التصنيفات
تاريـخ,

الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض

الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض


الدكتور إبراهيم غانم

20/01/1431 الموافق
05/01/2010

حتى وقت قريب ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ولم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات، وحتى وقت قريب أيضاً ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً، ومن ذلك القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة، وأوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي.

ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر شراسة، ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر، إلى جانب أشكاله الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة الأخرى التي لا تزال تراوح مكانها. إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، كلها تشير إلى عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو يزيد عندما نهضت قوى الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي تدخل تلك المشكلات كلها تحت عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم(1)؟

لقد طرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين، لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من مائتي عام، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي تقود إلى النهضة.

وأياً ما كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عنه سوف تعبر عن مدى وكيفية فهم صاحب الإجابة للواقع الذي صار إليه حال المسلمين، ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري، كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو تساؤل "حساس" بالنسبة للمسلمين خاصة لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب للمناقشة حول "الإسلام ذاته" وما إذا كان سبباً في انحطاط المسلمين؛ حسبما يزعم البعض.

ويبدو لنا أن من اللازم بداية بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه وأهملوه، ولبسوه كما يُلبَس الفرو مقلوباً… فوصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.

وإذا كانت "العلة" في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم؟ ليس ثمة بد من طرح القضية ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة.

إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم "فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف.. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات، وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي، ولا تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد أو لا تهيئ لنفسها هذه العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في محاولتها هذه أحياناً تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في استلهامها هذا..

وأحياناً تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية الشعوب كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها"(2).

وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها نبوات موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية يظلها لواء العدل والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.

_______________________

الهوامش :
1 – صيغة هذا السؤال هي عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان، والكتاب عبارة عن جوابه، الذي يشرح فيه أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، ثم أسباب انحطاطهم مع بيان أسباب تقدم الأوروبيين.
2 – انظر: حسن البنا، دعوتنا في كتاب الله: من وظائف القائد جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 19ربيع الأول 1355ه -9 يونية 1936م.

__________________________________________________ _____

العوامل الداخلية لتأخر المسلمين

في سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا ما يمكن تسميته "دور المفسدين في تخريب الحضارات"، وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول ص حيث نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين والجهال وأدعياء العلم والمغالين.

ويمكن القول إن قضية الانحطاط الحضاري يجب النظر إليها في إطار ارتباطها بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم ومنها ما أكدته حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعياً وسياسياً حتى فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.

تشمل عوامل الضعف والانهيار النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، وقد تجسدت المحصلة النهائية التي أدت إليها تلك العوامل في حقيقة واقع الانحطاط. تلك الحقيقة تجسدت مرتين في حياة الأمة الإسلامية: كانت الأولى في القرن السادس الهجري، عندما تم تمزيق كيان الأمة والقضاء على الدولة الإسلامية المركزية بأيدي التتار، وكانت الثانية في القرن الرابع عشر الهجري عندما سقطت البلدان الإسلامية واحدة تلو الأخرى تحت هيمنة الاستعمار الأوروبي، وفي المرتين كانت عوامل التحلل والانحطاط قد تسللت إلى كيان الأمة وتركت وراءها أمماً مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب إلى النهوض، لكنها لا تقدر على ذلك بسبب المنازعات والحروب الداخلية. وفيما يلي بيان رؤيتنا لمختلف العوامل الداخلية التي أدت إلى الانحطاط:

1 – العوامل الاجتماعية: وهي عبارة عن مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي أدت إلى انقلاب في أوضاع القيم التي قام عليها المجتمع الإسلامي. وقد تمثلت مقدمات هذا الانقلاب في "ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك التواصي بالحق والصبر وإهمال التناصح، وفساد العرف العام، فاضطربت موازين الحسن والقبح في الأمة، وفي ظل تلك الظروف حدث الانقلاب، وانهار البناء الاجتماعي(1).

وفي تحليل عوامل الضعف في المجتمع يمكننا الانطلاق من قول الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).

ويرى ابن خلدون أن ظواهر الانغماس في "الترف" و"طغيان النساء" و"فسق الشباب"؛ تلك الظواهر هي نتيجة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والابتعاد عن المبادئ والقيم التي حض عليها الإسلام، وحذر من التهاون فيها.

وثمة علاقة بين شيوع عناصر التحلل وتداعيات نتائجها في المجتمع، وبين أن يصبح هذا المجتمع عرضة للوقوع تحت هيمنة قوى أجنبية متسلطة فيظهر من ثم "الاستعمار"، وهذه العلاقة هي التي عناها مالك بن نبي فيما بعد بما أسماه "القابلية للاستعمار"، حيث يصير الاستعمار في تلك الحالة "ضرورة تاريخية"(2).

ولكن من المسؤول عن بدء سريان عوامل التحلل والضعف الاجتماعي في كيان الأمة؟ يرى البعض "أن طغيان النساء هو الشرارة الأولى التي تفسد الحياة الاجتماعية للأمة(3)، ويحدد ما يعنيه بطغيانهن فيقول: "إذا جاوزت المرأة الحدود التي حدها لها الدين وخرجت على قانون الطبيعة وخالفت وظيفتها في الحياة وتناهت في التزين والتبرج (…) ودانت بالإباحية والتهتك، كان ذلك أول مؤذن بدبيب الفساد إلى صميم الأمة القوية"(4)، كما قال الإمام البنا يرحمه الله.

وطغيان النساء سبب للفساد من منظور أن الطغيان في أي شيء يمكن أن يؤدي إلى الانحلال، لكنا نميل إلى اعتبار ما ذكره البنا عن طغيان النساء وتجاوزهن وظيفتهن في الحياة مظهراً من مظاهر الانحطاط والتدهور في حياة الأمة أكثر من كونه سبباً من أسبابه، فضلاً عن أن يكون أول بداية للفساد في "صميم الأمة القوية"، وذلك لسببين على الأقل: الأول هو أن ما ذكره لا ينطبق على ما حدث للأمة الإسلامية في الماضي وهي قوية، إذ من الأرجح أن تكون جرثومة الفساد السياسي واستبداد الحكم هي أصل كل فساد جرى بعد ذلك في المجتمع، والثاني هو أن ما ذكره لا ينطبق على واقع الأمة في العصور الحديثة، حيث كانت قد وصلت بالفعل إلى أدنى دركات الضعف والاستكانة، كما أن أوضاع المرأة كانت في غاية السوء، الأمر الذي دعا أنصار التغرب والاقتداء بأوروبا إلى المناداة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها ومساواتها بالرجل… إلخ.

والحق أنه لا يمكن فهم العبارات السابقة عن المرأة ودورها إذا طغت بالمعنى المشار إليه في إفساد الحياة الاجتماعية، بعيداً عن سياق الجدل الفكري وخصائص المرحلة التي هيمن فيها الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين؛ إذ كان الصراع دائراً على أشده خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين حول ما كان يسمى "القديم" و"الجديد"، وإلحاح أنصار الجديد في الدعوة لخروج المرأة ومشاركتها للرجل في العمل مشاركة الند للند في كل الأعمال بلا تمييز، ونبذ الحجاب، والاقتداء بالمرأة الغربية في كل شيء كجزء من التوجه العام لدعاة "التغرب" أو "الفَرْنَجة". وكان لابد في ظل هذا المناخ من التحذير من مخاطر التوجه نحو الغرب لاعتبارات كثيرة منها ما يتعلق بقضية الاستقلال، ومنها ما يتعلق بالهوية الإسلامية والحرص على عدم الذوبان في نمط الحياة الغربية.
____________________________

الهوامش

1 – انظر وقارن هذه النتيجة التي تؤدي إليها رؤية البنا مع ما يصل إليه مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، المجتمع س ذ.، ص 29 30.
2 – انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص18، 99، وتكاد رؤيته تتفق تماماً مع ما ذكره البنا، والسبب الأساسي في هذا الاتفاق هو صدور البنا وابن نبي عن مصدر واحد وهو القرآن وما نص عليه من سنن كونية مطردة.
3 – حسن البنا، من أعلام النبوة، ج. أ. المجتمع . س. 21213 ربيع الثاني 1353ه.
4 – المقال السابق نفسه.

__________________________________________________ _____

العوامل السياسية لتأخر المسلمين

بعد عرض العوامل الاجتماعية الداخلية لتأخر المسلمين نتطرق اليوم للعوامل السياسية:

2 – العوامل السياسية: وهي مجموعة العوامل التي ارتبطت بوضع السلطة في تاريخ الدولة الإسلامية وانحرافات القائمين عليها في ممارساتهم المختلفة عن النسق القياسي لها، كما كان في فترة الخلافة الراشدة. وأهم ما نركز عليه في هذا الصدد كأسباب أدت إلى التدهور والانحطاط كثرة الخلافات السياسية، وعودة النزعة العصبية والشعوبية، وانغماس حكام المسلمين في ألوان الترف والتبذير (…) حتى أثر ذلك عن حكام المسلمين في كثير من العصور السابقة ولا يزال كثير منهم حتى عصرنا الراهن ما لم يؤثر عن غيرهم، مع أنهم يقرأون قول الله تبارك وتعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).

وينظر البعض إلى وصول عناصر غير عربية من الفرس وغيرهم إلى السلطة باعتباره عاملاً من العوامل السياسية التي أسهمت في الانحطاط، والسبب في رأيهم أن أمثال هؤلاء من الفرس والديلم والمماليك والأتراك وغيرهم هم "ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه، مع أنهم يقرءون أي الخلفاء الذين استخدموا تلك العناصر في الحكم قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون 118 (آل عمران) (1).

ويؤكد هذا المعنى الإمام محمد عبده، وهو يصور استبداد تلك العناصر بالسلطة دون الخلفاء فيقول: "هنالك استعجم الإسلام وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحمل ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يجعل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون، كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولى أمره"(2).

إن ما سبق لا ينطوي على أي اتجاه للغض من شأن المسلمين غير العرب كما قد يتبادر إلى الذهن فقط نحن نقرر حقيقة تاريخية أظهرت أن تلك العناصر أسهمت في الإفساد للأسباب السابق ذكرها، وليس من الممكن إنكار الجهود التي بذلها بعض المماليك والأتراك على سبيل المثال في مجال الدفاع عن ديار الإسلام وتحريرها من التتار والصليبيين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، وسيف الدين قطز….الخ.

وثمة أهمية "لترف الحكام" وغرورهم بسلطانهم والانخداع بقوتهم في تفسير حالة الانحطاط التي وصل إليها العالم الإسلامي؛ إذ غالباً ما يصحب الترف والإهمال والطغيان وغياب الشورى إهمال النظر في التطور الاجتماعي وإهمال مصالح الأمة بشكل عام، وينطبق هذا على القرون الأخيرة في تاريخ الدولة الإسلامية، وهي القرون نفسها التي كانت أوروبا تشهد فيها حركات النهضة والثورات الصناعية والاجتماعية والعلمية، ومن ثم يمكن القول إن إدانة سياسة العزلة التي فرضتها الدولة العثمانية على العالم الإسلامي في العهود الأخيرة لتلك الدولة، لا تقل أهمية عن إدانة الإعجاب بنمط حياة الغرب، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم، والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية، والتحذير من مغبة هذا التقليد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 100 (آل عمران).

___________________________

الهوامش :

1 – انظر: حسن البنا، شعب دين الإسلام، مقال بمجلة التعارف الأسبوعية، 6 5 14صفر 1359 13مارس 1940، حيث يذكر: "أن ضعف المسلمين سياسياً وروحياً كان على أيدي الموالي وأبناء الأجنبيات عنهن".

2 – انظر: محمد عبده، الإسلام والنصرانية، 134، 135.

__________________________________________________ _____

العلل الفكرية والعوامل الخارجية لتأخر المسلمين

* العلل الفكرية: إن المسلمين قد أصابت عالم أفكارهم مجموعة من العلل التي أدت إلى الركود، وكانت من مظاهر الانحطاط في الوقت نفسه. وهي نابعة في جملتها من الجهل بالإسلام، شأنها شأن العلل الاجتماعية والسياسية. ويمكن القول إن "الخلافات الدينية والمذهبية" التي وقعت بين المسلمين تأتي في مقدمة العلل الفكرية التي أدت إلى انحطاطهم، فمثل تلك الخلافات صرفتهم عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.

وكان "الجمود" أو "كابوس التقليد" من أهم الآثار التي أوجدها "التعصب للرأي، كما أن علة الجمود كانت في حد ذاتها من أخطر العلل التي أصابت الحياة الفكرية، ويكفي أنها كرست حالة الفرقة وأدت إلى مزيد من تمزيق وحدة الأمة في سبيل الانتصار للرأي والتشبث به، وعدم الاجتهاد لفهم آراء الآخرين وإزالة نقاط الخلاف، وتوحيد قوى الأمة، ولمّ شتاتها لتكون أقوى على مواجهة التحديات.

ويضاف إلى ما سبق ما تشهده مجتمعات الأمة أيضاً منذ قرنين تقريباً من انقسام يشق النخب الثقافية والفكرية من أبنائها بين فريقين غير متجانسين هما المتغربون والسلفيون، أما الفريق الأول من المتأوربين فأنصاره يدعون إلى اقتفاء أثر الحضارة الغربية بحلوها ومرها، ما يحب منها وما يستكره (على حد تعبير طه حسين الذي تزعم هذا الاتجاه خلال النصف الأول من القرن الماضي)، وأما الفريق الثاني من المتمسكين بالأصول الكبرى التي قامت عليها الحضارة الإسلامية وازدهرت بسببها فهم على النقيض من الفريق الأول، يقفون موقف الأصالة والمحافظة على الهوية الذاتية للأمة، ويدعون إلى تأسيس النهضة المرجوة على الأسس المستمدة من العقيدة الإسلامية التي تدين بها الأمة في أغلبيتها الساحقة، ويرون أن التفريط في هذه الأصول هو السبب الرئيس لحالة الانحطاط والتخلف التي تعانيها الأمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن طريق النهضة لابد أن يبدأ بالعودة إلى هذه الأصول.

