التصنيفات
تاريـخ,

ابن خلـدون و مفهـــوم التاريــخ ومزالـــق المؤرخيــن من المقدمة

ابن خلـدون و مفهـــوم التاريــخ ومزالـــق المؤرخيــن من المقدمة

كتب: طارق بن زاوي

16/02/1431 الموافق
31/01/2010

لقـد أسهم المسلمون في تطور الفكر الإنساني ، وظهر كثير من العلماء و الأدباء و المفكرين الذين تركوا إبداعات علمية غير مسبوقة في مختلف العلوم و الفنون ، ولا ينكر هذا إلا جاهل أو معاند يحاول حجب نور الشمس في واضحة النهار ، و من هؤلاء الأعلام الذين برزوا في زمن أوشكت فيه شمس الحضارة الإسلامية على الغروب ، المفكر و العالم الكبير عبد الرحمن بن خلدون الذي كتب فأبدع ، فكان بحق وحيد عصره و المتميّز عن أقرانه و شيوخه ، ولا تزال هذه الشخصية الفريدة لحـد الساعة محلّ بحث و دراسة لما جاءت به من آراء و نظريات جديدة خاصة في مجال التاريخ و ما أطلق عليه ابن خلدون العمران البشري .

وقد عني بدراسة شخصية هذا العَلَم جمع من العلماء شرقا و غربا ، والذي جعلهم يفردون له هذا الاهتمام الكبير، ذلك الكتاب و المؤلف التاريخي الكبير و تحديدا ما افتتحه به و الذي اصطلح على تسميته بالمقدمة ، والشيء الذي يهمّنا في هــذا العرض ما جاء في المقدمة من كلام حول التاريخ و نظرة ابن خلدون له من خلال ما كتب حوله ، فكان أول شيء تناولته في هذا الموضوع ترجمة موجزة لعالمنا ، ثمّ ذكرت تعريفه للتاريخ و تقديما لكتابه في هذا الفن ، و أردفت ذلك بنقل شيء من كلامه حول الأسباب التي تحمل المؤرخ على نقل أخبار خاطئة ، و أخيرا ذكرت بعض الأخطاء التي وقع فيها السابقون من سردهم لوقائع و أحداث لا يمكن التصديق بها و عدّها المؤلف ضربا من الخيال ، و قـد اعتمدت في النقل على ما جاء في المقدمة ، ناقلا كلام المؤلف بنصّه ، متدخلا بحذف و اختصار بعض العبارات فقط .


1– ترجمة ابن خلدون :

أ- نسبه : هو أبــو زيد ولي الدين عبد الرحمان بن أبي بكر بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن خلدون ، أصله من حـضرمـوت من اليمن وتحديدا من قبيلة كندة ، وقد دخل ابن خلدون الأندلس مع جند اليمنية و حلّ في اشبيلية سنة 92 هـ/710م ، ثم هاجرت أسرته إلى سبتة و استقرت بها إلى أن استدعى أبو زكريا الحفصي(1) الحسن جد عبد الرحمان إلى تونس فاستقرّ بها .
ب- حيـاتـه : ولد عبد الرحمن بتونس سنة 732 هـ/1332م ، وقد نشأ في بيت علم و رياسة ، و توارثت أسرته الاشتغال بالقضاء ، حفظ القرآن بالقراءات السبع ، و درس العلـوم الفقهية و اللغوية و الأدبية على يد شيوخ كثيرين أورد أسماء الكثير منهم في معرض حديثه عن نفسه .
لقد أصيبت منـاطق واسعة من إفريقيا الشمالية في منتصف القرن 8 هـ / 14م بوباء الطـاعون ، فهلك عدد كبير من السكان ، وكان من جملة الهالكين والدا ابن خلدون ، فتركاه وحيدا لم يتجاوز سن السابعة عشر ، فتابع دروسه مدة لكنّه أُجبر أن يبحث عن عمل ، فعينه السلطان أبو إسحاق الحفصي(2) كاتبا للعلامة ، و شرح ابن خلدون طبيعة هذا العمل فقال :" فكتبت العلامة للسلطان وهي وضع الحمـد لله و الشكر لله بالقلم الغليظ ممّا بين البسملة وما بعدها من مخاطبة أو مرسوم "(3) ، ولكن سرعان ما ترك هذا العمل بسبب الفتن و الاضطرابات ، فلجأ إلى الجزائر و حلّ ببسكرة عند صاحب الزاب ، و لما استولى أبو عنان المريني (4) على ما بين تلمسان و بجاية ، استدعى ابن خلدون لخدمته في فاس ، ونزل بها سنة 755 هـ/1352م ، وعينه أبو عنان أمين سرّه سنة 756 هـ / 1353 م ، فرضي بهذا العمل(5) .
وفي سنة 757هـ/ 1355م غضب عليه أبو عنان فسجنه و لبث في السجن إلى غاية وفاة السلطان المريني 759هـ / 1358م ثمّ عينه أبو سالم (6) كاتب سرّه سنة 762هـ/1361م و بعد مقتل أبي سالم ، انتقل ابن خلدون إلى غرناطة ، فرحب به أميرها أبو عبد الله الخامس (7) الناصري ، الذي كان قد التجأ مع وزيره لسان الدين ابن الخطيب (8) إلى فاس فوافقا هناك وجود ابن خلدون ، ولما تمكن أبو عبد الله من استعادة ملكه ، أكرم وفادة ابن خلدون و ضمه إلى حاشيته وكلّفه بمهمة إتمام الصلح مع القشتاليين سنة 765هـ / 1364م ، فقام بمهمته أحسن قيام ، لكن علاقته ساءت مع ابن الخطيب (9) فانتقل إلى بجاية و منهـا إلى بسكرة ، و لم يـزل يخـوض في السياسة حتى قرّر مقاطعتها و التفرّغ للعلم ، فنزل عند بني عريف في قلعة ابن سلامة (غرب الجزائر حاليا ) فأقام بها أربع سنوات ، حيث شـرع في كتابة مؤلفه الكبير في التاريخ ، وأتـمّ هناك مقدمته المشهورة ، ثم احتاج إلى التحقيق و التدقيق في المصادر ، فرغب في العودة إلى تونس فحل بها سنة 780هـ / 1378م ، وفيها أنهى كتابة العــبر و قدم نسخة منه لمكتبة السلطان (10) .
وفي سنة 784هـ / 1382م عزم ابن خلدون على حج بيت الله الحرام ، فنزل الإسكندرية في مصر و أقام بها شهرا استعدادا للتنقل إلى البقاع المقدسة ، غير أنّ مراده لم يتحقق هذا العام ، ثمّ أرسل في طلب عائلته من تونس ، غير أن مصابا جللا أصابهم جميعا ذلك أن السفينة التي كانت تحملهم إليه غرقت فماتوا ولم ينج منهم أحـد ، فذكر الله في مصابه ثمّ حجّ بيت الله الحرام(11) ، ثمّ عاد إلى القاهرة و اشتغل مدرسا بالأزهر الشريف ، و كان قبل وفاة أفراد أسرته تولى قضاء المالكية سنة 786هـ / 1384م ، ثمّ تخلى عنه و عكف على التدريس و العلم إلى أن حضرته المنيّة يوم 25 رمضان 808هـ / 17 مارس 1406م في القاهرة (12) .
ج- آثـــاره : تعتـبر المقدمة أهم إنتاج علمي في العصر الإسلامي الوسيط في مجال فلسفة التـاريخ والحضــارة ، فقد ضمّنها قواعـد منهجيــة خاصة بالبحث و التحقيق و النقد التاريخي و الاجتماعي و السياسي و من مبادئ التفكير العلمي الـذي اهتـدى به هو نفسه و قاده إلى نظرياته في العمران و حقائق الاجتماع و المعاش و الدولة و العصبية و البــداوة و الحضارة و العمل و الإنتاج و الدين و الأخلاق ، و لتميّز تفكيره ووضوح آرائه واقتصاره عـلى بحث ما هو واقع من ظواهر التاريخ و العمران ، يكاد يتفق الدارسون على أنه واضع فلسفة التاريخ ، و المؤسس لعلم الاجتماع المستقل بموضوعه و منهجه و مسائله (13) .
ولابن خلدون قصائد عديدة نضمها في مدح الملوك و الأمراء الذين خدمهم ، ذكر بعضها في كتابـه الضخــم الذي سماه كتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم البربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، و صدر هذا الكتاب ما عرف و اشتهر بمقدمة ابن خلدون .

2- مفهــوم التاريخ عند ابن خلـــدون :

إن المقـدمة هي الجـزء الأول من كتاب العبر ، و المستشرقون في مؤلفاتهم يطلقــون على الجزء الأول من الكتاب مع مقدمــــة المؤلف " مقــدمة في فضل علم التاريخ " ، و يطلقون عليها هذا العنوان العام المختصر و هو المقدمة ، و هذه التسمية مأخوذة عـن حـاجي خليفة ، كما نُقل عنه هذه التسمية " مقدمة ابن خلدون " التي ثبتت فيما بعد في المطبوعات الأوربية عن طريق التقليد (14) .
و يقسّم ابن خلـدون التـاريخ قسمين ، ظاهري و هو أخبار الأيام و الدول و القرون السابقة و قسم خفي و هو نظر و تحقيق و تعليل دقيق و علم بكيفية الوقائع و أسبابها و هذا كلامه بنصه : " فـإنّ فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم و الأجيال ، و تشد إليه الركائب و الرحال و تسمو إلى معرفته السوقة و الأغفال و تتنافس فيه الملوك و الأجيال ، و يتسـاوى في فهمه العلمـاء و الجهّال ، إذ هو في ظـاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام و الدول ، و السوابق من القرون الأول تنمو فيها أقوال و تضرب فيها الأمثال و تطرف فيها الأندية إذا غصّها الاحتفال ، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلّبت بها الأحوال و اتسع فيها المجال و عمّروا الأرض حتى نادى بهـم الارتحال ، و في باطنه نظـر و تحقيق و تعليل للكائنات و مبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق" (15) .
و تبعا لمفهوم ابن خلدون للتاريخ فإنّه أثنى على عمله و مؤلفه بعبارات بليغة نافيا عن نفسه أخطاء السابقين و مطبقا لما تضمنه تعريفه من نقد و تحليل فقال : " فأنشأت في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا و فصلته في الأخبــار بابا بابا، و أبديت فيه لأولية الــدول و العمران عللا و أسبابا ، فهذبت مناحيه تهذيبا ، وسلكت في ترتيبه و تبويبه مسلكا غريبا واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا ، و شرحت فيه من أحوال العمران و التمدن و ما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ، و ما يمتعك بعلل الكوائن و أسبابها ، و يعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتى تنزك التقليد من يدك و تقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك" (16) .

3- مزالـق المؤرخين في نظر ابن خلدون من المقدمة:

أ- أسباب أخطاء المؤرخين : يُعتبر ابن خلدون رائدا في مجال فلسفة التاريخ فهو يحرص على تأكيد التفسير العمراني و الحضاري للتاريخ ، فينتقد مناهج السابقين الذين لم يحـرصوا على تخليص البحث التاريخي من الأخبار الكاذبة ، و نقلوا عن غيرهم دون تمييز بين مـا يحتمل الصدق و ما لا يمكن أن يكون صادقا (17) ، و تشيـد المقدمة بكبار المؤرخين الذين أحلّوا التاريخ الإسلامي مكانته المرموقة أمثال الطبري (18) و المسعودى (19) ، فقيمة تواريخهم أكبر من أن تنكر و إمامتهم مسلّم بها ، و لكن هذه الإمامة كانت سببا في أن وقع التسليم بكثير مما نقلوه عن خطأ ، فقد تأسست أخبار بناء على روايات ، فتلقاها هؤلاء الأئمة واستقرت في تواريخهم ، ولم تعد بحاجة إلي أن تسندها أسانيد ، فالسلطان المعنوي لهؤلاء الأئمة كـان وحده ضمانا لصحتها ، من أجل هذا يحتلّ نقد التقليد مكانا بارزا في القسم المخصص لنقد التاريخ من المقدمة (20) .
و ذكر ابن خلدون أسبابا كثيرة كانت وراء خطأ المؤرخين المسلمين ، و منها الاعتماد على مجرّد النقل فقط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل و لم تحكم أصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في المجتمع الإنساني ، ولا قيس الغائب منها بالشاهد و الحاضر بالذاهب ، فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلّة القدم و الحيد عن جادة الصدق ، لا سيما في إحصاء الأعـداد من الأموال و العساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب و مطية الهذر(21) .
ومنها الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم و الأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، فربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضي ، ولا يتفطن لما وقع من تغيير الأحوال و انقلابها ، فيجريها لأول وهلة على ما عرف و يقيسها بما شهد ، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في مهواة من الغلط (22) .
وكذلك التشيّع للآراء و المذاهب ، فإنّ النفس إذا كانت على حال من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص و النظر حتى تتبين صدقه من كذبه ، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة ، قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ، وكان ذلك الميل و التشيّع غطاء على عين بصيرتهـــا عن الانتقاد و التمحيص ، فتقع في قبول الكذب و نقله (23) .
كما ذكر ابن خلدون أيضا الثقة بالناقلين فقال : " ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار الثقة بالناقلين ، و تمحيص ذلك يرجع إلى التعديل و التجريح" (24) .
و أضاف إلى تلك الأسباب ميــل بعض المؤرخين إلى التقرب من أصحاب المراتب العليا بالثنـاء و المدح و تحسين الأحوال و إشاعة الذكر بذلك ، فتستفيض الأخبار على غير الحقيقة ، فالنفوس مولعة بحب الثناء و الناس متطلعون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة ، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل و لا متنافسين في أهلها (25) .
ب- من أخبار الأمم السابقة : يحمل ابن خلدون في المقدمة بشدّة على كبار المؤرخين الذين نقلوا أخبارا كثيرة دون أن يعملوا فيها نظرهم و يبحثوا فيها لتمحيصها ، فيثبتوا الصحيح منها و يطرحوا المخالف لأصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران ، ومن الأخيار التي تخص الأمم السابقة أخبار بني إسرائيل و التبابعة و العرب البائدة ، و سنذكر مآخذ ابن خلدون على هذه الأخبار ناقلين كلامه من كتابه بشيء من التصرف و الاختصار .
جيش بني إسرائيل : يأخذ ابن خلدون على المسعودي خاصة ما نقله في ذكر تعداد جيوش بني إسرائيل فقال : " و هذا كما نقل المسعودي و كثير من المؤرخين في جيش بني إسرائيل أن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه ، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون ، ويذهل في ذلك عن تقدير مصر و الشام واتساعها لمثل هذا العدد من الجيوش ، فلكلّ مملكة من المماليك حصة من الحامية تتسع لها و تقوم بوظائفها ، تضيق عما فوقها ، تشهد بذلك العوائد المعروفة و الأحوال المألوفة ، ثم إنّ هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال ، لضيق مســاحة الأرض و بعــدها إذا اصطفت ، فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتسع نطاق ملكهم و انفسح مدى دولتهم ، و القوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن و فلسطين و الشام ، و بلاد يثرب و خيبر من الحجاز إلى ما هو معروف (26) .
غـزوات التبابعة : و من الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة من أخبار التبابعة ملوك اليمن في جزيرة العرب أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية والبربر من بلاد المغرب ، و إلى التـــرك و بلاد التبت من بـلاد المشرق ، و أن افر يقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول ، و كان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل ، غزا إفريقية وأثخن من البربر و أنّه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم و قـال ما هذه البربرة ، فأخذ هذا الاسم عنه و أنه لما انصرف من المغرب ، جمــع هناك قبائل من حمير فأقاموا بها فاختلطوا بأهلها و منهم صنهاجة و كتامه (27) .
إرم ذات العمــاد : و هنا ينقل ابن خلدون ما أورده المؤرخون في حكايتهم خبر عاد و هم من العرب البائدة التي أبادها الله بعد أن أرسل إليهم فيه هودا فكذبوه فيقول : " و أبعد من ذلك و أعرق في الوهم ، ما يتناقله المفسرون عن تفسير سورة الفجر عند قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد " (28) ، فيجعلون إرما اسما لمدينة وصفت بأنها ذات العماد أي الأساطين ، و ينقلون أنه كان لعاد ابن عوص بن ارم ابنان هما شديد و شداد ملكا من بعده ، و هلك شديد فخلص الملك لشداد و دانت له ملوكهم ، و سمع وصف الجنة فقال: لأبنينّ مثلها ، فبنى مدينة في صحارى عدن في ثلاثمــائة سنة و كان عمره تسعمائة سنة ، و أنّها مدينة عظيمة قصورها من الذهب و الفضة و أساطينها من الزبرجد و الياقوت ، وفيها أصناف الشجر، و لما تمّ بنـاؤها سار إليها بأهل مملكته حتى إذا كان على مسيرة يوم و ليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء ، فهلكوا كلّهم " (29) .
ج- من أخبـار المسلميــــن :
نكبة البرامكة : و هنا ينفي ابن خلدون ما يذكره المؤرخون من أن سبب نكبة البرامكة كان زواج جعفر بالعباسة أخت الرشيد زواجا سريا بعد أن رفض الخليفة هارون الرشيد ذلك ، ينفي ذلك بقوله أن العباسة لأشرف من أن تدنس نسبها بنسب مولى فارسي الأصل و هي بنت خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز و الخلافة النبوية (30) ، ثّم يورد ما يرى من سبب نكبة هؤلاء القوم قائلا : " وإنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة و احتجابهم أموال الجباية ، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل ، فغلبوه على أمره و شاركوه في سلطانه ، و لم يكن له معهم تصرف في أمور ملكـه فعظمت آثارهم و بعُــد صيتهم و عمروا مراتب الدولـة و خططها بـالرؤساء من ولدهم و صنائعهم و اختاروهم عمن سواهم من وزارة و كتابة و قيادة و حجابة و سيف و قلم ، فيقال أنّه كان بدار الرشيد من ولد يحي بن خالد خمسة و عشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب لمكانة أبيهم يحي في كفالة هارون ، و انبسط الجاه عندهم وانصرفت نحوهم الوجوه ، وخضعت لهم الرقاب و قصرت عليهم الآمال ، و مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم ، واستولوا على القرى و الضياع من الضواحي و الأمصار ، فاحقدوا الخاصة فكشفت لهم وجوه المنافسة و الحسد (31) .
الرشيــد و الخمر : و نفى ابن خلدون ما رُمي به الرشيد من معاشرته الخمر ، فعرض شيئا من سيرته و أثنى عليه ، فكان ممّا قال : " و أما ما نموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر و اقتران سكره بسكر الندمان ، فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء ، و أين هذا من حال الرشيد و قيامه بما يجب من منصب الخلافة من الدين و العدالة ، و ما كان عليه من صحابة العلمـاء و الأوليـاء ، و بكائه من مواعظهم ، و ما كان عليه من العبادة و المحافظة على أوقــات الصلوات و شهـود الصبح الأول وقتها ، و كان يغزو عام و يحج عاما " (32) ، كما أشاد ابن خلدون بجدّ الرشيد أبو جعفر و أبيه المهدي ، و ما كان من سيرتهما الحسنة ،كلّ ذلك دواع قوية لأن تبعد هذه الشبهة عن هارون الرشيد .
مدينـة النحاس : نقل ابن خلدون هنا ما حكاه المسعودي عن مدينة النحاس و يـرى أنّها لا تعدو أن تكون مجرد أسطورة نسجها بعض القصاص ، قال رحمه الله : " و كما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس و أنّها مدينة كلّ بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ( جنوب المغرب الأقصى حاليا ) ، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب ، وأنّها مغلّقة الأبواب ، وأنّ الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق و رمي بنفسه فلا يرجع آخر الدهر" (33) ، ثّم علل قوله فأردف قائلا :" ثمّ إنّ هذه الأحـــوال التي ذكروا عنها كلّها مستحيل عـادة منـاف للأمـور الطبيعية في بنـاء المدن و اختطاطها ، و أنّ المعــادن غاية الوجود منها أن يصرف في الآنية و الخرثي( أثاث البيت) و أمّا تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة و البعد (34) .
لقد تمكن ابن خلدون من إعطاء نظرة جديدة لكتابة التاريخ ، فدعا إلى عدم الوقـوع في التقليد و نقل الأخبـار دون تمحيص و تدقيق ، و نقم بشدة على من سبقه من المؤرخين اعتمادهم هذا الأسلوب الذي كان سببا في رسوخ الأخبـار الكاذبة عند عامة الناس .
لكنّ السـؤال الذي يطرح نفسه ، هل كل ما ذكره ابن خلدون مسلم به لا يحتمـل المناقشة ؟ و هل سلم من الأخطاء التي رمى بها غيره في مجال الكتابة التاريخية ؟ .
لا شك أن كلّ رجل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك قاصدا بذلك النبي صلّى الله عليه و سلّم ، فبعض ما حكاه ابن خلدون من تزييف و تضليل و أخبار واهية لا شك في سداد رأيه فيها ، و أما البعض الآخر فقبوله أو نفيه يحتاج إلي بحث و تتبع ، من ذلك مثلا إثباته نسب العبيديين ( الفاطميين ) الشريف بقوله الناس مصدقون في أنسابهم ، فلا يمكن أن يٌعدّ هذا القول قاعدة علمية ، خاصة و أنّه قد شاع ادّعــاء النسب الشريف و أنّه كـان مطية لكل راغب في مجد أو سلطة ليخدع به عواطف المسلمين و يملك قلوبهم ، و ذلك لتعظيم و محبة العامة آل بيت النبي صلّى الله عليه و سلّم .
وأخيرا يمكن القول : إن ابن خلدون يُعتبر رائدا في مجال فلسفة التاريخ و العمران البشري و ما يعرف حاليا بعلم الاجتماع ، وقد شهد بهذا كل من درس هذه الشخصية بموضوعية سواء من علماء الإسلام أو من المستشرقين على حد سواء .

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

1-أبو زكريا الحفصي: يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص ، أول من استقل بالملك و أسس الدولة الحفصية في تونس سنة626 هـ / 1222م ، ولد سنة 598 هـ و توفي سنة 647 هـ / 1249م (خير الدين الزركلي، الأعــلام،دار العلم للملايين،بيروت،ط 11،1995،ج8، ص155) .
2-أبو إسحاق الثاني: إبراهيم بن أبي بكر المتوكل على الله من ملوك الحفصيين في تونس ، وليها سنة 751 هـ/1350م وهو غلام و قام بأمره حاجب والده أبو محمد بن تافراجين ، تميز عهده بالفتن ، توفي سنة 770 هـ / 1368م ( الزركلي، الأعلام ، ج1، ص34 ) .
3- ابن خلدون، كتــاب العــبر ، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1983 ، ج14 ، ص849.
4-أبو عنان فارس المتوكل أحد أمـراء المرينيين في المغرب الأقصى، حكم بين سنتي 749 هـ/1348م و 759 هـ/1357م ، مد سلطانه حتى وصل بجاية ، ودخل في حروب مع جيرانه، توفي مقتولا في قصره في فاس (حسين مؤنس، تاريخ المغرب و حضارته العصر الحديث ، بيروت ، ط1 ، 1992 ، ج3 ، ص53).
5 -د/أبو عمران الشيخ و آخرون، معجم مشاهير المغاربة، منشورات دحلب ، الجزائر 2000 ، ص164
6- أبو سالم بن أبي الحسن : سلطان مريني ، بويع سنة 760هـ/1358م و قتل سنة 764هـ/1362م (حسين مؤنس، تاريخ المغرب و حضارته، ج3، ص57) .
7 – أبو عبد الله محمد الخامس الناصر: محمد بن يوسف بن إسماعيل ثامن ملوك دولة بني نصر ابن الأحمر في غرناطة، ولد سنة 739هـ/1338م ، تولى الحكم بعد وفاة أبيه سنة 755هـ/1353م ، و جدد رسوم الوزارة لوزير أبيه لسان الدين بن الخطيب، خلعه أخوه إسماعيل سنة 761هـ/1359م ثمّ عاد إلى الحكم مرة ثانية سنة 763هـ/1361م و في هذه المرة نكب وزيره لسـان الدين ، توفي أبـو عبـد الله سنة 793هـ/1390م ( الزركلي، الأعلام ، ج7، ص153.)
8- لسان الدين ابن الخطيب: محمد بن عبد الله بن سعيد الغرناطي أبو عبد الله ، ولد سنة 713هـ/1313م بغر ناطة و نشأ بها ، استوزره سلطانها أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل سنة 733هـ / 1332م ثم ابنه من بعده محمد، ترك الأندلس بعد وشاية من حاسديه ، فالتجأ إلى تلمسان، ثم أعيد إلى غرناطة ووجهت له تهمة الزندقة و قتـل سنة 776هـ / 1374م ، له مؤلفات عديدة أهمها الإحـاطة في أخبار غرناطة ( الزركلي، الأعلام، ج6، ص235 ) .
9- د/ أبو عمران الشيخ و آخرون، مرجع سابق، ص167.
10- فؤاد افــرام البستاني، مقدمــة المقدمــة ، شركة الشهاب، الجزائر، ص14.
11- نفسه، ص15.
12- د/ أبو عمران الشيخ و آخرون، مرجع سابق ، ص166.
13- نفسه، ص168.
14- د/ سفيتلانا باتسييفا، العمران البشري في مقدمة ابن خلدون، ترجمة رضوان إبراهيم، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، 1978، ص157 .
15- ابن خلدون، المقــدمــة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ج1 ، ص 2 .
16- نفسه، ص6.
17- عفت الشرقاوي، في فلسفة الحضــارة الإسـلامية، دار النهضة العربية، بيروت، 1985، ص396 .
18- الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ، ولد في طبرستان سنة 224 هـ/838م ، رحل منذ صغره في طلب العلم ثم استقر في بغداد ، له مؤلفات كثيرة في مختلف العلوم، أهمها تفسير القرآن و كتاب تاريخ الرسل و الملوك، توفي الطبري سنة 310 هـ/922م (خير الدين الزركلي، الأعلام ، ج6 ،ص69 ) .
19- المسعودى : علي بن الحسين بن علي ، مؤرخ و رحالة من بغداد ، سكن مصر و توفي بها سنة 346 هـ/957م ، من أهم مصنفاته كتاب مروج الذهب و معادن الجوهر ( الزركلي، الأعلام، ج4 ، ص277 ) .
20- علي أومليل، الخطـاب التـاريخي دراسة لمنهجية ابن خلدون، معهد الإنماء العربي، طرابلس، ص63 .
21- ابن خلدون، مصدر سابق، ج1 ، ص13.
22- نفسه، ج1، ص48.
23- نفسه، ج1، ص57.
24- نفسه، ج1، ص58.
25- نفسه، ج1، ص58.
26- نفسه ، ص ص13-14.
27- نفسه: ص ص16-17.
28- سورة الفجر، الآية6.
29- ابن خلدون، المقدمة ،ص ص20 – 21.
30- نفسه، ص23.
31- نفسه، ص ص24 – 25 .
32- نفسه،ص27.
33- نفسه ،ص60.
34- نفسه ،ص61


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .