرر: L.C. spécial))
حسب الأستاذ محيو: ” إن الطبيعة الخاصة للضرر تكمن في إصابة فرد واحد أو عدد من الأفراد، فإن كان للضرر مدى واسع، فإنه يشكل عبئا عاما يتحمله الجميع و مانعا لحق التعويض “.
يمكن القول أن الطابع الخاص معناه أن يمس الضرر عددا محدودا من الأفراد فإذا مس عددا كبيرا أصبح عبئا يتحمله الجميع لا يمكن منح التعويض على أساسه، فالمعيار المتفق عليه فقها و قضاءا هو”معيار العدد” بمعنى أن يصيب شخص أو عدد قليل من الأشخاص يمكن تحديدهم اسميا مستندين على مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، و هو ما جسدته قضيتي ” لافلوريت” و “كوتياس” .
IIـ الطابع غير العادي للضرر: اختلف الفقه و القضاء الإداريين في تحديد معنى هذا الطابع:
ـ فقها: هو الضرر الذي يفوق ما يؤخذ على عاتق كل مواطن.
ـ قضاءا: حدد هذا الطابع عبر طرق مختلفة لكنه رجح معيار” درجة الضرر” خاصة في مجال الأشغال العمومية و مجال النشاط التشريعي و التنظيمي.
و درجة الضرر بهذا المعنى هي أن يكون جسيما يفوق ما يمكن أن يتحمله عادة الأفراد، و لصعوبة تحديده تبقى للقاضي الإداري السلطة التقديرية في ذلك.
الفرع الثالث: أنواع الضرر القابل للتعويض
اختلف الفقه في تصنيف أنواع الضرر القابل للتعويض، لكن القضاء الإداري أخذ بتقسيم الضرر إلى مادي و معنوي كما سيأتي بيانه:
Iـ الضرر المادي : ينقسم إلى ضرر لاحق بالأموال، ضرر مالي، ضرر جسماني:
1ـ الضرر المادي اللاحق بالأموال: هنا نفرق بين نوعين:
ـ حالة المساس المادي بالمال و ذلك بتحطيمه كليا أو جزئيا.
ـ حالة الضرر المؤدي إلى الإخلال في الإنتفاع بالشيء سواء كان من فعل الغير أو بسبب إيذاء ما :
أ_ الإخلال بالانتفاع بسبب الغير:
أحسن مثال هو مسؤولية الإدارة عن الضرر الناجم عن رفضها تنفيذ القرارات القضائية النهائية الصادرة لصالح مدع ضد شخص آخر، حيث أن الغرفة الإدارية للمحكمة العليا قضت في قضية ” بوشات سحنون و سعيدي مالكي” ضد وزير الداخلية و وزير العدل بتعويض المدعيين عن الضرر الذي لحق بهما بسبب عدم تنفيذ قرار قضائي صادر لصالحهما على أساس أنه إذا كان للإدارة عدم تنفيذ بعض القرارات القضائية فإن التأجيل في تنفيذ القرار القضائي، الذي يقضي بطرد شاغل ملك لصالح المدعيين يمنعهما من حق الإنتفاع بملكهما و يسبب لهما ضررا قابلا للتعويض”
ب_ الإخلال بالانتفاع بسبب إيذاء ما:
حسب القضاء الإداري يتحقق هذا النوع من الضرر في حالة تغير شروط انتفاع المالك أو الشاغل بصفة ملحوظة مهما كانت طبيعة الإيذاء.
2 ـ الضرر المالي:
هو الضرر اللاحق بالنشاطات المهنية بصفة مباشرة سواء كانت نشاطات خاصة أو عمومية أو وظيفية.
3 ـ الضرر الجسماني: و ينقسم إلى:
أ- ضرر يمس بالسلامة الجسمانية :
و هو ما يسمى بالآلام الجسدية و يمكن أن يكون جماليا و هنا يختلف تقديره من طرف القاضي حسب شخص المضرور . و هو ما أكدته الـغرفة الإداريـة للمحكمة العليا في قضية ” بن سالم” ضد مستشفى الجزائر حينما منحت التعويض عن ضرر جمالي لحق الضحية بسبب بتر ساعده .
ب – ضرر بسبب الإخلال في الظروف المعيشية:
و هنا فإن القضاء الإداري اعتبر أن العجز الدائم سواء كان كليا أو جزئيا فإنه يؤدي إلى الإخلال في الظروف المعيشية، و بالتالي يستوجب التعويض، و هو ما أكدته دائما الغرفة الإدارية للمحكمة العليا في القضية المذكورة سابقا.
II ـ الضرر المعنوي: و يمكن تقسيمه إلى:
1 ـ الآلام المعنوية: Les sentiments d’affection)):
كان القضاء الإداري الفرنسي و لوقت طويل يرفض تعويض الضرر المعنوي معتبرا أن المساس بمشاعر الحنان لا يقيم بالمال طبقا للمبدأ ” La douleur ne se monnaie pas “.
لكنه لين موقفه إثر قضية ” Le tisserand ” ضد وزير الأشغال العمومية في 24/11/1961 و عوضه عن الضرر المعنوي اللاحق به إثر وفاة ابنه.
كما نهجت الغرفة الإدارية للمحكمة العليا نفس المنهج بالتعويض عن الآلام المعنوية التي تنجم عادة بعد الوفاة أو الجروح أو العجز الجسدي كقضية ” فريق بوعبد الله” ضد وزير الداخلية في 21/04/1991 ، و قضية ذوي حقوق (ب.م) ضد وزارة الدفاع ، و هو ما جسدته الغرفة الإدارية بمجلس قضاء بجاية في
قضية ذوي حقوق المرحومة (د.ص ) ضد مستشفى أقبو المذكورة سابقا حينما عوضت ذوي حقوق المرحومة عن الضرر المعنوي اللاحق بهم إثر وفاة أمهم .
كذلك قضية ( ال) ضد مدير القطاع الصحي لخراطة و من معه.
2 ـ الضرر المعنوي الذي يمس بعض حقوق الأفراد: كالمساس بشخصية الفرد و سمعته و شرفه و حرياته.
هذا كله فيما يخص الضرر و أحكامه، نتطرق للعلاقة السببية باعتبارها الشرط الثاني لقيام المسؤولية الإدارية.
المطلب الثاني: العلاقة السببية بين الفعل الضار و الضرر الناتج عنه
ورد في قرار بلانكو ” أن المسؤولية الإدارية عن الأضرار التي تلحق الأفراد بسبب تصرفات الأشخاص الذين تستخدمهم في المرافق العامة… “من هذه القاعدة القضائية يتبين أنه لا تعـويض إلا إذا كان العـمل
أو نشاط الإدارة هو السبب المباشر في حدوث الضرر، و هنا أثيرت مسألة كيفية تحديد العلاقة السببية، و بالتالي السبب المباشر، مما أدى بالفقه الإداري إلى إيجاد عدة نظريات منها:
1 ـ نظرية توازن الأسباب: حسب هذه النظرية يجب الأخذ بكل الظروف التي تسببت في حدوث الضرر بصفة متساوية.
لكنها انتقدت كونها وسعت كثيرا من شروط عقد مسؤولية الأشخاص، مما ادى إلى تصعيب الإجراءات و حصول الضحية على التعويض.
2 ـ نظرية السبب القريب: أخذت هذه النظرية بالسبب القريب من حيث الزمن أي الحدث الأخير.
و ما يعاب عليها عكس النظرية الأولى كونها ضيقت كثيرا من شروط المسؤولية.
3 ـ نظرية السبب الملائم : تأخذ هذه النظرية بالسبب الذي يحتمل حسب السير العادي و الطبيعي للأمور أن يحدث ضررا و هو ما يطلق عليه بالطابع المباشر.
و هو ما أكده الفقه الإداري حيث كتب :
ـ الأستاذ ” ديلوبادير” : ” إن القضاء الإداري لا يلجأ إلى نظرية توازن الأسباب لكنه يبحث من بين الأحداث التي سبقت حدوث الضرر الذي يكون السبب الفعلي ( أو الملائم) في حدوثه”.
ـ الأستاذ ” فودال “: ” إن القضاء الإداري يقبل بصفة واسعة العلاقة المباشرة للسببية”.
ـ الأستاذ ” محيو”: ” إن القضاء الإداري لا يدخل في اجتهادات القضاء العادي التي ولدت نظريات مختلفة للسبب و مع ذلك فإنه يبدي ترددا في تكييف الطابع المباشر للضرر”.
* أما القضاء الإداري و في إطار توجه جديد فإنه يبحث على إيجاد طابع غير مباشر للضرر يمنح على أساسه التعويض ، كل هذا لصالح الضحايا.
و من أهم القرارات التي جسدت الطابع المباشر للضرر، و بالتالي توفر علاقة السببية بين الفعل الضار و الضرر الناتج عنه نجد:
ـ قرار مجلس الدولة الفرنسي في 14 فيفري 1997 و القاضي بإلغاء حكم صدر عن محكمة إدارية على أساس أن هذه الأخيرة ارتكبت خطأ قانونيا عندما أقرت بوجود علاقة سببية مباشرة بين الخطأ المرتكب من طرف المركز الطبي لمدينة ” Nice” في إطارما يسمى amniocentèse (العلا ج عن طريق الأعشاب الطبية ) و الضرر الناتج عنه للضحية (طفل) من العجز الذي أصابه، حيث أنه لا يظهر من أوراق
الملف المقدمة أمام قاضي الموضوع أن العاهة التي يعاني منها الطفل باعتبارها وراثية هي نتيجة هذه amniocentèse.
فمن خلال هذا القرار فإن مجلس الدولة رفض التعويض على أساس عدم قيام مسؤولية المركز الطبي لعدم توافر العلاقة السببية بين الفعل و الضرر.
ـ قرار مجلس قضاء بجاية في قضية ( ا،ل ) ضد مدير القطاع الصحي لخراطة و من معه المذكور آنفا، حيث ورد في إحدى حيثياته ” و حيث يرى المجلس أن العلاقة السببية بين وفاة المرحومة ح.س و التقصير المنسوب إلى بإدارة كما هو مذكور أعلاه ثابت… “.
المطلب الثالث: قاعدة الانتساب: L’imputabilité))
قاعدة الإنتساب تعني العلاقة بين فعل أو عمل ضار و الفاعل، فإذا ثبتت هذه العلاقة تقررت مسؤولية الفاعل، و انطلاقا من هذا المبدأ تتقرر المسؤولية الإدارية إذا انتسب العمل المضر للإدارة.

و في هذا السياق لا بد من التطرق لنقطتين هامتين: تحديد الجهة الإدارية المسؤولة و حالات الإعفاء أو تخفيف المسؤولية الإدارية كما سيأتي:
الفرع الأول: تحديد الجهة الإدارية المسؤولة
رغم صعوبة تحديد الجهة الإدارية المسؤولة إلا أن الفقه الإداري حاول وضع معايير لذلك و انطلق من فكرة أن المسؤولية الإدارية هي مسؤولية تعاقدية و تقصيرية مثل المسؤولية المدنية، و بما أن الإدارة شخص معنوي لا يرتكب أخطاءا شخصية استبعدت فكرة المسؤولية الشخصية للإدارة، و بالتالي فإن مسؤولية الإدارة تكون إما عن عمل الغير أو الأشياء.
و قبل التطرق لهاتين النقطتين نشير إلى أن مفهوم الجهة الإدارية يعني الجهة التي تتوفر فيها شروط الشخص المعنوي العام بأن تتمتع بالشخصية القانونية و الذمة المالية المستقلة.
I ـ تحديد الجهة الإدارية المسؤولة في نظام المسؤولية الإدارية عن عمل الغير
نظرا لتعدد نشاطات الإدارة بطبيعتها المختلفة و خصائص موظفيها ، وجب التفريق بين ثلاث حالات:
1 ـ حالة الموظف يتمتع بازدواجية الوظائف :
– إذا كان الموظف ينتمي لإدارة واحدة فإن الدعوى القضائية توجه ضد الإدارة التي يشتغل بها الموظف.
– أما إذا كان الموظف ينتمي إلى عدة إدارات فهنا وجب على المدعي في دعوى التعويض أن يرفعها ضد الإدارة المستفيدة من العمل الذي تسبب في حدوث الضرر .
2 ـ حالة ممارسة الوصاية الإدارية :
هنا يطرح السؤال هل الإدارة الوصية هي المسؤولة أم الإدارة الموصى عليها في حالة تضرر ضحية من ممارسة الوصاية الإدارية ؟:
ـ عندما يكون العمل المضر نتيجة عملية حلول الإدارة الوصية محل الإدارة الموصى عليها حسبما نص عليه القانون، هنا الإدارة الموصى عليها هي الجهة الإدارية المسؤولة (كون الإدارة الوصية تدخلت باسم و لصالح الإدارة الموصى عليها).
ـ عندما يكون العمل المضر نتيجة عمل الإدارة الوصية في إطار صلاحياتها الخاصة فهنا الإدارة الوصية هي المسؤولة عن تعويض الضرر اللاحق بالضحية.
3ـ حالة تداخل اختصاصات سلطات إدارية :
كأن تتدخل إدارتين أو اكثر لتحقيق عمل أو نشاط واحد فيسبب ضررا مثلا الأنشطة التي تقوم بها مؤسسة تربوية كأن تتدخل البلدية في حالة المدرسة الأساسية، الولاية إذا تعلق الأمر بالثانوية و الدولة إذا تعلق الأمر بموضوع الرقابة التي يقوم بها المعلمين في المؤسسة التربوية و هنا :
ـ إذا كان سبب حدوث الضرر يعود إلى عدم أو سوء صيانة الأقسام المدرسية أو المبنى المدرسي فهنا تكون البلدية أو الولاية هي الجهة الإدارية المسؤولة.
ـ أما إذا كان سبب حدوث الضرر يعود إلى خطأ في الرقابة إرتكبه معلم طبقا لنص المادة 134 من القانون المدني فهنا الدولة ممثلة في الوزير المكلف بالتربية الوطنية أو الوزير الوصي على المؤسسة هي الجهة الإدارية المسؤولة.
II ـ تحديد الجهة الإدارية المسؤولة في نظام المسؤولية الإدارية عن الأشياء:
يتعلق الأمر في هذا الموضوع بالضرر الناتج عن الأشغال العمومية و المبنى العمومي فقط.
و هنا نشير أن الضحية ـ إذا كانت مشارك أو مرتفق أو الغير ـ قد لعبت دورا في موضوع المسؤولية الإدارية ، إلا انها لا تلعب أي دور في موضوع إنتساب الضرر كون أن الأشخاص التي يمكن أن تكون مسؤولة عن الضرر الناجم عن الأشغال العمومية أو المبنى العمومي تتمثل في:
ـ صاحب المبنى Le maître de l’ouvrage.
ـ المقاول Le maître de l’oeuvre.
ـ صاحب الامتياز Le concessionnaire.
ـ المستعمل أو المكلف بصيانة المبنى العمومي.
و هو ما سنتطرق إليه بشيء من التفصيل كما يلي:
I ـ الدعوى القضائية التي ترفع ضد صاحب المبنى العمومي أو الأشغال العمومية :
– في حالة ضرر ناجم عن مبنى عمومي فإن الدعوى القضائية توجه ضد السلطة الإدارية المالكة للمبنى العمومي.
– في حالة ضرر ناجم عن شغل عمومي فإن الدعوى القضائية توجه ضد الجهة الإدارية التي أدارت الشغل العمومي.
و هنا يمكن للضحية رفع الدعوى القضائـية سواء كان الضرر ناجما عن مبنى عمومي أو شغل عمومي ضد صاحب المبنى العمومي.
2 ـ الدعوى القضائية التي توجه ضد المقاول:
لقد توسع القضاء الإداري في مفهوم المقاول، و في مجال الأشغال العمومية” هو كل شخص يتعهد بالقيام بأعمال مهما كان نوعها كالصيانة، البناء… في إطار شغل عمومي” و هنا:
ـ في حالة ضرر ناجم عن أشغال عمومية قام بها المقاول فإن الدعوى القضائية توجه ضد هذا الأخير.
ـ كما يمكنه رفعها ضد مالك المبنى العمومي أو صاحب الشغل العمومي و المقاول معا.
3ـ الدعوى القضائية التي توجه ضد صاحب الامتياز:
صاحب الامتياز في مجال الأشغال العمومية هو ” الشخص الذي تكلفه الإدارة بإنجاز عمل يتقاضى أجرا عنه بواسطة استغلال مشروع “.
و هنا ففي حالة ضرر ناجم عن أشغال عمومية قام بها صاحب الامتياز نفرق بين حالتين:
ـ الحالة الأولى: أصلا: إذا كان صاحب الإمتياز مليء الذمة المالية فإن الدعوى القضائية توجه ضده.
ـ الحالة الثانية: استثنائيا: إذا كان صاحب الإمتياز في حالة إفلاس فإن الدعوى القضائية ترفع ضد الجهة الإدارية المالكة للمبنى العمومي أو الأشغال العمومية.
4 ـ الدعوى القضائية التي توجه ضد مستعمل المبنى العمومي:
في حالة استعمال إدارة معينة لمبنى عمومي تابع لجهة إدارية أخرى فهنا ترفع الدعوى القضائية ضد الجهة الإدارية المستعملة للمبنى العمومي رغم أن طبيعة المبنى العمومي الذي كان سببا في حدوث الضرر يعود أصلا للإدارة المالكة.
5ـ الدعوى القضائية التي توجه ضد المكلف بصيانة المبنى العمومي:
في حالة ما إذا كلفت جهة إدارية معينة بصيانة مبنى عمومي تابع لجهة إدارية أخرى، فهنا للضحية رفع الدعوى القضائية ضد الإدارة المكلفة بالصيانة أو ضد الإدارة المالكة للمبنى.
و حتى تتحقق قاعدة الإتساب بثبوت العلاقة بين الفعل المحدث للضرر و الإدارة لا بد أن لا تتحقق إحدى الحالات التي تعفي أو تخفف من مسؤولية الإدارة.
الفرع الثاني: حالات إعفاء أو تخفيف المسؤولية الإدارية
تحديد الجهة الإدارية المسؤولة شرط أساسي لكنه غير كاف حتى تتحقق قاعدة الإنتساب، مما يتعين معه التطرق لحالات الإعفاء أو تخفيف المسؤولية الإدارية:
I ـ القوة القاهرة:
اتفق الفقه و القضاء الإداريين أن القوة القاهرة هي حدث خارجي، غير مقاوم و غير متوقع:
1: ـ مميزات القوة القاهرة:
أ_ حدث خارجي : كأن يكون الضرر ناتجا عن كوارث طبيعية مثلا، و هنا للقاضي سلطة التقدير، فمثلا الفيضانات الناتجة عن تساقط الأمطار و نتيجة لقوتها و سقوطها غير المتوقع في المنطقة، مما سبب أضرار
جسيمة، أعتبرت قوة قاهرة معفية من مسؤولية الإدارة.
و على العكس من ذلك أمطار ناتجة عن إعصار في كليدونيا الجديدة لم تعتبر قوة قاهرة كون سقوطها معتاد نظرا لطبيعة المنطقة.
أما إذا كان الضرر ناتجا عن تصرف إنسان كالإضراب مثلا فإن القضاء الإداري أقر الطــابع الخارجي ـ رغم صعوبة الأمر ـ عندما يكون الحدث خارج عن إرادة الإدارة .
ب _ حدث غير متوقع: قضي أن صدمة سنة 1987 نتيجة كارثة Grand Bornand لا تتوفر على ميزة الحدث المتوقع حتى تتحقق القوة القاهرة كونه سبق و أن وقعت فيضانات بنفس المنطقة في 1936.
و قد أكدت الغرفة الإدارية للمحكمة العليا ضرورة هذا العنصر لتحقق القوة القاهرة في قضية بلدية سكيكدة ضد شركة ” Di Miglid”، و قضية الدولة ضد شركة ” Papeterie et cartonnerie modernes”.
ج_ حدث غير مقاوم: أكد القضاء الإداري على أن يكون الحدث غير مقاوم حتى تتحقق القوة القاهرة و ليس فقط أن يكون صعب التحمل.
2 ـ آثار القوة القاهرة :
تعفي حالة القوة القاهرة الإدارة كليا من مسؤوليتها إذا كانت السبب الوحيد للضرر سواء في نظام المسؤولية بخطأ أو بدون خطأ.
أما إذا كان للإدارة إلى جانب القوة القاهرة يد في حدوث الضرر فهنا الإعفاء يكون جزئيا.
و في هذا الإطار نجد عدة قرارات منها:
ـ قرار مجلس الدولة في قضية بين ” ج ف” و ” بلدية بومقر” حيث قضى بعدم مسؤولية البلدية كليا باعتبار أن القوة القاهرة و المتمثلة في الفيضانات التي أصابت المنطقة السبب الوحيد في الضرر اللاحق بالضحية: ” حيث يستفاد من دراسة الملف أن بلدية بومقر كانت ضحية فيضانات يوم 17/09/97 عمت كافة المنطقة… و أصبحت منكوبة، و لم يكن المستأنف المتضرر الوحيد من جراء هذه الفيضانات و ليس من جراء بناء حائط من البلدية المتسبب له في الأضرار و بالتالي هناك القوة القاهرة … “.
ـ قرار مجلس قضاء بجاية في قضية بين “س. ز ” و ” رئيس بلدية تالة حمزة و من معه” حيث قضى برفض الدعوى لعدم التأسيس و بالتالي عدم مسؤولية البلدية و جاء في حيثية من القرار ” حيث الثابت أن سقوط الأمطار بالصيغة المذكورة أعلاه يعتبر من الكوارث الطبيعية التي لا يمكن التحكم فيها بسبب القوة القاهرة تجعل مسؤولية مصالح البلدية غير قائمة فيما يتعلق بالأضرار الناتجة عن ذلك لعدم ثبوت الخطأ ” .
ـ و بنفس الشيء قضى نفس المجلس في قضية بين ” ب ، ل ” ضد ” رئيس بلدية تالة حمزة”.
II ـ فعل الضحية:
هنا على القاضي الإداري تقدير تصرف الضحية و مقارنته بتصرف رب العائلة العادي :
1 ـ خـصائص فعـل الضحـية:
فعل الضحية لا يعني تعمدها في اقتراف الخطأ، بل بالعكس كثيرا ما يكون ناتجا عن الإهمال و عدم الحيطة،
و منه يمكن الأخذ بفعل الضحية مهما كانت جسامته.
2 ـ آثار فعل الضحية:
تعفى حالة فعل الضحية الإدارة كليا من مسؤوليتها إذا كانت السبب الوحيد للضرر سواء في نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ أو بدون خطأ. أما إذا كانت للإدارة إلى جانب الضحية يد في حدوث الضرر فهنا الإعفاء يكون جزئيا و للقاضي الإداري تحديد نسبة مسؤولية كل واحد منهما.
III ـ حالة الظرف الطارئ: إن دراسة هذه الحالة تستدعي تفرقتها عن القوة القاهرة:
1 ـ خصائص الظرف الطارئ:
أ – الفرق بين الظرف الطارئ و القوة القاهرة:
إن التطور الذي عرفه نظام المسؤولية الإدارية أدى إلى ضرورة التفرقة بين الظرف الطارئ و القوة القاهرة كون أنه في الظرف الطارئ يكون سبب الضرر مجهولا لكنه لا ينفصل عن الإدارة ولا يعفيها من المسؤولية إلا في نظام المسؤولية على أساس الخطأ، أما القوة القاهرة فهي سبب خارجي عن الإدارة يعفيها من مسؤوليتها.
ب- معايير الظرف الطارئ:
اختلف الفقه الإداري بين الأخذ بمعيار” الخارجية” و معيار ” السبب المجهول ” للتمييز بين الظرف الطارئ و القوة القاهرة.
أما الأستاذ “محيو” فقد وفق بين الفريقين حين كتب ” حقيقة هناك عنصران مشتركان بينهما: خاصية عدم التوقع و خاصية عدم إمكانية دفعها ، و يظهر الفرق كون الظرف الطارئ يوجد داخل النشاط الضار،
بينما الخاصية الأولى للقوة القاهرة هي كونها خارجية و أجنبية عنه ، و من جهة أخرى فإن الظرف الطارئ ينتج عن سبب مجهول بينما القوة القاهرة تترتب عن حدث معلوم و يمكن القول أن:
الظرف الطارئ ناتج عن سبب له علاقة بالمرفق العام أو بالشيء التابع للإدارة ، و لا يمكن أن يكون مجهولا بصفة مطلقة و إلا كان المدعى عليه (الإدارة) مجهولا مما يصعب رفع الدعوى القضائية ، فإذا نسب الضرر للإدارة فما عليها إلا:
– إثبات أن الضرر يعود لسبب خارجي و قوة غير متوقعة و غير مقاومة و هنا تتحقق حالة القوة القاهرة و ما يترتب عنها من آثار كما سبق التطرق إليه.
ـ إثبات أن الضرر يعود لنشاط مرفق عام أو شيء تابع له لكنه غير متوقع و لا مقاوم ، و هنا نكون بصدد الظرف الطارئ و ما يترتب عليه من آثار كما سيأتي بيانه.
2- الآثار المترتبة عن الظرف الطارئ: تفرق بين حالتين:
– حالة قيام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ، فإن الظرف الطارئ يعفي الإدارة من المسؤولية لأنه يفترض عدم وجود الخطأ.
– حالة قيام المسؤولية الإدارية بدون خطأ، هنا تبقى الإدارة مسؤولة عن الضرر القابل للتعويض و ليس للظرف الطارئ أي أثر حتى و لو كان الخطأ مفترضا.
IV ـ فعل الغير : من هو الغير؟ :
1 ـ مفهومه : فقها هو كل شخص عام أو خاص مهما كانت صفته القانونية غير المدعى عليه و الأشخاص غير الواقعين تحت مسؤوليته.
2 ـ آثار فعل الغير: هنا وجب التفريق حسب نظام المسؤولية الإدارة :
أ – في نظام المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ:
– تعفي حالة فعل الغير كليا الإدارة إذا كانت السبب الوحيد للضرر.
– أما إذا كان للإدارة يد في الضرر فهنا الإعفاء يكون جزئيا و للقاضي الإداري تحديد نسبة مسؤولية كل واحد منهما.
ب – في النظام المسؤولية الإدارية بدون خطأ:
في هذه الحالة فعل الغير لا يعفي الإدارة من مسؤوليتها، و هو حل وجد لصالح الضحية خاصة في مجال تعويض الأضرار الناتجة عن الأشغال العمومية.
●و في الأخير وجب الإشارة أن القضاء الإداري لا يطبق مبدأ التضامن في التعويض و لمن دفعه كاملا
حق الرجوع على الطرف الثاني المسؤول، و بتوفر هذه الشروط كاملة تحقق و تقوم مسؤولية الإدارة ،
مما يعطي الضحية الحق في رفع دعوى لطلب التعويض عن الضرر اللاحق به و هو ما سنحـاول التطرق إليه في المبحث الثاني.

المبحث الثاني: سلطات القاضي في تقدير التعويض:
تعتبر دعوى التعويض من أهم دعاوى القضاء الكامل التي يتمتع فيها القاضي بسلطات كبيرة، و تهدف إلى المطالبة بالتعويض و جبر الأضرار المترتبة عن الأعمال الإدارية المادية و القانونية.
و حتى تقبل دعوى التعويض أمام الجهة القضائية المختصة فلا بد من توافر مجموعة من الشروط حتى يمكن للقاضي الانتقال للموضوع، و بالتالي تقدير التعويض و هو ما سنحاول تبيانه من خلال المطلبين الآتيين:
المطلب الأول: شروط قبول دعوى التعويض و الجهة القضائية المختصة بنظرها:
دعوى التعويض كغيرها من الدعاوى الإدارية و بالإضافة إلى الشروط العامة المنصوص عليها في المادة 459 من ق ا م من صفة و مصلحة فإنه يشترط لقبولها شروطا خاصة و المتمثلة في شرط القرار السابق ـ شرط الميعاد و شرط الاختصاص هذا الأخير سنتطرق إليه في فرع مستقل:
الفرع الأول: شروط قبول دعوى التعويض:
1) ـ شرط القرار السابق (القرار محل الدعوى):
أجمع جمهور الفقه أن القرار الإداري السابق محل الدعوى الإدارية هو:
” عمل قانوني يصدر عن سلطة إدارية أو هيئة لها سلطة إدارية بإرادتها المنفردة، له طابع تنفيذي و يلحق أذى بذاته”.
فبالنسبة للدعاوى الإدارية المتعلقة بالقضاء الكامل و منها دعوى التعويض و التي تعود أصلا لاختصاص المحاكم الإدارية (الغرف الإدارية بالمجالس القضائية حاليا) ـ كما سنبينه في الفرع الثاني من هذا المطلب ـ فنفرق بين مرحلتين:
المرحلة الأولى: قبل صدور قانون 90-23 المؤرخ في 18/08/1990 المعدل و المتمم لقانون الإجراءات المدنية و بناءا على المادة 169 مكرر/02 منهن كانت نشترط لقبول دعاوى القضاء الكامل ضرورة استيفاء شرط التظلم الإداري السابق، و ما ينتج عن هذا الشرط من رد صريح أو ضمني بالرفض يعد قرارا سابقا يجب إرفاقه بالعريضة عند رفع الدعوى، أو بالمستند المثبت لتاريخ إيداع الشكوى (التظلم).

