التصنيفات
علم الاجتـماع

الفينومينولوجيا


الفينومينولوجيا والبحث فى الإنسان

د. مجدى عرفة
الموجـز
تنطلق هذه الدراسة من حقيقة – أو افتراض – أن علم النفس – كجزء من العلوم الإنسانية وأساس لها – يمر بأزمة تتعلق بمناهجه وأسسه المعرفية.
على هذا الأساس تحاول هذه الدراسة أن تستكشف الأسس المعرفية والمنهجية التى تتقدم بها فلسفة حديثة نسبيا هى الفلسفة الفينومينولوجية ومحاولات تطبيقها والاحتمالات التى تمثلها كحل لأزمة علم النفس والطب النفسى.
والدراسة فى قسمين:
1- القسم الأول – وهو موضوع هذا العدد – يقدم عرضا للمفاهيم الأساسية والخطوات المنهجية التى تتحدد من خلالها الملامح الرئيسية للفينومينولوجيا كنسق معرفى أو كعلم أولى يضع الأسس الثابتة التى يمكن أن يقوم عليها البحث والمعرفة فى كافة العلوم.
2- أما القسم الثانى – ويأتى فى العدد القادم – فيقدم عرضا لتطبيقات الأسس المعرفية والمنهيجة للفينومينولوجيا فى دراسة الإنسان فى علم النفس والطب النفسى وخاصة فى مجال السيكوباثولوجى حيث حقق المنهج الفينومينولوجى نجاحا بارزا.
مقدمة:
القضية بشكل مباشر وصريح هى أن هناك “أزمة فى علوم الإنسان”، وأنا أعنى هنا بالذات – التزاما بالتخصص – علوم النفس الإنسانية فى سوائها (وهو تخصص علم النفس) وفى مرضها (وهو تخصص الطب النفسى) وهما علمان لا ينفصلان رغم التمييز بينهما.
وأبرز مظاهر هذه الأزمة هو التناقض الكبير بين التطورات والنجاحات العملاقة للعلوم الطبيعية بكل نتائجها التكنولوجية التى تسابق الزمن بمعدلات تكاد تلاحق سرعة الخيال، وبين القصور الواضح فى العلوم التى تتعلق بالإنسان وعلى رأسها علم النفس.
وهذه الأزمة لا يمكن أن تخفى على أى ملاحظ يتابع بدرجة معقولة من الصدق وعدم التحيز تطور علم النفس منذ أن انفصل عن الفلسفة مع بدايات هذا القرن واستعار لنفسه كأساس غلاب مفاهيم العلوم الطبيعية ومنهجها التجريبى مأخوذا بدقة هذا المنهج ووضوحه ونجاحه الفائق فى مجاله إلى الدرجة التى ساد بها “الاعتقاد” فيه – لدى كل العلوم – بوصفه المنهج “العلمى” الوحيد والشامل، أقول لن يخفى على مثل هذا الملاحظ قصور منجزات هذا العلم إذا ما قورنت بمنجزات العلوم الطبيعية بتطبيقها لمنهجها فى مجالها.
إن الإحساس يتصاعد ويتضح لدى علماء النفس أنفسهم بضحالة وتناثر حصيلة علم النفس بعد التزامه الطويل بهذه المفاهيم والمناهج المستعارة فى صورة إحصاءات وقياسات ونتائج كمية لا حصر لها ولا رابط يجمعها بشكل فعال يقدر على تفسير الظواهر النفسية بكل تعقيداتها ومواجهة مشاكلها الملحة.
إن أى تصور موضوعى لا يمكن أن ينكر درجة النجاح التى حققها النموذج السابق ونتائجه العملية العديدة والواضحة، ولكن النظرة المتمعنتة تستطيع أن تدرك أن مثل هذه النتائج تقع فى المنطقة التى يقترب فيها المجال النفسى من المجال الفيزيائى، وأن حصيلتها لا تكفى لتعويض القصور الكبير وتبديد الحيرة والغموض وعلامات الاستفهام التى لازالت تسود مجال علم النفس. إن الأمر هنا يحتاج إلى وقفة مراجعة شاملة وجذرية تعود بنا إلى الأساس الأولى للعلم، فإن حجم القصور لا يعوضه إصلاحات فى المنهج أو النسق القائم وإنما يحتاج الأمر العودة إلى التساؤلات المبدئية عن كيف تتحقق لنا المعرفة بحقائق هذا المجال وما طبيعة هذه المعرفة وحدودها وإمكانياتها؟.. هل يمكن أن يكون هناك مدخل أو منهج جديد مختلف ومناسب أكثر؟ إنها ببساطة عودة إلى فلسفة العلم، إلى نظرية المعرفة وإلى الفلسفة.
وإذا كان المنهج العلمى التقليدى الذى ثبت – أو نقول – بقصوره [1] فى مجال علم النفس يستند إلى أسس معرفية تشملها مذاهب وإتجاهات فلسفية مثل الوضعية والطبيعية فإن هناك إتجاها فلسفيا يحاول تقديم أسس معرفية أخرى يعتبرها أكثر شمولاً وكفاءة بالنسبة لكل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية.. هذا الاتجاه هو الفلسفة الفينومينولوجية.
وموضوع هذه الدراسة هو استكشاف هذه الفلسفة ومحاولات تطبيقها كأساس معرفى أو منهج فى علم النفس والطب النفسى والاحتمالات التى تمثلها كحل لأزمة هذا العلم.
والدراسة تنقسم إلى قسمين أحاول فى الأول منهما أن أقدم عرضا لمفاهيم وأسس الفلسفة الفينومينولوجية وأعتبره ضرورة لا غنى عنها لفهم الموضوع كما أعتبر ما قد يبدو استفاضة فيه ضرورة أخرى لتحقيق أكبر قدر ممكن من الوضوح، وهو وضوح عانيت أنا شخصيا حتى استطعت الوصول إلى درجة منه تصورتها معقولة، وهنا أجدنى مدفوعا إلى استئذان أصحاب التخصص فى هذا الجهد الذى اقتحمت به مجالهم، وأعتذر مسبقا عن أى قصور فيه، فهو اجتهاد يحمل احتمالات الصوات والخطأ ولا بديل عن مثله من أجل عبور الحواجز المصطنعة بين العلم والفلسفة من أجل إثراء كليهما.
أما القسم الثانى – ويأتى فى العدد القادم – فسأحاول فيه عرض الدور الذى يتقدم به المنهج الفينومينولوجى لدراسة الإنسان فى علم النفس وتطبيقه العملى فى مجال السيكوباثولوجى بشكل خاص والذى يعد أبرز وأنجح إسهامات هذا المنهج.

أولا: الفسلفة الفينومينولوجية [2]
ظهرت هذه الحركة الفلسفية فى بدايات القرن الحالى، ومثل العديد من الحركات الفكرية البازغة فقد كان لها إرهاصات وملامح متناثرة فى أعماق عدد من المفكرين إلا أن تأسيسها والصياغة الشاملة لنسقها تمت على يد الفيلسوف الألمانى أدموند هوسرل Edmond Husserl (1859 – 1938) الذى يعتبر البعض أن أهميته فى القرن العشرين قد لا تقل عن أهمية فلاسفة مثل “هيجل” فى القرن التاسع عشر أو “كانت” فى القرن الثامن عشر أو “ديكارت” فى القرن السابع عشر.
وقد بدأت الفينومينولوجيا بموقف ناقد من فلسفات وعلوم العصر ومناهجها وأسسها وأنساقها المعرفية، وكان أبرز هذه الانتقادات هو ما وجهته إلى المذهب الطبيعى Naturalism [3] الذى ساد بسيادة المنهج التجريبى ونجاحه الفائق فى مجال العلوم الطبيعية، فهذا المذهب كما تراه الفينومينولوجيا يدعى لنفسه الصفة العلمية الوحيدة الممكنة، ويقصر صفة “حقيقى” فحسب على ما هو طبيعى أو فيزيائى Physicl، و”كعلم” لما هو واقعى Factual فإنه يرفض الاعتراف بحقيقة ما هو مثالى (تصورى أو ذهنى) Ideal أو يقوم بعملية تطبيع له بتحويله إلى حقيقة فيزيائية.
والخطأ الأساسى لهذا المذهب فى نظر الفينومينولوجيا هو إجراؤه لعملية التطبيع هذه على الذات الإنسانية بوعيها وبأفكارها، بينما ترى الفينومينولوجيا أن الظاهرة الإنسانية ليست مجرد قطاع فى الطبيعة الفيزيائية، والذات الإنسانية ليست مجرد “موضوع” تتكفل بتفسيره قوانين الأشياء وروابطها العلمية.
وتعتبر الفينومينولوجيا أن نوع الموضوعية التى يفترضها هذا المذهب مسبقا والتى لا يستطيع بدونها إدعاء العلمية هى اعتقاد مثالى وهى بذلك نقيض واضح للمبادئ الطبيعية نفسها.
من هذه الخلفية الناقدة سعت الفنيومينولوجيا نحو بداية جديدة متحررة من كل ما هو مسبق من نظريات أو افتراضات أو مفاهيم، إلى إنشاء علم أولى أو علم بدايات يضع الركائز الثابتة التى يمكن أن تقوم عليها المعرفة وأية صياغات لها فى شكل مفاهيم أو فروض أو نظريات فى كافة العلوم الفلسفية منها أو الطبيعية أو الإنسانية، إلى وضع فلسفة شاملة تكون بمثابة معيار لفحص منهجى لكافة العلوم.
ومن هنا فقد حاولت صياغة منهج معرفى أساسه العودة إلى الأشياء نفسها، إلى البحث المباشر فى الظواهر كما “يخبرها” الوعى بتحرر كامل من أى مفاهيم أو نظريات مفسرة مسبقة، وسعت إلى أن يكون لهذا المنهج شروط الوثوق والتحقق بالدرجة التى تجعل من نسقها علما صارما.
وبالنسبة لهوسرل فإن العلم الفلسفى الصارم الذى ينشده هو علم منظوم Systematic ولكنه ليس نسقا بالمعنى المذهبى System، ويصعب على هذا الأساس تصنيف الفينومينولوجيا كمذهب، فهى أقرب إلى المنهج ذى الطابع التساؤلى الجذرى، هى فلسفة غير مكتملة، طابعها البحث المستمر..، متفتحة ومرنة.
وهناك من يمكن أن يقول بأنه من طبيعة الفلسفة أو ماهيتها ألا تكون علمية، ولكن هوسرل يرفض قبول مثل هذا الاستنتاج، ويقول بأن احتمال العلم الصارم فى أى مجال يتطلب احتمالا بعلم فلسفى صارم، لأن مثل هذا العلم الفلسفى فحسب هو الذى يمكن أن يضمن الطابع العلمى الصادق لأى عام متخصص.
ننتقل الآن إلى عرض النسق الذى تقدمه الفلسفة الفينومينولوجيا والأسلوب الذى سأتبعه فى ذلك – سعيا إلى الوضوح الممكن – هو عرض المفاهيم الأساسية التى تتضمنها كرؤوس موضوعات تتحدد من خلالها، ومن مجموعها، الملامح الرئيسية للفينومينولوجيا، ومنها أنتقل إلى عرض لخطوات المنهج الفينوميولوجى، ثم يختتم هذا القسم بنظرة عامة تشتمل على بعض الملامح والملاحظات الإضافية.

(1) المفاهيم الأساسية
1- الظاهرة:
الظاهرة Phenomenon هى موضوع الفينومينولوجيا، ومنه يشتق اسمها، والتعبير عموما يعنى أى موضوع Object (شئ أو حقيقة أو واقعة) قابل للإدراك والملاحظة.
وفى الفلسفة يستخدم التعبير بشكل عام للإشارة إلى موضوعات الأحاسيس (السمع أو الرؤية … الخ) فى مقابل ما يفهم بالعقل، أو ما يستوعب فوريا بواسطة الحواس قبل القيام بأى حكم، إلا أن الكلمة لم تصبح أبدا اصطلاحا فنيا محددا بهذا المعنى حيث يفضل الكثير من الفلاسفة تعبيرات مثل “معطيات الحس” Sense Data. وفى أحيان أخرى يصطبغ التعبير فى الفلسفات المختلفة وفقا للنسق المذهبى لكل منها، ففى فلسفة “كانت” على سبيل المثال يستعمل لفظ الظاهرة للإشارة إلى “المظاهر العقلية الواعية” أو الأشياء كما تبدو لنا وذلك فى مقابل الأشياء فى ذاتها Noumena، وهى مالا يمكن ملاحظته أو معرفته أو الوعى به بشكل مباشر.
وبالنسبة لنسق الفينومينولوجيا فإن للظاهرة مفهوم محدد حيث تفهم بوصفها “الموضوع المعروف فى الوعى وبواسطته [4] “
ولفظ “المعروف” هنا له معنى واسع يشمل كل كيفيات الوعى مثل الحدس والإدراك والتخيل والتذكر والحكم.. الخ، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الحدس يأخذ وضعا متميزا فى الفلسفة الفينومينولوجية كما سنرى.
والموضوع المعروف يمكن أن يكون شيئا أو واقعة أو حالة من حالات الأمور، وهذا يعنى نطاقا واسعا غير محدود بالخبرات الحسية المجردة، فالفينومينولوجيا تسمح – وعلى قدم المساواة – بمعطيات غير حسية مثل العلاقات والقيم طالما أنها تقدم نفسها بشكل حسدسى، وتعتبرها موضوعات قابلة للفحص المعرفى والدراسة العلمية.