وفي رأينا أن للاستبداد السياسي دوراً في إيجاد واستمرار العلل الفكرية في حياة الأمة، فالرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر ويكبتون الحرية ويأبون أن يصل بصيص النور إلى أممهم ورعاياهم، أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى دورهم (…) سجانون، حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد؛ لأنهم عن نور العلم محجوبون، ومن لذة المعرفة محرومون.

* العوامل الخارجية : تتمثل هذه العوامل في محاولات القضاء على الأمة الإسلامية من قبل أعدائها في العصور السابقة، ومن قبل القوى الاستعمارية في العصر الحديث، وقد تمكنت هذه القوى من إخضاع البلدان الإسلامية كافة ووضعها تحت سيطرتها منذ ما يقرب من قرنين.

ولا تنفصل محصلة العوامل الداخلية للانحطاط عن دور العامل الخارجي، فثمة علاقة ارتباطية وثيقة بين الجانبين ضمن الإطار الأشمل للصراع الحضاري بين الشرق والغرب؛ ذلك لأنه إذا كانت العوامل الداخلية قد مهدت للغزو من الخارج وهو ما عبر عنه مالك بن نبي ب "القابلية للاستعمار" و"الاستعمار" فإن التقاءهما تمخض عنه واقع العالم الإسلامي في تاريخه الحديث والمعاصر الذي عبر عن وصول حالة الأمة الإسلامية إلى قاع التدهور الذي تعيشه في واقعها الراهن.

ورغم كل ما سبق، ورغم أن كل الأوضاع في ظاهرها تدعو المتعجل إلى الشعور بالعجز أو الإحباط من الإصلاح، فإن يقظة روح التحدي التي نشهدها على مستويات متعددة: فكرياً وحركياً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كلها ترجع إلى اشتداد الهيمنة الاستعمارية، كما ترجع أيضاً إلى الرغبة في التخلص من عناصر الضعف الداخلية. ونحن نختلف في رؤيتنا تلك للأثر الإيجابي للتحدي الاستعماري الغربي، عن رؤية فريق المتغربين الذين رأوا في الوجود الاستعماري عاملاً من عوامل التحديث والأخذ بأيدي البلدان المتخلفة نحو التقدم والرقي "الغربي".

والسؤال الآن: ما الخلاصة العملية التي يمكن التوصل إليها من تفسيرنا لأسباب الانحطاط وما وصل إليه حال الأمة؟ إن هذه الخلاصة يمكن صياغتها بإيجاز في القول بأن سر تأخر المسلمين هو ابتعادهم عن دينهم، وأن هذا الابتعاد قد نتج عن الإغراق في الترف وتمثل في الركون إلى الدعة، والتحلل الأخلاقي، والفرقة والخلافات التي مزقت وحدة الأمة فكرياً وسياسياً واجتماعياً، وسيادة أنظمة الحكم الاستبدادي، وتعطيل كثير من أحكام الإسلام وشرائعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك تعطيل فريضة الشورى، وفريضة الجهاد، فكان من نتيجة ذلك أن سهل على الاستعمار بسط سيطرته وتدمير الدولة الإسلامية. وفي جملة واحدة فإن أعظم ما مني به المسلمون بعد ابتعادهم عن دينهم هو داء الفرقة وانفراط عقد الوحدة.

__________________________________________________ _____

الأسس الروحية والدعائم السياسية للنهضة

تَبيَّن مما سبق ذكره في الأعداد السابقة على هذه الصفحة أن مفهوم النهضة بحكم أنه مستمد من القرآن الكريم يتضمن التقدم المادي (التكنولوجي) أو ما كان يسمى بمصطلحات بدايات القرن العشرين ب"التمدن"، هذا بشرط أن يكون منضبطاً بالقيم الإسلامية، وخاصة ما كان من تلك القيم ذا طابع إنساني عام، بالإضافة إلى طابعها الخاص على المستوى الفردي والاجتماعي كالعدل والمرحمة والتعاون والأخوة الإسلامية.

لكن كيف يمكن أن يتحقق هدف النهضة عملياً ؟ ذلك لن يكون إلا بعودة المسلمين إلى الإسلام وإحياء تعاليمه ومبادئه في مختلف مجالات الحياة، ومن استقراء التاريخ نجد ما يؤكد ذلك؛ فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم وصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم. وتلخص العبارة السابقة ما يمكن أن نسميه "وجهة النهضة"؛ فهي مرهونة بالعودة إلى الإسلام في صفائه الأول، لا بالتوجه ناحية "الغرب ".

وهذا ما نادى به معظم رواد التجديد والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث منذ محمد بن عبد الوهاب مروراً بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان، وحسن البنا، وسيد قطب وغيرهم. فقد "انطلقوا من مبدأ التوحيد النظري بين الإسلام والمدنية"(1) (أو النهضة) أما الأسس الجوهرية التي ينبغي التعويل عليها من أجل تحقيق تلك النهضة عملياً، فغالباً ما نظروا إليها نظرة أحادية تؤكد أساساً واحداً جوهرياً باعتباره محور القضية وما عداه فروع مكملة له، فمثلاً "كان هذا الأساس عند بعضهم عقيدياً مشتقاً من عقيدة التوحيد، وكان عند بعضهم الآخر سياسياً مستلهماً من ضرورة السلطة الوازعة، وكان عند الآخرين أمراً قيمياً مؤسساً على القيم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية(2).

وقد أدرك البعض أن تعدد علل الانحطاط يستوجب تعدد الأسس التي تقوم عليها النهضة، ومن هنا تعتبر سمة الشمول في النظر والإحاطة بالجوانب المختلفة للقضية، إحدى المحددات المنهجية في التفكير بصفة عامة، وفيما يخص قضية النهضة المنشودة بصفة خاصة.

وليس من المهم الآن الدخول في تفاصيل تفنيد الاتجاهات غير الإسلامية التي جعلت "الغرب" قبلة لها، فقد ثبت لمعظم أصحاب تلك الاتجاهات أنفسهم خطأ توجهاتهم نحو الغرب وتنكرهم للإسلام. إن المهم هنا هو بيان التصورات الفكرية الخاصة بالأسس والدعائم التي تشكل في مجموعها شروطاً لتحقيق النهضة. ويمكن تقسيم تلك الأسس إلى روحية ومادية، وتقسيم الدعائم إلى فكرية وسياسية.
الأسس الروحية والمادية للنهضة .

إن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً للجوانب الروحية والمادية معاً، كأسس لازمة للنهضة، وذلك في مواجهة الأفكار التي تروجها الاتجاهات العلمانية الداعية لاقتفاء أثر الغرب في كل شيء، حتى في الفصل بين الناحيتين المادية والروحية. إن الأمة تحتاج في نهضتها إلى "الإيمان القوى.. المرتكز على قواعد ثابتة من روحها ونظريتها.. وإلى القوة المادية التي يظهر بها هذا الإيمان فيعرب للناس عن وجوده ويبرهن للخصوم على قوته وثباته"(3).

ويشمل الجانب الروحي كأساس للنهضة مجموعة من الأخلاقيات والفضائل النفسية كلها ترتبط وتصدر عن "الإيمان بالله"؛ هذا الإيمان الذي يقتضي الإيمان بعظمة الرسالة الإسلامية، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله لأهلها.

ولهذا فإن من المهم تبديد مشاعر اليأس لدى المسلمين وترسيخ الأمل في نفوسهم. والعبر التي أشار إليها القرآن والتي نبهت إليها السنة وكذلك عبر التاريخ وسنن الاجتماع، كلها تؤكد ما ذكرنا؛ فالقرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، وكذلك يقرن القنوط بالضلال قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56) (الحجر). وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل ونظاماً ربانياً لا يتغير: أن الأيام دول بين الناس وأن القوي (الغرب الآن) لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف (أمة المسلمين الآن) لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد من الأفراد.

ومن الأخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والتي يجب أن يتحلى بها إنسان النهضة الإسلامية المنشودة "خلق الصبر"، وهو أول اللبنات القوية في بناء الأمم الناهضة، وذلك هو السر في أن الله فرضه على المؤمنين وأمرهم به "فلا نهوض إلا بعزيمة ولا نصر إلا مع الصبر"(4). إن تلك الأخلاق وغيرها من الفضائل لن تأتي من "الغرب" صاحب المدنية الحديثة؛ إذ إنه مفتقر إليها أصلاً، وإنما مصدرها الوحيد بالنسبة لشعوب الأمة العربية والإسلامية هو "الإسلام".

وإذا كنا نرى ضرورة قيام النهضة على أسس تجمع بين الروح والمادة، فإن أنصار "التغريب" مازالوا مصرين على آرائهم في ضرورة تقليد الغرب "وإلقاء قنبلة الاستسلام للأوروبي"(5) حسب وصف علي شريعتي هذا في الوقت نفسه الذي سبق أن انتقد فيه كبار مفكري الغرب حضارتهم ويضجون بالشكوى من المأساة الروحية التي تعيشها المجتمعات الغربية.

علينا أيضاً ألا نغفل الجانب المادي كأساس للنهضة، وأن نؤكد أهمية ارتباطه بالعوامل الروحية ومنظومة الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، وإذا كان كثير من الناس يظن أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب لينهض ويسابق الأمم التي سلبته حقه، فإن ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق ومعرفتها، والإرادة الماضية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة وعنهما تكون القوة. إن العالم الإسلامي لو آمن بحقه وغير من نفسه واعتنى بقوة الروح وعني بتقويم الأخلاق لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.

إن التراث الروحي لأمتنا من شأنه إذا قُدم بشكل صحيح، أن يقيل حضارة الغرب الحديثة من عثراتها الروحية، بل إن الغرب نفسه مضطر إن عاجلاً أو آجلاً إلى الاقتباس من "روحانية الشرق".

__________________________

الهوامش:

1 – انظر: فهمي جدعان: أسس التقدم…، ص 181.
2 – التفاصيل المتعلقة بذلك في المرجع السابق ص 185 541.
3 – حسن البنا، من وظائف الأمة الناهضة، جريدة الإخوان المسلمين 26ربيع الأول 1355ه 16يونية 1936.
4 – حسن البنا، إلى الأمة الناهضة. جريدة الإخوان المسلمين 13ذو القعدة 1355 26يناير 1937.
5 – انظر: علي شريعتي، العودة إلى الذات، ص 60.


اريد هذا البحث ولكن اذا اردت التحديد عليه لم يتحدد

ابغى البحث ذا ماينسخ نفس المشكله

التصنيفات
تاريـخ,

الحضارة تاريخ المصطلح ودلالة المفهوم

الحضارة تاريخ المصطلح ودلالة المفهوم

المحور الأول : الأطر العامة والمرتكزات الاساسية في بناء الحضارات

يعد مصطلح الحضارة رغم شيوع استعماله من المصطلحات التي يصعب الاتفاق على تعريفها، غير أن أكثر التعريفات قبولاً هي تلك التي تتبع المصطلح منذ نشأته وتستقصي دلالاته في الفكر الغربي والإسلامي، والذي يمكن أن نشير إليه إشارة موجزة فيما يلي:

كانت الحضارة على مر العصور تعبيراً عن إسهام أمة من الأمم في رصيد الأفكار وما ينتج عنها من اكتشافات واختراعات وصناعات (الإنتاج المادي) وشعر وفن (الإنتاج الأدبي) ونظم ومؤسسات (الإنتاج الإداري) وقيم ومبادئ (الإنتاج الثقافي والاجتماعي) المتراكم عبر الزمان، وهي بهذا المعنى ليست حكراً على الأديان السماوية؛ إذ إن التاريخ عرف حضارة المصريين القدماء والفرس والهندوس والإغريق الذين كانوا يحتكمون إلى مبادئ أرضية وفلسفات إنسانية ارتضوها لأنفسهم، "ولعل هذا يفسر حالة الاندثار أو التراجع للحضارات الإنسانية السابقة التي لم يبق منها إلا آثارها أو أطلالها ولف النسيان ذلك الفعل الحضاري بمجرد زوال المرحلة التاريخية"(1).

إن لفظة حضارة في الأصل اللغوي تقابل البداوة، قال الشاعر العربي:
فمن تكن الحضارة أعجبته *** فأي رجال بادية ترانا
ومنه قول المتنبي وإن كان لا يُحتج بشعره لأنه من المولدين:
حسن الحضارة مجلوب بتطريه *** وفي البداوة حسن غير مجلوب

وهو في هذا لا يختلف عن ترجمة اللفظة الإنجليزية .Civilization
وسنتناول فيما يلي الحضارة في المفهومين الغربي والإسلامي:

الحضارة في المفهوم الغربي:

تعود كلمة Civilization في الأصل إلى الجذر اللاتيني Civilties بمعنى مدينة، وCivis بمعنى ساكن المدينة، أو Civilis بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة، أو Cities وهو ما يعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري، ويرى بعضهم أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة Civilization لأول مرة،أنها مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة الكائنات البشرية في المجتمع الأوروبي، كما يعرفها وول ديورانت بأنها: "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون".. ويحدد لها عوامل عدة، من أولها العوامل الجيولوجية، وثانيها العوامل الجغرافية وثالثها العوامل الاقتصادية، ورابعها العوامل الثقافية (2).

ومع دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، انتقل لفظ Civilization إلى القاموس العربي، بمعنى "مدنية" و"حضارة" أو الحالة من الثقافة الاجتماعية التي تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير الملك.
لاحقاً حدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات "ثقافة" و"حضارة" و"مدنية" خاصة مع وجود المفاهيم الثلاثة في اللغة العربية، على حين لا يوجد سوى مفهومين في اللغة الإنجليزية.

الحضارة في المفهوم الإسلامي:

إن مفهوم الحضارة في اللغة العربية والفكر الإسلامي بالإضافة للتمدن يدل على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض الغيب، مثلاً حضر في القرآن الكريم تعنى شهد: إذا حضر أحدكم الموت (البقرة : 180 ) وإذا حضر القسمة أولوا القربى" (النساء: 8 ) وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة تمثل جزءاً من بناء مفهوم الحضارة:

1- الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق عز وجل أو الخروج عنه.

2- الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلاً من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.

3 -الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله سبحانه وتعالى حفاظاً على العقيدة.

4 -الشهادة كوظيفة لهذه الأمة وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة : 143 ) وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.

وطبقاً لذلك فإن الحضارة في الأصول الإسلامية ينتج عنها نموذج إسلامي يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها بعد غيبي يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هي تحقيق الخلافة في تعمير الأرض وتحسينها. وبناء علاقة سلام مع المخلوقات الأخرى أساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة.

والواقع أن هذا التعريف لا يقتصر على الحضارة الإسلامية وحدها باعتبار أن الحضور بمعناه العام هو مطلق الحضور، وبالتالي فأي تجربة بشرية يمكن إطلاق لفظ حضارة عليها ما دامت تتوافر فيها الشروط التالية:

1 – وجود نسق عقدي يحدد طبيعة العلاقة مع عالم الغيب ومفهوم الإله سلباً أو إيجاباً.

2 – وجود بناء فكري سلوكي في المجتمع يشكل نمط القيم السائدة وهي الأخلاقيات العامة والأعراف.

3 – وجود نمط مادي يشمل جميع الأبعاد المادية في الحياة.

4 – تحديد نمط العلاقة مع الكون ومسخراته وعالم أشيائه.

5 – تحديد نمط العلاقة مع الآخر، أي المجتمعات الإنسانية الأخرى وأسلوب إقناعها بهذا النموذج والهدف من ذلك الإقناع.(3)

الهوامش:
1 – الإسهام الحضاري للأمة الإسلامية، د. سعيد حارب، ص 2.
2 – قصة الحضارة، وول ديورانت ص3.
3 – المرجع السابق.عوامل النهوض الحضاري.
_______________________________

المحور الثاني : الأطر العامة والمرتكزات الأساسية في بناء الحضارات

نبه القرآن الكريم في الكثير من آياته على أن الأمم تقوم أو تسقط بناء على سنن ثابتة لا تتغير أو تتبدل، ووفق عوامل لا تُخرق أو تختزل، ومن أهم هذه العوامل ما يلي:

1 – الفكرة:
إن أشد عوامل النهوض أهمية الفكرة التي تشكل تصور الأمم لحقيقة الوجود والكون والإنسان والحياة، فهذه الفكرة في طبيعتها الفلسفية عامة، وفي طبيعتها الدينية خاصة هي المحدد الأكبر لمصير الأمم والشعوب من حيث التخلف والتقدم، والبداوة والتحضر، وذلك بحسب ما تكون عليه من تحديد في مجال تصور الوجود والكون والإنسان والحياة(1) ومصداق ذلك يبدو في أن كل التحولات الحضارية الكبرى التي حدثت في تاريخ الإنسان كانت ناتجة عن تحولات كبرى في تصور حقيقة الوجود والحياة، سواء كانت حضارات دينية أو غير دينية.

إن تصور حقيقة الوجود والحياة ليس كافياً وحده ليحدث التغيير الحضاري، بل لابد له من كيفية إيمانية تحول هذا التصور من نظرة نظرية باهتة تزاحمها تصورات أخرى إلى فكرة تبلغ درجة الإيمان… تملأ القلب والجوانح، وتطلق الأعضاء والجوارح وتأخذ بمجامع الألباب، فتقوى إرادة العمل وتنمو طاقة الفعل ويتواصل الجهد وتتضافر الطاقات لتثمر عطاءً ثقافياً وتغييراً حضارياً.

2 – الإنسان:
الإنسان هو هدف الحضارة ووسيلتها، وهو محل الثقافة وحاملها، لذلك لا يُتخيل وجود حضارة لا تركز على الإنسان: اهتماماً بواقعه، وتحسيناً لأحواله الصحية والتعليمية والمعيشية، وحلاً لمشكلاته واحتراماً لحقوقه الأساسية حتى ينشط للحركة ويتطلع للريادة ويعمل للتغيير.

إن المعيار الذي يمكن أن تقاس به الحضارات هو موقع الإنسان فيها، وتصورها عنه، وطبيعة القيم التي يلتزم بها ومدى احترامها لإنسانيته ومقوماتها.

إن الذين يسعون لاستيراد تصوراتهم عن الإنسان وحقوقه من الحضارة الغربية يقعون في خطأ كبير، ذلك أن الحضارة الغربية رغم ما أعطت الإنسان من تطور مادي ورفه معيشي فقد أخطأت في فهم الإنسان وطبيعته ومعرفة خصائصه لأنها أسقطت الجانب الروحي فيه، وأبعدت الدين عنه نتيجة لصراعها مع الكنيسة، كذلك تمادت الحضارة الغربية في خطئها بعدم بحثها عن العلة الحقيقية في قلق إنسانها وإمعانها في إيجاد حلول مادية لملء الفراغ الروحي الحادث في مجتمعاتها.

أما العقيدة الإسلامية فقد جعلت الإنسان مدار الحركة التغيرية ومحورها، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء وكلفته بتحقيق الخلافة على هذه الأرض، ولفتتت نظره إلى كيفيات التعامل مع الكون والحياة واستغلال ما على ظهر الأرض واستخراج ما في باطنها مستفيداً من عنصري الزمن لإنتاج الحضارة واستعمار الأرض حملاً لأمانة الاستخلاف وتحقيقاً للعبودية التي خلق لأجلها(2).

إن الرؤية الحضارية الإسلامية للإنسان تتمثل في إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، إذ إنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أو الجنس أو اللون.

3 – العلم:
لا يمكن للمسلمين أن يستعيدوا ريادتهم الحضارية إلا بالعلم، وأهم ما يجب أن يتسلح به المسلم لبناء دور حضاري رائد من العلم هو ما يلي:

أ – العلم بواقعنا المعاصر: إذ إن واقعنا تسيطر عليه حضارات تمتلك رصيداً مادياً ضخماً لكنها تعاني فراغاً روحياً كبيراً، يتطلب من المسلمين معرفة المدخل الحضاري المناسب لتقديم الحاجة المفقودة لاستعادة إنسانية الإنسان "وللتحول من الاهتمام بأشياء الإنسان وهي مهمة بلا شك إلى التوجه لترقية خصائص الإنسان وتحقيق سعادته، لأنه معيار الحضارة الحقيقي(3)، ومن الأمور المهمة التي ينبغي علينا أن ندركها أن الوراثة الحضارية باتت لا تعني التعاقب أو التداول والنفي والإقصاء بعد ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا، بمقدار ما تعني القدرة على التحرك من داخل الحضارة لتغيير وجهتها، إذ لم تعد الحضارة حكراً على أحد وإنما هي مشترك إنساني وإرث عام وتراكم معرفي، والأصلح هو الأقدر على تحديد وجهتها.

ب – التخصص في شُعب المعرفة: إن استعادة الريادة الحضارية لا يمكن أن تُتصور في غياب إشاعة التخصص الدقيق في شتى مناحي المعرفة، لأن التخصص قد غدا من فروض الكفاية وهو متعيَّن فيمن تهيأ له ويؤدي إلى تقسيم العمل وتجويده وإحسانه وبلوغ الثمرة المرجوة منه.

ج – العلم بالسنن: فمعرفة سنن الله في النفس والمجتمعات عامل رئيس في الوصول إلى الشهود الحضاري، ذلك أن الله وضع للبشر سنناً من حفظها حفظته ومن ضيعها ضيعته، غير أن كثيراً من المسلمين حولوا أنظارهم من اتباع السنن إلى خرقها، ومن التفاعل مع السنن الجارية إلى إضاعة الوقت والجهد في سبيل تخطيها، مثل: سنن التغيير، والتداول الحضاري، والتدرج، والتدافع، وسنن السقوط والبناء.

د – الاجتهاد الفكري: من الشروط الواجب توافرها لتحقيق الريادة الحضارية إطلاق النظر الاجتهادي من قيود الجمود والتقليد، وتوسيع دائرة الحراك الفكري على أوسع مدى واحترام التخصص والخبرة وتقديم أهل الخبرة والرسوخ.

ذلك أن الاجتهاد وتحريك العقول، وتوسيع دائرة الرأي والتشاور والتفاكر والتحاور مع الذات والحوار مع الآخر هو الذي يحرك رواكد الأمة، ويطلق طاقاتها المعطلة ويثير فاعليتها، ويشحذ همتها، ويذهب بغثائها ويثبت صوابها وينقلها من موقع التلقي والأخذ إلى موقع المساهمة والعطاء الحضاري.

هـ – الوقت: الحضارة تُبنى بالاستغلال الأمثل للوقت وبحسن إدارته، ذلك أن إدارة الوقت من الحكمة التي عرَّفها ابن القيم بقوله: "هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي". ويكون الاستغلال الأمثل للوقت ب: التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة، اتخاذ القرارات.

الهوامش:
(1) الطاقة الحضارية في عقيدة الأمة، د.عبدالمجيد النجار، ص1.
(2) الإنسان معيار الحضارة، د.شافي بن سفر الهاجري، ص 18.
(2) الوراثة الحضارية، شروط ومقومات، عمر عبيد حسنة، ص26.
_____________________________

المحور الثالث : السنن الفاعلة في نهوض الحضارات وموتها

اقتضى عدل الله سبحانه وتعالى أن من علم سنن الله في نهوض الأمم وسقوطها وعمل بمقتضى هذا العلم وفق وسُدد، وأن من ضيع هذه السنن وأهمل هذه القواعد زال واندثر، ومن أهم السنن التي تسهم إسهاماً كبيراً في هذا الصدد، ما يلي:

1 – العدل في مقابلة الاستبداد:

فالحضارة إنما تُبنى بالعدل، لذلك حفلت آيات القرآن الكريم بالحث على العدل، الذي هو الغاية الأساسية من إرسال الرسل: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد : 25 )، فقد أمر الله الناس به أمراً عاماً: إن الله يأمر بالعدل (النحل : 90 )، اعدلوا هو أقرب للتقوى (المائدة : 8 )، وأثنى على فئة صالحة من الناس يهدون بالحق وبه يعدلون 159 (الأعراف)، وذكر في كتابه الكريم ما يدل على أنه ينبغي أن يتخلل كل شيء:

– في القول: وإذا قلتم فاعدلوا (الأنعام: 152).
– وفي الإصلاح: فأصلحوا بينهما بالعدل (الحجرات : 9)
– وفي الحكم: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (النساء : 58).
– وفي القوامة: وأن تقوموا لليتامى" بالقسط (النساء : 127)..

وحذَّر مِنْ كل ما يمكن أن يُخِلَّ بالموقف العادل: فلا تتبعوا الهوى" أن تعدلوا (النساء: 135 )، ولا يجرمنكم شنآن قوم على" ألا تعدلوا (المائدة : 8)، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على" أنفسكم (النساء : 135 )، ومن جميل ما قيل "إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وإن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة".

أما الظلم فهو معول هدم الحضارات. يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته، تحت عنوان: الظلم مؤذن بخراب العمران: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب، فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها، وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته.

والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين، فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وانذعر الناس في الآفاق، من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختلَّ باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة". (مقدمة ابن خلدون، ص316 – 317 )

2 – التوحد حول فكرة في مقابل الفرقة:

يشهد التاريخ أنه ما من حضارة سادت إلا وكان خلفها تجمع حول إيمان بفكرة: سماوية كانت أو أرضية، هذه الفكرة أوقدت جذوة السعي الجاد لتحقيق ما تدعو إليه في أرض الواقع وتحمل مشاق هذا السعي صعوداً في درج الرقي والسيادة، والتاريخ يشهد كذلك أنه ما من حضارة بادت إلا بعد أن أعملت معاول الفرقة فيها عملها من غياب للشورى وطغيان للفرد، واستخفاف بالشعوب وإذلال لها، وخضوع وخنوع من قبل الشعوب ورضا بالواقع واستسلام له، وبعدٍ عن أصل الفكرة التي ألهمت الجيل الأول الطاقة الروحية للبناء، فتفرقت الكلمة، وتعددت الزعامات، واختلفت الدعوات فحقت عليها سنة الله.

3 – المسؤولية في مقابلة الفوضى:

يقتضي بناء الحضارات أن يعرف المجتمع دوره وينهض به على أكمل وجه، عبر مؤسسات فاعلة تتنوع في تخصصاتها وتتقاطع في مجالاتها لكنها تتحد في أهدافها الكلية وغاياتها النهائية، تماماً كاللوحة الجميلة تختلف ألوانها، وتتقاطع خطوطها لكنها تتكامل فيما بينها لتعطي الشكل النهائي المرجو.