المرحلة الثانية: بعد صدور قانون 90-23 المعدل و المتمم لقانون الإجراءات المدنية و التعديل الوارد على المادة 169 مكرر بحذف المشرع لشرط التظلم المسبق كشرط لقبول الدعوى أمام الدرجة الأولى كأصل عام، باستثناء ما ورد في نصوص خاصة، أصبح من غير الممكن استصدار قرار إداري و هذا ما أدى إلى وجود فراغ قانوني و أمام هذا الوضع ارتأت المحكمة العليا ـ الغرفة الإدارية ـ اللجوء إلى الاجتهاد لكن مع وجود نص
(169/2 ، 169 مكرر إ م) ، فخرجت عن وجوب استيفاء شرط القرار محل الدعوى امام المحاكم الإدارية (المجالس القضائية حاليا).
لنسبة للدعاوى القضاء الكامل و هذا في قرارها الصادر في 05/05/1996 ، قضية فريق ” ق م” ضد مديرية الشؤون الدينية لولاية مستغانم و قد جاء في تسبيب هذا القرار: ” و انه لا يشترط وجود قرار إداري مكتوب حتى تكون الجهة القضائية في أول درجة مختصة، و أن كل قرار او تصرف معيب صادر عن هيئة إدارية يمكنه أن يكون محل دعوى أمام القضاء الإداري و هذا تطبيقا لمقتضيات المادة 07 من ق ا م”.
2) ـ شرط الميعاد:
وضع المشرع قواعد تظهر العلاقة المتينة بين هذا الشرط و شرط التظلم الإداري المسبق، و بما أنه و كما قلنا تم حذف شرط التظلم الإداري المسبق المنصوص عليه بالمادة 169 مكرر بعد صدور قانون 90-23 المعدل لقانون إ م ، فهنا تثور إشكالية حول بداية حساب ميعاد 04 أشهر الوارد في نفس المادة في حالة الأعمال الإدارية المادية؟

و إسنادا إلى قضاء الغرفة الإدارية للمحكمة العليا فإن دعاوى القضاء الكامل عامة و التعويض خاصة غير مقيدة بأجل، إلا بآجال تقادم الحق الذي تحميه وفق ما نص عليه القانون المدني و هو ما جسدته في قرارها الصادر في 13/01/1991 ، قضية “الفريق ك و من معهم” ضد المستشفى الجامعي بسطيف و الذي جاء في تسبيبه: ” حيث أن ما مشى عليه اجتهاد المحكمة العليا في مجال قضايا التعويض أن هذه القضايا غير مقيدة بأجل محدد ما دامت الدعوى لم تتقادم بعد”.
الفرع الثاني: الجهة القضائية المختصة بالنظر في دعوى التعويض:
* الأصل: اختصاص القاضي الإداري:
تنص المادة 7 من قانون الإجراءات المدنية على ما يلي:
” تختص المجالس القضائية ابتدائيا بحكم قابل للاستئناف أمام المحكمة العليا في جميع القضايا أيا كانت طبيعتها التي تكون الدولة أو الولايات أو البلديات أو إحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية طرفا فيها ، و ذلك حسب قواعد الاختصاص التالية:
2 ـ تكون من اختصاص المجالس القضائية التي تحدد قائمتها و كذا اختصاصها الإقليمي عن طريق التنظيم……
ـ المنازعات المتعلقة بالمسؤولية المدنية للدولة و الولاية و البلدية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية و الرامية لطلب التعويض”.
المشرع نص في هذه الفقرة على أهم دعاوى القضاء الكامل و المتمثلة في تلك التي ترفع من اجل الحصول على تعويض عن الأضرار التي تثبت فيها مسؤولية الإدارة فيها على أساس الخطأ أو بدونه . هذه الدعوى تكون من إختصاص الغرفة الإدارية بالمجلس القضائي كونها صاحبة الولاية العامة في الفصل في القضايا تكون فيها أحد أشخاص القانون العام طرفا فيها و هي تلك الأشخاص المحددة في نص المادة السالفة الذكر.
و تجدر الملاحظة إلى انه يبقى الفصل في هذه القضايا على مستوى الغرف الإدارية بالمجالس القضائية إلى أن يتم التنصيب الفعلي للمحاكم الإدارية التي خول لها القانون العضوي رقم 98-01 هذه الصلاحيات.
حيث تصدر الغرف الإدارية قرارات ابتدائية قابلة للطعن أمام مجلس الدولة (الغرفة الإدارية لدى المحكمة العليا سابقا)
* الاستثناء: اختصاص القاضي العادي:
لقد استثنى المشرع بنص المادة 7 مكرر من ق ا م بعض الحالات اليت هي أصلا من اختصاص القضاء الإداري كون أحد أطراف الدعوى من أشخاص القانون العام و أدرجها ضمن اختصاصات القضاء العادي. و من بينها المنازعات المتعلقة بالتعويض عن حوادث السيارات التابعة للدولة أو لإحدى الولايات أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات الصيغة الإدارية. و لعل الحكمة التي ابتغاها المشرع من هذا الاستثناء هو أن القانون الواجب التطبيق في حالة التعويض عن الضرار الناجمة عن حوادث السيارات التابعة للأشخاص المعنوية العامة هو الأمر 74-15 المعدل و المتمم بالقانون رقم 88-31 المتعلق بإلزامية التأمين و التعويض عن الضرار و كذا المواد 124 ، 136 و 138 من القانون المدني، و عليه فالقاضي العادي هو المختص.
إضافة إلى أن الإدارة في هذه الدعوى لا تظهر كسلطة عامة بل كشخص عادي.

المطلب الثاني: تقدير التعويض:
بعد دراسة القاضي للملف من الناحية الشكلية و تقريره لاختصاصه بالنظر في الدعوى، ينتقل للجانب الموضوعي أين يتطرق لتوافر شروط المسؤولية الإدارية و من ثم تقدير التعويض الواجب أدائه للمتضرر و هذا ما سنتطرق إليه في الفرعين الآتيين:
الفرع الأول: قواعد تقييم الضرر:
ندرس في هذا الفرع قاعدتين أساسيتين تتعلقان بالضرر أولا هما قاعدة تاريخ تقدير الضرر و ثانيا هما قاعدة تغطية كامل الضرر.
1) ـ تاريخ تقدير الضرر:
في بادئ الأمر كان القضاء الإداري يقيم الضرر بتاريخ تحققه أي تاريخ انتهاء الفعل غير أن المدة الفاصلة بين وقوع الضرر و صدور الحكم بالتعويض كانت تعود لوضعيات غير مرضية (1)، و بتاريخ 21 مارس 1947 أصدر مجلس الدولة الفرنسي قرارا مبدئيا أين ميز فيه بين الأضرار التي تلحق بالأموال و الأضرار التي تلحق بالأشخاص (الأضرار الجسدية). (2)
فبالنسبة للأضرار التي تلحق بالأموال فالأصل يمون في تقييم الضرر بتاريخ انتهاء السبب ، و استثناءا بتاريخ صدور القرار إذا تبين للقاضي أن الضحية لم تكن تستطيع تصليح الضرر لأسباب خارجة عن إرادتها (3)، أو بتاريخ زوال عائق إصلاح الضرر الناجم عن سبب (4) أو قانوني (5).

(1) Jean Pierre , la responsabilité administrative, Casbah édition, P 108.
(2) Michel Paillet, OP.CIT, P 223.
(3) Michel Paillet, IBID, P 222.
(4) Michel Paillet IBID, p 226 (CE, 27 Nov, 1946, consorts , Rec CE p 228: Penurie des materiaux, CE 8 Mai 1968, association syndicale de reconstruction de , Rec CE P 286 necessite dattendre la remise en etat des a lorigine du dommage.
(5) Michel Paillet, IBID, P 222:

و الأهم أن مجلس الدولة الفرنسي في قراره الصادر في 1947 قبل الأخذ بعين الاعتبار الاستحالة المالية، أي قدرة المالك على تمويل الإصلاحات الضرورية، لكن من جهة على من يدعي ذلك أن يقدم الدليل، كأن يبين أنه لم يقرر على الاستدانة، و من جهة أخرى فالقاضي لا يأخذ بالضيق المالي البسيط بل الاستحالة (1).
فالقرار الصادر في 6 مارس 1987 عن مجلس الدولة الفرنسي في قضية السيدة هوريون و التي كانت في استحالة مطلقة للحصول على مساعدة لتمول إعادة شراء محل تجاري دمر نتيجة انفجار الغاز، قدر فيه الضرر بتاريخ أول منطوق حكم (2).
و هذا الاجتهاد يخص الأضرار اللاحقة بالأموال القابلة للتعويض أو الإصلاح، و في الفرضيات الأخرى( ضرر ناجم عن التدمير الكلي للمال، اضطراب في التمتع أو انخفاض القيمة المادية) القاضي يأخذ بتاريخ الاستقرار. (3)
كما اخذ مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ إيداع الخبرة كتاريخ لتقدير الضرر إن عين القضاة خبيرا لتحديد الأضرار. (4)
أما بالنسبة للأضرار التي تلحق بالأشخاص فتقييم الضرر يكون بتاريخ الحكم حتى يتم إصلاح الضرر بصيغة كلية و كاملة. (5)

Michel Paillet, OP.CIT, P 223.
(1) Michel Paillet, IBID, P 223.
(2) Michel Paillet, IBID, P 223.
(3) Michel Paillet, IBID, P 222. CE, 22 Juin 1987, Boulon et société générale d’entreprise c/département des Alpes Maritimes, RFD ad; 1987, p 680 date fixe au second rapport, le premier n’étant pas suffisamemt precis).
(5) خلوفي رشيد، المرجع السابق، ص 141

و في هذا الصدد نذكر قرار مجلس قضاء بجاية الصادر في 03/08/2004 القاضي بإلزام رئيس بلدية أقبو بدفع مبلغ 905783.05 دج كتعويض للمحل التابع بصفته مسير لمؤسسة توزيع المواد للبلدية المالكة لعتاد و سلع كانت بالمحل و تم تخريبها أثناء أحداث الشغب و المظاهرات و التخريب، و جاءت في حيثياته: و حيث أنه يستخلص من الخبرة أن الخبير اعتمد على التقييم المذكور في وثيقة إحصاء العتاد في تاريخ 31/12/99 و عليه يرى المجلس أن هذا التقييم جاء مطابقا لقيمة العتاد في تاريخ يقارب وقوع الأحداث.
و بهذا أخذ بما جاء في قرار مجلس الدولة الفرنسي الصادر بتاريخ 1947 أين أخذ تقريبا بتاريخ وقوع الأحداث لتقييم الضرر اللاحق بالمال. (1)
و ما لاحظناه على قرار صادر بتاريخ 28/11/2000 بين (م.ع) و مستشفى بجاية ممثلا في مديره و الشركة الجزائرية للتأمين وكالة إحدادن الممثلة من طرف رئيسها و الكائن مقرها ب 600 مسكن احدادن متدخلة في الخصام، أنه لم يأخذ بما جاء به قرار مجلس الدولة الفرنسي في 21/03/1947 فيما يتعلق بتاريخ تقدير التعويض في الضرار الجسمانية.
فجاء في إحدى حيثياته لكن حيث أن المبالغ المطلوبة من قبل المدعى مبالغ فيها جدا خاصة أنه لم يقدم ما ثبت عن مدخوله الشهري قبل وقوع الحادث فبمفهوم المخالفة لو انه قدم ما يثبت مدخوله قبل وقوع الضرر لقدر التعويض على أساسه. (2)

(1) ملحق رقم .
(2) ملحق رقم .
2)- قاعدة تغطية كامل الضرر:
بمجرد تحديد عناصر المسؤولية فليس للقاضي سوى الاهتمام بضمان التعويض الكامل قدر الإمكان (1) للضحية لارضائها و لتحقيق ذلك لا بد من تغطية الضرر الذي أصابها و الحال هنا لا يختلف عن التعويض عن المسؤولية المدنية (2) و ذلك من خلال الاعتماد على قاعدة التعويض على أساس ما لحق المضرور من خسارة و ما فات من كسب و النظر لجسامة الضرر، و ليس جسامة الخطأ أو وضعية المسؤول عنه، و يعتمد القاضي على ما سبق ذكره ما لم ينص القانون على معايير تحدد تقدير التعويض.

(1) Michel Paillet, OP.CIT, P 254.
(2) معوض عبد التواب ص 613.
الفرع الثاني: سلطات القاضي في تقدير التعويض:
الأصل أن القاضي الحرية الواسعة في تقدير قيمة التعويض التي يمنحها للمتضرر في إطار المسؤولية الإدارية غير أن هناك حدود لهاته الحرية و سنتطرق لما ذكرناه فيما يلي:
1) ـ حرية القاضي في تقدير التعويض:
تظهر حرية القاضي في سلطته الواسعة في تقدير مبلغ التعويض حسب ما يراه مناسبا لجبر الضرر و ذلك بعد الاطلاع على الوثائق المقدمة من طرف المتضرر و إن لم توجد فيقوم بالتقدير الجزافي هذا إن كان الضرر ماديا (1) و فيما يخص الضرر المعنوي فيقيمه جزافيا و في حالات رمزيا. (2)
كما تظهر كذلك في حريته في قبول طلب الضحية المتعلق بالتعويض المؤقت لغاية الفصل النهائي في قيمة التعويض (3)، و كذا في طريقة الوفاء فالقاضي الحرية الكاملة في أن يأمر المسؤول عن الضرر بدفع مبلغ التعويض إما دفعة واحدة أو على أقساط أو في شكل إيراد.
و كأمثلة عن هاته الحرية نذكر بعض القرارات الصادرة عن مجلس الدولة و كذا مجلس قضاء بجاية فيما يلي:
القرار الصادر عن مجلس الدولة في 24/04/2000 في قضية أرملة (م) و من معها ضد والي ولاية جيجل و من معه و الذي حمل الولاية وحدها مسؤولية الحادث و ألزمها بدفع مبلغ 600000.00 دج كتعويض عن الأضرار، في حين المستأنفين التمسوا 600000.00 دج تعويض عن الضرار المادية 100000.00 دج تعويض عن الأضرار المعنوية.
و قد جاءت في إحدى حيثياته: حيث أن مسؤولية الولاية ثابتة و كاملة و عليه يتعين إلزامها بدفع مبلغ التعويض مع إرجاعه إلى الحد المقبول و هو 600000 دج. (4)

(1) خلوفي رشيد، المرجع السابق ص 141.
(2) خلوفي رشيد، نفس المرجع، ص 141.
(3) خلوفي رشيد، نفس المرجع، ص 142.
(4) ملحق رقم .
و كذا القرار الصادر في 01/02/1999 و الذي جاء في إحدى حيثياته: و حيث أنه
عكس ما تدعيه الطاعنة فإن قضاة الدرجة الأولى بتقديرهم للتعويض استنادا ” لسلطتهم التقديرية” يكونوا قد أحسنوا في ذلك، علما أن الأمر يتعلق بتقدير تعويض عن ضرر ناتج عن خطأ شخصي لموظف… (1)
و من قرارات مجلس قضاء بجاية:
القرار الصادر عن الغرفة الإدارية بتاريخ 13/07/2004 في قضية ذوي حقوق ضد مدير مستشفى أقبو.
حيث التمس ذوي حقوق الضحية مبلغ 850000.00 دج كتعويض عن كافة الأضرار التي لحقه بهم جراء وفاة والدتهم.
في حين قدر المجلس التعويض ب 55000 دج و جاء في القرار الحيثية التالية:
و لكن و حيث ثابت أن المبلغ المطالب به مبالغ فيه و عليه يرى المجلس و تطبيقا للمواد 124 ، 182 من ق ا م تحفيظه للحد المعقول. (2)
و كذا القرار الصادر عن نفس المجلس في 28/11/2000 الذي ألزم مدير مستشفى بجاية تحت ضمان شركة التأمين الجزائرية وكالة إحدادن الكائنة ب 600 مسكن احدادن بجاية بدفع مبلغ 300000 دج عن العجز الدائم، 100000 دج عن العجز المؤقت، 30000 دج عن التشوه الجمالي، 10000 دج عن الآلام، 50000 دج عن مصاريف العلاج في حين كانت طلبات المتضرر أكثر من ذلك.
و قد جاء في حيثيات القرار: لكن حيث أن المبالغ المطلوبة من قبل المدعى مبالغ فيها جدا خاصة أنه لم يقدم ما يثبت عن مدخوله الشهري قبل وقوع الحادث. (3)

(1) ملحق رقم .
(2) ملحق رقم .
(3) ملحق رقم .
2) ـ حدود حرية القاضي في تقدير التعويض:
أول ما يمكن ذكره في حدود حرية القاضي في تقدير مبلغ التعويض هو الطلب الذي يقدمه المضرور و الذي يضع حدا أقصى له و ليس للقاضي تجاوزه حتى لا يحكم بأكثر مما طلب منه.
كما أن المشرع قد يضع أيضا حدود لهاته الحرية مثلما هو في التعويض عن الأضرار الجسمانية التي تسببها السيارات فمنذ صدور الأمر 74-15 و النصوص المطبقة له و كذا قانون 88-31 المعدل و المتمم له أصبح القاضي ملزما باتباع مقدار معين من التعويض الذي جاء فيه دون الخروج عن الإطار المحدد لذلك.
كما تجدر الإشارة أيضا إلى المبالغ التي قد تتحصل عليها الضحية في إطار تعوضيها عن الضرر كأن تدفع لها الجهة المسؤولة مبالغ مالية قرار مجلس الدولة الفرنسي في 23 أكتوبر 1981 في قضية السيد برنارد دافال. (1)
و كذا التعويضات التي تحصلت عليها من شركات التأمين أو صناديق الضمان الاجتماعي (2) فعلى القاضي أن يأخذها بعين الاعتبار في تقدير التعويض الاجمالي حتى لا يعوض الضحية بأكثر مما لحقها من ضرر.
و في الأخير نذكر أن القاضي دائما يقدر التعويض بالعملة الوطنية (3) ، و التي قد تسبب بعض المشاكل للمحكوم لهم الأجانب اللذين يضطرون لتحويل المبالغ المحكوم بها لصالحهم إلى عملة بلدهم و قد يأخذ هذا وقتا.

