اقدم لكم بحث حول العولمة المالية و المصرفية (السنة الثالثة)
رابط التحميل:
http://past.is/VDUP
بالتوفيق و النجاح
http://past.is/VDUP
بالتوفيق و النجاح
و هذا بدوره بتضمن أسئلة فرعية:
ما هي مظاهر و خصائص العولمة ؟ أو بالأحرى: ما لسياق التاريخي الذي أفرز هذه الظاهرة ؟
ما هي خصائص و مظاهر هذه الظاهـرة ؟ و مل لمقصود بما يسمى: العولمـة الماليـة ؟
ما هي مغانم و مغارم على جميع الدول على حدّ سواء و خاصة الدول النامية ؟ و بالخصوص الجزائر.
-و من دوافع قيامنا لهذا البحث:
1- أهمية الموضوع على الساحة الدولية, فقد أصبح حديث الملتقيات و الندوات و الشغل الشاغل لسكان المعمورة.
2- لمتطلبات المقياس.
و من أجل دراسة الموضوع قسمنا البحث إلى ثلاثة فصول:
فصـل أول يتعرض لتداعيات الوضع الدولي و التحول من التنموية إلى العولمـة.
أما افصل الثاني: فيتعرض إلى دراسة الظاهرة في حدّ ذاتها و التركيز بالخصوص على البعد المالي.
أما الفصل الأخير: قيتعرض إلى آثـار هذه الظاهـرة.
-I من الدولة الكبرى إلى الدولة الصغيرة:
-1-I الوضع الدولي و تداعياته:
أدى الإنهيار المفاجئ للمعسكر الشيوعي في عام 1989م إلى دخول النظام العالمي مرحلة جديدة, تغيرت فيها معالمه و تعدّلت ثوابت الوضع الدولي التي سادت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية, حيث أدى انهيار النظام ثنائي القطبية إلى تفرد الولايات المتحدة بالقدرة على السيـطرة, و توجيـه دقة الأمور على الصعيد العالـمي في مختلف المجالات (السياسية, الاقتصادية, الأمنية), الأمـر الذي أسفر عن خلل ملموس في التوازن الدولي الدقيق الذي خلّفتـه الحرب العالمية الثانيـة و سـاد طيلة فترة الحرب الباردة.
و طالما نتحدث عن التطورات التـي طرأت على توجهات النظام العالمي في أواخـر الثمانينات, فإنها لم تحدث فقط من جراء انهيار النظام الشيوعي, و لكنها أيضاً نتاج التغيـرات التـي اعترت الوضع الإقتصادي العالمي, و التي تمثلت في انهيار نظام “بريتـون وودز” لأسعار الصرف الثابتة و التحول إلى نظام أسعار الصرف العائمـة تحت الضغوط التي تعرضت لها الولايات المتحدة من الحلفـاء في أوائل السبعينات خاصة فرنسـا لرفضها الإحتفاظ بالدولار عندمـا أغلق الرئيس الأمريكـي نيكسون نافذة الذهب, و أنهى بذلك نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة و طبـق بدلا منه نظـام تعويم أسعار الصرف الذي تمت المصادقة عليه في مؤتمر صندوق النقدي في جامايكـا سنـة 1986م.
أثرت السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية في النظام العالمـي بشكل كبير, و بنهاية عام 1971م تحولت أمريكا بسبب حرب الفيتنـام من دائـن إـلى مديـن, بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل الإرتفاع الشديد في أسعار الطاقة, و التقلبـات الحادة في أسعار صرف العملات الرئيسية التي أدت إلى تقليص قدرة الدول المتقدمـة على الإبقاء على معدل نمو اقتصادي كاف لاستمرار توليـد فرص العمل, و تنفيذ البرامج التي بدأت في الخمسينات و الستينات.
و كـان لأزمة البترول في السبعينات أثرها البالغ في تفشي حالـة من التضخم في الدول المتقدمة, و تدهور الإنتاجيـة و الكفاءة, بالإضافة إلى التزايد النسبي للقدرة التنافسية لعدد من الاقتصاديات المتوجهة حديثا نحو التصنيع, و تزايد نطاق و حجم المنافسة, الأمـر الذي عزز من توجهات الدول نحو التكتل الإقتصادي, و تكريس مزيد من الحماية ضد الدول خارج نطاق التكتل.
مما أصاب الإقتصاد العالمي بحالة من التراجع استوجبت إعادة هيكلة النظام الإقتصادي العالـمـي, و مـع انتهاء الحرب الباردة, تحقق المزيد من النحو للعلاقات الطبيعية بين مختلف الدول, و بدأت القيود السياسية على التجارة في التلاشي, و برزت توجهات جديدة مثل التوجـه نحو الإقليميـة الذي يعزز في جوهره العودة للجغرافيا –وليس السياسة- كمحدد رئيسي لتدفق التجارة بين الدول, و أصبح بالتالي الإعتماد الإقتصادي المتبادل ظاهـرة عالميـة.
كما نسجل ظهور قوى جديدة على الساحة الدولية, و التي سعت إلى تبوأ مكانة دولية مرموقة, سواءا كدول منفردة, أو كمجموعات تتسق مواقفها فيما بينها لتكتسب القدرة على حماية مصالحها.
لقد أثارت هذه التداعيات المتلاحقة للوضع الدولي تساؤلات حـول كيفية صياغة العملية السياسية العالمية اللازمة للحفاظ على الإقتصاد العالمي مفتوحـاً و متعد الأطراف, خاصة في ظل التوجهات الجديدة الداعية إلى مزيد من التكتل الإقليمي, بالتوازي مع الجهود الدوليـة في الإطار متعدد الأطراف, لضمان استمرار و توسيع نطاق تحرير التجارة الدولية, خاصة في ظل مجموعة المشاكل التي ظهرت كنتيجة مباشرة لتغير الوضع الدولـي, و أبرز هذه المشاكـل: ( )
1- ظهور و تنامي أوجه التباين بين حلفاء الماضي المعسكر الرأسمالي, نظرا لاختفاء الرابطة الناجمة عن مواجهة المعسكر الغربي لعدد مشترك.
2- استمرار الولايات المتحدة في الإحتفاظ بوضع القوة المهيمنة الرئيسية, حيث أنها تميل إلى الأسلوب الفردي في اتخاذ القرارات و تطبيق السياسات اتجاه الموضوعات الدولية المختلفة, بالإضافة إلى الأسلوب الأمريكي في تطبيق تشريعاتها الوطنية خارج الحدود لصيانة مصالحها التجارية.
3- تعرض الدول الصناعية لمجموعة من التحديات, خاصة على الصعيد الإقتصادي و مشكلات العمالة و التوظيف, و تأثير الإتفاقيات التجارية الدولية على أوضاع مواطنيها, مما جعل البعد الداخلي أكثر أهمية و محورية و متمتعا بالأولوية على البعد الدولي.
4- بروز لاعبين جدد في الإقتصاد العالمي الجديد, خاصة في منطقة شرق آسيا و اليابان و الصيـن, يعد هذا المتغير الجديد أحد أهم المؤثرات التي أسهمت بشكل مباشر في صياغة توجهات الإقتصاد العالـمي, و تفسر جانبا كبيرا من الاتجاهات الجديدة و السياسات التي تطبقها القوة الإقتصادية الكبرى لإعادة ترتيب الأوضاع, بهدف ضمان احتفاظها بقدرتها التنافسية و نصيبها في السوق.
و يسمكن تحديد هذه القوى الجديدة في الآتي: الإتحـاد الأوروبـي, اليابـان, الصيـن, النمور الآسيويـة (كوريا الجنوبية, ماليزيـا, اندونيسيـا, هونغ كونـغ, تايـوان, تايلانـد), هذه الأخيرة التي استحقت لقب الدول حديثة التصنيع (NICS) بفضل تحقيقها لمعدلات نمو تصل في أحيان كثيرة إلى %10 و التي نقلتها إلى مشارف البلدان الصناعية المتقدمة, و قـد نجحت عن طريق الهندسة العكسيـة, (1) و الاقتباس في تطوير تكنولوجيا تناسب امكاناتها و ظروفهـا فأكسبتها قدرة تنافسية متزايدة و نصيبا ملائماً في السوق العالمـي, رغم ما لحق بهذه الدول من أزمة مالية طاحنة في أواخر 1997م.
بالإضافة إلى القوة التي ذكرناها نجد “الـدول الناميـة المتقدمـة” و هذه الدول تضم عدداً من دول أمريكا اللاتينية و بعض الدول الآسيويـة مثل: (الفلبين, الهند, باكستان, و بدرجة أقل بنغلادش), و إن يرق التقدم الذي وصلت إليه مستوى ما أنجزته النمور الآسيوية, و كذا إفريقيا: حيث نجد مصر, نيجيريا, جنوب إفريقيـا, إذ طبقت هذه الدول برامج طموحة للإصلاح الإقتصادي.
تزامنت هذه التغيرات الجذرية في الهيكل الدولي للتوازنات و العلاقات مع ثلاثة متغيرات أساسية على الصعيد العالمي أسهمت في صياغة نمط جديد للتوجه الإقتصادي و التجاري الدولي:
المتغير الأول:
شروع العديد من الدول في تكوين التكتلات الإقتصادية سبه الإقليمية و الإقليمية و غير الإقليمية, على أساس تحرير التبادل التجاري بين أعضاء التكتل, و تعزيز التعاون الإقتصادي و التكنولوجي, و تنسيق القواعد التي تحكم التجارة فيما بينها, مثل الإجراءات الجمركية…
فظهرت في أمريكـا اللاتينية تجمعات: كالسوق الجنوبـي (ميركرسور), الكاريبـي (كاريكـوم) و في آسيا تجمع الأسيـان, لدول جنوب شرق آسيا, و في إفريقيـا السوق المشتركة لجنوب و شرق إفريقيا (كوسيسا).
و ظهرت على صعيد آخـر التكتلات الكبرى التي أطلقت عليها المجالات الإقتصادية الكبرى, على غرار “منطقة التجـارة الحـرة لأمريكـا الشماليـة” التي أعلنت عام 1992م, و هي تضم (كندا, المكسيك, الولايات المتحدة, منتدى التعاون الإقتصادي لآسيا و الباسيفيكي (أبيك) الذي يضم 18دولة من آسيا و الأمريكيتين, و تحول المجموعة الأوروبية من حالة السوق المشتركة إلى حالة الإتحاد بموجب معاهدة ماسترخت عام 1991م, و التي تزيل كافة القيود أمام تدفق التجارة في السلع و الخدمات, و انتقال رؤوس الأموال و الأشخاص, و التوصل لعملة موحدة في 1998-04-27م.
المتغير الثاني:
التوصل لإطار متعدد الأطراف لإدارة النشاط التجاري الدولي بكافة جوانبه المباشرة و غير المباشرة, بما في ذلك التجارة الغير المنظورة (تجارة الخدمات), و إجراءات الإستثمار و حقوق الملكية الفكرية, على أساس اتفاقية الجات لعام 1947م, و التي أسفـرت جولتها الأخيرة للمفاوضات (جولـة الأورجواي) عن إنشاء منظمة التجارة العالمية و التي تشرف على 28 وثيقة ثانوية لتحرير التجارة الدولية.
المتغير الثالث:
إعادة بث الروح في مؤسستي بريتون وودز, بسبب شروع العديد من الدول النامية و المتحركة اقتصاديا في إبرام اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي لمساندتها في تطبيق سياسات الإصلاح الإقتصادي و التكيف الهيكلي على اقتصاديات السوق, و تقليص دور الدولة في العملية الإنتاجية و السياسية الإقتصادية ككـل, و تعزيز دور مـؤسسات القطاع الخاص, و إطلاق حرية الإستثمار و التصرف في رأس المال و أرباح المشاريع للمستثمر المحلي و الأجنبي, وفقـاً لضوابط اقتصادية مدروسة تستخدم في المقام الأول أهداف التنمية.
و لكـن مالذي تعنيه هذه المتغيرات الثلاثة من منظـور صياغة نظام اقتصادي عالمي جديد, و أثر ذلك على التطورات الطارئة على سياسات التجارة و الإستثمار و الإنتـاج ؟
-2-I من التنمويـة إلى العالميـة:
مفهوم العولمة:
رغم عدم وجود تعريف متفق عليه لمفهوم العالمية, يمكننا وصف هذه العمليـة بكونهـا: “التوسع المتزايد المطرد في تدويل الإنتاج من قبل الشركات متعددة الجنسيات, بالتوازي مع الثورة المستمرة في الاتصالات و المعلومات التي حدت إلى تصور أن العالم قد تحوّل إلى قرية كونيـة صغيـرة ” (1)
بدأت أولى مراحل العالمية في مجال التجارة عندمـا تظافرت الجهود لتقليص القيود السياسية المفروضة على التجارة الدوليـة في أعقاب الحرب العالمي الثانية, و نتيجـة للخفض المستمر في التعريفات الجمركية في إطار جولات الجات المتعاقبـة, حققت التجارة العالمية معدل نمـو سنوي %8 منذ 1950 إلى 1975م في الدول الصناعية, و قد ارتفع هذا المعدل في السبعينات بسبب التدفقات المالية التي ولدت نتيجة تشكيل السوق الأوروبية المشتركة, بالتوازي مع تحرير و إعادة تدوير أموال دول الشرق الأوسط البترولية الناجمة عن ارتفاع أسعار البترول بشكل كبيـر, و استمر نمو المالية كنتيجة لتفجر أزمة المديونيـة في الثمانينـات.
لقد ظهرت الموجة الثانيـة من العالمية في النصف الثاني من الثمانينات في ظل التدفق المتزايد للإستثمار الأجنبـي بقيادة الشركات المتعددة الجنسيات, و الذي حدث نتيجة لأسباب عديـدة من بينهـا:
– تحرير الأسواق المالية في العديد من الدول الصناعية المتقدمـة.
– السياسات الأوروبية الهادفة إلى إنشاء السوق الموحد, بالتوازي مع السياسة الخارجية الأمريكية التي حثت الشركات الأجنبية –خاصة اليابانية- على الإستثمار في السوق الأمريكي بدلا من التصديـر.
نتيجة لهذه الأسباب مجتمعة, حقق الإستثمار الأجنبي المباشر نمو في النصف الثاني من الثمانينات يماثل أربعة أضعاف معدل نمو الناتج العالمي, و ثلاثة أضعاف معدل نمو التجارة الدولية, بينما سيطرت المؤسسات متعددة الجنسيات, ذات الموطن الأم في مثلث الولايات المتحدة الأمريكية و الإتحاد الأوروبي و اليابـان على %80 من هذه الإستثمارات.
و يلاحظ أن النمـو في الإستثمار قد حقق معدلات أسرع في القطاعات كثيفة التكنولوجيـا في دول المثلث. و في بداية الثمانينات عزز الإستثمار تحالفات استراتيجية بين و عبر المؤسسات الكبرى لضمان تدفق التكنولوجيا و توزيع النفقات المتزايدة للبحث و اختراق الأسواق بكفاءة أكبر.
و بهذا أنشطت مفاهيم العولمة التي غيرت من طبيعة التجارة الدولية خاصة بين هذه الدول, فانتقلت التجارة في السلع المصنعة من العمالة الكثيفة و التكنولوجيا المنخفضة إلى التكنولوجيا المرتفعة على حساب كثافة العمالة, لتعكس مزيدا من التخصص للشركات.
نموذج التنموية (1)
يمثل نموذج التنموية أحد مكونات هيكل النظام الإقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانيـة, و هو النمط الذي يسعى إلى ترتيب نشاط الرأسمالية العالمية من خلال إدارة للعملية الإقتصادية, بمعنى أن تكون الدولة هي المحرك الأساسي للنشاط الإقتصادي و المحدد لتوجهاته.
فعملية التنمية كنشاط اقتصادي يهدف إلى تحقيق التحديث يهدف تمكين كل دولة من تكرار نفس النمط التنموي المطبق في العالم الأول للوصول إلى نفس المستوى من التحديث.
خضع هذا النموذج لسيطرة اللوائح المنظمة للإقتصاد بمعرفة الدولة بغرض تحقيق استقرار الأجور و استخدام الدعم الحكومي لضمان التوظيف الكامل, و لقد تم توسيع هذا النموذج ليصل إلى دول العالم الثالث إلا أنه لم يحقق أهدافه نظرا لإفراط الدول في استخدام اللوائح و النظم لأغراض حمائية من جهة, و من جهة أخرى بسبب الإختلاف في النظم المطبقة في دول المتقدمة و نظيرتها في الدول المتخلفة.و لقد كان فشل هذا النموذج في رأي الكثيرين هو السبب الرئيسي وراء ظهور النموذج البديل الذي لقب بالعولـمـة.
يكمن الإختلاف الرئيسي بين “النمـط التنمـوي” و “النمـط العالمـي” الجديد في أنّ الأول يسعى إلى تحقيق استقرار الرأسمالية العالمية من خلال الإدارة الوطنية للإقتصاد,و تطبيق التنميـة في العالم النامـي عن طريق اقتباس نموذج التنمية المطبق في الغرب, أمـا الثـانـي فيسعى إلى تطويع الرأسمالية العالمية من خلال الإدارة العالـمية للإقتصاد تحت لواء القطاع الخاص و الشركات العالمية العملاقة متعددة الجنسيات, و على أساس التخصص بدلا من الاقتباس.
في ظل المفهوم المستحدث الذي خضعت بموجبه عملية إدارة الإقتصاد الدولي للمعايير الإقتصادية المفروضة من قبل المؤسسات متعددة الأطراف و البنوك الدوليـة و الاتفاقيات التجارية, وفقا للنمط الجديد, وجدت الدول نفسها واقعـة تحت ضغوط شديدة للحفاظ على جدراتها الإئتمانية و قدرتها التنافسية, و لقد كان لهذه العملية أثران على التنمية:
1- أصبحت إعادة الهيكلة الشاملة أمراً ضروريـا لاكتساب القدرة التنافسيـة الدولية و الجدارة الإئتمانيـة.
2- إجراءات التقشف و الخصخصة و التوسع في الصادرات التي طبقتها الدول المدينة سعيا لبند الجدارة الإئتمانية, و أمـلاً في جذب الإستثمار لمواصلة المشروع التنموي الوطنـي, بث الحيوية في الإقتصاد العاملـي ككل بدلا من الدول المعينة بذاتها.
II ظاهرة العولمة الإقتصادية:
بعدما تعرضنـا للسياق التاريخي الذي تضافرت عوامله مؤدية إلى المفهوم الجديد: العولمـة الإقتصاديـة, سنحاول في هذا الفصل دراسة الظاهرة عن قرب بدراسة مفهومها و التعرض لمظاهرها و كذا خصائصها, مع التركيز على العولمة المالية (أي البعد المالي للعولمة الإقتصادية).
-1-II مفهوم و مظاهر العولمة الاقتصادية:
-1-1-II تعريف العولمة:
“العولمـة هي انفتاح عن العالم, و هـي حركة متدفقة ثقافيا و اقتصاديا و سياسيا و تكنولوجياً, حيث يتعامل مدير اليوم مع عالم تتلاشى فيه تأثير الحدود الجغرافية و السياسية, فأمامنا رأس مال يتحرك بغير قيود و ينتقلون بغير حدود, و معلومات تتدفق بغير عوائق حتى تفيض أحيانا عن طاقة استيعاب المديرين. فهذه ثقافات تداخلت و أسواق تقاربت و اندمجت, و هذه دول تكتلت فأزالت حدودها الإقتصادية و الجغرافية, و شركـات تحالفت فتبادلت الأسواق و المعلومات و الاستثمارات عبر الحدود, و هـذه منظمات مؤثرة عالمياً مثل: البنك الدولي, صندوق النقد الدولي, ووكالات متخصصة للأمم المتحدة تؤثر بدرجة أو بأخرى في اقتصاديات و عملات الدول و مستـوى و ظروف معيشة الناس عبر العالم”. (1)
-2-1-II مظاهر العولمة:
-1 تحـول مفاهيم الاقتصاد و رأس المال:
و قد اقترنت العولمة بظواهر متعددة استجدت على الساحة العالمية, أو ربما كانت موجودة من قبل, و لكن زادت من درجة ظهورها, و هذه الظواهر قد تكون اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو اتصالية أو غيـرها, و لاشك أنّ أبرز هذه الظواهـر الإقتصادية التي أهمهـا:
– تحول الإقتصاد من الحالة العينية (الأنشطة التقليدية كتبادل السلع عينياً بالبيع و الشراء) إلـى الإقتصاد الرمزي الذي يستخدم الرموز و النبضات الإلكترونية من خلال الحواسب الإلكترونية و الأجهزة الإتصاليـة, و ما ينتج عن ذلك من زيادة حجم التجارة الإلكترونية و التبادل الإلكتروني للبيانات في قطاع التجارة و النقل و المال و الإئتمان و غيرها.
– تحول رأس المال من وظائفه التقليدية كمخزن للقيمة و وسيط للتبادل, إلى سلعة تباع و تشترى في الأسواق (تجارة النقود)؛ حيث يدور في أسواق العالم ما يزيد عن 100 تريليون دولار (100 ألف مليار) يضمها ما يقرب 800 صندوق استثمار, و يتم التعامل يومياً في ما يقرب من 1500 مليار $, أي أكثر من مرتين و نصف قدر الناتج القومي العربي, دون رابط أو ضـابط, و هو ما أدى إلى زيادة درجة الاضطراب و الفوضى في الأسواق المالية, و أعطى لرأس المال قوة لرفض شروطه على الدول للحصول على أقصى ما يـمكن من امتيازات له. و قد أدى هذا كله إلى زيادة التضخم نتيجة لزيادة قيمة النقـود.
– تعمق الإعتماد المتبادل بين الدول و الاقتصاديات القومية, و تعمق المبادلات التجارية من خلال سرعة و سهولة تحرك السلع و رؤوس الأموال و المعلومات عبر الحدود مع النزعة إلى توحيد الأسواق المالية, خاصة مع إزالة كثير من الحواجز الجمركية و العقبات التي تعترض هذا الانسياب بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية, التي بدأت نشاطها في بداية عام 1995م, و هو ما يشاهد الآن بعد توحد بورصة لندن و فرانكفورت اللتين تتعاملان في حوالي 4 آلاف مليار $, كذلك توحد بورصات أوروبية أخرى, و هناك اتجاه متزايد نحو إنشاء سوق مالية عالمية موحدة تضم معظم أو جميع البورصات العالمية, و تعمل لمدة 24ساعة ليمكن المتاجرة في أسهم الشركات الدولية من أي مكان في العالم.
و قد ترتب عن إزالة الحواجز و العوائق بين الأسواق أن أصبحت المنافسة هي العامل الأقوى في تحديد نوع السلع التي تنتجها الدولة, و بالتالي فإن كثيراً من الدول قد تخلت عن إنتاج و تصدير بعض سلعها؛ لعدم قدرتها على المنافسة مثل صناعة النسيج في مصر التي انهارت أمام منافسة دول جنوب شرق آسيا, و أصبحت تلك الدول تحصل على حاجتها من دول أخرى لها ميزة تنافسية في إنتاج تلك السلع, و هو ما ينطبق أيضا على رؤوس الأموال التي أصبحت مركزة في بعض الدول المنتجة و المصدرة للبترول, و على الدول التي تحتاج إلى تلك الأموال أن تحصل عليها من الدول المتقدمة.
-2 دور أكبـر المنظمات العالمية:
– زيادة الإنفتاح و التحرر في الأسواق و اعتمادها على آليات العرض و الطلب من خلال تطبيق سياسات الإصلاح و التكييف الإقتصادي و الخصخصة, و إعادة هيكلة الكثير من الاقتصاديات الموجهة و اقتصاديات الدول النامية مع متطلبات العولمة (مثلما حدث في مصر, و يحدث الآن في دول الخليج فضلاً عن باقي دول العالم).
– زيادة دور و أهمية المنظمات العالمية في إدارة و توجيه الأنشطة العالمية، كصندوق النقد الدولي و البنك الدولي للإنشاء و التعمير, و منظمة العالمية للتجارة, و اليونسكو, و منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة و غيرها.
– التوجه نحو تشكيل العديد من التكتلات الإقليمية الإقتصادية و السياسية و الثقافية مثل تكتل الأسيـان و الإتحاد الأوروبي و غيرها, و الزيادة الملحوظة في أعداد المنظمات غير الحكومية بعد أن بدأ دور الدولة في إدارة الإقتصاد في التناقض.
-3 تفاقم المديونية و تزايد الشركات المتعددة الجنيات:
– استشراء ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات, مع سيطرتها على الإستثمار و الإنتاج و التجارة الدولية و الخبرة التكنولوجية مثل شركة IBM, و مايكروسوفت و غيرها, خاصة بعد أن ساوت منظمة التجارة العالمية بين هذه الشركات و الشركات الوطنية في المعاملة.
– تفاقم مشاكل المديونية العالمية و خاصة ديون العالم الثالث, و الدول الفقيرة مع عدم قدرتها على السداد, و ما تزامن مع ذلك مع زيادة حجم التحويلات العكسية من الدول الفقيرة إلى الدول المتقدمة, و المتمثلة في خدمة الديون و أرباح الشركات المتعددة الجنسيات و تكاليف نقل التكنولوجيا و أجور العمالة و الخبرات الأجنبية, و الذي قابله في نفس الوقت تقلص حجم المعونات و المساعدات و المنح الواردة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية و عدم جدواها.
– ظهور تقسيم دولي جديد للعمل تتخلى فيه الدول المتقدمة للدول النامية عن بعض الصناعات التحويلية (هي الصناعات التي تعتمد على تحويل المادة الخام إلى سلع مصنعة يمكن الاستفادة منها, كصناعات الصلب, و البيروكيماويات, و التسليح و غيرها) التي لا تحقق ميزة نسبية, مثل الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة و كثيفة العمل و الملوثة للبيئة, و ذات هامش الربح المنخفض, مثل صناعات الصلب و البتر وكيماويات و التسليح, بينما ركزت الدول المتقدمة على الصناعات عالية التقنية كصناعة الحاسبات و البرامج و أجهزة الاتصالات و الصناعات الالكترونية, ذات الربحية العالية و العمالة الأقل.
-4 تبديد الفوائض بدلا من تعبئتها:
– تغير شكل و طبيعة التنمية, فبعد أن كانت التنمية تعتمد أساساً على تعبئة الفوائض و التمويل الذاتي (الادخار), تحولت إلى تنمية تعتمد على الاستثمارات الخارجية و الشركات المتعددة الجنسيات, و أصبحت التنمية هي تنمية الفوائض و المدخرات (الاستهلاك) كناتج أساليب الاستهلاك الترفيهي المتزايدة, تحت ضغط الآلة الإعلانية الجبارة, التي أدت إلى عجز مزمن في موازين المدفوعات و تفاقم أزمة الديون في العالم الثالث, و تركيز التنمية على الجانب الإقتصادي فقط أي تحولها إلى تنمية وحيدة الاتجاه تهمل الاتجاه الإجتماعي و الثقافي,مع اعتماد نظام السوق ليكون أساسا للتنمية في مختلف بلاد العالم. حتى الطبقات عالية الدخل في الدول النامية التي من المفترض أن تكون نسبة ميلها (نسبة الإنفاق على الإستهلاك من الدخل الكلي) قليلة و أصبحت تلك الفئات المسرفة التي تبدد دخولها على الاستهلاك الترفيهي, و بالتالي فإن ميلها الإستهلاكي أصبح مرتفعاً, و قد ساعد على ذلك قدرة الاقتصاديات المتقدمة على إنتاج سلع جديدة و التنوع في السلع القديمة مثل ابتكار طرازات جديدة من السيارات و السلع المعمرة و غيرها.
– تراجع نصيب المادة الأولية في الوحدة من المنتج في العصر الحديث بسبب تطور الإنتاج, و هو ما يسمى بالتحلل من المادة, و إحلال الطاقة الذهنية و العملية (الفكر), محل جزء من المادة الأولية, مما أدى إلى تراجع الأهمية النسبية للنشاط الصناعي في الهيكل الإنتاجي في الدول المتقدمة الصناعية و تصاعد الأهمية النسبية لقطاع الخدمات, و قد زادت الأهمية النسبية لنشاط الخدمات داخل النشاط الصناعي ذاته بحيث أصبحت تمثل أكثر من %60 من الناتج الصناعي, لتنامي الصناعات عالية التقنية, و ظهور مجموعة جديدة من السلع غير الملموسة كالأفكار و التصميمات و المشتقات المالية استقطبت المهارات العالية, و ما ترتب عن ذلك من زيادة عملية التفاوت في الأجور, و بالتالي توزيع الدخل القومي توزيعا غير عادل, سواءا على مستوى أفراد الدولة الواحدة أو بين الدول.
-5 زيادة الفوارق بين الطبقات و البطالة:
– تعمق الثنائية الإجتماعية في مجتمعات العالم الثالث, فبعد أن كانت الفوارق مادية, أصبحت هذه الفوارق مادية و تكنولوجية بسبب استحواذ الطبقات مرتفعة الدخل على الإنجازات التكنولوجية عالية القيمة التي يصعب على الفقراء اقتناؤها, كالإنترنت و التليفون المحمول و الحاسبات الإلكترونية و غيرها…, و يؤدي هذا في المستقبل إلى زيادة و ترسيخ التخلف في الطبقات الفقيرة و صعوبة تقليل الفوارق بين الطبقات العالية الدخل و الفقيرة في المجتمع مما بهدد الاستقرار الاجتماعي.
– زيادة و انتشار البطالة في المجتمعات و خاصة في الدول النامية بسبب الاتجاه إلى استخدام الأساليب كثيفة رأس المال, التي تعتمد على استخدام عدد أقل من القوى العاملة, و ذلك بسبب الحاجة إلى تخفيض تكاليف و زيادة مستوى الجودة, فلا مكان للمنافسة في السوق العالمية الموحدة بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية.
– إحلال مفاهيم جديدة محل القديمة كسيادة مفهوم الميزة التنافسية, و حلوله محل الميزة النسبية, بعد توحد الأسواق الدولية و سقوط الحواجز بينها, و كذلك سقوط مفهوم التساقط الذي تبناه البنك الدولي و صندوق النقد الدولي لمدة طويلة, حيث إن الطبقات العالية الدخل في الدول النامية هي طبقات مسرفة لا تدخر و لا تستثمر و تبدد فوائضها في مصارف استهلاكية لا يستفيد منها الجميع, و هو ما أدى إلى تناقض معدلات النمو في هذه الدول بسبب الاستثمارات و زيادة عجز الموازين التجارية و موازين المدفوعات.
و تعني الميزة التنافسية للدولة قدرتها على إنتاج سلع و تصديرها لتنافس في الأسواق العالمية دون أن تتوفر لها المزايا التي تساعدها على إنتاج هذه السلع مثل الظروف الطبيعية و المناخية و المواد الأولية, وذلك نتيجة تفوقها التكنولوجي, حيث يمكن لها استيراد المواد الأولية من الخارج و تصنيعها بدرجة عالية من الجودة و بتكلفة أقل لتنافس في السوق العالمي مثلما يحدث في اليابان, و سنغافورة و دول جنوب شرق آسيا, و قد ساعد على ذلك تناقص قيمة المادة في السلع و زيادة القيمة الفكرية و الذهنية نتيجة استخدام الحاسب و أجهزة الاتصالات.
أمـا الميـزة النسبيـة, فهي تعني توفر مزايا للدولة تساعدها على إنتاج سلع معينة كالظروف الطبيعية و المناخية و المواد الأولية أو القوى العاملة الرخيصة, إلا أن هذه المزايا قد لا تساعدها على المنافسة في الأسواق العالمية؛ ربما لانخفاض الجودة أو لارتفاع التكلفة بسبب غياب التكنولوجيا.
– اتجاه منظمات الأعمال و الشركات إلى الإندماج؛ لتكوين كيانات إنتاجية و تصنيعية هائلة, الغرض منها توفير العمالة و تقليل تكاليف الإنتاج و الحصول على مزايا جديدة كفتح أسواق جديدة أو التوسع في الأسواق الحالية, و هو ما نشاهده الآن من اندماجات الشركات الكبرى مع بعضها, حيث دخلنا فيما يسمى بعصر “الديناصـورات الإنتاجيـة” الهائلة و الأمثلة على ذلك كثيرة في مجالات البترول و التكنولوجيا و المعلومات والمصارف, و ينتج عن ذلك بالتأكيد تطوير كبير في علم الإدارة و الرقابة و السيطرة للتوصل إلى مهارات إدارية و تنظيمية و صيغ جديدة من الأشكال التنظيمية التي تناسب هذه الكيانات الكبيرة.
-2-I خصائص العولمة الإقتصادية: (1)
-1 تدفق التبادلات التجارية كمحرك للنمو الإقتصادي:
التبادلات التجارية: تمكن الخاصية الرئيسية للعولمة الإقتصادية أساساً في الزيادة السريعة و المتزايدة للتجارة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية, إذ نلاحظ التزايد السريع لقيمة تبادل البضائع أكثر من قيمة الإنتاج و المداخيل (إجمالي الناتج الداخلي الخـام).
فعلى سبيل المثال فإن حصة الخدمات (المواصلات, التأمينات, الاتصالات السلكية و اللاسلكية, السياحة, حقوق التأليف…) من التأليف ذات التكاثر و إن التكاثر المسترسل و المستمر بشكل واضح, إذ تمثل هذا الأخير اليوم 1/5 التبادلات, هذا من جهـة, تتزايد حصة المنتوجات المانفاكتورية كذلك على حساب المنتوجات القاعدية الموجهة أساساً للتحويل في القطاع الصناعي، إذ انتقلت نسبة الخدمات من %56 سنة 1982 إلـى %73 سنة 1992م من جهة أخرى.
هيمنة الشمال: تحقق الدول المتطورة أكثر من ¾ التجارة العالمية, و على العموم فإن مساهمة الدول السائرة في طريق النمو لهذا القرن تشهد تزايداً ملحوظاً منذ بداية التسعينات في مجال التجارة العالمية.
-2 انفجار و تدفق التبادلات المالية و الاستثمارات في الخارج:
إلغاء التنظيمات: تميزت العولمة بتسريع المتبادلات المالية و تطور الاستثمارات المباشرة في الخارج, إن مصدر هذه الحركة يعود جزئيا إلى تعميم الانزلاقات و عدم التحكم فيها خلال الثمانينات, و مما سهل من هذه المهمة وجود الابتكارات التكنولوجية التي تؤدي إلى توزيع الإعلام و التحويلات الفورية, عرفت كل نشاطات البورصة و البنوك الداخلية و كذا الحركات لرأسمال تحررا مطلقا.
فعلى سبيل المثال, إن التزايد المالي في الأسواق المصرفية ما بين 1988-80 تضاعفت بحوالي 8.5 مرة في دول منظمة التعاون و التنمية الإقتصادية (OCDE), و تدفق الاستثمارات المباشرة في الخارج ب3.5مرات, و كذا التدفق التجاري و الناتج الداخلي الخام ب 1.9مرة, و هكذا فـإن الاستثمارات المباشرة في الخارج زادت سرعتها بثلاث مرات عن المبادلات التجارية خلال سنوات الثمانينات, و قد بلغ مجمل الزيادة السنوية للإستثمارات حوالي 870مليار مقابل 290مليار خلال العشرية السابقة, و بهذا تصبح أهمية وزن القطاع الخدمات (المال/ التوزيع) تعادل و تساوي الاستثمارات الصناعية.
– الدول الصناعية: شهدت الولايات المتحدة الأمريكية تقلصا ملحوظا لحصتها في الاستثمارات في الخارج, و لكن هذه الدولة إلى البلد الرئيسي المستقبل لهذه الاستثمارات, بينما كرست حضورها و تواجهها في العالم كل من هولنـدا و بريطانيـا العظمـى و ألمانيـا, من جهة أخرى حققت فرنسا و اليابان تغلغلاً معتبراً.
– تاريخيـاً: ساهمت الدول المتخلفة بقسط ضئيل في هذه الحركة, ما دام أنّ تزايد استثمارات تمركز في الدول المصنعة عموماً, و لكن انعكس اتجاه الاستثمارات في أواخر الثمانينات, إذ أن حصة الدول السائرة في طريق النمو من الاستثمارات في الخارج عرفت تزايداً ملحوظاً, و انتقل من %15 في سنة1989 ليصل إلـى %43 في 1993, و لكن تدفق الاستثمارات في اتجاه الدول المتخلفة تميز جغرافي بارز (جنوب شرق آسيا خصوصاً), و بسرعة فائقة تبرز و تنفرد خصوصيتها المالية الآسيوية الأخيرة التي شهدتها هذه المنطقـة.
– التشجيع على عدم وضع قواعد تنظيمية: مكنت السيولة المالية للمؤسسات من خلق و انتقال وحداتها الإنتاجية بكل سهولة في البلدان التي تتساهل كثيراً في مجال الأعباء الأجرية و الضرائب و القوانين البيئية, لذا يمكن للبلدان الصاعدة أن تتسامح في مجال المعايير الإجتماعية و البيئية قصد جذب أكبر عدد من الاستثمارات و رؤوس الأموال الأجنبية, هذه الفرضية يجب أخذها بكل تحفظ, لكن الشيء المؤكد في هذا الشأن هو أنّ الرقابة و الصرامة للقواعد و الإجراءات القانونية, الاجتماعية, و البيئية, و خاصة مرونة في العقوبات, كل هذا جعلها عوامل جذب أو إغراء رأسمال المتأني من المؤسسات التي يهمها الربح فقط.
-3 الدور الضروري لقوة الشركات المتعددة الجنسيات:
إن الظواهر التي وصفناها سابقا, كانت الشركات المتعددة الجنسيات وراء تفعيلها أو المساهمة فيها, إذ تزامن هذا التزايد في الشركات و بالتوازي مع هذه الحركة العالمية و التي عادت عليها بأرباح و منافع هائلة.
– منافع تحت الرقابة: تمحورت مبادلات الشركات العظمى المتعددة الجنسيات حول أربعة قطاعات أساسية (البترول, السيارات, التكنولوجية, العالمية, البنوك), و لكن تعتمد هذه الأخيرة على خلق شبكة معتبرة من الفروع في الخارج كامتداد و توابع لها في الدول النامية, و تتضمن تلك الشركات العظمى كل المبادلات, و تحقق %70 من الاستثمارات المباشرة في الخارج باعتبارها المحرك الرئيسي لتوسعها.
و تقدم هذه الشركات أداة تسيير, و مهارات جيدة في مجال التحكم التكنولوجي, و إيجاد منفذ للتغلغل في الأسواق العالمية و لكن يمكن أن تعتمد على أن الأسواق المحلية, لذا فهي تستفيد من وفرة اليد العاملة الرخيصة في سـوق العمـل.
– القدرة التنافسية: و تؤهل هذه الخصائص للشركات المتعددة الجنسيات, لاكتساب وزن في كل تفاوض مع الدول سواء الشمالية أو الجنوبية, و في هذا الإطار تستطيع هذه الشركات اكتساب الوسائل اللازمة للتأثير بشكل كبير في السياسات العمومية و بخاصة البيئة, و هذا ما يفسر المشاركـة الفعالة للشركات الكبرى في اللقاءات و المفاوضات الدولية حول البيئة و التنمية, و كذا المناقشات المتعلقة بمدونات حسن السلوك الإداري و المهيأة خصيصاً لهذه الشركات.
– تطبيق أحداث أساليب الإدارة و يتم توظيف الكفاءات و تستخدم وسائل الإتصال (الكمبيوتر, الأنترنت), و اتخاذ القرار المناسب في الوقت و أحكام الرقابة على النشاطات الإقتصادية في العالم, فالعولمة أساسها اقتصادي بالدرجة الأولى, لأنها أكثر وضوحـاً في أرض الواقع و أصبحت النظم الإقتصادية متقاربة و متداخلة تحكمه أسس مشتركة, و تديره مؤسسات و شركات عالميـة.
أمـا الأسواق التجاريـة و الماليـة فأصبحت خارجة عن تحكم دول العالم, و أصبحت الشركات الكبرى تدير عمليات الاستثمار و الإنتاج, و بهـذا أصبحت حركة رأس المال و الاستثمار, و الموارد و السياسات ز القرارات على الصعيد العالمي, و ليست على الصعيد المحلي.
نتيجـة لذلك, عرف النظام الاقتصادي العالمي خلال التسعينات ظهور عدة معالم منها:
– تداخل الإقتصاد العالمي؛
– التسارع نحو الإقتصاد الحر؛
– الخصخصة و الاندماج في النظام الرأسمالي؛
– تحول المعرفة و المعلومة إلى سلعة استراتيجية و أصبح التركيز على الخدمات بدلا من الصناعـة.
– ظهور تكتلات تجارية رئيسية تتمحور حولها الإقتصاد العالمي؛
– ظهور دول منطقة جنوب شرق آسيا كطرف مهم في الاقتصاد العالمي.
-3-II البعد المالي للعولمة ( العولمة المالية): (1)
تعتبر العولمة ظاهرة شمولية لها أبعاد اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ثقافية, إلاّ أنّ عقد التسعينات أبز ميلاد ما يمكن أن نسميه العولمة المالية, التي يرى البعض أنها أبرز تجليات ظاهرة العولمة, حيث زادت رؤوس الأموال الدولية بمعدلات تفوق بكثير معدلات نمو التجارة و الدخل العالميين.
و قـد حضيت الأبعاد المختلفة للعولمـة بالكثير من الدراسة و التحليل, غير أنّ البعد المالي بقي منقوصـاً –إن لم نقل مهملا- من التشخيص و البحث.
و قد شهد العالم أخيرا مثل الأزمات المالية الخانة التي تعرضت لها المكسيـك (1995-94), و دول جنوب شرق آسيـا (1997) و التي كانت نموذجا يتحدى به, و البرازيـل (1998)؛ و روسيـا (1999), و ميلاد العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” و ما نتج عن ذلك من تأثيرات على الإقتصاد العالمي, ألقت بضلالها على اهتمامات الباحثين و الجامعين.
إن ظاهرة العولمة المالية تعكس من زيادة حركية في تنقل رؤوس الأموال قد تحمل معها مخاطر عديدة و هزات مدمرة, كما أنها قد تجلت معها فوائد و مزايا – إن أحسن التصرف فيها- تعود بالنفع على الاقتصاد العالمي بشكل عام و الدول النامية بشكل خاص, لأن نمو هذه الأخيرة أصبح مشروطا ضروريا لتحقيق الاستقرار و النمو الاقتصادي العالمي و لتضييق الهوة بين أطرافه.
لهذا فإن الإلمام بمدى نجاعة العولمة للبلاد النامية و مخاطرها, يستوجب الوقوف عند العوامل المسببة لتعاظم هذه الظاهرة.
-1 العوامل المفسرة للعولمة المالية:
و يمكن إيجاز هذه العوامل في النقاط التالية بغض النظر على الترتيب:
– صعوبة الرأسمالية المالية:
و نعني بها الأهمية المتزايدة لرأس المال التي يتجسد في صناعة الخدمات المالية بمكوناتها المصرفية و غير المصرفية, و نتيجة لذلك أصبح الاقتصاد العالمي تحركه مؤشرات و رموز البورصات العالمية (داوجونز, ناسدك, نيكاي, داكس, الكيك 40), و التي تؤدي إلى نقل الثورة العينية من يد مستثمر إلى آخر دون أي عوائق سواء داخل البلد الواحد أو عبـر الحدود الجغرافية.
– الأموال:
إن الحركة الدائمة لرؤوس الأموال الباحثة عن الربح على الصعيد العالمي تعكس وجود كتلة كبيرة عن الفوائض الادخارية غير المستثمرة, فأصبح من الضروري البحث عن منافذ لاستثمارها فراحت تبحث عن فرص استثمارية على الصعيد الدولي, لتدر مردوداً أفضل مما لو بقيت في الداخل أو مستثمرة بمعدلات ربحية متدنية في الدول المصدرة لهذه الأموال.
-ظهور الأدوات المالية:
تكرست العولمة المالية بنمو الأدوات المالية الجديدة التي استقطبت المستثمرين مثل المبادلات و الخيارات و المستقبليات, بالإضافة إلى الأدوات التقليدية التي تداول في الأسواق المالية, و هي الأسهـم و السنـدات.
– التقدم التكنولوجي:
يتكامل هذا العامل مع سابقة في الدور الذي تلعبه شبكات الاتصال و نقل المعلومات التي يتيحها التقـدم التقني الهائل الذي نشهده اليوم, في ربط الأسواق المالية العالمية مما يسمح للمستثمرين بالفعل و ردّ الفعل, على التطورات التي تحدث في هذه الأسواق بصفة آنية و فورية.
– أثر سياسات الانفتاح المالي:
ارتبطت زيادة التدفقات رؤوس الأموال عبر الحدود و سرعة انسيابها بين سوق و آخر بشكل وثيق مع سياسات التحرر المالي الداخلي و الخارجي.
-2 العولمـة الماليـة – المزايا و المخاطر:
أ- المزايـا:
يرى أنصار العولمة المالية أنها تحقق مزايا عديدة يمكن إجمالها في النقاط التالية:
بالنسبـة للدول الناميـة:
• يمكن الانفتاح المالي الدول النامية من الوصول إلى الأسواق المالية للحصول على ما تحتاجه من أموال لسد فجوة في الموارد المحلية, أي قصور المدخرات عن تمويل الاستثمارات المحلية, مما يؤدي إلى زيادة الاستثمار المحلي و بالتالي معدل النمو الاقتصادي.
• تسمح حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة و استثمار الحافظة المالية بالابتعاد عن القروض المصرفية التجارية, و بالتالي الحد من زيادة حجم الديون الخارجية.
• تخفيف تكلفة التمويل بسبب المنافسة بين الوكلاء الإقتصاديين.
• تؤدي إجراءات تحرير النظام المصرفي و المالي إلى خلق بيئة مشجعة لنشاط القطاع الخاص إلى الحد من ظاهرة هروب رؤوس الأموال إلى الخارج.
• تساعد الاستثمارات الأجنبية على تحويل التكنولوجية.
بالنسبة للدول المتقدمة:
• تسمح العولمة المالية للبلاد المصدرة لرؤوس الأموال ( وهي في الغالب الدول الصناعية الكبرى), بخلق فرص استثمارية واسعة أكثر ربحية أمام فوائضها المتراكمة, و توفر ضمانات لأصحاب هذه الأموال و تنويعا ضد المخاطر من خلال الآليات التي توفرها الأدوات المالية و التحكيم بين الأسواق المختلفة.
ب- المخاطـر:
لقد أثبتت تجارب عقد التسعينات، أن العولمة المالية بالنسبة للدول النامية كثيراً ما أدت إلى حدوث أزمات و صدمات مالية مكلفة (المكسيك و النمور الآسيوية و البرازيل و روسيا…), و يمكن إيجاز مخاطر العولمة المالية في النقاط التالية:
• المخاطر الناجمة عن التقلبات الفجائية للإستثمارات الأجنبية (خصوصاً قصيرة الأجل مثل استثمارات الحافظة المالية)؛
• مخاطر التعرض لهجمات المضاربة؛
• مخاطر هروب الأموال الوطنية؛
• مخاطر دخول الأموال القذرة (غسل الأموال)؛
• إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية و النقدية.
و لا يختلف كثيرا دور الاستثمارات الأجنبية الخاصة في تنمية البلدان الأقل نمواً عن تحرير التجارة, فهذه الاستثمارات تأتي لخدمة التجارة الخارجية و بدافع تحقيق الربح الوفير و السريع, فهي بالتالي تعمل على تقديم التقسيم الدولي القائم و لا تغييره لصالح الدول النامية, إذ أنّ رأي أنصار منظمة التجارة العالمية و المؤسسات الدولية الأخرى بأن تحرير التجارة و الاستثمارات الأجنبية يسهم بشكل فعال في تحقيق النم الاقتصادي للدول تعترضه تحفظات, فكثيراً ما يكون النمو و الأداء للاقتصاد هو الذي يجلب الاستثمارات الأجنبية الخاصة و ليس العكس, حيث أن هذه الاستثمارات شأنها شأن القروض الخارجية الممنوحة من طرف المؤسسات المالية الدولية, تذهب إلى الدبلابول التي نجحت بالفعل في رفع معدلات نموها, مما تذهب إلى الدول التي تحتاج إلى هذه الأموال لرفع معدل نموها, كما يشهد بذلك توزيع هذه الاستثمارات بين مناطق العالم.
ففي عقد التسعينات مثلا اتجهت الحصة الكبرى من الاستثمارات الأجنبية إلى الدول الأجنبية إلى الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا و اليابان), و بلغت أكثر من %15 كمتوسط.
و إن كانت الدول النامية قد أفلحت في زيادة حصتها من الاستثمارات فإن ذلك كان لصالح عشر دول ناشئة أو صاعدة و هي (الأرجنتين, البرازيل, تشيلي, الصين, إندونيسيا, كوريا الجنوبية, ماليزيا و المكسيك و تايلاند), حيث تستحوذ هذه الدول ثلاثة أرباع مجمل تدفقات رؤوس الأموال إلى البلدان النامية, و هذا التوزيع ينفد فرضية التوزيع الأمثل و العادل لرؤوس الأموال على الصعيد العالمي.
و إذا نظرنا إلى تركيبة هذه الأموال, فإننا نلاحظ المكانة الكبرى للاستثمارات الأجنبية المباشرة, و التزايد المطرد للاستثمار في الحافظة المالية عدى حساب القروض التجارية الأخرى, و هو ما يعكس رعية الدول المستقطبة لهذه الموال في مثل النوعين الأولين لكونهما يخلقان فرصا جديدة للتمويل و التشغيل دون إثقال الديون الخارجية للدول.
أمام هذه الوضعية, ما هي الإجراءات اللازمة للاستفادة من حرية التجارة و الاستثمارات الأجنبيـة؟
-3 الإجراءات اللازمة للاستفادة من الوضع الاقتصادي الدولي:
لا توجد الدول النامية في منزلة واحدة من التقدم و التنمية, و بسبب عدم وجود حلول شاملة, فإن المشاكل الداخلية التي على هذه الدول أن تتخطاهـا لجني ثمار سياسات الانفتاح و التحرير التجاري و جلب الاستثمارات الأجنبية, قد تختلف من بلد لآخر, و لضمان ذلك لا بد من تحقق جملة من الأهداف نذكـر منـا:
أ- استقرار السياسات الاقتصادية الكلية:
يعتبر وجود سياسة اقتصادية كلية عامة ثابتة و مستديمة, شرطاً ضروريا للاستفادة من الإمكانات التي تتيحها عولمة الاقتصاد, فـي عقد التسعينات اتجهت الحصة الكبرى من لاستثمارات الأجنبية إلى الدول الصناعية الكبرى, و بلغت أكثر من 75 كمتوسط. و إن كانت الدول النامية قد أفلحت في زيادة حصتها من الاستثمارات فإن ذلك كان لصالح 10دول ناشئة أو صاعدة, يكمن مفتاح قيام اقتصاد سوق أكثر حيوية في الدول النامية في نوعية التصرف في المؤسسات العامة و في درجة ثقة الوكلاء.
ب- الاقتصاديين المحليين و الأجانب في هذا التسيير:
و يمكن إيجاز العوامل المؤثرة إيجابا في هذا الأداء في النقاط التالية:
– إطار مؤسساتي و قانوني يشجع تطور اقتصاد قائم على مؤسسات أكثر فعالية.
– خلق بيئة تنافسية تجعل السوق أكثر نجاعة؛
– ضمان شفافية أكثر لنشاط المؤسسات الاقتصادية.
ج- تدعيم القطاع المالي:
أظهرت التجارب أن الدول التي تحضى بقطاع مالي و مصرفي متحرر و متطور هي في الغالب التي استفادت من الاستثمارات, و حققت آداءاً اقتصاديا أفضل, كما برهنت هذه التجارب على أنّ نجاح الإصلاحات الهيكلية و قدرة الإقتصاد على مقاومة الصدمات الخارجية الفجائية, ترتبط بسلامة القطاع المالي و البنكي نظراً لأهمية القطاع المالي و البنكي و أهميته في رفع كفاءة الاقتصاد و تحقيق الاستقرار الكلي المنشود.
و من المنتظر أن تكون مسألة تحرير و هيكلة الأنظمة المالية محور نقاشات قادمة في منظمة التجارة العالمية, و صندوق النقد و البنك الدوليين, نظراً لحساسية هذا القطاع و التحديات التي تواجهه بعد أزمة نهاية التسعينات.
د- تنمية المصادر البشرية:
إن مسيرة التنمية في الدول الأقل نمواً أسيرة بتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة تفوق معدلات النمو الديمغرافي لتضييق الفجوة بينها و بين الدول المتقدمة, و هذا الأمر يتطلب تحقيقه تطوير كفاءات القادرة على توليد التقانة الأكثر ملائمة من خلال التركيز على التعليم و البحث العلمي و التطويـر.
هـ – إصلاحات سياسية:
إن نجاح السياسات في البلدان النامية مرهون بإنجاز إصلاحات سياسية تسمح بمشاركة القوى الفاعلة و الكفاءات الحية في رسم القرارات الاقتصادية و السياسات المصيرية, و في ظل التحولات اتجهت مجموعة كبيرة من البلدان لإقامة تكتلات اقتصادية لمواجهة العولمة و إثبات وجود في منظومة الاقتصاد العالمي بعد تزايد عدد الموقعين على الجات التي أصبحت OMC, منها المجموعة الاقتصادية الأوروبية, و منطقة التبادل الحر لأمريكا الشمالية, و رابطة دول جنوب شرق آسيا و المجموعة الاقتصادية الإفريقية.
III العولمـة … مغانـم أم مغـارم؟
بعد التعرض للعولمة الاقتصادية كظاهرة, و دراسة جوانبها مع التركيز على الجانب المالي, بقي أن نعرف ما هـي مغانم و كذا مغارم العولمة؟
و بالتالي ما آثار هذه الظاهرة على اقتصاديات دول العالم, خاصة النامية منها مع إعطاء لمحة عن الاقتصاد الجزائري في ظل هذه الظاهرة.
-1-III الآثار المترتبة على العولمة الاقتصادية:
تضارب أهل الذكر الاقتصادي و السياسي حول مفهوم العولمة, فقد جعلها البعض مرادفا “للأمركـة”, و منهم من يراها مرادفا “للأوربة”, و منهم من يرى أنها تعني اقتصاداً كونيـاً … و هـو ما جعل مارشال ماكماهون :” على سطح سفينة الأرض لم يعد هناك ركاب, فقد تجولنا جميعا إلى طاقم يتولى القيادة”. (1)
و الأمر المتفق عليه بين كافة الفرقاء جميعا هو أنّ العولمة أصبحت أمراً واقعاً, لكن الخلاف بينهم حول أسبابها و نتائجها و منافعها, و ما هو الثمن الذي سيدفعه الأغنياء؟ و ما هو حجم الكارثة التي يستعرض الفقراء ؟
و يرى المؤيدون للعولمة, أنها لحظة رائعة في تاريخ البشرية, يحدث فيها تفوق السوق على الدولة و الاقتصاد و السياسة…, هذه اللحظة جاءت بمكاسب صافية للبشرية جمعاء, فبفضلها ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للعالم من 02 تريليون دولار إلـى 68 تريليون دولار في 1995, و إذ قسمنا هذا الرقم على عدد السكان نجد أنّ المتوسط لعالمي لنصيب الفرد ارتفع من 614 دولار في 1965 إلـى 4908$ في 1995.
لذلك ارتفع حجم الصادرات العالمية بمتوسط سنوي بلغ %6.7 خلال (1980-1965), و %4.7 خلال (1990-1980), و %6 خلال (1995-1990), و تجاوز إجمالي حجم التجارة العالمية (في شكل صادرات و واردات) 05 تريليون$ في 1995, مقابل 03 تريليون$ سنـة 1980.
و رغم أنّ سكان العالم زادوا بمقدار 1.9 مليار نسمة, فيما بين 1996-1970, فقد بلغ متوسط معدل نمو دخل الفرد السنوي في البلدان النامية نحو %1.3.
و خلال هذه الفترة, زادت بسرعة كذلك التدفقات رؤوس الأموال, و زاد صافي الاستثمار الأجنبي من أكثر من مليار $ في 1995, و زادت تدفقات محافظ أسهم رأس المال من لاشيء إلى 32 مليار$ في نفس الفترة.
و ما يريد أن يقوله يور دون هذه الأرقام أنّ العولمة بآلياتها و مؤسساتها مثل منظمة التجارة العالمية, و الترتيبات التي يتم فرضها لتسيير و زيادة التجارة الدولية, و الاتفاقيات التي يتم إبرامها في هذا الصدد, و عوامل الإكراه التي تدفع الكثير الغالبة من الدول للإنضمام لركب العولمة, كل هذا يحقق رخاء العالم بأسره حتى و إن تباينت حظوظ كل منهم نتيجة لهذه الظاهرة.
يرى المناهضون لها, أن متاعبها لا حصر لها, تتجسد في الآثار التالية1)
-1 الآثار الإجتماعيـة:
للعولـمة أبعاد اجتماعية خطيرة نتيجة للفوضى الاقتصادية السائدة في العالم, فقد انعكست نتائجها سلباً خاصة على دول الجنوب الفقيرة, حيث تركزت آثارها لدى نسبة قليلة أو ما يسمى (1/5 الرفاهية), و اتسعت الفروق بين الأغنياء و الفقراء, فهناك إحصائية تشير إلى أن 358 مليار تيليريون، يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان لعالم, %20 من سكان العالم تحتكر %85 من الناتج العالمي الإجمالي, و على %84 من التجارة العالمية على المدخرات العالمية, و انتشرت ظاهرة البطالة و الفقر و البؤس, و تفشي الأمراض بأنواعها المختلفة, مما أنجر عنه ظاهرة العنف و الإجرام المنظم, و مافيا خطيرة لترويج المخدرات, و تستعمل التكنولوجية في أنشطتها, و أصبحت تشكل خطراً على الحكومات و تسببت في التضخم المالي نتيجة للأموال السوداء.
فالنموذج الغربي رأسمالي, جنت منه شعوب العالم الثالث المزيد من الفقر و الحرمان و البؤس و الشقاء, و مزيدا من الاضطرابات الاجتماعية ثم الحروب الأهلية الانفصالية, فالنموذج الرأسمالي الغربي هو نشر و تكريس الظلم الاجتماعي, و دفع الناس إلى السرقة و النصب و الاحتيال, ثم بناء المزيد من السجون تكوين و إنشاء فرق لمحاربة الجريمة, و تخصيص أموال ضخمة لتدريبها و تسليحها كما حدث في ساوبالو ( تم تشكيل فرق لقتل النصابين و المجرمين التائهين), تحت شعار تنظيف المدينة,كذلك فرق الإبادة في ريودوجانيرو, و لقتل الأطفال المشردين على أساس أنهم لا يشجعون السياحة, و يعيقون الاستثمار و التنمية.
التجويع بالقوة و نشر الفقـر:
لدول العالم الثالث مكان خصب للتروعات و صراعات الحروب الأهلية و الإقليمية, و بذلك نجد أن حكومات هذه الدولة همها الوحيد, جمع و شراء الأسلحة و عقد الاتفاقيات و معاهدات مع دول كبرى تنازل عن سيادة و مصالح و إحصائيات, تقوا أن دول العالم الثالث تستهلك ما قيمة 50 مليار$ سنوياً لشراء الأسلحة لمحاربة الواحدة منها الأخرى, فهذه تنفق %65 من ميزانيتها الخاصة بالعلوم التكنولوجية على البحث و جهود التنمية المرتبطة بالنشاطات الدفاعية, كما أنّ الصين و باكستان تحولان ما بين %7 – %6 من إجمالي إنتاجها لجهود الحرب.
فجهود دول العالم الثالث تذهب نحو الخراب و الدمار, و هدم الطاقات عن طريق الحروب, بدل من توجهها للتنمية و التطور, و تحسين المستوى المعيشي و محاربة الأمية, و الأمراض و الدول الكبرى, و شركاتها المتعددة النشاطات هي وراء نشوب الخلافات, و ذلك لتشجيع بيع الأسلحة و استنزاف الطاقات المادية و البشرية, و النتيجة عدم الاستقرار الاقتصادي, و السياسي, و تهجير الكفاءات من الدول الكبرى.
فالمنطقة العربية, لم تعرف الاستقرار السياسي و الأمني منذ أن دخل الاستعمار الغربي إلى المنطقة, و إنشاء العصابة الصهيونية فيها, فمعظم الأموال العربية تم امتصاصها عن طريق التسلح و الإنفاق العسكري من ذلك الحروب العربية الإسرائيلية, و حرب لخليج إيران-العراق الأولى, و الثانـي العـراق –.USA و الدول العربية تشتري %8 م الأسلحة التي تباع في العالم, بحيث ازداد التسليح في العالم 6مرات, و جندي مقابل 43 مدني, و سباق نحو التسلح أدى بالإتحاد السوفياتي إلى مساق الدول الفقيرة.
-2 الآثار السياسيـة1)
يجري اليوم انقلاب جذري في العلاقات بين الدول, و يمكن طرح التساؤل التالـي: لمـن السيـادة في هذا العالـم الجديـد ؟
و نحن في بداية التحول الجديد الذي لا يعترف في حدود الدولة الإقتصادية, و السياسية, و الاتصالية و المعلوماتية, فالسلطة عاجزة عن الإمساك بخيوط الحركة, و كانت بسياسة معولة في النطاق المحلي, و هي من اختصاصات الدولة القومية و هي مرتبطة بالسيادة, و لكن أمام بروز عالم بلا حدود اقتصادية و ثقافية أدى إلى بروز عالم بلا حدود سياسية, و ربما في المستقبل يؤدي إلى وجود حكومة عالمية, و بالتالي الانتقال الحرّ للقرارات و التشريعات, و بذلك لم تعد الدولة القومية هي صاحية القرار الوحيد, و بهذا أصبحت المقولة: إن السياسة في كل أرجاء العالم أصبحت مرتبطة بالسياسة في كل أرجاء العالم, أصبحت حقيقة, فالقرارات التي تتخذ في عاصمة من العواصم العالمية سرعان ما يكون لها صدى في كل العواصم, أي خروجها من نطاقها الوطني إلى العالمي, أي سياسة بلا حدود.
-3 الآثـار البيئيـة1)
خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين, برزت في بيئة الإنسان آثار سلبية خطيرة, مست جوانب كثيرة من حياته منها, تلوث البيئة و الطبيعة, و التي مست الهواء, الملء, الأرض (و التي هي مصدر حياة الإنسان: كالأكسجين للتنفس, و الماء للشرب…).
و من نتائجها انتشار الأمراض الفتاكة, انتشار المخدرات, الجريمة المنظمة, انتشار الأسلحة الفتاكة غير مشروعة التطرف و العنف, و قد اتخذت هذه الآفات صفة عالمية, فلم تبقى معزولة في منطقة معينة, و لا في إقليم محدد, فلم يعد أية دولة مواجه و تصدي لها, ف|أصبحت تستنجد و تنسق مع دول أخرى أو منظمات جهوية أو عالمية.
و التلوث لم ينحصر في بيئة الإنسان الطبيعية, بل امتد إلى بقية جوانب الحياة الأخرى الاقتصادية, الاجتماعية, السياسية, الثقافية, الفكرية… و هذا ما سنبينه بالتفصيل لاحقا.
فالاقتصاديات تركزت الثروة لدى فئة قليلة (الخمس الثري) أو خمس الرفاهية, و سياسيا تصدير النموذج الغربي الأمريكي للعالم المتخلف بدعوى نشر الديمقراطية و المحافظة على حقوق الإنسان.
و اجتماعيا مزيدا من الفقر و البؤس و الآفات الاجتماعية, و ثقافيا نحو الثقافة الاستهلاكية, و القضاء على خصوصيات دول العالم المتخلف, و فكريا و دينيا المزيد من الاعتماد على تطوير التكنولوجية و المزيد من العلمانية.
عوامل تلوث البيئة:
لم يقتصر الصراع بين الإنسان, بل انتقلت العدوى إلى البيئة, فالصراعات الطبقية و القومية و العرقية و السياسية و الاجتماعية و الحضارية, يمكن التخفيف منها عن طريق الحوار و التقارب عن طريق شبكات الإنترنت, ووسائط الاتصال المختلفة, لكن الاعتداء على طبيعتها و قوانينها, فالبشر يجهل هذه القوانين, و كلما زاد علما و قدرة على قهر المشاكل زاد وعياً لما لا يعرفه, فالإنسان أصبح يحصد ما قدمت يداه.
فالأرض تعرضت لتعرية بعد قطع الغابات, و الاستغلال المكثف للتربة, أدى إلى فقدان خصوبتها ثم التصحر و الجفاف, و تلوث المياه و الهواء, ثم إبادة الحياة النباتية و الحيوانية و المائية… ثم إن تكاليف البيئة و التكاليف الاجتماعية لا تدخلان في الحسابات الاقتصادية… و يمكن حصر العوامل التي أدت إلى اختراق النظام البيئي فيما يلي:
-1 ارتفاع درجة الحرارة: فقد أكد بيان أصدره خبراء أمريكيون و إنجليز أخيرا أنه بسبب أنشطتنا السابقة و الحالية, فإنه يتعين علينا أن نبدأ في تعلم كيف نتعايش مع العواقب المتوقعة, مثل: زيادة قسوة الأحوال الجوية, و ارتفاع مستويات البحار و تغير أنماط الأمطار و الانعكاسات الإيكولوجية و الزراعية.
… إن فترة التسعينات شهدت أكثر السنوات ارتفاعا في درجة الحرارة, و ذلك منذ بداية رصدها قبل 130 سنة, و حسب الخبراء فإن ثقب الأزون فوق القطب الجنوبي هو المسؤول عن هذا الارتفاع, فقد زادت مساحة تصل إلى أكثر من 10 مليون كلم2 عام 1999, أما القشرة الجليدية التي تغطي القطب الشمالي فقد تقلصت مساحتها بمقدار 14 مليون كلم2 و تقلص سمكها بمقدار %40.
الأزون: غاز أزرق سام بالنسبة للإنسان, و هو عند سطح الأرض يسبب متاعب تنفسية خاصة للأطفال الصغار, و كبار السن, و طبقة الأزون تعمل كدرع واق للأحياء على الأرض من الأشعة فوق البنفسجيـة (النشطة البيولوجيا).
في 1985-05-16 أعلن فارمان أنه و زملاؤه وجدوا ثقب أزون فوق القارة القطبية الجنوبية في موريال (سبتمبر 1987), تعهدت 27 دولة في تخفيض إنتاج الفاريونات إلى النصف عند نهاية القرن العشرين, و عام 1996 تعهدت الولايات المتحدة بالتوقف عن إنتاجه.
و في عام 1992 الناسا (nasa) أعلنت عن ثقب الأوزون في الشمال و ربطوا بينه و بين بركان مونت بيناتوبو (أفريل 1992), حيث وصلت ملايين الأطنان من غازات كبريتية ساعدت على تفاعلات تأكل الأزون, و هناك من ربط الإصابات بالسرطان, و هذا الثقب (تزايدت نسبة الإصابة بالسرطان الجلد 8مرات), كما أن تغيرات و التحولات التي عرفها الغلاف الجوي (الغازي) خلال السنوات الأخيرة مرتبطة بما يقوم به الإنسان من نشاطات مختلفة, و حسب السكرتير العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن أكثر من %60 من إجمالي الكوارث الطبيعية يعود إلى التغيرات الجوية (أعاصير, سيول, فيضانات, جفاف, تصحر…)؛ و الغلاف اجوي هو الوسط الذي تتفاعل فيه عوامل الطقس.
و خلال السنوات الماضية يلاحظ ارتفاع في درجة الحرارة, خلال القرن الماضي ارتفعت بنسبة %0.5 , خلال و ينتظر أن ترتفع إلى %5 خلال 2022, و هذا ما يؤثر في التوازن البيئي, فمثلا ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى ذوبان الجليد.
إن اقتصاد السوق تتخذ أشكالاً مختلفة و لا تتقارب في نوع واحد موحد, و الواقع أنه حتى في نطاق كل مجتمع قومي على حده يكون التقارب و الالتقاء محدوداً. و الواقع أنه رغم أنّ النموذجين الياباني و الأوروبي للتنمية قد تأثر كثيراً بالنموذج الأمريكي, و أنهما يدوران في فلك اقتصاد السوق الرأسمالية, فإن لهما خصائصهما المميزة و يختلفان ليس فقط من الأهداف, و إنما أيضا في الآليات و الوسائل و في بعض الفلسفات.
بل إن النموذجين الياباني و الأوروبي يطرحان نفسيهما كبديل ليس فقط للنموذج الأمريكي, و إنما يعرضان ليحلا لدى دول العالم الأخرى, محل الشريك الأمريكي كمصدر للصادرات و كسوق للواردات, من هذه الدول بل ة يقدما عمليتهما – اليورو و الين و خصوصا اليورو- لتلعب نفس الأدوار التي يلعبها الدولار الأمريكي, خاصة كأداة ربط للعملات الأخرى بها, و كوسيلة للتسويات بل و مخزن للقيمة.
و ما لحرب التي تدور بين الشركات اليابانية و الأوروبية و الأمريكية على الأسواق و الصفقات و تجسسها الاقتصادي على بعضها البعض, إلا نفى لهذا التقارب في الآليات و الوسائل, و يشير البعض إلى أنّ الاقتصاد الدولي يؤثر على الاقتصاديات القومية بطريقتين مهمتين على الأقل:
أولاً: قد تؤدي التغيرات في الاقتصاد الدولي إلى نقص أو زيادة قوى بعض الدول و استقلالها.
ثانياً: قد يعيد الاقتصاد العالمي تشكيل السياسة المحلية و الشؤون الاقتصادية عن طريق تأثيره على المصالح المحلية, و عن طريق هذه القنوات يمكن للاقتصاد العالمي أن يغير سلوك و مؤسسات و تشريعات المجتمعات المحلية.
-2-III البلدان النامية و العولمـة: (1)
يؤكد “ضياء قرشي الخبير” بالبنك الدولي أن تحقيق اندماج البلدان النامية في الاقتصاد العالمي, ينطوي على بعض التحديات الصعبة, و هو أمر إن تحقق فلن يفيدها وحدها, بل سيفيد البلدان الصناعية أيضا و يقول إن هذه البلدان النامية تمثل قوة دافعة في مجال العولمة, فقد ارتفعت بسرعة حصة التجارة (الصادرات, الواردات في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان النامية من نحو %33 في منتصف الثمانينات إلـى %43 حالياً, و قد تجاوز %50 في العقد المقبل, و في السنوات السبع التي أعقبت البدء في مفاوضات جولة الأورجواي في 1986 كانت البلدان النامية تمثل 58 مـن 72 عملية من عمليات التحرر الذاتي, التي أبلغت إلى الاتفاقية العامة للتعريفات و التجارة (الجات).
إنّ الاندماج المتزايد للبلدان النامية في التجارة العالمية يواكبه, اندماجها المتنامي في التمويل العالمي, و قد تضاعف أربع مرات تدفق رؤوس الأموال الخاصة إلى البلدان النامية في الفترة ما بين عامي 1994-1990 وتبلغ هذه التدفقات الآن نحو ثلاثة أرباع كافة تدفقات الموارد الصافية طويلة الأجل للبلدان النامية.
و قد قفزت حصة البلدان النامية من تدفقات الاستثمار الأجنبي في العالم من %23 في منتصف الثمانينات, إلى أكثر من %40 في الفترة 1994/92.
و رغم ما تبينه الأرقام من تزايد اندماج البلدان النامية في الاقتصاد العالمي, فإن العائد الفعلي و الحقيق عليها كأوطان,و علة مواطنيها كأفراد, لن يزيد كثيراً إن لم يكن قد تناقص, فبالإضافة إلى أنّ الأرقام السابقة بالقيم الإسمية للنقود ترتفع بسبب ارتفاع الأسعار والتضخم, فإن مستويات معيشة الأفراد و دخولهم إنخفظت في هذه البلدان, إضافة إلى تزايد مديونيتها لأرقام فلكية, و هي المديونية التي تعصف خدمتها بجزء أساسي من ناتجها القومي الإجمالي سنوياً, علاوة على تزايد عجزها التجاري و من ثم تقليص فاعليتها و قدرتها على المنافسة ناهيك عن تحقيق التقدم.
و إن كان العالم النامي قد أصبح في مجموعة أكثر اندماجاً دولياً, فإن سرعة و مستوى الدمج تختلف اختلافا كبيراً من بلد لآخر, و التناقض في ميدان التجارة أكثر بروزاً بين شرق آسيا و إفريقيا, فقد ازداد اندماج شرق آسيـا في التجارة العالمية بسرعة و بطريقة مستدامة, في حين كانت نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا جنوبي الصحراء في انخفاض مستمر حتى وقت قريب, و هي لا تزال أقل من مستواها الذي كانت عليه منذ 20 عامـاً.
و بالمثل اتخذ الاندماج المالي للبلدان النامية صوراً متنوعة أيضاً, و كان نحو %90 من تدفقات رأس المال الخاص إلى البلدان النامية في الفترة 1994-91 يتركز في 12 بلداً, معظمها بلدان متوسطة الدخل في شرق آسيا و أمريكا اللاتينية, و يرى البعض للعولمة آثار عميقة على البلدان النامية, فهي تخلق فرصا جديدة مهمة, إقامة أسواق للتجارة, إيجاد مجموعة كبيرة من السلع, و تدفقات أكبر من رؤوس الأموال الخاصة للداخل و تحسين أمكانية الحصول على التكنولوجيا.
كما أنّ قيام أعداد متزايدة من البلدان النامية بإجراء إصلاحات متجهة إلى الخارج, قد أدى إلى جعل هذه البلدان فاعلة مستفيدة في الوقت نفسه من العولمة. و الواقع أن الفرص الجديدة التي تخلقها العولمة و تواكبها تحديات جديدة قاسية للإدارة الاقتصادية, فالاندماج يتطلب انتهاج تجارة حرة, و نظام استثماري حرّ و الإبقاء عليهما.
و في مجال التجارة تزداد المنافسة عنفا, كما أن الإمكانيات السريعة التغير للتجارة تساند من هم أكثر نشاطاً, و في مجال التمويل فإن اندماج أسواق رأس المـال الدولية و ما يصاحب ذلك من احتمال تقلب تدفق رؤوس الأموال يجعل إدارة الاقتصاد الكلي في البلدان النامية أكثر تعقيداً.
و الدور الدولي المتنامي لبلدان النامية يعني أيضا أن يكون لها تأثير اقتصادي أقوى على البلدان الصناعية إن أحسنت التخطيط و الحشد و المساومة, و يتضح ذلك مثلا من أن نحو 5 صادرات للبلدان الصناعية اتجه إلى البلدان النامية في أواخر الثمانينات, و قد ارتفعت هذه الحصة إلى الربع و يرجح أن تجاوز الثلث في نهايـة العقد المقبل.
و قد جاء في تقرير أصدر من البنك الدولي بعنوان الآفاق الاقتصادية العالمية و البلدان الناميـة 1995, أنّ ازدياد اندماج البلدان النامية في الاقتصاد العالمي يمثل فرصة كبيرة للنهوض برفاهة البلدان النامية, و البلدان الصناعية على السواء على المدى الطويل, و لكن ينبغي لبلدان النامية أن ترتفع إلى مستوى التحدي و لكي تحقق البلدان النامية منافع العولمة, فإنـه يتعين عليهـا:
أولاً: الالتزام بنظام حر للتجارة و المدفوعات
ينبغي على للبلدان الفقيرة تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة و الالتزام بنظام مفتوح للتجارة الدولية, و المدفوعات بشكل دائم و توفير حقوق مضمونة للملكية.
ثانياً: الالتزام بسياسة تعزز النمو
يعتمد مدى تحرير التجارة و نظام المدفوعات و الحصول على أكبر لدخول صادرات بلد ما إلى الأسواق الأخرى, و ما يؤدي إليه ذلك من تعزيز النمو الاقتصادي للبلد النامي, إلى حد كبير أيضا, على بيئة السياسات المحلية, فسياسات الاقتصاد الكلية المستقرة و السليمة و التي يمكن التنبؤ بها, و سياسات الضرائب غير المتحيزة لقطاعات معينة هي من الأمور التي لا غنى عنها, وسوف تؤدي إصلاحات جولة أوروجواي إلى جعل الصادرات الزراعية و صادرات المنسوجات و الملابس أكثر ربحية للدول النامية, و تحرير التجارة في الداخل سيعزز ذلك, لأن الكثير من الاقتصاديات النامية و الانتقالية قد عمدت تقليديا لحماية الصناعات التحويلية الثقيلـة على حساب الصناعات الخفيفة و المنتجات الأوليـة.
من كل هذا, يتضح أن العولمة ليست (شراً خالصاً), و لا (خيراً خالصاً) بالنسبة للبلدان النامية و أنها لن تؤدي بصورة آلية و تلقائية إلى الإضرار بها أو نفعها, و إنما الأمر يتوقف عليها أولا و أخيرا, فإذا ما أحسنت تدبير شؤون اقتصادها و أخذت بسياسات سليمة تزيد من قدرتها على المنافسة و تدعم مركزها التفاوضي مع الغير جاءت النتيجة خيراً و بركة, و إلا كانت عليها و على سكانها, و عليه فإن الترتيبات الأقلمة ليست نفيا للعولمة أو عرقلة لها, بل إنها إذا أقيمت على أسس سليمة و رشيدة تضيف للعولمة بأكثر ما يضيفه مجموع مساهمات الدول الأعضاء الداخلة فيها, و إنها تكفل شريكا أقوى في العولمة أكثر قدرة على أن يفيد الآخرين و أن يستفيد.
و رغم التعثرات, أثبتت التجارب الناجحة لدول شرق آسيا و بعض دول أمريكا اللاتينية, على أنهـا عندما أحسنت سياستها و حققت تنمية سليمة و مستدامة و كان إسهامها في العولمة أكبر حجما و أكثر نفعاً لها و للآخرين.
-3-III الاقتصاد الجزائري و العولمة: (1)
لازال الاقتصاد الجزائري يعيش واقعا متدهورا من جميع الجوانب (الفلاحة, الصناعة, الإدارة, التجارة…), فقد عاش و لمدة طويلـة تحت رحمة القرارات و المراسيم عن طريق التخطيط المركزي, حيث البيروقراطية الإداريـة, و العقود و الصفقات السياسة, بعيدة عن السوق أي عن العرض و الطلب و المنـافسة. جاءت الصدمة البترولية عام 1986 كشفت عن هشاشة و ضعف المنظومة الاقتصادية, حيث وصل حجم التضخم إلى %42 و إنخفظت طاقة المصانع إلى ما دون %50, و قلة المداخيل و ضعف الاستثمارات و إنخفظت قيمة العملة, و بهذا أصبح الإقتصاد الجزائري يمر بمرحلة انتقالية ظهرت سلبياتها في الميدان الصناعي و الاجتماعي في 1994-04-12, كانت المحطة الأولى في مسيرة الاقتصاد الوطني, و ذلك بالتوقيع على (رسالة رغبة) مع المؤسسات المالية الدولية ثم القبول بشروط صندوق النقد الدولي, و نادي باريس, و من هذه الشروط:
– تقليص مصاريف الدولة و الخاصة بالشؤون الاجتماعية؛
– الحرية الشاملة الأسعار؛
– تخلي الدولة عن دعم الشركات و تطبيق الخصخصة و تشجيعها؛
– الحرية المطلقة للتجارة الخارجية و الرفع من الضرائب لدعم تمويل الخزينة؛
– مراقبة شديدة لتعديل ميزان المدفوعات؛
– تجميد الأجور و التخفيض من استثمارات القطاع العام؛
هذه التوصيات يتم تسييرها من طرف نادي باريس في حالة الجزائر, و السؤال المطروح في هذا السياق هو: لـماذا لـم يستطـع الاقتصاد الجزائـري من تحقيق القفزة ؟
– لابد من استراتيجية شاملة (أي التنسيق بين كل القطاعات) في الجزائر؛
– إرادة الجزائر إلى الدخول إلى اقتصاد السوق بقطاع عام مريض و مفكك و بمؤسسات لا تملك الفعالية و لا الخبرة في آليات السوق,
– لم تستطع مؤسسات الاقتصاد الوطني الزيادة في العرض, و بالتالي المزيد من الاستيراد, الشيء الذي أدى إلى ارتفاع فاتورة المواد الغذائية؛
– قطاع الفلاحة لازال يعاني من بعض الأمراض المزمنة منها الملكية العقارية, فحسب قانون 19/87 يعطي حق الملكية لكل المنشآت و التجهيزات و المخازن للمستفيدين, و يعطي حق الملكية لفوق الأرض و الانتفاع و الاستفادة منها, فأصبح الفلاح المستثمر غير مطمئنين للاستثمار, و كذلك عدم وجود بنوك للتمويل و أصبح المستثمر يستأجر الأرض لأناس آخريـن.
– وسائل الإنتاج و منذ عام 1994 أصبحت السوق حرة.
فكيف نتعامل مع العولمة بقطاع فلاحي, لم يستطع توفير المواد الغذائية الاستراتيجية (سكر, سميد, حليب, أدوية…), و أن وجود أخصب الأراضي تتقلص نتيجة زحف الإسمنت, و من جانب آخر هناك زحف الصحراء على المناطق الرطبة و شبه الرطبة, و التي هددت الملايين من الهكتارات منها الجلفة, كما أصبحت تهدد 04 ملايين ساكن في السهوب بماشيتهم.
في الصنـاعـة:
عرف هذا القطاع تدهور بعد أن دخل الخصخصة, و لم يعرف القفزة المنتظرة منه, بل عرف تراجعا كبيراً, فقد دخل اقتصاد السوق بعملية قيصرية, بهياكل قديمة ذات إنتاج ضعيف, و يفتقر لشروط المنافسة, و من الصعب أن نطلب و نزعم قطاع عام صناعي كان سياسيا أكثر منه اقتصادي, يسير بالقرارات للدخول في اقتصاد السوق, المبني على المنافسة و التحرير.
فرغم الإجراءات التي اتخذت مع المؤسسات العمومية (إعادة هيكلة, استقلالية المؤسسات, التطهير المالي) لم يستطع هذا القطاع أن يستجيب للأهداف التي رسمت له, فهناك أرقام تتحدث عن 900 مليار دينار للتطهير المالي, و ذلك لإنعاشه و توفير مليونان منصب شغل, لكن المؤسسات القديمة و عدم التنسيق بين الميكانيزمات الاقتصادية عرقلت المخطط ( فلا النظام البنكي, و لا النظام التجاري, و لا التسيير الإداري) استجابت لآليات السوق, ضف إلى ذلك عدم وجود تأهيل العمال و الذهنيات السابقة كلها أدت إلى تدهور هذا القطاع.
القطـاع الخـاص:
لا بد من تشجيع هذا القطاع, و على الدولة أن ترفع احتكارها على بعض القطاعات كالنقل الذي عرف تحسناً كبيراً, و المشكل الكبير هو أنه كيف يمكن لمؤسسة غارقة في الديون الدخول إلى اقتصاد السوق, و من المشاكل التي تعرقل مسيرة الاقتصاد لوطني مشكل المديونية التي انعكست نتائجها على التوازنات الاقتصادية.
التجـارة:
إن الجزائر عضواً في المنظمة العالمية للتجارة الحرة, فقد بدأت كعضو ملاحظ في الجات سنة 1987 لتصبح عضواً في المنظمة التجارية الحرة, و في عام 1996 دخلت رسميا في المنظمة. و المنظمة العلمية للتجارة هي إحدى آليات العولمة بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي و البنك الدولي, و بالتالي كيف يمكن للتجارة الجزائرية مجابهة المؤسسات الأجنبية و تمركز رأس المال لدى الدول الكبرى, و شروط الانضمام إلى المنظمة العلمية للتجارة قياسية, كفتح السواق, تسهيلات جمركية, تحويلات للعملة, تسهيلات في النظام الضريبي, حقوق الملكية الفكرية… و الدخول في المنظمة العالمية للتجارة يتطلب الكفاءة, التحكم في تكنولوجيا المعلومات, الجودة, الخدمات.
الخاتمة:
من خلال بحثنا هذا توصلنا إلى أنه لا يوجد تعريف متفق عليه لظاهرة العولمة, حيث:
1- العولمة تعني إزالة الحواجز السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية حتى تتحرك رؤوس الأموال و الأفكار و السلع و الخدمات بحريـة.
2- العولمة هي الوجه الحديث للاستعمار, و الموجة الجديدة ن سيطرة الغرب الأوروبي و الأمريكي على مقدرات العالم الثالث.
3- العولمة هي المرادف للأمركة و الهيمنة الأمريكية و لسيادة نمط الأفكار الأمريكية و الثقافة الأمريكية.
4- العولمة ليست إلا ستاراً تتحرك تحته الشركات العملاقة متعددة الجنسيات و عابرة القارات, و التي ترفع شعار العولمة كي تفسح لنفسها طريق التوغل, و ترفع شعار العولمة كي تزيل التشريعات المحلية و المنافسات المحلية, فتنتشر دون أي عائق, بغض النظر عما إذا كانت مصالح هذه الشركات تضر بمصالح الدول الفقيرة في العالم الثالث.
5- العولمة ليست ظاهرة تلقائية, بل فرضتها وقائع تاريخية معينة و أسهمت في تفعيلها و سرعة انتشارها.
و في الواقع ليس صحيحاً أن العولمة في حدّ ذاتها تضمن الخير لكل الناس, و ليس صحيحا كذلك أن العولمة في حدّ ذاتها شراً مطلقاً, و لكن العولمة لها إيجابياتها و لها سلبياتها التي يمكن تفاديها بأساليب معينة.
و الحقيقة الواضحة بشأن العولمة, هي أنّ هناك دولا استفادت بصورة فعلية من العولمة, بينما هناك دول تندفع نحو المزيد من التهميش, على الرغم من أنها مندمجة في تيار العولمة. و بمرور السنوات, فإن التأثير المتراكم لهذه الظاهرة بدأ يعكس نفسه بصورة ملحوظة في معادلة واضحة, طرفها الأول الازدهار المتواصل و الشامل في كل مجالات الاقتصاد الأمريكي, و طرفهـا الثاني تراجع الاقتصاديات الأخرى, بدءاً من اقتصاديات الدول المتقدمة نفسها, و التي تنتقل و تهاجر منها رؤوس الأموال التي تحلم بالاستقرار في السوق الأمريكية المنتعشة إلى غيرها من الاقتصاديات.
منذ بدأت دول الجنوب أو ما يسمى بدول العالم الثالث النامية في الحصول على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية, و الهاجس الرئيسي الذي يشغل جميع الأذهان في هذه الدول هو: كيـف يمكن تحقيق التنمية ؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن لهذه الشعوب التي تحررت من ربقة الاستعمار أن تتحرر من ربقة التخلف و الجهل, الذي ران على صدورها عقوداً بل قروناً من الزمـن.
و لا بد من الاعتراف بأن ما تم إنجازه في العالم الثالث بشأن التنمية و التقدم, يعد ضئيلاً بالقياس إلى فترة الاستقلال التي تقرب من نصف قرن, و يعد هامشيا إذا ما قورن بالقفزات الهائلة و المتسارعة التي يتحرك بها العالم المتقدم, مما زاد من اتساعه الفجوة بين الشمال و الجنوب, أو بين الدول الاستعمارية سابقا و مستعمراتها, التي حصلت على استقلالها لاحقاً, و لا خلاف كذلك حول النتائج و حصيلة عمليات التنمية التي جرت في الكثير من دول العالم الثالث, و الواقع أن دول العالم الجنوب و شعوبها في حاجة إلى استراتيجية سليمة تمكنها من تفادي مخاطر العولمة و تمكنها من الاستفادة مما تحمله من فرص إيجابية
م
1-مقــدمة :-
لقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين سيادة اقتصادات المعرفة على المستوى العالمى ، وأصبح الطريق للاندماج الايجابى فى منظومة الاقتصادات المتقدمة رهناً بما يمكن أحرازه وتحقيقه فى مجال التنمية البشرية من تعليم وصحه وحقوق سياسية ، وقبل كل ذلك زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى .
أدركت دول العالم ومنها بطبيعة الحال دول الشمال الأفريقى (مصر –ليبيا- تونس – الجزائر – المغرب) (1) أهمية الاهتمام بالعنصر البشرى باعتباره أداه التنمية وغايتها غير أن أغلب الدول النامية بشكل عام رغم أدراكها لهذه الحقيقة ظلت تعانى من ضعف مستوى التنمية فى هذا المجال وفقاً لما تشير به المؤشرات الصادرة عن المنظمات الدولية والتى هى أساساً مستقاه من المصادر الوطنية . تقف الندرة النسبية للموارد الاقتصادية فى هذه الدول عائقاً نحو تحقيق التنمية البشرية المنشودة ، رغم أهميتها وإدراك الدول لهذه الأهمية كسبيل للاندماج فى منظومة الاقتصاد العالمى فى عصر يتسم بالكثافة المعرفية على مستوى الإنتاج السلعى .
تهدف هذه الورقة لعرض وتحليل حالة التنمية البشرية فى دول شمال أفريقيا كما ترسم سبيل تحقيق هذه التنمية فى ظل الندرة النسبية للموارد من ناحية وظروف العولمة من ناحية أخرى .
تم تقسيم الورقة للأقسام الرئيسية التالية ، فضلاً عن المقدمة والخاتمة وقائمة المراجع :-
القسم الأول: أهمية التنمية البشرية كمحور فاعل للاندماج فى الاقتصاد العالمى .
القسم الثانى: حالة التنمية البشرية فى شمال أفريقيا ، وتفسير اتجاهاتها .
القسم الثالث: تعزيز عوامل النجاح وتحقيق التقدم فى مجال التنمية البشرية فى دول شمال
أفريقيا .
2- أهمية التنمية البشرية كمحور فاعل للاندماج فى الاقتصاد العالمى
2-1 أوضاع التنمية فى دول الشمال الأفريقى
يعيش فى دول إقليم الشمال الأفريقى حوالى 150 مليون نسمة ، يمثلون قرابة خمس سكان القارة ، وقد بلغ متوسط الفرد من الناتج المحلى الإجمالى (World Bank, 2022:5) 1630 دولار أمريكى فى عام 2000 ، وهو ما يمثل أكثر من ضعف متوسط نصيب الفرد فى القارة الأفريقية ككل ، إذ بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى فى القارة فى ذات العام 671 دولار أمريكى فى السنة . وإذا كانت دول الشمال الأفريقى وفقاً لمقياس متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى (رغم ما يعترى هذا المقياس من عيوب) هى أفضل حالاً من دول أفريقيا جنوب الصحراء ، والذى بلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج المحلى الإجمالى عن العام نفسه 299 دولار – ( بعد استبعاد جمهورية جنوب أفريقيا ) ، فإن أغلب هذه الدول وقد ارتبطت بعضوية منظمة التجارة العالمية من ناحية ، وباتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبى من ناحية أخرى .
ان دول الشمال الأفريقى إذا ما وضعت فى مقارنات أخرى مع باقى دول العالم ، فأن الصورة لا شك سوف تكون فى غير صالحها ، أن أجراء المقارنة هنا يجد أساسه فى اتجاه دول الشمال الأفريقى للاندماج فى السوق العالمى أو على الأخرى أنها قد أندمجت بالفعل فى الاقتصاد العالمى أن هذا الاندماج يقوم بالأساس على المنافسة وتقسيم العمل على المستوى الدولى ، ولا شك أن تقسيم العمل على المستوى الدولى سوف يترك تأثيره على عملية التنمية ، ومن ناحية أخرى فأن المنافسة يفترض قيامها بين الأنداد أى تحقيق شرط التكافؤ لذلك بالمطلوب هو تعظيم المنافع من هذا الاندماج .