إن تحمل المسؤولية هو الذي يردم الهوة بين الواقع الموجود والمثال المنشود، فالمثال المنشود يظل صورة نظرية في أذهان الناس حتى تجد المجتمع الذي يتحمل مسؤولية تطبيقها في أرض الواقع، كما أن الفوضى "غياب المسؤولية" هي التي تهوي بالمثال الموجود الذي بذل في بنائه الأجداد العرق والدم أسفل سافلين.

4 – الإصلاح في مقابلة الفساد:

بيَّن القرآن زوال كثير من الأمم لأسباب تجمع الفساد في شتى مناحي الحياة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مثل:
– اقتراف الفواحش واتباع الشهوات.
– استغلال المنكر وعدم التناهي عنه، كما فعل بنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه (المائدة: 79).
ا- لكفر بأنعم الله وعدم القيام بشكرها بل استخدامها في معاصي الله فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون 112 (النحل112).
– الترف والبطر وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها (القصص: 8)، ومن ذلك ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة ما أريكم إلا ما أرى (غافر : 29 ).

وكل واحدة من هذه الجرائم حَرية أن تعجل بعقاب الله وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فكيف إذا اجتمع عدد منها في أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات؟ والناظر في الحضارة التي تسود عالمنا اليوم يجدها قد أخذت بنصيب يكثر أو يقل من حضارات الهالكين، وانحرافاتهم العقدية والفكرية والسلوكية، فلا غرو أن يخشى عليها أن ينزل بأهلها ما نزل بهم: وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال 45 وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 46 (إبراهيم).

_________________________________

المحور الرابع : منهج النظر في الوراثة الحضارية

إن منهج النظر الصحيح في قضية استعادة الريادة الحضارية له شقان:
أولهما: يتمثل في معرفة ذاتنا والعمل على تفعيل خصائصنا الحضارية.. فواقعنا ينطوي على كثير من الثغرات والعثرات التي يجب ألا تُتجاهل أو يُقفز فوقها وإلا كان ذلك إمعاناً في الوهم أو إسرافاً في التمني، لا يتغير بهما حال ولا تقوم بهما نهضة(1).

وثانيهما: يتمثل في معرفتنا بالآخر وبإنجازه الحضاري وإشكالياته وإصاباته كشريك حضاري يمتلك أدوات السبق والغلبة والحضور في كل المواقع.(2)

أولاً: تفعيل خصائصنا الحضارية:

إن الخصائص الحضارية للأمة الإسلامية والتي تؤهلها للريادة الحضارية، تظل أطروحات نظرية لا نصيب لها في أرض الواقع إن لم تُفعَّل، فالنص الخالد والهدي النبوي ليسا إلا خطاباً موجهاً للمسلمين، وحال الأمة لا يُصلح بالوجود المجرد لهذا الخطاب، بل يصلح بقدر ما تستجيب الأمة لهذا الخطاب استلهاماً وفهماً وعملاً وتطبيقاً، فمشكلة الحضارة الإسلامية ليست في غياب النصوص الهادية والخصائص المبلغة بقدر ما هي في تجسيد هذه النصوص في أمة تحملها وتنفذها، وتنزيل هذه الخصائص في مجتمع يتمثلها ويطبقها.

إن أهم ما يجب أن يُركّز عليه في تفعيل هذه الخصائص الحضارية يتمثل فيما يلي:

1 – معالجة اختلال سوء الفهم للإسلام بإحياء منهج الوسطية والاعتدال بعيداً عن طرفي الغلو والتقصير وتنقيته من الشوائب التي كدَّرت صفاءه ليجمع بين مُحكمات الشرع ويرعى متغيرات العصر.

2 – إطلاق طاقة التعمير المادي في الفكر الإسلامي: إذ لا يتحقق الإيمان الحق إلا بالنهوض بواجب تعمير الأرض التي استعمرنا الله فيها "أي طلب أن نعمرها"، وقد حقق سلفنا هذا الفهم الإيماني فأنشأوا عمراناً مادياً متعدد الجوانب ثري النتائج وتجلت هذه الطاقة التعميرية عندهم في صفحة الكون المنظور عناية بالوجود المادي، خلافاً لما شاع قبل الإسلام من تحقير للوجود المادي واعتبار الانشغال به منقصة يجب التنزه عنها؛ إذ جعل الإسلام الوجود المادي دليلاً على وجود الله، ومعيناً على طاعته ومذكراً بفضله ونعمته ومزرعة لغرس الآخرة.

3 – تجليات الأنفس والآفاق: وذلك بالتدبر والتفكر في آيات الله والسعي لاكتشاف قوانين المادة وتركيبها ونحو ذلك وصولاً إلى منفعتين: أولاهما ترسيخ العلم الغيبي "وجود الله" وثانيهما تحقيق العلم المادي.

4 – التسخير الكوني: فالعلم بالقوانين الكونية المادية فضلاً عن أنه يوصل إلى الله فهو وسيلة للاستنفاع والإفادة من الكون واستثمار ذلك في تنمية الحياة وترقيتها مأكلاً وملبساً ومسكناً وزينة، بما يعود على الإنسان بالسعادة وفق الضوابط الشرعية التي تحول بين أن يصبح الاستنفاع المادي هو الغاية في الحياة، وترتفع به أن يكون منقصاً للسمو الروحي، وتنأى به أن يكون معول هدم.

5 – تقييم الجهد البدني: فالعقيدة الإسلامية تثمن عمل القلب وكسب الجارحة وترتب الأجر على الإخلاص والصواب في كليهما، بل وتجعل عمل الجوارح من شُعب الإيمان، إذ إن الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق على قلة ما فيها من جهد بدني من شُعب الإيمان فما الظن بما هو أكبر جهداً وأكثر نفعاً ؟

6 – ترقية الإنسان: فالإنسان في العقيدة الإسلامية مخلوق مكرم وليس صاحب خطيئة أصلية كما ترى النصرانية المحرَّفة ولقد كرمنا بني آدم (الإسراء : 70 )، هذا التكريم مطلق لكل بني آدم على اختلاف ألوانهم وقومياتهم وعقائدهم، وبناءً على هذا التكريم، فإن العقيدة الإسلامية تحدث في نفوس المؤمنين بها الدافع الإرادي لتزكية النفس والسعي نحو الكمال البشري المتاح وتنمي فيهم حب القيم والتمسك بها، الأمر الذي يثمر رابطة اجتماعية قوية إذ إن القيم الإنسانية ذات طابع جماعي، الأمر الذي يؤدي إلى ترابط المجتمع وتكاتفه.

7 – الدعوة إلى طلب العلم: أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: "اقرأ"، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في طلب العلم أكثر من أن تُستقصى، وفي هذا دعوة للأمة: أن تسعى لتخطي الأمية التي تغلب على مجتمعات المسلمين، وأن تعمل على ترقية المستوى الثقافي.

8 – الدعوة إلى تحقيق الإتقان: فالإسلام يدعو إلى إحسان العمل وإتقانه: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(3)، والمسلمون من هذا المنطلق يثمنون قيمة العمل، ويسيرون به في خط صاعد… فلا يقل حجمه ولا يتراجع مستواه ولا تغلب عليه النمطية والتقليد ولا يفتقر إلى الإبداع والتجديد.

9 – الدعوة إلى التزام الشورى: فالشورى في الإسلام شأن من شؤون الأمة الإسلامية وليس الدولة فحسب، كما غلب الفهم في أيامنا هذه، وآية الشورى: وأمرهم شورى" بينهم (الشورى : 38 ) نزلت قبل أن يكون للمسلمين دولة، وسنة رسول الله ص أقامت الشورى قبل الدولة، فلا يجدر بالمسلمين الذين لم يُعرف أحد أكثر مشورة لأصحابه من نبيهم أن تغيب عنهم الشورى ويضيق أفقها ويُهجر مضمونها، وتنتهك فيهم الحريات والحقوق التي أقرها دينهم.

ثانياً: المعرفة بالحضارة الغربية:

ومن أهم ما يجب معرفته عن الحضارة الغربية أنها:

1 – ناقدة لذاتها مصوبة لمسارها: فالحضارة الغربية تحس بأمراضها بل وتفزع منها وتعمل على علاجها لدرجة أن بعض الباحثين قال: "إن معرفتنا بالأمراض الحضارية اليوم، التي نكتب ونخطب فيها ليست من كشفنا وبحثنا وتحليلاتنا، وإنما هي قراءة في إحصائيات وكتابات ودراسات أصحاب الحضارة نفسها، فأهل الحضارة هم الذين يكتشفون أمراضها بأنفسهم، ونحن قد نتمثل في ذلك برجع الصدى، إضافة إلى أن الحضارة المتسلطة اليوم ليست مصابة بعمى الألوان والصلف المردي، وإنما تسعى لاكتشاف أمراضها ومداواة نفسها بنفسها.(4)

2 – حريصة على ألا تصل إلى مرحلة الشيخوخة الحضارية، وألا تنطبق عليها نظرية الدورية الحضارية الخلدونية المعروفة لأنها تحاول استدعاء الشباب الحضاري واحتواء العالم للتقوي به على شفاء نفسها وضمان استمرارها.

3 – حققت سبقاً حضارياً في المجال المادي يصعب إدراكه، دعك من التفوق عليه، وأخذت تصبغ ثقافتها والعالم من حولها بهذا السبق الحضاري، فتهاوت أمامها الثقافات الهشة، وتأثرت بها كل الثقافات بلا استثناء وإن تفاوتت درجة التأثر.

الهوامش:

(1) الإعداد للدور الحضاري للأمة الإسلامية، د.أحمد كمال أبو المجد.
(2) الوراثة الحضارية، شروط ومقومات، عمر عبيد حسنة، ص 5.
(3) أخرجه البيهقي عن عائشة، وحسَّنه الألباني.
(4) الوراثة الحضارية، مرجع سابق، ص 23.
________________________________

المحور الخامس : العوامل المشتركة بين الحضارات المختلفة

تشترك الحضارات على اختلاف مشاربها في أصول عدة أهمها:

1 – الاشتراك في "الإيمان بالخالق":

تجتمع الحضارات جميعها باستثناء القلة المادية الملحدة على الإيمان بوجود خالق لهذا الوجود… هذا الاشتراك لا يمنع من وجود اختلافات في تصور كل حضارة لخالق الوجود، فالتصور الوثني الجاهلي لم ينكر وجود خالق، ولكنه وقف في تصوره لعمل هذا الخالق عند حدود "الخلق"… ثم أشرك معه شركاء آخرين زعم أنهم الوسائط المدبرة لشؤون الحياة الدنيا، يفزع إليهم الإنسان عند الملمات، ولذلك لم ينع القرآن على التصور الجاهلي إنكار الخالق للوجود، وإنما نعى عليه الوقوف بعمل هذا الخالق عند حدود "الخلق" دون آفاق التدبر في ميادين الوجود كلها وسائر شؤون العمران.

ففي هذا التصور الجاهلي للذات الإلهية: اشتراك مع التصورات الأخرى في الإيمان بخالق لهذا الوجود وخصوصية جاهلية تقف بفعل الخالق عند حدود الخلق، وتشرك معه الشركاء في التدبير والتلبية لحاجات الإنسان في هذا الوجود.

2- الاشتراك في "إنسانية الحضارات":

الحضارات كلها "إنسانية" بمعنى أنها صناعة الإنسان وإبداعه عندما يرتقي في سلم التمدن والاستقرار… وفي هذه الحقيقة تشترك الحضارات كلها..

لكن التصور الفلسفي لمكانة الإنسان في الكون يختلف من حضارة إلى أخرى، إلى الحد الذي يصبح فيه التمييز في هذا التصور من الخصوصيات التي تتميز بها حضارة عن أخرى، رغم أنها جميعها تشترك في كونها من صنع هذا الإنسان.

3 – الاشتراك في الحاجة للدين:

والحضارات الإنسانية كلها تشترك في التدين بالديانات… بل إن الشريحة التي ألحدت وأحلت "المادة" محل "الله" قد جعلت من الفلسفة المادية عقيدة وديناً؟

لكن الحضارات تتمايز في رؤيتها لمصدر الدين، فهناك حضارات الديانات الوضعية غير السماوية مثل ديانات الشرق الأقصى ومعها في هذه الفلسفة تقف "الوضعية الغربية" بمذاهبها المتعددة، فلقد زعمت أن الدين، ككل ألوان الفكر وأنساقه، إنما هو إفراز بشري وثمرة من ثمرات العقل الإنساني، بل قالت إنه الممثل للفكر الإنساني في طور طفولة العقل البشري الذي ارتقى بعد الطفولة إلى مرحلة الميتافيزيقا والإيمان بما وراء الطبيعة ثم لما نضج أصبح وضعياً لا يرى علماً حقيقياً ولا معرفة حقيقية إلا إذا كانا من ثمرات التجارب الحسية والعقل المجرد انطلاقاً من حقائق الكون المادي المحسوس!.

فهذه الحضارات عرفت الدين لكنها جعلته "وضعاً إنسانياً" وليس "وضعاً إلهياً" ووحياً سماوياً!.

4 – الاشتراك في الإيمان بالأسباب:

إذا كانت الحضارات كلها قد اشتركت في الإيمان "بالأسباب" وبالعلاقة بين "الأسباب" و"المسببات" فإن مناهجها ومذاهبها وفلسفاتها قد تمايزت في مرجعية هذه الأسباب وفي طبيعة العلاقة بينها وبين المسببات:

أ – فالحضارة المادية والمذاهب الوضعية ترجع "المسببات" إلى الأسباب المادية، المركبة في المادة وقواها وظواهرها وفي الإنسان والاجتماع البشري، وهم يرون فيها "أسباباً ذاتية"، وليست مخلوقة لخالق وراءها ومفارق لمادتها، إما لأنهم يجحدون وجود هذا الخالق أو يتصورونه على الصورة التي تصوره عليها أرسطو محركاً أول حرك العالم ثم تركه لقواه وأسبابه الذاتية الفاعلة وحدها فيه دون علاقة تدبير بين الخالق وهذه الأسباب:

ب – أما الموقف الإسلامي من مرجعية السببية فهو الذي يؤمن بوجود الأسباب وبقيام العلاقة بينها وبين المسببات، مع الإيمان بأن هذه الأسباب المركبة جميعها في المادة وقواها وظواهرها وفي الإنسان والاجتماع البشري هي جميعها مخلوقة أيضاً وأن عملها في مسبباتها لا يعني انتفاء قدرة الموجد الأول والأوحد لها على إيقاف عملها، إذا هو سبحانه شاء إخراج الأمر من "العادة" إلى "خارق العادة" لحكمة يريدها الله…

والخاتمة، أن الواقع يفرض على الأمة المسلمة أن تعرف موقعها في مسيرة الحضارة المعاصرة على ضوء قدراتها وإمكانها الحضاري، لأن ذلك يشكل الخطوة الأولى لمعرفة أين نقف وإلى أين نتجه حتى نتقدم عن علم ودراية لسد نقص حضارة اليوم وتقديم الحلول الناجعة لمشكلاتها، ولنا في الأنبياء أسوة؛ إذ إنهم قدَّموا الحلول لأممهم ولم يسابقوا في التقدم المادي والإنجاز العمراني من نحت للبيوت، وإقامة للأهرامات وكنز للأموال والاستغراق في اللذائذ والتأله وتعبيد الناس، وإنما تقدموا لهم بالمفقود في حياتهم، المطلوب لسعادتهم وإلحاق الرحمة بهم.

كذلك يتطلب الواقع من الأمة أن تعلم المداخل الحضارية التي يمكن عبرها تقديم دعوة الله في ثوب يطرق الأوتار الحساسة في المجتمعات، وينصر الدين، ويتمم مكارم الأخلاق، ذلك أن مفهوم الوراثة الحضارية ينبني على أن الأمة الإسلامية لا تريد أن تُقصي الحضارة الغربية وتبني مجدها في العصر الراهن على أنقاضها بقدر ما تريد أن تكمل نقصها وتصحح مسارها… ترث خيرها وتبني عليه حضارة مشرقة تسعد العالمين.

المرجع : مجلة المجتمع،في خمسة أعداد متتالية ، بدءا من عدد رقم 1536


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
تاريـخ,

قصة الحضارة الاجزاء كامله من 01 الى 14 بحجم خرافي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


قصة الحضارة – ديورانت – الاجزاء كامله من 01 الى 14

الحجم : 11.1 MB

http://www.4shared.com/get/CpXdnTUs/…___01__14.html


بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

موضوع قيم شكرا لك


التصنيفات
تاريـخ,

الحضارة وعوامل نشأتها كما يراها "ول ديو رانت "

الحضارة وعوامل نشأتها كما يراها "ول ديو رانت " تعليم_الجزائر
الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي ، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
والحضارة مشروطة بطائفة من عوامل هي التي تستحث خطاها أو تعوق مسراها، وأولها العوامل الجيولوجية ، ذلك أن الحضارة مرحلة تتوسط عصرين من جليد، فتيار الجليد قد يعاود الأرض في أي وقت فيغمرها من جديد ، بحيث يطمس منشآت الإنسان بركام من ثلوج وأحجار، ويحصر الحياة في نطاق ضيق من سطح هذه الأرض؛ وشيطان الزلازل الذي نبني حواضرنا في غفوته، ربما تحرك حركة خفيفة بكتفيه فابتلعنا في جوفه غير آبه.
وثانيها : العوامل الجغرافية، فحرارة الأقطار الاستوائية ، وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكّر وانحلال مبكر، من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية ، ويستنفدها جميعاً في إشباع الجوع وعملية التناسل، بحيث لا تَذَرُ للإنسان شيئاً من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير؛ والمطر كذلك عامل ضروري ، إذ الماء وسيلة الحياة، بل قد يكون أهـم للحياة من ضوء الشمس، ولما كانت السماء متقلبة الأهواء لغير سبب مفهوم فقد تقضي بالجفاف على أقطار ازدهرت يوماً بالسلطان والعمران، مثل نينوى وبابل؛ أو قد تسرع الخطى نحو القوة والثراء، بمدائن هي- فيما يبدو للعين- بعيدة عن الطريق الرئيسي للنقل والاتصال، مثل المدن في بريطانيا العظمى أو خليج بُيوجت Puget Sound وإذا كانت تربة الإقليم تجود بالطعام أو المعادن، وإذا كانت أنهاره تهيئ له طريقاً هينة للتبادل مع غيره، وإذا كان شاطئه مليئاً بالمواضع التي تصلح مرافئ طبيعية لأسطوله التجاري، ثم إذا كانت الأمة فوق هذا كله تقع على الطريق الرئيسية للتجارة العالمية، كما كانت حال أثينا وقرطاجنة وفلورنسة والبندقية- إذن فالعوامل الجغرافية على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقاً، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيئ سبيل ازدهارها.
والعوامل الاقتصادية أهم من ذلك، فقد يكون للشعب مؤسسات اجتماعية منظمة، وتشريع خلقي رفيع، بل قد تزدهر فيه صغريات الفنون، كما هو الحال مع الهنود الأمريكيين، ومع ذلك فإنه إن ظلَّ في مرحلة الصيد البدائية، واعتمد في وجوده على ما عسى أن يصادفه من قنائص، فإنه يستحيل أن يتحول من الهمجية إلى المدنية تحولاً تاماً..
قد تكون قبيلة البدو- كبدو بلاد العرب- على درجة نادرة من الفتوة والذكاء، وقد تبدي من ألوان الخُلق أسماها كالشجاعة والكرم والشيم، لكن ذكاءها بغير الحد الأدنى من الثقافة التي لا بد منها، وبغير اطراد موارد القوت، ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة ، بحيث لا يبقى لها منه شيء لوَشْى المدنية وهُدابها ولطائفها وملحقاتها وفنونها وترفها..
وأول صورة تبدت فيها الثقافة هي الزراعـة ، إذ الإنسان لا يجد لتمدنه فراغاً ومبرراً إلا إذا استقر في مكان يفلح تربته ، ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه مورداً لطعامه؛ في هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة- وأعني بها مورداً محققاً من ماء وطعام- ترى الإنسان يبني لنفسه الدُّور والمعابد والمدارس، ويخترع الآلات التي تعينه على الإنتاج ، ويستأنس الكلب والحمار والخنزير، ثم يسيطر على نفسه آخر الأمر، فيتعلم كيف يعمل في نظام واطراد، ويحتفظ بحياته أمداً أطول ويزداد قدرة على نقل تراث الإنسانية من علم وأخلاق نقلاً أميناً.
إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة، إن المدنية في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ، ورقة المعاملة هي ذلك الضرب من السلوك المهذب الذي هو في رأي أهل المدن- وهم الذين صاغوا حكمة المدنية- من خصائص المدينة وحدها ، ذلك لأنه تتجمع في المدينة- حقاً أو باطلاً- ما ينتجه الريف من ثراء ومن نوابـغ العقول؛ وكذلك يعمل الاختراع ، وتعمل الصناعة على مضاعفة وسائل الراحة والترف والفراغ؛ وفي المدينة يتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والأفكار؛ وهاهنا حيث تتلاقى طرق التجارة فتتلاقح العقول، يُرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخَلق والإبداع، وكذلك في المدينة يُستغنى عن فئة من الناس فلا يُطلب إليهم صناعة الأشياء المادية، فتراهم يتوفرون على إنتاج العلم والفلسفة والأدب والفن؛ نعم إن المدنية تبدأ في كوخ الفلاح، لكنها لا تزدهر إلا في المدن.
وليست تتوقف المدنية على جنس دون جنس، فقد تظهر في هذه القارة أو تلك، وقد تنشأ عن هذا اللون من البشرة أو ذاك، قد تنهض مدنيّة في بكين أو دلهي، في ممفيس أو بابل، في رافنا أو لندن، في بيرو أو يوقطان ، فليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب ، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته ، والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه ، ليست المدنية البريطانية وليدة الرجل الإنجليزي ولكنه هو صنيعتها، فإذا ما رأيته يحملها معه أينما ذهب ، ويرتدي حُلة العشاء وهو في "تمبكتو"؛ فليس معنى ذلك أنه يخلق مدنيته هناك خلقاً جديداً، بل معناه أنه يبين حتى في الأصقاع النائية مدى سلطانها على نفسه…
فلو تهيأت لجنس بشري آخر نفس الظروف المادية، ألفيت النتائج نفسها تتولد عنها، وها هي ذي اليابان في القرن العشرين تعيد تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإذن فالمدنية لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى واحد، وهو أنها تجيء عادة بعد مرحلة يتم فيها التزاوج البطيء بين شتى العناصر، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً إلى تكوين شعب متجانس نسبياً .
وما هذه العوامل المادية والبيولوجية إلا شروطا لازمة لنشأة المدنية، لكن تلك العوامل نفسها لا تكوّن مدنية ولا تنشئها من عدم، إذ لا بد أن يضاف إليها العوامل النفسية الدقيقة، فلا بد أن يسود الناس نظام سياسي مهما يبلغ ذلك النظام من الضعف حداً يدنو به من الفوضى، كما كانت الحال في فلورنسة وروما أيام النهضة…
ثم لا بد للناس أن يشعروا شيئاً فشيئاً أنه لا حاجة بهم إلى توقع الموت أو الضريبة عند كل منعطف في طريق حياتهم، ولا مندوحة كذلك عن وحدة لغوية إلى حد ما لتكون بين الناس وسيلة لتبادل الأفكار ، ثم لا مندوحة أيضاً عن قانون خلقي يربط بينهم عن طريق الكنيسة أو الأسرة أو المدرسة أو غيرها ، حتى تكون هناك في لعبة الحياة قاعدة يرعاها اللاعبون ، ويعترف بها حتى الخارجون عليها ..
وبهذا يطـرد سلوك الناس بعض الشيء وينتظم، ويتخذ له هدفاً وحافزاً، وربما كان من الضروري كذلك أن يكون بين الناس بعض الاتفاق في العقائد الرئيسية ، وبعض الإيمان بما هو كائن وراء الطبيعة أو بما هو بمثابة المثل الأعلى المنشود ؛ لأن ذلك يرفع الأخلاق من مرحـلة توازن فيها بين نفع العمل وضرره إلى مرحلة الإخلاص للعمل ذاته، وهو كذلك يجعل حياتنا أشرف وأخصب على الرغم من قصر أمدها قبل أن يخطفها الموت.
وأخيراً لا بد من تربية- وأعني بها وسيلة تُتخذ- مهما تكن بدائية- لكي تنتقل الثقافة على مر الأجيال، فلابد أن نورث الناشئة تراث القبيلة وروحها، فنورثهم نفعها ومعارفها وأخلاقها وتقاليدها وعلومها وفنونها، سواء أكان ذلك التوريث عن طريق التقليد أو التعليم أو التلقين ، وسواء في ذلك أن يكون المربي هو الأب أو الأم أو المعلم أو القسيس؛ لأن هذا التراث إن هو إلا الأداة الأساسية التي تحول هؤلاء النشء من مرحلة الحيوان إلى طور الإنسان.
ولو انعدمت هذه العوامل- بل ربما لو انعدم واحد منها- لجاز للمدنية أن يتقوض أساسها، فانقلاب جيولوجي خطير، أو تغيُّر مناخي شديد ، أو وباء يفلت من الناس زمامه كالوباء الذي قضى على نصف سكان الإمبراطورية الرومانية في عهد "الأناطنة" (جمع أنطون)، و "الموت الأسود" الذي جاء عاملاً على زوال العهد الإقطاعي، أو زوال الخصوبة من الأرض، أو فساد الزراعة بسبب طغيان الحواضر على الريف ، بحيث ينتهي الأمر إلى اعتماد الناس في أقواتهم على ما يرد إليهم متقطعاً من بلاد
أخرى، أو استنفاد الموارد الطبيعية في الوقود أو المواد الخام، أو تغيُّر في طرق التجارة تغيراً يُبعد أمة من الأمم عن الطريق الرئيسية لتجارة العالم، أو انحلال عقلي أو خلقي ينشأ عن الحياة في الحواضر بما فيها من منهكات ومثيرات واتصالات، أو ينشأ عن تهدم القواعد التقليدية التي كان النظام الاجتماعي يقوم على أساسها ، ثم العجز عن إحلال غيرها مكانها أو انهيارُ قوة الأصلاب بسبب اضطراب الحياة الجنسية ، أو بسبب ما يسود الناس من فلسفة أبيقورية متشائمة ، أو فلسفة تحفزهم على ازدراء الكفاح، أو ضعفُ الزعامة بسبب عقم يصيب الأكفاء ، وبسبب القلة النسبية في أفراد الأسرات التي كان في مقـدورها أن تورث الخَلفَ تراث الجماعة الفكري كاملاً غير منقوص، أو تركز للثروة تركزاً محزناً ينتهي بالناس إلى حرب الطبقات والثورات الهدامة والإفلاس المالي.
هذه هي بعض الوسائل التي قد تؤدي إلى فناء المدنية، إذ المدنية ليست شيئاً مجبولاً في فطرة الإنسان، كلا ولا هي شيء يستعصي على الفناء؛ إنما هي شيء لا بد أن يكتسبه كل جيل من الأجيال اكتساباً جديداً، فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية أو في طرائق انتقالها من جيل إلى جيل فقد يكون عاملاً على فنائها…
إن الإنسان ليختلف عن الحيوان في شيء واحد، وهو التربية، ونقصد بها الوسيلة التي تنتقل بها المدنية من جيل إلى جيل.
والمدنيات المختلفة هي بمثابة الأجيال للنفس الإنسانية، فكما ترتبط الأجيال المتعاقبة بعضها ببعض بفضل قيام الأسرة بتربية أبنائها ، ثم بفضل الكتابة التي تنقل تراث الآباء للأبناء، فكذلك الطباعة والتجارة وغيرهما من ألوف الوسائل التي تربط الصلات بين الناس، قد تعمل على ربط الأواصر بين المدنيات ، وبذلك تصون للثقافات المقبلة كل ما له قيمة من عناصر مدنيتنا ، فلنجمع تراثنا قبل أن يلحق بنا الموت، لنُسلمه إلى أبنائنا…
المصدر : قصة الحضارة (ج1 من ص 13 : ص 18 )


التصنيفات
تاريـخ,

ماهية الحضارة الإسلامية

ماهية الحضارة الإسلامية

كتب: د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *

04/12/1431 الموافق
10/11/2010

الحضارة في اللغة مشتقة من الفعل حضر ، وهي ضد البداوة ، وقد جاء في كتاب "الصحاح في اللغة " الحَضَرُ خلاف البَدْو ، والحاضِرُ خلاف البادي ، والحاضِرةٌ خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف، ويقال: فلانٌ من أهل الحاضِرَةِ ، وفلان من أهل البادية، وفلان حَضَريٌّ وفلان بدويٌّ ، والحاضِرُ: الحيُّ العظيم ، وفي كتاب " القاموس المحيط " الحَضَرُ والحَضْرَةُ والحاضِرَةُ والحِضارَةُ أو الحَضارة خِلاَفُ البادِيَةِ ، والحَضارَةُ الإقامَةُ في الحَضَرِ ، وفي كتاب " لسان العرب " الحاضِرَةُ سميت بذلك لأَن أَهلها حَضَرُوا الأَمصارَ ومَساكِنَ الديار التي يكون لهم بها قَرارٌ..
ويفهم من هذا أن كلمة الحضارة كانت معروفة عند العرب منذ القدم ، ولكنهم كانوا يقصرون إطلاقها على تمصير البلاد وتعميرها ، حتى جاء العلامة ابن خلدون وتوسع في معناها ، حيث قال : الحضارة هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله.
ولذلك فهي تختلف من بلد لآخر حسب تفنن الناس في تلك الأمور ، يقول ابن خلدون : وذلك يدل على أن أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة ، وأنها أصل لها.. ، ثم إن كل واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه ؛ فرب حي أعظم من حي، وقبيلة أعظم من قبيلة، ومِصر أوسع من مصر، ومدينة أكثر عمراناً من مدينة ، فقد تبين أن وجود البدو متقدم على وجود المدن والأمصار وأصل لها، بما أن وجود المدن والأمصار من عوائد الترف والدعة التي هي متأخرة عن عوائد الضرورة المعاشية.
ومن العجب أن ابن خلدون قد ذكر منذ وقت مبكر أن توسع الناس في الحضارة بهذا المفهوم المادي الذي ذكره رغم أنه يؤدي إلى رفاهيتهم إلا أنه مفسد لهم فقال : ولما تناقص الدين في الناس ، وأخذوا بالأحكام ( القوانين ) الوازعة، ثم صار الشرع علماً وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ، ورجع الناس إلى الحضارة ، وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم.
وفي العصر الحديث توسع العلماء في تعريف الحضارة لتشمل كل أنواع النشاط الإنساني بمختلف صوره المادية والمعنوية ، وما وصلت إليه الأمم في نواحي نشاطها الفكري والعقلي.
فالمزارع وما يُشق لها من ترع وأنهار ، وما يقام عليها من سدود ومساقي ، وما ينتج فيها من زروع وثمار ، وما يبتكر لها من نظم في الري والبذر والحصاد ، والمصانع وما تنتجه من سائر المصنوعات ، وما يخترع لها من مكينات ومعدات ، وما يوضع في فنونها من مصنفات ، والمتاجر وما يسن لها من نظم التعامل والتبادل ، والمدارس والمعاهد والجامعات وما يدرس فيها ، والمساجد والمعابد والمستشفيات والمتنزهات والحدائق والطرق والأرصفة والبيوتات ، وما يتم فيها من أنشطة هي جزء من الحضارة ، فضلا عن العلوم والفنون والنظم والقوانين التي تسير وتنظم وتُحكم أمور العباد .
وأي مجتمع يقوم بتلك الأمور أو بعضها يسمى مجتمعا حضاريا ، وتنسب إليه تلك الحضارة، فيقال : مثلا : الحضارة المصرية القديمة ، ويقصد بها الأنشطة والأفعال والابتكارات والأنظمة التي وضعها المصريون القدماء ، ويقال : الحضارة الفينيقية ، ويقصد بها ما أُثر عن الشعب الفينيقي القديم ، ويقال : الحضارة اليونانية ، ويقصد به تراث اليونانيين ، وهكذا .. وتعظم تلك الحضارات أو تحقر بحسب ما تقدمه من نفع للبشرية ، فهذا هو المقياس الوحيد لتقييمها .
فمنها الحضارات المتواضعة ، ومنها الحضارات الجليلة العظيمة ، ومنها الحضارات المؤقتة المحلية ـ أي المرتبطة بزمان ومكان معين ، فلا تصلح لزمان ومكان غيره ، ومنها الحضارات العالمية التي تفيد الناس في كل زمان ومكان ، ومنها الحضارات النافعة ، ومنها الحضارات الضارة ، التي لا تجلب للبشرية إلا الدمار والهلاك ، والتعاسة والشقاء .
ومنها الحضارات المادية البحتة التي تهتم بالجانب المادي أو الجسماني في الإنسان ، فلا تشبع إلا ملذاته وشهواته ، ومنها الحضارات الروحية التي لا تنشغل إلا بالجانب الروحي فقط ، ومنها الحضارات التي تهتم بالجانب المادي والروحي على السواء .
وبناء على التعريف السابق يمكن أن نعرف الحضارة الإسلامية بأنها كل الأنشطة المادية والمعنوية التي قام به المسلمون ، وما أثر عنهم من تراث فكري وعلمي وعقدي .
فعقيدة الواحدنية الصحيحة التي غرسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، والعبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى للمسلمين ، ووضحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، والأخلاق التي تخلق بها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إليها يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، والقيم السامية التي حث عليها صلى الله عليه وسلم يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، والنظافة والنظام واحترام الكبير والعطف على الصغير يمكن أن يعد كل ذلك جزءا من الحضارة الإسلامية ..
ودعوته صلى الله عليه وسلم لنشر الحب والسماحة والمودة والرحمة بين الناس يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية, ووصيته ببر الوالدين وصلة الأرحام , وإطعام الفقراء والمساكين واليتامى وكسوتهم يمكن أن يعد جزءا من الحضارة الإسلامية, ومساعدة المحتاجين, والإحسان إلى الجيران يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية, ودعوته صلى الله عليه وسلم إلى حسن المعاشرة بين الأزواج يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية.
وكذلك دعوته صلى الله عليه وسلم إلى نظافة البدن والملابس والبيوت والطرق , والمحافظة على الصحة والتجمل والتزين ، يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية..
ودعوته صلى الله عليه وسلم إلى إتقان العمل يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، ومناداته بنصرة المظلومين يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية, ودعوته إلى تحرير العبيد واحترام آدمية الإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات وخلقه بيديه يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية..
وحثه صلى الله عليه وسلم على الرفق بالحيوان ورحمته يمكن أن يعد جزءا من الحضارة الإسلامية, وحضه على الحافظة على الطبيعة التي وهبها الله لنا يمكن أن يعد جزءا من الحضارة الإسلامية.
بل إن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاعتداء وسفك الدماء إلا بالحق , وعن الوقوع في الفواحش وسائر المنكرات, وعن الكذب والخيانة والغدر والغش وقول الزور وأكل الميتة , وعن أكل أموال الناس بالباطل , وعن أخذ الرشوة يمكن أن تعد جزءا من الحضارة الإسلامية..
وتحذيره من الظلم والتجبر والإفساد في الأرض , ومن نقص الكيل والميزان في البيع والشراء , وعن التعصب للجنس أو اللون , وعن قتل الحيوانات لغير الحاجة أو إيذائها , وعن قطع الأشجار النافعة إلا لضرورة الناس يمكن أن يعد جزءا من الحضارة الإسلامية.
وذلك لأن تلك الأمور كلها من لوازم المجتمع العمراني المثالي الذي لا تقوم الحضارة ألا به .
وما قدمه المسلمون من نظم وتشريعات وقوانين ودساتير للبشرية يعد جزءا من الحضارة الإسلامية ..
وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، وسَن حق الرعية في اختيار من يحكمها ويترأسها ومراقبته ومحاسبته ، وإلزامه بأن يستشيرهم فيما يقوم به ، وما يقدم عليه من أعمال هامة تهم الدولة الإسلامية ؛ مما كان سببا في نضج البشرية ، يعد جزءا من الحضارة الإسلامية.
ونظم القضاء الفريدة التي تكفل للقاضي الاستقلالية الكاملة ، وتجبره على أن يسوي بين الخصمين ـ عند التحاكم ـ في كل شيء ، حتى في نظراته إليهما ، ولو كان أحدهما أمير المؤمنين نفسه ، تعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
ونظم المدارس والمحاكم والمستشفيات التي ابتكرها المسلمون تعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
والمكتبات العامة ونظم الجامعات التي أسسوها تعد جزءا من الحضارة الإسلامية ، والمصنفات والنظريات العلمية التي وضعها علماء المسلمين ، وكان لهم فيها فضل السبق على العالم الحديث تعد جزء من الحضارة الإسلامية .
واختراع نظام إخضاع النظريات العلمية للتجريب للوصول إلى الحقائق الثابتة اليقينية في العلوم الطبيعية ، تلك الحقائق التي كانت نواة للنهضة الحديثة ، تعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
وجهاز الحسبة الذي وضعه علماء المسلمين لمراقبة الصناعات والحرف المختلفة هذا الجهاز الذي تفرع في العصر الحديث إلى أجهزة المراقبة والمحاسبات والصحة العامة والجودة ومطابقة الموصفات والتموين وغيره يعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
ونظم التعامل البنكي من شيكات وسندات وصكوك ، وأمور التعامل المادي التي وضعها المسلمون تعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
وتعريب تراث الأمم السابقة والاستفادة مما جاء فيها ، ونقدها والتعليق عليها ، يمكن أن يعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
ونظم التعامل بين الجنسيات أو العرقيات أو الديانات داخل المجتمع الإسلامي التي سنها المسلمون لتستوعب كل أفراد وطبقات المجتمع ، وتجعل منه نسيجا مترابطا تعد جزءا أصيلا من الحضارة الإسلامية .
والصناعات الحديثة التي ابتكرها المسلمون جزء من الحضارة الإسلامية .
والأصناف الزراعية التي ابتكر المسلمون صناعتها واستخدامهم لسبل الزراعة الراقية ، واختراع نظام تطعيم الفواكه ومحاولات إيجاد أصناف جديدة جزء من الحضارة الإسلامية .
والأدوية والأدوات الطبية التي صنعها المسلمون ونقلوا صناعتها للأمم الأخرى تعد جزءا من الحضارة الإسلامية .
والصحاري التي عمروها ، والمدن التي أقاموها ، والمساجد والعمائر والحصون والقلاع التي شيدوها هي جزء من الحضارة الإسلامية .
إذن فمصطلح الحضارة الإسلامية مصطلح واسع فضفاض يتسع ليشمل كل ذلك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مدير موقع التاريخ الالكتروني

المصدر : موقع التاريخ


التصنيفات
تاريـخ,

في مفهوم الحضارة

في مفهوم الحضارة

كتب: د / بدران بن الحسن*

28/04/1431 الموافق
12/04/2010

يعتبر مفهوم الحضارة من أكثر المفاهيم صعوبة في التحديد، وذلك بفعل التطور الدلالي الذي حظي به عبر تاريخ الحضارة نفسها، ولعل من أهم أسباب الاختلاف في تعريفها أيضًا ما يرجع إلى الخلفية الفكرية لصاحب كل تعريف، والمنظور الذي يقدم من خلاله تعريفه، وكذلك تكوينه العلمي وزاده المعرفي؛ فالمؤرخ، والأنثربولوجي، وعالم الاجتماع، واللغوي، وعالم النفس،كلٌّ يعرفها انطلاقًا من أرضيته الفلسفية ومنظوره المعرفي الذي ينظم أفكاره ، ونتيجة لحيوية التنقيب والبحث في حقل الدراسات الحضارية، ظهرت تعريفات متعددة ومتنوعة لظاهرة الحضارة، كما أن هناك تعريفات ولدت ضمن إطار الوعي العقدي الغربي وأخرى صيغت استجابة للوعي العقدي التوحيدي.
ولذلك نحاول تناول مفهوم الحضارة من الوجهتين؛اللغوية، والاصطلاحية، للتمكن من تحديده بما يجعل منه واضحًا وقابلاً للتعامل معهضمن شبكة المفاهيم المتعلق بمنظور الدراسة الذي نحاول صياغته.
ففي العربية،الحضارة بكسر الحاء وفتحها تعني الإقامة في الحضر، وأن مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي في الحضر(1) ومعناها ضد غابَ والحاضرة والحِضارة [ ويفتح ] خلاف البادية (2) والحضور نقيض المغيب والغيبة: حَضَرَ يَحْضُرُ حُضوراً وحضارة … والحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، وفي الحديث: "لا يبيع حاضر لبادٍ".
والحاضر: المقيم في المدن والقرى، والبادي: المقيم بالبادية، وفلان حضري وفلان بدوي، والحِضارة: الإقامة في الحضر. وكان الأصمعي يقول: الحَضارة، بالفتح. والحاضرة والحاضر: الحي العظيم أوالقوم (3) .
فالحضارة في عرف اللغة كما رأينا ترتبط بالحضر، والعمران، أي أن المصطلح من ناحية اللغة العربية ذاتها يحمل المعنى الاجتماعي، وذلك عند اعتبار الحضارة علامة على الحضور والإقامة والاستقرار، وهذه كلها تحمل معاني اجتماعية، فإذا سكن الناس واستقروا نشأت بينهم صلات اجتماعية أكثر،وارتبطت مصالحهم، ونشأت بينهم سبل التعاون، واتجهوا إلى بناء المدن والإبداع والانتظام والتنظيم.
فالحضارة في جذرها اللغوي تعنىَ وتُركز على الجانب الاجتماعي، وكأن اللغة تشير إلى أن الحضارة مفهوم اجتماعي منذ نشأته، كما أنها لا تكون إلا حيث توجد علاقات اجتماعية متبادلة بين الناس تظهر فيها معاني التعاون والتنظيم و الانتظام في إطار مكاني محدد هو المدينة، ولعل هذا فيه إشارة لاهتمام النبي -صلىالله عليه وسلم- بتسمية (يثرب) باسم (المدينة)، بما يتضمنه لفظ المدينة من قيم اجتماعية وحضارية بعيدة الأثر في النفس الإنسانية.
أما مصطلح "الحضارة" في اللغات الأوربية، واللغة الإنجليزية بخاصة، فمشتقة من اللاتينية، فلفظ "Civilization" لغويًّا يرجع إلى الجذر "civites" بمعنى مدينة، و"Civis" بمعنى ساكنالمدينة، أو "civilis" بمعنى مدني أو ما يتعلق بساكن المدينة(4) كما أنها تقرن أحيانا بمصطلح "Culture" التي فيمعناها اللاتيني تفيد الإنماء والحرث، واستمر مفهومها في حراثة الأرض وتنميتها، إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث كما يذكر معجم أكسفورد أنها اكتسبت معنى يشير إلى المكاسب العقلية والأدبية والذوقية، وتقابل في العربية مصطلح ثقافة(5)
فالمصطلح نفسه لم يأخذ معناه المعروف لدينا اليوم عن الحضارة في اللغات الأوربية، إلا مع القرن الثامن عشر(6) ، باعتبار ما اقترن به من مصطلحات دلالية أخرى، وأقربالمعاني اللغوية المستعملة اليوم أن الحضارة: "مرحلة متقدمة من النمو الفكريوالثقافي والمادي في المجتمع الإنساني"(7) ، أو هي: "مرحلة متقدمة من التقدم الاجتماعي الإنساني، أو هي ثقافة وطريقة حياة شعب أو أمةأو فترة من مراحل التطور في مجتمع منظم(8)
فمصطلح الحضارة في اللاتينية واللغات الأوربية أيضا يتضمن معنى المدينة،والاستقرار، والتنظيم الذي تقتضيه حياة المدينة، وكأن هناك تشابهًا في المعنيين اللغويين في كل من العربية واللاتينية، باعتبار أن الإنسان اجتماعي بطبعه حسب التعبير الخلدوني(9) أي أن النـزوع إلى التجمع والتنظيم والانتظام فطرة إنسانية تحكم السلوك الإنساني في إطاره الجماعي، وأن التحضر مطلب إنساني متصل بالسعي الإنساني في مختلف العصور.
أما من الناحية الاصطلاحية؛ فإن للحضارة تعاريف مختلفة – كما سبقت الإشارة- ففي الاصطلاح الخلدوني: "الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير " (10)وابن خلدون هنا يشير إلى المرحلة الأخيرة التي تمربها الدولة أو المجتمع عندما تتفكك العصبية ، وتضمحل قوة الرابطة التي تجمع الناس علىبناء المجتمع، فيصير المجتمع في حالة الترف التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته،وتقل أخلاق البناء، وتظهر أخلاق الفتور، فالحضارة بهذا التعبير الخلدون يدرجة من التقدم تبلغها المجتمعات.
ويزيد ابن خلدون تعريفاً آخر للحضارة يسميها "سر الله في ظهور العلم والصنائع" وذلك في الفصل الذي يفسر فيه لماذا أن "حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم" مما يجعل من العلم والصناعة منتوجات حضارية ، كما أن الحضارة تصطبغ بذلك الطابع الاجتماعي العمراني، وهو ما سنجده مع مالك بن نبي لاحقًا، يقولابن خلدون: "إن الصنائع من منتحل الحَضَرِ ، وإن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوملذلك حضرية.. والحضَرُ لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف"(11).
ويعلل ابن خلدون ذلك برسوخ الحضارة في العجم،ويعني أساسًا (الفرس) الذين تحولوا إلى الإسلام، فيقول: "لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس.. وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة وحاميتها وأولي سياستها(12)
فالعرب حسب ابن خلدون كانوا في بدايات اتصال هم بهذه المنجزات الحضارية من علوم وصنائع غير أنهم شغلوا عنها بمهمات بناء الدولة الجديدة، والتي كانت إحدى مراحل بناء الحضارة التي ابتدأها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بل من غار حراء عندما اتصلت الأرض بالسماء عن طريق الوحي، لكن ابن خلدون لا يقف عند هذه المرحلة من تطور الحضارة، بل يرصد حركتها، حيث يجعل استمرارالعلوم والصنائع والتطور العمراني نتيجة لاستمرار عمل قانون الحضارة في تلك الأمصار وليس سببًا في استمرارها، حيث يقول: "فلم يزل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة في العجم وبلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر، فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم(13)
فالحضارة سر الله في وجود العمران والعلم،وإذا فقدت شروطها فإنها تنتقل إلى مكان آخر تتوفر فيه شروطها الموضوعية، ولعل تعبيرابن خلدون عن الحضارة بالسر، نستشف منه معنى القانون الذي يتحكم في انتقالها(14)
وإذا انتقلنا إلى العالم الغربي نجد "ديورانت" يعرفها بأنها: "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإن الحضارة تتألف من عناصر أربعة :الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون،وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق(15)
ويعرفها تايلور بأنها: "درجة من التقدم الثقافي، تكون فيها الفنون والعلوموالحياة السياسية في درجة متقدمة(16)
والملاحظ على تعريف كل من ديورنت وتايلور أن الأول ينظر إلى الحضارة من جهتين؛ أنها نظام اجتماعي يقدم للإنسان القدرة على تحقيق إنجازات ثقافية، ومن جهة أخرى أنها مرحلة من مراحل التقدم البشري تكون فيها الحياة الإنسانية تتجه نحو التنظيم لما تتوفر لها مجموعة من العناصر، أما الثاني فإنه يعرف الحضارة على اعتبار أنها درجة من التقدم الثقافي لها نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو في تعريفه هذا يتجه إلى تعريف الحضارة بالنظر إلى غايتها التي تحققها في المجتمع..
كما يعرفها مالك بننبي، وذلك من عدة جوانب؛ فهو تارة يعرفها من الجانب البنيوي (مركّزًا على بنيةالحضارة وعناصر تركيبها)، وتارة من الجانب الوظيفي (مركزا على وظيفة الحضارة) باعتبارها تؤدي دورًا في المجتمع، وتارة يعرفها من جانب غايتها من حيث إنها غاية الحركة الاجتماعية في التاريخ ، وبعبارة أخرى فهو يعطي التعريف التحليلي للحضارة الذي يبيّن كيفية تركيب الحضارة في عناصرها الأولية، ويعطي تعريفًا للحضارة من خلالدورها (وظيفتها) في التاريخ، كما يحدد حقيقتها الرسالية.
أما التعريف التحليلي؛ فإننا نجده يعرف الحضارة من الوجهة التحليلية (تحليل بنيتها) بالمعادلة الرياضية التالية: الحضارة= إنسان تراب وقت.
وفي ذلك يقول ابن نبي: "حضارة = إنسان تراب وقت، وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إلى أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت ، فلكي نقيم بناء حضارة لايكون ذلك بأن نكدس المنتجات وإنما بأن نحل المشكلات الثلاثة من أساسها(17)..
فابن نبي يجمل أي جهد أو منتج حضاري، في صورة هذا التفاعل الأولي بين عنصر الإنسان صاحب الجهد المنجز، وعنصر التراب بصنوفه التي هي مصدر الإنجاز المادي، وعنصر الزمن الذي هو شرط أساسي لأي عملية إنجازية يقوم بهاالإنسان،
وباعتبار أن الحضارة إنجاز موجه في التاريخ؛ فإنه لا شك إنتاج لفكرة تطبع صبغتها على جهد الإنسان فتميزها في التاريخ، ولهذا فابن نبي لا يكتفي بهذه العناصر التركيبية الأولية للحضارة فقط، بل يضيف إليها الفكرة المركِّبَة؛ التي هي الفكرة الدينية (الدين)، مركِّب القيم الاجتماعية، ويقوم الدين بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية(18) أي لا يكون فكرة مجردة بعيدة عن صياغة همٍّ جماعي وأداءٍ اجتماعي مشتركٍ
هذه العناصر الثلاثة – كما يرى ابن نبي – تتفاعل فيما بينها بفعل الشرارة التي تحدثها الفكرة الدينية، وتتحقق في واقع تاريخي يقتضي وجود مجموعة من العلائق تحقق وحدة العمل التاريخي، هذه العلائق هي ما يسميه ابن نبي)شبكة العلاقات الاجتماعية) (18) فشبكة العلاقات الاجتماعية هي العنصر التركيـبي الآخر الذي يتحقق بوجوده الجهد الإنساني في صورة إنجاز حضاري في التاريخ(19)
فالحضارة من هذه الوجهة التحليلية تقوم على عناصر الإنسان والتراب والزمن، في وجود شبكة من العلاقة الاجتماعية التي تشكل الميلاد الحقيقي للمجتمع في التاريخ وبداية إنجازه التاريخي على ضوء الفكرة الدينية
أما التعريف الوظيفي فإن ابن نبي يقول بشأنه: "إن الحضارة يجب أن تحدد من وجهة نظر وظيفية، فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين، أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور، أو ذاك من أطوار نموه"(20) فهي ذلك العمل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع في سبيل توفير الضمانات التي تؤهل الفرد لممارسة دوره في التاريخ
فمن وجهة الوظيفة التي تؤديها الحضارة فإن ابن نبي ينظر إلى الحضارة بمقدار ما تقدمه من الضمانات للفرد، تلك الضمانات التي يقدمها المجتمع لأي فرد من أفراده في مرحلة تاريخية معينة من مولده إلى مماته ، أي إلى أن ينقضي وجوده الاجتماعي، هذه الضمانات هي بمثابة شروط ذات وجهتين مادية ومعنوية ، وبعبارة أخرى: إنها في الواقع جملةالعوامل المعنويّة والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة لتطوره ، فالفرد يحقق ذاته بفضل قدرة وإرادة تنبعان من المجتمع الذي هو جزء فيه(21) ، فالحضارة أداء اجتماعي لمجتمع ما في التاريخ.
فإذا كان مجتمع معين يستطيع في مرحلة تاريخية معينة تقديم وتوفير مثل هذه الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح للفرد أن يمارس دوره الطبيعي في المجتمع؛ فإن المجتمع يعيش حالة حضارة. وكأن ابن نبي من هذه الزاوية يركز على الحقيقة الموضوعية التي تلتمس الحضارة في أثرها في الواقع، وتهتم بالمنظورالاجتماعي (السوسيولوجي) للظاهرة الحضارية.
ومن هذه الجهة(الوظيفية)؛ فإن الحضارة هي:
أولاً:شروط أخلاقية ومادية ، وهذا يجعل الحضارة خاضعة للتوازن الذي يحفظها من الانحراف، فإذا اختل جانب انحرفت الحضارة من هذا الجانب المختل، والحضارة.
ثانياً: عمل اجتماعي، وهذا يشير إلى أهمية المجتمع وأسبقيته في عملية الإنجاز الحضاري، وذلك من خلال تركيز ابن نبي على أهمية وجود عالم شبكة العلاقات الاجتماعية باعتبار أن الحضارة إنجاز يقوم به المجتمع بمجموع أفراده، ويتم في إطاره وبإرادته وإمكانه، حتى إنه يمكن القول: إن الحضارة هي عمل شبكة العلاقات الاجتماعية ذاتها
وثالثاً: أن الإنسان (الفرد) يأخذ أهمية خاصة من خلال اعتبار الحضارة من الوجهة الوظيفية عملية تقديم للضمانات لهذا الفرد حتى يتمكن من ممارسة دوره المنوط به اجتماعيًّا.
ورابعاً:أن الحضارة عبارة عن ضمانات إذا نظرنا إليها من هذه الوجهة، وهي ضمانات تتيح للطاقات الفردية والاجتماعية أن تنطلق وتمكن الفرد من التطور ماديًّا ومعنويًّا.
كما أن الحضارة خامساً: عبارة عن أطوار اجتماعية يمر بها المجتمع، وفي هذا إشارة إلى الظاهرة الدورية التي تمر بها الحضارة.
ــــــــــــــــ
الهوامش :
* دكتوراه في دراسات الحضارةوالفلسفة، قسم دراسات الحضارة والفلسفة، جامعة بوترا، ماليزيا.
إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، (قطر: دار إحياء التراث الإسلامي)، ج1/ص180.
2 ـ الفيروزأبادي، القاموس المحيط، (بيروت: دار الفكر، 1983م)، ج2/ص10.
لسان العرب، حرف باب الراء، فصل الحاء المهملة، مج4، ص196-197.
3 ـ أحمد محمودصبحي، في فلسفة الحضارة، (الإسكندرية: مؤسسة الثقافة الجامعية)، ص3.
Philip Weiner, Dictionary of the History of Ideas, (New York:4 ـ Charles Scribner’s Sons, 1973), P613.
5 ـ قسطنطين زريق، في معركة الحضارة، الطبعة الرابعة، (بيروت: دارالعلم للملايين، 1981م)، ص32-33.
6 ـ نصر محمد عارف، الحضارة-الثقافة- المدنية،سلسلة المفاهيم والمصطلحات (1)، (هيرندن، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1414هـ/ 1994م)، ص33.
7 – The American Heritage Dictionary of the English Language,3ED, (New York: Houghton Mifflin Company,1992), PP 349-350.
8 -Oxford Advanced Learner’s Encyclopedic Dictionary, (Oxford University Press: 1994), P160.
9 ـ المقدمة، ص475.
10 ـ عبد الرحمن بن خلدون، مقدمة ابنخلدون، ط5، (بيروت: دار القلم، 1984)، ص475.
11 ـ المقدمة، ص544.
12 ـ المقدمة، ص544.
13 ـ المقدمة، ص545.
14 ـ ول ديورنت، قصة الحضارة، (جامعةالدول العربية، 1957م)، ج1/ص4.
15 – E.B.Taylor, Dictionary of Anthropology, Special Indian Edition, (Delhi: Goyl Saab, 1988), P117.
16 ـ ابن نبي، شروطالنهضة ، ترجمة: عبد الصبور شاهين،(دمشق: دار الفكر،1996)، ص45.
17 ـ وجهةالعالم الإسلامي، ص32.
18 ـ ابن نبي، ميلاد مجتمع، ترجمة: عبد الصبور شاهين،الطبعة الثالثة، (دمشق: دار الفكر،1986)، ص27.
19 ـ ابن نبي، فكرة الإفريقيةالآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ،(دمشق: دار الفكر، 1981)، ص143.
20 ـ ابن نبي،آفاق جزائرية، (القاهرة: مكتبة عمار،1971)، ص38.
21 ـ ابن نبي، مشكلة الأفكار فيالعالم الإسلامي، (دمشق:دار الفكر،1988)،ص42


التصنيفات
تاريـخ,

بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد . دور النُّخبة

بعث الحضارة الإسلاميّة من جديد… دور النُّخبة


كتب: د/ بدران بن الحسن


13/04/1431 الموافق
28/03/2010

لقد قضى العالم الإسلامي وقتاً طويلاً من عمره الحضاري باحثاً عننقطة بداية لإعادة بناء حضارته من جديد، وإعطاء نفسه الحضاري دفعة تخرجه من حالةالتراوح والتبطل التي استنفدت قدراته في جهود مضنية.
وكان لمالك بن نبي –عليهرحمة الله- رأي في مسألة التخلف الحضاري الشامل التي يعانيها العالم الإسلامي، ورأىمنذ الأربعينيات من القرن الماضي أن العالم الإسلامي يهدر طاقته في حل مشكلات جزئيةمتغاضياً عن المشكلة الكلية التي تحتوي كل تلك المشكلات، ألا وهي مشكلة الحضارة، ورأى أيضاً أنه طالما أن العالم الإسلامي يفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يريد أنيقوم به فإنه لن يتمكن من صياغة مشروع للنهضة أو الخروج من التخلف، ولن يتمكن منتحديد وجهته ولا بناء منهج لبناء الحضارة، وذلك في تصوره راجع إلى أن "الرؤية تحدّدالمنهج والوجهة".
وبعبارة أخرى، فإن تصورنا لمشكلة العالم الإسلامي تصوّر جزئيومفكّك، ولذلك فإن فهمنا للمشكلة فهم جزئي وعقيم؛ لأنه لا يحيط بكل أبعاد المشكلة،ولذلك فإن الحلول التي طُرحت كلها حلول جزئية؛ إن اهتمت بجانب أغفلت – عن قصد أو غيرقصد- جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب الذي أولته اهتمامها، فأنتجت هذه التصوراتالجزئية رؤى متناقضة ومشوهة وقاصرة في أغلب الأحوال، وغير قادرة على صياغة منهج لحلالمشكلة الأم، ولا لحل المشكلات الجزئية المتراكمة.
ولذلك فإن أسئلة كثيرة تطرحنفسها بقوة على كل متأمل في ما نحن فيه من تردٍّ وتهلهل وتخلف شامل في العالمالإسلامي؛ فلماذا لم نستطع امتلاك هذه الرؤية المتكاملة لمشكلتنا في العالمالإسلامي؟ ولماذا لم نستطع بناء منهج قادر على الخروج بنا من المحنة التي نحن فيها؟
لعل هذا النوع من الأسئلة تراود كل من اهتم بأمر المسلمين، وسعى إلى المساهمةفي فك خيوط الأزمة التي أُحكمت، ولا شك أن كثيراً من الإجابات راودت كل من طرح هذهالأسئلة على نفسه.
وفي تصوري فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة يمر حتماًبالإجابة عن سؤال أو أسئلة أخرى تتعلق بمن يتولى صياغة الرؤى الحضارية، ومن يقومعلى بناء مناهج التغيير؟ هل هم عامّة الناس؟ أم هم النخبة من المجتمع؟
وإذااستقرينا التاريخ؛ تاريخ التغيرات الكبرى في تاريخ المجتمعات رأينا أن هناك دائماً "فرقة" تقوم بالمبادرة بحمل لواء التغيير، وتتبنى الأفكار والمشاريع والبرامجالجديدة التي تسوّغ على وفقها نمطاً جديداً للتفكير وصورة جديدة عن العالم،وبالتالي منهجاً جديداً لمعالجة الأمور.
ولنا في الأنبياء وأتباعهم أسوة حسنة،ولنا في تاريخ النبوات، وتاريخ الأفكار الكبرى، والأمم التي تعاقبت الريادةالحضارية في العالم، والمجتمعات التي سادت ثم بادت، لنا في كل هؤلاء خير دليل علىأن هناك "نفراً" من كل "فرقة" يقومون بتغيير "القوم" وبصياغة منهج جديد للحياة.
ولذلك فإن مسألة القيادة التي هي النخبة أو النفر أو الفرقة التي تتولى شؤونالقوم، وإنذارهم وإبلاغهم، وقيادتهم بالتعبير القرآني- هي المسألة المركزية فيصياغة الرؤية والتصور الكلي الشامل من أجل أن تتبنى منهجاً يخرج قومها من ظلماتالفوضى إلى نور المنهج الواضح الأسس، البيّن الخطوات من أجل تحقيق مبادئ النخبةوالمجتمع في أرض الواقع.
وفي هذا السياق فإن المشكلة في تصوري تتعلق بنمطالقيادة التي تقود عملية التغيير الحضاري، ومدى وعيها واستيعابها للمعطيات المختلفةللواقع المعاصر، ولما يتطلبه القيام بمشروع بناء الحضارة من جديد من وضوح للرؤيةوتوفر منهج شمولي متكامل للتغيير.
والحديث هنا يتجه أساساً إلى العلماءوالمجتهدين والمثقفين إلى النخبة التي تقود المجتمعات الإسلامية، ومدى قدرة هذهالقيادات على قيادة مشروع بناء الحضارة الإسلامية من جديد، إن نظرياً أو عملياً.
ذلك أن مستقبل العالم الإسلامي يُناط بالقيادة التي تمتلك القدرة على شق الطريقاليبس في بحر الأزمة الخانق، وأن تكون قادرة – في رأي الجماهير من الناس- على فعلالمعجزات التي تحوّل مسار التاريخ في لحظاته المدلهمة، وتنير الدرب بفعل تجاوزهاليوميات الأحداث، من خلال قدرتها على استشراف المستقبل، ورسم مسارات العملالمستقبلي، والحد من الخسائر، وتحفظ المحتوى العقائدي لما تحمله من أفكار، حتى لايفرغ من محتواه أو يحوّر أو يبدّل.
غير أن مؤسساتنا بكل تنوعها؛ الدعويةوالسياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية وغيرها، غير قادرة اليوم على أن تواكبنمط التحولات السريعة والهائلة التي تحدث بفعل عصر العولمة الذي نعيشه، ولذلك فهيغير قادرة على صياغة المجتمع وفق التطلعات التي تؤمن بها.
كما أن النخبة بمختلفطبقاتها اليوم في عالمنا الإسلامي غير قادرة على أن تحمل في وعيها آمال الجماهيروغير قادرة على توجيه هذه الجماهير أيضاً، بل إن هذه النخبة التي من المفترض فيهاأن تكون هي المعبر عن آمال وتطلعات الناس من جهة، وأن تكون هي مجسّات الوعي من جهةأخرى قد انغلقت على نفسها، ولم تعد قادرة على متابعة التغيرات والأحداث الكبرى التيتجري في عالم اليوم.
ولذلك فإن النخبة في العالم الإسلامي اليوم مدعوة إلىمراجعات جوهرية لكل الأطروحات التي تتداولها منذ أمد، وعلى مختلف الأصعدة، ومن كلالأطراف، وعلى النخبة أيضاً أن تعيد ترتيب أولوياتها، ووضع خط فاصل وواضح بين القيمالمبدئية التي لا يمكن أن تتغير وبين المواقف والخطوات الإجرائية التي يمكن التراجععنها أو تغييرها أو تطويرها أو تجاوزها إلى ما هو أكثر نضجاً ونجاحاً وقابليةلتحقيق مقاصد القيم الأصلية المبدئية وتحقيق مصالح الأمة.
وعليه فإن النخبةمطلوب منها اليوم أن تعيد تشكيل مواقفها وفق المبادئ الكبرى للأمة بشكل واضح وصريحومؤسس ومنهجي، وألاّ تلجأ إلى التلفيق بين المفاهيم، ولا التركيب المشوه بين مختلفالمقولات والتصورات، كما أن على النخبة أن تعيد النظر في مفاهيمها التقليديةالموروثة سواء من تراثنا الإسلامي أو من التراث الحضاري للأمم الأخرى، ويكون ذلكوفق رؤية علمية مبنية على الحجة البينة والبرهان العلمي والحوار المنفتح على الآخر،القابل للحقيقة مهما كان مصدرها، خاصة إذا علمنا أن الإسلام لا يُخشى عليه من أيفكرة أخرى، بل إن الإسلام ذاته ما هو إلا رسالة لإتمام المكارم التي بين الناس.
ومن هذا المنطلق، فإن النخبة يكون أمامها مجال فسيح للاجتهاد المحتكم إلى القيمالثابتة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، تسترشد بعد ذلك بما استقر منصالح الكسب البشري من فكر وثقافة وحضارة شحذتها وهذبتها الخبرة الإنسانية الطويلةالأمد.
وعليه، لا نكون في اجتهادنا أمام خطر الانحراف عن القيم الكلية الثابتة؛لأن القرآن مصدِّق ومهيمن على كل تجربة أو فكرة، ولا نكون أيضاً أمام خطر التخلف عنمواكبة الأحداث؛ لأن الانفتاح على مختلف التجارب يذكي الخبرة وحس الخطأ والصواب لدىالأمة، ويقوّي مجسّات التحقق من صلاح التجارب على اختلاف مصادرها ومدى مواءمتهالمختلف المشكلات التي تهدف النخبة لحلها.
ونختم حديثنا هذا بالتأكيد على أنسلوك نهج الحضارة، والعمل على بعث الحضارة الإسلامية من جديد، والتمكين للإسلاموالمسلمين لن يتحقق طالما بقيت النخبة في العالم الإسلامي غير قادرة على بناء رؤيةواضحة، من خلالها تستطيع تحديد القيم والمبادئ الكلية، وتحديد المنهج ذي الإجراءاتالعملية لتحقيق مقاصد هذه القيم في دنيا الناس.



التصنيفات
تاريـخ,

دراسات في الحضارة / د. لويس عوض

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


دراسات في الحضارة / د. لويس عوض

الحجم : 5.9 MB

http://www.4shared.com/get/yMsOsh5Y/____–__.html


التصنيفات
علم المكتبات

المكتبات فى الحضارة العربية الإسلامية/عليان، ربحى مصطفى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المكتبات فى الحضارة العربية الإسلامية/ عليان، ربحى مصطفى.

الحجم : 8.27 MB

http://www.mediafire.com/?a88f1bzojcjy2df


التصنيفات
التاريخ والجغرافيا السنة اولى متوسط

عرض باور بوانت لدرس الحضارة اليونانية و الرومانية

عرض باور بوانت لدرس الحضارة اليونانية و الرومانية

لتحميل الملف اضغط على الرابط التالي
http://ta3lime.com/up//view.php?file=1f93db12cb


شكرا على المشاركة

هناك خطا في الرابط أخي الكريم ،


السلام عليكم لقد تم تعديل الرابط


جزاكم الله خيرا
جاري التحميل

شكرا لك على الموضوع