(1) Michel Paillet, OP.CIT, P 261.
(2) Martine Lambard, OP.CIT, P 474.
(3) خلوفي رشيد، المرجع السابق، ص 142.

الـخــــــاتــمــــــة :
بعد انتهائنا من معالجة موضوع المسؤولية الإدارية ومحاولة الإلمام بأهم جوانبه ، تجدر الإشارة إلى أن القضاء الإداري في الجزائر – كما نعلمه – شديد التأثر بالإجتهاد القضائي الفرنسي في هذا المجال ، بإعتباره الأصل وكذا المرجع فيما يخص السابقات القضائية .وبما أن القضاء الإداري الجزائري لا يزال فتيا فإنه لم يصل إلى درجة التطور التي وصل إليها نظيره في فرنسا .
فمن ناحية الإجراءات القضائية المتبعة أمام الجهات القضائية الإدارية ، فهي لاتزال مندمجة ضمن قانون الإجراءات المدنية في حين أنه من الواجب الضروري افرادها بقانون خاص ومستقل .
إضافة إلى ذلك نجد أن النصوص القانونية المتعلقة بالمسؤولية الإدارية متشتتة و غير ملمة بكافة المواضيع المحيطة بها في وقت أصبح التشريع كمصدر أساسي و أولي للقانون في كافة مجالته .
ناهيك عن القضاء الإداري الجزائري الذي لايزال لا يتحكم في هذه المادة ، إذ أن اجتهاده غير مستقر وأن أحكامه غير مسببة تسبيبا كافيا .
ونعتقد ان سبب ذلك يرجع إلى عدم التحقق الفعلي للإزدواجية القضائية في بلادنا والتي تتطلب استقلالية الجهات القضائية بالإضافة إلى تخصص القضاة في القانون الإداري .
ولـهذا فـنـحن نأمل أن تتـحقق ازدواجية حقيقية للـقضـاء الإداري قـانونـا وقضـاءا ، ولا تبقى مجرد حبر على ورق.
قائمة المراجع باللغة الفرنسية :

1- ANDRÈ DE LAUBADÈRE, JEAN-CLAUDE VENEZIA , YVES GAUDEMET ; Traité de droit administratif, Tome 1 : Droit administratif générale , LGDJ,15 eme édition , 1999.

2- ENCYCLOPÈDIE JURIDIQUE DALLOZ ; Répertoire de la responsabilité da la puissance publique, Dalloz, (mise à jour 2022).

3- GILLES LEBRETON ; Droit administratif général, Armond Colin, 2 eme édition, 2000.

4- GEORGE DUPUIS, MARIE-JOSÈ GUEDON, PATRICE CHRETIEN ; Droit administratif, Armond Colin, 7 eme édition, 2000.

5- GEORGE VLACHOS ; Principes généraux du droit administratif, Ellipses , 1993.

6- JACQUE MOREAU ; Droit public , Tome 2 : Droit administratif , CNFPT-Economica, 3 eme édition , 1995.

7- JEAN- PIERRE DUBOIS ; La responsabilité administrative, Casbah édition, 1998.

8- JEAN RIVERO , JEAN WALINE ; Droit administratif, Dalloz, 18 eme édition, 2000.

9- MARCEL MONIN ; Arrêts fondamentaux du droit administratif ( AFDA), Ellipses, 1995.

10- MARTINE LOMBARD ; Droit administratif, 4 eme édition, Dalloz, 2001.

11- MICHEL PAILLET ; La responsabilité administrative, Dalloz, 1996.

12- M.LONG, P.WEIL, G.BRAIBANT, P.DEVOLVÈ, B.GENEVOIS ; Les grands arrêt de la jurisprudence administrative ( GAJA) , Dalloz , 13 eme édition , 2001.

13- PHILIPPE FOILLARD ; Droit administratif ( manuel ) , CPU, 2001.

14- RENÈ CHAPUS ; L’administration et son juge, PUF,1999.



شكرا لطرحك للموضوع جزاك الله الف خير

مشكور على الموضوع الرائع

merciiiiiiii

merci beacoup pour ce travail

التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

ي تجربة ماليزيا التنموية

قراءة في تجربة ماليزيا التنموية

التجربة الماليزية جديرة بالتأمل وخصوصاً أنها تتميز بكثير من الدروس التي من الممكن أن تأخذ بها الدول النامية كي تنهض من كبوة التخلف والتبعية. فعلى الرغم من الانفتاح الكبير لماليزيا على الخارج والاندماج في اقتصاديات العولمة، فإنها تحتفظ بهامش كبير من الوطنية الاقتصادية. وخلال نحو عشرين عاماً تبدلت الأمور في ماليزيا من بلد يعتمد بشكل أساسي على تصدير بعض المواد الأولية الزراعية إلى بلد مصدر للسلع الصناعية، في مجالات المعدات والآلات الكهربائية والالكترونيات. فتقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2001م رصد أهم 30 دولة مصدرة للتقنية العالية، كانت ماليزيا في المرتبة التاسعة متقدمة بذلك عن كل من ايطاليا والسويد والصين. كما كانت تجربتها متميزة في مواجهة أزمة جنوب شرق آسيا الشهيرة التي شهدها العام 1997م، حيث لم تعبأ بتحذيرات الصندوق والبنك الدوليين وأخذت تعالج أزمتها من خلال أجندة وطنية فرضت من خلالها قيوداً صارمة على سياستها النقدية، معطية البنك المركزي صلاحيات واسعة لتنفيذ ما يراه لصالح مواجهة هروب النقد الأجنبي إلى الخارج، واستجلب حصيلة الصادرات بالنقد الأجنبي إلى الداخل وأصبحت عصا التهميش التي يرفعها الصندوق والبنك الدوليين في وجه من يريد أن يخرج عن الدوائر المرسومة بلا فاعلية في مواجهة ماليزيا التي خرجت من كبوتها المالية أكثر قوة خلال عامين فقط، لتواصل مسيرة التنمية بشروطها الوطنية. بينما أندونسيا وتايلاند مثلاً ما زالتا تعانيان أثر الأزمة، من خلال تعاطيهما تعليمات أجندة الصندوق والبنك الدوليين. ونظراً لتفرد التجربة فقد حرصنا على مشاركة المتخصصين الذين تناولوا التجربة بالبحث والدراسة من خلال كتب منشورة وأبحاث علمية شاركوا بها في المؤتمرات العلمية.

العوامل الاقتصادية والسياسية التي ساعدت على نجاح التجربة:

الدكتورة أستاذة الاقتصاد الإسلامي في كلية التجارة للبنات بجامعة الأزهر ترى أن هناك مجموعة من العوامل ساعدت على نجاح تجربة ماليزيا في التنمية وهي كما يلي:
1. المناخ السياسي لدولة ماليزيا يمثل حالة خاصة بين جيرانها، بل بين الكثير من الدول النامية، حيث يتميز بتهيئة الظروف الملائمة للإسراع بالتنمية الاقتصادية. وذلك أن ماليزيا لم تتعرض لاستيلاء العسكريين على السلطة.
2. يتم اتخاذ القرارات دائماً من خلال المفاوضات المستمرة بين الأحزاب السياسية القائمة على أسس عرقية، ما جعل سياسة ماليزيا توصف بأنها تتميز بأنها ديموقراطية في جميع الأحوال.
3. تنتهج ماليزيا سياسة واضحة ضد التفجيرات النووية، وقد أظهرت ذلك في معارضتها الشديدة لتجارب فرنسا النووية، وحملتها التي أثمرت عن توقيع دول جنوب شرق آسيا العشر المشتركة في في العام 1995م على وثيقة إعلان منطقة جنوب شرق آسيا منطقة خالية من السلاح النووي وقد ساعد هذا الأمر على توجيه التمويل المتاح للتنمية بشكل أساسي بدلاً من الإنفاق على التسلح وأسلحة الدمار الشامل.
4. رفض الحكومة الماليزية تخفيض النفقات المخصصة لمشروعات البنية الأساسية، والتي هي سبيل الاقتصاد إلى نمو مستقر في السنوات المقبلة. لذا قد ارتفع ترتيب ماليزيا لتصبح ضمن دول الاقتصاد الخمس الأولى في العالم في مجال قوة الاقتصاد المحلي.
5. انتهجت ماليزيا استراتيجية تعتمد على الذات بدرجة كبيرة من خلال الاعتماد على سكان البلاد الأصليين الذين يمثلون الأغلبية المسلمة للسكان.
6. اهتمام ماليزيا بتحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري الإسلامي، من خلال تحسين الأحوال المعيشية والتعليمية والصحية للسكان الأصليين، سواء كانوا من أهل البلاد الأصليين أو من المهاجرين إليها من المسلمين الذين ترحب السلطات بتوطينهم.
7. اعتماد ماليزيا بدرجة كبيرة على الموارد الداخلية في توفير رؤوس الأموال اللازمة لتمويل الاستثمارات حيث ارتفاع الادخار المحلي الإجمالي بنسبة 40 % بين سنة 1970م وسنة 1993م، كما زاد الاستثمار المحلي الإجمالي بنسبة 50 % خلال الفترة عينها. ويرى د. محمود عبد الفضيل أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أنه في الوقت الذي تعاني فيه بلدان العالم النامي من مثلث المرض والفقر والجهل، فإن ماليزيا كان لها ثالوث آخر دفع بها إلى التنمية منذ طلع الثمانينيات وهو مثلث النمو والتحديث والتصنيع، باعتبار هذه القضايا الثلاث أوليات اقتصادية وطنية، كما تم التركيز على مفهوم كما لو كانت شركة أعمال تجمع بين القطاع العام والخاص من ناحية وشراكة تجمع بين الأعراق والفئات الاجتماعية المختلفة التي يتشكل منها المجتمع الماليزي من ناحية أخرى. ويضيف عبد الفضيل أن هناك عوامل أخرى ساعدت على نجاح التجربة التنموية في ماليزيا منها:
• أنها تعاملت مع الاستثمار الأجنبي المباشر بحذر حتى منتصف الثمانينيات، ثم سمحت له بالدخول ولكن ضمن شروط تصب بشكل أساسي في صالح الاقتصاد الوطني منها:
– ألا تنافس السلع التي ينتجها المستثمر الأجنبي الصناعات الوطنية التي تشبع حاجات السوق المحلية.
– أن تصدر الشركة 50 % على الأقل من جملة ما تنتجه.
– الشركات الأجنبية التي يصل رأس مالها المدفوع نحو 2 مليون دولار يسمح لها باستقدام خمسة أجانب فقط لشغل بعض الوظائف في الشركة.
• أيضاً امتلاك ماليزيا لرؤيا مستقبلية للتنمية والنشاط الاقتصادي من خلال خطط خمسية متتابعة ومتكاملة منذ الاستقلال وحتى الآن، بل استعداد ماليزيا المبكر للدخول في القرن الحالي من خلال التخطيط لماليزيا 2022م والعمل على تحقيق ما تم التخطيط له.
• وجود درجة عالية من التنوع في البنية الصناعية وتغطيتها لمعظم فروع النشاط الصناعي (الصناعات: الاستهلاكية – الوسيطة -الرأسمالية) وقد كان هذا الأمر كمحصلة لنجاح سياسات التنمية بماليزيا فيمكن اعتباره سبباً ونتيجة في الوقت عينه.
مسيرة التنمية في ماليزيا:
يرصد الدكتور عبد الفضيل تجربة التنمية في ماليزيا من خلال البعد التاريخي ومدى تطور التنمية في هذا البلد فيذكر أنه، بعد أن حصلت ماليزيا على استقلالها في العام 1958م اتجهت استراتيجية التنمية إلى الإحلال محل الواردات في مجال الصناعات الاستهلاكية والتي كانت تسيطر عليها الشركات الأجنبية قبل الاستقلال. إلا أن هذه الاستراتيجية لم تفلح في مجال التنمية المتواصلة نظراً لضيق السوق المحلي وضعف الطلب المحلي. ولم يكن لهذه الاستراتيجية أثر على الطلب على العمالة أو وجود قيمة مضافة عالية. ويبين عبد الفضيل، أن المرحلة الأولى بدأت في عقد السبعينات حيث اتجهت التنمية في ماليزيا للاعتماد على دور كبير للقطاع العام والبدء في التوجه التصديري في عمليات التصنيع• حيث بدأ التركيز على صناعة المكونات الإلكترونية. ولكن هذه الصناعات كانت كثيفة العمالة مما نتج منه تخفيض معدلات البطالة وحدوث تحسن في توزيع الدخول والثروات بين فئات المجتمع الماليزي ولاسيما بين نخبة صينية كانت مسيطرة على مقدرات النشاط الاقتصادي خلال فترات الاحتلال والسكان ذوي الأصل المالايي الذين يشكلون الأغلبية في ماليزيا. أيضاً كان لشركات البترول دور ملموس في دفع السياسات الاقتصادية الجديدة حيث كونت ما يشبه الشركات القابضة للسيطرة على ملكية معظم الشركات التي كانت مملوكة للشركات الإنكليزية والصينية. وقد تحقق لها ذلك مع نهاية عقد السبعينيات. ويوضح عبد الفضيل أن المرحلة الثانية شهدت الخمس سنوات الأولى من عقد الثمانينيات تنفيذ الخطة الماليزية الرابعة والتي ركزت على محورين هما: موجة جديدة من الصناعات التي تقوم بعمليات الإحلال محل الواردات والصناعات الثقيلة في إطار ملكية القطاع العام. بينما الفترة الممتدة من منتصف الثمانينيات وحتى العام 2000م لتشمل المرحلة الثالثة حيث شهدت تنفيذ ثلاث خطط خمسية في ماليزيا. استهدفت تحقيق مجموعة من السياسات لتنشيط عمليات النمو الصناعي وتعميق التوجه التصديري في عمليات التصنيع وأيضاً تحديث البنية الأساسية للاقتصاد الماليزي، وكذلك وجود مزيد من التعاون الاقتصادي الإقليمي في إطار مجموعة بلدان كتلة ، وأخيراً تطوير طبقة من رجال الأعمال الماليزيين من ذوي الأصول المالاوية.

الإسلام وتجربة التنمية في ماليزيا:

تقول الدكتورة تقوم تجربة التنمية في ماليزيا على أنها تجربة ناجحة وأنها تجربة اتفقت إلى مدى بعيد مع مبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي، وإن لم يتم الإعلان صراحة عن هذا الانتماء. فقد اهتمت ماليزيا بتحقيق التنمية الشاملة لكل من المظاهر الاقتصادية والاجتماعية، مع الموازنة بين الأهداف الكمية والأهداف النوعية، مع الاهتمام بهذه الأخيرة. وتدلل الدكتورة على ما ذهبت إليه من خلال ما يلي:
• في مجال التنمية المادية عملت ماليزيا على تحقيق العدالة بين المناطق، بحيث لا يتم تنمية منطقة على حساب أخرى، فازدهرت مشروعات البنية الأساسية في كل الولايات، كما اهتمت بتنمية النشاطات الاقتصادية جميعها، فلم يهمل القطاع الزراعي في سبيل تنمية القطاع الصناعي الوليد أو القطاع التجاري الاستراتيجي، وإنما تم إمداده بالتسهيلات والوسائل التي تدعم نموه، وتجعله السند الداخلي لنمو القطاعات الأخرى.
• كما اتفقت التنمية الماليزية مع المبدأ الإسلامي الذي يجعل الإنسان محور النشاط التنموي وأداته، فأكدت تمسكها بالقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، مع الاهتمام بتنمية الأغلبية المسلمة لسكان البلاد الأصليين من الملاويين وتشجيعهم على العمل بالقطاعات الإنتاجية الرائدة، فضلاً عن زيادة ملكيتهم لها. كما وفرت لأفراد المجتمع إمكانيات تحصيل العلم في مراحله المختلفة، وتسهيل التمرين والتدريب ورفع مستوى الإنتاجية، وترتيبات الارتفاع بالمستوى الصحي وتوقعات العمر، فنجحت في تحسين مستويات معيشة الأغلبية العظمى من أفراد الشعب كماً ونوعاً، وخصوصاً مع ارتفاع متوسط الدخل الفردي.
• كذلك انتهجت ماليزيا استراتيجية الاعتماد على الذات في الاضطلاع بالعبء التنموي، سواء البشري أو التمويلي، حيث عملت على حشد المدخرات المحلية اللازمة لاستغلال الموارد الإلهية المتاحة.
• أيضاً اهتمت ماليزيا بتجربة تحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري الإسلامي، سواء كان من أهل البلاد الأصليين أو من المهاجرين إليها من المسلمين الذين ترحب السلطات بتوطينهم، كما أسهم ارتفاع نصيب الملاويين في الملكية المشتركة للثروة في القطاعات الإنتاجية المختلفة، فضلاً عن القطاع المالي والمصرفي، إلى توفير رؤوس الأموال المحلية اللازمة لمختلف أوجه التنمية بصورة متزايدة والتي أسهمت في الإقلال من الديون الخارجية، وما يترتب عليها من زيادة عبء الدين الذي يرهق الموارد اللازمة للتنمية، فضلاً عن العواقب الوخيمة اجتماعياً وسياسياً.
• طبيعة دور الدولة في النشاط الاقتصادي في ماليزيا تتم من خلال القنوات الديموقراطية للشورى المتمثلة في الأحزاب الماليزية المتعددة التي توفر أوسع مشاركة ممكنة للناس في مناقشة جميع القضايا المتعلقة بالمصلحة العامة، ومتابعة السلطة التنفيذية في تطبيقها الجاد لجميع السياسات التي يتم الموافقة عليها.
• التزمت الحكومة الماليزية بالأسلوب الإسلامي السليم في ممارسة مختلف الأنشطة الاقتصادية وتوجيه الموارد، ففي حين عملت على تحويل ملكية مختلف المشروعات الاقتصادية إلى القطاع الخاص، فقد نمت مسؤولية الأفراد وأشركتهم عملياً في تحقيق الأهداف القومية، واحتفظت بسهم خاص في إدارة المؤسسات ذات الأهمية الاجتماعية والاستراتيجية، لعدم التخلي عن دورها في ممارسة الرقابة والإشراف عليها. ومن ناحية أخرى أسهمت الحكومة في التقليل من الآثار السلبية للتحول إلى القطاع الخاص عن طريق منح تأمين ضد البطالة للعاملين في الخدمات التي تم تحويلها إلى القطاع الخاص، مع وعدهم بأجور أعلى في المدى القريب، ولكن يؤخذ على الحكومة تجاهلها للاعتراضات الإسلامية على تحويل الموارد الطبيعية العامة إلى القطاع الخاص بدلاً من إبقائها في إطار الملكية المشتركة للمسلمين تحت مسئولية الدولة ورقابتها. وتؤكد الدكتورة وجهت نظرها بأن التجربة الماليزية كانت إسلامية من دون وجود لافتة تحدد هذا الانتماء من خلال أن التجربة لفتت أنظار الدارسين الذين تنبأوا بتحول القوة السياسية الإسلامية من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا، حيث يتوقع أن يؤدي الأخذ بالابتكارات التكنولوجية وتحقيق معدلات التنمية العالية، إلى تحويل دولة صغيرة سريعة النمو مثل ماليزيا، إلى أهم وجود إسلامي في العالم على الإطلاق.
التجربة تنقصها الزكاة:

وتشير الدكتورة إلى أن تبوء ماليزيا لدور بارز في قيادة العالم الإسلامي أمل يمكن أن يصبح حقيقة واقعة إذا ما استكملت الحكومة الماليزية مسئولياتها، فإلى جانب اهتمامها بنشر الدين الإسلامي والدعوة لمختلف أركانه من تشجيع على الذكر وحفظ القرآن الكريم وإقامة المساجد، وإحياء فريضة الصوم في ليالي رمضان، وتكوين مؤسسة الادخار لتيسير أداء فريضة الحج لأكبر عدد من أبناء البلاد، فإن على الدولة أن تهتم بتطبيق فريضة الزكاة، وخصوصاً مع ارتفاع مستويات الدخول الفردية وتزايد الثروات التي تجب فيها الزكاة. ذلك مع حماية الثروات الطبيعية التي وهبها الله تبارك وتعالى لماليزيا، وعدم تعرضها للإبادة والتدمير.
حضور إسلامي ولكن•••!!
الأستاذ الخبير الاقتصادي بمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر يرى أن تجربة ماليزيا في التنمية لها خصوصية من حيث استفادتها من الظرف التاريخي للصراع العالمي بين الاتحاد السوفيتي ـ قبل سقوطه ـ والولايات المتحدة الأمريكية. حيث ساندت أميركا دول هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية لتكون هذه نموذجاً مغرياً لدول المنطقة التي ركنت إلى الاتحاد السوفيتي السابق والكتلة الاشتراكية. ولكن لابد أن نذكر هنا أن ماليزيا طوعت هذا الاتجاه لتبني نفسها وتوجد اقتصاداً قوياً. حتى مع سيطرة اقتصاديات العولمة وجدنا أن ماليزيا شاركت فيه بقوة، ولكن من منطق المشاركة أخذاً وعطاءً وليس مجرد الحضور كما فعلت كثير من بلدان العالم النامي، وبخاصة البلدان الإسلامية. وبالتالي فإن تكرار نموذج ماليزيا في بلدان العالم الإسلامي لابد أن يأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية المصاحبة لهذه البلدان وكذلك وضعها في طبيعة الخريطة السياسية الدولية حالياً. وإن كان يؤخذ على هذه البلدان أنها لم تستفد بشكل مباشر من فترة النظام العالمي ثنائي القطبية.
أما عن تجربة التنمية في ماليزيا ومدى ارتباطها بالإسلام فيذكر أن فكر رئيس الوزراء الماليزي قائم على أن النظام الإسلامي لا يوجد به نموذج للتنمية ولكن توجد بالإسلام مجموعة من القيم والأخلاق يستفاد منها في ترشيد النظام الرأسمالي. مثل حث المسلمين على العمل والإتقان والمساواة والعدل والتكافل الاجتماعي. مع الأخذ في الاعتبار أن شخصية رئيس الوزراء الماليزي من الشخصيات النادرة التي تتمتع بحس سياسي متفرد يتسم بالوطنية والوعي بالأوضاع السياسية العالمية.
ومع ذلك نجد أن ماليزيا تفردت في بعض التطبيقات الإسلامية في المجال الاقتصادي من وجود شركات للتأمين تعمل وفق المنهج الإسلامي ووجود بعض الآليات في سوق المال تعمل وفق المنهج الإسلامي وأيضاً وجود جامعة إسلامية متطورة في ماليزيا تتفاعل مع متطلبات العصر وتخدم قضايا التنمية. كما أن ماليزيا تفردت أيضاً بوجود صندوق الحج القائم على توفير مدخرات الأفراد المشاركين فيه في أعمار مبكرة لكي يؤدي هؤلاء الأفراد الحج عند بلوغهم سناً معينة، ولا شك أن هذه الأموال يتم الاستفادة منها في توظيفها في عمليات التنمية باعتبارها مدخرات إلى حد ما طويلة المدى. ويضيف الدسوقي أن انفصال سنغافورا كان حافزاً على أن يثبت المالاويون ذاتهم وأن يهتموا بالتنمية•
أما عن الملاحظات على تجربة التنمية الماليزية فيرى، الدسوقي، أن هناك نقطتين رئيسيتين تعيبان التجربة الماليزية وهما ارتفاع معدلات الاستيراد كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، والأخرى ارتفاع نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الناتج المحلي الإجمالي. مما قد يعرض التجربة لوجود مؤثرات خارجية تجعل الاقتصاد الماليزي يتأثر بها سلباً.
الدروس المستفادة من التجربة الماليزية:
بعد هذا السرد يمكننا أن نخلص إلى مجموعة من الدروس يمكن لبلدان العالم الإسلامي الاستفادة منها وهي:
1. الاهتمام بجوهر الإسلام وتفعيل منظومة القيم التي حض عليها الإسلام في المجال الاقتصادي وغيره ولا داعي لرفع لافتات إسلامية دون وجود مضمون حقيقي لقيم الإسلام.
2. إعمال مبادئ الشورى التي حض عليها الإسلام من خلال نظم ديموقراطية تحترم حقوق الأفراد.
3. في حال وجود عرقيات مختلفة يمكن التوصل إلى اتفاقات تتقاطع فيها دوائر المصالح المختلفة وبذلك يكون التنوع مصدر إنماء لا هدم.
4. الاستفادة من الظروف العالمية السياسية لبناء الاقتصادات الوطنية.
5. الاعتماد على الذات في بناء التجارب التنموية ولن يتحقق هذا إلا في ظل استقرار سياسي واجتماعي.
6. الاستفادة من التكتلات الإقليمية بتقوية الاقتصاديات المشاركة بما يؤدي إلى قوة واستقلال هذه الكيانات في المحيط الدولي.
7. التنمية البشرية ورفع كفاءة رأس المال البشري فالإنسان هو عماد التنمية تقوم به ويجني ثمارها.
8. أهمية تفعيل الأدوات الاقتصادية والمالية الإسلامية في مجال التنمية مثل الزكاة والوقف من خلال وجود مؤسسات تنظم عملها والرقابة على أدائها.
9. أن تتوزع التنمية على جميع مكونات القطر دون القصور على مناطق وإهمال مناطق أخرى، مما يترتب عليه الكثير من المشكلات مثل التكدس السكاني والهجرة إلى المناطق المعنية بالتنمية وتكريس الشعور بالطبقية وسوء توزيع الدخل.
10. اعتبار البعد الزمني من حيث استيعاب التقدم التكنولوجي، وأن المعرفة تراكمية، وأن المشكلات مع الوقت سوف تزول في وجود أداء منضبط بالخطط المرسومة.
11. بخصوص التطبيق لمبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي قد تكون هناك فترات انتقالية لتهيئة المجتمع للتطبيق الكامل ولكن لا يعني ذلك التوقف عن البدء في التطبيق، فمالا يدرك جله لا يترك كله. ويفضل البدء بما تتوافر له الشروط والظروف الملائمة.

بيانات أساسية عن الاقتصاد الماليزي:

• صادرات عالية ومتوسطة التقنية كنسبة من إجمالي صادرات السلع 67.4%.
• معدل الأمية بين البالغين (النسبة المئوية لمن تبلغ أعمارهم 15 سنة أو أكثر) 13 % في العام 1999م.
• ترتيب ماليزيا في دليل التنمية البشرية لعام 2001 م هو (التقرير يشمل دولة من دول العالم).
• عدد السكان في العام 1999م هو 21.8 مليون نسمه.
• المساحة الكلية 329749كم / مربع.
• سكان يستخدمون إمكانيات ملائمة من الصرف الصحي 98% في العام 1999م.
• سكان يستخدمون مصادر مياه محسَّنة النسبة المئوية 95 % في العام 1999م.
• الإنفاق على التعليم كنسبة مئوية من الناتج القومي 4.9 % خلال الفترة 95 ـ 1997م.
• الإنفاق على التعليم كنسبة من مجموع الإنفاق الحكومي 15.4 % خلال الفترة من 95-1997.
• الناتج المحلي الإجمالي في العام 1999م هو 79 مليار دولار.
• نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العام 1999م هو 8209 دولار.
• صادرات السلع والخدمات كنسبة مئوية من الناتج المحلي 122% الإجمالي في العام 1999م.
• واردات السلع والخدمات كنسبة مئوية من الناتج المحلي 97% في العام 1999م.

البيانات الواردة في سياق المقال تم تجميعها بواسطة المحرر من تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأم المتحدة لعام 2001م.


الاقتباس غير متاح حاليا
موضوع ممتاز جزي الله خيرا ناشره ونفعنا بما فيه واتمنى اذا لدى احد الاعضاء اي مشاركة عن تجربة تركيا فى التعليم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

النظرية الواقعية

النظرية الواقعية

مقدمة :

الواقعية هي المنظور المهيمن في حقل العلاقات الدولية خاصة بعد فشل نظام
الأمن القومي الذي تبنته عصبة الأمم و ظهور الأنظمة التسلطية في أوربا
مكان الفرضية الليبرالية المتعلقة بنشر الديمقراطيات .

كل هذا
دفع بالباحثين إلى القول بفشل المقاربات المعيارية على رأسهم الأستاذ
freedriks schuman الذي قال يجب إستبدال المقاربة الكلاسيكية بالمقاربة
الجديدة (الواقعية) و يعنى هذا الكلام دعوة صريحة بضرورة نقل التركيز من
المجالات القانونية للعلاقات الدولية إلى المجالات النفعية .

أهم أفكار الواقعية
المسرح الفوضوي للعلاقات الدولية

و هو مرادف لحالة الحرب لأنه لا توجد أية قوة عليا قادرة علة منع الفواعل
الدولية من اللجوء إلى العنف المسلح في علاقاتها مع الأفراد أو علاقة
الدول فيما بينها أي منطق القوة هو المحدد الفعلي لمسار العلاقات الدولية .

2- الفواعل الأساسية في العلاقات الدولية

هي فواعل الصراع و منذ ظهور نظام اسبانيا هذه الفواعل هي الدول القوية
المنظمة و المعرفة في حدود إقليمية (جماعات قومية معرفة بحدود جغرافية)

3- الدول القومية هي الفواعل العقلانية الوحيدة في العلاقات الدولية و هذه الدول يجسدها الحكام على رأس السلطة
و عقلانية هذه الفواعل تتمحور في فكرة تعضيم المصالح الوطنية المعرفة
بالقوة في مواجهة الأطراف الأخرى و هنا المنضمات الحكومية و الغير
الحكومية هي منظمات غير عقلانية
و هنا تتجسد مقولة أستعمل قوتي . لأحافظ على قوتي . لأزيد قوتي

4- القانون الواقعي

يتمثل في ميزان القوى الذي يمثل أداة لتحقيق السلم و الأمن الدولي بقدر ما يتثل قانون لضبط النظام و الاستقرار الدوليين.
* العودة إلى الحرب أو خيار الحرب هو وسيلة شرعية في السياسة الخارجية
* يقول كلوزوفيتش ( تبدأ الحرب حينما تنتهي الدبلوماسية / الحرب هي استمرار للسياسة لكن بوسائل أخرى )
كما أقرو بأسبقية السياسة الخارجية على السياسة الداخلية

أهم أفكار أعلام الواقعية

1- إدوارد هاري كار : في تحديده لمفهوم الساسة إنتقد فكرة تجانس المصالح و فكرة السلام الدولي المشترك ” السياسة في معناها الدائم هي سياسة القوة ” و نلاحظ أنه لا يفسر لماذا سياسة القوة في العلاقات الدولية .

2- رونالد نيبو: ” السياسة هي صراع دائم من أجل القوة “
و يعتبر أن مصدر الصراع هو الطبيعة البشرية المححدة بالمصالح فكل إنسان أو
نظام يسعى للحصول على القوة و الهيمنة و بالتالي يصطدم مع الآخرين.

3- هانس مورغنتاو :
انتقد جميع الذين سبقوه في محاولة منه لبناء نظرية واقعية للسياسة الدولية
فذهب إلى دراسة الظاهرة الدولية كما هي لخصها في ( غريزة الحياة – غريزة
التنافس – غريزة الهيمنة)
ففي عالم يعاني من ندرة الموارد يصبح الانسان فيه محكوما في علاقاته مع الآخرين بإرادة متنامية القوة ( السياسة الدولية هي مثل أي سياسة صراع من أجل القوة )4- ريمون آرون : يقول المصلحة القومية يجب ألا تتحدد في المصالح الفردية هذا في سياق أسبقية السياسة الخارجية عن السياسة الداخلية فالبحث عن القوة هو الهدف الحاسم و القار في سلوكات الدول .

نقد النظرية الواقعية
1/ على المستوى المنهجي : مبالغة الواقعية في الطابع التجريدي للعلاقات الدولية
2/ على مستوى المفاهيم المعتمدة في التحليل : عدم دقة مفاهيم القوة و خاصة مفهوم المصلحة الوطنية



التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

تحرير التجارة الخارجية


تحرير التجارة الخارجية
الجزائرية:
مقدمة:

تعرف الجزائر تفتح أكثر على العالم الخارجي بتطبيق سياسات كل من البنك العالمي و صندوق النقد الدولي ، التي نتج عنها نتائج إجابية تمثلت في تحقيق التوازنات الكبرى ، و في المقابل نتائج سلبية و المتعلقة بالجانب الإجتماعي ، و مع دخول الألفية الثالثة إتجهت الجزائر نحو تحرير التجارة الخارجية و توسيع نطاقها ، إذ تم عقد إتفاقية الشراكة ، و هناك سعي من قبل السلطات المعنية إلى الإنضمام للمنظمة العالمية للتجارة، و إن عملية عقد إتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي شجعت من حدة المبادلات التجارية مع الدول الاوروبية ، و بالتالي تعزيز الإرتباط بالعملة الأوروبية الموحدة الحديثة الظهور ، فماهي حقيقة هذه الخطوات التي قامت بها الجزائر لتحرير التجارة الخارجية؟
المحور الأول: مفهوم تحرير التجارة الخارجية :
إن الإهتمام الكبير لمتخذي القرار في الدول النامية على غرار دول جنوب و شرق البحر المتوسط ، بضرورة تحقيق تحقيق منطقة التجارة الحرة، هو نتيجة الحتمية التي تفرضها الظروف الدولية على هذه الدول بأن يكون لها تجمع إقتصادي لمواجهة التكتلات الإقتصادية العالمية في عصر لا يمكن فيه لأية دولة أن تعيش بمعزل عن هذه التكتلات . هذا أدى لوجود قوة دفع سياسية قوية لتحرير التجارة الخارجية. و لابد لهذه الدول على إتباع مجموعة خطوات أولية و هامة في تحرير التجارة الخارجية و المتمثلة في :
– إدخال حيز التنفيذ قابلية التحويل التجاري للعملة المحلية للدولة ، لكافة المتعاملين الإقتصاديين، أي المتمتعين بصفة التاجر ، و هذا ما قامت به الجزائر .
– إصلاح التعريفة الجمركية ، و تأهيل التشريعات للدولة ، مع المواصفات المعتمدة عالميا ، و إعطائها الشفافية و المقروئية المتطلبة للمتعاملين و المستثمرين . ففي الجزائر في سنة 2001 حدث إصلاح تعريفي و إعادة هيكلة كلية للتعريفة الجمركية.
– إلغاء الرسوم الجمركية تدريجيا ، مثلا في الجزائر تم تفكيك بعض الرسوم الجمركية و من ثم إلغائها ، كخطوة نحو تحرير التجارة الخارجية.
– كذلك إعادة تأهيل التشريع و التنظيم المسيرين للتجارة الخارجية للوصول إلى إطار قانوني للتجارة الخارجية مطابق لقواعد و مبادئ المنظمة العالمية للتجارة . و في الجزائر قد تسارعت وتيرته كرد فعل لإرادة الجزائر الصريحة للإندماج في الإقتصاد العالمي .
– تكريس مبدأ حرية الإستيراد و التصدير و النص على أن كل عمليات التجارة الخارجية مفتوحة لكل شخص طبيعي أو معنوي يمارس بصفة منتظمة نشاطا إقتصاديا .و في الجزائر قد تكرس ذلك من خلال إصدار الأمر 03/04 المؤرخ في 19/07/2003 و المتعلق بالقواعد العامة المطبقة على عمليات إستيراد البضائع و تصديرها .
– كذلك تفكيك الإحتكارات العمومية للنشاطات الإقتصادية ، مثلا في الجزائر إلغاء إحتكار التبغ في 2001.
– و بعد أن كانت التجارة الخارجية حكرا على الدولة في الدول النامية ، أصبح القطاع الخاص يتدخل في حوالي ثلثي حجم الإستيراد الكلي للبلد ، مشكلا بالتالي القطاع المحرك للتجارة الخارجية .
المحور الثاني: مقومات و معوقات تحرير التجارة الخارجية:

المقومات:
يرى المؤيدون لفكرة إقامة منطقة التجارة الحرة بالدول النامية و الدول العربية وجود العديد من المقومات تؤيد نجاح الفكرة ، و تتمثل في :
أ/الشروط الأساسية:
1- توفر الإرادة السياسية: حيث أن عملية التكامل الإقتصادي عملية سياسية و إقتصادية في آن واحد ، و وجود القرار السياسي شرط ضروري لقيام منطقة التجارة الحرة .
2- السند القانوني لمنطقة التجارة الحرة: لابد من الإستناد على إتفاقية تيسير و تنميةالتبادل التجاري بين الدول كإطار قانوني و الذي يعتبر ملزما للدول الأعضاء في منطقة التجارة الحرة ، مثل إتفاقية جامعة الدول العربية 1981.
3- البرنامج الزمني لإقامة منطقة التجارة الحرة: وجود برنامج زمني لأي منطقة تجارة حرة أمرا ضروريا للإعتراف الدولي بها ، و خاصة من طرف منظمة التجارة العالمية.
4- الإطار المؤسسي الفاعل: لابد من وجود إطار مؤسسي للإشراف على تنفيذ إلتزامات الدول الأعضاء في منطقة التجارة الحرة ، و فض المنازعات التي تنشأ في هذا المجال.
ب/الشروط الموضوعية:
1- وجود نظم إقتصادية تقوم على الحرية الإقتصادية و إعمال آليات السوق : حيث يمكن لآليات السوق أن تعمل على تحقيق التخصص الإنتاجي و تقسيم العمل بين الدول الأعضاء على أساس ما تتمتع به كل دولة من مزايا نسبية و تنافسية.
2- توفر إنتاج سلعي قابل للتداول : و يعني ذلك أن الدول العضوة التي تمتلك قواعد إنتاجية متنوعة زراعية و صناعية تنتج كميات كبيرة من السلع تفوق حاجات الطلب المحلي لكل دولة .
3- تقارب مستويات التطور الإقتصادي: و ذلك لان الدول التي تتقارب فيها مستويات التطور الإقتصادي تتوزع مكاسب التكامل فيما بينها بشكل متقارب و أكثر عدالة ، و هو ما يسهل عملية التخصص الإنتاجي ، و إعادة توزيع الموارد بين الدول العربية داخل منطقة التجارة الحرة عند قيامها.
المعوقات:
على الرغم من المقومات التي تزيد من فرص نجاح منطقة التجارة الحرة .. إلا أن هناك العديد من المشاكل التي تواجه التطبيق الفعلي للبرنامج التنفيذي ، و أهم هذه المعوقات:
1- إصرار العديد من الدول على فرض قيود غير جمركية على الكثير من السلع .
2- المبالغة من جانب معظم الدول النامية في حماية القطاع الزراعي ، و لجوء معظمها إلى فرض الحظر على إستيراد بعض المنتجات الزراعية من الدول الأعضاء.
3- ضعف المقومات المشجعة على التكتل الإقليمي بين الدول الإفريقية و العربية ، مثل وسائل النقل و الإتصالات و ضمان الإستثمارات .
4- إستمرار بقاء الدول النامية و الجزائر على هامش النظام التجاري الدولي بنسبة متواضعة جدا من حجم التجارة العالمية السلعية، و تركز صادراتها في النفط و مشتقاته .
5- التدخل الحكومي في إدارة إقتصاديات الدول النامية و العربية بما فيهم الجزائر ، و في عمل السوق بشكل زائد إلى جانب تناقض معدلات النمو الإقتصادي ، و الإعتماد على إستيراد الغذاء من الخارج ، و عدم وجود قاعدة صناعية ، و الإعتماد على التجارة مع الدول المتقدمة بشكل أساسي.
6- أخذ معظم الدول الأعضاء ببرامج الإصلاح الإقتصادي إلى جانب الإلتزام بمبادئ إتفاقيات منظمة التجارة العالمية، و هو ما يعني القضاء على السياسات الحمائية التي كانت تطبق في معظم الدول العربية ، و تراجع أهمية النفط و السلع الزراعية الرئيسية في صادرات الدول العضوة لصالح المنتجات الصناعية.

المحور الثالث: آليات تحرير التجارة الخارجية:
1/ عقد إتفاقية الشراكة الأورومتوسطية مع الإتحاد الأوروبي :
يعتبر الإتحاد الأوروبي المورد الأول للجزائر ، من حيث الواردات ، و قد تبنى الطرفين الشراكة الأورومتوسطية (27.28 نوفمبر 1985) في مدينة برشلونة الإسبانية ، إذ إجتمع وزراء خارجية الدول الأوروبية المنخرطة في الإتحاد الأوروبي مع نظرائهم من وزراء خارجية الدول المطلة على البحر المتوسط . و كان الهدف المرسوم هو الوصول إلى إنشاء منطقة مشتركة مبنية على التطور الإقتصادي و الإجتماعي المستمر و المتوازن.
و تتمثل أهداف هذه الشراكة في التنمية الإقتصادية و الإجتماعية المستدامة ، من خلال بناء منطقة تبادل حر (أورومتوسطية) واسعة. فهدف أوروبا هو إقتحام أسواق جديدة في دول جنوب و شرق المتوسط .أما الدول المتوسطية و خاصة الدول العربية فهدفها الإرتباط بواحدة من أكبر القوى الإقتصادية و العالمية ، كمحرك للتنمية و الإندماج في الإقتصاد العالمي . و الإستفادة من فتح السوق الأوروبية أمام صادراتها الصناعية ، و تخفيض القيود على الصادرات الزراعية . و الحصول على على مساعدات و قروض و جلب رؤوس الأموال الأجنبية من أوروبا ، و الإستفادة من نقل التكنولوجيا من الدول الأوروبية. و لتحقيق تبادل تجاري حر تطلب ذلك دعما ماليا معتبرا لدعم دول جنوب و شرق المتوسط ، و تجسيد ذلك من خلال :
برنامج ميدا meda و المساعدات المالية:
حيث منحت أوروبا 3435 مليون أورو في الفترة ما بين 1995 و 1999 للدول العربية ، و برنامج آخر من 2000-2006 . بالمقابل تحرير التجارة حتى تصبح بلا حدود ولا حواجز.
فيما يخص الجزائر: إنضمت إلى الشراكة في 1995 و بدأت المفاوضات في 1997 و في بروكسل أعلنت الجزائر مطالبها المغايرة للإتفاق ، و أهمها رفض الجزائر الإنفتاح الكلي للأسواق الذي طالبت به دول الإتحاد الأوروبي ، و إقترحت أن يكون الإنفتاح تدريجي للأسواق ، ليتم تطوير الإقتصاد الجزائري .
و في 22 أفريل 2022 وقعت الجزائر إتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي بفالانسيا الإسبانية . و قد تمحورت حول إقامة منطقة تبادل حر ، و التفكيك الجمركي بين الطرفين تدريجيا على مدى 10سنوات ، إبتداءا من 2022 ، ثم إلغاء جميع الرسوم الجمركية على المواد المصنعة الأوروبية بعد دخول الجزائر منطقة التبادل الحر مطلع 2022 ، هذا يهدف إلى تحرير الإقتصاد الوطني ، و فتح أسواق جديدة.
2/إنضمام الجزائر إلى المنظمة العالمية للتجارة:
تم إنشاء منظمة التجارة الدولية في 1995 من أجل التخفيف من الحواجز و القيود الجمركية بين الدول . و قد أنشئت بدلا للـ GATT . حيث كان من أهم مبادئها إلغاء القيود الجمركية و تحويلها إلى رسوم جمركية و الخفض العام و المتتالي للرسوم الجمركية . و رغم أن إيجابيات إنضمام الجزائر إلى المنظمة العالمية للتجارة أقل بكثير من سلبياتها ، لكن يبقى من الضرورة إندماج الجزائرفي الإقتصاد العالمي ، فهذا يلزمها بتبني إستراتيجية تقوم على هيكلة إقتصادها قصد تحسين وضعها ، و تخفيض درجة إعتمادها على الخارج . من أجل تنقيص السلبيات . و لتكون المحصلة لصالح الإقتصاد الجزائري.
3/إعلان برنامج الإنعاش الإقتصادي بالجزائر:
في أفريل 2001 أعلنت الحكومة عن برنامج الإنعاش الإقتصادي ، و هو مخطط مكمل للميزانية لفترة أربعة سنوات 2001-2004 ، رصدت له حوالي 7مليار دولار وجهت لتنمية الهياكل القاعدية ، لجلب الإستثمارات بإنعاش الطلب و تخفيض البطالة ، و القضاء على الفقر ، و من أهدافه تمويل المشاريع و الهياكل القاعدية لتوفير المناخ المناسب لإستقطاب رأسمال أجنبي يساعد على تحقيق النمو الإقتصادي . و بالمقابل ترقية منافسة المؤسسات المحلية ، و يعمل على تبسيط الإجراءات الجمركية و تخفيض بعض بنود التعريفة الجمركية . و يهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة لمواكبة التطورات العالمية الراهنة ، لتكون الجزائر فضاء إقتصادي ناجح ، قادر على الإنضمام للعولمة.
المحور الرابع: سلبيات و إيجابيات تحرير التجارة الخارجية:
الإيجابيات:
1- إن فتح الأسواق و تحريرها يحفز الإستثمار،و يؤدي إلى تطوير الطاقات الكامنة و تنمية الإقتصاد.
2- كذلك يؤدي إلى مبادرة القطاع الخاص.
3- و يتم تحويل التكنولوجيا و الدراية المتطورة و تقنيات التسيير .
4- و من الإيجابيات كذلك دخول المؤسسات الإقتصادية إلى المنافسة في ظل إقتصاد السوق و العولمة ، مما يحسن مستواها و إنتاجها.
5- كذلك تطوير الصادرات خارج المحروقات بالنسبة لدول الجنوب ، و خلق مناصب شغل.
6- تحقيق إنتعاش إقتصادي و خروج البلاد الصناعية من حالة الكساد الذي تعاني منه ، هذا يؤدي إلى زيادة و نمو إقتصادياتها ، و ينطبق على الجزائر كما ينطبق على الدول النامية .
7- و إرتفاع الأسعار عن المنتجات المستوردة من الدول المتقدمة في ظل السوق المفتوح يؤدي إلى زيادة ربحية المنتجات المحلية ، و هذا يحفز المنتجين الزراعيين في الجزائر بالإهتمام أكثر بهذا القطاع.
8- و تخفيض الرسوم الجمركية على السلع الأساسية و مستلزمات الإنتاج يؤدي إلى تخفيض أعباء و تكاليف الإنتاج المحلي و تخفيض معدلات التضخم الناتج عن التكلفة و منه إستقرار المستوى .

السلبيات:

1- إن إزالة التعريفات الجمركية بشكل متسرع ، قد يؤدي إلى مواجهة شركات الدول النامية لمنافسة جديدة من الشركات الأوروبية ، لا قدرة لها على التكافؤ معها ، مما يؤدي إلى إفلاسها ، و فتح أسواق أمام المصنوعات الأوروبية سيضاعف من إختلالات الموازين التجاريةللدول النامية ، و إذا ما تم إغفال مصلحة أحد طرفي الشراكة فلن تكون منطقة التجارة الحرة سوى توسيع للسوق الأوروبية نحو الجنوب.
2- إن إزالة التعريفات الجمركية يؤدي كذلك إلى إضعاف إيرادات الموازنات العامة للدول النامية ، مما سيفوق مقدرة الإنفاق على مشاريع التنمية ، و على إتخاذ سياسات صناعية و إجتماعية تعويضية للتخفيف من الأزمات الناجمة عن إزالة التعريفات الجمركية.
3- و بالمقابل ستبقى الأسواق الأوروبية مغلقة أمام المنتجات الزراعية للدول النامية التي ستخضع إلى نظام صارم ، و لن تفتح إلا ضمن الحدود المسموح بها في نطاق السياسة الزراعية للإتحاد الأوروبي .
4- بالنسبة للجزائر ، بما أن حصة المحروقات تمثل 98% من صادراتها ، هذا يعني أنها لا تستفيد من أية مزايا يتيحها الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية.
5- إن الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية يستوجب الخضوع لإتفاقية الجات المتعلقة برفع الدعم على المنتجات الزراعية ، مما يؤدي لإرتفاع تكلفة فاتورة الواردات الغذائية ، بما أن الجزائر تعاني من التبعية الغذائية.
6- بالنسبة لتجارة الخدمات ، فإن تحرير التجارة الخارجية للخدمات ، يضع المؤسسات الجزائرية في ورطة ، نتيجة لمنافسة المؤسسات الأجنبية و المزودة بالتكنولوجيا و التغذية المتقدمة ، و خدمات عالية الجودة و الخبرة الإدارية و التسويقية المتطورة.. هذا يؤثر على الإقتصاد الوطني.
7- إن الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية كخطوة لتحرير التجارة الخارجية يستوجب الخضوع (لإتفاقية حماية الملكية الفكرية )، بحيث لن يكون بإستطاعة الدول النامية إنتاج منتجات مماثلة لمنتجات الدول المتقدمة لكن بطرق تصنيع مختلفة و بأقل تكلفة . و يصبح لزاما عليها أن تدفع بإستمرار حقوقا للشركات صاحبة الإختراع . من أجل إنتاج منتجات مماثلة لمنتجاتها ، هذا يؤدي لإرتفاع تكاليف هذه المنتجات المحلية ، و سيؤثر على درجة منافستها ، و في حالة رفضها الدفع ، هذا يستوجب تخليها عن إنتاجه ، و بالتالي ستعاني من التبعية للسوق الخارجية.
8- و الإنضمام للمنظمة العالمية للتجارة ، يستوجب التفكيك الجمركيلتحرير التجارة بين الدول الأعضاء، فتتكبد الخزينة العمومية خسائر معتبرة ، تتمثل في نقص الإرادات بـ 25% من المداخيل الجبائيةلأن مصدرها التحصيلات الجمركية.
9- و تخفيض التعريفة الجمركية ثم إلغائها كليا، سيؤدي لإرتفاع وتيرة الإستيراد على حساب التصدير.فيختل ميزان المدفوعات ، و تحدث منافسة داخل الدول .
الخاتمة:
عرفت الجزائر تفتحا كبيرا على العالم الخارجي إرتكز أساسا في عقد إتفاقية الشراكة ، و ما سينتج عنها من آثار سلبية و إيجابية على الإقتصاد الوطني، و كذا في إصرارها المستمر على الإنضمام للمنظمة العالمية للتجارة . هذا كله أدى بالجزائر إلى إتباع سياسة إقتصادية تمثلت في برنامج الإنعاش الإقتصادي ، الهدف منها هو إعداد الأرضية المناسبة للإستثمار و بالتالي التأقلم مع هذا الإنفتاح . و بالرغم من تعدد الإصلاحات و تنوعها و الهادفة إلى القضاء على تبعية الإقتصاد الوطني للبترول ، إلا أن الصادرات خارج المحروقات لحد الآن مازالت هامشية و تمثل نسبا ضئيلة من الصادرات الجزائرية. و هي تمثل إشكالية كبرى في التجارة الخارجية الجزائرية جراء ضعف المجهودات المبذولة لترقيتها.


التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

العلاقات الأوربية المغاربية

ملتقى العلاقات الأوربية المغاربية

مقدمة حول العلاقات الأوربية المغاربية

لقد عرفت دراسة العلاقات الدولية عبر تطورها العديد من التغيرات على مستوى مناهجها أو المسلمات الرئيسية فيها، فقد ساد لوقت طويل أن العلاقات الدولية تمثل في الأساس العلاقة بين مجموع الدول التي تكون النظام الدولي ، فكانت الدولة و لوقت طويل وحدة التحليل المركزية في دراسة العلاقات الدولية و هذا ما تأكد مع دخول الدراسة مرحلة العلمية من خلال ظهور المدرسة الواقعية التي عملت على تكريس هذه المسلمة كما هو معروف، غير أن مجموع النقاشات الفكرية و العلمية التي شهدتها مرحلة الخمسينيات في مجال العلاقات الدولية جعلت من التسليم بأن الدولة هي الفاعل الوحيد في دراسة الع. الد أمر يجب تجاوزه و اعتباره طرح تقليدي كون الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية ، و أن مصالحها تقتضي التصرف دائما بالقوة تجاه الوحدات السياسية الأخرى. فالمدخل الصراعي التنازعي لتحقيق مصلحتها لم يعد مجد خاصة في ظل ارتفاع تكلفة الحروب و حجم الدمار الذي تخلفه ( الحربين العالميتين الأولى و الثانية)، بحيث لم يعد بمقدور الدول تحمل أعباء و تبعات مثل هذه السلوكات الحربية. فكان المجال عندها مفتوح للبحث عن مداخل أخرى بشكلها السلمي لضبط العلاقات بين الدول بما يحقق الأمن و السلم الدوليين و تطورت هذا التوجه من خلال ظهور أبحاث السلام خاصة عبر الفكر الوظيفي و ما جاء به من مفاهيم و مفردات جديدة في العلاقات الدولية كانت بمثابة التغيير الفعلي في أبجديات الع. الد و زعزعة للمسلمات التقليدية، و قد تدعمت مثل هذه الأطروحات الفكرية بانجازات على المستوى الميداني أثمرت عن ظهور محاولات لتحقيق نوع من التكامل و الاعتماد المتبادل بين الدول وفق منهج سلمي تعاوني كان أبرزها التجربة التكاملية للاتحاد الأوروبي،و إحياء دور الأمم المتحدة كمنظمة دولية مسؤولة عن تحقيق الأمن و الاستقرار الدوليين.
و قد لاقت مثل هذه التوجهات قبولا على المستوى الفكري و كذلك الواقعي لتعرف بعدها العلاقات بين الدول عصر التكتلات و التكاملات في مستواها الاقتصادي أو السياسي، بعدما أثبتت التجارب ميزات لهذا المدخل السلمي التعاوني على الدول على مستوى النظام الدولي العالمي أو الإقليمي.
بالتالي في تركيزنا على الجانب التعاوني في العلاقات الدولية سنحاول التطرق من خلال هذا الملتقى إلى جانب فرعي من هذه التفاعلات الدولية ، إذ سنحاول دراسة ما يعرف بالتعاون الأوروبي المغاربي .
لكن قبل الشروع و الحديث عن المواضيع المتعلقة بهذه العلاقة ينبغي منهجيا و مراعاة للدراسة العلمية الأكاديمية التطرق أولا إلى وضع الإطار النظري و الخلفية الفكرية التي سنعالج من خلالها موضوع الملتقى و نحاول فهم هذه العلاقات في هذه الرقعة الجغرافية من العالم.
لهذا فالإشكالية المحورية في هذا الملتقى هي مرتبطة: بماذا و كيف سندرس مضمون هذه العلاقة ؟ و ما هي الزاوية الفكرية المناسبة لفهمها و تفسيرها ؟ هل من خلال: – مستوى التحليل النظامي؟ كذلك كيف سندرسها هل عبر فترة تاريخية واحدة مستمرة أم عبر فترات تاريخية مختلفة؟
لهذا سنحاول تبيين طبيعة العلاقات بين هذه الوحدات ) الاتحاد الأوروبي ، دول المغرب العربي (. و الوقوف على مجالاتها، ميادينها، وكذا معوقات تفعيلها…
الفرضية:
1- سندرس العلاقات الأورومغاربية من خلال مستوى النظام الفرعي (تحليل نظامي).
2- سندرس العلاقات الأورومغاربية عبر مراحل تاريخية من خلال المنهج التاريخي المقارن.

هناك 03 تقاليد رئيسية في العلاقات الدولية:
1- المجتمع الدولي.
2- النظام الدولي.
3- المدرسة الواقعية.
كما أشرنا سابقا، فإن ميزة العلاقات و التفاعلات الدولية بعد الخمسينيات -مع ظهور الفكر الوظيفي- أصبحت تميل إلى المدخل التعاوني السلمي في تنظيم علاقاتها، لهذا سنتبنى في دراستنا لهذه العلاقات المغاربية الأوروبية طرح الدراسة النظامية من خلال التركيز على منطقة جغرافية (إقليم) كجزء من الكل أي النظام الدولي و الذي يمثل مجموعة من الفواعل لتي تتفاعل فيما بينها ( دول ، مؤسسات…)، لذا فنتبنى التحليل النظامي، أي من منظور نظام فرعي جيوبوليتيكي.
لهذا فالزاوية الفكرية المناسبة لهذه الدراسة تتمثل في الدراسة النظامية و ذلك للعديد من الاعتبارات:
– يمكن التركيز على البعد الجغرافي لهذه العلاقات ، فنجد بأنها تضم وحدات سياسية من منطقة جغرافية أو إقليم جغرافي واحد ، على إعتبار أن هذه الوحدات تحاول إيجاد نوع من التكيف القانوني في ظل نظام إقليمي .
– المنظور الجديد يؤكد على ضرورة الاعتراف بزيادة تعقد هيكل النظام الدولي بسبب تنوع و تعدد الفواعل على الساحة الدولية بحيث أن دراسة العلاقات الدولية امتدت إلى مستويات أخرى غير المستوى العادي الذي كانت تسيطر فيه الحكومات و الدول علي جل التفاعلات الدولية ، إذ ظهرت هناك من مستويات التفاعل ما هي فوق قومية ، أو عبر حكومية ..الخ
و يتميز التحليل النظامي الفرعي بمجموعة من الخصائص:
– وجود انتظامات في السلوك السياسي يمكن التعبير عنها من خلال تعميمات و نظريات عامة .
– هناك إمكانية للاختبار من صحة هذه النظريات و التعميمات.
– وجود تقنيات لجمع المعلومات و تفسيرها.
– إتباع الأساليب الكمية و القياس في تسجيل البيانات.
المنهج المتبع هو: مؤسساتي تعددي.
بعد تحديد إطار الدراسة و المنتهج المتبع، نتطرق إلى الإشكالية الثانية المتعلقة بدراسة العلاقات عبر فترة تاريخية متصلة أو عبر فترات تاريخية متقطعة و يمثل هذا الزاوية الفكرية الثانية التي يمكن أن ندرس من خلالها العلاقات.
فيمكن التطرق دراسة إلى العلاقات الأوربية المغاربية من خلال دراسة تاريخية و فق منهج تاريخي مقارن لمختلف المراحل التي مرت بها هذه العلاقات و كذلك مختلف التطورات و الخصائص التي ميزت كل مرحلة ، وذلك من مرحلة الحوار العربي الأوروبي ،إلى مرحلة التعاون الأرومتوسطي ، وصولا إلى المرحلة التي تعرف بالشراكة.

من المؤكد بأن التطورات التي توصلت إليها النقاشات الفكرية في مجال العلاقات الدولية قد انتقلت بنا إلى مستوى معين من التفكير الذي استطعنا من خلاله تجاوز الطرح التقليدي الذي مفاذه بأن الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية ، و أن مصالحها تقتضي التصرف دائما بالقوة تجاه الوحدات السياسية الأخرى .
و بالتالي فقد أصبح هناك طرح مغاير تماما لما سبق ، فالعلاقات الدولية و في مراحل تاريخية مختلفة عرفت بلورة نوعين من العلاقات أو من التفاعلات ، فهناك تفاعلات نزاعية صراعية و أخرى تعاونية سلمية ،و الأكيد بأن هذه الأخيرة هي التي سيطرت على التفكير في العلاقات الدولية و حتى على مستوى واقع العلاقات الدولية . و بالتالي في تركيزنا على الجانب التعاوني في العلاقات الدولية سنحاول تخصيص دراستنا في جانب صغير من هذه التفاعلات الدولية ، إذ سنحاول دراسة ما يعرف بالتعاون الأوروبي المغاربي .

لهذا فمن الضروري تحديد الأطر الفكرية أو العلمية التي من خلالها يمكن فهم هذه العلاقات في هذه الرقعة الجغرافية من العالم ، و ذلك بمحاولة التعرف على طبيعة العلاقات بين هذه الوحدات ) أروبا ، المغرب العربي ( بتحديد ما إذا كانت العلاقات فعلا تعون أم تبادل أم شراكة ….
ثم محاولة تحديد مميزات هذه العلاقات و كذا مجالاتها ، إضافة إلى التعرض للمعوقات أو ا لمشاكل التي تهدد هذه العلاقات . لكن قبل هذا وذاك لا بد من تحديد الإطار النظري أو الزاوية الفكرية التي من خلالها يمكن الانطلاق في هذه الدراسة ، و بالتالي : كيف يمكن دراسة العلاقات الأوروبية المغاربة ؟ و من أي زاوية فكرية يمكن التطرق لهذه العلاقات ؟

من المعروف بأن هناك ثلاث تقاليد في العلاقات الدولية تعتبر بمثابة المفاتيح التحليلية في دراسة موضوعات العلاقات الدولية، فنجد المجتمع المدني ، النظام الدولي ، ونجد المدرسة الواقعية .و الأكيد بأن كل واحدة من هذه التقاليد يمثل واحدة من المداخل الفكرية التي سنحاول من خلالها دراسة نموذج العلاقات الأوربية المغاربية .
فيمكن الانطلاق في الدراسة من منطلق المجتمع الدولي باعتباره مجموعة من الفواعل لتي تتفاعل فيما بينها .كما يمكن الانطلاق من منطلق نظمي بالتركيز على نظام إقليم معين أي نظام فرعي sub system، كما يمكن الإعتماد كذلك على المدرسة الواقعية و بما جاءت به من أفكار كمرجعية فكرية .هذا من جهة .
و من جهة أخرى ، يمكن التطرق إلى العلاقات الأروبية المغاربية من خلال الدراسة وفق عقلانية زمنية ، أو عن طريق دراسة تاريخية لمختلف المراحل التي مرت بها هذه العلاقات و كذلك مختلف التطورات و الخصائص التي ميزت كل مرحلة ، وذلك من مرحلة الحوار العربي الأروبي ،إلى مرحلة التعاون الأرومتوسطي ، وصولا إلى المرحلة التي تعرف بالشراكة .
يمكن أن نستنتج من خلال ماحاولنا تحديده من مداخل لدراسة العلاقات الأروبية المغاربية أن الزاوية الفكرية المناسبة لهذه الدراسة تتمثل في الدراسة النظامية و ذلك للعديد من الأعتبارات :
فمن جهة يمكن التركيز على البعد الجغرافي لهذه العلاقات ، فنجد بأنها تضم وحدات سياسية من منطقة جغرافية أو إقليم جغرافي واحد ، على إعتبار أن هذه الوحدات تحاول إيجاد نوع من التكيف القانوني في ظل نظام إقليمي .
و من جهة أخرى يمكن القول بأن المنظور الجديد يؤكد على ضرورة الإعتراف بزيادة تعقد هيكل النظام الدولي بسبب تنوع و تعدد الفواعل على الساحة الدولية بحيث ان دراسة العلاقات الدولية امتدت إلى مستويات أخرى غير المستوى العادي الذي كانت
تسيطر فيه الحكومات و الدول علي جل التفاعلات الدولية ، إذ ظهرت هناك من مستويات التفاعل ما هي فوق قومية ، أو عبر حكومية ..الخ.

و بالتالي من الضروري الإعتماد على مستوى النظام الإقليمي في تحليل هذه الأنواع الجديدة من التفاعلات و الترابطات ،حيث أن التحليل وفق النظام الفرعي كأداة للتحليل مرتبط بتصورين :
1-بعد أن أثبتت الدولة عجزها عن بلورة علاقات ذات طابع سلمي، إضافة إلى فشلها في تحقيق الأمن و السلم،جاء دور فواعل جديدة في العلاقات الدولية غير الدول ) منظمات ،مؤسسات عبر وطنية …( و ذلك لتحقيق نوع من التعاون الوظيفي بين الدول خاصة مع التحول الكبير في مفهوم القوة ، والتراجع التدريجي لسيطرة مفهوم القوة العسكرية لصالح القوة الاقتصادية ،إضافة إلى تراجع مفهوم الأيديوليجية لصالح تطور الاهتمامات الاقتصادية .
2- التطور الكبير الحاصل على مستوى الأفكار السلوكية ، و ما جاءت به نظريات التكامل الوظيفي و خاصة أفكار الوظيفية الجديدة و ما استحدثته من مفاهيم جديدة أرادت من خلالها تكيف الترابطات الجديدة في نوع من التفسير العلمي )الإعتماد المتبادل .

وبهذا اكون قد انتهيت من عرض الموضوع الاول والحمد لله
والى موضوع اخر اترككم في رعاية الله وحفضه


التصنيفات
العلوم السياسية و العلاقات الدولية

البرلمان


البرلمان

تنظيم البرلمان

يتكون البرلمان من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين، ويستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة وحقهم في التصويت حق شخصي لا يمكن تفويضه.

ينتخب أعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات؛ وتنتهي عضويتهم عند افتتاح دورة أكتوبر من السنة الخامسة التي تلي انتخاب المجلس.

ويبين قانون تنظيمي عدد أعضاء مجلس النواب ونظام انتخابهم وشروط القابلية للانتخاب وأحوال التنافي ونظام المنازعات الانتخابية.

وينتخب رئيس مجلس النواب أولا في مستهل الفترة النيابية ثم في دورة أبريل للسنة الثالثة من هذه الفترة، وذلك لما تبقى منها.

وينتخب أعضاء مكتب المجلس لمدة سنة على أساس التمثيل النسبي لكل فريق.

يتكون ثلاثة أخماس مجلس المستشارين من أعضاء تنتخبهم في كل جهة من جهات المملكة هيئة ناخبة تتألف من ممثلي الجماعات المحلية، ويتكون خمساه الباقيان من أعضاء تنتخبهم أيضا في كل جهة هيئات ناخبة تتألف من المنتخبين في الغرف المهنية وأعضاء تنتخبهم على الصعيد الوطني هيئة ناخبة تتألف من ممثلي المأجورين.

ينتخب أعضاء مجلس المستشارين لمدة تسع سنوات، ويتجدد ثلث المجلس كل ثلاث سنوات، وتعين بالقرعة المقاعد التي تكون محل التجديدين الأول والثاني، ويحدد بقانون تنظيمي عدد أعضاء مجلس المستشارين ونظام انتخابهم وعدد الأعضاء الذين تنتخبهم كل هيئة ناخبة وتوزيع المقاعد على مختلف جهات المملكة وشروط القابلية للانتخاب وحالات التنافي وطريقة إجراء القرعة المشار إليها أعلاه وتنظيم المنازعات الانتخابية.

ينتخب رئيس مجلس المستشارين وأعضاء مكتبه في مستهل دورة أكتوبر عند كل تجديد لثلث المجلس، ويكون انتخاب أعضاء المكتب على أساس التمثيل النسبي لكل فريق.

عند تنصيب مجلس المستشارين لأول مرة أو بعد حل المجلس الذي سبقه ينتخب رئيسه وأعضاء مكتبه في أول دورة تلي انتخاب المجلس ثم يجدد انتخاب الرئيس وأعضاء المكتب في مستهل دورة أكتوبر عند تجديد ثلث المجلس.

لا يمكن متابعة أي عضو من أعضاء البرلمان ولا البحث عنه ولا إلقاء القبض عليه ولا اعتقاله ولا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك.

ولا يمكن في أثناء دورات البرلمان متابعة أي عضو من أعضائه ولا إلقاء القبض عليه من أجل جناية أو جنحة غير ما سبقت الإشارة إليه في الفقرة الأولى من هذا الفصل إلا بإذن من المجلس الذي ينتمي إليه ما لم يكن العضو في حالة تلبس بالجريمة.

ولا يمكن خارج مدة دورات البرلمان إلقاء القبض على أي عضو من أعضائه إلا بإذن من مكتب المجلس الذي هو عضو فيه ما عدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب.

يوقف اعتقال عضو من أعضاء البرلمان أو متابعته إذا صدر طلب بذلك من المجلس الذي هو عضو فيه ما عدا في حالة التلبس بالجريمة أو متابعة مأذون فيها أو صدور حكم نهائي بالعقاب.

يعقد البرلمان جلساته في أثناء دورتين في السنة، ويرأس الملك افتتاح الدورة الأولى التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر وتفتتح الدورة الثانية يوم الجمعة الثانية من شهر أبريل.

إذا استمرت جلسات البرلمان ثلاثة أشهر على الأقل في كل دورة جاز ختم الدورة بمقتضى مرسوم.

يمكن جمع البرلمان في دورة استثنائية إما بطلب من الأغلبية المطلقة لأعضاء أحد المجلسين وإما بمرسوم.

تعقد دورة البرلمان الاستثنائية على أساس جدول أعمال محدد، وعندما تتم المناقشة في المسائل التي يتضمنها جدول الأعمال تختم الدورة بمرسوم.

للوزراء أن يحضروا جلسات كلا المجلسين واجتماعات لجانهما؛ ويمكنهم أن يستعينوا بمندوبين يعينونهم لهذا الغرض.

علاوة على اللجان الدائمة المشار إليها في الفقرة السابقة يجوز أن تشكل بمبادرة من الملك أو بطلب من أغلبية أعضاء أي من المجلسين لجان نيابية لتقصي الحقائق يناط بها جمع المعلومات المتعلقة بوقائع معينة وإطلاع المجلس الذي شكلها على النتائج التي تنتهي إليها أعمالها، ولا يجوز تكوين لجان لتقصي الحقائق في وقائع تكون موضوع متابعات قضائية ما دامت هذه المتابعات جارية؛ وتنتهي مهمة كل لجنة لتقصي الحقائق سبق تكوينها فور فتح تحقيق قضائي في الوقائع التي اقتضت تشكيلها.

لجان تقصي الحقائق مؤقتة بطبيعتها وتنتهي مهمتها بإيداع تقريرها.

يحدد قانون تنظيمي طريقة تسيير لجان تقصي الحقائق.

جلسات مجلسي البرلمان عمومية، وينشر محضر المناقشات برمته بالجريدة الرسمية.

ولكل من المجلسين أن يعقد اجتماعات سرية بطلب من الوزير الأول أو بطلب من ثلث أعضائه.

يضع كل من المجلسين نظامه الداخلي ويقره بالتصويت، ولكن لا يجوز العمل به إلا بعد أن يصرح المجلس الدستوري بمطابقته لأحكام هذا الدستور.

سلط البرلمان

يصدر القانون عن البرلمان بالتصويت.

وللقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود ولغاية معينة بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتخاذها ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها، غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة عند انتهاء الأجل الذي يحدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل مجلسي البرلمان أو أحدهما.

يختص القانون بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى من الدستور بالتشريع في الميادين الآتية :

-الحقوق الفردية والجماعية المنصوص عليها في الباب الأول من هذا الدستور؛

-تحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها والمسطرة الجنائية والمسطرة المدنية وإحداث أصناف جديدة من المحاكم؛

-النظام الأساسي للقضاة؛

-النظام الأساسي للوظيفة العمومية؛

-الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين؛

-النظام الانتخابي لمجالس الجماعات المحلية؛

-نظام الالتزامات المدنية والتجارية؛

-إحداث المؤسسات العمومية؛

-تأميم المنشآت ونقلها من القطاع العام إلى القطاع الخاص.

للبرلمان صلاحية التصويت على قوانين تضع إطارا للأهداف الأساسية لنشاط الدولة في المبادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن المواد الأخرى التي لا يشملها اختصاص القانون يختص بها المجال التنظيمي.

النصوص التشريعية من حيث الشكل يمكن تغييرها بمرسوم بعد موافقة المجلس الدستوري إذا كان مضمونها يدخل في مجال من المجالات التي تمارس فيها السلطة التنظيمية اختصاصها.

يمكن الإعلان عن حالة الحصار لمدة ثلاثين يوما بمقتضى ظهير شريف، ولا يمكن تمديد أجل الثلاثين يوما إلا بالقانون.

يصدر قانون المالية عن البرلمان بالتصويت طبق شروط ينص عليها قانون تنظيمي.

يصوت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز التي يتطلبها إنجاز مخطط التنمية، وذلك عندما يوافق على المخطط، ويستمر مفعول الموافقة تلقائيا على النفقات طوال مدة المخطط، وللحكومة وحدها الصلاحية لتقديم مشاريع قوانين ترمي إلى تغيير البرنامج الموافق عليه كما ذكر.

إذا لم يتم في نهاية السنة المالية التصويت على قانون المالية أو صدور الأمر بتنفيذه بسبب إحالته إلى المجلس الدستوري تطبيقا للفصل 81، فإن الحكومة تفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية والقيام بالمهام المنوطة بها على أساس ما هو مقترح بالميزانية المعروضة بقصد الموافقة.

ويسترسل العمل في هذه الحالة باستخلاص المداخيل طبقا للمقتضيات التشريعية والتنظيمية الجارية عليها باستثناء المداخيل المقترح إلغاؤها في مشروع قانون المالية، أما المداخيل التي ينص المشروع المذكور على تخفيض مقدارها فتستخلص على أساس المقدار الجديد المقترح.

إن المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان ترفض إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة للقانون المالي إما إلى تخفيض الموارد العمومية وإما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود.

ممارسة السلطة التشريعية

للوزير الأول ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين.

توضع مشاريع القوانين بمكتب أحد مجلسي البرلمان.

للحكومة أن تدفع بعدم القبول كل اقتراح أو تعديل لا يدخل في اختصاص السلطة التشريعية.

وكل خلاف في هذا الشأن يفصل فيه المجلس الدستوري في ظرف ثمانية أيام بطلب من أحد مجلسي البرلمان أو من الحكومة.

تحال المشاريع والاقتراحات لأجل النظر فيها على لجان يستمر عملها خلال الفترات الفاصلة بين الدورات.

يمكن الحكومة أن تصدر خلال الفترة الفاصلة بين الدورات وباتفاق مع اللجان التي يعنيها الأمر في كلا المجلسين مراسيم قوانين يجب عرضها بقصد المصادقة في أثناء الدورة العادية التالية للبرلمان.

يودع مشروع المرسوم بقانون بمكتب أحد المجلسين، وتناقشه اللجان المعنية في كليهما بالتتابع بغية التوصل إلى قرار مشترك في شأنه، وإذا لم يتأت الاتفاق على ذلك داخل أجل ستة أيام من إيداع المشروع يباشر بطلب من الحكومة تشكيل لجنة ثنائية مختلطة من أعضاء المجلسين تتولى في ظرف ثلاثة أيام من عرض الأمر عليها اقتراح قرار مشترك على اللجان المختصة.

ويعتبر الاتفاق المنصوص عليه في الفقرة الأولى من هذا الفصل مرفوضا إذا لم تتمكن اللجنة الثنائية المختلطة من اقتراح قرار مشترك داخل الأجل المضروب لها أو إذا لم توافق اللجان البرلمانية المعنية على القرار المقترح عليها داخل أجل أربعة أيام.

يضع مكتب كل من مجلسي البرلمان جدول أعماله، ويتضمن هذا الجدول بالأسبقية ووفق الترتيب الذي تحدده الحكومة مناقشة مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة واقتراحات القوانين التي تقبلها.

تخصص بالأسبقية جلسة في كل أسبوع لأسئلة أعضاء مجلسي البرلمان وأجوبة الحكومة.

يجب أن تدلي الحكومة بجوابها خلال العشرين يوما التالية لإحالة السؤال إليها.

لأعضاء مجلسي البرلمان وللحكومة حق التعديل، وللحكومة بعد افتتاح المناقشة أن تعارض في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر.

ويبت المجلس المعروض عليه النص بتصويت واحد في النص المتناقش فيه كله أو بعضه إذا ما طلبت الحكومة ذلك مع الاقتصار على التعديلات المقترحة أو المقبولة من طرف الحكومة.

يتداول مجلسا البرلمان بالتتابع في كل مشروع أو اقتراح قانون بغية التوصل إلى اتفاقهما على نص واحد، ويتداول المجلس المعروض عليه الأمر أولا في نص مشروع القانون المقدم من الحكومة أو نص اقتراح القانون المسجل في جدول أعماله، ويتداول المجلس المحال إليه نص سبق أن صوت عليه المجلس الآخر في النص المحال إليه.

إذا لم يتأت إقرار مشروع أو اقتراح قانون بعد مناقشته مرتين في كلا المجلسين، أو مرة واحدة في كل منهما إذا أعلنت الحكومة الاستعجال، يجوز للحكومة أن تعمل على اجتماع لجنة ثنائية مختلطة من أعضاء المجلسين يناط بها اقتراح نص بشأن الأحكام التي ما زالت محل خلاف، ويمكن الحكومة أن تعرض النص الذي تقترحه اللجنة الثنائية المختلطة على المجلسين لإقراره، ولا يجوز في هذه الحالة قبول أي تعديل إلا بموافقة الحكومة.

إذا لم تتمكن اللجنة الثنائية المختلطة من اقتراح نص مشترك أو إذا لم يقر المجلسان النص الذي اقترحته يجوز للحكومة أن تعرض على مجلس النواب مشروع أو اقتراح القانون بعد أن تدخل عليهما عند الاقتضاء ما

تتبناه من التعديلات المقترحة خلال المناقشة البرلمانية، وفي هذه الحالة لا يمكن مجلس النواب أن يقر نهائيا النص المعروض عليه إلا بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم.

يعتبر أن مجلس النواب قد وافق على النص المعروض عليه بالأغلبية المطلقة لأعضائه في حالة إقراره عملا بأحكام الفقرة الثانية من الفصل 75.

يتم إقرار القوانين التنظيمية والتعديلات المدخلة عليها وفق الشروط المشار إليها أعلاه، بيد أن المجلس الذي يعرض عليه أولا مشروع أو اقتراح قانون تنظيمي لا يمكنه أن يتداول فيه أو يصوت عليه إلا بعد مرور عشرة أيام على تاريخ إيداعه لديه.

يجب أن يتم إقرار القوانين التنظيمية المتعلقة بمجلس المستشارين باتفاق بين مجلسي البرلمان على نص موحد.

لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية إلا بعد أن يصرح المجلس الدستوري بمطابقتها للدستور.