أن الصورة التى يمكن أن نشتق منها حال دول الشمال الأفريقى توضحها تقارير التنمية التى ينشرها البنك الدولى (World Bank,2000:279-275) بشكل دورى سنوياً ، إذ يتضح وفقاً لمعيار متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى أن هذه الدول تأتى ضمن دول مجموعة الدخل المتوسط المنخفض ، وفقاً لترتيب البنك الدولى عام 1999 بحسب معيار متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فأن دول الدراسة كان ترتيبها على مستوى 206 دولة على النحو التالى تونس تأتى فى المرتبة رقم 101 ، الجزائر فى المرتبة رقم 115 ، مصر فى المرتبة رقم 120 ، المغرب فى المرتبة رقم 126 ، ليبيا ، غير متاح بيانات كافية عنها ، غير انه وفقاً لتقرير التنمية البشرية عام 2022 فان تعديل قيمة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى لمعادل القوى الشرائية للدولار الأمريكى قد أعطى صورة مختلفة عن ذلك المقياس الذى يعتمده البنك الدولى فى اصدار تقارير التنمية فى العالم . لقد أوضح تقرير التنمية البشرية ان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى طبقاً لمعادل القوة الشرائية بالدولار الأمريكى فى هذه الدول على التوالى هو 6390$ ، 6090$ ، 3520$ ، 3600$
أما إذا انتقلنا للمؤشر الثانى من مؤشرات التنمية البشرية ، وهو متوسط العمر المتوقع عند الميلاد ، فسوف نجده على النحو التالى : الجزائر 69 سنة للذكور ، 72 سنة للإناث – مصر 59 سنة للذكور – 65 سنة للإناث – المغرب 65 سنة للذكور – 69 سنة للإناث – تونس 70 سنة للذكور – 74 سنة للإناث – ليبيا ذكور وإناث فى المتوسط 70 سنة) ذلك فى الوقت الذى بلغ فيه العمر المتوقع بالنسبة للمجموعة الدخيلة التى تنتمى إليها هذه البلدان 67 سنة للذكور ، 74 سنة للإناث ، وفى الولايات المتحدة 75 سنة للذكور – 80 سنة للإناث ، المملكة المتحدة 75 سنة للذكور – 80 سنة للإناث ، وفى ألمانيا 74 سنة للذكور – 80 سنة للإناث . أن العمر المتوقع عند الميلاد يعكس مدى أهتمام الدولة بالرعاية الصحية فى السابق واللاحق للأمراض (الوقاية – العلاج) كما يعكس العمر المتوقع عند الميلاد حالة التغذية وما يحتاجه الإنسان من سعرات حرارية لكى يمارس حياته كشخص منتج على وجه الاعتياد ، وفضلاً عن ذلك فأنه يعكس مدى تمتع الإنسان بالعيش فى بيئة خالية من التلوث الحالى للأمراض ، وأخيراً فأنها تعكس مدى الاستقرار النفسى الذى يجب أن يتمتع به الإنسان فى حياته لكى يحيا حياة مستقرة .
أما من ناحية التعليم وهو المؤشر الثالث الذى أخذت به تقارير التنمية ، فأن ما خصصته دول الدراسة للإنفاق العام على التعليم كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى فهى على النحو التالى الجزائر 5.1% ، مصر 4.8% ، المغرب 5% ، تونس 7.7% ، كما بلغت نسبة الملتحقين فى المجموعات العمرية المختلفة بمرحلتى التعليم الإبتدائى والثانوى ما يلى الجزائر: الثانوى 69% ، الإبتدائى 96% – مصر: الثانوى 75% ، الإبتدائى 95% – المغرب: الثانوى 38% ، الإبتدائى 77% – تونس: الثانوى 74% ، الإبتدائى 100% .
أن التسرب من التعليم الإبتدائى رافد أساسى من الروافد المغذية للأمية ، ولمكافحة الأمية يجب أن تكون نسبة استيعاب المجموعة العمرية فى التعليم الإبتدائى 100% على النحو الذى تقدمه الإحصاءات عن الدول المتقدمة ، أما التعليم الثانوى بأنواعه المختلفة فأن التسرب منه يعنى تغذية سوق العمل بعمالة غير مؤهلة أو مدربة لممارسة الحرف ، وبالتالى فهى تمثل عبء على سوق العمل لما تحتاجه هذه العمالة من تدريب قد يكتسب بطرق غير علمية وتظل هذه العمالة تمارس أعمالها بطرق متخلفة . فالننظر مثلاً على سبيل المثال للحرف فى الولايات المتحدة الأمريكية ، إذ لا يستطيع صاحب الحرفة أن يمارس حرفته إلا إذا حصل على تأهيل علمى لممارسة هذه الحرفة ، وهو تأهيل يتم فى معاهد علمية متخصصة (نسبة التعليم الثانوى فى الولايات المتحدة الأمريكية 96% ، وفى المملكة المتحدة 92%) .
2-2 اقتصادات المعرفة وارتباطها بمستوى التنمية البشرية:-
اتسمت عمليات الانتاج السلعى والخدمى منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين بعدة سمات أساسية ميزتها عن تلك العمليات التى كانت تتم منذ بداية الثورة الصناعية فى منتصف القرن الثانى عشر – وفى منتصف القرن العشرين . لقد سيطرت الآلية على عملية الإنتاج وكان اكتشاف البخار كقوة دافعة هو المحرك الأساسى للثورة الصناعية ، إلا أنه بانتهاء الحرب العالمية الثانية بزغ عهد جديد فى عمليات التصنيع ألا وهو عهد الثورة الأوتوماتيكية ، إذ تسمح هذه الأخيرة باتمام عدة عمليات مركبة دون تدخل الإنسان وهى عمليات يختلط الجهد العضلى مع الجهد الذهنى (مرسى ، 1990 .
أن التقدم الذى شهده العالم فى مجال نقل المعلومات ، وثورة الاتصالات ، وما أفرزه هذا التقدم من تطبيقات تكنولوجية باتت مستخدمة من قبل المجتمع الإنسانى قد أفرز عدة سمات أساسية ميزت الاقتصاد العالمى . فالاقتصاد العالمى فى الوقت الراهن يشهد بزيادة التبادل السلعى كثيف المعرفة ، فالننظر إلى صفقات التجارة الدولية فى مجال سلع المنتجات الإلكترونية ، الاستهلاكى المعمر منها ، أو الإنتاجى . أن كثيراً من التطبيقات التكنولوجية والتى كانت معروفة منذ الثورة الصناعية الأولى قد لحقها التطور التكنولوجى لقد كان اكتشاف الترانستسور فى بداية خمسينيات القرن العشرين بمثابة فتح جديد فى عالم تكنولوجيا الاتصالات والمعرفة . أيضاً فالننظر إلى قيمة السلع التى يتم تبادلها على المستوى العالمى فالمادة الخام أصبحت تشكل جزءاً يسيراً من قيمة هذه السلع ، (مرسى ،1990:47-48) ، أما تشكيل السلعة بالطرق العلمية والفنية فهو يعتمد على المعرفة وما تخلقه هذه المعرفة من قيمة مضافة عالية .
لقد أنتجت الثورة المعلوماتية تغييرات فى مجالات ثلاثة رئيسية مرتبطة بعملية التنمية البشرية ، حيث تغير هيكل الانتاج الصناعى على المستوى العالمى ، وتغير هيكل قوة العمل ، كما تغير هيكل الموارد .
لقد تبدل هيكل الإنتاج وطرأت عليه تغيرات جعلت من صناعة الخدمات صناعة رائدة بعد أن كان الإنتاج الصناعى السلعى هو القطاع الرائد – ويتبلور الإنتاج المعرفى كسلعة من السلع التى يتم تبادلها بديلاً عن السلع المادية الملموسة ، ولا شك أن عملية الإنتاج المعرفى تعتمد على التقدم الذى يتحقق فى مجال التنمية البشرية ، كما أن صناعات مثل صناعة التأمين والبنوك والخدمات والتجارة – باتت من الأهمية فى تكوين الناتج المحلى للدول ، وهو الأمر الذى يعكس أهمية التنمية البشرية باعتبار أن الإنسان هو المحرك الأساسى لمثل هذه الصناعات من خلال جهده الذهنى . (مرسى 1990: 61-62) .
أما هيكل قوة العمل ، فإذا كان تغيره قد جاء بشكل غير مباشر من خلال تأثير الثورة المعلوماتية ، إلا أننا نرى أن تغير هيكل الإنتاج كان له الأثر المباشر فى تغير هيكل قوة العمل – فالصناعات الحديثة سواء كانت فى مجال الإنتاج السلعى أو فى مجال الإنتاج الخدمى باتت فى حاجة لعمالة تستطيع تشغيل الآلات الأوتوماتيكية ، وأصبحت مهارة الحرفة غير مطلوبة ، فاستخدام الإلكترونيات من شأنه أتمام عدة عمليات فى وقت أقل ، ومدته أكثر ، فالننظر للعمليات الحسابية وطريقة استخراجها من أجهزة الحاسب الآلى ، إذ يقوم مشغل الحاسب بإدخال بياناته ثم يستخرج نتائجه ويطبعها دون حاجة لعمليات جمع أو طرح يدوى . غير أن استخدام الأوتوماتيكية فى الإنتاج الصناعى والخدمى قد ترتب عليه ضعف فى العلاقة بين الإنتاج والعمالة ، لقد كان الطلب على العمالة يشتد فى فترات الرواج ، ويتراخى فى فترات الكساد ، إلا أنه مع التقدم العلمى أصبحت هذه العلاقة أضعف عن ذى قبل ، إذ تقوم التكنولوجيا الجديدة بخلق فرص عمل جديدة هى فى حقيقتها أقل التى كانت متاحه فى عهد الثورة الصناعية الأولى إلا أنها فرص تحتاج قدر كاف من التعليم والتدريب يسمح بوجود مشغلين (Users) لتشغيل الآلات المتقدمة . (مرسى 1990: 64-65) وأخيراً فأن تغير هيكل الموارد قد أرتبط أيضاً بالثورة المعلوماتية كنتيجة من نتائجها ، لقد سمح التقدم العلمى بتحقيق وفورات فى استخدام الموارد ، وخفض فى الفاقد والتالف منها (مرسى 1990: 65) ، بل تحقيق خفض فى المستخدم فيها بعد تقديم أشكال جديدة من المنتجات التكنولوجية عالية التقنية . فعلى سبيل المثال فأن استخدام الشبكة الدولية للمعلومات من شأنه خفض الطلب على أوراق الطباعة . لقد أصبحت المعرفة مورداً أساسياً من موارد الثروة ، بل أن أهمية هذا المورد تتزايد بتزايد التقدم العلمى .
ومن ناحية أخرى فأن صادرات الدول المتقدمة تعتمد بالأساس على صادرات فروع الشركات متعددة الجنسية التى تعمل داخل أراضيها ، وهى بطبيعة الحال شركات تنتمى فى أغلبها وفقاً لدولة المركز لمجموعة الدول الصناعية المتقدمة .
لقد فازت دول الشمال الغنى بثمار هذه الثورة المعلوماتية ، ولم يأت فوزها بهذه الثمار عن صدفة وإنما جاء كنتيجة طبيعية للاهتمام بمجال البحث والتطوير وما يلزم هذا المجال من تقدم فى التنمية البشرية . ويكفى النظر لقائمة الصادرات السلعية عالية التكنولوجيا للتعرف على موقع دول الشمال الأفريقى فى إطار هذه المنظومة العالمية ، فالصادرات كثيفة المعرفة كنسبة من صادرات الصناعة التحويلية كانت فى الجزائر 1% ، مصر صفر % ، المغرب صفر % ، تونس 2% وفقاً لبيانات عام 2000(World Bank 2022) ، ذلك فى الوقت الذى بلغت فيه نسبة هذه الصادرات فى دول مثل تايلاند 31% ، الولايات المتحدة الأمريكية 33% ، بريطانيا 28% ، سنغافورة 59% ، الفلبين 71% ، النرويج 16% عن ذات العام ، أما هذه النسبة على مستوى مجموعات من الدول فقد كانت 20% فى مجموعة الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض ، وهى ذات المجموعة التى تنتمى إليها دول الشمال الأفريقى ، 12% فى دول أمريكا اللاتينية والكاريبى . وإذا كانت النسب المئوية وفقاً لهذا المؤشر ليست معياراً للمقارنة يمكن الاعتداد به لبيان حجم وقيمة صادرات الدول من السلع عالية التقنية ، فلنا أن نتخيل مقدار حجم صادرات الولايات المتحدة مثلاً المطلق من السلع كثيفة المعرفة ، حتى لو كانت نسبة هذه الصادرات أقل من الفلبين أو سنغافورة .
3- حالة واتجاهات التنمية البشرية فى دول شمال أفريقيا
نتناول فى هذا القسم من الدراسة أوضاع التنمية البشرية من خلال المؤشرات الفرعية التى يقوم على أساسها اشتقاق قيمة دليل التنمية البشرية على النحو الذى يتبعة برنامج الأمم المتحدة الإنمائى UNDP ، يلى ذلك تحليل اتجاهات دليل التنمية فى دول الدراسة
3-1 التنمية البشرية من خلال المؤشرات الفرعية لدليل التنمية
يقوم دليل التنمية البشرية فى تركيبة على ثلاث مؤشرات فرعية هى دليل العمر المتوقع ، ودليل التعليم ، ثم أخيراً دليل الناتج المحلى الإجمالى معدلاً لمتوسط نصيب الفرد من هذا الناتج بما يعادلة من قوة شرائية بالدولار الأمريكى ( أنظر الملحق رقم “2” ) .
3-1-1 دليل متوسط العمر المتوقع : يقدم هذا الدليل نتيجة ما تبذله دولة من الدول فى
مجال الرعاية الصحية بكل جوانبها سواء كانت رعاية سابقة للمرض أو لاحقة له ( وقاية او علاج ) ، فزيادةالعمر المتوقع أن يعيشة إنسان ما عند ميلاده يعكس مدى اهتمام الدولة بأحوال مواطنيها ومدى ما تبذله فى سبيل الحفاظ على صحتهم العامة ، فهو مؤشر يعكس الإهتمامات الصحية والبيئية ، والإهتمام بالبنية الأساسية من مرافق ونقل وتوفير لمياه صالحة للشرب وصرف صحى ، وكافة الجوانب التى من شأنها أن تطيل من عمر الفرد.
يوضح الجدول رقم (1) بالملحق رقم (1) دليل متوسط العمر المتوقع لدول شمال أفريقيا ويتضح منه أن مؤشر دليل العمر المتوقع فى هذه الدول أعلى من باقى مجموعة دول التنمية البشرية المتوسطة فى اطارها التجميعى ، إذ بلغت قيمة هذا الدليل فى مجموعة الدول المذكورة .0.70 على حين جاءت قيمة دليل التنمية فى أقل الحالات المعروضة من دول شمال أفريقيا 0.72 ( حالة مصر – حالة المغرب ) ، وهو مايعكس التحسن النسبى لدول الدراسة على مستوى المجموعة التى تنتمى اليها ( مجموعة التنمية البشرية المتوسطة ) ، اما اذا تمت مقارنة قيمة هذا الدليل فى دول الدراسة لمجموعة دول التنمية البشرية المرتفعة يتضح وجود فارق ليس بالهين ، اذ بلغ هذا الفارق فى احسن الحالات 0.08 بنط مئوى ، وهى قيمة يمكن الإعتداد بها اذا ما أدركنا ان الجهد المطلوب تحقيقة لزيادة العمر المتوقع عند الميلاد هو جهد مركب لاتصاله باكثر من مجال من المجالات ذات الصلة بالصحة العامة ، فضلا عن الوقت الذى يحتاجه هذا الجهد لكى يتم جنى ثماره .
ان الإصلاحات المطلوبة فى المجالات الإقتصادية والإجتماعية من شأنها ان تزيد من الدخل القومى على المستوى الكلى ، وتزيد من دخل الأفراد وبالتالى تمكنهم من زيادة الإهتمام بشئونهم الصحية ( Wakhrey , 1995 )
2-1-2 دليل التعليم
يستند دليل التعليم لمؤشرين أساسين هما نسبة البالغين الذين لديهم إلمام بالقراءة والكتابة من مجموع عمر البالغين ، فضلا عن نسبة عدد الملتحقين بالتعليم فى المجموعات العمرية المختلفة ، وان كان المؤشر الفرعى الثانى له نصف اهمية المؤشر الفرعى الأول ( نسبة البالغين الذين لديهم إلمام بالقراءة والكتابة ).
وعلى ذلك فالمؤشر فى مجملة يعكس حالة الأميه فى القراءة والكتابة باكثر مما يعكس حاله التعليم ويتضح من الجدول رقم (1) بالملحق رقم (1) ان قيمة دليل التعليم جاءت فى دول شمال افريقيا اقل من قيمة دليل مجموعة التنمية البشرية المتوسطة ( فيما عدا ليبيا ) ، وهو الأمر الذى يعكس ضرورة الإهتمام بأوضاع التعليم بشكل عام ، ومحو أميه القراءة والكتابة بشكل خاص .
يتضح الفارق بين دول الشمال الأفريقي من ناحية ومجموعة دول التنمية البشرية المرتفعة من ناحية اخرى اذ بلغت قيمة دليل التعليم فى هذه المجموعة 0.91 على حين كانت فى مصر 0.50 ، والمغرب 0.63
ان اهتمام الدولة بالتعليم ينعكس فى مقدرتها على استيعاب المجموعات العمرية فى المراحل التعليمية المقررة لكل مجموعة ، وفى نوعية التعليم الذى تقدمة الهيئة التعليمية للدارسين ، اما مسأله التسرب من التعليم وعلى الأخص فى المرحلة الأساسية فهى مسئولية الدولة والمجتمع معاً ، اذ يجب ان تتضافر الجهود بين الدولة والأسرة والجمعيات غير الحكومية للقضاء على ظاهرة التسرب من التعليم الأساسى ، إذ أن هذا التسرب هو الرافد الأساسى لتغذية الأمية .
ان نوعية التعليم الذى تقدمة الدولة لأبنائها يختلف بإختلاف التخصصات ، غير أنه فى المراحل الأولى من التعليم قد تكون الجدية هى العنصر الفاعل فى تخريج دارس ملم بقواعد لغته واصول تاريخة ، وثقافتة العامة فضلا عن بعض القواعد الأساسية للحساب ، اما اذا تدرجنا بمراحل التعليم حتى الجامعة وبالذات مراحل الدراسات العاليا فيها فجامعاتنا مازالت فى حاجة للتطوير لكى تساير جامعات الدول المتقدمة . ان الأمر الذى لاشك فيه ان هذا التطوير يحتاج لموارد مالية قد تعجز الدول عن توفيرها فى ظل مشكلات العجز فى الموازنات العامة ، وتطبيق البرامج الإقتصادية للتكيف الهيكلى ، ( Reimers , 1991 ) وهنا فان الدعوة لمساهمات المجتمع المدنى فى تمويل الجامعات الأهلية ، وضبط حركة الجامعات الخاصة هى كلها شروط واجبة التحقق (2)
3-1-3 دليل الناتج المحلى الإجمالى لمتوسط نصيب الفرد معدلاً بالقوة الشرائية للدولار الأمريكى
وهو المؤشر الفرعى الثالث الذى يقوم علية دليل التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى إذ يعتمد البرنامج دليل الناتج المحلى الإجمالى لمتوسط نصيب الفرد معدلاً بالقوة الشرائية للدولار الأمريكى . ويستمد المؤشر فكرتة الأساسية من فرض قوة انخفاض القيمة الحدية للنقود بزيادة كميتها لدى الفرد ، وهو فرض صحيح اذا ما ظلت دالة الهدف للأفراد ثابتة ، غير ان الإنسان بطبيعتة النفسية والسلوكية وخصائص حاجاته الإنسانية سرعان ما تتبدل دوال اهدافة.
يقدم الجدول رقم (1) بالملحق رقم (1) قيمة دليل الناتج المحلى الإجمالى ، وهى فى ثلاث حالات ( ليبيا – تونس – الجزائر ) أعلى من قيمة هذا الدليل فى مجموعة دول التنمية البشرية المتوسطة غير أن كل حالات الدراسة دليلها فى الناتج المحلى الإجمالى أقل من قيمة هذا الدليل بالنسبة لمجموعة دول التنمية البشرية المرتفعة.
ورغم ان هذا المؤشر يتمتع بأهمية نسبية متساوية مع الأهمية بالنسبة للمؤشرين الأخرين ( دليل العمر المتوقع ، دليل التعليم ) غير أننا نرى انعكاس أهميتة على قيمة الدليلين المذكورين فمن خلال متوسط نصيب الفرد من قيمة الناتج المحلى الإجمالى ، يستطيع الإنسان أن يوجه جزء من هذه القيمة للتعليم والصحة ، ان متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى يظل معياراً هاماً وصالحاً لقياس درجة التنمية البشرية اذا ما ابتعدنا به عن القيم الشاذة التى تؤثر فى مصداقية المتوسط الحسابى للحكم على العينات أو المجتمعات . ان هذه القيم الشاذة تتأتى من سوء توزيع الدخل ، فالعدالة فى توزيع الدخل واقتراب معامل جينى من قيمة الواحد الصحيح تجعل متوسط نصيب الفرد معياراً هاماً للحكم على مستوى التنمية البشرية .
ان زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى تعنى زيادة قيمة هذا الناتج بمعدلات تزيد عن معدلات زيادة عدد السكان . ان البعض يستخرج من هذه المقدمة نتيجة سريعة ألا وهى ضرورة خفض معدل النمو السكانى . ان هذه النتيجة تنظر للسكان باعتبارهم جمهور من المستهلكين فقط غير ان حقيقة الأمر تقرر بأن التنمية لا تتم الا بالإنسان وللإنسان وهذا يعنى زيادة عدد السكان إذا ارتبطت بزيادة إنتاجياتهم فهذا معناه أن الناتج المحلى الإجمالى سوف يزيد بمعدلات أسرع من معدلات النمو السكانى ، وهو الأمر الذى يحقق الزيادة فى متوسط نصيب الفرد من الناتج ، وتظل قضية العدالة فى التوزيع محور التفكير لدى الفلاسفة وعلماء السياسة ، وأيضا لدى علماء الإقتصاد .
إن الأداء الإقتصادى فى دول الشمال الأفريقي يقوم على سياسة الانفتاح على العالم الخارجى ، وهى سياسة أصبحت من دعائم النظام العالمى ولا تستطيع دولة من الدول أن تنفصل عنها ، غير أن إشكالية الإندماج تكمن فى ضرورة تعظيم الفرص المتاحة منه .
يقدم الجدول رقم (2) بالملحق رقم (1) اطاراً عاماً للعلاقات الإقتصادية الدولية فى دول شمال أفريقيا ، ويتضح منه أن تجارة المنتجات المصدرة تحت وصف صادرات من المواد عالية التقنية كنسبة من الصادرات المصنعة ، هى تجارة ضئيلة للغايه ففى عام 1990 ثلاث دول من الخمس كانت النسبة فيها صفر % وفى عام 2001 لم تتجاوز دولتين منهما نسبة الـ 5 % ( مصر ) أما المغرب فان الإحصاءات تفيد بان صادرتها عالية التقنية كنسبة من الصادرات المصنعة قد قفزت من الصفر الى 11% على حين زادت هذة النسبة فى تونس من 2% الى 3% بمقدار بنط مئوى واحد أى بنسبة 50 % أما الصادرات من المواد الأولية فمازالت تسيطر على نسبة تزيد عن 50 % فى كل من مصر والجزائر على حين بلغت هذه النسبة فى دول التنمية البشرية المرتفعة 16 %
ان خطورة الاعتماد على المواد الخام فى الحصول على النقد الاجنبى اللازم لتغطية عمليات الإستيراد تكمن فى امكانية نضوب المواد الخام من ناحية ، ومن ناحية أخرى امكانية تذبذب اسعارها بل تدهورها فى كثير من الأحيان ، ان المواد الخام التى يتم تصديرها ينظر اليها فى دولنا تعامل بإعتبارها دخلا وهى فى حقيقة الأمر ليست كذلك فهى ثروه تغير شكلها من مخزون فى باطن الأرض الى سيوله نقدية ، وهذة الأخيرة يجب أن تعامل باعتبارها ثروة وليست دخل أى يجب أن تستثمر جميعها لكى تولد الدخل المنتظر منها مع الحقاظ على قيمتها اذ انها ملك للأجيال القادمة .
3-2 اتجاهات دليل التنمية البشرية :
تفيد البيانات الإحصائية المنشورة أن تقدماً ما قد تحقق فى دليل التنمية البشرية فى كل من تونس – الجزائر – مصر – المغرب ، أما ليبيا فغير متاح عنها بيانات الا فى عام 2001 . والسؤال الذى يطرح نفسة فى هذا المقام الى أى مدى يمكن الإعتداد بالتقدم الذى حدث فى هذا المجال عند الدخول فى مجال منافسة العالمية ؟ ان السؤال لايغلق الباب أمام هذه المنافسة ، وانما يقصد من اثارته الإنتقال لسبل تحقيق التنمية البشرية ودفعها للأمام على النحو الذى نعرضة فى القسم التالى . يقدم الجدول رقم ( 3 ) بالملحق رقم (1) تطوراً لقيمة دليل التنمية البشرية لدول الدراسة فى ست سنوات وقد قمنا باستخراج الوسط الهندسى لهذه القيمة فى الصيغة
ن حاصل ضرب قيمة الدليل لعدد ن من السنوات
وجاءت نتيجة الوسط الهندسى لقيمة الدليل على النحو التالى : 0.627 ، 0.613 ، 0.539 ، 0.516 فى كل من تونس ، الجزائر ، مصر ، المغرب على التوالى ولإجراء المقارنة مع حالات أخرى فقد تم حساب الوسط الهندسى فى حالات أخرى لدول تنتمى لمجموعة دول التنمية البشرية المرتفعة . وقد اتضح منها ان قيمة الوسط الهنسى لهذا الدليل عن ذات السنوات هى 0.902 ، 0.885 ، 0.875 ، 0.847 فى كل من الولايات المتحدة ، فرنسا ، أسبانيا ، ايطاليا ، اسرائيل على التوالى .
يتضح من تحليل اتجاهات التنمية البشرية ان معدلات نمو دليل التنمية البشرية فى دول مجموعة التنمية المرتفعة هو اسرع من معدل نمو هذا الدليل فى مجموعة دول الدراسة رغم ما طرأ عليه من تحسن خلال الفترة منذ عام 1975 حتى عام 2001 على النحو الذى يوضحة الجدول رقم (3) بالملحق رقم (1) ، وهو الأمر الذى يفرض التحدى على دول الشمال الأفريقى لكى تندمج فى الإقتصاد العالمى .
4-تعزيز عوامل النجاح وتحقيق التقدم فى مجال التنمية البشرية فى شمال أفريقيا :-
لقد هيأت الحكومات فى دول شمال أفريقيا الإطار التشريعى اللازم لتحقيق التقدم فى مجال التنمية البشرية فى ظل الظروف العالمية الراهنة ، ومن ناحية أخرى فقد اجازت السلطات التشريعية فى هذه الدول تلك الأطر التشريعية . وعلى المستوى العالمى فقد بذل جهد كثيف فى هذا المجال سواء على المستوى القارى أو على المستوى الثنائى بين بلدان شمال افريقيا والإتحاد الأوروبى ، وأخيراً فقد صدر فى أكتوبر 2001 وثيقة تعد الأهم فى كل هذه الوثائق ألا وهى وثيقة مبادرة الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا ” النيباد ” ، نتناول فى هذا القسم من الدراسة الخطوات الإجرائية اللازمة لتحقيق التقدم فى مجال التنمية البشرية على مستوى دول الدراسة ، لذلك فسوف نعرض فى فرع أول الجهود اللازمة على المستوى الوطنى ، ثم يلى ذلك الجهود اللازمة على المستوى القارى.
4-1 الجهود اللازمة على المستوى الوطنى
ان الأخذ ببرامج التكيف الهيكلى ، بات أحد الشروط اللازمة التطبيق فى السياسات الإقتصادية الداخلية حتى تتمكن الدول المعنية من التفاعل مع المجتمع الدولى . ان هذه البرامج تقوم فى جوهرها على شقين أساسيين هما الإستقرار والتكيف . ان الإستقرار وفقاً لهذه البرامج يستهدف التوازن المالى والتوازن النقدى ، اى بعبارة أخرى خفض عجز الموازنة العامة ، والتحكم فى الإصدار النقدى للنقود من خلال استناد هذا الإصدار لرصيد من العملات الأجنبية يمثل حقوقاً للدولة المعنية والتزاما على العالم الخارجى ، وهو الأمر الذى يتحقق من خلال زياده قيمة مجموع الأرصدة الدائنة المستقلة فى ميزان المدفوعات عن قيمة مجموع الأرصدة المدينة المستقلة ، وبعبارة أبسط زيادة قيمة الصادرات السلعية والخدمية عن قيمة الواردات السلعية والخدمية ، مع تحقيق رصيد دائن لصالح الدولة المعنية من تدفقات موارد النقد الأجنبى للداخل.
أما برامج التكيف فهى تقوم على أساس نموذج يقرر بأن زيادة الإستثمارات المخططة عن المدخرات المتحققة يعنى زيادة قيمة الواردات السلعية والخدمية عن قيمة الصادرات السلعية والخدمية بعد جمع رصيد تدفقات رأس المال اذا كان مدينا وطرحة اذا كان دائنا ، وعلى ذلك فان شروط برامج الأستقرار التى يدعمها صندوق النقد الدولى تتقاطع مع شروط برامج التكيف التى يدعمها البنك الدولى . وامام اشكالية خفض الطلب الكلى بشقية العام والخاص . تلجأ الحكومات لترشيد انفاقها بالتخلى عن بعض المشروعات التى كانت تمتلكها أو حتى تلك المشروعات التى كانت تزمع القيام بها وذلك لإتاحة الفرصة للقطاع الخاص لكى يدخل الى تلك المجالات التى تخلت عنها الحكومات بفعل فرضية الإزاحة .
ان تطبيق هذه البرامج أسفر عن تدنى الرعاية الصحية والتعليمية المجانية ، وظهرت بكثافة نسبة أكثر من ذى قبل المستشفيات الخاصة التى تقدم العلاج بالمقابل المادى ، كذلك أيضاً انتشرت المدارس الخاصة ، ناهيك عن الجامعات . أما من حيث تحقيق معدلات النمو فى الناتج المحلى الإجمالى ، فهى لاتتناسب مع معدلات نمو السكان ذلك بفعل عدم التحسن فى الإنتاجية الحديه لعنصر العمل ، وامام هذه المشكلات الناجمة عن سياسات هى من قبيل المعطيات الدولية ، فان الدور الفاعل للحكومات فى مراقبة الأسواق وتطبيق التشريعات يجب تفعيلة باكثر مما هو عليه الأن ، فالقضاء على التهرب الضريبى والجمركى من شأنه زيادة الموارد السيادية للدولة ، وهو الأمر الذى يهئ فرصة لإعادة توزيع الدخل فى ظل ظروف دولية نجم عنها زيادة معدلات البطالة على المستوى العالمى . ان محاربة الفساد فى كل صورة واشكاله هو المهمة المقدسة للحكومات والى جانبها تأتى الرقابة الشعبية .
أما على مستوى القطاع الخاص ، فان هذا القطاع علية الأهتمام بعمليات البحث والتطوير Researches and Develpement ، كذلك ايضاً اتساع المجال لتدريب العاملين من شأنه زيادة إنتاجية عنصر العمل الأمر الذى ينعكس فى زيادة انتاجيته .
وعلى المستوى الشعبى فان الجمعيات غير الحكومية NGOs عليها ان تمارس دورها فى التوعية بأهمية التعليم والثقافة والإهتمام بالرعاية الصحية ، وفتح مجالات الرزق من خلال المشروعات التى يمكن تمويلها ذاتياً من المجتمعات المحلية .
ان هذه الإجراءات يجب ان تكون تحت الرعاية الحكومية ، توجهها وتراقب تنفيذها ، واننا نرى ان ذلك لا يتنافى مع قيم الديمقراطية المنشودة ، بل أنه يعززها .
4-2 الجهود اللازمة على المستوى القارى
تعد وثيقة مبادرة النيباد أحدث واهم مبادرات التنمية الأفريقية ، تحتوى هذه المبادرة على عده مبادرات فرعية ، منها مبادرة التنمية البشرية وهى مبادرة تهتم بمختلف جوانب التنمية البشرية من رعاية صحية ، وتعليم وحقوق للمرأة والطفل وغير ذلك من المجالات التى تدخل فى نطاق التنمية البشرية
لقد قدمت هذه المبادرة لمجموعة دول الثمانية يوم 27 يونيو 2022 فى كندا بهدف اعتمادها ، والحصول على تسهيلات أئتتمانية ، ودعم تنموى فى شكل مساعدات إنمائية حتى تستطيع دول القارة ان تخفض من معدلات الفقر ، وتعيد هيكله اقتصادها بما يهيأ لها النفاذ للأسواق الخارجية . غير ان استجابة دول الثمانية لهذه المبادرة كانت اقل مما توقعه المجتمع الأفريقى ، حيث تقرر تشكيل آلية لمراجعة الأداء فى داخل دول القارة بمعرفة دول القارة ذاتها ( آلية مراجعة النظراء ) ، فاذا ما قامت دولة بإستيفاء الشروط السياسية الخاصة بتحقيق الديمقراطية والحكم الجيد ، والثقافة فانها تكون مهيئة للإستفادة من مساعدات المجتمع الدولى
ان الشروط التى تضمنتها مبادرة النيباد فى مجال الإصلاح السياسى ومجال الإصلاح الإقتصادى يكون من المفيد تطبيقها على مراحل وهنا فسوف تكون المساعدات الإنمائية المطلوبة ( 64 مليار دولار لتحقيق معدل متوسط للنمو 7% خلال الخمسة عشر عاما التالية لإعتماد المبادرة ) رهناً لتحقيق هذه الشروط وهو الأمر الذى يعوق من مسيرة التنمية .
ان الإتجاه لإقامة الحوار والعلاقات ( جنوب / جنوب ) أى العلاقات البينية بين دول القارة من خلال تحقيق التكتلات الإقتصادية الأقليمية واقامة المشروعات المشتركة وتبادل الخبرات الفنية هو السبيل لخروج افريقيا من أزماتها وتحقيق التنمية البشرية المطلوبة.
خاتمة البحث
ان النتيجة الأساسية المستخرجة من البحث هى ضرورة العمل على المستوى الوطنى والمستوى القارى لتحقيق التنية البشرية كما ان هذه التنمية تعد أحد اهم الشروط اللازمة للإنخراط فى المجتمع الدولى واقتصادات العولمة التى تقوم اساساً على المعرفة .
لقد انقضى زمناً كانت المادة الخام هى محور عمليات النهب الإستعمارى ، وأصبحت العقول هى محور هذا الأهتمام ، سواء باستقطاب أبناء دول العالم الثالث من النابغين ، أو أخفاء منابع المعرفة عنهم حتى لا يستطيعوا القيام بتحقيق التقدم فى اوطانهم . وليس غريباً ان نسمع عن إغلاق أقسام متخصصة فى مجال العلوم الطبيعية بالجامعات الأمريكية امام العرب ان النجاح فى القضاء على هذا التحدى يحتاج لتضافر الجهود الحكومية مع الجهود الشعبية على مستوى الدولة الواحدة من ناحية وعلى مستوى القارة الإفريقية من ناحية أخرى ، ولعل الإتحاد الإفريقى كتنظيم قارى حل محل منظمة الوحدة الأفريقيةبهذا الدور ويتمكن من تحقيق التكامل الإقتصادى الإقليمى ثم القارى على النحو الذى رسمته معاهدة أبوجا وإعتمده القانون التأسيسى للإتحاد بل حث على الإسراع فى تنفيذه . ان الإتحاد الأفريقي بما يحويه من مؤسسات مالية كصندوق النقد الأفريقى والبنك المركزى الأفريقى وبنك الإستثمار الأفريقى ، كذلك أيضاَ بما يحويه من لجان فنيه كلجنة الإقتصاد الريفى ولجنة البيئة وغير ذلك من اللجان المتخصصة قد يتمكن من تحسين مستوى التنمية على مستوى القارة من خلال تحقيق التوسع فى السوق الأفريقى والنفاذ للأسواق الدولية ، كذلك ايضاً من خلال التخصص وتقسيم العمل والإنتاج على المستوى الكبير Mass production من خلال التنسيق فيما بين دول القارة .
وأخيراً فان زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى مقروناً بالعداله فى توزيع الدخل من شأنه ان يؤثر بالإيجاب فى قيمة دليل التعليم ودليل الصحة بما يرفع من مستوى دليل التنمية البشرية .
هوامش البحث
1. حسب تقسيم البنك الدولى ، وقد اقتصرت الدراسة فى كثير من أجزائها على مصر – تونس – الجزائر – المغرب ، وذلك لعدم توافر بيانات منتظمة عن ليبيا
2. تختلف الجامعات الأهلية عن الجامعات الخاصة ، فالأولى تقوم على التبرعات ولاتستهدف تحقيق أرباح ، أما الثانية فهى مشروعات شبه تجارية تستهدف تحقيق
الربح
المراجـــــع :-
• برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ، تقرير التنمية البشرية 2022 ، نيويورك
• رمزي زكى ، 1993 الليبرالية المتوحشة (القاهرة : دار المستقبل العربي) .
• كريمة كريم ، جوده عبد الخالق (1997) أساسيات التنمية الاقتصادية ( القاهرة : دار النهضة العربية )
• فؤاد مرسى ، 1990 الرأسمالية تجدد نفسها سلسلة عالم المعرفة العدد 147 (الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب .
مراجع باللغة الإنجليزية :-
• Easterlin, Richard A. 2000 “ The Globalization of Human Development ” Annals at American Academy of Political & Social Sience, Vol . 570 Jule pp 32-49 .
• Mandela , Nelson 2000 The Challenges of the Next Century: The Globalization of Responsibility New Perspectives Quarterly , Winter pp 34-36 .
• Maramba, Petronella 1996,”Structural Adjustment Pragrams and Human Rights African Women” Women,s International Network News Vol. 22, No . 3 Summer, pp 20-21 .
• Moose, George E. 1996 “The Economic Sitution in Sub – Saharon Africa” U.S. Department of State Diapach, Vol. 7 No 33 pp 413-417 .
• Reimers, Fernando 1991 “ The Role of Organization and Politics in Government Financing of Education ” Comparative Education Vol 27 No. 1 pp 35-52 .
• UN Chroical 1996 “ Enhancing Support Tor African Development United Nations Chronicale Vol. 33, No .2 pp 6-10 .
• Wakhweya, Angela M. 1995 Structural Adjustmet and Health British Medical Journal Vol. 3/ No. 6997 pp 71-73 .
• World Bank 2000 World Develppment Reports 2000/2001 Attacking Poverty (Washington D.C. 2000) .
• World Bank 2022 Africa Development Indicaters 2022 Washington D.C. .
• Internutional Monetary Fund 2022 Direction of Trade Statistics Year Book . Washington D.C..
ملحق رقم (1)
جدول رقم (1)
حالة التنمية البشرية في دول شمال أفريقيا عام 2001
اسم الدولة الترتيب حسب التنمية البشرية لعام 2022 متوسط العمر المتوقع عند الولادة بالأعوام نسبة الأمية لدى البالغين % من عمر 15 عام فما فوق مجموع نسب الالتحاق الإجمالية بالتعليم الابتدائي والثانوي والعالي % الناتج المحلى الإجمالي للفرد ( معدل القوة الشرائية للدولار الأمريكي $ ) دليل متوسط العمر المتوقع دليل التعليم دليل الناتج المحلى الإجمالي قيمة دليل التنمية البشرية
ليبيا 61 72.4 80.8 89 7570 0.79 0.84 0.72 0.783
تونس 91 72.5 72.1 76 6390 0.79 0.73 0.69 0.740
الجزائر 107 69.2 67.8 71 6090 0.74 0.69 0.69 0.704
مصر 120 68.3 56.1 76 3520 0.72 0.63 0.59 0.648
المغرب 126 68.1 49.8 51 3600 0.72 0.50 0.60 0.606
تنمية بشرية متوسطة – 67 78.1 64 4053 0.70 0.74 0.62 0.684
تنمية بشرية مرتفعة – 77.1 – 89 23135 0.87 0.91 0.91 0.908
• يحتوى الدليل على ترتيب لعدد 175 دولة .
المصدر : برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، تقرير التنمية البشرية للعام 2022 ( نيويورك ، 2022 )
جدول رقم (2)
هيكل التجارة في دول شمال أفريقيا
عامي 1990 ، 2001
الدول بحسب ترتيبها فى دليل التنمية البشرية الواردات % من الناتج المحلى الصادرات من السلع والخدمات % من الناتج الإجمالى الصادرات من المواد الأولية % من الصادرات السلعية الصادرات من المواد المصنعة % من الصادرات الصادرات من المواد عالية التقنية % من الصادرات المصنعة معدل التجارة
1990 2001 1990 2001 1990 2001 1990 2001 1990 2001 1990
ليبيا 31 15 40 36 95 – 5 – 5 – 82
تونس 51 52 44 48 31 23 69 77 2 3 82
الجزائر 25 21 23 37 97 98 3 2 صفر 4 59
مصر 33 23 20 18 57 60 42 33 صفر 1 47
المغرب 32 36 26 30 48 36 52 64 صفر 11 111
تنمية بشرية متوسطة 19 27 20 29 – – 48 58 5 19 –
تنمية بشرية مرتفعة 20 24 20 24 19 16 79 82 18 24 –
المصدر : برنامج الأمم المتحدة الإنمائى ، تقرير التنمية البشرية للعام 2022 ( نيويورك ، 2022 ) ص 288 – 289
جدول رقم ( 3)
إتجاهات دليل التنمية البشرية 1975 – 2001
السنة
الدولة 1975 1980 1985 1990 1995 2001
ليبيا – – – – – 0.784
تونس 0.514 0.572 0.620 0.654 0.693 0.740
الجزائر 0.510 0.559 0.609 0.648 0.668 0.704
مصر 0.433 0.480 0.530 0.572 0.605 0.648
المغرب 0.427 0.472 0.506 0.538 0.567 0.606
” تعنى غير متاح
المصدر : برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، تقرير التنمية البشرية للعام 2022 ( نيويورك ، 2022 ) ص ص 242 – 243
ملحق رقم (2)
طريقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في حساب دليل التنمية البشرية
يعتمد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي NNPD في حسابه لدليل التنمية البشرية على ثلاثة مؤشرات فرعية متساوية في أوزانها الترجيحية هي دليل العمر المتوقع ، دليل التعليم ، دليل الناتج المحلى الإجمالي
وبالتالي فإن دليل التنمية البشرية = 3/1 دليل العمر المتوقع + 3/1دليل التعليم + 3/1دليل الناتج المحلى الإجمالي
ولحساب قيمة هذه المؤشرات الفرعية يعتمد البرنامج على الطرائق التالية :
أولاً : بالنسبة لدليل العمر المتوقع ، وهو دليل لقياس الجهود النسبية التي تبذلها دولة ما للعمر المتوقع عند الولادة ويعتمد هذا الدليل على معلمتين أساسيتين للحد الأقصى والحد الأدنى للعمر ويتم حسابه على النحو التالي :
العمر المتوقع عند الميلاد – معلمة الحد الأدنى للعمر وتساوى 25
دليل العمر المتوقع = ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلمة الحد الأقصى للعمر وتساوى 85 – معلمة الحد الأدنى للعمر وتساوى 25
= قيمة تتراوح ما بين الصفر والواحد الصحيح
فإذا كانت قيمة البسط مساوية لقيمة المقام فان خارج القسمة سوف تكون قيمته واحد صحيح ، وهى حالة تتحقق عندما يكون العمر المتوقع عند الميلاد مساوياً لمعلمة الحد الأقصى للعمر .
ثانياً : بالنسبة لدليل التعليم ، وهو بدوره يتكون من مؤشرين فرعيين هما دليل إلمام البالغين بالقراءة والكتابة ودليل إجمالي نسب الالتحاق وللأول وزن نسبى بمقدار 3/2والثانى بمقدار 3/1 وعلى ذلك فان دليل التعليم يأخذ الصيغة التالية : 3/2 دليل إلمام البالغين بالقراءة والكتابة + 3/1 دليل إجمالي نسب الالتحاق
نسبة إلمام البالغين بالقراءة والكتابة من إجمالى عدد البالغين – صفر
دليل إلمام القراءة والكتابة = ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
100 – صفر
نسب الالتحاق بالتعليم في مختلف المجموعات العمرية – صفر
دليل إجمالي نسب الالتحاق = ــــــــــــــــــــــــــــــ
100 – صفر
أما دليل الناتج المحلى الإجمالي ، فيعتمد على فكرة المنفعة الحدية للنقود ومعادل القوة الشرائية بالدولار الأمريكي لمتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي
اللوغاريتم الطبيعي لقيمة متوسط نصيب الفرد طبقاً لتعادل القوة الشرائية – اللوغاريتم الطبيعي للعدد 100 بالأساس 10 بعد تعديلها بما يعكس انخفاض المنفعة الحرية إذا كانت هذه القيمة أعلى من الحد الأدنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوغاريتم الطبيعي لمتوسط نصيب الفرد من الناتج على المستوى العالمى – اللوغاريتم الطبيعي للعدد 100 بالأساس 10 بعد تعديلها بما يعكس انخفاض المنفعة بالأساس 10 الحدية
لمزيد من التفاصيل والأمثلة لحساب دليل التنمية البشرية يمكن مراجعة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، تقرير التنمية البشرية لعام 2022 ( نيويورك ، 2022 ) ص 341 كذلك أيضاً أنظر شرح هذا الدليل في
كريمة كريم ، جوده عبد الخالق ، أساسيات التنمية الاقتصادية – 1997 – القاهرة : دار النهضة العربية – ص ص 32 – 35
فعلى مستوى الخطاب الاقتصادي أسس المصطلح، من بين ما أسس له، لما اعتيد على تسميته بالعولمة الاقتصادية، بينما أسس بالنسبة لخبراء التكنولوجيا لما سمي بالعولمة التكنولوجية في الوقت الذي تبناه “أهل الثقافة” فيما أسموه بالعولمة الثقافية أو رجال الأعمال فيما اصطلحوا على نعته بعولمة المال والأعمال ورأس المال.
على مستوى الممارسة وظف المصطلح، من بين ما وظف فيه، لتبرير وبالتالي تمرير برامج ومخططات لم ينجح الخطاب السائد إلا جزئيا في تبريرها وتمريرها. فنجد من هنا من يفسر طبيعة الأزمة بظاهرة العولمة، وينادي بضرورة مسايرتها أو على الأقل التكيف معها. ونجد من يرى فيها إحدى فرص الخلاص على اعتبار ما توفره من حوافز وما يمنحه تبنيها من امتيازات.
ما نعيبه على الخطاب السائد في العالم الثالث حول العولمة (وخصوصا الخطاب الأكاديمي منه) عدم تحديده للمفهوم وتركيزه الجلي على أبعاده وتجلياته. فتأتي الإسقاطات إما مؤد لجة (من الإيديولوجيا) أو عديمة الموضوعية أو مجانبة للسياق العام. وهو ما يفرغها في كل الأحوال من طابعها العلمي وفرضية تجردها.
وما نعيبه على الممارسة تبنيها للمصطلح من باب الترويج الديماغوجي المحض وعلى خلفية من “تحيزها” الصارخ إذ باسمه تفسر الأوضاع وتحت مسوغته تبرر السياسات.
ليس من الوارد في هذا المقام الوقوف عند أوجه قصور الخطاب الأكاديمي السائد حول ظاهرة العولمة، أو تفكيك إشكالية المصطلح الإبستمولوجية، ولا مساءلة الممارسة (السياسية بالأساس) حول “استغلالها” له بغية تجديد خطابها، بقدر ما نهدف إلى مقاربة ظاهرة ومصطلح العولمة بحثا في مضمونها ومحاولة لتحديد فضائها على ضوء التحولات التكنولوجية الكبرى التي ميزت العقود الثلاثة الأخيرة لهذا القرن سيما في ميدان الإعلام والاتصال.
ا- حول مفهوم وظاهرة العولمة
دأبت الأدبيات الاقتصادية، منذ عهود بعيدة، على الحديث عن اقتصاد أو علاقات اقتصادية بين الدول والشعوب للتدليل على وجود علاقات تبادل للسلع والخدمات وتنقل للأفراد والرساميل بين هذه الدول والشعوب. وقد نظر لذلك بعمق ومؤسس له بجدية كبيرة على الأقل منذ الثورة الصناعية وانتصار الرأسمالية وتقدم القيم اللليبيرالية.
لم يكن الجدل دائرا حول الاعتراف بوجود هذه العلاقات أو عدم وجودها، قدر ما تأتى من المجادلة التي دارت حول طبيعتها ودرجة عدالة معادلة تبادل فائض القيمة الناتج عنها وبداخلها، سيما مع ظهور نمط الإنتاج والتوزيع والتبادل الرأسمالي… وهو النمط الذي ساد وهيمن على العلاقات الدولية بلا منازع وأبان عن مناعة كبرى وتجدد مستمر على الرغم من الحروب والأزمات والنكسات.
بالتالي ، فالمصطلح، مصطلح الاقتصاد الدولي، إنما جاء لتكريس وجود علاقات اقتصادية دولية يتم من خلالها تبادل السلع والخدمات بين الدول وفي إطارها تتنقل الرساميل و في سياقها يتحرك الأفراد وتنتقل المجموعات.
هذه العلاقات الدولية لم يكن لها، مع مرور الزمن، إلا أن تتطور أكثر وتتعقد بتطور الاقتصاديات الوطنية وتعقدها، وظهور شركات إنتاجية ضخمة ومؤسسات مالية عملاقة تتواجد بكل أنحاء العالم عبر فروعها أو استثماراتها أو تمويلاتها. فأصبحت العلاقات “أكثر تدويلا” وأصبحت الشركات الكبرى متعددة الجنسيات.
ظهور الشركات المتعددة الجنسيات هاته عبر فروعها الموزعة في كل مناطق العالم وانتشار المؤسسات المالية عبر وكلائها لم يزد الاقتصاد الدولي إلا اتساعا و تدويلا ناهيك عن تعقيد طبيعة العلاقات بين الأمم و الدول سيما بين دول الشمال ودول الجنوب أو لنقل بين الدول الصناعية الكبرى ودول العالم الثالث.
هناك إذن في مرحلة أولى علاقات اقتصادية دولية من طراز تقليدي نظر لها بامتياز الكلاسيكيون والكلاسيكيون الجدد. وهناك في مرحلة ثانية تدويل للاقتصاديات الوطنية من خلال ظاهرة تعدد الجنسيات التي طالت المؤسسات الإنتاجية وميزت نشاطها لسنين عديدة ولا سيما خلال فترة ما اعتاد علماء الاقتصاد على تسميتها بمرحلة “الثلاثين الخوالد”(1).
من الوارد القول إذن، بناء على ذلك، إن العولمة إنما هي ظاهرة انبثقت من بطن ظاهرتين(2) سابقتين لها تاريخا وطبيعة سيرورة، هما ظاهرتي التدويل و تعدد الجنسية(3).
يحدد ريكاردو بتريلا ظاهرة العولمة(4) في كونها “مجموعة المراحل التي تمكن من إنتاج وتوزيع واستهلاك السلع والخدمات:
+ من أجل أسواق عالمية منظمة (أو في طريقها إلى التنظيم) وفق مقاييس ومعايير عالمية.
+ من طرف منظمات ولدت أو تعمل على أساس قواعد عالمية، بثقافة تنظيم منفتحة على المحيط العالمي، وتخضع لاستراتيجية عالمية من الصعب تحديد فضائها (القانوني والاقتصادي والتكنولوجي) بحكم تعدد ترابطات وتداخلات عناصرها في مختلف العمليات ‘الإنتاجية’ قبل عملية الإنتاج و…حتى بعده”(5).
ويعتبر بتريلا، فضلا عن ذلك، أن عولمة الاقتصاد تخضع (من بين ما تخضع له) لانبعاث تداخلات كثيفة بين الدول لا على المستوى الاقتصادي الخالص فحسب، ولكن أيضا على مستوى تسيير المشاكل الكبرى كمشاكل البيئة والمخدرات وغيرها. وهو ما يتطلب البحث عن أشكال جديدة بهدف إقامة تنظيم ” سياسي” جديد للاقتصاد والمجتمع عوض المنظمات العالمية “التقليدية” التي عجزت عن مواكبة الطبيعة المتجددة لهذه المشاكل.
هذا التحديد المتميز لظاهرة العولمة (على دقته وعمق تصوره) يطرح، على الرغم من ذلك، بعض الملاحظات المنهجية، ثلاث منها تتراءى لنا أساسية:
– الملاحظة الأولى وتتجلى في الصعوبة الموضوعية التي يطرحها أمر ترسيم حدود فضاء العولمة لا على اعتبار الطابع العالمي للظاهرة فحسب، ولكن أيضا بالاحتكام إلى ضعف الأدوات الإحصائية الكفيلة بتحديد ذات الفضاء، وهو ما لم يكن مطروحا (و لا واردا حتى) بالنسبة لمقاربي ظاهرتي التدويل وتعدد الجنسية.
– الملاحظة الثانية وتتعلق بعدم قارية مصطلح العولمة وتطوره المستمر، بالتالي انفتاح طرحه وتفتحه على ظواهر جديدة له، مواكبة لظهوره كتزايد دور العلم والتكنولوجيا في الأنشطة الإنسانية وتطور انتشار تكنولوجيا الإعلام والاتصال على نطاق عالمي واسع متجاوز للحدود والتنظيمات والقوانين.
– الملاحظة الثالثة وتحيل إلى خاصية التناقض التي تتسم بها ظاهرة العولمة في إحدى جوانبها سيما ظاهرة علمية(6) التكنولوجيا وتكنولوجية(7) العلم، وهي الظواهر التي تنبئ بما سيكون عليه النشاط الإنساني طيلة القرن الحادي والعشرين اقتصادا واجتماعا وطبيعة معرفة.
ما يميز ظاهرة العولمة، فضلا عن كل هذا، أنها لم تمأسس فقط لقطيعة في التوجهات السابقة لها (انفتاح وتداخل الاقتصاديات عبر تطور المبادلات وظهور أقطاب اقتصادية جديدة كالدول الآسيوية، وكذلك زيادة وتيرة الاستثمارات الدولية وما إلى ذلك)، بقدر ما ساهمت في تعميقها وإثراء محتوياتها.
وهذا الإثراء تمثل أساسا لا في كون ظاهرة العولمة قد مست جميع مراحل العملية الإنتاجية بما في ذلك عملية البحث والتطوير(8)، وتزامنت وظهور أشكال جديدة لتنظيم الأسواق (التحالفات بين المؤسسات قصد امتلاك التكنولوجيا الجديدة والتقسيم السريع والممنهج للمعرفة وكذا تنظيم قطاعات صناعية جديدة…الخ)، ولكن بالخصوص في تأثيرها على مكانة ودور بعض المؤسسات الرسمية كمؤسسة الدولة/الأمة(9)، حيث تزايد نسبية السياسات الاقتصادية الوطنية، وكذا مؤسسة البحث العلمي حيث مكنت العولمة من تعميق العلاقات بين المؤسسات الإنتاجية الوطنية والدولية وبين مؤسسات إنتاج المعرفة ومحيطها الاقتصادي وما إلى ذلك.
لو كان لنا أن ننبش في المحددات الكامنة وراء بروز ظاهرة العولمة وتكريسها التدريجي كواقع حال قائم لكان لنا أن نقف بداية عند مستويين:
+ المستوى الأول ويتعلق بالعوامل المرتبطة جوهريا بالطلب. ومعنى هذا أن الطلب لم يعد محصورا في الزمان والمكان بقدر ما بدأ يخضع هو الآخر لظاهرة العولمة. فالأسواق، يقول بتريلا، بدورها ” تتعولم، بمعنى أنها تتسم بميزات متشابهة كيف ما كان البلد. لكن تدويل الأسواق لا يعني توحيد الطلب سيما وأن عدم الاستقرار النقدي والمالي وكذا الحواجز الجمركية يحول دون الحديث عن سوق عالمي موحد”.
والمعنى من ذلك أن عولمة الأسواق إنما تنتج على المدى الطويل وفق مجموعة من التوجهات أهمها الميل النسبي باتجاه توحيد الطلب والعلاقة المتزايدة بين بيع السلعة وتوفير الخدمة وكذا الأهمية القصوى للمعايير والمقاييس.
وعلى الرغم من ذلك فإن ظاهرة عولمة الأسواق (أو عولمة الطلب) تجد جزءا من محدوديتها في أمرين اثنين على الأقل:
°- الأمر الأول ويرتبط أساسا بصمود مفهوم الأسواق الوطنية والطلب الوطني على الرغم من “طغيان” العالمي.
°- والأمر الثاني ويتمثل في واقع التجزئة الذي ما زال يعيشه الاقتصاد الدولي بحكم عدم الاستقرار القطري واستمرار الحواجز الجمركية وتزايد النعرات الحمائية وما إلى ذلك.
وهما أمران لا تنفيهما العولمة ولا تعمل على نفيهما مادام أن هذه الأخيرة ليست مرادفا لنهاية الأسواق الوطنية ولكن أخذ هذه الأسواق بعين الاعتبار من طرف مؤسسات تعمل انطلاقا من قواعد عالمية ولأسواق تتعولم تدريجيا.
+ المستوى الثاني ويحيل مبدئيا على مستوى العرض وبالتحديد على مسألتين: مسألة البحث والتطوير ومسألة تنظيم المؤسسات الإنتاجية.
فالعولمة لم تزد المؤسسات الإنتاجية إلا تشبتا بالبحث والتطوير سيما وأن الابتكار أضحى إحدى سبل تنافسية هذه المؤسسات وإحدى أسرار تميزها وإشعاعها.
ليس من المفارقة في شيء إذن إذا كانت ميزانيات البحث والتطوير غالبا ما لا تتأثر بظروف وملابسات الأزمة، إذ تثبت الإحصائيات أن وجود الأزمة أو غيابها لا يؤثر كثيرا (ولربما يؤثر بطريقة إيجابية) على مجهودات البحث والتطوير.
ثم أن مد العولمة أثر وبجدية على أساليب وطرق تنظيم المؤسسات، بمعنى أن التنافسية والربحية أصبحتا تكمنان تدريجيا في طرق التنظيم الداخلي وكذا في التحالفات والاندماجات والانصهارات التي تتم بين هذه المؤسسات. وهما أمران ساهما وبعمق في ظاهرة عولمة المؤسسات الإنتاجية وعولمة سلعها وخدماتها.
هذه المعطيات و”الملابسات” هي التي كانت، فيما نتصور، وراء بروز ومأسسة مفهوم وظاهرة العولمة، عولمة الاقتصاد الدولي. وقد مكنها من ذلك توفر أرضية لم تكن متوفرة زمن التدويل وتعدد الجنسية سيما انفراج العلاقات الدولية وتعدد قطبية الاقتصاد الدولي وكذا التطور المطرد لظاهرة “الاقتصاد اللامادي” بفضل التحولات التكنولوجية الضخمة التي عرفها العالم على امتداد السنوات العشرين الماضية (أنظر الجدول البياني التالي) سيما في ميدان الإعلام والاتصال وكذلك النقل والمواصلات.
ظاهرة العولمة
ظاهرة تعدد الجنسية
ظاهرة التدويل
مقاولات الثلاثي (الولايات المتحدة، اليابان، السوق الأوروبية).
دعم الدول لهذه المقاولات ومراكز إنتاج المعرفة كشركاء لهذه المقاولات.
مقاولات أمريكية وإنجليزية بالأساس
مقاولات الدول الغربية، الدول المتخلفة كدول مصدرة للمواد الأولية
الفاعلون
التقدم باتجاه عالم متعدد الأقطاب على مستوى الإنتاج وكذا الطلب.
الأهمية المتزايدة ل “اللامادة” من بحث وتطوير وتنظيم ومال.
وسائل اتصال متقدمة.
أهمية المنافسة على أساس الأسعار: تكلفة اليد العاملة واقتصاد السلم، تحرير المبادلات
أهمية توافر العوامل سيما بالنسبة لاستراتيجيات التصدير
العوامل المفسرة
كل مراحل الإنتاج. السلع والخدمات والتكنولوجيا
تبادل المواد الأولية، تبادل وإنتاج السلع بالخارج
تبادل المواد الأولية والسلع
الهدف
التصدير، تأسيس الفروع، اتفاقات بين المؤسسات وبينها وبين لجامعات.
تصدير، تأسيس الفروع
التصدير
الأشكال
أشكال جديدة لتنظيم السوق. الاحتكار هو القاعدة، المنافسة الحرة ليست هي المرجعية.
أشكال جديدة لتنظيم المؤسسات وعلاقات جديدة مع الدولة في مرحلة التوسع الجغرافي.
تداخل ماكرو-اقتصادي، محتكرون محددون في بعض القطاعات
تداخل ماكرو-اقتصادي
النتائج
اا- عن دور تكنولوجيا الإعلام والاتصال في عولمة الاقتصاد
أن نتحدث عن عولمة الاقتصاديات الوطنية (المتقدمة منها على وجه التحديد) أمر، وأن نتحدث عن عولمة قطاعات محددة من هذه الاقتصاديات أمر ثان. والمقصود هو أن ربط تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال بظاهرة العولمة إنما يجب أن يتم عبر مسألتين نعتبرهما متلازمتين:
+ المسألة الأولى وتتعلق بكون تكنولوجيا الإعلام والاتصال (من معلوماتية واتصالات وسمعي- بصري) لم تحدد لمسار العولمة بقدر ما مهدت لها الطريق ويسرت لها السبل.
+ والمسألة الثانية وترتبط بكون هذه التكنولوجيا لم تسلم هي نفسها من ظاهرة العولمة، كما لم تسلم من ذي قبل وإن بمستويات أخف، من ظاهرتي التدويل وتعدد الجنسية.
من الثابت إذن، على الأقل من الناحية الكرونولوجية لتتابع الأحداث، أن مرحلة عولمة الاقتصاديات والمؤسسات الإنتاجية قد تزامنت ومرحلة عولمة الإعلام والاتصال والرموز وكذا للمؤسسات المنتجة والمروجة لها، سيما مؤسسات الإعلاميات والاتصالات وتقنيات ومحتويات السمعي-البصري. إذ أن ” تراسل المعطيات بسرعة الضوء (300000 كيلومتر في الساعة) ورقمنة النصوص والصوت والصورة، والالتجاء لأقمار الاتصالات وثورة الهاتف وتعميم المعلوميات في قطاعات إنتاج السلع والخدمات وتصغير الحواسيب وربطها داخل شبكة كوكبية، قد مكنت من خلق انقلاب ضخم وشامل في نظام العالم”(10).
وعلى أساس كل هذا لم يتردد البعض في وصف اقتصاد نهاية هذا القرن واقتصاد القرن المقبل باقتصاد الرموز على اعتبار أن المعطى التكنولوجي المركزي الذي مكنته وسائل الإعلام والاتصال يتمحور حول اللامادية والسرعة والآنية والشمولية وما إلى ذلك.
فالمؤسسات المالية الكبرى مثلا تتناقل وتتبادل، على مدى أربعة وعشرين ساعة متصلة، معطيات من كل نقطة من نقط الأرض، في الوقت الذي تعمل فيه كبريات بورصات العالم عبر شبكات تربط بعضها البعض… مؤسسة بذلك لما بدأ يصطلح عليه بالشمولية أو بالشوملة(11).
ما يصدق على المؤسسات المالية حيث تنتقل، عبر الكوابل والأقمار الصناعية، مئات ملايير الدولارات في هنيهات من الزمن، يصدق بالتأكيد أيضا على مؤسسات أخرى غيرها كشركات النقل الجوي مثلا، إذ نلاحظ أن شركة طيران كبرى كالخطوط الجوية السويسرية قد نقلت نظام محاسبتها ومصالح حجوزاتها إلى الهند.
نفس الشيء بالنسبة لشركة سيمنس الألمانية التي نقلت إلى الفليبين نظامها للمحافظة المعلوماتية(12)، فيما يعمل المجلس الوطني الفرنسي للأعيان على طبع نصوصه وترقينها بدولة ساحل العاج وهكذا.
وقصد القول هو أن السلطة (في ظل العولمة) لم تعد تكمن في امتلاك الأدوات المادية من أرض وموارد طبيعية وآلات وغيرها، بقدر ما أصبحت تتمحور تدريجيا حول التحكم في الأدوات اللامادية من بحث علمي وتحكم في التكنولوجيا العالية، في الإعلام والاتصال والمال لدرجة بدأ الحديث يتركز على مجتمع الإعلام والاتصال والمعرفة أكثر ما يتركز على المجتمع الإنتاجي المادي المقدم في كونه تقليديا.
ولعل إحدى أبرز العلامات على الميل المضطرد باتجاه الاقتصاد اللامادي بروز شركات كبرى للإعلام والاتصال وتوسع نشاطها على المستوى الكوني. إذ من بين 20 مؤسسة صناعية كبرى نجد ستة منها متخصصة في الإلكترونيات الدقيقة وفي المعلوماتية في حين لم يكن لمثل هذه الشركات أثر يذكر قبل عشرين سنة مضت.
يقول ريكاردو بتريلا في هذا السياق، إن “عولمة رأس المال قد سرعت من وتيرة الاستثمارات والقطاع الإنتاجي موازاة وتداخل التيارات التجارية عبر الجهات العالمية الكبرى. وقد مكن هذا التداخل بدوره، عبر التنمية الخارجية، من تحفيز عولمة المؤسسات والاستراتيجيات والأسواق: استثمارات مباشرة بالخارج، نقل الصناعات، تحالفات، امتصاصات …الخ. وهكذا فكل مجموعة صناعية ومالية مهمة تتبع استراتيجية في كل جهات العالم وخصوصا بأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وشرق وكذا جنوب شرق آسيا”(13).
ف “90 بالمائة من ال 37000 شركة متعددة الجنسيات وال 206000 فرع خارجي تابع لها هي ملك هذا العالم الأول”، والمائة القوية منها تمارس نفوذا ضخما داخل دولها: قدرات استثمارية، هيمنة تكنولوجية وامتلاك البراءات في القطاعات العالية الدقة…الخ.
من الطبيعي إذن أن نقاسم ريكاردو بتريلا الرأي بأن الغزاة الجدد (وهم صانعو العولمة دون منازع) هم أشخاص معنويون (أو عاديون حتى) ذوو قدرات مالية هائلة يتصرفون بفضلها في تخصيص وتوزيع الموارد العالمية، يحددون القيم والرهانات والأولويات و” يفبركوا” على مزاجهم قواعد اللعبة على المستوى العالمي: “أسياد العالم هم اليوم قلة تتمثل في بضعة مئات أشخاص، رؤساء وأعضاء لجن تسيير لمؤسسات قليلة العدد تعمل في ميادين الإلكترونيات والمعلوماتية والاتصالات والبرامج والسمعي-البصري والصحافة والنشر والتوزيع. ربعهم متمركز في أوروبا، ومثيل له في آسيا والباقي في أمريكا…الخ”.
وعلى اعتبار التحالفات الاستراتيجية التي يبرمونها فيما بينهم والاندغامات التي يخضعون لها فإن عشرة شبكات عالمية متداخلة وضخمة فقط هي التي تسير الاقتصاد وترسم معالمه المستقبلية على خلفية أنه قليلة اليوم هي الشركات التي تستطيع لوحدها فرض منطقها وسلطانها على السوق العالمي، بالتالي فمفهوم القطب ذاته لم يعد ذو قوة تفسيرية ذات بال إذ انصرف عنه لصالح مصطلح شبكات التحالفات المتعددة الأقطاب(14).
لم يعد السوق العالمي إذن في ظل ظاهرة العولمة مجرد فضاء مادي تتم من خلاله العمليات التجارية والمالية كما عهدناه في مرحلتي التدويل وتعدد الجنسية، بل أضحى ملتقى إعلاميا كوكبيا يتم في إطاره تبادل المعطيات والتحكيمات المالية على حساب الاقتصاد الواقعي أو المادي(15)، وخرجت من صلبه مافيات نشيطة ذات خبرة واسعة في مجال المضاربات المالية والعقارية واندحرت داخله مفاهيم المنافسة الحرة وقيم الشفافية لصالح الممارسات الاحتكارية وثقافة الارتشاء والتهرب من الضرائب وتبييض مال المخدرات…الخ.
هذه العولمة، التي صنعتها وكرستها وسايرتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال (من بين عوامل أخرى)، لم تسحب السجاد من تحت أقدام مفاهيم القومية (بمعنى القطرية) والسوق الوطني والحدود الجغرافية فحسب، بل سحبته أيضا من تحت أقدام الدولة (أو الدولة/ الأمة) بتشريعاتها ومعاييرها ونظم تسييرها، فتحولت الدولة إلى مجرد متفرج على قرارات تتخذ داخلها من طرف شبكات المال والأعمال العالمية النشاط، فأفرغت بذلك من دورها كفاعل رئيسي في عملية تحديد السياسة الاقتصادية وحتى من سلطتها الجبائية على الموارد “العابرة” لكيانها الجغرافي.
وقد زادت من تعميق أزمة الدولة سياسات الخوصصة واللاتقنين ومناهضة التشريعات التي من شأنها أن تحول دون التنقل الحر للموارد ودون “احترام” المبادئ “المقدسة” لليبرالية الجديدة.
هذه العولمة خلقت إذن “مجتمع شبكات عالمي”(16) لا ” قرية كوكبية”(17) كما تنبأ بذلك ماك لوهان، إذ لا يعدو الأمر كونه “نقلا للسلطات القطرية لا لصالح مؤسسات فوق- قطرية ولكن لقوى خاصة ذات مصالح عالمية آنية ستدخل لا محالة في صراع مع ضرورات تنمية مستديمة، موزعة توزيعا عادلا، مقررة ديموقراطيا ومقبولة إيكولوجيا…”.
فعوض أن تخلق قرية كوكبية ” تعمل الشركات العملاقة على نسج شبكات للإنتاج والاستهلاك والترويج المالي لا يستفيد منها إلا أقلية من سكان المعمور في حين تهمش الأغلبية وتقصى وقد تتضرر من هذه الشبكات…”(18).
المقدمــة:
باتت التكنولوجيا الإعلامية تشكل دوراً كبيراً ومؤثراً في العـملية الاعلاميـــة فــي العصـــر الحديث،من دون التكنولوجيا المستخدمة في وسائل الاعلام لايمكن لأية مؤسسة اعلامية النجاح والوصول الى الجمهور المراد الوصول اليه ومن ثم التأثير فيه عن طريق الرسالة الاعلامية المنوي بثها الى هذا الجمهور. فالراديو والتلفزيون والسينما والكتاب والإنترنت كلها وسائل اعلامية لاتستغني عن التكنولوجيا لأنها ولدت وترعرعت واستمرت بفضل التكنولوجيا التي اوصلتها الى فئات كبيرة متنوعة من الناس. وقد اصبحت التكنولوجيا توأم الإعلام الناجح والمسيطر في الوقت الراهن , ذلك أن من يملك مقومات الإعلام الناجح والمؤثر يمتلك الهيمنة الأعلامية , فأصبح الإعلام لا تقوم له قائمة من دون التكنولوجيا الحديثة.
وقد أخذ السباق على أمتلاك التكنولوجيا الإعلامية بين دول العالم أبعاداً متسارعة بتسارع الإختراعات والتطورات التقنية في هذا المجال , والتي تسير بخطى متسارعة يوم بعد آخر وسنة بعد اخرى.
فباتت تظهر بين الحين والآخر منتجات تقنية جديدة وصناعات حديثة ومتطورة تزيد من قوة من يمتلكها وتجعله في طليعة المسيطرين على حركة الأعلام الدولي ومد نفوذه على الجمهور العالمي بكل قوة.
فأصبح الوصول الى الحلقات المتقدمة في التكنولوجيا تعني الوصول الى المراحل المتقدمة في السيطرة على حركة الأعلام العالمي , ومن ثم السيطرة على توجهات الجمهور وتوجيهه بالشكل الدي تريد.
شمال مسيطر وجنوب تابع
تعاني الدول المتخلفة أو ما تعرف بـ ( دول الجنوب ) تبعية تكنولوجية في جميع النواحي ومن ضمنها التكنولوجيا الأعلامية للدول الصناعية أو ما تعرف بـ ( دول الشمال ).
ومن ثم فأنها محكومة تكنولوجيا وأعلاميا لها وهي التي تسيطر على حركة الإعلام الدولي وتسيره بالوجهة التي تريد.
فالتطور في تكنولوجيا وسائل الأعلام متلازم مع زيادة سيطرة ونفوذ هذه الدول على توجهات الاعلام الدولي وتسيره بالشكل الذي يخدم مصالحها وتوجهاتها العالمية. وفضلاً عن رداءة البرامج والانتاج الاعلامي في دول الجنوب فأنها تستعمل وسائل تكنولوجية أقل تطوراً مما هو مستعمل في دول الشمال والتي قامت بتصديره اليها هذه الدول. ذلك انها غير قادرة على تصنيع هذه التقنيات.
فترسخ بذلك اعلاماً متخلفا على مختلف الصعد سواء فنيا من ناحية البرامج ونوعها أو تكنولوجيا عن طريق الإستعانة بالصناعات الأجنبية لعجز الصناعة الوطنية عن مواكبة التطورات التقنية والتمكن من تصنيعها. فنجد أغلب جمهور هذه الدول لا يتجه لوسائل الإعلام الوطنية وانما هو يتجه لوسائل الأعلام التابعة لدول الشمال لعجز الإعلام في دوله عن تقديم المادة والموضوع والكيفية الذي تقدم به عن مجاراة هذا الجمهور وميوله ورغباته. وقد أصبح التحكم بإمتلاك أسرار التكنولوجيا مسألة سلطة فمن يتحكم بالتكنولوجيا فأنه يتحكم بوسائل السيطرة والنفوذ والسلطة على المجتمع الدولي، ولزيادة السيطرة على جمهور دول الجنوب المتخلف، عملت وسائل الإعلام في دول الشمال المتقدم على استعمال اللغات المحلية في دول الجنوب في بث برامجها، أثناء توجهها لجمهور هذه الدول لغرض سرعة الوصول اليه ومن ثم زيادة التأثير فيه الأمر الذي زاد من انصراف هذا الجمهور عن وسائل الاعلام الوطنية فيه وتأثره بوسائل أعلام الدول المتقدمة وذلك بفعل اللغة المفهومة من قبله ( وهي لغته المحلية ) أثناء تسلمه للرسالة الإعلامية الموجهة إليه.
فأصبح لا يجد صعوبة في تسلم هذه الرسالة وأصبحت الرسالة الاعلامية الموجهة اليه لاتجد صعوبة في الوصول اليه وتحقيق اهدافها في التأثير فيه وجعله تابعا ثقافيا وإعلاميا وفكريا لهذه الدول بينما وقفت وسائل الاعلام الوطنية الهزيلة نوعيا وفنيا وتكنولوجيا أمام هذا المد الكاسح من المواد والموضوعات الأعلامية الهائلة الموجهة لهذا الجمهور وعجزها عن مجاراة ما تقدمه مثيلاتها في الدول المتقدمة.
فجعلت منها مجرد ادوات متخلفة وبائسة لا تقوى على الاستمرارية والبقاء فما بالك بالمنافسة والإستحواذ على الجمهور.
وتشهد الساحة الإعلامية الدولية إختلالاً واسعاً وهائلا بين دول الشمال ودول الجنوب.
حيث تشير الإحصائيات الى ان 97% من الجهزة المرئية موجود في دول الشمال،فضلاً عن 87% من الأجهزة المسموعة من مجموع ما تملكه دول العالم.
وان دول الشمال هي المصدر الأساس لأكثر من 90% من مصادر الأخبار.
وتنطبق هذه الحقائق على شبكة المعلومات العالمية ( الأنترنت ) فقد اصبحت لغات هذه الدول لاسيما اللغة الإنكليزية هي المهيمن الكامل على اللغات المستخدمة في مجال الإنترنت.
ذلك أن معطيات 88% من الإنترنت تبث باللغة الإنكليزية مقابل 9% بالألمانية و 2% بالفرنسية فيما يوزع 1% عللى بقية لغات العالم. ويتركز 60% من مجموع شبكة الإنترنت في العالم في الولايات المتحدة و 26% في دول أوروبا فيما تضم بقية دول العالم 14% فقط.
الأمر الذي يوضح لنا بجلاء مدى الهيمنة الكاملة والواسعة جداً لوسائل إعلام دول الشمال ومدى الأختلال الكبير الذي تعانيه اذا ما قورنت بوسائل الإعلام في دول الجنوب.
التكنولوجيا الإعلامية في زمن العولمة
إتخذت العولمة التي يعيشها العالم في الوقت الراهن من التكنولوجيا أهم الأدوات المنفذة لها ومن ضمن التكنولوجيا بشكل عام تكنولوجيا الإعلام وهي تعنينا في هذه الدراسة فبالرغم من كل ما مر بالدول المتخلفة من مراحل لم تتعض هذه الدول وأنما بقي الكثير منها على حاله من التخلف والتبعية لدول الشمال المتقدم، فبقيت هذه الدول مهمشة تعيش على ماتنتجه الدول المتقدمة ( دول الشمال ) من صناعات وبقيت حركة التكنولوجيا الإعلامية حالها حال بقية فروع التكنولوجيا تسير بإتجاه واحد من الشمال الى الجنوب.
لا بل ان الأمر زاد رسوخا وتوسعا في زمن العولمة التي اكتسحت هذه الدول ووصل الأمر في كثير من الأحيان الى ان احدى الشركات الإعلامية يزيد رأس مالها عن الناتج القومي لكثير من الدول المتخلفة التي تعيش في عالم الجنوب.
وغزت الشركات الصناعية أسواق دول الجنوب بالمنتجات الإعلامية المصنعة في دول الشمال
وأصبحت هذه الأسواق تابعة لها ولم تنافسها فيه إلا بعض الشركات في بعض الدول والتي استطاعت بعد مجهود كبير من التخلص من آثار بعض مظاهر التبعية وامتلاك الكثير من ادوات التصنيع والتقنيات المختلفة.
فأصبحت السوق العالمية سوقا تنافسية بشكل ضاري لاتصمد فيه إلا الصناعات الناجحة والمتفوقة.
وأصبحت وسائل الإعلام بتكنولوجياتها المتفوقة إحد أهم الوسائل لترويج مفهوم العولمة ونشره وترسيخه بين شعوب العالم فأصبحت الصناعات الأعلامية أدوات مهمة وستراتيجية في تعميق مفهوم العولمة بين فئات الرأي العام العالمي.
وباتت التكنولوجيا بأنواعها المختلفة المستخدمة في العمل الإعلامي أداة مهمة من أدوات الغزو الثقافي لشعوب دول الجنوب المتخلفة ذلك ان ثقافات هذه الدول أصبحت عرضة للأكتساح الثقافي والهيمنة الثقافية من قبل دول الشمال وذلك بفضل المد الهائل من البرامج والمواد الأعلامية المسوقة لدول الجنوب والتي في غالبيتها تؤكد سيادة الحضارة والثقافة الغربية وتقلل من أهمية ثقافات دول الجنوب في عالم لاتصمد فيه ألا الدول القوية.
المصدر :
يجدر التمييز بين العولمة Globalization والعالمية Universality, على صعيد المصطلح ومضمونه. فالعولمة تفترض إخضاع العالم لنمط محدّد من العلاقات الدولية والعالمية وفق تصوّر منضبط. بينما تنطوي العالمية على التفاعل بين الدول والشعوب في سياق تكاملي وتفاعلي حرّ. العولمة تقوم على الفرض والإملاء, أما العالمية فإنها تعاون على كافة المستويات وفي مختلف المجالات التي تهم العالم.
لو لم تحصل الثورة المعلوماتية وما يرافقها من ثورة الإتصالات, هل كانت العولمة لتقوم وتتوسّع في مدة زمنية قصيرة نسبياً؟
ولو لم تنتهِ الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفياتي, وتتقدّم الولايات المتحدة نحو قيادة النظام العالمي بعد متغيرات دولية صاخبة, هل كان العالم مشغولاً إلى هذا الحد بظاهرة العولمة؟
ثمّة اضطرابات في التعامل مع مصطلح العولمة, وفي تحديد مضامينه. هناك من يركّز على العامل التقاني (التكنولوجي) , أو عولمة الإنتاج الاقتصادي (1). أو ان العولمة هي حرية حركة رؤوس الأموال والسلع عبر الحدود بدون عقبات تقليدية. أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي .U.N.D.P قإنه يجد العولمة في أكثر من تدفّق المال والسلع, مع انكماش المكان, وانكماش الزمان, واختفاء الحدود (2), بحيث أنّ فرص العولمة أو فوائدها لم يجرِ تقاسمها تقاسماً عادلاً بين الأفراد والشعوب.
قد تنطوي العولمة هذه على محفّز للدول والشعوب كي تنهض من تخلفها بإصرار إنساني على بلوغ التقدم, ومنافسة القوى الدولية المتقدمة. وقد تبرز إيجابيات للعولمة من خلال الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية والاقليمية, إذا سعت هذه المنظمات لاعتماد قواعد دولية واحدة ومطبّقة من أجل حماية البيئة الطبيعية من التلوّث, وصون التراث الثقافي العالمي المشترك, وتطوير منظمة الصحة العالمية لمكافحة الأمراض والأوبئة, والقضاء على الأميّة, ومواجهة المجاعات المتنقلة… بيد أن العولمة تقوم أساساً على الفرض والإملاء والإخضاع على قاعدة القوة, وكيف إذا كانت هذه القوة متمثلة بقوى السوق التي تؤثّر في أداء الدول وكذلك المنظمات الدولية والإقليمية؟
الإطار العام للتنظيم الدولي
منذ القرن التاسع عشر والمجهودات الدولية مستمرة لتنظيم العلاقات الدولية, توخياً لتحقيق التعاون الدولي والانفراج الأمني والسياسي. فمن مؤتمر فيينا سنة 1815 الذي أرسى قواعد العلاقات الأوروبية في إطار توازن القوى بعد حروب نابليون, إلى مؤتمر باريس سنة 1856, ثم مؤتمري برلين 1868 و1872 لرعاية المصالح الأوروبية على المستويين القاري والعالمي.
ثم تطوّرت فكرة التعاون الدولي باتجاه فكرة التنظيم الدولي مع قيام عدّة اتحادات دولية لتنظيم التعاون في مرافق محدّدة, مثل اتحاد التلغراف الدولي في العام 6581, واتحاد البريد العالمي في العام 1874, والمكتب الدولي للموازين والمقاييس في العام 1883… على أنّ مجمل هذه المؤتمرات والاتحادات تمّّ بمبادرات أوروبية, في وقت كان فيه النظام الدولي ¬ بالمعنى الواقعي ¬ يكاد يُختصر بالنظام القاري الأوروبي طالما أنّ القوى الدولية الأوروبية هي التي تتحكّم بموازين الحرب والسلم.
في مطلع القرن العشرين دعا قيصر روسيا نيقولا الثاني إلى عقد مؤتمرات دولية, ولقاءات دبلوماسية للنظر في مشكلات العالم, فانعقدت مؤتمرات لاهاي في عامي 1899 و1907, بمشاركة دول أوروبية وغير أوروبية, لدراسة سُبل تجنّب وقوع الحرب, وطرق تسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية, بما في ذلك تشكيل لجان التحقيق الدولية وإنشاء محكمة التحكيم الدولية…
بيد أنّ التنظيم الدولي بمعناه الشامل, والأكثر تحديداً, كان بعد الحرب العالمية الأولى مع إنشاء عصبة الأمم في العام 1919, لتكون بمثابة أول منظمة دولية مفتوحة العضوية لكافة الدول, ومنفتحة على دراسة مشاكل العالم في تفاصيلها كافة.
اكتسبت عصبة الأمم صفة العالمية من خلال العضوية المفتوحة, مع الإشارة إلى أنّ الدول المؤسّسة هي تلك التي انتصرت في الحرب الأولى ومن تحالف معها من الدول الأخرى (3). وقد وصل عدد الدول المنضوية إلى 58 دولة في العام 1937 ثم هبط إلى عشر دول فقط في العام 1943 تحت وطأة الحرب العالمية الثانية, حيث لم تتمكن هذه المنظمة الدولية من تحقيق أهدافها في: تطبيق مبدأ الأمن الجماعي لصون السلم والأمن الدوليين, وتسوية النزاعات بالطرق السلمية, ونزع السلاح من خلال مطالبة الدول الأعضاء بتخفيض التسلّح. وعندما طغت الدول الأوروبية على أعمالها, وترددت في اتخاذ مواقف حازمة تجاه عدد من القضايا الدولية الساخنة, سقطت عصبة الأمم مع اتساع دائرة الحرب العالمية الثانية, لتفتح الطريق أمام منظمة دولية جديدة هي الأمم المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أنّ منظمة الأمم المتحدة هي المنظمة الأم لكافة المنظمات الدولية, من حيث سمو ميثاقها الأممي في القانون الدولي العام, ومن حيث عضويتها المفتوحة لكافة الدول المستقلة, ومن حيث اضطلاعها بثلاثة أهداف كبرى تهم الأسرة الدولية مجتمعة, إنها:
ارتفع عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من 51 دولة مؤسسة شاركت في مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1945, إلى 189 دولة في نهاية القرن العشرين. وهذا ما يعكس الاتساع الجغرافي لنطاق العضوية بعد ارتفاع عدد الدول المستقلة حتى صارت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة البرلمان العالمي ¬ لا نقول البرلمان المعولم ¬ الذي تتساوى فيه الدول من ناحية العضوية.
أشار ميثاق الأمم المتحدة في المادة 57 إلى إمكانية إنشاء وكالات متخصصة بمقتضى اتفاق بين الدول. إنها منظمات دولية متخصصة تعمل تحت إشراف المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يُعتبر فرعاً رئيسياً من فروع الأمم المتحدة. وهي تحقق التعاون الدولي في مجالات اقتصادية وثقافية واجتماعية فنية وإنسانية.
نشير إلى أن هذه المنظمات الدولية المتخصة كانت بدأت بالظهور منذ أواسط القرن التاسع عشر, مثل: إتحاد التلغراف الدولي (1856), واتحاد البريد العالمي (1874), والاتحاد الدولي للتعريفات الجمركية (1890)…
ثم نشأت منظمات جديدة في القرن العشرين قبل تاريخ قيام الأمم المتحدة وبعده. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المعهد الدولي للزراعة (190), والمكتب الدولي للصحة العامة (1907), ومنظمة العمل الدولية (1919), ومنظمة الصحة لعالمية
(1947), ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (1966)…
بعض المنظمات الدولية المتخصصة تتبع في أعمالها الجمعية العامة للأمم المتحدة, وبعضها الآخر يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي (كما يشير الرسمان البيانيان) (5). وهي تتمتع بالصفة الدولية لأن عضويتها مفتوحة أمام كافة الدول, وتتخطى في نشاطاتها الأقاليم الجغرافية المحدّدة.
إلى جانب المنظمات الدولية المتخصصة, برزت المنظمات الدولية غير الحكومية, أو المنظمات الدولية ذات الطابع الأهلي, أو المنظمات الدولية التي تعمل في إطار المجتمع المدني العالمي الذي يتجاوز حدود الدول ليطاول جغرافية العالم. إنها منظمات لا تنشأ بموجب اتفاق بين الحكومات, وإنما تنشأ باتفاق بين جماعات وأفراد وهيئات من دول عدّة, بهدف زيادة التعاون الدولي والدفاع عن قيم ومباديء إنسانية. نذكر على سبيل المثال: الصليب الأحمر الدولي, الاتحاد البرلماني الدولي, الغرفة الدولية للتجارة, الاتحاد الدولي لنقابات العمال… إنها منظمات لا ترتبط بجنسية واحدة, أو إقليم واحد, لذلك تكتسب صفة العالمية (6).
على ذلك, لم تعد فكرة التنظيم الدولي مجسّدة بمنظمة الأمم المتحدة وحدها على رغم مركزيتها وصدارتها في هذا التنظيم. وإنما توسّعت الفكرة وصارت تشمل المنظمات الدولية المتخصصة والمنظمات الدولية غير الحكومية, هذا بالإضافة إلى المنظمات الاقليمية التي تتكامل في أعمالها على المستوى العالمي. 1- ¬ حفظ السلم والأمن الدوليين. 2- ¬ تحقيق التعاون الدولي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة. 3- ¬ الدفاع عن حقوق الانسان وحقوق الشعوب بلا تمييز بين البشر (4).
صعود الإقليمية
تحدّث ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الثامن عن المنظمات الاقليمية ودورها في مساعدة الأمم المتحدة على تحقيق أهدافها (7). وسمح بقيام التنظيم الاقليمي شرط ألاّ يتعارض في أهدافه وأنشطته مع المنظمة الدولية الأم. وقد اضطلع هذا التنظيم في القرن العشرين بالمهمات الآتية:
مختلف الأصعدة.
من أبرز التنظيمات الإقليمية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية: منظمة الدول الأميركية, إتحاد دول البحر الكريبي, منظمة الوحدة الافريقية, الاتحاد الأوروبي, رابطة الدول المستقلة المكوّنة من روسيا و11 جمهورية مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي, منظمة المؤتمر الإسلامي, جامعة الدول العربية, مجموعة آسيان في جنوب شرق آسيا… وقد تطوّر دور هذه المنظمات بعد الحرب الباردة نتيجة عاملين أساسيين هما:
بتعبير آخر, ثمّة عودة إلى الإقليمية أو التكاملية في إطار جغرافي محدّد, بصرف النظر عن مدى قوة هذ التنظيم الاقليمي أو ذاك. وفي الوقت الذي تندفع فيه اتجاهات العولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين, وتفرض معادلاتها الجديد في الاقتصاد والتِقانة والسياسة, تقف الإقليمية لتدافع عن الخصوصية الوطنية والقومية في إطار المصالح الإقليمية لتدافع عن الخصوصية الوطنية والقومية في إطار المصالح والأهداف المحدّدة. هل هذا يعني أن الإقليمية تقف على طرف نقيض مع العولمة؟
ليس من الضروري أن تتصدّى الاقليمية دائماً للعولمة, فقد تلتقي مع العولمة كما حصل في اتفاقيات غات GATT التي فتحت الطريق أمام قيام منظمة التجارة العالمية W.T.O , من حيث أن الكتل الاقليمية راحت تتأقلم مع متطلبات السوق الحرة والخصخصة في ميدان الاقتصاد, وتمهّد لعولمة اقتصادية على رغم معارضة عدد كبير من الدول النامية لاتجاهات العولمة (8) . بيد أن هذا التأقلم في الاقتصاد لم يتحقق في السياسة دائماً وبصورة متوازية.
ثمّة تأرجح بين الخصوصية والعولمة, ينسحب على التنظيم الاقليمي الدولي. فالنظام العالمي يمرّ في مرحلة انتقالية حيث يشهد تجاذبات متعاكسة أو متقابلة. تجاذب باتجاه فريد من العولمة, أو تجاذب نحو التمسك بالخصوصية الاقليمية. وما بين هذين الحدّين تختلط المواقف السياسية للدول, وتنعكس تالياً على مدى أنشطة المنظمات الدولية والاقليمية.
هناك أحياناً تراجع لسيادة الدولة تحت ضغط المتغيرات العالمية, وبروز لخصوصيات إقليمية انفصالية داخل الدولة الواحدة, كما حصل في أندونيسيا (تيمور الشرقية), أو صربيا (ألبان كوسوفو), أو روسيا (الشيشان)…
فكيف ستواجه هذه المجموعات الانفصالية متطلبات العولمة وتحدياتها؟
عل صعيد آخر, تجتاح الشركات متعددة الجنسية, أو الشركات العابرة لللحدود, خصوصية الرأسمال الوطني, وتالياً خصوصية السيادة الوطنية. والاتجاه العالمي الصاعد لانخراط الدول في منظمة التجارة العالمية سوف يحاصر الدولة والتنظيم الاقليمي معاً من خلال فرض معايير جديدة في التجارة الحرة والأسواق الحرة. بيد أن الاقليمية في المقابل تحاول الدفاع عن مصالح الدول المنضوية فيها (9).
هل يمكن للتنظيم الدولي أن يتعاون مع التنظيم الاقليمي في ظل العولمة؟
نعم, يمكن أن يتحقق هذا التعاون إذا ما توفّر عنصر المتابعة. على سبيل المثال, هناك قرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1998 (10), يتعلق بالتعاون بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في جميع الميادين, وزيادة الاتصالات بينهما وتحسين آلية التشاور مع البرامج والمنظمات والوكالات النظيرة في ما يتعلق بالمشاريع بغية تيسير تنفيذها. ولا يقتصر التعاون المذكور على المنظمة الدولية والمنظمة الاقليمية, وإنما يتجاوزها إلى الوكالات التابعة لهما.
هناك أمثلة عدّة عن التعاون بين التنظيم الدولي والتنظيم الاقليمي في المجال الأمني, وتحديداً في مهمة حفظ السلام. ثمّة تعاون حاصل بين الأمم المتحدة وكل من رابطة الدول المستقلة في آسيا الوسطى, والاتحاد الأوروبي في البلقان, ومنظمة الوحدة الافريقية في منطقة البحيرات وفي سيراليون, ومنظمة الدول الأميركية في هايتي… ناهيك عن التعاون على صعيد معالجة التصحّر والمجاعات والأمراض والأميّة….
بيد أنّ السؤال الملحّ هو: هل تقوى منظمة الأمم المتحدة على مواجهة ضغوط العولمة مع الاحتفاظ بشخصيتها القانونية وإراداتها السياسية بعيداً من الأضواء؟ 1-¬ المساهمة بتسوية النزاعات داخل الدولة, أو الإقليم, بالطرق السلمية وذلك قبل أن تُعرض هذه النزاعات على مجلس الأمن الدولي. 2-¬ لا يستطيع التنظيم الإقليمي أن يتدخّل بالقوة لفرض حل معيّن دون إذن مسبق من مجلس الأمن. 2- ¬ مع ثورة المعلوماتية, وازدياد التنافس الاقتصادي, راحت الدول تتكتّل إقليمياً بغية مواجهة التحديات الجديدة حفاظاً على معدّلات التنمية, وتوخياً لمزيد من النمو الاقتصادي والاجتماعي.
المنظمة الدولية وضغوط العولمة
لم تخفِ الإدارة الأميركية سياستها بعد الحرب الباردة والهادفة إلى التأثير في قرارات الأمم المتحدة. حسبنا الإشارة إلى البرنامج الرئيسي الذي طرحه بيل كلينتون في عهده الأول, وتابعه في عهده الثاني, القائم على الربط بين السياسة الخارجية الأميركية وتحرّك الأمم المتحدة لمواجهة الأزمات والنزاعات الدولية. لقد اتسمت إدارة الأزمات الدولية في مرحلة صعود القوة الأميركية إلى مستوى قيادة النظام العالمي باحتواء تحرّك الأمم المتحدة إلى حدٍ بعيد. يمكن ملاحظة الضغوط الأميركية على مجلس الأمن الدولي في قضايا حسّاسة على صعيد السلم والأمن الدوليين مثل: حرب الخليج الثانية في شباط 1991 والموقف من حصار العراق. أزمة الشرق الأوسط لجهة عدم تنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بانسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة. حصار ليبيا بعد نشوء أزمة لوكربي. التدخّل الأميركي في هايتي تحت شعار حماية النظام الديمقراطي… ويمكن ملاحظة ضغط فرنسي آخر على الأمم المتحدة في قضية رواندا (منطقة البحيرات) لتبرير التدخل الفرنسي هناك وسط أجواء محمومة من التنافس الفرنسي ¬ الأميركي في القارة الأفريقية.
هذا على الصعيد السياسي. وعلى الصعيد القانوني, فإنّ السؤال المطروح في عصر العولمة هو: ما هو موقف القانون الدولي العام عند حصول التعارض بين الشخصية القانونية للدولة والشخصية القانونية للمنظمة الدولية؟ هذا ما ينطبق على العلاقة بين الولايات المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة على سبيل المثال.
إذا تعارضت إرادة المنظمة الدولية مع سياسة هذه الدولة أو تلك, فإنّ المنظمة الدولية معنيّة بتنفيد مضمون ميثاقها التأسيسي بما يحمله من مبادئ وأهداف. وأهم مبدأ يجب أن يسود في عمل الأمم المتحدة هو مبدأ المساواة في السيادة بين الدول (11). ثمّة تجاوز لهذا المبدأ في الأمثلة المشار اليها, ناهيك عن استمرار نظام التصويت في مجلس الأمن القائم على استخدام حق النقض (الفيتو) من جانب الدول الخمس الكبرى منذ قيام الأمم المتحدة, ولم يتعدّل هذا النظام بعد على رغم المطالبات الدولية والعالمية باعتماد نظام آخر أكثر مرونة وأكثر تمثيلاً للإرادة الدولية بعيداً من الاتسئثار بالسلطة العالمية.
في ظلّ العولمة, قد يتعزّز المجتمع المدني العالمي, أو تتعزّز المنظمات الدولية غير الحكومية, خاصة بفعل الثورة المعلوماتية التي سهّلت الاتصالات بين الناس. بيد أن الوجه الآخر للعولمة أو الوجه المظلم يتمثّل في نشوء مجتمع عالمي غير مدني, يتجاوز بإمكاناته المادية أحياناً إمكانات الدول. ويستخدم التِقانة الحديثة من أجل تهريب الأموال والمخدرات, وانتشار الجريمة المنظمة والإرهاب على مستوى الأفراد والجماعات والدول (12). ثمّة قدرات مالية وتِقانية لهذا المجتمع غير المدني, دون أن تتمكن المنظمات الاقليمية والدولية حتى الآن من مواجهته أو محاصرته والحدّ من مخاطره.
إلى ذلك, لم تتمكن تلك المنظمات من التخفيف من فوضوية النظام العالمي. إنه نظام يتّسم بالفوضى من حيث تهديد هيكليات الدول, واضطراب الأسواق المالية بسرعة, عدا عن انتشار العنف الداخلي والاقليمي في غير منطقة, مع وضع علامة استفهام كبيرة على مستقبل السلاح النووي مع انخراط جماعات غير منضبطة في المجتمع المدني العالمي, وذات نفوذ وقدرة مالية على الإتجار بهذا السلاح الخطير المهدّد للسلام العالمي. وكما ان دولاً تفككت في العقد الأخير من القرن العشرين فإنّ دولاً أخرى مرشّحة للتفكك, بعضها في الشمال وبعضها الآخر في الجنوب (13). ولعل أخطر ما يصيب الدولة والمجتمع الدولي هو ظاهرة تفكك الدولة وسقوط هيكلياتها في ظل الفوضى, مع ما يرافقها من مشكلات نزوح وتهجير وأعمال قتل وتدمير.
عملت الأمم المتحدة علي إيجاد حشد عالمي, من الحكومات والمنظمات غير الحكومية, بغية معالجة قضايا أساسية تهمّ المجتمع الدولي. في مقدمتها قضايا البيئة والتنمية والفقر وحقوق الإنسان والمرأة. وقد أشرفت على تنظيم وإدارة مؤتمرات عالمية على مستوى القمة, حضرها رؤساء الدول والحكومات, وممثلو المنظمات المدنية غير الحكومية. هكذا من مؤتمر ريو دي جانيرو (1992) حول البيئة والتنمية, إلى مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان (1993), إلى مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية (1994), إلى مؤتمر كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية (1995)… فضلاً عن المؤتمرات الاقليمية التي نظمتها المنظمات الاقليمية لمعالجة القضايا نفسها, واتخاذ إجراءات دولية ملائمة (14) . وقد عكست هذه المؤتمرات توجّهاً ديبلوماسياً دولياً يمكن تسميته بديبلوماسية المؤتمرات العالمية. حيث تتكامل مجهودات الحكومات مع مشاركة المجتمع المدني العالمي من خارج أطر الدبلوماسية التقليدية, أو الكلاسيكية, التي اتصفت بالسريّة في أروقة المؤسسات الحكومية أو الرسمية. أي أن الرأي العام بات فاعلاً ومشاركاً في هذه الحشود العالمية, وضاغطاً على الحكومات حتى تندفع نحو اتخاذ سياسات عالمية رشيدة. ولا نقول سياسات عولمة بعدما اتضحت مواقف بعض الدول الصناعية الكبرى المتعلقة بالاستئثار بالموارد والثروات. فموقف الولايات المتحدة المعارض لمعاهدة التنوّع البيولوجي في مؤتمر ريو المذكور يدلّل علي التمسّك بالمصالح الاقتصادية والمالية, حتى ولو كانت على حساب سلامة البشرية وحماية البيئة الطبيعية من التلوّث بفعل انتشار الغازات السامة المنبعثة من المصانع في الولايات المتحدة وكندا… كما ان الدول الصناعية الكبرى لم تلتزم بتوصيات المؤتمرات العالمية الخاصة بالتنمية ومجابهة الفقر, عندما تراجعت مساهماتها المالية في تنمية الدول الفقيرة والرازحة تحت عبء المديونية (15).
إنّ هذا التوجّه العالمي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة في العقد الأخير من القرن العشرين اصطدم بضغط العولمة الذي تقوم به الدول الصناعية الكبرى. عولمة الأسواق والشركات الكبرى, وعولمة التِقانة الحديثة وما يرتبط بها من اتصالات ومواصلات… لذلك كان متوقعاً أن يبرز تيار عالمي معارض للعولمة, لا يقتصر على الدول النامية ¬ أو دول الجنوب ¬ وإنما يشمل كذلك مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة من الدول الصناعية. هذا ما تكرّر بصورة علنية, وعبر الفضائيات المعولمة, أثناء انعقاد مؤتمرات منظمة التجارة العالمية. وهذا ما يشير بشكل أو بآخر إلى الفروقات الجليّة بين العولمة والعالمية. بين توجّه دولي يملي على المجتمع الدولي ¬ بما فيه المنظمات الدولية والاقليمية ¬ سياسات معيّنة, وتوجّه عالمي يسعى للمشاركة في معالجة المشكلات الدولية ضمن إطار التعاون والتكافؤ الدوليين.
في الذكرى الخمسين لتأسيس الأمم المتحدة (1995), أُطلقت موجة عالمية من التفكير بمستقبل المنظمة الدولية. فالجامعات شهدت مناقشات حول الذكرى, والحكومات أقامت احتفالات. ناهيك عن إصدار الطوابع البريدية التذكارية, والعملات التذكارية في هذه المناسبة (16). وظهرت دراسات حول تطوير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية بصورة عامة.
هذه موجة عالمية, وليست موجة عولمة, سلّطت الأضواء على التعاون الدولي, خاصة في مجالات حماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة ومعالجة ظواهر الفقر وأسبابه… بيد أنّ هذه الموجة العالمية سرعان ما اصطدمت بزحف العولمة وما تتركه من آثار سلبية على الأمن والتنمية وحقوق الإنسان والشعوب.
يقول أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان في تقريره السنوي إلى الجمعية العامة في العام 1997 (17) كلاماً محدداً عن العولمة والعصر الجديد الذي تعيشه الإنسانية, ونقتبس منه ما يأتي:
عصرنا هذا هو عصر إعادة ترتيب الأوضاع… ثمّة تعبيرات عن المأزق الانساني غاية في التفاوت تتعايش الآن في توتر قلق. فالعولمة تعمّ العالم أجمع في وقت يتعاظم فيه, مع ذلك, التجزؤ وتأكيد الفروق. ومناطق السلام تتسع في وقت تتضاعف فيه اندلاعات العنف الرهيب! وينشأ من الثروات ما لم يسبق له مثيل, ولكن يبقى هناك جيوب فقر ضخمة متوطّنة. وإرادة البشر وحقوقهم الأصلية تُحترم, ولكنها تُنتهك في الوقت نفسه. وبفضل العلم والتكنولوجيا تتحسّن حياة الإنسان بينما تهدّد نتائجها الفرعية شرايين الحياة على ظهر الكوكب.
يضيف أمين عام الأمم المتحدة في تقريره السنوي: ليس من المستحيل على قوى الإرادة السياسية ترجيح كفة الميزان في هذه المرحلة الانتقالية نحو سلام مضمون يمكن التنبؤ به بدرجة أكبر. إلاّ أن ما من بلد يستطيع بمفرده تحقيق هذه المنافع العامة, وما من بلد ببعيد أيضاً عن مخاطر العيش بدون هذه المنافع وعن تحمّل أعباء الحياة بدونها….
يطرح هذا التقرير جملة أسئلة, ويثير إشكاليات عدّة, بينها:
العولمة تنتشر, بينما تتأكد الفروق بين الشعوب والدول.
تتّسع مناطق السلام, في وقتٍ تتضاعف فيه ظواهر العنف الرهيب.
تتراكم الثروات عند قلة, أو عند أفراد وشركات, فيما تتوطّن جيوب الفقر.
كوكب الأرض مهدّد في البيئة الطبيعية على رغم تحسّن ظروف حياة الانسان فيه…
إذا كان الأمر كذلك, كيف يقتنع أصحاب الثروات المعولمة أن البشرية متكافلة ومتضامنة في فقرها أو غناها؟
وكيف يمكن ان تتخلى الدول الكبرى, صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن, عن جزء من سلطتها الفعلية لصالح الأسرة الدولية على قواعد التكافؤ في العلاقات الدولية؟
ثم, كيف يمكن تجنيب المنظمات الدولية والاقليمية مخاطر الآثار السلبية للعولمة؟ أو بتعبير آخر, كيف يمكن إعمال قواعد القانون الدولي بعيداً من إزدواجية المعايير وطغيان السياسة الدولية؟
قد يبدو ذلك حلماً طوباوياً, أو دعوة رومانسية جديدة كما لو كنا في جمهورية أفلاطون, أو في عصر النهضة الأوروبية الأولى. فالقوة هي التي كانت, وما تزال, تتحكّم بالعلاقات الدولية وبالنظام العالمي وما فيه من تفاصيل وتعقيدات وعوامل متشابكة.
هذا الصراع الظاهر والمستتر بين إرادة التعاون الدولي من جهة, وزحف العولمة من جهة أخرى, يفسّر جانباً مهماً من الاختلاف بين العولمة والعالمية, ويطرح على الانسانية تحديات جديدة بفعل ثورة المعلومات والاتصالات الجارية.
نحن والعولمة
مأزق مفهوم ومحنة هوية
عادة ما تقدم العولمة باعتبارها مصطلحاً قلقاً يرتبط ذكره بالتوجس والتحفظ بالنظر لتعدد حضوره في مختلف الخطابات السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة، دون أن يكون هناك سياق جامع مانع يتحكم في سيرورة هذا المفهوم، فيسمح بوضعه في إطار تعريفي قارٍّ كغيره من المفاهيم، ففي حين يبدو للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بمصطلح جديد يكاد تداوله الإعلامي يتجاوز البضع سنوات، فإن كل من هانز بيتر مارتين وهارولد شومان في كتابهما “فخ العولمة” يرسمان له جذوراً تاريخية عميقة تعود إلى أكثر من خمسة قرون، منذ اكتشاف أمريكا وغزوها وكونية عصر الأنوار.1
قلق هذا المفهوم وتداخله مع مفاهيم أخرى من قبيل العالمية،2 هو ما يجعل بعض الدراسات الحديثة ترفض حتى الاعتراف به، إذ تعتبره مجرد خرافة وموضة عصر.3 إننا بحسب تعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبري (regis debri) أمام نظام لا يزال قيد التشكل بأدوات ومحددات نظرية غير موعى بها وعياً تاماً، كما وقع بالنسبة لانتقال العالم من العصور الوسطى إلى عصر التنوير، أو من الموجة الفلاحية إلى الموجة الصناعية، أو من الموجة الصناعية إلى الموجة المعلوماتية، وهي ذروة الحداثة.4 ولعل هذا ما جعل روبرتسون (robertson)، أحد أبرز منظري العولمة في العالم، في تحقيبه الشهير لتاريخها يطلق على المرحلة الخامسة التي تتمثل الصورة المعاصرة التي نحن بصدد عيشها مرحلة عدم اليقين،5 التي تحيل بالضرورة على قلق المفهوم واستعصاء حصره اصطلاحياً أو وظيفياً، غير أن مسحاً سريعاً لمجموعة من التعاريف المقدمة من قبل مجموعة من المفكرين والأكاديميين قد تتيح لنا استخلاص بعض مؤشرات سيرورة المفهوم على الأقل:
يعرف سمير أمين العولمة بكونها الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدرجة أولى، ثم توسيع المبادلات بين الشمال والجنوب على اعتبار أنه يمثل سوقاً مهمة،6 فيما يذهب هوبرت فيدرين (Hubert vedrine) إلى أن العولمة ليست فكراً ولكنها وقائع تقنية فرضت نفسها على الساحة الكونية، وفي فرضها لنفسها أقلقت الجميع، وبخاصة الدول ومؤسسات القطاع الخاص، إنها ظاهرة لا تمس أي اقتصاد، وإنما بالحصر اقتصاد السوق والاستهلاك، واقتصاد تحويلات العملات والتدبير الاستثماري.7 أما صادق جلال العظم فيعرفها بكونها وصول نمط الإنتاج الرأسمالي، عند منتصف القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها.8 بينما يرى عزمي بشارة أنها طغيان قوانين التبادل العالمي المفروضة من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي.9
هذه التعاريف وإن كانت تتقاطع فيما بينها من حيث تركيزها على الجانب الاقتصادي والتقني الذي يبلغ أوجه في المد المعلوماتي، فهي لا توازي أهمية المفهوم وحضوره المتشعب في مختلف الخطابات المعاصرة؛ لأننا بهذا المعنى بصدد اعتبار العولمة مجرد ممارسات جديدة في التجارة والاقتصاد المتبادل تستند إلى قوة التدفقات المالية في سوق عالمية واحدة، واتساع رقعة المبادلات التكنولوجية، وبخاصة عبر وسائل الاتصال والإعلام،10 ما يجعل مقاربتنا للعولمة قاصرة عن الإحاطة بشموليتها واختزالاً لها في بعض مكوناتها، و إهمالا غير مبرر لتجلياتها المختلفة والمتعددة الأشكال والألوان، الشيء الذي يتطلب ضرورة الوقوف بدقة وشمولية، إن لم يكن على دلالة المفهوم وهو أمر لا زال مستعصياً كما أسلفنا، فعلى تجلياتها على مختلف مظاهر الحياة الإنسانية، وفي مقدمتها المعطى الثقافي والتربوي الذي يدخل بشكل مباشر في تشكيل الهوية والخصوصية المحلية التي تشير أغلب الدراسات إلى أنها قد تكون الضحية الأولى لموجة العولمة، باعتبارها سيراً نحو التنميط من خلال تمرير نموذج ثقافي واحد يكتسح الثقافات الجهوية، ويضع مصيرها في خانة الموضوعات التي قد تشغل اهتمام الأنثروبولوجيين بعد زمن قليل.
من هذا المنطلق نتوجه لمقاربة مفهوم العولمة من زاوية تأثيره المباشر أو غير المباشر على الخصوصيات الثقافية الجهوية، التي قد تسمح لنا باعتماد مصطلحات من قبيل الهوية، وفي مقدمتها المجال الثقافي العربي الذي يقع في دائرة نفوذ الاكتساح الثقافي الغربي، من خلال محاولة قراءة بعض الاجتهادات الفكرية والأكاديمية العربية التي اهتمت بتوصيف الظاهرة وأثرها وآليات مواجهتها التي من البديهي أن تقودنا إلى طرق باب الممارسة التربوية في تجلياتها المادية والرمزية الجماعية والفردية، لأن من شأنها أن تشكل من وجهة نظرنا ملتقى آليات تحصين الهوية الثقافية العربية في وجه الاكتساح الثقافي العولمي الغربي.
العولمة نقيض الهوية
ليس الحديث عن الهوية بأقل قلقاً ولا إشكالية من حديثنا السابق عن العولمة، فهي من المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات والدراسات إلى درجة جعلت المفكر ألفرد جروسر (Alfred grosser) يعلق بأن القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهوية،11 وهو أمر يعود إلى تناثر هذا المفهوم على ضفاف تخصصات عدة داخل حقل العلوم الإنسانية من الأنثروبولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن السيكولوجيا إلى علوم السياسة، الشيء الذي يجعل من كل محاولة لحصره ضرباً من المجازفة الفكرية المفتوحة على الاحتمالات كافة، هكذا يحدد معجم روبير الفرنسي الهوية باعتبارها الميزة الثابتة في الذات، ويختزن هذا التحديد معنيين يعمل على توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية على الشكل التالي: إنها ميزة ما هو متماثل، سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته أم من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف أشكالها، ومن ثم تصبح الهوية الثقافية هي الفعل الذي يجعل من واقع ما مساوياً أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر، أما أنثروبولوجياً فيحضر المفهوم كعلامة غير منفصلة عن مسلسل الفردنة، أي كشكل من أشكال التمايز بين الطبقات نفسها، فمن أجل إعطاء هوية لفرد ما أو لمجموعة من الأفراد، يبدو لزاماً التمييز بين ما ليسوا هم، وبالمقابل ينبغي فهم الفرد في خصوصيته، كما يجب أخذ هويته التاريخية بعين الاعتبار.12
الواقع أننا بصدد التعامل مع إحدى أكثر القضايا حساسية في نشأة المجتمعات واستمرارها، ولعل هذا ما يضع هذه القضية في عمق كثير من النزاعات المسلحة أو حتى السلمية في العالم في إفريقيا كما في آسيا وأوروبا، بل إن هذه الاندفاعات نحو الهوية ليست حكراً في الواقع على الأماكن التي تقدم في التداول الإعلامي باعتبارها مناطق صراع وتعصب، بقدر ما هي منتشرة في مختلف بقاع المعمور شرقها وغربها، وفي هذا الإطار لسنا بحاجة للتذكير بالمفاوضات الشاقة التي جمعت فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية على هامش معاهدة “الجات” التي تقضي بحرية مرور البضائع والأشخاص والمعلومات بين الدول بحرية، فقد كان زعماء فرنسا ومثقفوها متخوفون من مدى قدرة الهوية الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، على الرغم من الخلفية الثقافية الفرنسية العريقة التي تجر وراءها فكر الأنوار وأبجديات الحداثة الغربية من إرهاصات الفكر الديكارتي إلى اشتغالات فلاسفة الاختلاف، كما أن كانتونات سويسرا وقوميتي بلجيكا وطائفتي أيرلندا ليست كلها أكثر من تعبير عن التشبث بالهوية في زمن العولمة، أما ألمانيا فإن أزيد من أربعين سنة من الفرقة الإسمنتية لم تلغِ سعي الطرفين نحو هوية الأمة الألمانية في مشهد التوحيد، ولعله من قبيل المفارقة الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، متزعمة أيديولوجيا العولمة في العالم، تعد من أكثر البلدان استشعاراً لهاجس الهوية، فقد سجل المفكر المغربي محمد عابد الجابري في زيارة له إليها في إطار ما يسمى بالحوار العربي الأمريكي أن برنامج الرحلة لم يكن يعطي الأولوية لإطلاع الزوار، وهم نخبة من ألمع المفكرين العرب، على تجليات الحضارة الأمريكية المعاصرة من قبيل علم التكنولوجيا والمعلوميات وبرامج غزو الفضاء، بقدر ما انصرف إلى أشياء وأماكن لها ارتباط بالتراث والتاريخ إلى درجة جعلت الدكتور الجابري يخاطب مضيفيه في إحدى مداخلاته على هامش الحوار المذكور قائلا: “إن وضعنا معكم مقلوب، نحن في العالم العربي شبعنا من التراث ونبحث عن المعاصرة، أما أنتم فيبدو أنكم شبعتم من المعاصرة وتبحثون عن التراث. أنتم تبحثون عن الماضي ونحن نبحث عن المستقبل”.13 من جهة أخرى، فقد يتداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى هكذا قد يتم التعبير عن الهوية في كثير من الأحيان بلغة الجنسية، وليست الجنسية وضعية سياسية قانونية فحسب، فهي كذلك كل ما نعتقد أنها خصائصنا الاجتماعية المميزة، السمات التي نتقاسمها مع المواطنين المماثلين،14 الشيء الذي يحيل على تزاوج غير واضح المعالم بين الروابط المحسوسة والخريطة السياسية والقانونية، بل والجغرافية للعالم، ما يضعنا أمام أحد أهم الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على هامش علاقة العولمة بالهوية تتعلق بسؤال المكان، فهذا الأخير الذي ظل على امتداد عمر التركيبة السياسية التقليدية، ممثلة في الدول الوطنية، مكاناً مغلقاً على مجموعة من الفاعلين الحاضرين في علاقات تقوم وجهاً لوجه قد أصبح مجالاً كونياً مفتوحاً لتفاعلات أبعد من نطاقه المحدد، يدخل فيها أفراد غير موجودين بالمكان، وأحداث لا تحدث في المكان ذاته.15 بهذا المعنى يكون التعايش بين العولمة والحدود السياسية أمراً محدوداً للغاية، ما دامت هذه الأخيرة تركز على الخصوصية، بينما تسعى العولمة إلى تجاوز هذه الخصوصية والانتقال إلى العمومية. الحدود مظهر من مظاهر السيادة، ومن أهم مقوماتها ومرتكزاتها، إنها تجسيد للسيادة على المكان، سواء أكان ملكاً خاصاً أم ملكاً جماعياً، أم أقيمت عليه دولة مستقلة تتمسك بحق سيادتها الكاملة ضمن حدوده المعترف بها دولياً، أما العولمة، فإنها تسعى إلى إلغاء السيادة على المكان أو إضعافها مستعينة بوسائلها وآلياتها من تخطي الحدود والقفز من فوقها والتعدي على خصوصيات المكان وسكانه، واختراقه، وغزو ثقافة شعبه وحضارته، وفرض ثقافة أخرى عليه، ما قد يضعف من انتمائه الوطني والقومي ويساهم في تفكيك عناصر هويته ومكوناتها، ليصبح شعباً بلا هوية تميزه عن غيره من الأمم و الشعوب.16 إنه إذن أقرب إلى نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، ويدفع للتفتيت والتشتيت ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة، واللادولة، أو يفرقهم في أتون الحرب الأهلية.17
اندثار الحدود السياسية والقانونية والثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالإنترنت، والفضائيات التلفزيونية، من شانه أن يدمر آخر قلاع المقاومة للاكتساح الثقافي الغربي والأمريكي بالأساس، ما دام السياق الجيوبوليتيكي الدولي يسير باتجاه تعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم في سياق ما يعرف بالنظام الدولي الجديد، أو عالم الميغا إمبريالية بتعبير عالم الدراسات المستقبلية المهدي المنجرة،18 فمع انحسار الاتحاد السوفييتي وتفككه وانشغاله بهمومه الداخلية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحقق أكبر قدر من الانتشار العالمي والنجاحات والانتصارات السياسية والعسكرية، وتستغل التحولات الدولية لتزيد من حضورها وصعودها الدولي كدولة وحيدة تتميز بمواصفات ومقومات الدولة العظمى كلها (super state) ،19 إضافة إلى أنها تتحكم بالنسبة الأكبر من وسائل الإعلام المؤثرة عبر العالم. ولعل أكبر مظاهر السيطرة الأمريكية معلوماتياً تشبثها بأن تحتكر مؤسسة (ICANN) الأمريكية مسؤولية تسيير المهام الأساسية للإنترنت (internet governance)، التي تشمل إدارة الموارد الرئيسية للبنية التحتية للشبكة … فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل قاطع في القمة العالمية لمجتمع المعلومات، أن تحال هذه المهمة على منظمة عالمية كالاتحاد العالمي للاتصالات … وهو ما يثير قلق الاتحاد الأوروبي من أن تصبح الإنترنت “ضيعة” أمريكية خاصة،20 بهذا تتجاوز الهيمنة الأمريكية الجانب الاقتصادي والسياسي إلى الجانب الثقافي، بما يعنيه ذلك من تعميم للقيم النفسية والسلوكية والعقائدية الأمريكية على الأذواق والسلوكيات والأعراف التي تشكل، بالإضافة إلى الأديان والعقائد، المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي الشعوب في العالم، ما يعني أن الأمر يتعلق بأيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته على حد تعبير الدكتور عابد الجابري، فهي تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، على بلدان العالم أجمع … .21 لذلك، فهي تنحو باتجاه القضاء على الخصوصية الثقافية بشكل عام، في الأذواق وأولويات التفكير ومواضيعه ومناهجه، لكل هذا يضع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي مفهوم العولمة في عمق التطلعات الهيمنية للولايات المتحدة الأمريكية من وحي مصالحها الأمنية القومية، أو ما يتعارف عليه بالحلم الأمريكي الذي جند، ليصبح واقعاً معيشاً، مجموعة من الحلفاء والزبناء في إطار تبني حرية مطلقة لقوانين السوق المالية الواحدة التي تتحدى سلطة الدولة القومية ودولة الرعاية.22 أما المدخل الأساسي للتأثير فيرتبط -كما سبقت الإشارة لذلك- بالاختراق الإعلامي الهائل الذي يتجاوز كل الأشكال التقليدية للتواصل، فيجند ثقافة جديدة هي ثقافة ما بعد المكتوب التي ليست سوى ثقافة الصورة، باعتبارها المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد: نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم، إنها المادة الثقافية الأساس التي يجري تسويقها على أوسع نطاق جماهيري، وهي تلعب الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ التي سلفت. إن الصورة أكثر إغراء وجذباً وأشد تعبيراً وأكثر رسوخاً والتصاقاً بالعقل؛ لأنها لغة عالمية تفهمها جميع الأمم والشعوب والبشر كافة، سواء أكانوا جهلة أم متعلمين، لأنها قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي وعلى الرغم من هذا فهي لا تعدو أن تكون ثقافة معلبات مسلوقة جاهزة للاستهلاك، تتنافس الشركات الإعلامية لتسويقها مستخدمة جميع ما ابتكره العقل البشري الغربي من وسائل الإغراء والخداع، ومع تراجع معدلات القراءة والاهتمام بالكتاب، فإن نظام القيم معرض للتفتت، ما سيكرس منظومة جديدة من المعايير ترفع من قيمه النفعية والفردانية الأنانية، والمنزع المادي ـ الغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني… الخ.23 ولا تقتصر محاولات الأمركة على مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفق، بل تتعداها إلى التبشير بانتصار القيم المسماة أمريكية، وبأساليب وطرز الحياة الأمريكية، بدءاً بأنماط السلوك والملابس واللغة، وصولاً إلى التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على سواها، والحديث عن نهاية التاريخ،24 بوصفها النتيجة النهائية التي أعقبت الحرب الباردة بما تحتويه من تفوق لقدرات التكنولوجيا الأمريكية، ومن أفضلية للنظم والمؤسسات العالمية على الطراز الأمريكي، وبما تنطوي عليه من تحديث وديمقراطية لا بد وأن تعم، حسب منظري الليبرالية الجديدة، جميع دول العالم من خلال التمسك بمبادئ الرأسمالية التي تشكل غاية التطور العالمي وقدر جميع الشعوب والدول الأخرى.25 ولعل أبلغ مثال على هذا الاختراق الأمريكي لأنماط العيش الجهوية بمختلف أنحاء العالم، يتمثل في تداول مفاهيم جديدة من قبيل مفهوم الماكدونالية (macdonaldization) الذي يحيل بشكل مباشر على ثقافة وجبات الطعام السريع الأمريكي المقدم في سلسلة مطاعم ماكدونالد الشهيرة عبر العالم.26 ولسنا بحاجة للتذكير على أن انتشار هذه المطاعم في كل ربوع الوطن العربي لخير دليل على اكتساح النموذج الثقافي الأمريكي لمختلف مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية العربية، الشيء الذي يحيل بشكل مباشر على أننا في عمق تأثير العولمة المؤمركة، فما مدى هذا التأثير؟ وما هي تداعياته على الفضاء الثقافي العربي؟ وهل من آليات للمقاومة؟
الثقافة العربية: الاكتساح العولمي وآليات المقاومة
إذا ركزنا زاوية الرؤية على البلدان العربية، فإننا لا نعتبر وضعها مفارقاً لمجمل البلدان المنتمية تحت لواء العالم الثالث، فالتبعية السياسية الشاملة للغرب، وضعف أداء الاقتصادات العربية، وفشل مشاريع التنمية، والاندماج السلبي في اقتصاديات الغرب القوية، لا يمنح فرصاً لتشكيل هوية اقتصادية محلية قد تفسح المجال أمام حماية وتحصين الهوية الثقافية في شتى تمظهراتها، ذلك أن ما نستورده من الغرب ليس مجرد منتوجات أو آلات، بل سلوك وقيم و معايير،27 لها بالغ الأثر في مجتمعات لا زالت تعيش إشكالية الصراع بين التقليد الذي يتحدد من خلال الانتماء إلى نظام اجتماعي وثقافي يجد تبريره في الماضي، ويدافع عن مكتسباته ضد عمل قوى التغير28 والحداثة التي تقدم نماذج للسلوك والتفكير متعارضة مع النماذج التقليدية.29 وإذا جاز لنا أن نجازف بمحاولة رصد تأثير العولمة الغربية في نسختها الأمريكية بالأساس على واقع الثقافة العربية، فقد يكون بإمكاننا تسجيل بعض هذه المؤثرات التي وإن كانت تعلن عن نفسها بتجلٍّ واضح في حيثيات الحياة اليومية العربية، فإن من الصعب عزلها عن التأثيرات الأخرى السياسية والاقتصادية بالأساس، هكذا يمكن الحديث عما يلي:
< تغيير شامل في القيم والسلوكـيات الاستهلاكية من خلال التركيز على العلامات التجارية العالمية، وانتشار السلوكيات الاستهلاكية الغربية، الشيء الذي من شأنه أن يهدد الموروث الثقافي والاجتماعي العربي في جملته بالاندثار، مع توالي انخراط الأجيال اللاحقة في هذه الأنماط المستوردة التي تمس مختلف أشكال الحياة المادية والفكرية للأفراد والجماعات من المأكل، والمشرب، والملبس إلى طرق التفكير والحياة.
< تراجع مستمر للغة العربية في شتى المجالات أمام اكتساح اللغات الأجنبية، إذ أصبحت اللغات الأجنبية "الإنجليزية في دول الشرق الأوسط والفرنسية في دول المغرب العربي" أكثر تداولاً من اللغة العربية حتى في العلاقات البين عربية، بل وداخل الدولة نفسها.
< فقدان الثقافة العربية للقدرة على التجديد المتوازن لذاتها، فتخلف الآليات والمعايير المنتهجة في هذا السياق أضحى يهدد حتى مستقبل الإنتاج الفني والأدبي بالبلدان العربية، ولسنا بحاجة للتذكير بتراجع هذا الإنتاج كماً وكيفاً.
< انكماش وسائل الإعلام العربية أمام الاكتساح الهائل للإعلام الغربي وقصورها عن حماية وتجديد الثقافة العربية.
هذه بعض آثار الاختراق الثقافي الغربي الأمريكي للثقافة العربية، وهي على الرغم من خطورتها لا تمثل في الواقع سوى الشجرة التي تحجب الغابة أما آليات المقاومة وتحصين الهوية العربية، فليست مناقشتها بأقل صعوبة من عزل هذه الآثار وتوصيفها، هكذا من البديهي أن تتجاوز الحلول المقترحة من قبل المهتمين بتتبع الظاهرة وآثارها، الجانب الثقافي، لتحاول صياغة منظومة متعددة الأوجه من آليات العمل السياسي الرسمي (الحكامة) والسلوكيات الفردية والجماعية الرسمية وغير الرسمية الكفيلة، إن لم يكن بدحض آثار العولمة، فعلى الأقل تنشيط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة التي تأتي المجتمعات العربية في طليعتها لانتمائها للحلقة السياسية الأضعف في العالم من جهة، ووقوعها في مناطق مصالح الأقوياء من جهة أخرى. في هذا السياق نتوقف عند إحدى أهم لحظات النقاش العربية حول إشكالية العولمة وآثارها الثقافية وآليات مواجهتها، ويتعلق الأمر بالندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت حول موضوع: (العرب والعولمة) بين 18 و20 كانون الأول 1997، والتي تميزت بمشاركة نخبة من المفكرين العرب حملت أوراقهم المقدمة على هامش الندوة رؤى عميقة اتجاه العولمة الثقافية، كما قدمت مقترحات نظرية وعلمية للحد من تداعياتها السلبية.30 فإجابة على سؤال ما العمل إزاء الأخطار التي تطبع علاقة العرب بالعولمة على مستوى الهوية الثقافية، يعرض المفكر محمد عابد الجابري لموقفين يصنفهما منذ البداية ضمن المواقف اللاتاريخية؛ يتعلق الأول بالرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي الذي ينقلب إلى موت بطيء لعدم وجود نسبة معقولة من التكافؤ بين إمكانات العولمة والثقافة المنغلقة عليها، فيما يرتبط الثاني بالقبول التام للاستتباع الحضاري والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة تحت شعار الانفتاح على العصر والمراهنة على الحداثة، بما يعنيه هذا من دعوة للاغتراب واللاهوية. أما البديل حسب الدكتور الجابري فينطلق من العمل داخل الثقافة العربية نفسها من أجل تجديدها (بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل … فتجديد الثقافة العربية، والدفاع عن الخصوصيات، ومقاومة الغزو والاختراق، كلها أمور تحتاج إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والثقافة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية … في الاتجاه نفسه سارت ورقة الباحث السعودي محمد محفوظ مدير تحرير مجلة الكلمة الذي حث على ضرورة إعادة الاعتبار لعناصر الثقافة الوطنية، والعمل على تنشيطها في النسيج المجتمعي، لأن بقاء عناصر الثقافة الوطنية ساكنة، يعني تحول بعضها إلى فلكلور محلي، نشجع به السياحة، ونحنطه في متاحف وأماكن أثرية لا غير، ذلك أن الارتكاز على عناصر الثقافة الوطنية ومقوماتها هو الذي يوفر لنا أسباب الوعي والإدراك الكافيين لاستيعاب تطورات العالم، وتحديد مستقبلنا. أما الدكتور عبد الإله بلقزيز فلا يرى في إطار الورقة التي قدمها على هامش الندوة نفسها من حل سوى ما أسماه الممانعة الثقافية، عبر المقاومة الإيجابية لهذه العولمة أو السيطرة الثقافية الغربية، كما أسماها وهو ما لن يتحقق إلا باستعمال الأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة، ذلك أن نظريات علم الاجتماع الثقافي تؤكد أن فعل العدوان الثقافي غالباً ما يستنهض نقيضه.31
إن قراءة متأنية في الآليات المقترحة من لدن نخبة من المفكرين والأكاديميين العرب الذين شكلت إشكالية الهوية العربية في مقابل الاكتساح العولمي إحدى أهم ركائز اشتغالاتهم الفكرية، تدفعنا للإقرار بأن المعركة داخلية أكثر بكثير مما هي خارجية، فالتصدي لآثار العولمة لا يمر عبر المواجهة المكشوفة معها في مختلف ساحاتها الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية، لأن هذا سيكون بمثابة ضرب من الانتحار الهوياتي على الواجهات كافة، بقدر ما يمر عبر الاشتغال على الذات. إنها إشكالية الأنا والنحن أكثر بكثير من كونها إشكالية الآخر؛ بمعنى أن مستقبل الثقافة العربية ليس مرهوناً بالتحديات الخارجية التي تحملها العولمة على أهميتها فحسب، بل يتصل بقدرة هذه الثقافة على إقامة حوار داخلي بين اتجاهاتها وتياراتها وأفكارها، أي بقدرتنا كعرب على إعادة بناء وحدة الفضاء الثقافي العربي بما يضمن حرية تداول الأفكار والمنتجات الفنية والأدبية، إلى جانب تدعيم النشاط الإبداعي وتحريره من الممنوعات والمحرمات، بحيث يصبح الحوار الثقافي والحضاري العربي مقدمة وشرطاً لأي ممانعة ثقافية أو مبادرة منتجة للتواصل مع الثقافات الأخرى.32
من جهة أخرى، فإن الحديث عن تشكيل وتحصين الهوية الثقافية الداخلية في مقابل الاختراق الثقافي الغربي، يحيل بالضرورة على سيرورة بالغة التعقيد، ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية التي توكل إليها مهمة إنتاج القيم والرموز وضمان استمرارها، والتي تأتي المؤسسات الإدماجية التقليدية من قبيل المدرسة والأسرة على رأس قائمتها، الشيء الذي يحيل بقوة الأشياء على التطرق لموضوعة التربية كفاعلية دينامية من شأنها توفير مجال جد ملائم للمقاومة أو الممانعة بتعبير عبد الإله بلقزيز،33 فإلى أي حد يمكن اعتبار المؤسسات التربوية التقليدية جبهة ممانعة ثقافية لتحصين الذات العربية ضد آليات العولمة والتنميط الثقافي؟
التربية: ساحة ممانعة
تجعل التصورات الكلاسيكية من الممارسة التربوية في مختلف تجلياتها صمام أمان الضبط والمحافظة الاجتماعية، باعتبارها موجهة نحو إنتاج وإعادة إنتاج القيم والرموز عن طريق نقلها بشكل أمين للأجيال المتعاقبة، فعالم الاجتماع الفرنسي ديركايم (DURKHAIM) يقدم التربية باعتبارها العمل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج بعد، من أجل الحياة الاجتماعية. وهدفها أن تثير لدى المتلقي وتنمي عنده طائفة من الأحوال الجسدية والفكرية والخلقية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في جملته، وتتطلبها البيئة الخاصة التي يعد لها بوجه خاص، ولعل هذا أبلغ تجلٍّ لهذه السيرورة في اصطلاحات العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ما يمكن اختزاله في مفهوم التنشئة الاجتماعية (socialisation) التي يقدمها السوسيولوجي الكندي غاي روتشر (Guy Rocher) باعتبارها منظومة الأوليات التي تمكن الفرد على مدى حياته من تعلم واستبطان القيم الاجتماعية الثقافية السائدة في وسطه الاجتماعي.34 بهذا المعنى يمكن تصورها كمنظومة عمليات يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته، بما تنطوي عليه هذه الثقافة من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد إلى أفراده … إنها العملية التي يتم من خلالها دمج الفرد في المجتمع والمجتمع في الفرد.35
وفقاً لمختلف هذه التحديدات تتباين التربية من مجتمع لآخر بتباين النماذج الثقافية والرموز والقيم التي يستهدف كل مجتمع ضمان استمرارها من خلال السهر على تمريرها للأجيال اللاحقة، إلا أنها لا تعدو أن تكون انعكاساً لأساليب السلطة الموظفة في المجتمع وفي مؤسساته، لهذا السبب يتم الرهان في أجرأة غايات وأهداف العملية التربوية على المؤسسات التربوية التقليدية الممتدة من المدرسة إلى الأسرة باعتبارهما مؤسستين اجتماعيتين إدماجيتين تتمحور أهميتهما في المحافظة على الموروث الثقافي والاجتماعي وإعادة إنتاجه بما يضمن عملية الإدماج هاته على المستويين سابقي الذكر: إدماج الفرد في المجتمع وإدماج ثقافة المجتمع في الفرد، غير أن حالة الانفلات الهائل للثورة المعلوماتية وتأثيراتها الجمة على الأفراد والجماعات، بل وعلى الدول نفسها من شأنه أن يطرح أكثر من سؤال حول الهوامش المتاحة لهذه المؤسسات التقليدية في القيام بعملية الإنتاج وإعادة الإنتاج هذه، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة خطاب هذه المؤسسات الأقرب ميلاً إلى المحافظة والأكثر ارتباطاً بالقهر والإكراه، في مقابل الخطاب السمعي البصري الذي يراهن على آخر تقنيات التأثير، وبخاصة أن المشروع الغربي في عصر العولمة قد أصبح في عهدة الإمبراطوريات السمعية البصرية، بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها الإعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجلب الانتباه عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق، ويقارب عتبة المتعة ومعها يبلغ خطابه الأيديولوجي وأهدافه الاستهلاكية، ويسهم في وأد حاسة النقد لدى المتلقي الذي يصبح قابلاً لتمرير وتلقي جميع القيم والمواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو معاداة نفسية.36 الشيء الذي يجعل المعركة محسومة سلفاً لصالح الخطاب الإعلامي القادم من ما وراء البحار، محملاً بأبطال ورموز جديدة تعيد تشكيل مخيلة المشاهد بدءاً بعارضات الأزياء ونجوم الكرة، وصولاً إلى رموز الفن والسينما والأعمال والألبسة والأطعمة وأنماط السلوك والمفردات اللغوية،37 فيقلل من قدرة المؤسسات التربوية العربية في صورتها الحالية على المنافسة ومقاومة هذه الصور المبثوثة عبر القنوات الفضائية التي أضحت في متناول الجميع بأقل التكاليف في نسختها الأصلية المرتبطة بالإعلام الغربي، أو حتى في امتداداتها الوطنية التي تعيد إنتاج الخطاب نفسه بالآليات نفسها بانتصارها للمنتوج الغربي على حساب المنتوج الوطني إن وجد أصلاً.
الواقع أن هذه المؤسسات لا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي ثقافي عربي كما لم تستطع الاقتصادات المترهلة ضمان اكتفاء ذاتي غذائي عربي مع خطورة زائدة متضمنة في المقارنة تتمثل في أن اكتساح الإعلام الغربي للمجال الثقافي العربي من شأنه أن يحول هذا الفضاء الداخلي إلى فضاء للإقصاء، فهيمنة أدوات الاتصال السمعي البصري الغربية واكتساحها لكل الفضاءات الممكنة واستئثارها بحيز زمني مهم من وقت المتلقين الذي يبلغ ذروته في النمط التلفزيوني، يجعل الجميع أقرب إلى العيش في عالم افتراضي أثيري يتألف من الصور والإشارات والنصوص المرئية والمقروءة على الشاشات الإلكترونية، بما بات يشكل تهديداً لمنظومات القيم والرموز وتغييراً في المرجعيات الوجودية وأنماط الحياة،38 إذ أن العالم المرغوب فيه بالنسبة لزبناء الفضاء السمعي البصري التلفزيوني خاصة لم يعد، بالضرورة، هو العالم الحقيقي الذي يتحرك في إطاره هؤلاء بقدر ما هو هذا العالم الأثيري الافتراضي الذي تنقله وسائل الإعلام الغربية وامتداداتها المحلية أيضاً، فتسهم به في تغيير البنى الذهنية والتشويش، إن لم نقل التضييق، على الأجهزة التقليدية الوصية على الممارسة التربوية، وهذا من شأنه أن يحول المجتمع الحقيقي إلى مجتمع للاغتراب والإقصاء، فالرموز والقيم التي يتشبع بها المتلقي يومياً عبر الفضاء السمعي البصري مختلفة كلياً عن رموز وقيم المجتمع الأصلي ما دامت تصنع خارج حدوده، كما من شأنه أن يفقد المنتوج التربوي المحلي كل قدرة على جلب اهتمام متلقيه ما دام خطاب الأوامر والنواهي الذي يشكل عصبه غير ذي إغراء أمام ثقافة الصورة المشوقة والممتعة.
إن هذه الصورة القاتمة وإن كانت تشكل توصيفاً لحقيقة وضع المؤسسات التربوية والثقافية في دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية لا تعفي هذه المؤسسات من التمسك بأداء الوظائف المنوطة بها، والمتمثلة -كما أسلفنا- في صناعة الرموز والقيم التي تشكل عمق الهوية المحلية، والعمل على ضمان استمرارها، لأن مستقبل الثقافة العربية رهين بإعادة النظر في آليات اشتغال المدرسة والأسرة، فإذا كان من البديهي أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة إلى عولمة التربية تحت شعار حماية حقوق الإنسان، ناظرة إلى نموذجها كشرط أساسي لنجاح عولمتها الاقتصادية، مؤمنة بأنه عن طريق التربية التي ترغب في فرضها يمكن تنمية النزعات الاستهلاكية،39 فإنه من الضروري والملح أن تسعى هذه المؤسسات إلى حماية الأمن الثقافي العربي من خلال إعلان القطيعة مع الآليات التقليدية الموظفة في المجال التربوي العربي عبر صياغة باراديغم تربوي جديد40 واعٍ بطبيعة المرحلة التي يجتازها العالم والمنطقة، وبطبيعة المسؤولية الجسيمة المنتظرة منه، وهو ما لن يتأتى إلا من خلال تجديد آليات اشتغال هذه المؤسسات عبر تطوير الأنساق التربوية التقليدية، وإنتاج خطاب تربوي وأسري بديل، أساسه الاشتغال على ميكانيزمات جديدة تهدف إلى تنمية الحس النقدي لدى المتلقي، بما يضمن تجاوباً عقلانياً مع المنتوج الإعلامي الغربي الذي أصبحت إمكانية تفاديه ضرباً من الخيال، وهو ما يسمح بالحديث عن منظومة تربوية تضمن توازناً معقولاً بين ضرورة الحفاظ على معالم الهوية المحلية وحتمية الانفتاح على الثقافات الإنسانية في مختلف تمظهراتها وامتداداتها، فتجعل الماضي في خدمة المستقبل وليس المستقبل رهينة للماضي.41 غير أن معركة المؤسسات التربوية التقليدية لن تحقق أهدافها بأية حال في غياب دعم حقيقي من الفضاء الإعلامي العربي، الذي يجب أن يخرج بدوره من موقف اللعب على ثنائية الاندماج اللامشروط في النموذج الثقافي الغربي تحت يافطة الحداثة والانفتاح، أو إعادة إنتاج نفس آليات المؤسسات الإدماجية التقليدية ممثلاً في خطاب الأوامر والنواهي تحت يافطة الإنتاج الإعلامي الأسري الهادف، والاندماج في مشاريع جديدة أساسها التطلع إلى إشباع حاجات المواطن العربي الثقافية والجمالية من خلال بناء صورة سمعية بصرية خاصة بالذات العربية،42 تحقق بنجاعة ثلاثية الإخبار والتثقيف والترفيه، بكثير من الجمالية وقليل من الخطابة، صورة سمعية بصرية تسير في تناغم مع ضرورة الحفاظ على الخصوصية المحلية من جهة، والانفتاح على تجليات الثقافة العالمية من جهة أخرى، بما يعنيه ذلك من انتصار للقيم العالمية التي ترتقي بالقيم المحلية إلى مستوى عالمي، دون أن تحرمها من حقها في الوجود، ومواجهة لثقافة العولمة كإرادة للهيمنة واكتساح للخصوصيات الجهوية، ولعلنا لا نجد ما ننهي به هذه المقالة أبلغ من هذه العبارة العميقة المنسوبة لأحد رموز التحرر في التاريخ الإنساني المهاتما غاندي: “أرغب أن تهب رياح جميع الثقافات على نوافذ بيتي، لكني أرفض أن تقتلعني أي منها من جذورى!”.
محمد فاضل رضوان
كاتب صحافي وباحث سوسيولوجي،
وأستاذ الفكر الإسلامي والفلسفة – المغرب
الهوامش
1 راجع بهذا الخصوص: هانز بيتر مارتين وهارولد شومان. “فخ العولمة”، ترجمة عدنان عباس علي، عالم المعرفة، العدد 295، الكويت آب 2022.
2 انظر التمييز الذي يقترحه حسام الخطيب في: حسام الخطيب. “العالمية والعولمة من منظور مقارني”، عالم الفكر، العدد1، المجلد 34، تموز – أيلول 2022.
3 راجع بهذا الخصوص: بول هيرست وغراهام طومبسون. “ما العولمة؟ الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم”، ترجمة فاتح عبد الجبار، عالم المعرفة، العدد273، الكويت أيلول 2001.
4 انظر: محمد مصطفى القباج. “التربية والثقافة في زمن العولمة”، المعرفة للجميع، العدد 24، المغرب، آذار نيسان 2022.
5 انظر: رونالد روبرتسون. العولمة، النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية، ترجمة أحمد محمود ونورا أمين، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1998.
6 سمير أمين. “تحديات العولمة”، شؤون الأوسط، العدد 71، نيسان 1998.
7 Hubert vedrine. Mondialisation et pensée unique. In “la méditerranée a l’heur de la mondialisation”, cahiers de la fondation abderrahim bouabid .N 27. 1997.
8 صادق جلال العظم. “ما هي العولمة؟” الطريق، العدد الرابع، تموز- آب 1997.
9 عزمي بشارة. “إسرائيل والعولمة”، فكر ونقد، السنة1، العدد 7، آذار 1998.
10 محمد مصطفى القباج. “التربية والثقافة في زمن العولمة”، مرجع سابق.
11 Alfred grosser: les identités abusives: le monde 28 janvier 1998.
12 راجع بهذا الخصوص: عزيز مشواط. “إشكالية الهوية في العلوم الإنسانية، مأزق الإشكال وقلق المفهوم”، جريدة المنعطف، العدد 2377، 28 أيلول 2022.
13 راجع بهذا الخصوص: محمد عابد الجابري. “العولمة ومسألة الهوية بين البحث العلمي والخطاب الأيديولوجي2”، فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد 22 تشرين الأول 1999.
14 مايك كرانغ. “الجغرافيا الثقافية، أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية”، ترجمة سعيد منتاق، عالم المعرفة، العدد 317، الكويت، تموز 2022.
15 أحمد زايد. “عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، الكويت تموز – أيلول 2022.
16 محمد علي الفرا. “العولمة والحدود”، عالم الفكر، العدد 4، المجلد 32، الكويت نيسان- تموز 2022.
17 محمد عابد الجابري. “العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات”، ورقة مقدمة في إطار ندوة حول “العرب والعولمة” نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
18 يعتبر الدكتور المهدي المنجرة أن الفرق بين الإمبريالية التقليدية والميغا إمبريالية هو أن هذه الأخيرة لا تحتاج للجغرافيا، حيث لديها وسائل جديدة مثل التكنولوجيا المتطورة للسيطرة على العالم بأسره عبر تقنيات المراقبة، وبالتالي فإن هذه الوسائل أصبحت تغني عن الوجود في عين المكان … لقد أصبح للميغا إمبريالية أسلوب جديد ولغة من تركيب جديد، والميغا حسب مدلولها تقتضي الانفراد بالقرار. فهي لا تقبل إمبريالية أخرى منافسة على عكس ما كان في السابق.
لمزيد من التفاصيل، يرجي العودة إلى: المهدي المنجرة. الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الرابعة، 2022.
19 سيد أبو ضيف أحمد. “الهيمنة الأمريكية: نموذج القطب الواحد وسيناريوهات النظام الدولي الجديد”، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 31، الكويت كانون الثاني- آذار 2022.
20 نبيل علي، نادية حجازي. “الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 318، الكويت، آب 2022.
21 محمد عابد الجابري. “العولمة والهوية الثقافية”، مرجع سابق.
22 انظر بهذا الخصوص: محمد مصطفى القباج. “التربية والثقافة في زمن العولمة”، مرجع سابق.
23 عبد الإله بلقزيز. “العولمة والهوية الثقافية: “عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة”، تقييم نقدي لممارسات العولمة في المجال الثقافي”، ورقة مقدمة في إطار ندوة حول: (العرب والعولمة) نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
24 انظر أطروحة نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما.
25 كريم أبو حلاوة. “الآثار الثقافية للعولمة، حظوظ الخصوصيات في بناء عولمة بديلة”، عالم الفكر، العدد3، المجلد 29، كانون الثاني- آذار 2001.
26 سنة 1993 أصدر جورج رتز كتابه الشهير “المكدونالدية والمجتمع” الذي يعرف به الماكدونالية بأنها العملية التي بمقتضاها تنتشر المبادئ الخاصة بالطعام السريع، وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الأمريكي وبقية أرجاء العالم، وتشمل المبادئ التي أشار إليها رتز: الكفاءة، والتنبؤ، والمحاسبية، والاهتمام بالجودة والضبط باستخدام تقنيات غير بشرية، وتشكل هذه المبادئ العقلانية المميزة للمكدونالية التي تنتشر في العالم في عملية أحادية الجانيب يجري من خلالها تصدير التجديدات الأمريكية عنوة إلى معظم أرجاء الدنيا.
27 نبيل علي. “العرب وعصر المعلومات”. عالم المعرفة، العدد 184، الكويت، نيسان 1994.
28 G.balandier. tradition. Conformité .historicité.
كما وردت في:
عز الدين الخطابي. سوسيولوجيا التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي- دراسة تحليلية لدينامية العلاقة الاجتماعية، الدار البيضاء: منشورات عالم التربية، 2001.
29 guy rocher. Le changement social. Introduction à la sociologie generale. Coll.point. paris. 1972. tome III.
30 انظر أعمال ندوة “العرب والعولمة” التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
31 يتم الحديث عن أن الاكتساح العولمي نفسه من شأنه أن ينشط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة، فالشعور بالخطر علامة على ضرورة التحرك الآني، ولعل تنامي الحركات المتطرفة في مختلف بقاع العالم ليست إلا محاولة يائسة من قبل هؤلاء للتصدي للعولمة الثقافية وإن من خلال الانغلاق على الذات ورفض الآخر بشكل جذري. إننا بصدد آليات مقاومة قاسية وآليات اكتساح قاسية أيضاً.
32 حامد خليل. “الثقافة العربية وحوار الحضارات”، كما وردت في: أحمد زايد، عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، مرجع سابق.
33 عبد الإله بلقزيز، “العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة”، تقييم نقدي لممارسات العولمة في المجال الثقافي، مرجع سابق.
34 Guy rocher. Action sociale: introduction à la sociologie generale. 1968. M. H. paris 1983.
35 علي وطفة. “المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية”، بحث في إشكالية القمع التربوي، عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد الثاني، أكتوبر- كانون الأول 1998.
36 عبد الإله بلقزيز. في البدء كانت الثقافة، الدار البيضاء: دار إفريقيا الشرق، 1998.
37 كريم أبو حلاوة. الآثار الثقافية للعولمة، حظوظ الخصوصيات في بناء عولمة بديلة، مرجع سابق.
38 المرجع نفسه.
39 نبيل علي. “الثقافة العربية وعصر المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 265، الكويت، كانون الثاني، 2001.
40 نبيل علي. نادية حجازي. الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعلومات، مرجع سابق.
41 محمد فاضل. “الإعلام والتربية، بين الحفاظ على الهوية المحلية والانفتاح على الثقافات الإنسانية”، ملحق تربية وتعليم، الصباح، العدد 1614، 15 حزيران 2022.
42 راجع بهذا الخصوص: محمد شكري سلام. “ثورة الاتصال والإعلام: من الأيديولوجيا إلى الميديولوجيا، نحو رؤية نقدية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، تموز- أيلول 2022.
المراجع
أولاً- الكتب:
> هانز بيتر مارتين وهارولد شومان. “فخ العولمة”، ترجمة عدنان عباس علي، عالم المعرفة، العدد 295، الكويت آب 2022.
> بول هيرست وغراهام طومبسون. “ما العولمة؟ الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم”، ترجمة فاتح عبد الجبار، عالم المعرفة، العدد273، الكويت، أيلول 2001.
> محمد مصطفى القباج، “التربية والثقافة في زمن العولمة”، المعرفة للجميع، العدد 24، المغرب، آذار – نيسان 2022.
> رونالد روبرتسون. العولمة، النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية، ترجمة أحمد محمود ونورا أمين، القاهرة : المجلس الأعلى للثقافة، 1998.
> مايك كرانغ. “الجغرافيا الثقافية، أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية”، ترجمة سعيد منتاق، عالم المعرفة، العدد 317، الكويت، تموز 2022 .
> المهدي المنجرة. الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الرابعة، 2022.
> نبيل علي، نادية حجازي. “الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 318، الكويت، آب 2022.
> نبيل علي. “العرب وعصر المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 184، الكويت، نيسان 1994.
> عز الدين الخطابي. سوسيولوجيا التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي، دراسة تحليلية لدينامية العلاقة الاجتماعية، الدار البيضاء: منشورات عالم التربية، 2001.
> عبد الإله بلقزيز. في البدء كانت الثقافة، الدار البيضاء: دار إفريقيا الشرق، 1998.
> نبيل علي. “الثقافة العربية وعصر المعلومات”، عالم المعرفة، العدد 265، الكويت، كانون الثاني 2001.
< Hubert vedrine. Mondialisation et pensée unique. In “ la méditerranée a l’heur de la mondialisation”, cahiers de la fondation abderrahim bouabid .N 27. 1997.
< Alfred grosser: les identités abusives: le monde 28 janvier 1998.
< guy rocher. Le changement social. Introduction à la sociologie generale.Coll.point. paris. 1972. tome III.
< Guy rocher. Action sociale: introduction à la sociologie generale. 1968. M. H. paris 1983.
ثانياً- المقالات:
> حسام الخطيب. “العالمية والعولمة من منظور مقارني”، عالم الفكر، العدد1، المجلد 34، تموز – أيلول 2022.
> سمير أمين. “تحديات العولمة”، شؤون الأوسط، العدد 71، نيسان 1998.
> صادق جلال العظم. “ما هي العولمة؟”، الطريق، العدد الرابع، تموز- آب 1997.
> عزمي بشارة. “إسرائيل والعولمة”، فكر ونقد، السنة1، العدد 7، آذار 1998.
> عزيز مشواط، “إشكالية الهوية في العلوم الإنسانية، مأزق الإشكال وقلق المفهوم”، جريدة المنعطف، العدد 2377، 28 أيلول 2022.
> محمد عابد الجابري. “العولمة ومسألة الهوية بين البحث العلمي والخطاب الأيديولوجي2”، فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد 22 تشرين الأول 1999.
> أحمد زايد. “عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، الكويت، تموز-أيلول 2022.
> محمد علي الفرا. “العولمة والحدود”، عالم الفكر, العدد 4، المجلد 32، الكويت، نيسان- تموز 2022.
> محمد عابد الجابري. “العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات”، ورقة مقدمة في إطار ندوة حول: “العرب والعولمة” نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
> سيد أبو ضيف أحمد. “الهيمنة الأمريكية: نموذج القطب الواحد وسيناريوهات النظام الدولي الجديد”، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 31، الكويت، كانون الثاني-آذار 2022.
> عبد الإله بلقزيز، “العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة”، تقييم نقدي لممارسات العولمة في المجال الثقافي، ورقة مقدمة في إطار ندوة حول: “العرب والعولمة” نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بين 18 – 20 كانون الأول 1997.
> كريم أبو حلاوة. “الآثار الثقافية للعولمة، حظوظ الخصوصيات في بناء عولمة بديلة”، عالم الفكر، العدد 3 المجلد 29، كانون الثاني- آذار 2001.
> علي وطفة. “المظاهر الاغترابية في الشخصية العربية”، بحث في إشكالية القمع التربوي، عالم الفكر، المجلد السابع والعشرون، العدد الثاني، تشرين الأول- كانون الأول 1998.
> محمد فاضل. “الإعلام والتربية، بين الحفاظ على الهوية المحلية والانفتاح على الثقافات الإنسانية”، ملحق تربية وتعليم، الصباح، العدد 1614، 15 حزيران 2022.
> محمد شكري سلام. “ثورة الاتصال والإعلام: من الأيديولوجيا إلى الميديولوجيا، نحو رؤية نقدية”، عالم الفكر، العدد 1، المجلد 32، تموز- أيلول 2022.