والمعرفة‏ ‏فى ‏الوعى ‏وبواسطته‏ ‏شرط‏ ‏أساسى ‏من‏ ‏شروط‏ ‏الظاهرة‏ ‏كما‏ ‏تفهمها‏ ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فهى ‏تعتبر‏ ‏نفسها‏ ‏غير‏ ‏معنية‏ ‏بأى ‏وجود‏ ‏أو‏ ‏موجودات‏ ‏افتراضية‏ ‏أو‏ ‏مخمنة‏ ‏أو‏ ‏مستدل‏ ‏عليها‏ ‏بوصفها‏ ‏خارج‏ ‏نطاق‏ ‏الوعى, ‏ولايجب‏ ‏أن‏ ‏يفهم‏ ‏هذا‏ ‏بوصفه‏ ‏نظرة‏ ‏ضيقة‏ ‏لأن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الحقائق‏ – ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏حقائق‏ ‏نهائية‏ ‏تعتبرها‏ ‏فلسفات‏ ‏أخرى ‏غير‏ ‏قابلة‏ ‏للمعرفة‏ – ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكشف‏ ‏فى ‏الوعى ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
‏2 – ‏الوعى .. ‏أفعال‏ ‏الوعى .. ‏التكوين‏ .. ‏والقصدية‏ ‏أو‏ ‏الاحالة‏.‏
تفهم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏الموضع‏ ‏الذى ‏يتم‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏تكوين‏ ‏وإنشاء‏ ‏المعانى ‏وهو‏ ‏بهذا‏ ‏المفهوم‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏أو‏ ‏موجود‏ ‏من‏ ‏الموجودات‏ .. ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏الحقيقة‏ ‏المبدئية‏ ‏أو‏ ‏المبدأ‏ ‏الذى ‏يكتسب‏ ‏بفضله‏ ‏أى ‏موجود‏ ‏
أو‏ ‏موضوع‏ ‏كل‏ ‏ماله‏ ‏من‏ ‏معنى ‏أو‏ ‏قيمة‏ ‏بالقياس‏ ‏إلينا‏, ‏هو‏ ‏مركز‏ ‏كل‏ ‏وجود‏ ‏فكل‏ ‏وجود‏ ‏حقيقى ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏الوعى‏.‏
لهذا‏ ‏الوعى ‏افعال acts (‏مثل‏ ‏الإدراك‏ ‏بأنواعه‏, ‏والتفكير‏, ‏والتخيل‏, ‏والذاكرة‏, ‏والحدس‏, ‏والرغبة‏… ‏الخ‏), ‏ومفهوم‏ “‏فعل‏” ‏الوعى ‏هنا‏ ‏لايقصد‏ ‏به‏ ‏مجرد‏ ‏الفعل‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏بمعناه‏ ‏الحركى action ‏وإنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏علاقه‏ ‏تكوينية‏ ‏مع‏ ‏الموضوعات‏ ‏والاحداث‏.‏
وهذا‏ ‏يأتى ‏بنا‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏التكوين‏ constitution ‏ويقصد‏ ‏به‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏تقوم‏ ‏بها‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏والتى ‏بواسطتها‏ ‏يصبح‏ ‏الموضوع‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏الواعية‏ ‏للفرد‏, ‏فالموضوع‏ ‏يتكون‏ ‏فى ‏الوعى ‏بواسطة‏ ‏أفعاله‏, ‏ولكن‏ ‏بما‏ ‏أن‏ ‏الموضوع‏ ‏موجود‏ ‏خارج‏ ‏الذات‏ ‏فإن‏ ‏فكرة‏ ‏التكوين‏ ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏تفسر‏ ‏بمعنى ‏مثالى [5] ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏لاتعنى ‏خلق‏ ‏أو‏ ‏اصطناع‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏الشيء‏ ‏بواسطة‏ ‏الذات‏, ‏وإنما‏ ‏تعنى ‏ببساطه‏: ‏التكوين‏ ‏الدعائمى ‏لمعنى ‏الموضوع‏, ‏فهناك‏ ‏معنى ‏فقط‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏الذى ‏يكونه‏ ‏بواسطة‏ ‏أفعاله‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏الإطار‏ ‏فإن‏ ‏الوعى ‏يكتسب‏ ‏معنى ‏العامل‏ ‏النشط‏.., ‏ولا‏ ‏يكون‏ ‏مجرد‏ ‏تلقى ‏سلبى.‏
ولعل‏ ‏أهم‏ ‏المفاهيم‏ ‏التى ‏تستند‏ ‏إليها‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ Intentionality ‏أو‏ ‏الطابع‏ ‏القصدى ‏للوعى ‏الذى ‏أخذه‏ ‏هوسرل‏ ‏عن‏ ‏أستاذه‏ “‏فرانز‏ ‏برنتانو‏” Franz Brentano ‏والذى ‏يعد‏ ‏مفتاح‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لفهم‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والوجود‏ ‏بموضوعاته‏ ‏أو‏ ‏موجوداته‏.‏
والمقصود‏ ‏بهذا‏ ‏المفهوم‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏شأن‏ ‏كل‏ ‏وعى ‏أن‏ ‏يتجه‏ ‏نحو‏ ‏موضوع‏ ‏أو‏ ‏يستهدف‏ ‏شيئا‏, ‏فالإدراك‏ ‏الحسى ‏هو‏ ‏إدراك‏ ‏لموضوع‏ ‏ما‏.. ‏والرغبة‏ ‏هى ‏رغبة‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏ما‏.. ‏والحكم‏ ‏هو‏ ‏حكم‏ ‏على ‏حالة‏ ‏قائمة‏ ‏من‏ ‏حالات‏ ‏الأشياء‏.‏
ومن المهم أن نوضح هناأن التعبير قد يكون مضللا بعض الشئ للقارئ غير الدارس للفلسفة حيث أن القصد Intention يبدو للوهلة الأولى متضمنا فى معناه نوعا من الفعل الإرادى ولكنه يستخدم فى الفينومينولوجيا استخداما اصطلاحيا بمعنى أقرب إلى “الإحالة” reference ، الإحالة إلى شئ أو الإحالة إلى موضوع . .، أى أن الوعى يوجد أو يصبح وعيا بالإحالة إلى شئ أو موضوع ، وأفعال الوعى لا تصبح واعية حتى تندمج بموضوعات، فليس هناك إدراك دون شئ يدرك وليست هناك إرادة دون شئ يراد . . إلخ.
من ناحية أخرى فإن وجود موضوع ما هو وجود فى الوعى أو العقل الواعى ولا يمكن تصور موضوع دون ذات تعيه وتعطيه معنى . . أى أن الموضوع موجود بالأحالة إلى الوعى، بذلك فإن القصدية هى “علاقة إحالة متبادلة بين الوعى أو أفعال الوعى وموضوعات الوجود الخارجى” . . وهذه العلاقة هى ما يعطى الوعى صفاته الأساسية.
عن هذه العلاقة القصدية كتب هوسرل يقول 6 “فى كل كل الخبرات النفسية الصافية (فى إدراك شئ فى الحكم بشأن شئ . . فى التمتع بشئ . . فى الأمل فى شئ) . .
فإن فهناك فى صلب المسألة وجود يتم التوجه نحوه towards –directed – being إن الخبرات قصدية، وهذا الوجود المتوجه نحوه ليس متصلا بالخبرة فى شكل مجرد إضافة فقط، أو بشكل مؤقت وعرضى، كما لو أن الخبرات يمكن أن تصبح ما هى عليه دون العلاقة القصدية”، أى أن علاقة وعى الذات بالموضوعات ليست مجرد علاقة إضافة تضاف فيها موضوعات مستقلة إلى وعى منفصل عنها وإنما هى علاقة عضوية لايكون للوعى فيها وجود ردون موضوعه. ولا يكون للموضع فيها وجود دون الوعى الذى يعطيه معناه، هى علاقة “معية” تربط الذات بالأشياء أو الموضوعات مباشرة دون أن يكون هناك موضع للفصل بين “الذات الواعية أو العارفة” و”الموضوع المعروف” من هنا فإن مفهوم العلاقة القصدية يصل بنا إلى نتيجة هامة حيث يحقق توحيدا بين ما هو “ذاتى” وما هو “موضوعى”. . ويستغنى من البداية عن هذه الثنائية التقليدية.
وإذا كان مفهوم الإحالة القصدية إلى الموضوعات يشير ضمنيا إلى أن هذه الموضوعات توجد مستقلة عن الوعى فإنه بمجرد أن يستوعب الفرد الظواهر سيكولوجيا فإنها تصبح باطنة immanent فى الوعى وذاتيه.
والفينومينولوجيا بهذا تختلف عن الفلسفات التجريبية التى تقتصر على تقرير وجود موضوعات مستقلة عن الذات أو الوعى دون أن تحاول اعتبار دور الوعى فى فهم هذه الموضوعات أو تكوين معانيها.
الفينومينولوجيا إذن فى سعيها إلى هدفها وهو تحقيق معرفة حقيقة وعلملية بالوجور قد توصلت إلى وضع هذه المفاهيم الأساسية التى تحدد العلاقة بين الوعى والوجود ومنها يمكننا أن ندرك أو الوجود متاح لنا فقط كمصاحب لأفعال واعية قصدية، والمفتاح إلى المعرفة بالوجود فى ماهيته هو تحليل أفعال الوعى القصدية هذه :
1- بتركيباتها الذاتية كأفعال للوعى Noesis وهو ما يتطلب وصف الاتجاهات الذاتية للخبرة.
2- وتركيباتها الموضوعية كأفعال قاصدة موضوعات Noema 7 أى العناصر الموضوعية المتوجه نحوها فى الخبرة (والمقابلة للتركيبات الذاتية) وهى ليست سوى ماهيات ثابتة ومرتبطة فيما بينها بمقتضى بعض العلاقات الضرورية الأولية.
بتوضيح‏ ‏أكثر‏ ‏لهذه‏ ‏المجموعة‏ ‏من‏ ‏المفاهيم‏ – ‏كما‏ ‏فهمتها‏ – ‏يمكن‏ ‏القول‏ ‏أن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏تحقيق‏ ‏المعرفة‏ ‏بالظواهر‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يعتمد‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏على ‏فحص‏ “‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏” ‏ليس‏ ‏بوصفها‏ “‏نوع‏” ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏وإنما‏ ‏لاعتقادها‏ ‏الأولى ‏بأنها‏ ‏المعرفة‏ ‏الوحيدة‏ ‏الممكنة‏, ‏فالظواهر‏ (‏بكل‏ ‏أنواعها‏) ‏ليست‏ ‏أشياء‏ ‏نعرفها‏ ‏كما‏ ‏هى ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏, ‏وإنما‏ ‏هى ‏أشياء‏ ‏تبطن‏ ‏فى ‏الذات‏ ‏بمجرد‏ ‏الوعى ‏بها‏ ‏حيث‏ ‏تصبح‏ ‏تمثيلات‏ representations ‏داخلية‏, ‏والتقاطها‏ ‏فى ‏الوعى ‏يصاحبه‏ ‏عملية‏ ‏إعطائها‏ ‏معنى‏, ‏فالوعى ‏بها‏ ‏ليس‏ ‏عملية‏ ‏استقبال‏ ‏سلبى ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يتوجه‏ ‏نحوها‏ (‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏إراديا‏) ‏ويضفى ‏عليها‏ (‏أو‏ ‏يكون‏) ‏معناها‏ ‏الذى ‏يرتبط‏ ‏بتمثيلاتها‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏عضوية‏ ‏واحدة‏, ‏وليس‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏إضافة‏ ‏شىء‏ ‏إلى ‏شىء‏.‏
والمعرفة‏ ‏بالظاهرة‏ ‏الملتقطة‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى ‏تتم‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏بفحص‏ ‏الخبرة‏ ‏التى ‏تمت‏ ‏فيها‏ ‏المعرفة‏ (‏أى ‏فعل‏ ‏الوعى ‏الذى ‏تمت‏ ‏به‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏) ‏وذلك‏, ‏يتضمن‏ ‏تحليلها‏ ‏إلى ‏تركيباتها‏ ‏الذاتية‏ ‏النابعة‏ ‏من‏ ‏الذات‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏والمتوجهة‏ ‏نحو‏ ‏الظاهرة‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏تضفيه‏ ‏عليها‏ ‏وتركيباتها‏ ‏الموضوعية‏ ‏التى ‏هى ‏تمثيلات‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏.‏
‏3 – ‏الماهية‏.. ‏والحدس‏.‏
هناك‏ ‏الوعى‏.. ‏وهناك‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏وهناك‏ ‏توجه‏ ‏قصدى ‏تكوينى ‏لهذه‏ ‏الافعال‏ ‏نحو‏ ‏الموجودات‏ ‏أو‏ ‏الموضوعات‏, ‏أو‏ ‏علاقة‏ ‏إحالة‏ ‏متبادلة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏وهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏بدونها‏ ‏لايكون‏ ‏أيهما‏ ‏فى ‏حيز‏ ‏الوجود‏, ‏والآن‏.. “‏ماهى‏” ‏هذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏التى ‏يقصدها‏ ‏الوعى ‏وتتكون‏ ‏فيه؟‏. ‏إن‏ ‏المعرفة‏ ‏بحقائق‏ ‏ومعان‏ ‏ثابتة‏ ‏لاتتغير‏ ‏بتغير‏ ‏الظروف‏ ‏أو‏ ‏الأفراد‏, ‏وهذا‏ ‏ممكن‏ ‏فحسب‏ ‏بمعرفة‏ “‏ماهية‏” ‏هذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏أو‏ ‏الظواهر‏.‏
‏”‏فالماهية‏” essence ‏فى ‏أشمل‏ ‏تعريف‏ ‏لها‏ ‏هى “‏تركيبات‏ ‏الظاهرات‏ ‏الجوهرية‏ ‏الثابتة‏ ‏وغير‏ ‏القابلة‏ ‏للتغير‏”, ‏هى ‏العنصر‏ ‏الثابت‏ ‏الذى ‏يظل‏ ‏باقيا‏ ‏فى ‏وجه‏ ‏الكثرة‏ ‏اللامتناهية‏ ‏من‏ ‏الخبرات‏ ‏الفردية‏, ‏هى “‏معني‏” ‏أو‏ “‏دلالة‏” ‏أو‏ “‏صورة‏ Eedos” ‏الشىء‏ ‏التى ‏تظل‏ ‏قائمة‏ ‏فى ‏الذهن‏ ‏بملامح‏ ‏ثابتة‏ ‏مهما‏ ‏تنوعت‏ ‏الخبرات‏ ‏المتعلقة‏ ‏بها‏.‏
ويمكننا‏ ‏تصور‏ ‏أصل‏ ‏مفهوم‏ “‏الماهية‏” ‏وأهميتة‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إذا‏ ‏أخذنا‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏الأصول‏ ‏الرياضية‏ ‏لأفكار‏ ‏هوسرل‏ 8, ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏هوسرل‏ ‏مأخوذا‏ ‏بالنموذج‏ ‏الرياضى ‏للعلم‏ ‏بدقته‏ ‏وصرامته‏ ‏واتفاق‏ ‏العقول‏ ‏فيه‏ ‏بشكل‏ ‏قاطع‏, ‏وكان‏ ‏واعيا‏ ‏بأن‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏عناصر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الدقة‏ ‏والاتفاق‏ ‏هو‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏كأسس‏ ‏أولية‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏واعيا‏ ‏بالوظيفة‏ ‏التكوينية‏ ‏التى ‏يقوم‏ ‏بها‏ ‏العقل‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بهذه‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏التى ‏يعمل‏ ‏بها‏.‏
هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏ليست‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏عالم‏ ‏الأشياء‏ ‏ولا‏ ‏مجردة‏ ‏منه‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهى ‏معطاة‏ ‏بشكل‏ ‏يقينى ‏معصوم‏ ‏من‏ ‏الخطأ‏, ‏هى ‏ليست‏ ‏معطاة‏ ‏عطاء‏ ‏أى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏المحسوس‏ ‏أو‏ ‏الحسى ‏وإنما‏ ‏هى ‏معطاة‏ ‏ذهنيا‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏هى ‏موضوعية‏ ‏بشكل‏ ‏مثالى (‏تصورى ‏أو‏ ‏ذهني‏) ‏ومرئية‏ ‏بواسطة‏ ‏العقل‏ ‏يوصفها‏ ‏بالضرورة‏ ‏كما‏ ‏هى ‏بالضبط‏.‏
وقواعد‏ ‏وجود‏ ‏هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏وعلاقاتها‏ ‏هى ‏قواعد‏ ‏قبلية‏ ‏أولية‏ apriori( 9) ‏ولا‏ ‏تعتمد‏ ‏بأى ‏حال‏ ‏على ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التجربة‏ ‏بالمعنى ‏الضيق‏… ‏لأنها‏ ‏قواعد‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏الذاتية‏ ‏التى ‏منها‏ ‏تنبع‏ ‏كل‏ ‏القصدية‏ ‏والتكوين‏.‏
