التصنيفات
علوم الإعلام والإتصال

واقع الصحافة المكتوبة العربية

واقع الصحافة المكتوبة العربية الجزائر نمودجا:
تعتبر الصحافة في مختلف دول العالم من وسائل الإعلام الأكثر أهمية للتحكم في الأوضاع وتوجيهها لخدمة أغراض وأهداف وطنية أو لخدمة السلطة أو الجهة المالكة للصحافة، ومع التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال، من أقمار صناعية وشبكات عنكبوتية باتت تغطي جهات المعمورة الأربع وتصل إلى أقصى نقطة فيها، متيحة الفرصة للعاملين في مجال الأخبار لنقل أدق تفاصيل الخبر وآخر تطوراته لحظة بلحظة، والتعليق عليه وتحليله على الهواء مباشرة من موقع الحدث، بالتوازي مع أجهزة الهاتف الجوال التي أضحت ناقلا مهما للأخبار الطارئة التي تأتينا عبر الرسائل القصيرة، تمكنت الصحافة من الازدهار وأصبحت تستأثر باهتمامات مختلف الأوساط، وتمثل مجال استقطاب للعديد من مراكز اتخاذ القرارات ومجموعات المصالح.

غير أن هذا التطور المذهل في عالم الصحافة أدخل الجزائر منذ الانفتاح الديمقراطي الذي أقره دستور 23 فبراير 1989 م في طوفان إعلامي سببه قضية جوهرية، هو أن طبيعة النظام السياسي لا يقبل إلا بهامش يسير من الحرية على ضيقه… وعندما نتكلم عن هامش الحرية في الجزائر اليوم، يقودنا الحديث عن حرية التعبير التي تتميز بها الصحافة الخاصة المكتوبة فقط، رغم أن معظمها ينتهج أسلوب اختلاق الخبر والانتقائية والكيل بمكيالين..

قد يعطي حال الصحافة المكتوبة في الجزائر الانطباع بأنها مشرقة، لكنها في الحقيقة بائسة، بل شديدة البؤس.. وعنوان بؤسها هو احتكار المطابع ففي الجزائر ست مطابع كبيرة تسيطر الحكومة على خمسة منها تطبع لجل الصحف التي تبقى رهينة التوقيت الذي تحدده لها لتسليم الصفحات حتى يمكن سحب الصحيفة، وحتى حجم سحب كل صحيفة مرهون بطاقة هذه المطابع التي تعاني الاكتظاظ، بغض النظر على قدرة كل عنوان على استقطاب القراء. فيما يبقى مشروع مطبعة الجنوب متوقف والمطابع الخاصة بالشرق والغرب تنتظر الفرج، علاوة على أنها بحاجة إلى ضمانات كبيرة..

وما يزيد بؤس الصحافة المكتوبة مشكل الورق المستعمل في الطباعة، فالورق المستعمل مستورد ولا تتوفر فيه أدنى المعايير والشروط المعمول بها عالميا، ناهيك عن تمسك الصحف بالشكل المتوارث من الحقب الماضية واقتصارها على أربعة وعشرين صفحة أو ما يزيد بقليل، وسعيا منها لارتقاء بمستوى الصحافة الإلكترونية من حيث المحتوى والشكل انتهجت طريقة “نسخ لصق” باقتباس المواضيع، بل يزيد بسرقة ما ينشر في المواقع الإخبارية ونسبها لبعض صحفييها…
ويتفاقم بؤسها باحتكار المال حيث أصبحت مداخيل الإشهار تضمنها الوكالة الوطنية للنشر والإشهار للصحف المخنوقة بفضل تعليمة الحكومة الصادرة في ماي 2022، والتي تجبر المؤسسات العمومية على تمرير إعلاناتها على وكالة الإشهار العمومية قبل أن يتم توزيعها على الصحف. وهو قرار يرهن تسليم الإشهار العمومي إلا للتلميذ النجيب الذي يحفظ الدروس، فالكثير من الصحف اختفت لأسباب تجارية، وأخرى متعلقة بعقاب السلطة لها على خطها الافتتاحي حتى باتت الصحف التي فلتت من احتواء السلطة شديد الحرص على توازنها المالي أو ربحها، وتموقعها في بيئة اقتصادية يميزها الفساد والصراع المستميت حول الريع.. وربما يتعدى التغطية على الفساد وأحيانا المشاركة فيه والاغتراف منه..

البؤس يتسع ليشمل الصحافيين الجزائريين بسبب القوانين الزجرية في حقهم، ونذكر في هذا الشأن مرسوم حالة الطوارئ، ثم قانون العقوبات المعدل في جويلية 2001 م، حيث تم تشديد العقوبات على جنح الصحافة لا سيما القذف في حق رئيس الجمهورية والمسئولين السامين في الدولة. ولا زلنا إلى اليوم بقوانين تقر بسجن الصحافي عقابا له على كتاباته، والصحافيون يفتقدون لأدنى حماية في ممارسة مهامهم، فهم أول من يكون محل متابعة وتعنيف لما يكتبون عن الفساد، ويكفي في هذا الشأن ذكر عدد الصحافيين الذين مثلوا أمام المحاكم، أو أدخلوا السجن وعانوا من المضايقات وتلقيهم عشرات الاستدعاءات لأنهم أدانوا سوء التسيير والتجاوزات بالإضافة لحالات حرمان مراسلين أجانب من الاعتماد.

معاناة الصحفي لا تتوقف في حدود الحصار الذي تفرضه الخطوط الحمراء، بل تتعدى ليضيق به مكان عمله في التحرير والعمل، فكثير هي الصحف التي لا تتوفر على مكاتب وحتى وإن وجدت فهي تضيق بأهلها كون ولليوم لم توفر الدولة مكان يسع الجميع رغم الوعود… ويمضى الصحفي في العمل ليواجه حصار أخر عن سابقه يتمثل في شبح الحياة الاجتماعي فالكثير منهم يعانون الويل في حياتهم بحثا على لقمة العيش ويحلمون بالحصول على حاسوب محمول، ناهيك عن معاناتهم في الحصول على سكن يأويهم، أو على الأقل رفع الأجور التي لا يتعدى في أحسن الحالات 300 دولار… إلا أن كرامتهم لا تسمح لهم بالتشهير بوضعيتهم المأساوية… فقد وصل الأمر إلى حد مطالبة أحد الصحفيين بالتبرع بكليته مقابل الحصول على مبلغ مالي لشراء بيت لعائلته التي تعيش في الشارع بعد طردها من مسكنها، والأدهى من ذلك أن المساعدة التي تلقاها المعني جاءت من بلد العراق الذي يقبع تحت وطأة الاحتلال، في وقت أدارت – فيه السلطة والنقابات وحتى مؤسسات عمل فيها من قبل كصحفي – ظهرها ولم تكترث لوضعيته، وكثيرون هم أمثال هذا الصحفي…

الواقع المزري يدفعنا للحديث عن واقع التشغيل في هذا القطاع الذي أصبح استغلاليا بقطاعه العام والخاص، فكثير هي الأقلام الشابة، بل يتعدى حتى ليشمل مختلف شرائح رجال الإعلام الذين يواجهون البيروقراطية والإقصاء في مختلف المؤسسات الإعلامية، زد على ذلك وجود ظاهرة التشغيل بعقود ما قبل العمل لتقليل من النفقات ليجد الإعلامي نفسه بعد عام من الاستغلال عاطل عن الشغل ويبحث عن مصير جديد ليبدأ حياته من جديد.. وما يحمس المدراء والمسئولين هم أصحاب الوظائف المزدوجة ذوى الخبرة في جلب الأموال بطرق إلتوائية، ويكون جزاءهم جزء من ذاك المال وقد يتجاوزه إلى منصب عمل في تلك المؤسسات أو لأحد أقاربهم من لا علاقة له بالصحافة…

ورغم الحصار المضروب إلا أن المحيط القانوني في الجزائر ساعد على وجود حرية إعلامية وتعددية عبر صفحات الصحف ارتبطت بالتعددية السياسية التي عجلت الأحداث المأساوية في تشكلها، فكانت مضربا للمثل عربيا وحتى دوليا، وجعل من الجزائر بلد له السبق في بناء صحافة حرة بلغت الجرأة ما لم تبلغه حتى صحافة بعض الدول الديمقراطية وحرية لتعبير، إلا أن هذه الصورة لم تعمر طويلا فتحول إلى بلد يتلذذ بسجن الصحفيين وملاحقتهم عند كل منعرج وكأنهم مجرد مجرمين…

لقد سمحت تلك الحقبة إلى إصدار ستين يومية ونحو مائة أسبوعية، وفُرض توازي بين الصحف المكتوبة باللغة العربية والمكتوبة باللغة الفرنسية كون الساحة الجزائرية تتميز بثنائية الملكية، والسوق اليوم يضم ست صحف حكومية والباقي خاصة، لأفراد وأحزاب، الخاصة تسعى للإثارة والانتشار’ والحكومية تعمل على التأكيد أن كل شيء على ما يرام..

الوضع الذي آلات له الصحافة الجزائرية يتطلب اتخاذ الإجراءات والضوابط الملائمة لترشيد الصحافة لخدمة الثقافة والفكر بهدف تغيير المجتمع نحو الأفضل، ومواجهة الإعلام الثقيل، والتصدي لهيمنته الدولة التي تتضح جليا من خلال سيطرتها على وكالة الأنباء والتلفزيون والإذاعة، وفرضها رقابة مشددة على مصدر الخبر، زد على ذلك إعلان السلطة صراحة أنها لن تفتح مجال الإعلام السمعي بطري أمام التعددية إلى حين تشاء..

وأمام هذا السد يلجأ المواطن إلى الفضائيات العالمية التي تلقى صدى كبير أمام شح التلفزيون والإذاعة للأخبار والبرامج والأعمال الهادفة كما ومضمونا حتى باتت هذه الوسائل يتيمة غائبة من قائمة القنوات المفضلة لدى أفراد المجتمع، وما يزيد نفور الفرد لها اتباع هذه الوسائل لغة إعلامية لا تزال أسيرة لغة فارغة ومطنبة بمفردات الثناء على كل ما هو رسمي بغية التلميع الدائم للسراب.. والكل يعلم مدى التأثير الكبير لهذه الوسائل الإعلامية في بلد بلغت نسبة الأمية فيه الـ 30 % من مجوع السكان، ونفهم لماذا تصر السلطة على احتكارها، وتشجيعها للبرامج الهزيلة وعديمة المنفعة والمصداقية ومثيرة السخرية، فالسبب يكمن في مستوى ومدى وعي المسئولين المسيرين للتلفزيون بقنواته الثلاث والإذاعة بقنواتها الوطنية ومحطاتها الجهوية…

من الترف الحديث عن صحافة حرة ومتطورة في الجزائر، في ظل انعدام منظمات قوية لأهل المهنة ونواد وتقاليد نقابية، وفضاءات حرة لمناقشة القضايا الأخلاقية والمهنية والاجتماعية. هذا الوضع غذته انقسامات فكرية وولاءات سياسية ودوافع مصلحية، والقوى التي تخيفها حرية التعبير لا تقبل بوجود هذه الفضاءات. لذلك لا عجب أن تصنف الجزائر في الرتبة 129 من بين 167 دولة تعاني من غياب حرية التعبير، في ترتيب منظمة “محققون بلا حدود” غير الحكومية الصادر في العام المنصرم 2022، بمعنى أن الجزائر فقدت 34 نقطة مقارنة بأول ترتيب أقامته نفس المنظمة سنة 2022 وهي عام بعد عام تتأخر في الترتيب ومن غير شك أن مرتبة العام 2022 لن يؤشر عليها بالأخضر، طالما أن هناك قوانين تجرّم الصحافيين بحجة القذف والتشهير فالصحفي وإن انحرف بكتاباته أو تمادى ربما في الإساءة لا يمكن أن يعامل معاملة المجرم لأن الرأي حتى وإن كان لم يعجب البعض يبقى رأيا، إضافة للقائمة السوداء التي تتضمن أزيد من 60 صحيفة تم تعليقها وتمنع من الصدور لعدة تبريرات، فضلا عن سياسة التضييق المتواصل على مصادر الخبر والتوزيع غير المنصف للإشهار، والأهم لماذا تعجز الحكومات المتوالية عن إنجاب قانون للإعلام يكون في مستوى طموحات كل المهتمين بهذا القطاع الاستراتيجي ؟

لقد تلقى الوسط الإعلامي عدة دعوات من مختلف الوزراء المتعاقبين على قطاع الإعلام من رحباني إلى هيشور مرورا بمحي الدين عميمور وخليدة تومي ومحمد عبو، فكل هؤلاء جمعوا الصحفيين في لقاءات لإثراء مسودة مشروع قانون للإعلام لم ير النور أبدا، شأنه شأن مجلس أخلاقيات المهنة… واليوم الدور على الوزير الهاشمي جيار لتنشيط المشاريع المتأخرة خاصة أنه أكد أنه هناك إرادة سياسية قوية لتأهيل قطاع الإعلام بمختلف تشكيلاته.

والواقع اليوم ورغم الصورة المحتشمة للصحافة الجزائرية إلا أنها سجلت حضورا في ميدان جديد قد يجهله الكثير هو الإعلام الإلكتروني من خلال إطلالة مجموعة من المواقع الإعلامية المهتمة بالأخبار وتحاليل الأحداث أو حتى الإطلالة الإلكترونية للصحف المطبوعة، فكان لهذه المواقع إسهامات مهمة في استخدام الإنترنت كوسيلة صحفية، باعتبارها وسيلة تكنولوجية مفتوحة المجال نحو العالمية للحريات عبر كل المجتمعات. الظاهرة ورغم حداثتها وجدت صدى لدى الجزائريين في الداخل والخارج أيضاً، رغم أنه من المبكر جداً الحكم عليها ومدى تأثيرها على مستقبل الصحافة بالنظر إلى أن صحافة الورق لا تزال إلى اليوم سيدة الموقف، فإن ذلك لا ينسينا ما نراه في جيل الشباب من افتتان بالمواقع الإلكترونية متابعة لها واستفادة مما تضخه من معلومات بسرعة ومهنية عالية رغم حداثتها”
تقرير مراسلين بلا حدود حول الجزائر
التقرير السنوي للعام2008
بالرغم من هشاشة الصحافة المستقلة الجزائرية، إلا أنه لا مناص منها. تتصدّى للسلطات أكثر من أي حزب سياسي من أحزاب المعارضة، مساهمةً في تشكيل ثقافة ديمقراطية. بيد أن العدد الملفت للصحف المطروحة في السوق لا يدل بأي حال من الأحوال على سيادة حرية التعبير والتعددية الإعلامية.
في التاسع من نيسان/أبريل الماضي، أعيد انتخاب عبد العزيز بوتفليقة على رأس الجزائر لولاية ثالثة. وفي أيار/مايو 2022، وغداة إعادة انتخابه للمرة الأولى، جدد إصراره “على صون حرية التعبير” في الجزائر معتبراً في بيان صحافي أنه متمسّك بضمان “الممارسة الفعلية لحرية التعبير للجميع بما يتماشى مع أحكام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. إلا أن الوضع لم يشهد أي تغييرات ملحوظة بالرغم من هذه الالتزامات المؤيّدة لحرية التعبير.
لا تزال عقوبات السجن والغرامات تفرض على كل من يرتكب جنح صحافة علماً بأن المادة 144 مكرر من قانون العقوبات الجزائري (المرعي الإجراء منذ العام 2001) تنص على عقوبات بالسجن تتراوح بين عامين واثني عشر عاماً وغرامات لكل تصريح يعتبر تشهيرياً. ولا شك في أن التهديد بالسجن هذا بيقى سيفاً مسلطاً على كل الصحافيين الجزائريين. فإذا بالدعاوى القضائية المرفوعة ضدهم ومدراء المؤسسات الإعلامية تزداد فيما لا تفرغ المحاكم منها.
وبالرغم من نهاية احتكارها لقطاع الصحافة في العام 1989 الذي سمح لعدة صحف بأن تبصر النور، إلا أن الحكومة الجزائرية لا تزال تحتفظ بسيطرتها على الطباعة والنشر. صحيح أن الخبر والوطن تمكنتا من إنشاء مؤسسة مستقلة تتولى إدارة مطبعتين ونظام توزيع مستقل (“مؤسسة الجزائر للطباعة والنشر الصحافي”)، لكن هاتين الصحيفتين اليوميتين تستفيدان وحدهما منها. أما الصحف الأخرى فتعتمد كلياً على مطابع الدولة. ولم يساهم إنشاء وزارة الاتصال في تموز/يوليو 2022 مجموعة من الشركات إلا في تعزيز سيطرة الدولة على هذا الميدان. وبالتالي، يعدّ هذا النظام كفيلاً بالحد من أي هامش تحرّك قد تستفيد منه الصحف الراغبة في إلقاء نظرة انتقادية على المجتمع والحياة السياسية الجزائرية. وينطبق الوضع نفسه على توزيع الصحف: باستثناء الخبر والوطن اللتين نجحتا في إرساء شبكة مستقلة، لا تزال الصحف الأخرى تعتمد على شركات التوزيع التابعة للدولة.
مع احتكار استيراد الأوراق، تستكمل السلطات الجزائرية فرض سيطرتها مع الإشارة إلى أنها تملك سلاحاً اقتصادياً إضافياً ضد المتمرّدين عبر احتكارها لتوزيع الإعلانات. فمنذ نيسان/أبريل 1968، تتولى الوكالة الوطنية للنشر والإعلان المنشأة في كانون الأول/ديسمبر 1967 توزيع إعلانات الإدارات والشركات وفقاً للخطوط الافتتاحية، مخصصةً أموالها للصحف المقرّبة من النظام أولاً. ولا يزال القطاع المرئي والمسموع في قبضة السلطة منذ العام 1963.
ولا تتوانى السلطات الجزائرية عن حظر نشر الصحف الدولية في الجزائر باستمرار. ففي بداية نيسان/أبريل 2022، تعرّضت المنشورات الفرنسية الثلاث لكسبرس وماريان وجورنال دو ديمانش للحجب عشية الانتخابات الرئاسية. وفي السابع من آذار/مارس 2022، حظر توزيع أسبوعية أفريك ماغازين بتهمة “الإساءة إلى القيم الوطنية” تماماً كما العدد 2991 من أسبوعية لكسبرس بتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2022 بتهمة “الإساءة إلى الإسلام”. وفيالصحـــافة المكتوبة العربية في مواجهة الصحافة الإلكترونية
إذا اندثرت الصحافة الورقية فلتندثرْ. هذا كل ما يمكن قوله عن أنباء نعيها المتواترة منذ ظهور الراديو، ثم التلفزيون، وأخيراً الكومبيوتر، وشبكة الإنترنت. و”الأخبار السيئة تنتقل بسرعة، حسب المثل الإنجليزي. وقد بلغت سرعة انتقال أخبار نهاية الصحافة الورقية حدّ أن العالم ما يزال يحاول اللحاق بها منذ مطلع القرن الماضي. هل يعود ذلك إلى أن الناس يعز عليهم التخلي عن عادة قراءة الصحف الورقية، أم أن نهايتها أضغاث أحلام؟

يتوقف الجواب على ما إذا كنا من مالكي إمبراطوريات إعلامية، كالاسترالي “روبرت مزدوج الذي خسرت شركته العملاقة “نيوزكورب” ثلاثة مليارات و400 مليون دولار في العام الماضي، أو كنا من مُنّظري الإعلام، كالكاتب الأميركي “كلاي شيركي” الذي يعلن ابتهاجه بالوفرة التي جلبتها شبكة الإنترنت للنشر الصحافي. هذا بعض ما يُتوقع أن يناقشه مؤتمر “الصحافة الورقية بين الواقع والطموح” الذي تعقده صحيفة “الاتحاد” في أبوظبي الأسبوع المقبل. والمؤتمر الذي سيشارك فيه عدد من أبرز المفكرين العرب، مكان جيد لبحث فشل الصحافة العالمية في بيع طبعاتها على “الإنترنت”. هل يعود ذلك إلى توقيت البيع مع الأزمة المالية، أم لأن قراء الإنترنت يريدونها مجانية؟

روبرت مردوخ، ناشر صحف عالمية عدة، بينها “تايمز” البريطانية العريقة، و”صن” التي تعتبر أكثر الصحف الشعبية رواجاً، أعلن أخيراً عزمه على إنهاء القراءة المجانية لصحفه على الإنترنت في العام المقبل. وسيبدأ نهاية الشهر القادم في فرض أجور على قراء الطبعة الإلكترونية لصحيفته الأسبوعية “صانداي تايمز”. وهذا هروب إلى الأمام. فصحيفة “صانداي تايمز” التي كانت “البقرة الحلوب” لتغطية خسارة الصحف الأخرى، سجلت في العام الماضي لأول مرة خسارة بلغت نحو 25 مليون دولار، بعد أن كانت قد حققت أرباحاً بلغت نحو 85 مليون دولار عام 2022. ورغم نجاح مردوخ في إقامة إمبراطورية إعلامية، تشمل فضائية “سكاي”، لا يتوقع المراقبون أن يعيد التاريخ نفسه، وأن ينجح كما في ثمانينيات القرن الماضي في تحدي قواعد السوق الإعلامية العالمية.

ولم تفلح لحد الآن سوى “وول ستريت جورنال” الأميركية، و”فاينانشيال تايمز” البريطانية في تقاضي أجور من قراء طبعاتهما الإلكترونية. يعود ذلك إلى طبيعة مادة الصحيفتين اللتين تعتبران أكبر صحف المال والأعمال العالمية، ومعظم قرائهما رجال أعمال لا يدفعون أجور الاشتراك من جيبهم الخاص، بل عبر شركاتهم.

وقد فشلت الصحف العامة في ذلك، لأن “جدار الأجور” يقلل عدد قراء الطبعة الإلكترونية وبالتالي إعلاناتها. تذكر ذلك “فيفيان شيلر”، المديرة العامة السابقة لصحيفة “نيويورك تايمز” التي تعتبر أكثر الصحف الأميركية نفوذاً. وكانت “شيلر” قد فرضت أجوراً عام 1996 على قراءة الطبعة الإلكترونية، رغم اعتراض كتابها المرموقين، ولم تتراجع عن قرارها إلاّ عندما وجدت أنه يؤدي إلى هبوط الإعلانات على موقع الصحيفة في الإنترنت.

وسار في الاتجاه المعاكس تماماً الملياردير الروسي “ألكساندر ليبيديف” الذي شرع هذا الأسبوع بتوزيع صحيفة “إيفننغ ستاندرد” اللندنية مجاناً. وكان ليبيديف قد اشترى، ولقاء جنيه استرليني واحد، الصحيفة التي كانت تسجل خسارة كبيرة بملايين الدولارات شهرياً، رغم أنها الصحيفة المسائية الوحيدة. ويتوقع أن يقضي بيعها مجاناً على صحف مجانية أخرى ستفقد الإعلانات، مصدر رزقها الوحيد. وهذه مفارقة ظريفة إذا صح ادّعاء الصحف أن ليبيديف كان جاسوساً سوفييتياً!

ويبدو الموضوع بالنسبة لكثير من منظري الإعلام، كما رآه الفيلسوف الألماني كارل ماركس، الذي كان يتندر على نصيحة أم زوجته بأن يكوِّن بدلا من الكتابة عن “الرأسمال” رأسمالا يعيش منه! نظرة ماركس المتفائلة حول دور القوى المنتجة في التاريخ، تشكل أساس فلسفات حالية عن تأثير التكنولوجيا الإلكترونية على الصحافة والإعلام عموماً. الكاتب الأميركي “كلاي شيركي” يعتبر وفرة الإنتاج أهم مشكلة تواجهها صناعة النشر منذ اختراع الألماني “غوتنبرغ” الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر. إنتاج نسخة من كتاب أصبح يستغرق وقتاً أقل من قراءته، والأمر نفسه في النشر الصحفي الذي ولد عقب اختراع الطباعة مباشرة. الوفرة في الإنتاج طرحت مشكلة اختيار الكتب أو المقالات التي تستحق النشر، وأدى هذا إلى ظهور المحررين الذين يقوم دورهم الإبداعي على اختيار ما يُنشر وتنقيحه.

هذه الوفرة في الإنتاج أصبحت مع ظهور شبكة الإنترنت وفرة في المنتجين. فالإنترنت نقل آلية إعادة الإنتاج والتوزيع إلى شبكة هياكل ارتكازية مفتوحة لكل من يشارك فيها. ولا تعاني أجهزة الكومبيوتر المشاركة في هذه العملية من عدم التوازن بين سعر شراء جهاز تلفزيون وكلفة امتلاك محطة تلفزيون. فالتوازن هنا كما في استخدام الهاتف، حيث يمكن لمن يسمع أن يتكلم، ولمن يقرأ أن ينشر. ولا يعني هذا في تقدير الكاتب الأميركي أن موهبة التحرير الصحفي أصبحت مبذولة، بل يعني توفر فرص أكثر لعرض مواهب الموهوبين الذين يظلون قلة. ويتيح النشر على الإنترنت الفرصة حتى لمن يُسمون “أصحاب القصيدة الواحدة” أن ينشروها حول العالم من دون الحاجة إلى إيجاد ناشر والخضوع لعقود النشر. لقد زالت القيود الاقتصادية، ولم يعد السؤال الملح لهواة الكتابة هو: “لماذا ننشر هذا”؟ بل أصبح: “لماذا لا”؟!

هذا التحول حقق أعظم زيادة في القدرات التعبيرية في تاريخ البشرية: ناس أكثر يمكن أن يوصلوا أشياء أكثر لأناس أكثر مّما في أي وقت مضى. هل نندب الآن ثقافة الإعلام على هذا العدد الكبير من المشاركين، وعلى الهبوط بالنوعية، وتدمير هيبة صناعة النشر؟ الجواب على ذلك ليس هو أن نريد وسيلة إعلامية تتيح لكل شخص أن ينتج مضموناً، بل كيف نستخدمها. فالصحافة الورقية ليست كل الصحافة، والصحفيون ليسوا كُتّابا من ورق، ومصطلح “الصحافة الورقية” قاصر عن الإحاطة بإبداعهم. ولن تندثر الصحافة الورقية ما لم يتم العثور على وسيلةأخف وزناً وأسهل حملا من الورق، وحروفها أوضح، يمكن تصفحها حتى في السرير، وأكاد أقول أزكى رائحة من الورق، وأن تملك في آن سحر الصحيفة الإلكترونية.

فهذه المقالة التي أكتبها على الكومبيوتر في ضواحي العاصمة البريطانية لندن، أُرسلها مباشرة عبر شبكة الإنترنت إلى مقر صحيفة “الاتحاد” في أبوظبي، حيث يراجعها محررو قسم “وجهات نظر”، وتُحول عبر الشبكة الداخلية للصحيفة إلى المصمم الذي يصممها ضمن الصفحة على شاشة الكومبيوتر، ثم تُبث الصفحات المصممة عبر الإنترنت إلى المطابع، فتُطبع على الورق، وتوزع عالمياً، وتُعرض في الآن ذاته في موقع “الاتحاد” على شبكة “الإنترنت” ليقرأها القراء على شاشة الكومبيوتر أينما كانوا حول العالم. وبعض القراء يفضل طباعة المقالة على الورق، ويستمتع بقراءتها “صباح الأحد مع فنجان قهوة وسماء ممطرة وخريف برليني رمادي”. هل هناك أفضل تقدير لنجاح النشر الإلكتروني العربي من تحية روائية عراقية مغتربة منذ ربع قرن في ألمانيا؟

مستقبل الصحافة المكتوبة العربية :
مع انتشار الانترنت ونشر الصحف المكتوبة على المواقع الالكترونية، سجل تراجع ملحوظ للإعلام المكتوب. وكنا نتساءل باستمرار: هل ينتهي قريباً زمن الإعلام المكتوب؟ هناك أكثر من ظاهرة في انحسار الإعلام المكتوب لصالح الإعلام الالكتروني تجعل تساؤلنا أكثر إلحاحاً.
الإحصاءات والوقائع في السنوات الماضية ترسم صورة قاتمة لمستقبل الصحافة المكتوبة في أميركا، وربما في مناطق كثيرة في العالم. فمنذ عام 2000 انخفض توزيع الصحف في أميركا من 55 مليون نسخة إلى 50 مليوناً. وفي الفترة ذاتها انخفضت عائدات الصحف بنسبة 28 في المئة، أي بقيمة 11 مليار دولار، وهذه الاحصاءات لا تشمل الانخفاض الذي حصل بعد بدء أزمة الكساد الاقتصادي الراهن.
وتتضح بشاعة الخسائر حين تعطى وجهاً إنسانياً، إذ تبين الإحصاءات ان نحو 16 ألف وظيفة تبخرت من الإعلام التقليدي في 2022، ووصل عدد الوظائف التي ألغيت هذه السنة إلى 8484 وظيفة وفقاً لما جاء في صحيفة “بوليتيكو”. ومصير العديد من الباقين أي نحو خمسين ألف صحافي غير مضمون.
وفي الاشهر الأخيرة، حتى كبريات الصحف الأميركية اضطرت إلى تسريح مراسلين ومحررين بعد انخفاض عائداتها. وفي مقدم هذه الصحف “الواشنطن بوست” التي كشفت فضيحة ووترغيت، وأرغمت للمرة الاولى في تاريخ الولايات المتحدة رئيس البلاد ريتشارد نيكسون على الاستقالة. فقد انخفضت عائدات هذه الصحيفة في الفصل الرابع من السنة الماضية بنسبة 77 في المئة، واضطرت إلى إلغاء بعض الأقسام ودمجها بأقسام أخرى. وهناك أيضاً “النيويورك تايمس” التي تعتبر من أبرز الصحف الأميركية والعالمية وأكبرها، وكانت قد كشفت مجازر الحرب في فيتنام وأكاذيبها، اضطرت أخيراً إلى رهن مقرها في مدينة نيويورك في مقابل قرض بقيمة 250 مليون دولار وبفائدة 14 في المئة حصلت عليه من رجل الأعمال المكسيكي كارلوس سليم اللبناني الأصل الذي يملك أيضاً امبراطورية إعلامية.
واضطرت “النيويورك تايمز” أخيراً إلى تسريح مئة موظف وخفضت رواتب الآخرين بنسبة 5 في المئة، وزادت سعر الصحيفة ليصل إلى دولارين في بعض المناطق. وهذه الصحيفة تجد نفسها اليوم معرضة للشراء من رجال أعمال أثرياء من أمثال كارلوس سليم أو ديفيد غيفين (المنتج المعروف في هوليوود) أو روبرت موردوك صاحب الامبراطورية الإعلامية العالمية الذي اشترى صحيفة “الوول ستريت جورنال” النافذة. وقبل بضعة أسابيع تم إنقاذ صحيفة “البوسطن غلوب” القديمة والمهمة التي تملكها شركة “النيويورك تايمس” من نهاية محتمة بعدما تراجع موظفوها ونقابتهم عن رفضهم الاولي لقرار خفض رواتبهم. صحيفة “لوس انجلس تايمس” سرحت هذه السنة 300 موظف. صحيفة “ميامي هيرالد” سرحت 205 موظفين.. وهكذا. وأغلق بعض هذه الصحف، وغيرها مكاتبها في واشنطن أو قلصتها جداً، ولم يعد لمثل هذه الصحف أي حضور في العالم كما كان الوضع في السابق. وحتى في مناطق النزاع أو المناطق المهمة للأميركيين اقتصادياً واستراتيجياً أو ثقافياً، لم تعد تحظى بتغطية وافية من جميع وسائل الإعلام الأميركية، بما في ذلك العراق وافغانستان (العامل الأمني والخطر على حياة المراسلين كان أيضاً سبباً مهماً)، ولكن العامل الأساسي هو عامل اقتصادي. ولشبكة التلفزيون الأميركية المهمة “ان بي سي” مراسل واحد يجول في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وإذا استمرت هذه الأنماط سيستمر انكماش الصحف، وستختفي ظاهرة وجود صحيفتين على الأقل في المدن الأميركية الكبيرة، وربما حرمان بعض هذه المدن صحيفة واحدة.
وإذا نظرنا إلى الإعلام المكتوب في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية وجدنا ان المؤشرات التجارية لهذا الإعلام لم تشهد أي تطور ملحوظ منذ عام 2022. إلا ان التراجع المؤثر في الميزانيات المعتمدة، شهده قطاع الاعلانات في حقل الصحافة، وهو القطاع الأهم تمويلياً. وقد تراجع بنسبة 3.1 في المئة، ليقف عند حاجز 4.15 مليارات يورو. وكانت صحيفة “لومانيتي” الشيوعية الفرنسية قد تعرضت لأزمة خانقة، فعمدت عندها إلى جمع مليون يورو من تبرعات قرائها للخروج من الأزمة موقتاً. هذا وان أزمة هذه الصحيفة لم تكن فريدة من نوعها في فرنسا، فقد سبقتها صحيفة “لوموند” إلى الوقوع في مثل هذا الاختناق المالي، حين شهدت أول اضراب للعاملين في هذه المطبوعة منذ عام 1976. تبعه لاحقاً إضرابان آخران، احتجاجاً على قيام الادارة بإلغاء 130 وظيفة للحد من الخسائر (ربع الوظائف في الصحيفة!). وفي “لوفيغارو” أضرب الموظفون احتجاجاً على إلغاء أكثر من 50 وظيفة لتقليص النفقات، في ظل تدهور الأوضاع المالية للصحف الفرنسية التاريخية، وهزيمتها في منافسة الصحف المجانية والمحلية من جهة، وعالم الانترنت المعلومة من جهة اخرى. وفي تقرير للرابطة العالمية للصحف، أشار إلى أن الدول المتقدمة تشهد منذ مطلع القرن انخفاضاً في اقتصاد الاعلام المكتوب. وقد انخفض مثلاً عدد نسخ الصحف الموزعة في أوروبا خلال ثلاث سنوات من أكثر من 80 مليون نسخة يومياً، إلى أقل من 76 مليون نسخة. وفي اليابان، انخفضت نسبة مبيعات الصحف في خمس سنوات 2.6 في المئة، وهذا يكفي لإسقاط التطورات العالمية اقتصادياً على الحركة في قطاع الإعلام المكتوب الذي يتأثر بالخضّات في الأسواق وبغلاء الأسعار، وبنمو الانترنت، وبتجاذبات قطاع الإعلان.
هناك جيل بكامله في العالم اليوم لا يعرف، أو لم يختبر ذلك الطقس الصباحي الذي اختبره أهلهم وحتى أجدادهم، ألا وهو قراءة صحيفة في الصباح مع فنجان القهوة والفطور في البيت أو في المطعم.
فهل ان كل هذه الظواهر تقود إلى انقراض الإعلام المكتوب؟!همــوم الصحافة العربية :
تختلف أزمة الصحافة العربيّة عن تلك التي يشهدها الغرب وحتّى عن بلدان مثل تركيا. ففي فرنسا، تعيش صحيفة لوموند اليوميّة العريقة أزمةً نتيجة سياسات توسعيّة قامت بها إدارتها في مرحلة معيّنة، في ظلّ تغيّر في النموذج الاقتصادي وظهور الصحف المجّانيّة، وتوسّع سيطرة الشركات الكبرى على الصحافة اليوميّة الأخرى. وفي تركيا تسيطر مجموعة اقتصاديّة واحدة على معظم الصحف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، عدا بعض الصحف القريبة من الأحزاب السياسيّة أو… من الطرق الصوفيّة.
في البلدان العربيّة، الوضع ليس ذاته بين مصر والمغرب من ناحية، حيث هناك نوعٌ من التعدّدية في العناوين المطروحة في الأكشاك تعكس الحريّة السياسيّة النسبيّة، وسورية وتونس من ناحية أخرى، حيث “العرض” أقلّ بكثير نتيجة السياسات الرقابية الشديدة وتسلّط أصحاب السلطة والمال مباشرةً على الصحافة. إلاّ أنّ الفرق الأساسي بين البلدان العربيّة وغيرها، هو أنّ مجالات نموّ الصحافة المطبوعة ما زال كبيراً، لأسبابٍ كثيرة، منها مثلاً أنّ الصحافة لم تكن تصل عادّة إلى المناطق خارج العاصمة والمدن، ولم تكن تستطيع الاستفادة من سوق الإعلان المحلّي، وأنّ هناك شغفاً لقراءة كلّ ما هو خارج الصحافة الرسميّة التي سيطرت على هذا الفضاء لعقود.
هذا هو مثلاً سبب نجاح صحيفة “الخبر” الجزائريّة التي استطاعت الوصول إلى أرقام توزيع غير متوقّعة، مع أنّها لا ترتبط بالحكومة أو بأحد الأحزاب أو المجموعات الاقتصاديّة، لأنّها عرفت كيف تنظّم توزيعها صباحاً في كافّة مناطق هذا البلد الشاسع الأطراف؛ ولأنّها دفعت بتحقيقاتها حدود المادة الإعلامية المتاحة للمواطنين، مع المخاطرة بعشرات الدعاوى القضائيّة المرفوعة ضدّها. والمنافسة شديدة في مصر (خاصّة بين “الأخبار” و”الأهرام” الحكوميّتان وبين “المصري اليوم”) وفي المغرب (مع القفزة النوعيّة في التوزيع لصحيفة “المساء”) وفي السعوديّة (بين الصحف الوطنيّة “الرياض” والقوميّة “الحياة” وتلك المحليّة “الوطن” و”عكاظ” وغيرها لأمر سهلٌ في البلدان ذات الرقابة المسبقة، إذ تختفي المجلاّت الاقتصادية “الشرعيّة” في سورية بشكلٍ دوريّ من الأكشاك، حالما تجرّأت على ملامسة الحدود، وإن كانت جدّ منخفضة. كما صودرت خمس صحفٍ سودانيّة الأسبوع الماضي: “الأحداث”، “الأيام”، “أجراس الحريّة”، الصحافة”، “السوداني”. والأمر أصعب في البلدان ذات “الحريّة” النسبيّة، حيث تدفع هذه الحريّة والمنافسة أحياناً إلى نزعة “الصحف الصفراء”، مع قصصٍ مختلقة وطروحات شعبويّة، بغية جلب القارئ بأيّ ثمن. وكثيرٌ من الصحف المصريّة “المستقلّة” قد فقد مصداقيّته من جرّاء ذلك.
أين حدود الصحافة إذاً؟ ومن يضعها، في ظلّ تبعيّة النظام القضائي في الكثير من البلدان العربيّة للسلطات الحاكمة؟
تنطرح هذه الإشكاليّة بشكلٍ حادّ اليوم. فها هم القائمون على صحيفة “الموقف” التونسيّة يضربون عن الطعام، بعد مقاضاة شركات الزيوت التونسية للصحيفة ولهم بمبالغٍ طائلة نتيجة نشر خبرٍ عن تقرير لمخبرٍ جزائريّ عن الزيوت التونسيّة؛ هذا مع سحب العدد من الأسواق قبل توزيعه [1]. وها هي صحيفة “المساء” المغربيّة تُقاضى بأكثر من 800 ألف دولار لنشرها اسم قاضٍ حضر احتفالاً في مدينة “قصر الكبير”، نُشِرَت أفلاماً عنه في المواقع الإلكترونيّة، وهاج الشارع المحافظ بعدها في المدينة ليقتصّ بيده من المثليّين الجنسيين [2]. وأخيراً هاهم صحافيّو كردستان العراق يضربون ويثورون ضدّ مشروعٍ قانونٍ جديدٍ للصحافة (في ظلّ الديمقراطية التي ينشرها السيّد جورج والكر بوش) وَصَفهُ “مرصد الحريّات الصحافيّة” في العراق أنّه “يبرز الوجه القبيح لتجربة الإقليم أمام الرأي العام (…) كما يشتمل على الكثير من العقوبات بحق الصحف (غرامات ماليّة باهظة، إيقاف صدور الصحف لمدد طويلة) والصحفيين ويشرّع اعتقال الصحفيين بشكلٍ لم يعُد مقبولاً حتى في بعض دول الجوار” [3[
مع الاختلاف الشديد للمضامين، يتعلّق الأمر، في هذه الحالات الثلاث، بالحدّ من الحريّات الصحافيّة. ولكن الشأن المطروح يذهب أبعد من ذلك. فما هي “حدود” الصحافة في طرحها لقضايا تتعلّق بصحّة المواطنين ونشر تقارير عن إمكانيّة أن تضرّ منتجات بها، في ظلّ تردّي عمل الإدارات الحكومية؟ وهل المشكلة في ما يخصّ “المثليّة” الجنسيّة هي في شعبويّة الصحافة وتخطّيها للحدود، أم هي في أنّ قوانين البلاد التي تجعل من هذه “المثليّة” جرماً قضائياً؟ [4]. وهل المشكلة في العراق هي في عدم وجود تعدديّة حزبيّة أم في آلية هذه التعدديّة نفسها التي تقوم فوق المواطنين والمهنيين؟ وكيف يمكن ضمان التمييز بين الخصوصيّة الشخصيّة (التي يجب احترامها) والشأن العام؟ ومن يحدّث القوانين: السلطة وحدها، أم الحوار المجتمعي والتداول مع الفعاليّات والجمعيّات الأهليّة والصحفيين؟
مشكلة حريّة الصحافة و”حدودها” مشكلة عويصة وشائكة، ولها دلالتها الواضحة عن تطوّر الدولة والمجتمع على حدٍّ سواء؟ ولكن أفضل ما يحدث اليوم في البلدان العربيّة، أن هناك من يحاول “أخذ” هذه الحريّة (فهي لا تُعطى بل تؤخذ، ويدفع الصحفيّون كأشخاص الثمن الغالي من أجل ذلك)، وأنّ الحدود تداس كل يومٍ لتضع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمام المجتمعات لتحلّها (ليس دائماً بالصيغة الأفضل، ولكن ذلك هو الثمن)
الصحافة تخطيء وتصيب. كما كلّ اللاعبين في المجتمع؟ ولكن لا ترموها بحجر. فمن منكم بلا خطيئة؟ ولا تقتلوها… لأنّها في

أيار/مايو 2022.




هذا الموضوع بحث عليه طويلا … شكرا شكرا شكرا