‏ ‏وكأنما‏ ‏أراد‏ ‏هوسرل‏ ‏بسعيه‏ ‏إلى ‏اكتشاف‏ ‏الماهيات‏ ‏كأساس‏ ‏معرفى ‏من‏ ‏أسس‏ ‏علمه‏ ‏الفلسفى ‏الفينومينولوجى (‏وبالتالى ‏للعلوم‏ ‏النوعية‏ ‏المختلفة‏ ‏التى ‏تنبنى ‏على ‏الأسس‏ ‏المعرفية‏ ‏للفينومينولوجى ‏كعلم‏ ‏أولي‏) ‏أن‏ ‏يقيم‏ ‏العلم‏ ‏على ‏أسس‏ ‏يقينية‏ ‏وصادقة‏ ‏بدرجة‏ ‏مماثلة‏ ‏أو‏ ‏مشابهة‏ ‏للنموذج‏ ‏الرياضى ( 10).‏
إن‏ ‏ماهية‏ ‏الأشياء‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏هوسرل‏ ‏هى ‏حقيقة‏ ‏المعرفة‏ ‏عنها‏. ‏وفى ‏البحث‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ (‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏شيئا‏.. ‏أو‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏حالات‏ ‏الأمور‏ ‏أو‏ ‏عملية‏ ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏إجتماعى ‏أو‏ ‏ثقافة‏… ‏الخ‏) ‏فإن‏ ‏الباحث‏ ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏يقنع‏ ‏بمعرفة‏ ‏صادقة‏ ‏عمليا‏ ‏فحسب‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏تمثلة‏ ‏العلوم‏ ‏الوضعية‏ ‏فى ‏تركيزها‏ ‏على ‏ارساء‏ ‏قوانين‏ ‏تمكن‏ ‏العالم‏ ‏من‏ ‏التنبؤ‏ ‏بما‏ ‏ستفعله‏ ‏الأشياء‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏معينة‏ ‏دون‏ ‏اهتمام‏ “‏بما‏ ‏هي‏” ‏الأشياء‏, ‏وإنما‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يخترق‏ ‏إلى ‏الصدق‏ ‏الأعمق‏ ‏الراسخ‏ ‏فى ‏ماهية‏ ‏الموضوع‏ ‏تحت‏ ‏البحث‏, ‏وهذه‏ ‏الماهية‏ ‏هى ‏التفسير‏ ‏النهائى ‏للطريقة‏ ‏التى ‏تسلك‏ ‏بها‏ ‏الأشياء‏ ‏لأنها‏ ‏هى ‏ماهى ‏عليه‏.‏
فالفينومينولوجيا‏ ‏إذن‏ ‏لاترضى ‏بأقل‏ ‏من‏ ‏معرفة‏ ‏بالماهيات‏ ‏بوصفها‏ ‏الأساس‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينبنى ‏عليه‏ ‏أى ‏علم‏ ‏فى ‏مجاله‏.. ‏وهى ‏لاتعتبر‏ ‏هذا‏ ‏ممكنا‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏تعتبره‏ ‏الأساس‏ ‏الوحيد‏ ‏لمعرفة‏ ‏يقينية‏ ‏حقيقية( 11).‏
والآن‏.. ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏التوصل‏ ‏الى ‏معرفة‏ ‏بالماهيات؟
السبيل‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏كما‏ ‏تحدده‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏هو‏ ‏الحدس‏ Intution ‏فمثلما‏ ‏تلتقط‏ ‏الحقائق‏ ‏الطبيعية‏ ‏فى ‏الادراك‏.. ‏تلتقط‏ ‏الماهيات‏ ‏فى ‏الحدس‏.. ‏وهكذا‏ ‏يمكن‏ ‏التقاطها‏ ‏على ‏الإطلاق‏.‏
فالحدس‏ ‏هنا‏ ‏كما‏ ‏تراه‏ ‏الفينومينولوجيا‏.. ‏هو‏ ‏حضور‏ ‏أو‏ ‏تجسد‏ ‏الماهية‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏ضرورة‏ ‏وصدق‏ ‏شامل‏, ‏إنه‏ “‏حدس‏ ‏ذهني‏”, ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏حدس‏ ‏متميز‏:‏
‏- ‏فهو‏ ‏شيء‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ ‏البسيطة‏ ‏التى ‏تحتويها‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏الأخرى ‏مثل‏ ‏الادراك‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏.‏
‏- ‏وهو‏ ‏يعنى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏الاتصال‏ ‏التجريبى ‏بموضوع‏, ‏ولكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ليس‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الاختراق‏ ‏الصوفى ‏إلى ‏عالم‏ ‏من‏ ‏الماهيات‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏تناول‏ ‏التفكير‏ ‏العقلانى.‏
‏- ‏وعلى ‏عكس‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏قالوا‏ ‏بالحدس‏ ‏قبل‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏وأعطوه‏ ‏طابعا‏ ‏مباشرا‏ ‏آنيا‏ ( 12). ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لاتعتبر‏ ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ ‏نقطة‏ ‏بدء‏ ‏تبدأ‏ ‏منها‏ ‏عملية‏ ‏التعقيل‏, ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏نقطة‏ ‏وصول‏ ‏ينتهى ‏إليها‏ ‏الباحث‏ ‏بعد‏ ‏بحث‏ ‏شاق‏, ‏إن‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏لايبدأ‏ ‏بالحدس‏.. ‏وإنما‏ ‏يقود‏ ‏المنهج‏ ‏كله‏ ‏إليه‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏الحدس‏ – ‏الماهيات‏ ‏أو‏ ‏التركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏للظواهر‏ – ‏هو‏ ‏ببساطة‏ ‏عملية‏ ‏يتم‏ ‏فيها‏ ‏استبعاد‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏ ‏للموضوع‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏الصفات‏ ‏الثابتة‏ ‏التى ‏يؤدى ‏محوها‏ ‏إلى ‏اختفاء‏ ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏, ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏تجربة‏ ‏واحدة‏.. ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏تجارب‏ ‏متعددة‏ ‏يكون‏ ‏الفرد‏ ‏فيها‏ ‏تنويعات‏ ‏عديدة‏ ‏من‏ ‏المعطى.. ‏وبينما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏التعدد‏ ‏يركز‏ ‏الانتباه‏ ‏على ‏مايبقى ‏ثابتا‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏التغييرات‏.. ‏والذى ‏يؤدى ‏محوه‏ ‏إلى ‏القضاء‏ ‏على ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏, ‏أى ‏أن‏ ‏الماهية‏ ‏هى ‏الشيء‏ ‏المتماثل‏ ‏الذى ‏يحتفظ‏ ‏بنفسه‏ ‏بشكل‏ ‏دائم‏ ‏خلال‏ ‏عملية‏ ‏التغيير‏ ‏والتنويع‏, ‏لذا‏ ‏أسماها‏ ‏هوسرل‏ ‏بالثابت‏ invariant , ‏ويمكن‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏بصيرة‏ ‏بها‏ ‏على ‏أساس‏ ‏من‏ ‏الدراسة‏ ‏الدقيقة‏ ‏لأمثلة‏ ‏عينية‏ ‏تمدنا‏ ‏بها‏ ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏, ‏وبتنويعات‏ ‏منظمة‏ ‏لهذه‏ ‏الأمثلة‏ ‏فى ‏الخيال‏. ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏فإن‏ ‏هوسرل‏ ‏يقرر‏ ‏أن‏ ‏الماهيات‏ ‏هى “‏حقائق‏” ‏عينية‏” ‏تظل‏ ‏قائمة‏ ‏وتعبر‏ ‏عن‏ ‏وقائع‏ ‏مستقلة‏ ‏أو‏ ‏مضامين‏ ‏حقيقية‏ ‏قائمة‏ ‏بذاتها‏, ‏بينما‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏ ‏التى ‏تلحق‏ ‏بالموضوعات‏ ‏إنما‏ ‏هى “‏تجريدات‏” ‏أو‏ ‏مضامين‏ ‏ناقصة‏, ‏وليست‏ ‏ثابتة‏ ‏أو‏ ‏أساسية‏ ‏أو‏ ‏جوهرية‏, ‏فالماهية‏ ‏ليست‏ ‏حقيقة‏ ‏مجردة‏ ‏وإنما‏ ‏حقيقة‏ ‏عينية‏ ( 13) .concrete ‏مفهوم‏ “‏الماهية‏” ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏ذو‏ ‏أهمية‏ ‏مركزية‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏ويصل‏ ‏فى ‏أهميته‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏أن‏ ‏البعض‏ ‏يعرف‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏كلها‏ ‏بوصفها‏ “‏منهج‏ ‏حدسى ‏للحصول‏ ‏على ‏بصيرة‏ ‏فى ‏التركيبات‏ ‏الماهوية‏” ( 14) ‏أو‏ ‏بوصفها‏ “‏علم‏ ‏الماهيات‏”.‏
وهى ‏بهذا‏ ‏تصبح‏ ‏علما‏ ‏أوليا‏ ‏لكل‏ ‏العلوم‏ ‏أو‏ ” ‏علما‏ ‏للعلم‏” ‏لأنها‏ ‏تبحث‏ ‏فيما‏ ‏تعتبره‏ ‏العلوم‏ ‏الأخرى ‏ببساطة‏ ‏مسلمات‏ (‏أو‏ ‏تتجاهله‏) ‏ألا‏ ‏وهو‏ ‏ماهية‏ ‏موضوعاتها‏.‏
ومفهوم‏ ‏الماهية‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏مرتبط‏ ‏بمفاهيمها‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏وأفعاله‏ ‏وقصديته‏, ‏فالتقاط‏ ‏الماهية‏ ‏ليس‏ ‏شيئا‏ ‏يحدث‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏, ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏القصدية‏ ‏نفسها‏.‏
فأفعال‏ ‏الوعى ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏القول‏ ‏تتكون‏ ‏من‏ ‏شقين‏: ‏تركيبات‏ ‏ذاتية‏ ‏كأفعال‏ ‏للوعى ‏أو‏ ‏الذات‏ Noesis ‏وتركيبات‏ ‏موضوعية‏ ‏كأفعال‏ ‏قاصدة‏ ‏موضوعات‏ Noema , ‏وهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏ليست‏ ‏سوى ‏ماهيات‏ ‏ثابتة‏ ‏والمعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بها‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تكون‏ ‏معرفة‏ ‏ماهوية‏, ‏وهذه‏ ‏المعرفه‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بتحليل‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏القصدية‏ ‏حيث‏ ‏تكمن‏ ‏ماهيات‏ ‏الموضوعات‏ ‏التى ‏تم‏ ‏التقاطها‏ ‏وأصبحت‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏الوعى.‏
وهذا‏ ‏التصور‏ ‏بالضرورة‏ ‏يعطى ‏الماهيات‏ ‏طابعا‏ ‏مثاليا‏ (‏تصوريا‏ ‏أو‏ ‏ذهنيا‏) ‏لابديل‏ ‏عنه‏.‏
‏4‏ـ البينة‏ Evidence ‏
تعتبر‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ ‏مفهوما‏ ‏أساسيا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فالمعرفة‏ ‏فى ‏نظرها‏ ‏لاتصبح‏ ‏حقيقية‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏لها‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏إلا‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يصبح‏ ‏به‏ ‏موضوعها‏ ‏معطى ‏بشكل‏ ‏قاطع‏ ‏أو‏ ‏بينا‏ ‏بما‏ ‏لايدع‏ ‏مجالا‏ ‏للشك‏, ‏فنظريتها‏ ‏فى ‏البينة‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏إلى ‏التيقن‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏والتحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعات‏ ‏والتحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى.‏
فى ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ – ‏مفهوم‏ ‏البينة‏ – ‏تجتمع‏ ‏مفاهيم‏ ‏القصدية‏ ‏مع‏ ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ ‏لصياغة‏ ‏تصور‏ ‏كامل‏ ‏للعملية‏ ‏المعرفية‏ ‏الصادقة‏ ‏أو‏ ‏اليقينية‏.‏
البينة‏ ‏فى ‏الفينومنولوجيا‏ – ‏ببساطة‏ – ‏هى ‏التحقق‏ (‏أو‏ ‏الإكفاء‏) ‏الحدسى intutive fulfillment ‏ لقصد‏ ‏المعنى ‏الذى ‏هو‏ ‏بنفسه‏ ‏صورى ‏خاوى ‏أو‏ ‏فارغ‏.‏
فالوعى ‏بقصديته‏ ‏يتوجه‏ ‏أو‏ ‏يحال‏ ‏إلى ‏الموضوع‏ ‏ويضفى ‏عليه‏ (‏أو‏ ‏يتكون‏ ‏للموضوع‏ ‏فيه‏) ‏معنى ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏المعنى ‏يظل‏ ‏يظل‏ ‏صوريا‏ ‏خاويا‏ ‏مالم‏ ‏بمتلىء‏ ‏بحدس‏ ‏حى (‏خبرة‏ ‏حية‏) ‏بحقيقة‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏ماهيته‏.‏
ولنأخذ‏ ‏مثلا‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الاتصال‏ ‏اللغوى, ‏فاللغة‏ ‏تقوم‏ ‏بوظيفتها‏ ‏فى ‏الاتصال‏ ‏لأن‏ ‏المعنى ‏المعطى ‏لها‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الفرد‏ ‏الذى ‏يستعملها‏ ‏هو‏ ‏المعنى ‏الذى ‏يلتقطه‏ ‏الفرد‏ ‏الذى ‏يفهمها‏, ‏وإعطاء‏ ‏معنى ‏لتعبير‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يستخدم‏ ‏التعبير‏, ‏والتقاط‏ ‏معنى ‏التعبير‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يستخدم‏ ‏التعبير‏, ‏والتقاط‏ ‏معنى ‏التعبير‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يفهمه‏… ‏أى ‏أن‏ “‏قصد‏” ‏المعنى ‏هو‏ ‏الذى ‏يعطى ‏معنى ‏للتعبير‏, ‏ولكن‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الأمر‏ ‏اكثر‏ ‏من‏ ‏قصد‏ ‏للمعنى ‏فإن‏ ‏العلاقة‏ ‏الواعية‏ ‏بالنسبة‏ ‏لكلا‏ ‏الطرفين‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الاتصال‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏وهما‏, ‏والذى ‏ينقذها‏ ‏من‏ ‏الوهم‏ ‏هو‏ ‏التحقق‏ ‏أو‏ ‏الإكفاء‏ ‏الذى ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏الحدس‏ ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏حالة‏ ‏الأمور‏ ‏المعبر‏ ‏عنها‏ “‏مجرد‏ ‏مقصودة‏” ‏وإنما‏ ‏تصبح‏ “‏خبرة‏ ‏حية‏”.. ‏متجسدة‏ ‏أو‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏نفسها‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏الذى ‏يقصدها‏.‏
وعندما‏ ‏يكون‏ ‏الموضوع‏ ‏المقصود‏ ‏والموضوع‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏معطى ‏يكون‏ ‏بينا‏ ‏فقد‏ ‏تحققت‏ ‏قصديته‏ ‏أو‏ ‏أكفيت‏.‏
فالبينة‏ ‏إذن‏ ‏هى “‏الخبرة‏ ‏الحية‏” ‏للاتفاق‏ ‏بين‏ ‏المضمون‏ ‏المعطى ‏بواسطة‏ ‏النفس‏ ‏والمعنى ‏الحقيقى ‏للتعبير‏.. ‏بين‏ ‏القاصد‏ ‏والشيء‏ ‏الموجود‏ ‏بنفسه‏ ‏الذى ‏يقصده‏, “‏وفكرة‏” ‏هذا‏ ‏الاتفاق‏ ‏هى ‏الحقيقة‏.‏
إن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الخاصة‏ ‏بأى ‏شىء‏ ‏هى ‏فى ‏أصلها‏ ‏خبرة‏ ‏حية‏ ‏بحقيقة‏ ‏هذا‏ ‏الشىء‏, ‏هى ‏الوضوح‏ ‏البين‏ ‏بذاته‏ – ‏بشكل‏ ‏لايقبل‏ ‏التعارض‏ ‏أو‏ ‏التفرق‏ – ‏الذى ‏تتميز‏ ‏به‏ ‏لحظة‏ ‏الوعى ‏التى ‏يتقدم‏ ‏فيها‏ ‏الشىء‏ ‏نفسه‏ ‏متجسدا‏ ‏إلى ‏الوعى ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏الإدراك‏ ‏الحدسى ‏مفعما‏ ‏أو‏ ‏مليئا‏ ‏بالخبرة‏.‏
‏1 – ‏على ‏العكس‏ ‏من‏ ‏تصور‏ ‏فلاسفة‏ ‏آخرين‏ (‏مثل‏ ‏ديكارت‏) ‏والقائل‏ ‏بأن‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ ‏تدرك‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏آنية‏ ‏سريعة‏.. ‏فإن‏ ‏الفينومنولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏البيئة‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏تكوينها‏ ‏إلا‏ ‏بطريقة‏ ‏تدريجية‏, ‏فهى ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏نظره‏ ‏جزئية‏ ‏تلم‏ ‏فيها‏ ‏بجانب‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏الموضوع‏, ‏وتكون‏ ‏عملية‏ ‏الاكتشاف‏ ‏الكلى ‏تدريجية‏.‏
وإيضاح‏ ‏الماهية‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏يصبح‏ ‏ثمرة‏ ‏لعملية‏ ‏بطيئة‏.. ‏يتم‏ ‏فيها‏ ‏تصحيح‏ ‏ونقد‏ ‏البينات‏ ‏أو‏ ‏البداهات‏ ‏الأولية‏ ‏والتحقق‏ ‏منها‏, ‏ومثل‏ ‏هذا‏ ‏التحقق‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏عندئذ‏ ‏بالانتقال‏ ‏إلى ‏بينات‏ ‏أو‏ ‏بداهات‏ ‏أكمل‏ ‏وأوفى.‏
‏2 – ‏ليس‏ ‏للبينة‏ ‏نمط‏ ‏واحد‏, ‏فباختلاف‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏فإن‏ ‏عملية‏ ‏القصدية‏ ‏تحتمل‏ ‏أشكالا‏ ‏وأنماطا‏ ‏مختلفة‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يقابلها‏ ‏أشكال‏ ‏وأنماط‏ ‏مختلفة‏ ‏من‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ (‏بداهة‏ ‏المعرفة‏ ‏الحسية‏ ‏غير‏ ‏بداهة‏ ‏الموجودات‏ ‏وعلاقاتها‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الرياضية‏ ‏غير‏ ‏البداهة‏ ‏التى ‏ينطوى ‏عليها‏ ‏قانون‏ ‏فيزيائى…. ‏الخ‏).‏
البينة‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إذن‏ ‏هى ‏معيار‏ ‏للحقيقة‏ ‏أو‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏للمعرفة‏ ‏بالموجودات‏ ‏أو‏ ‏الموضوعات‏, ‏هى ‏معيار‏ “‏لما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏”.‏
‏”‏وما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏هو‏ ‏الهدف‏ ‏الأساسى ‏لسعى ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فهذه‏ ‏الفلسفة‏ ‏فى ‏سعيها‏ ‏نحو‏ ‏تحقيق‏ ‏معرفة‏ ‏علمية‏ ‏لا‏ ‏تستهدف‏ “‏الحقيقة‏” ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تستهدف‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏وهى ‏ليست‏ ‏علم‏ “‏ماهية‏ ‏الوجود‏”, ‏فهى ‏تسعى ‏الى ‏ضمان‏ ‏المعرفة‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏موجود‏.., ‏وبأنه‏ ‏حقيقى. ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏فإن‏ ‏البينة‏ ‏تصبح‏ ‏مفهوما‏ ‏محوريا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بل‏ ‏هى ‏غاية‏ ‏سعيها‏.. ‏لأن‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏هو‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏بين‏”.‏
‏5 – ‏المجالات‏ ‏العلموجودية‏ Regional ontologies ‏
العالم‏ ‏كما‏ ‏يراه‏ ‏هوسرل‏ ‏يخضع‏ ‏لتركيب‏ ‏علموجودى ‏مرتب‏ ontologically ordered ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الموضوعات‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏المختلفة‏ ‏تختلف‏ ‏فى ‏طبيعتها‏ ‏وهذا‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لكل‏ ‏علم‏ ‏معاييره‏ ‏الخاصة‏ ‏فى ‏تعريفه‏ ‏للحقيقة‏ ‏التى ‏تخص‏ ‏موضوعه‏ ‏وتحدد‏ ‏نطاقه‏ ‏أو‏ ‏مجاله‏, ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏ما‏ ‏يسميه‏ ‏بالمجالات‏ ‏العلموجودية‏ ‏أو‏ ‏نطاقات‏ ‏الوجود‏ realms of being ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏تلك‏ ‏التى ‏تختص‏ ‏بمجال‏ ‏الطبيعة‏, ‏المجال‏ ‏النفسى, ‏مجال‏ ‏الروح‏… ‏الخ‏ , ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ميز‏ ‏بين‏ ‏مجالات‏ ‏علموجودية‏ ‏صورية‏ – formal ‏مثل‏ ‏مجال‏ ‏المنطق‏ – ‏وأخرى ‏مادية‏ material ‏مثل‏ ‏مجال‏ ‏الطبيعة‏.‏
ولكل‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المجالات‏ “‏ماهيته‏ ‏المجالية‏” regional essence ‏وهى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏القبلية‏ apriori ‏أو‏ ‏الافتراضات‏ ‏القبلية‏ ‏العاملة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجال‏ (‏أو‏ ‏علم‏) ‏على ‏حدة‏ ‏وتتناسب‏ ‏مع‏ ‏مضمون‏ ‏المجال‏ ‏العلموجودى ‏لهذا‏ ‏العلم‏, ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏نقل‏ ‏هذه‏ ‏الافتراضات‏ ‏بين‏ ‏مجال‏ ‏وآخر‏ ‏أو‏ ‏بين‏ ‏علم‏ ‏وآخر‏ ‏بشكل‏ ‏عشوائى, ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏مبررا‏ ‏فحسب‏ ‏وفقا‏ ‏لمناسبة‏ ‏الموضوع‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏البيولوجيا‏ (‏أى ‏الموضوعات‏ ‏على ‏المستوى ‏الفيزيائى ‏لظواهرها‏ ‏وليس‏ ‏موضوعات‏ ‏العلم‏ ‏ككل‏).‏
‏6 – ‏الذاتية‏ .. ‏الموضوعية‏ .. ‏والمثل‏ ‏الاعلى ‏للعلم‏ :‏
منذ‏ ‏البداية‏.. ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ ‏وضعت‏ ‏الفينولوجيا‏ ‏حدا‏ ‏للمفهوم‏ ‏الثنائى ‏عن‏ ‏ذاتية‏ ‏المعرفة‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏موضوعيتها‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏مجال‏ ‏للفصل‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ذاتى ‏وما‏ ‏هو‏ ‏موضوعى, ‏فوعى ‏الذات‏, ‏أى ‏أن‏ ‏وجود‏ ‏الموضوع‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏الوعى ‏أو‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏موضوع‏ ‏دون‏ ‏ذات‏ ‏تعيه‏ ‏وتكون‏ ‏معناه‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏موضوع‏ ‏دون‏ ‏ذات‏ ‏تعيه‏ ‏وتكون‏ ‏معناه‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏وعيها‏, ‏فوعى ‏الذات‏ ‏والموضوع‏ ‏يندمجان‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏عضوية‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏وجود‏ ‏أحدهما‏ ‏فيها‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏.‏
وإذا‏ ‏كان‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ ‏يعنى ‏ضمنيا‏ ‏أن‏ ‏الموضوعات‏ ‏توجد‏ ‏مستقلة‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏فإنه‏ ‏بوقوع‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏أو‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏الفرد‏ ‏الظواهر‏ ‏سيكولوجيا‏ ‏فإنها‏ ‏تصبح‏ ‏باطنة‏ immanent ‏فى ‏الوعى ‏وذاتية‏.‏
والمعرفة‏ ‏الموضوعية‏ (‏أى ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏بحقيقة‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏الظاهرة‏) ‏بذلك‏ ‏لاتصبح‏ ‏شيئا‏ ‏يحدث‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏تتم‏ ‏يفحص‏ ‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏حيث‏ ‏تبطن‏ ‏الموضوعات‏ (‏بوصفها‏ ‏جانب‏ ‏التركيبات‏ ‏الموضوعية‏ Noema ‏من‏ ‏الفعل‏), ‏أى ‏أن‏ ‏الموضوعية‏ ‏تصبح‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏ذاتية‏ ‏الوعى, ‏ولاتصبح‏ ‏القضية‏ ‏هنا‏ ‏هل‏ ‏هى ‏معرفة‏ ‏ذاتية‏ ‏أو‏ ‏موضوعية‏ ‏وإنما‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏هى ‏معرفة‏ ‏ذاتية‏ ‏نقية‏ ( 15), ‏معرفة‏ ‏يكتمل‏ ‏فيها‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏وتلتقط‏ ‏فيها‏ ‏الخبرة‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏بحيث‏ ‏تتبدى ‏الأشياء‏ “‏كما‏ ‏هي‏” ‏دون‏ ‏شوائب‏ ‏عرضية‏, ‏معرفة‏ ‏تتحقق‏ ‏فيها‏ ‏البينة‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏للموضوعية‏ ‏بوصفها‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏الذاتية‏, ‏فى ‏الذات‏ ‏المفكرة‏ ‏أو‏ ‏المتعقلة‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الموضوعية‏ ‏لابد‏ ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مثالية‏ ideal (‏تصورية‏ ‏أو‏ ‏ذهنية‏) ‏متجردة‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏الواقعى ‏للموضوعات‏ ‏فى ‏العالم‏.‏
وقد‏ ‏قاد‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏للموضوعية‏ ‏هوسرل‏ ‏إلى ‏صياغة‏ ‏تصور‏ ‏متكامل‏ ‏للمثل‏ ‏الأعلى ‏العلمى ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏المثالي‏; ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏تطمح‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تكونه‏.‏
وفقا‏ ‏لهذا‏ ‏المثل‏ ‏الأعلى ‏العلمى ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏المثالى ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏لأى ‏معرفة‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏فلسفية‏ ‏بشكل‏ ‏علمى ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏مبررة‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ (‏أى ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏القاطع‏ ‏من‏ ‏الصدق‏) ‏ممكن‏ ‏فحسب‏ ‏فى ‏باطن‏ ‏الوعى, ‏فهناك‏ ‏فقط‏ ‏يوجد‏ ‏اتصال‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والموضوعية‏. ‏هناك‏ ‏ثلاثة‏ ‏عوامل‏ ‏رئيسية‏ – ‏يمكن‏ ‏تتبعها‏ ‏فى ‏أفكار‏ ‏هوسرل‏ – ‏وتساعد‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏طريق‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏, ‏وبالتالى ‏المثل‏ ‏الأعلى ‏للعلم‏ (16):‏
‏1 – ‏معرفه‏ ‏يتحدد‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى ‏بواسطة‏ ‏فحص‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏القصدى ‏نفسه‏: ‏إن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بتقرير‏ ‏حقيقة‏ ‏أو‏ ‏زيف‏: ‏موضوعها‏ ‏أو‏ ‏مايحكم‏ ‏عليه‏ ‏وإنما‏ ‏بصدق‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏صدق‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏نفسه‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏فإن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏لاتتم‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏بالحكم‏ ‏على ‏فعل‏ ‏الوعى ‏أو‏ ‏عملية‏ ‏الإحالة‏, ‏والسؤال‏ ‏الذى ‏يجب‏ ‏توجيهه‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ “‏ماذا‏ ‏أخبر؟‏” ‏وإنما‏ “‏ماهى ‏خبرتي؟‏”, ‏إذا‏ ‏التقطت‏ ‏الخبرات‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏فإن‏ ‏موضوعها‏ (‏جانب‏ ‏التركيبات‏ ‏الموضوعية‏ Noema ‏من‏ ‏فعل‏ ‏الوعي‏) ‏يكون‏ ‏ملتقطا‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏أى ‏يصبح‏ ‏معروفا‏.‏
ولاتدخل‏ ‏أى ‏عناصر‏ ‏من‏ ‏خارج‏ ‏العقل‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏.. ‏فإن‏ ‏العقل‏ ‏نفسه‏ ‏يكشف‏ ‏عن‏ ‏صدقه‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏صدقه‏, ‏وذلك‏ ‏على ‏أساس‏ ‏الشروط‏ ‏والقواعد‏ ‏القبلية‏ ‏للتفكير‏ ‏الصادق‏.‏
والحكم‏ ‏على ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏يشمل‏ ‏ضمنيا‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏التركيبات‏ ‏الذاتية‏ Noesis ‏من‏ ‏الفعل‏ ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الملاحظ‏ ‏أو‏ ‏الذات‏ ‏العارفة‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏توضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏على ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏للمعرفة‏.‏
وصفة‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى objective validity ‏إذا‏ ‏أضيفت‏ ‏إلى ‏الفعل‏ ‏المعرفى ‏فإن‏ ‏لهذا‏ ‏دلالة‏ ‏كبيرة‏, ‏فمثل‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏لا‏ ‏يقصد‏ ‏موضوعه‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏فى ‏حقيقته‏ ‏فحسب‏, ‏وإنما‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏ينقص‏ ‏شيء‏ ‏من‏ ‏اكتمال‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏فإن‏ ‏اكتماله‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏أى ‏فعل‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏النوع‏ ‏ويقصد‏ ‏نفس‏ ‏الموضوع‏ ‏سوف‏ ‏يتفق‏ ‏بالضرورة‏ ‏معه‏.‏
‏2 – ‏الضرورة‏ ‏المستمرة‏ ‏للبداية‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏أو‏ ‏العودة‏ ‏للبدايات‏ ‏فى ‏اكتساب‏ ‏المعرفة‏ ‏العلمية‏:‏
من‏ ‏خلال‏ ‏التصورات‏ ‏السابقة‏ ‏يمكننا‏ ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏هوسرل‏ ‏يقدم‏ ‏منهجا‏ ‏لاختزال‏ ‏كل‏ ‏الموضوعية‏ ‏إلى ‏ذاتية‏ ‏ويعتبر‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الضمان‏ ‏الحقيقى ‏للموضوعية‏.‏
وهو‏ ‏بذلك‏ ‏يعتبر‏ ‏أن‏ ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏هى ‏الفلسفة‏ ‏الذاتية‏ ‏بشكل‏ ‏جذرى ‏حيث‏ ‏نجحت‏ ‏فى ‏إغلاق‏ ‏الهوة‏ ‏بين‏ ‏الذاتية‏ ‏والموضوعية‏.‏
وعلى ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏فإنه‏ ‏يشعر‏ ‏بالحاجة‏ ‏إلى ‏العودة‏ ‏باستمرار‏ ‏إلى ‏دعامتها‏ ‏الذاتية‏ ‏فالاختزال‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏القيام‏ ‏به‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏وكفى, ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏شيئين‏: ‏
‏1 – ‏أن‏ ‏كل‏ ‏فيلسوف‏ ‏أو‏ ‏عالم‏ ‏فينومينولوجى ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يبدأ‏ ‏من‏ ‏البداية‏, ‏ويحقق‏ ‏تأملا‏ ‏جذريا‏ ‏فى ‏ذاتيته‏ ‏الخاصة‏, ‏تأملا‏ ‏يتم‏ ‏فيه‏ ‏إعادة‏ ‏فحص‏ ‏لأفعال‏ ‏الوعى. (‏يقصديتها‏ ‏وتكوينها‏ ‏للمعنى.. ‏الخ‏), ‏أى ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏بخبرة‏ ‏المعرفة‏ ‏من‏ ‏بداياتها‏ ‏ويحقق‏ ‏إعادة‏ ‏التكوين‏ ‏الدعامى ‏لمعانى ‏الموجودات‏ ‏والوجود‏, ‏ولا‏ ‏يغنى ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏فيه‏ ‏سابقوه‏ ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏هوسرل‏ – ‏مؤسس‏ ‏المنهج‏ – ‏بكل‏ ‏الجهود‏ ‏التى ‏قام‏ ‏بها‏ ‏لإرساء‏ ‏دعائمه‏ ‏وتوصيلها‏ ‏للآخرين‏, ‏فالمشكلة‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏مشكلة‏ ‏أى ‏فيلسوف‏ “‏حدسي‏” ‏فى ‏محاولته‏ ‏لتوصيل‏ ‏حدسه‏, ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏حدسه‏ ‏جاهزا‏ ‏لمن‏ ‏بعده‏… ‏وإنما‏ ‏يستطيع‏ ‏تمهيد‏ ‏الأرض‏ ‏لحدس‏ ‏شخصى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يتبعه‏.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الاخترال‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏لايكفى ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يتكرر‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏, ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏العقل‏ ‏البشرى ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يضطر‏ ‏باستمرار‏ ‏إلى ‏العودة‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الاختزال‏ ‏فإنه‏ ‏مهدد‏ ‏باتباع‏ ‏انحرافه‏ ‏الطبيعى, ‏والعودة‏ ‏أدراجة‏ ‏إلى “‏الموضوعانية‏ objectivism” (17
‏3 – ‏العلم‏ ‏بوصفه‏ ‏تراكما‏ ‏لحقائق‏ ‏راسخة‏ ‏يمكن‏ ‏تحقيقها‏ ‏فحسب‏ ‏بالجهد‏ ‏المشترك‏ ‏لمجموع‏ ‏الباحثين‏:‏
مايسعى ‏إليه‏ ‏هوسرل‏ ‏هو‏ “‏معرفة‏ ‏علمية‏” ‏وليس‏ ‏مجرد‏ “‏آراء‏ ‏صحيحة‏”, ‏إن‏ ‏مضمون‏ ‏ما‏ ‏يعرفه‏ ‏إنسان‏ ‏وما‏ ‏يعتقده‏ ‏آخر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نفس‏ ‏الشيء‏ ‏ولكن‏ ‏الفرق‏ ‏هو‏ ‏فى ‏المبررات‏ ‏لتأكيد‏ ‏كل‏ ‏منهما‏.‏
إن‏ ‏جدة‏ ‏الحلول‏ ‏التى ‏تقدمها‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏للمشكلات‏ ‏المختلفة‏ (‏المنطقية‏, ‏والميتافيزيقية‏ ‏والأخلاقية‏ ‏والاجتماعية‏.. ‏الخ‏) ‏لاتعنى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحلول‏ ‏مختلفة‏ ‏بالضرورة‏ ‏عن‏ ‏تلك‏ ‏التى ‏سبق‏ ‏التوصل‏ ‏إليها‏ ‏فى ‏أوقات‏ ‏أو‏ ‏عصور‏ ‏سابقة‏, ‏ولكنها‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحلول‏ ‏قد‏ ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏صدقها‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏لم‏ ‏تتم‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏
إن‏ ‏العلم‏ ‏كما‏ ‏يراه‏ ‏هوسرل‏ ‏هو‏ ‏تراكم‏ ‏لتأكيدات‏ ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏منها‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏, ‏وهو‏ ‏مايجب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عليه‏ ‏العلم‏ ‏الفلسفى ‏الشامل‏ ‏الذى ‏تسعى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أن‏ ‏تكونه‏, ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏يتطلب‏ ‏وحدة‏ ‏للمنهج‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يجعله‏ ‏منظوما‏ systematic ‏ولكنه‏ ‏يتكون‏ ‏من‏ ‏معارف‏ ‏أو‏ ‏علوم‏ ‏عديدة‏ ‏لكل‏ ‏هذا‏ ‏لايعنى ‏أن‏ ‏الحقائق‏ ‏التى ‏تكتشفها‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏, ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏فإن‏ ‏العدد‏ ‏الضخم‏ ‏من‏ ‏الحقائق‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينشغل‏ ‏بها‏ ‏العلم‏ (‏سواء‏ ‏العلم‏ ‏الفلسفى ‏الشامل‏ ‏أو‏ ‏أى ‏علم‏) ‏تتجاوز‏ ‏القدرة‏ ‏الطبيعية‏ ‏لأى ‏إنسان‏ ‏فرد‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏جيل‏ ‏كامل‏, ‏والأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مساهمة‏ ‏عدد‏ ‏ضخم‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏يحركهم‏ ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏ويستخدمون‏ ‏نفس‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏ ‏المشترك‏ ‏لمجموع‏ ‏الباحثين‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يصنع‏ ‏جسدا‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏يوحده‏ ‏المنهج‏(18) ‏وينمو‏ ‏باضطراد‏ ‏لتحقيق‏ ‏مهمة‏ ‏العلم‏ ‏التى ‏يرى ‏هوسرل‏ ‏أنها‏ ‏لانهائية‏.‏
‏7 – ‏التطور‏ ‏او‏ ‏التحول‏ ‏الى ‏المثالية‏ (19) ‏المتعالية‏ (20) Transcendental idealism ‏حتى ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏فإن‏ ‏المفاهيم‏ ‏التى ‏عرضت‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏تصيغ‏ ‏تصوار‏ ‏لها‏ ‏بوصفها‏ ‏منهجا‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الظواهر‏ ‏للوصول‏ ‏الى ‏معرفة‏ ‏حقيقية‏ ‏بها‏. ‏بما‏ ‏هى ‏عليه‏, ‏أو‏ ‏بوصفها‏ ‏تأملا‏ ‏منهجيا‏ ‏فى ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏ما‏ ‏يكشف‏ ‏الوجود‏, ‏هى ‏بذلك‏ ‏نسق‏ ‏يمكن‏ ‏تسميته‏ “‏بعلم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏المتعالية‏”:‏
‏- ‏فهى ‏فينومينولوجيا‏ ‏لأنها‏ ‏تختص‏ ‏بالظواهر‏, ‏بوصفها‏ ‏المعطيات‏ ‏الوحيدة‏ ‏التى ‏فى ‏متناول‏ ‏الوعى.‏
‏- ‏وهى ‏علم‏.. ‏لأنها‏ ‏تصر‏ ‏على ‏تحقيق‏ ‏معرفة‏ ‏ثابتة‏ ‏ومؤكدة‏ ‏بالموضوعات‏, ‏معرفة‏ ‏بماهياتها‏ ‏بشكل‏ ‏قاطع‏ ‏وبين‏ ‏مستبعدة‏ ‏بذلك‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عرضى ‏وغير‏ ‏ثابت‏.‏
‏- ‏هى ‏متعالية‏ ‏لأنها‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏المعرفة‏ ‏بحقيقة‏ ‏الأشياء‏.. ‏يمكن‏ ‏اكتشافها‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏العقل‏ ‏أو‏ ‏الوعى.. ‏بالتأمل‏ ‏فى ‏الأفعال‏ ‏الذاتية‏ ‏بمصاحباتها‏ ‏لموضوعية‏ ‏الحتمية‏.‏
كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تقف‏ ‏الأمور‏ ‏عند‏ ‏هذا‏ ‏الحد‏ – ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏قنع‏ ‏به‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏متبعى ‏الفينومينولوجيا‏ – ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هوسرل‏ ‏تطور‏ ‏بأفكاره‏ ‏إلى ‏أبعاد‏ ‏جديدة‏ ‏صاغ‏ ‏فيها‏ ‏نظريته‏ ‏عن‏ “‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏” ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏اعتبره‏ ‏تطورا‏ ‏طبيعيا‏ ‏لنظريته‏ ‏ككل‏ ‏وعمل‏ ‏على ‏توضيحه‏ ‏حتى ‏أواخر‏ ‏أيامه‏, ‏بينما‏ ‏رأى ‏فيه‏ ‏آخرون‏ – ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏بعض‏ ‏تابعيه‏ – ‏تحولا‏ ‏إلى “‏مثالية‏ ‏متعالية‏” ‏أو‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏المثالية‏ ‏والتعالى.‏
انتهى ‏هوسرل‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الأخير‏ ‏هذا‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏بوجود‏ ‏ذات‏ ‏متعالية‏ Transcendental subjectivity ‏أو‏ ‏ذاتية‏ ‏متعالية‏Transcendental ego ‏هى ‏بمثابة‏ “‏وعى ‏خالص‏” pure consciousness ‏بالنسبة‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏يعتبر‏ ‏موضوعا‏, ‏وهو‏ ‏أرضية‏ ‏تأسيس‏ ‏وتكوين‏ ‏كل‏ ‏المعانى, ‏وإذا‏ ‏راجعنا‏ ‏المفاهيم‏ ‏الأولى ‏للقصدية‏ ‏أو‏ ‏الإحالة‏ ‏المتبادلة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والوجود‏ ‏بما‏ ‏يتضمنه‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏وحدة‏ ‏يتوقف‏ ‏فيها‏ ‏وجود‏ ‏الوعى ‏على ‏الموجودات‏ ‏ووجود‏ ‏الموجودات‏ ‏على ‏الوعى ‏الذى ‏يقصدها‏ ‏ويتكون‏ ‏فيه‏ ‏معناها‏, ‏إذا‏ ‏راجعنا‏ ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏فاننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نرى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏التحول‏ ‏فى ‏القول‏ ‏بوجود‏ ‏وعى ‏خالص‏ ‏مستقل‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏عن‏ ‏عالم‏ ‏الحياة‏ ‏الواقعية‏ ‏أو‏ ‏عالم‏ ‏الأشياء‏.. ‏ولايتوقف‏ ‏عليه‏, ‏بينما‏ ‏وجود‏ ‏عالم‏ ‏الأشياء‏ ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏الاستقلال‏ ‏الذاتى ‏ويتوقف‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوعى ‏الذى ‏تتكون‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏المعانى, ‏فالعالم‏ ‏بذلك‏ ‏هو‏ ‏نسيج‏ ‏من‏ ‏الظواهر‏ ‏التى ‏تستمد‏ ‏معناها‏ ‏من‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏على ‏اعتبار‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏هى ‏واهبه‏ ‏المعانى ‏والدلالات‏, ‏وواقعية‏ ‏العالم‏ ‏لا‏ ‏تنفصل‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏ ‏التى ‏يتكون‏ ‏فى ‏نطاقها‏ ‏كل‏ ‏صورة‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏المعنى ‏أو‏ ‏الواقعية‏.‏
ويفرق‏ ‏هوسرل‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏والذات‏ ‏أو‏ ‏الذاتية‏ ‏التى ‏تبحثها‏ ‏العلوم‏ ‏الموضوعية‏ ‏أى ‏التى ‏تندرج‏ ‏تحت‏ ‏علم‏ ‏الموضوعات‏ ‏والتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تسمى ‏بالذات‏ ‏الموضوعية‏ ‏أو‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏, ‏بينما‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏هى ‏ذاتية‏ ‏خالصة‏ ‏تمتاز‏ ‏بطابع‏ ‏عقلى ‏كلى ‏يستوعب‏ ‏شتى ‏التغيرات‏ ‏الممكنة‏ ‏التى ‏تطرأ‏ ‏على ‏الذات‏ ‏التجريبية‏, ‏وفى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏يقول‏ ‏هوسرل‏ “‏أننا‏ ‏لو‏ ‏تصورنا‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏على ‏صورة‏ ‏علم‏ ‏حدسى ‏ماهوى ‏فإن‏ ‏مهمة‏ ‏التحليلات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏عتدئذ‏ ‏لن‏ ‏تكون‏ ‏إلا‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏بناء‏ ‏الماهية‏ ‏الكلية‏ Eidos ‏للذات‏ ‏المتعالية‏, ‏وهى ‏تلك‏ ‏الماهية‏ ‏التى ‏تستوعب‏ ‏شتى ‏التغيرات‏ ‏الممكنة‏ ‏للذات‏ ‏التجريبية‏” (21), ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏اكتمال‏ ‏العلم‏ ‏الشامل‏ ‏الذى ‏تسعى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أن‏ ‏تكونه‏ ‏مرتبط‏ ‏فى ‏تحقيقه‏ ‏لغايته‏ ‏بالوصول‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.. ‏مصدر‏ ‏الموضوعية‏ ‏الحقيقية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏العطاء‏ ‏القاطع‏ ‏المبين‏, ‏ومنيع‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بكل‏ ‏الموضوعات‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏ ‏نفسها‏, ‏إن‏ ‏الفلسفة‏ ‏تكون‏ ‏علمية‏ ‏بشكل‏ ‏صارم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يفهمه‏ ‏هوسرل‏ ‏عندما‏ ‏تكون‏ ‏كل‏ ‏موضوعيتها‏ ‏التى ‏هى ‏بالتعريف‏ “‏الوجود‏ ‏المطلق‏” ‏قد‏ ‏أمكن‏ ‏استخراجها‏ ‏من‏ ‏المصدر‏ ‏الوحيد‏ ‏للعطاء‏ ‏القاطع‏ ‏البين‏ ‏وهو‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.‏
بالوصول‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ – ‏أرضية‏ ‏تكوين‏ ‏كل‏ ‏المعانى – ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يحصل‏ ‏على ‏البصيرة‏ ‏التى ‏تجعل‏ ‏رؤيته‏ ‏شفافة‏ ‏فى ‏لانهائيتها‏ ‏وتجعله‏ ‏يفهم‏ ‏كيف‏ ‏يترسب‏ ‏المعنى ‏فوق‏ ‏المعنى ‏مثل‏ ‏الطبقات‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏ترسيب‏ (22).‏
هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏كما‏ ‏يراها‏ ‏هوسرل‏ ‏لها‏ ‏منشأها‏ ‏الخاص‏, ‏فهى ‏لا‏ ‏تأتى ‏إلى ‏العالم‏ ‏مجهزة‏ ‏تماما‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏تنمو‏ ‏مع‏ ‏الخبرة‏ ‏كما‏ ‏تنمو‏ ‏الخبرة‏ ‏معها‏, ‏ويسمى ‏هوسرل‏ ‏هذا‏ ‏النمو‏ ‏للذات‏ “‏بالتكون‏ ‏الذاتي‏” subjective constitution ‏وهذا‏ ‏شيء‏ ‏مختلف‏ ‏بصورة‏ ‏جذرية‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏مرتبطا‏ ‏بالتكوين‏ ‏القصدى ‏للموضوعات‏ ‏فى ‏الوعي‏: ‏فكلما‏ ‏كانت‏ ‏هناك‏ ‏معرفة‏ ‏صادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏فإن‏ ‏الموضوع‏ ‏المعروف‏ ‏يتكون‏ ‏فى ‏الوعى, ‏والتحقق‏ ‏النهائى ‏من‏ ‏صدق‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏يكمن‏ ‏فى ‏التأمل‏ ‏فى ‏المصدر‏ ‏الذاتى ‏للتكوين‏ ‏الموضوعى, ‏ولكن‏ ‏الذات‏ ‏ويصبح‏ ‏التكوين‏ ‏المتصاعد‏ ‏للموضوعية‏ ‏تكوينا‏ ‏متصاعدا‏ ‏للذاتية‏, ‏والتقدم‏ ‏فى ‏المعرفة‏ ‏بذلك‏ ‏يتضمن‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏تراكم‏ ‏المعارف‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏, ‏إنه‏ ‏يعنى ‏نمو‏ ‏ذات‏ ‏أفضل‏ ‏إستعدادا‏ ‏بشكل‏ ‏متعاظم‏ ‏لكى ‏تعرف‏ ‏ولكى ‏تكون‏ ‏مصدر‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏التى ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تكتسبها‏.‏
ويتعرض‏ ‏هوسرل‏ ‏فى ‏تصورة‏ ‏للذات‏ ‏المتعالية‏ ‏لمشكلة‏ ‏حيوية‏ ‏وهى ‏مشكلة‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ (‏الأفراد‏) ‏أو‏ ‏العلاقة‏ ‏البينذاتية‏ intersubjectivity: ‏إن‏ ‏ذاتا‏ ‏متعالية‏ ‏تقف‏ ‏فى ‏عزلة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مصدرا‏ ‏لمعرفة‏ ‏ماهوية‏ ‏صادقة‏ ‏وتتبينها‏ ‏بوصفها‏ ‏قابلة‏ ‏للتعميم‏ ‏بشكل‏ ‏ضرورى, ‏ولكنها‏ ‏لو‏ ‏بقيت‏ ‏معزولة‏ ‏فإنها‏ ‏لا‏ ‏تملك‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تخشى ‏العشوائية‏ ‏فى ‏التقاطها‏ ‏للموضوعية‏.‏
إن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏هى ‏التى ‏يمكن‏ ‏تبينها‏ ‏بوصفها‏ ‏ملزمة‏.. ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏للذات‏ ‏التى ‏تملك‏ ‏المعرفة‏ ‏وإنما‏ ‏لكل‏ ‏ذات‏ ‏محتملة‏ ‏تفكر‏ ‏بالصورة‏ ‏المناسبة‏, ‏والحديث‏ ‏عن‏ ‏ذوات‏ ‏أخرى ‏محتملة‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏ذوات‏ ‏متعالية‏ ‏أفعالها‏ ‏القصدية‏ ‏هى ‏المكونة‏ ‏للموضوعية‏, ‏واتفاق‏ ‏هذه‏ ‏الذوات‏ ‏فى ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏عالمهم‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏متكونا‏ ‏بصورة‏ ‏مشتركة‏ commonly constituted ‏حيث‏ ‏صدق‏ ‏التكوين‏ – ‏وليس‏ ‏العالم‏ ‏المعطى ‏مسبقا‏ – ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏اشتراكهم‏ ‏معا‏, ‏من‏ ‏هنا‏ – ‏كما‏ ‏يرى ‏هو‏ ‏سرل‏ – ‏تنشأ‏ ‏المشكلة‏ ‏الصعبة‏ ‏للبينذاتية‏ ‏أو‏ ‏التكوين‏ ‏البينذاتى ‏للمعرفة‏ ‏أى ‏تحقق‏ ‏معرفة‏ ‏ينبع‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى ‏من‏ ‏المصدر‏ ‏الوحيد‏ ‏الممكن‏ ‏وهو‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تعم‏ ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏بين‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏الذوات‏ ‏المتعالية‏ ‏أيضا‏ ‏وهو‏ ‏مايعنى ‏تقدما‏ ‏فى ‏العلم‏ ‏ككل‏ ‏وفى ‏المعرفة‏ ‏البشرية‏ ‏ككل‏ (23).‏
وهوسرل‏ ‏يختتم‏ ‏فلسفته‏ ‏كلها‏ ‏بتصوره‏ ‏بأن‏ ‏مجموع‏ ‏الذوات‏ ‏المتعالية‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏النهاية‏ “‏ذاتا‏ ‏أعلي‏” ‏أو‏ ‏روحا‏ ‏شبيهة‏ ‏بما‏ ‏يسميه‏ ‏هيجل‏ “‏بالمطلق‏” (24).‏
أثارت‏ ‏هذه‏ ‏التطورات‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏هوسرل‏ ‏الانتقادات‏ ‏ورأى ‏البعض‏ – ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏بعض‏ ‏تابعيه‏ – ‏أنها‏ ‏تعد‏ ‏انحرافا‏ ‏عن‏ ‏بدايته‏ ‏فى ‏الوصف‏ ‏الفينومينولوجى ‏للخبرة‏ ‏سعيا‏ ‏وراء‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏ماهيات‏ ‏موضوعية‏ ‏لها‏ ‏أصلها‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏له‏ ‏استقلاله‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ورفضوا‏ ‏ما‏ ‏اعتبروه‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏صبغ‏ ‏المثالية‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏ومغالاة‏ ‏فى ‏تعالى ‏المعرفة‏.‏
‏ ‏بها‏ ‏على ‏التجربة‏ ‏المباشرة‏, ‏بينما‏ ‏رأى ‏آخرون‏ ‏أنها‏ ‏تطور‏ ‏مترابط‏ ‏ومتسق‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏ ‏للخطوات‏ ‏الأولى ‏للفينومينولوجيا‏ ‏وأن‏ ‏فلسفة‏ ‏هوسرل‏ ‏ليست‏ ‏بأى ‏حال‏ ‏مثالية‏ ‏ميتافيزيقية‏ ‏صرفة‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏كما‏ ‏أصر‏ ‏هوسرل‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏محايدة‏ ‏ميتافيزيقيا‏ ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏تؤكد‏ ‏ولا‏ ‏تنفى ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏للأشياء‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏نفسها‏ ‏واقعى ‏ومستقل‏ ‏أوهى ‏موجودة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للانسان‏ ‏وفى ‏وعيه‏ ‏فحسب‏, ‏فهى “‏تعلق‏” ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏وتضعها‏ ‏بين‏ ‏قوسين‏ (25) ‏ولاتعتبرها‏ ‏مبحثها‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏معنية‏ ‏بالوجود‏ ‏فى ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏الوجود‏ ‏المتاح‏ ‏وتسعى ‏إلى ‏علم‏ ‏بحقيقة‏ ‏الموجودات‏ ‏وليس‏ ‏بحقيقة‏ ‏الوجود‏, ‏بما‏ ‏هى ‏الأشياء‏ ‏وليس‏ ‏بما‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏موجودة‏.‏
وقد‏ ‏أدت‏ ‏هذه‏ ‏التطورات‏ ‏إلى ‏انشقاق‏ ‏الحركة‏ ‏الفينومينولوجية‏.. ‏وتكونت‏ ‏مدارس‏ ‏رفضت‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏النسق‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏المشكلات‏ ‏وقصرت‏ ‏نفسها‏ ‏على ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏نطاق‏ ‏وصف‏ ‏الظواهر‏ ‏وكشف‏ ‏الماهيات‏.‏
‏(‏ب‏) ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجي
المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏ليس‏ ‏منهجا‏ ‏استدلاليا‏ deductive ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏منهجا‏ ‏استقرائيا‏ inductive ‏أو‏ ‏تجريبيا‏ experimental, ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يسعى ‏إلى ‏تتبع‏ ‏الجزئيات‏ ‏للوصول‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏أحكام‏ ‏كلية‏ ‏أو‏ ‏قوانين‏ ‏تحدد‏ ‏العلاقات‏, ‏هو‏ ‏لا‏ ‏يسعى ‏إلى ‏تفسير‏ ‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏اكتشاف‏ ‏علاقاتها‏ ‏السببية‏, ‏وإنما‏ ‏يسعى ‏إلى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ “‏الأشياء‏ ‏نفسها‏”. ‏إن‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏يتركز‏ ‏فى ‏الدراسة‏ ‏الوصفية‏ ‏للظواهر‏ ‏سعيا‏ ‏وراء‏ ‏معرفة‏ ‏إن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ – ‏كما‏ ‏كتب‏ ‏هوسرل‏ – “‏هى ‏وصف‏ ‏خالص‏ ‏لمجال‏ ‏محايد‏ ‏هو‏ ‏مجال‏ ‏الواقع‏ ‏المعاش‏ ‏أو‏ ‏الخبرة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هى ‏كذلك‏, ‏وللماهيات‏ ‏التى ‏تتمثل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏” (26), ‏إى ‏أنها‏:‏
‏1 – ‏دراسة‏ ‏وصفية‏ ‏للظواهر‏ (‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏الوقائع‏ ‏أو‏ ‏حالات‏ ‏الأمور‏) ‏فى ‏الخبرة‏ ‏المباشرة‏ ‏الواعية‏.‏
‏2 – ‏والهدف‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏معرفة‏ ‏واضحة‏ ‏بالتركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏الثابتة‏ ‏غير‏ ‏القابلة‏ ‏للتغير‏ ‏للظواهر‏.. ‏أى ‏ماهياتها‏, ‏وذلك‏ ‏بوصفها‏ ‏الحقائق‏ ‏الأساسية‏ ‏المبدئية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يبنى ‏عليها‏ ‏أى ‏علم‏ ‏فى ‏أى ‏مجال‏.‏
وهذه‏ ‏المهمة‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏هوسرل‏ ‏تتطلب‏ ‏شيئين‏ ‏مبدئيين‏:‏
‏1 -‏التخلص‏ ‏من‏ ‏أى ‏مفاهيم‏ ‏أو‏ ‏افتراضات‏ ‏أو‏ ‏أنساق‏ ‏نظرية‏ ‏مسبقة‏ ‏تحاول‏ ‏التفسير‏ ‏أو‏ ‏تبين‏ ‏العلاقات‏ ‏والأسباب‏, ‏فمهمة‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏الظواهر‏ ‏وماهيتها‏ ‏هى ‏مهمة‏ ‏مبدئية‏, ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏سابقة‏ ‏على ‏أى ‏محاولات‏ ‏لوضع‏ ‏صياغات‏ ‏نظرية‏ ‏مفسرة‏ ‏أو‏ ‏متعقبة‏ ‏للعلاقات‏ ‏والأسباب‏, ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏هى ‏خطوة‏ ‏تالية‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏وخارجة‏ ‏عن‏ ‏نطاقها‏ ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يضمن‏ ‏صدقها‏ ‏واتجاها‏ ‏الصحيح‏ ‏سوى ‏بعد‏ ‏اتمام‏ ‏المهمة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏فى ‏إرساء‏ ‏الحقائق‏ ‏الثابتة‏, ‏أو‏ ‏الماهيات‏ ‏المتضمنة‏ ‏فى ‏الظواهر‏ ‏محل‏ ‏البحث‏.‏
‏2 – ‏والمدى ‏الذى ‏يصل‏ ‏إليه‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الافتراضات‏ ‏المسبقة‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏أبعاد‏ ‏جذرية‏ ‏حيث‏ ‏يتضمن‏ ‏عملية‏ ‏يعطيها‏ ‏هوسرل‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏ ‏ويتم‏ ‏فيها‏ ‏تنحية‏ ‏أو‏ ‏تعليق‏ ‏قضية‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بالوجود‏ ‏الواقعى ‏للعالم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏بالتقويس‏ Bracketing (‏أو‏ ‏الايبوكية‏ Epoche ) (27)‏ والمقصود‏ ‏بهذه‏ ‏العملية‏ ‏ببساطة‏ ‏هو‏ ‏أن‏ “‏وجود‏” ‏العالم‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يوضع‏ ‏بين‏ ‏قوسين‏ ‏أو‏ ‏يعلق‏, ‏أى ‏أن‏ ‏القطع‏ ‏بأن‏ ‏العالم‏ ‏بموجوداته‏ ‏موجود‏ ‏واقعيا‏ ‏ومستقل‏ ‏عن‏ ‏وعى ‏الانسان‏ ‏به‏ (‏الموقف‏ ‏الواقعى ‏أو‏ ‏الطبيعي‏) ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏غير‏ ‏مستقل‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ولايعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏تمثلات‏ ‏فى ‏عقولنا‏ (‏الموقف‏ ‏المثالي‏), ‏هذا‏ ‏القطع‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يعلق‏ ‏وينحى ‏جانبا‏ ‏حتى ‏تتمكن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏من‏ ‏التفرغ‏ ‏لمهمتها‏ ‏الأساسية‏ ‏وهى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏الموجودات‏ ‏كما‏ ‏تقدم‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏الوعى, ‏فمبحث‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏هو‏ ‏حقيقة‏ “‏الموجودات‏” ‏وليس‏ ‏حقيقة‏ “‏الوجود‏” ‏وهى ‏لذلك‏ ‏تنحى ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏جانبا‏ ‏بواسطة‏ ‏هذا‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏الحكم‏.‏
وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاختزال‏ (‏حيث‏ ‏يختزل‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بهذه‏ ‏القضية‏ ‏فى ‏بحثنا‏ ‏للعالم‏) ‏لايعنى ‏إنكار‏ ‏وجود‏ ‏العالم‏ ‏الطبيعى ‏أو‏ ‏الواقعى ‏ولا‏ ‏حتى ‏الشك‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏فقط‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الطبيعى ‏قد‏ ‏نحى ‏بشكل‏ ‏مؤقت‏ ‏لأنه‏ ‏ليس‏ – ‏كما‏ ‏هو‏ – ‏جزءا‏ ‏متأصلا‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏التحليلية‏, ‏إن‏ ‏واقعية‏ ‏العالم‏ ‏الطبيعى ‏والذات‏ ‏التى ‏تنتمى ‏إليه‏ (‏التجريبية‏) ‏ليست‏ ‏محل‏ ‏تساؤل‏, ‏ومن‏ ‏الممكن‏ ‏دائما‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏المثالية‏ ‏إلى ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏الطبيعية‏ ‏وبالعكس‏, ‏أو‏ ‏كما‏ ‏كتب‏ ‏هوسرل‏ ‏نفسه‏ “‏كل‏ ‏تحديد‏ ‏ماهوى (‏أو‏ ‏أيديتيكى eidetic) ‏على ‏جانب‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تقابله‏ ‏ملامح‏ ‏موازية‏ ‏من‏ ‏تحديد‏ ‏تجريى emperical ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏”, ‏والفينومينولوجيون‏ ‏يقدمون‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الدفاع‏ ‏ضد‏ ‏اتهام‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بأنها‏ ‏عودة‏ ‏إلى ‏المثالية‏ ‏الصرفة‏ (28).‏
بعد‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ ‏المبدئية‏ ‏تتعاقب‏ ‏ثلاث‏ ‏خطوات‏ ‏اختزالية‏ ‏يتلخص‏ ‏فيها‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومنيولوجي‏:‏
‏1 – ‏الخطوة‏ ‏الاولى ‏هى ‏الاختزال‏ ‏الفينومينولوجى Phenomenological reduction ‏
ومن‏ ‏خلاله‏ ‏يتم‏ ‏تحويل‏ ‏كل‏ ‏ماهو‏ ‏معطى ‏إلى ‏ظاهرة‏.. ‏بمعنى ‏الشيء‏ ‏المعروف‏ ‏فى ‏الوعى ‏وبواسطته‏, ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏بمعنى ‏واسع‏ ‏يشمل‏ ‏كل‏ ‏كيفيات‏ ‏الوعى ‏مثل‏ ‏الحدس‏, ‏التذكر‏, ‏التخيل‏, ‏الحكم‏.. ‏الخ‏, ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الكيفيات‏ ‏فإن‏ ‏هوسرل‏ ‏يعطى ‏وضعا‏ ‏متميزا‏ ‏للحدس‏ ‏فى ‏التقاط‏ ‏الظواهر‏ ‏وذلك‏ ‏لأسباب‏ ‏محددة‏: – ‏
‏(‏ا‏) ‏لأن‏ ‏الحدس‏ ‏هو‏ ‏الفعل‏ ‏الذى ‏يلتقط‏ ‏فيه‏ ‏الشخص‏ ‏الموضوع‏ ‏فوريا‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏المتجسد‏.‏
‏(‏ب‏) ‏ولأنه‏ ‏فعل‏ ‏معطى ‏بطريقة‏ ‏أولية‏.. ‏يتلوها‏ ‏أو‏ ‏ينبنى ‏عليها‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏آخر‏.‏
هذا‏ ‏الاختزال‏ – ‏أو‏ ‏المعرفة‏ ‏بالظواهر‏ ‏فى ‏الوعى – ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏أساسى ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فهى ‏تعتبر‏ ‏نفسها‏ ‏علمية‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏متمركزة‏ ‏فى ‏الظاهرة‏ ‏الملتقطة‏ ‏فى ‏الوعى, ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏ترجمة‏ ‏العالم‏ ‏الخارج‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ترجمة‏ ‏تحيله‏ ‏إلى ‏عالم‏ ‏فينومينولوجى.. ‏أى ‏عالم‏ ‏الوعى. ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الإختزال‏ ‏يعنى ‏عكس‏ ‏اتجاه‏ ‏نظر‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏توجه‏ ‏مباشر‏ ‏نحو‏ ‏الموضوعات‏ ‏إلى ‏توجه‏ ‏نحو‏ ‏الوعى ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يتيح‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏دراسة‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏الوعى ‏القصدى, ‏والتقاط‏ ‏ماهيتها‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏الاختزال‏ ‏بذلك‏ ‏هو‏ ‏الشرط‏ ‏الأول‏ ‏للمعرفة‏ ‏الموضوعية‏, ‏فاالموضوعية‏ ‏لاتخضع‏ ‏للبحث‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏تمثلت‏ ‏تمثلا‏ ‏ما‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ ‏وأصبحت‏ ‏بذلك‏ ‏ملتقطة‏ ‏فى ‏الوعى.‏
‏2 – ‏الخطوة‏ ‏الثانية‏ ‏هى ‏الاختزال‏ ‏الايديتيكى (‏الماهوي‏) Eidetic Reduction ‏عندما‏ ‏يتم‏ ‏تمثيل‏ ‏الظواهر‏ ‏داخل‏ ‏الوعى ‏لاتلتقط‏ ‏عادة‏ ‏بصورة‏ ‏نقية‏ ‏وإنما‏ ‏يشوبها‏ ‏إضافات‏ ‏وصفات‏ ‏عرضية‏ ‏أو‏ ‏مصادفة‏ contingent ‏لا‏ ‏تجعلها‏ ‏واضحة‏ ‏كتركيبات‏ ‏جوهرية‏ ‏أو‏ ‏مضمون‏ ‏يشكل‏ ‏وحدة‏ ‏متفردة‏, ‏والتأمل‏ ‏المبنى ‏على ‏الحدس‏ ‏هو‏ ‏الوسيلة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏بواسطتها‏ – ‏بالتدريج‏ ‏وبعد‏ ‏جهد‏ – ‏تمييز‏ ‏هذه‏ ‏التركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏أو‏ ‏ماهية‏ ‏الظاهرة‏ ‏واستبعاد‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏, ‏وهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏الثانية‏ ‏من‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.. ‏خطوة‏ ‏الاختزال‏ ‏الماهوى ‏أورد‏ ‏الظواهر‏ ‏إلى ‏ماهياتها‏.‏
والحدس‏ ‏المستخدم‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ – ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ – ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏متميز‏ ‏من‏ ‏الحدس‏ ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏عملية‏ ‏آنية‏ ‏أو‏ ‏فورية‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏دراسة‏ ‏متأملة‏ ‏دقيقة‏ ‏لأمثلة‏ ‏عينية‏ ‏للظاهرة‏ ‏تمدنا‏ ‏بها‏ ‏التجربة‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏, ‏وبإجراء‏ ‏تنويعات‏ ‏منظمة‏ ‏لهذه‏ ‏الأمثلة‏ ‏فى ‏الذهن‏ ‏مع‏ ‏تركيز‏ ‏الانتباه‏ ‏على ‏مايبقى ‏ثابتا‏ ‏رغم‏ ‏التعدد‏ ‏والتنويعات‏, ‏والذى ‏يؤدى ‏محوه‏ ‏إلى ‏القضاء‏ ‏على ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏ ‏يمكن‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏التقاط‏ ‏ماهية‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏ ‏بوصفها‏ ‏هذا‏ ‏الثابت‏ ‏الجوهرى ‏أو‏ ‏المضمون‏ ‏المتفرد‏.‏
بهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏إذن‏ ‏يتم‏ ‏اختزال‏ ‏أو‏ ‏رد‏ ‏الأشياء‏ ‏إلى ‏ماهياتها‏ ‏أو‏ ‏حقائقها‏ ‏الثابتة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تشوبها‏ ‏أى ‏عناصر‏ ‏عرضية‏, ‏وثبات‏ ‏الحقائق‏ ‏هنا‏ ‏يعنى ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏اكتملت‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ ‏كما‏ ‏يجب‏ ‏وتمت‏ ‏بها‏ ‏المعرفة‏ ‏البينة‏ (29) ‏فإن‏ ‏الماهيات‏ ‏الملتقطة‏ ‏لا‏ ‏تتغير‏ ‏بتغير‏ ‏الظروف‏ ‏أو‏ ‏الأفراد‏.‏
إن‏ ‏الماهيات‏ ‏التى ‏نصل‏ ‏إليها‏ ‏بهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏هى ‏هدف‏ ‏الدراسة‏ ‏الوصفية‏ ‏للفينومينولوجيا‏, ‏وهى ‏اللبنات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏بها‏ ‏بناء‏ ‏معرفة‏ ‏موثوق‏ ‏بها‏ ‏بشكل‏ ‏مطلق‏ ‏فى ‏أى ‏علم‏ ‏وفى ‏أى ‏مجال‏.‏
‏3 – ‏الخطوة‏ ‏الثالثة‏ ‏هى ‏ألاختزال‏ ‏المتعالى Transcendental Reduction ‏
وفيه‏ ‏يتم‏ ‏استحضار‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏المتعالى (‏أرضية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏تكوين‏ ‏كل‏ ‏المعاني‏), ‏وبالارتداد‏ ‏إلى ‏منجزات‏ ‏هذا‏ ‏الوعى ‏الخالص‏.. ‏برد‏ ‏المعرفة‏ ‏المتكونة‏ ‏فى ‏الخطوات‏ ‏السابقة‏ ‏إليه‏, ‏يتم‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى .. ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏يكمن‏ ‏مصدر‏ ‏الموضوعية‏ ‏الحقيقية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏العطاء‏ ‏القاطع‏ ‏البين‏ ‏ومنبع‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بكل‏ ‏الموضوعات‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏ ‏نفسها‏, ‏وعن‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏يقول‏ ‏هوسرل‏:‏
‏”‏إنها‏ ‏التساؤل‏ ‏المرتد‏ ‏إلى ‏المنبع‏ ‏النهائى ‏لكل‏ ‏انجازات‏ ‏المعرفة‏, ‏للتأمل‏ ‏الذى ‏يتأمل‏ ‏العارف‏ ‏فيه‏ ‏نفسه‏ ‏وحياته‏ ‏العارفة‏, ‏والذى ‏تتكون‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏البنيات‏ ‏العلمية‏ ‏الصادقة‏ ‏بشكل‏ ‏غائى teleological ‏ويتم‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بها‏ ‏كمتحصلات‏ ‏دائمة‏, ‏وتصبح‏ ‏فى ‏متناوله‏ ‏بشكل‏ ‏حر‏” (30).‏
وأهم‏ ‏حدث‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الوعى ‏هو‏ “‏التكون‏ ‏الذاتي‏” ‏حيث‏ ‏تنمو‏ ‏الذات‏ ‏بالخبرة‏ ‏المضافة‏ ‏كما‏ ‏تنمو‏ ‏الخبرة‏ ‏بنموها‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏
إن‏ ‏ممارسة‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهوسرل‏ ‏كانت‏ ‏معادلة‏ ‏للعودة‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏, ‏وكل‏ ‏التحليلات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تقود‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إليها‏.‏
الخطوط‏ ‏العامة‏ ‏تمهيدا‏ ‏للتطبيقات‏ ‏الخاصة‏:‏
هناك‏ ‏عدة‏ ‏ملاحظات‏ ‏لها‏ ‏أهميتها‏ ‏فى ‏استكمال‏ ‏النظرة‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى‏:‏
‏1 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏بكل‏ ‏خطواته‏ ‏يعتمد‏ ‏على “‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏” ‏والمشاركة‏ ‏بها‏, ‏فالمعرفة‏ ‏بالظواهر‏ (‏التقاطها‏ ‏كظواهر‏ ‏فى ‏خطوة‏ ‏الاختزال‏ ‏الفينومينولوجى.. ‏والحدس‏ ‏بماهيتها‏ ‏فى ‏خطوة‏ ‏الختزال‏ ‏الماهوى.. ‏والوصول‏ ‏إلى ‏المعانى ‏النهائية‏ ‏أو‏ ‏المطلقة‏ ‏فى ‏الاختزال‏ ‏المتعالي‏).. ‏كلها‏ ‏خطوات‏ ‏لاتتم‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏الذات‏ ‏أو‏ ‏الوعى.. ‏بفحص‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏بجوانبه‏ ‏الذاتية‏ (‏النويما‏ Noema) ‏والموضوعية‏ (‏النويسيس‏ Noesis) ‏ معا‏.‏
وتصر‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏أو‏ ‏فحص‏ ‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏ ‏شيء‏ ‏مختلف‏ ‏تماما‏ ‏عن‏ ‏الاستبطان‏ introspection, ‏وتقدم‏ ‏منذ‏ ‏بداياتها‏ ‏نقدا‏ ‏شديدا‏ ‏لأسلوب‏ ‏الاستبطان‏:‏
‏- ‏يرى ‏برنتانو‏ 31 ‏أن‏ ‏الاستبطان‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يتضمنه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الخبرة‏ ‏المعاشة‏ ‏التى ‏تحياها‏ ‏الذات‏ ‏هى ‏فى ‏حد‏ ‏ذاتها‏ ‏معرفة‏ ‏واعية‏ ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بشكل‏ ‏منظوم‏ systematic ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏مستحيلة‏, ‏لأنه‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التجربة‏ ‏حاضرة‏ ‏للفرد‏.. ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏متاحة‏ ‏له‏ ‏تحليليا‏ ‏كملاحظ‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏فإن‏ ‏الادراك‏ ‏الداخلى internal perception ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏ملاحظة‏ ‏داخلية‏ internal observation ‏أو‏ ‏يستحيل‏ ‏الجمع‏ ‏بينهما‏. ‏والتأمل‏ ‏الممكن‏ ‏كما‏ ‏تراه‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏يتم‏ ‏على ‏أساس‏ ‏عملية‏ ‏استبقاء‏ ‏أو‏ ‏اختزان‏ retention ‏تحاول‏ ‏فيها‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بالظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏من‏ ‏الانحراف‏ ‏فى ‏تيار‏ ‏الوعى, ‏أى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ “‏استعادة‏ ‏وصفية‏” ‏للظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏بمثابة‏ “‏موضوع‏” ‏ماثل‏ ‏فى ‏الوعى ‏الحالى ‏للباحث‏, ‏وهوسرل‏ (32) ‏يرى ‏إمكانية‏ ‏استبقاء‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏بهويتها‏ identity ‏أو‏ ‏بلحمها‏ ‏ودمها‏ ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏تتخذ‏ ‏طابعا‏ ‏آخر‏ ‏إذ‏ ‏يصبح‏ ‏وجودها‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏الشيء‏ ‏الذى ‏انقضى ‏فى ‏زمانه‏.‏
‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ترى ‏أن‏ ‏معنى ‏أى ‏مضمون‏ ‏شعورى ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏ينكشف‏ ‏للذات‏ ‏بطريقة‏ ‏مباشرة‏ – ‏كما‏ ‏يفترض‏ ‏الاستبطان‏ – ‏وإنما‏ ‏يحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏دراسة‏ ‏دقيقة‏ ‏وجهد‏ ‏شاق‏, ‏ومعرفة‏ ‏النفس‏ ‏بالنفس‏ – ‏كما‏ ‏لاحظ‏ ‏ميرلوبونتى (33) – ‏إنما‏ ‏هى ‏معرفة‏ ‏غير‏ ‏مباشرة‏, ‏فهى ‏بمثابة‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏البناء‏ ‏أو‏ ‏التركيب‏, ‏والإنسان‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يفض‏ ‏رموز‏ ‏سلوكه‏ ‏كما‏ ‏يفض‏ ‏رموز‏ ‏سلوك‏ ‏الآخرين‏.‏
‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏ ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ترفض‏ ‏الطابع‏ ‏التحليلى ‏العنصرى elementaristic ‏أو‏ ‏التفسيرات‏ ‏العنصرية‏ ‏أو‏ ‏التجزيئية‏ ‏للوعى ‏التى ‏يتبعها‏ ‏الأسلوب‏ ‏الاستبطانى ‏عادة‏.‏
وتهتم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أيضا‏ ‏بالتفرقة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏الذى ‏تدعو‏ ‏إليه‏ ‏والتأمل‏ ‏الفلسفى ‏التقليدى, ‏فالتأمل‏ ‏الفلسفى ‏التقليلدى ‏يحاول‏ ‏إرجاع‏ ‏الخبرة‏ ‏المعاشة‏ ‏إلى ‏شروط‏ ‏قبلية‏ ‏أو‏ ‏أولية‏ apriori ‏أى ‏يحاول‏ ‏تأويلها‏ ‏وتقصى ‏عللها‏, ‏بينما‏ ‏يهدف‏ ‏التأمل‏ ‏الفينومينولوجى ‏إلى ‏معرفة‏ ‏بالشيء‏ ‏ذاته‏ ‏فى ‏مضمونه‏ ‏السابق‏ ‏على ‏أى ‏تحليلات‏ ‏علية‏ ‏أو‏ ‏افتراضات‏ ‏نظرية‏.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏مهمة‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏بصورته‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏مهمة‏ ‏مبدئية‏ ‏أو‏ ‏أولية‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏معرفة‏ ‏جلية‏ ‏عقلانية‏ rational ‏ويقينية‏ ‏بالظواهر‏ ‏بوصفها‏ ‏دعائم‏ ‏كافة‏ ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏ ‏أو‏ ‏الإنسانية‏ ‏كل‏ ‏فى ‏مجاله‏, ‏والفينومينولوجيا‏ ‏بذلك‏ ‏لاترفض‏ ‏ولا‏ ‏تستبعد‏ ‏أى ‏مداخل‏ ‏أخرى ‏للبحث‏ ‏العلمى ‏مثل‏ ‏التحقق‏ ‏التجريبى ‏ووضع‏ ‏الفروض‏ ‏والتفسيرات‏ ‏العلية‏ ‏وصياغة‏ ‏النظريات‏, ‏ولكنها‏ ‏تعتبرها‏ ‏خطوات‏ ‏تالية‏ ‏لهذه‏ ‏المهمة‏ ‏المبدئية‏. ‏
واكتمال‏ ‏هذه‏ ‏المهمة‏ ‏هو‏ ‏الضمان‏ ‏الأساسى ‏لصدق‏ ‏وسلامة‏ ‏اتجاه‏ ‏الخطوات‏ ‏التالية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏علم‏ ‏على ‏حدة‏ ‏حيث‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏مجال‏ ‏العلم‏, ‏ونوع‏ ‏الفروض‏ ‏وكيفية‏ ‏اختبارها‏, ‏ونوع‏ ‏التجريب‏ ‏وأهدافه‏ ‏وحدوده‏, ‏وفى ‏النهاية‏ ‏التفسيرات‏ ‏والنظريات‏ ‏الممكنة‏. ‏
‏3 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏احترام‏ ‏شديد‏ ‏للإنسان‏ ‏أو‏ ‏العقل‏ ‏الانسانى ‏بوصفه‏ ‏الأداة‏ ‏الأولى ‏والأخيرة‏ ‏والتى ‏لابديل‏ ‏عنها‏ ‏للبحث‏ ‏والمعرفة‏, ‏وذلك‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏الوسائل‏ ‏العلمية‏ ‏الدقيقة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏الملاحظة‏ ‏والتجريب‏ ‏والتى ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏نفسى ‏أنها‏ ‏من‏ ‏نتاج‏ ‏نفس‏ ‏العقل‏, ‏وأن‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏لاتتم‏ ‏بافتراض‏ ‏أو‏ ‏الاعتقاد‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏موضوعية‏ ‏لا‏ ‏وجود‏ ‏لها‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏بالوصول‏ – ‏بالجهد‏ ‏والعناء‏ – ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏النقية‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏استشفاف‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏.‏
نظرة‏ ‏خاصة‏:‏
كان‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏تأثير‏ ‏ملحوظ‏ ‏فى ‏عديد‏ ‏من‏ ‏العلوم‏, ‏والقائمة‏ ‏متنوعة‏ ‏وتشمل‏ ‏علوما‏ ‏مثل‏ ‏الرياضة‏ ‏والبيولوجيا‏ ‏وعلم‏ ‏الاجتماع‏ ‏والتاريخ‏ ‏ودراسة‏ ‏الأديان‏, ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أكبر‏ ‏تأثير‏ ‏انها‏ ‏كان‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏حيث‏ ‏نما‏ ‏اتجاه‏ ‏متميز‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ “‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الفينومينولوجي‏”, ‏كما‏ ‏أن‏ ‏أبرز‏ ‏مساهماتها‏ ‏التطبيقية‏ ‏قد‏ ‏تمت‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏السيكوباثولوجى ‏حيث‏ ‏قام‏ ‏ياسبرز‏ jaspers ‏بتطبيق‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏فى ‏دراسة‏ ‏الظواهر‏ ‏المرضية‏ ‏النفسية‏ (‏على ‏أساس‏ ‏فحص‏ ‏الخبرات‏ ‏الذاتية‏ ‏للمرضى ‏النفسيين‏) ‏وتبعه‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏آخرون‏ ‏وأمكن‏ ‏بذلك‏ ‏وضع‏ ‏أسس‏ ‏علمية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏يصعب‏ ‏التشكيك‏ ‏فى ‏قيمتها‏ ‏الكبيرة‏ ‏كدعامات‏ ‏لهذا‏ ‏العلم‏.‏
ولا‏ ‏أريد‏ ‏أسبق‏ ‏الأمور‏ – ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏دور‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏موضوع‏ ‏القسم‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ – ‏ولكنى ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أوضح‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏علاقة‏ ‏خاصة‏ ‏ووثيقة‏ ‏بين‏ ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏حيث‏ ‏تقع‏ ‏مفاهيمها‏ ‏الأساسية‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالوعى ‏وأفعاله‏ ‏والوظيفة‏ ‏المعرفية‏ Cognitive Function ‏للإنسان‏ ‏بوجه‏ ‏عام‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏الدراسة‏ ‏العلمية‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏, ‏والمتتبع‏ ‏لتطورات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتبين‏ ‏أن‏ ‏المفاهيم‏ ‏والتصورات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏الأساسية‏ ‏ليست‏ ‏محض‏ ‏تأملات‏ ‏مجردة‏ ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏ربطها‏ ‏بنتائج‏ ‏محققة‏ ‏علميا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏, ‏وقد‏ ‏تمت‏ ‏على ‏يد‏ ‏مدارس‏ ‏مختلفة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏, ‏وهناك‏ ‏أمثلة‏ ‏محددة‏ ‏يمكن‏ – ‏فى ‏تصورى – ‏أن‏ ‏توضح‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏:‏
‏1 – ‏إن‏ ‏التصور‏ ‏الفينومينولوجى ‏عن‏ ‏المعرفة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏أو‏ ‏الموجودات‏ ‏بوصفها‏ ‏معرفة‏ ‏بهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏كما‏ ‏تتمثل‏ ‏فى ‏باطن‏ ‏الوعى, ‏وليس‏ ‏كأشياء‏ ‏أو‏ ‏حقائق‏ ‏خارجية‏ ‏ليس‏ ‏غريبا‏ ‏على ‏نتائج‏ ‏الدراسة‏ ‏العلمية‏ ‏للوظيفة‏ ‏المعرفية‏ ‏لدى ‏الانسان‏ ‏كما‏ ‏يقدمها‏ ‏أريتى Arieti (34), ‏فهذه‏ ‏المعرفة‏ ‏كما‏ ‏يصفها‏ ‏أريتى ‏تتم‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏تمثيلات‏ ‏داخلية‏ inner representations ‏وتبدأ‏ ‏هذه‏ ‏التمثيلات‏ ‏بنوع‏ ‏بدائى ‏غير‏ ‏متميز‏ undifferentiated ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏ثم‏ ‏بالتدريج‏ ‏ومع‏ ‏نمو‏ ‏وتطور‏ ‏الفرد‏ ontogeny (‏الذى ‏هو‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏إعادة‏ ‏لتطور‏ ‏النوع‏ phylogeny) ‏يحكمها‏ ‏منطق‏ ‏بدائى ‏ويكون‏ ‏التقاط‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏محرفا‏ ‏ومبهما‏ ‏وغير‏ ‏مطابق‏ ‏للواقع‏, ‏ثم‏ ‏تتطور‏ ‏هذه‏ ‏التمثيلات‏ ‏لتصل‏ ‏إلى ‏يمكن‏ ‏التعبير‏ ‏عنها‏ ‏والتواصل‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏اللغة‏, ‏ويكون‏ ‏التقاط‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏أوضح‏ ‏وأقرب‏ ‏إلى ‏الواقع‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏نهائيا‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏التمثيلات‏ ‏التى ‏تشكلها‏ ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏تخضع‏ ‏لعملية‏ ‏نمو‏ ‏وتوضيح‏ ‏مستمر‏ ‏تستبعد‏ ‏فيها‏ ‏بعض‏ ‏الخصائص‏ ‏أو‏ ‏الصفات‏ ‏من‏ ‏المفهوم‏, ‏وتضاف‏ ‏خصائص‏ ‏جديدة‏ ‏بصورة‏ ‏تقرب‏ ‏المفهوم‏ ‏شيئا‏ ‏فشيئا‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى, ‏وهذا‏ ‏التصور‏ ‏العلمى ‏يعنى ‏شيئين‏:‏
‏(‏ا‏) ‏أن‏ ‏المعرفة‏ ‏بالعالم‏ ‏تتم‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏تمثيلات‏ ‏داخلية‏ ‏وليس‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏أو‏ ‏كما‏ ‏عبر‏ ‏أريتى ‏نفسه‏: “‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏لايستجيب‏ ‏إلى ‏أشياء‏ things ‏أو‏ ‏حقائق‏ facts‏وإنما‏ ‏إلى ‏مفاهيم‏ cincepts”. (‏ب‏) ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏لاتتم‏ ‏بشكل‏ ‏نهائى ‏وإنما‏ ‏تخضع‏ ‏لعملية‏ ‏توضيح‏ ‏وتنقية‏ ‏مستمرة‏ ‏تقترب‏ ‏بها‏ ‏التمثيلات‏ ‏الداخلية‏ ‏بالتدريج‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏أو‏ ‏الحقائق‏ ‏كما‏ ‏هى. ‏
وكلا‏ ‏التصورين‏ ‏قريبان‏ ‏بدرجة‏ ‏ملحوظة‏ ‏من‏ ‏المفاهيم‏ ‏المعرفية‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏والمنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏مفاهيم‏ ‏بعض‏ ‏الاتجاهات‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏عن‏ ‏العالم‏ ‏الخاص‏ ‏الذى ‏يبنيه‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏لنفسه‏ ‏ويضفى ‏فيه‏ ‏على ‏الموضوعات‏ ‏معانيه‏ ‏الخاصة‏ ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏بالموضوعات‏ ‏الذاتية‏” self objects ‏ولايصل‏ ‏إلى ‏خبرة‏ ‏واضحة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏كما‏ ‏هى ‏أو‏ “‏الموضوعات‏ ‏الحقيقية‏” real objets ‏إلا‏ ‏باكتمال‏ ‏نضجه‏ ‏النفسى, ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏لاتبدو‏ ‏غريبة‏ ‏على ‏مفهوم‏ ‏التكوين‏ constitution ‏الفينومينولوجى ‏أى ‏التكوين‏ ‏الدعائمى ‏لمعانى ‏الموضوعات‏ ‏فى ‏الوعى, ‏والذى ‏يكتمل‏ ‏ليصبح‏ ‏تكوينا‏ ‏لمعانى ‏نهائية‏ ‏فى ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.‏
‏3 – ‏بل‏ ‏إن‏ ‏المفاهيم‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالذات‏ ‏أو‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏ ‏والتى ‏تعرضت‏ ‏لانتقادات‏ ‏شديدة‏ ‏بوصفها‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏المثالية‏ ‏والتعالى ‏أصبح‏ ‏لها‏ ‏أساس‏ ‏من‏ ‏الدراسات‏ ‏العلمية‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏:‏
‏- ‏فمن‏ ‏خلال‏ ‏دراسات‏ ‏على ‏أشخاص‏ ‏وصل‏ ‏معظمهم‏ ‏إلى ‏درجات‏ ‏مرتفعة‏ ‏من‏ ‏النمو‏ ‏الانسائئ‏ (‏علماء‏ ‏وفنانين‏ ‏وقيادات‏ ‏سياسية‏ ‏وإدارية‏… ‏الخ‏) ‏وصف‏ ‏ماسلو‏ Maslo ‏وغيره‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏ماسمى ‏بخبرات‏ ‏القمة‏ peak experiences ‏عبر‏ ‏عنها‏ ‏أصحابها‏ ‏بوصفها‏ ‏حالات‏ ‏من‏ ‏الوعى states of consciousness ‏تتجاوز‏ ‏حالة‏ ‏الوعى ‏العادية‏ ‏ويتم‏ ‏فيها‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏المعرفية‏ ‏وإدراك‏ ‏المعانى ‏لايبدو‏ ‏غريبا‏ ‏عما‏ ‏يصفه‏ ‏هوسرل‏ ‏عن‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏الخالص‏.

‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏اريك‏ ‏برن‏ Eric Bern ‏صاحب‏ ‏اتجاه‏ ” ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى Transactionl analysis – ‏والذى ‏يرى ‏النفس‏ ‏الإنسانية‏ ‏بوصفها‏ ‏عدة‏ ‏ذوات‏ ‏أو‏ ‏حالات‏ ‏ذات‏ ‏متعددة‏ multiple ego states ‏تؤثر‏ ‏علاقاتها‏ ‏المتبادلة‏ ‏والمعقدة‏ ‏وتداخلات‏ ‏حدودها‏ ‏على ‏الوظائف‏ ‏المعرفية‏ ‏والانفعالية‏ ‏والسلوكية‏ ‏للانسان‏ ‏الفرد‏ – ‏يصف‏ ‏حالة‏ ‏للذات‏ ‏هى ‏حالة‏ “‏الراشد‏ ‏المتكامل‏” integrated adult ‏لها‏ ‏من‏ ‏الخصائص‏ ‏مالا‏ ‏يبدو‏ ‏غريبا‏ ‏عن‏ ‏صورة‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏كما‏ ‏يصفها‏ ‏هوسرل‏.‏
خلاصة‏ ‏القول‏, ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏أسعى ‏إلى ‏إيضاحه‏ ‏ببساطة‏ ‏وبشكل‏ ‏مباشر‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏بالمعنى ‏العقيم‏ ‏وغير‏ ‏العملى.. ‏وإنما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏استكشافه‏ ‏بالتحقق‏ ‏العلمى ‏المناسب‏, ‏وأنها‏ ‏وثيقة‏ ‏الصلة‏ ‏فى ‏مفاهيمها‏ ‏بعلم‏ ‏النفس‏ ‏وما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكشفه‏ ‏عن‏ ‏الانسان‏, ‏وكلها‏ ‏أشياء‏ ‏تجعلنا‏ ‏ننظر‏ ‏بجدية‏ ‏إلى ‏ماتقوله‏ ‏عن‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏وما‏ ‏تمثله‏ ‏بمنهجها‏ ‏من‏ ‏احتمالات‏ ‏فى ‏نموه‏ ‏وتطوره‏, ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏سنحاول‏ ‏استكشافه‏ ‏فى ‏القسم‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏فى ‏العدد‏ ‏القادم‏.‏
المراجع‏ ‏العربية
زكريا‏ ‏إبراهيم‏ (1968) : “‏دراسات‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏المعاصرة‏”
‏القاهرة‏ – ‏مكتبة‏ ‏مصر‏ (‏الفجالة(
عبد‏ ‏الفتاح‏ ‏الديدى (1966) : “‏الاتجاهات‏ ‏المعاصرة‏ ‏فى ‏الفلسفة‏”
‏القاهرة‏ – ‏الدار‏ ‏القومية‏ ‏للطباعة‏ ‏والنشر‏.‏
وولف‏ ‏ا‏. (1966) : “‏فلسفة‏ ‏المحدثين‏ ‏والمعاصرين‏”‏ترجمة‏ ‏د‏. ‏أبو‏ ‏العلا‏ ‏العفيفى
‏القاهرة‏ – ‏لجنة‏ ‏التأليف‏ ‏والترجمة‏ ‏والنشر
‏.‏يوسف‏ ‏كرم‏ (1969) : ” ‏تاريخ‏ ‏الفلسفة‏ ‏الحديثة‏
‏القاهرة‏ – ‏دار‏ ‏المعارف‏.‏
المراجع‏ ‏الأجنبية
‏Arieti, S. (1976). “The Intr apsychic Self”‏
‏New york:Basic Books, Inc., puvlishers‏
‏Encyclopaedia Britanica (1977)‏
‏15 th edition, vol. 14, Ps 10 – 15 (Phenomenology). Chicago/ London/…. – Helen Hem-ingway Benton Publishers.‏
‏Husserl,E. (1965) “phenomenology and the Crisis of philosophy”.‏
‏Translated with an introduction by Quentin ‏
‏Laure. New york: Harper Torchbools.‏
‏Thine”s, G. (1977) “phenomenology and the scuence of Behauiour”.‏

  1. ‏London: George Allen & Unwin.‏


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .