تمهيد..
ما هو النقد ؟
1- استعملت اللغة العربية لفظ النقد لمعان ٍ مختلفة :
الأول : تمييز الجيد من الردىء ، قالوا : نقدت الدراهم وانتقدتها : أخرجت منها الزيف وميزت جيدها من رديئها، ومنه : التـنقاد والانتقاد ، وهو تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها .
والثاني : العيب والانتقاص . قالت العرب : نقدته الحية إذا لدغته ، ونقدت رأسه بأصبعي إذا ضربته , ونقدت الجوزة أنقدها إذا ضربتها . وفي حديث أبي الدرداء : إن نقدت الناس نقدوك ، ومعناه إن عبتهم وجرحتهم قابلوك بمثل صنيعك .
2- واستعمل الأدباء العرب كلمة النقد بالاستعمالين لنقد الكلام شعره ونثره على السواء ، وبدأ ظهور ذلك في القرن الثالث الهجري على وجه التقريب ، ويقول البحتري عن أبي العباس ثعلب : ما رأيته ناقدا للشعر ، ولا مميزا للألفاظ ، ورد عليه آخر فقال : أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى ، ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه . وألّف قـُدامة كتابيه ” نقد الشعر ” , و ” نقد النثر ” . وألّف ابن رشيق ” العمدة في صناعة الشعر ونقده ” .
3- وسارالنقاد العرب في نقدهم على كل من الاستعمالين :
(أ) استعملوه في القديم والحديث على معنى التحليل والشرح والتمييز والحكم , فالنقد عندهم دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابهة لها ، أوالمقابلة ، ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها ، وأكثر الذين كتبوا في النقد العربي مشوا على هذا المعنى .
(ب) واستعملوه كذلك بمعنى العيب والمؤاخذة والتَّخطئة ، فألـّف المرزباني ” الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ” ، ويريد بالعلماء النقاد . ولايزال النقد مستعملا بهذا المعنى حتى اليوم عند بعض النقاد المعاصرين ، ويقابله التقريظ ، فهو المدح والإعجاب ، من قرظ الجلد إذا دبغه ، وذلك إنما يكون للتحسين والتزيين .
4- ويعرّف المحدثون النقد – بناء على المعنى الأول في الاستعمال اللغوي – فيقولون : إنه التقدير الصحيح لأي أثر فني ، وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه . فكلمة النقد تعني في مفهومها الدقيق ” الحـُكم ” ، وهو مفهوم نلحظه في كل استعمالات الكلمة حتى في أشدها عموما . والنقد الأدبي في أدق معانيه هو فن دراسة الأساليب وتمييزها ، على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناها الواسع ، وهو منحى الكاتب العالم وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس على السواء .
فللنقد مهمتان مختلفتان : مهمة التفسير ، ومهمة الحكم ، أي إصدار الأحكام الأدبية في قضايا الأدب ومشكلاته .
وجملة الأمر أن النقد الأدبي هو الحـُكم الذي تصدره على الشعر والنثر ، وأنه عند المحدثين تقدير النص الأدبي تقديرا صحيحا ، وبيان قيمته العامة ، والموازنة بينها وبين ما يشابهها من الآثار .. وأصول النقد قراءة وفهم وتفسير وحكم ، والغرض منه دراسة الأساليب أو الكـُتـَّاب أو الآراء والأفكار .
5- ومن الضروري أن نعرف النقد بدءً – منذ استمع الإنسان إلى الأدب شعرا ونثرا – بأحكام عامة مقتضبة ، موجزة , لا تحمل تعليلا ، ولا تستصحب أسبابها ، شأن الأحكام العامة التي يرشد إليها الذوق ، ويكون للفطرة الأدبية مدخل فيها ، دون أن تتأثر بنزعة علمية ، أو منهج عقلي ، أو أسس موضوعة .
كذلك كان شأنه في الأدب العربي ، في العصر الجاهلي ، حكم دون تعليل ، لأن أحكام الذوق والفطرة التي لم تسترشد بمناهج أو أصول موضوعة لابد أن تكون كذلك .. ثم أخذ يرتقي العقل ، وينضج الحس الأدبي ، ويرتفع مستوى الملكات ، وبدأ العقل لا يقنع بأن يرسل الحكم إرسالا دون أن يوضحه توضيحا ، فأخذ يومىء من بعيد على سبيل الرمز والتلويح إلى السبب . وبعد أن بدأ تدوين العلوم والثقافات ، وأخذ العقل العربي يضع أصولا للبيان والنقد ، بدات أحكام النقد تصطبغ بصبغة علمية موضوعية ، فالحـُكم بجانبه السبب والعلة ، والنقد يحمل معه طابع التوجيه والتعليل للوصول إلى أحكام موضوعية .
فالنقد في الآداب العربية هو ” شرح الشعر ، وتقرير طريقة الشعر الجاهلي لتكون منهجا للشعراء ، لا حركة العقول والأفكار وأكبر مظاهره عندهم هو علم البلاغة ” .
وهكذا تجد أن أصول النقد هي : قراءة ، وفهم ، وتفسير , وحُـكم وأن الغرض منه كما يقول بعض النقاد : دراسة الأساليب أو نفوس الكـُتـَّاب ، أو دراسة الآراء والأفكار .
على أن النقد ذو صلة وثيقة بالذوق ، وليس هو مطلق الذوق ، بل ذوق ذوي الثقافات الأدبية العالية . والنقد فن وليس بعلم ، فليس له قاعدة ثابتة .
وظيفة النقد الأدبي :
1- إذا كانت كلمة النقد تعني في مفهومها الدقيق ( الحُـكم ) ، وكان ” النقد الأدبي ” هو إصدار حكم على الآثار الأدبية ، فإن الأدب الإنشائي يخالف الأدب النقدي الذي هو من الأدب الوصفي ، فالإنشائي هو تفسير للحياة في صور مختلفة من الفن الأدبي , والأدب النقدي هو تفسير لهذا ولصور الفن التي يوضع فيها ، وكما يأخذ الأدب من الطبيعة والحياة فإن النقد كذلك ياخذ منهما عن طريق غير مباشر ، ولذلك يقول الناقد ” وليم واطسون ” عن الشعراء : ” وقد اعتبرت هؤلاء كجزء من عظمة الطبيعة ” .
وإذا كان في الإمكان الرجوع إلى المصدر الأول وهو الطبيعة دون الرجوع إلى تفسير لها أي إلى النقد ، فإن النقد يوحي ويشجع وينير السبيل ، ويلهم الأدباء أنفسهم اتجاهات جديدة ، وللنقد قيمته الذاتية في أنه تعبير عن الناقد نفسه ، عن شخصيته وفكره ومذهبه ومنهجه .
2- إن وظيفة النقد الأدبي هي في تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية . وبيان قيمته الموضوعية ، وقيمته التعبيرية والشعورية ، وتوضيح منزلته وآثاره في الأدب .
يرى ” سانت بيف ” أن وظيفة الأدب هي النفاذ إلى ذات المؤلف لتستشف روحه من وراء عباراته بحيث يفهمه قـُرَّاؤه ؛ وفي ذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب ، فالنقد على حد تعبيره يعلم الآخرين كيف يقرءون ، ولذلك كان على النقد أن يتجاوز القيم الجمالية العامة إلى بيان العمل الأدبي للقارئ لمساعدته على فهمه وتذوقه ، وذلك عن طريق فحص طبيعته وعرض ما فيه من قيم .
ويُعرِّف ” سانت بيف ” الشعر بأنه التعبير الجميل عن شعور صادق .
ويحمل ” وردزورث ” على النقد ويعدّه عبثا ، لأن المقدرة على النقد أحط من المقدرة على الإنشاء . ومن قبل حمل ” أفلاطون ” على الشعر وعابه بأنه تقليد للتقليد .
ولا شك أن ذلك أمر لا يوافقه عليه ناقد آخر ، فإن النقد يوجه ويثري الأدب , ويعلي من منزلته في الحياة ، ولا غنى للحياة ولا للأدب ولا الأدباء عنه , وهو الذي يخلق المناهج والمذاهب الأدبية ، ويقوّم أعمال الأدباء ، ويوصي باختيار النماذج الجيدة من الأدب ومحاكاتها ، ويغرس حب الجيد منه في نفوس الدارسين والناشئين ويُعـَوِّدهم على مثل هذا الجيد منه .
والنقد عند ” كولردج ” ليس هو اكتشاف مدى إلتزام العمل الأدبي بقواعد شكلية معينة ، بل في كشف مدى انسجام العمل مع ذات الناقد . ومهمة الأديب هو تجسيد تجربته في رموز ، وعلى الناقد أن يتحقق فيما إذا كان الشاعر قد اقتصر على ترجمة أفكاره إلى لغة الشعر أم أنه قد نجح في تجسيد هذه الأفكار في رموز تعادلها تماما بحيث يتعذر انفصال إحداها عن الأخرى .
ويروي ” باوند ” الأمريكي أن الشعر خَلـْق لا تعبير ، وعملية الخلق هي عملية واعية في الدرجة الأولى ، فهي عملية تحكم ، وليست عملية إلهام . ويقول : إن أعظم أمراض النقد هو الإندفاع بحثا عن شخص الفنان في العمل الفني ، ويناظره في الفشل النظر إلى العمل في ذاته .. ومن الموهبة واستيعاب التراث يصبح الإنسان شاعرا ، فلا بد لذلك منهما ، وفي هذا يتفق ” باوند ” مع ” إليوت ” .
ووظيفة النقد عند ” باوند ” هي فحص العمل الفني من الداخل ، من حيث علاقته بذاته ، دون أي شيء خارج عليه , سواء كان ذلك مُمـَثلا في حياة الأدب أو المجتمع أو العصر .
وأدوات النقد عند باوند , و إليوت هي :
1- التحليل : أي فحص العمل الفني من الداخل واستظهار الصلة القائمة بين أجزائه .
2- المقارنة : وهي ربط العمل الفني بالتراث الذي ينتمي إليه ، وكشف موضعه من هذا التراث .
ويرفض ” باوند” نظرية التفسير في النقد ، رفضاً تاماً .
أنواع النقد الأدبي :
1- النقد الذاتي أو التأثـُّري : وهو الذي يقوم على الذوق الخاص ، ويعتمد على التجربة الشخصية ، ويعتمد على المنهج الموضوعي .
2- النقد الموضوعي : وهو الذي يركن إلى أصول مرعية وقواعد عقلية مقررة يعتمد عليها في الحكم ، كطريقة قـُدامة في كتابه ” نقد الشعر ” .
3- النقد الاعتقادي : وهو النقد الذي تتحكم فيه عقائد وآراء خاصة عند الناقد , وهو يحمل في طياته معنى التعصب والميل إلى نزعة خاصة , وكلما تحرّر الناقد في نقده من آرائه ومعتقداته الشخصية كان تقديمه عادلا وأكثر إنصافا وصدقا وتحريا للحقيقة , إذ أن تجرّد الناقد من هواه وآرائه شرط أساسي لسلامة أحكامه النقدية من الجور .
4- النقد التاريخي : وهو النقد الذي يحاول تفسير الظواهر الأدبية والمؤلفات وشخصيات الكتـّاب ، فهو يـُعنى بالفهم والتفهيم أكثر من عنايته بالحكم والمفاضلة .. وتفسير الظواهر الأدبية أو المؤلفات أو شخصيات الكتـّاب ، يتطلـّب معرفة بالماضي السابق لهم ، ومعرفة بالحاضر الذي أثـّر فيهم .
5- النقد اللغوي : وهو الذي يحكم فيه على أساس اللغة وقواعدها الأسلوبية واللغوية المقرّرة .
هذا ويرى الناقد مصطفى عبداللطيف السحرتي أن الناقد العربي المعاصر ، ينبغي أن تكون له ثقافته الفنية ، واتجاهه الفلسفي ، ومـُثـُله الحضارية ، وقيمه الخلقية على سواء ، وأن يطبـّقها على الأعمال الأدبية في حرّية وشجاعة , فيزن ما في عمل الأديب من مقومات فنية , وما يضم من فكرات صائبة أو مخطئة ، هادية أو مضللة , سليمة أو زائفة منحرفة ، أو بمعنى آخر لابد للناقد من تقييم المضمون أو المحتوى في العمل الأدبي , والمضمون عنصر جوهري في رأينا ورأي الفريق الثاني الذي اصطرع مع الفريق الأول وله درجات بحسب قيمته البناءة في حياة الأشخاص وفي الجماعات ، فالأديب الذي يقصر محتواه على التغزّل في زهرة ، أو يذرف الدمع الغزير على قِط ، أو يهدهد الغرائز بقصصه ، وما إلى ذلك ، ليس كالأديب الجاد الذي يتناول حقيقة من الحقائق النفسية النبيلة ، أو تجربة من التجارب الناضجة ، أو فكرة من الأفكار الحية العميقة . فلو أبيح للأديب أن يقول ما يشاء ، فينبغي أن يباح للناقد أن يعقـب على مضمونه قيـّماً أو تافهاً ، سليماً أو شاذّاً ، وإلا كنا جارمين آثمين في حق الأدب وفي حقّ البشرية التي يطرح الأديب لها نتاجه .
وفي الحركات النقدية في أوربا أو أمريكا من وقف مثل هذه الوقفات ، فلقد وقف في وجه ” إليوت ” نقاد كبار ، كما هوجم ” بوند ” و ” همنجواي ” و ” فولكنز ” , لآرائهم السلبية , واتجاهاتهم المناقضة للاتجاهات الديمقراطية أو الإنسانية في بعض الأحيان ، فإذا كان هذا هو موقف النقاد في الغرب فما بالنا بما ينبغي أن يكون عليه موقفنا ونحن في مفترق الطريق ، ننشد طريقاً يهدي إلى الرشد والتقدم والحضارة ، إنه لموقف يوجب علينا أن نعطي الناقد كل الحق في التحدث عن فن العمل الأدبي ، ومحتواه ، واتجاهه الفلسفسي أو الاجتماعي وأن نلح في ذلك إلحاحا شديدا .
وبهذه المواقف الفنية والفلسفية والاجتماعية التي تتفق مع أيديولوجيتنا العربية ، ومع القيم الخلقية العربية ، ومع الروح الإنساني إلى المتعة الجمالية ، يمكن أن نجني من الأعمال الأدبية الثمرة الطيبة الشهية لخير الإنسـان العربي والمجتمع العربي .
والناقد العربي في تقويمه لا يجوز أن يتقمـّص مذهبا فنيـّاً وينحصر فيه بذاته ، ولا أيديولوجية شرقية أو غربية ، بل عليه أن ينطلق مستقلا في هذا التقويم ومستفيدا من أحدث النظريات الفنية فائدة توجيهية , فله أن يرجع إلى التاريخ ليعرف البيئة التي نما فيها العمل الأدبي وترعرع ، وله أن يرجع إلى السيكولوجية ليعرف صحة الشخوص ويفهم نوازعها فهما عميقا ، وله أن يرجع إلى الحالة الاجتماعية ليعرف آثارها في الأعمال الأدبية ، وله أن يـُقوِّم العمل بما يتفق مع الثقافة الرفيعة . كل هذه النواحي تلقى أضواءً على الأعمال الأدبية ، وإمكان تقويمها ، أضواء أكثر وهجا ً من الأضواء التي تلقيها العناصر الجمالية أو الفنية .
إن فهم الحركة الأدبية التي قامت بها جماعة أبولـُّو في مصر منذ بداية عام 1932 مثلا يكون أكثر عمقا إذا درسنا حالة البلاد الاقتصادية ، وسياسة حكومتها الديكتاتورية ، وسيكولوجية المجتمع في تلك الآونة . وفهم الأعمال الأدبية في فترة القلق والتحرر التي شاعت حين ذاك ، يكون أكثر سعة ورحابة إذا رجعنا إلى حالة القلق السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة . ولست أقول إن وعي هذه الحالات من عناصر تقويم النصوص الأدبية ، ولكن أقول إنها تنوّرها وتساعد على فهمها فهما ً طيبا ً واسعا ً .
ولكي أخرج من التعميم إلى التخصيص ، أذكر أن رواية ” عودة الروح ” لتوفيق الحكيم تبدو أكثر إثارة إذا درسنا ثورة 1919 , وأن رواية ” الأرض ” للشرقاوي تكون أكثر وضوحا إذا رجعنا لفترة ما بين الحربين ، ولعهود الحزبية المتطاحنة ، ورواية ” في بيتنا رجل ” لإحسان عبدالقدوس تنكشف إذا عرفنا حالة القلق والتحرر قبيل ثورة 1952 ، وهكـذا .
على أن المقياس التاريخي والاجتماعي في تقويم الأعمال الأدبية هو خطوة نحو إنارته , وإن كان ليس مقياسا كافيا ، ولكنه عامل مفيد للنقد ، إذا استخدم كوسيلة أو كعنصر للتقويم .
فليس بين نقادنا اختلاف ، فالفريق الأول الذي يلتزم الفنية , و الفريق الثاني الذي يضم إلى الفنية قيمة المحتوى ، ينتفع كل منهما بالآخر ، ويمكن تقاربهما إذا قدرنا أن أعمالنا الأدبية يجب أن ينظر إليها نظرة فنية في ضوء الأيديولوجية الجديدة التي تعتنقها ، وفي ضوء التقدّم الذي نصبوا إليه .
على أنه لا يجوز لنا أن نجري وراء مدرسة ولا مذهب شرقي أو غربي ، بل يمكننا أن ننتفع بجميع المذاهب لإبداع نقد مستقل أصيل .
إن النقد الأدبي هو فن شخصي ، فن يعتمد على الثقافة والبصيرة النفاذة , وعلى النزاهة ، وعلى الذكاء الحاد ، أكثر مما يعتمد على المذهبية ، وإن النقاد البصراء هم قلة موهوبة ، تعلو موهبتهم إلى درجة النبوغ بل العقربية ، وإن هؤلاء الموهوبين قد يصلون إلى حكم أكثر نفاذا وحكمة من الذين يسبحون بالقواعد والأصول الفنية , ومن الذين يضعون المضمون في القمة ، وليست الأصول ولا قيم المضامين بأكثر أهمية للناقد من الموهبة , والفطنة , والنزاهة ، فإذا ثارت مناوشة بين أصحاب المذاهب ، فإنما هي مناوشة لن تفيد النقد كثيرا ولا قليلا ، إنما يجني النقد والأدب – على سواء – ثمرات نافعة إذا عَمـِلَ النقاد – مدرّسيين وأحرارا ً- في الحقل الأدبي في محبة وتسامح وتواضع على خير الأدب ، وإعلاء شأن الموهوبين من الأدباء : شعراء ، أو قصاصين ، أو مسرحيين ، أو روائيين , أو مؤلفين ، فإنه ليؤلمني ويشجيني أن أسمع أن النقد في أزمة ، وأن أدبنا العربي يشكو اليتم ، وإنه لا يجد أقلاما ناقدة صادقة ترعاه وتضعه حيث ينبغي أن يوضع ، أو توجـّهه في لباقة وكياسة ومودة إلى الجادة القويمة .
مناهج النقد:
1- منهج النقد السائد في الآداب العربية القديمة هو ” المنهج الفقهي أو اللغوي ” الذي يعتمد على تحليل النص ودراسته ، من حيث البلاغة ، وقواعد العربية ، والنحو والصرف ، واللغة والعـَروض ، وبيان ما بين معناه ومعاني السابقين والمعاصرين من تشابه أو احتذاء .. وتقسيم النص إلى جمل أو أبيات ، والتحدث عن كل جملة أو بيت على أنه وحدة فنية مستقلة بذاتها ، وقد سار على ذلك ابن سلام ، والجاحظ ، وابن قتيبة ، والمبرد ، وابن المعتز ، والآمدي ، والجرجاني .. ولكن قـُدامة بن جعفر يسير في تحديد النقد على التحدث عن عناصر الأدب عنصرا عنصرا , من معنى ولفظ وسواهما ، ويشرح أسباب الجودة أو القـُبْح في كل ، مع القرب من المذهب الفقهي في النقد ، ويحتذيه في ذلك أبو هلال وابن رشيق .. أما عبدالقاهر الجرجاني فقد نحا في النقد مَنـْحَى التحليل الأدبي القريب من المنج الفقهي ، وتحدث عن صلة البلاغة بالنفس والعاطفة والخيال حديثا قويا مستفيضا .
ولا تزال هذه الاتجاهات القديمة هي أظهر ما يغلب على أدبائنا اليوم ، ويتسم أغلب النقد المعاصر بسماتها .. وهي تغفل التجربة الشعرية والصياغة الفنية والقيم الشعرية والأثر الأدبي جملة وصلته بصاحبه ومدى توفيقه في أداء المشاعر الخفية والعواطف الدقيقة .. ولا تزال آراء نقادنا القدامى والمعاصرين غامضة مجملة ولا يزال الاختلاف بينهما كبيرا والحكم الأدبي متفاوتا ، لأنها آراء لا تقوم على قواعد محدّدة .. ومن ثم فإن هذا المذهب الفقهي الواضح في النقد العربي عجز , ولا يزال عاجزا عن الوفاء بحق الثقافة الأدبية العالية ، وإنارة السبيل أمام دارسي الأدب ونقـّاده .
2- وقد ساد في أوربا منهج جديد في النقد ، سماه أنصاره ” المذهب الفني ” وعماده الحكم على النص الأدبي من حيث روحه وموسيقاه وأصالته وعناصره وصدقه وتجربته الشعرية .
وقد دعا إلى هذا المذهب الفني في النقد واحتذاه جماعة من المجدّدين في أدبنا المعاصر ، ومن أوائلهم : شكري ، ومطران , وأبو شادي ، وقد حكم العقاد والمازني على شعر شوقي وحافظ متأثرين به ، كما حكم السحرتي على مطران والشابي على ضوئه .
وهو منهج أصيل لا نجد له أثرا في نقدنا العربي القديم إلاّ في ومضات قليلة , نلمسها عند القاضي الجرجاني ، وعبدالقاهر .
وقد رأى سيـّد قطب في كتابه ” النقد الأدبي ” أن هذا المنهج الفني هو الذي ساد الآداب العربية القديمة ، وهو رأي لا يعتمد على فهم عميق لروح النقد الأدبي في لغتنا العربية ، كما رأى أن مذاهب النقد ثلاثة : المنهج الفني , والمنهج التاريخي ، والمنهج النفسي , وهذا خلاف تقسيمنا الذي نسير عليه ، والذي فصّل الكلام فيه السحرتي الناقد المشهور في كتابه ” الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث ” .. ويرى سيد قطب أن المنهج الكامل في النقد هو اجتماع هذه المناهج الثلاثة التي عدَّدَها في منهج واحد سماه المنهج التكاملي .
هذا ويرى مندور أن مناهج النقد هي : المنهج التأثري – والموضوعي – والاعتقادي – والعلمي – والتاريخي – واللغوي .
3- وسادت نزعة جديدة في النقد سـُمّيت : ” النزعة الواقعية ، أو المنهج الواقعي ” ، وأساس هذه النزعة هو النظر إلى موضوع الأثر الأدبي ، فإن كان بينه وبين الحياة والمجتمع صلة فهو أثر أدبي قيـّم تجب العناية به والإشادة بمنزلته ، وإن كان لا يعالج شأنا ً من شئون الحياة والمجتمع والناس فهو أثر أدبي يجب أن يموت وأن يختفي .. فإن عالج الأدب الموضوعات الإنسانية العالية الخالدة كان أقرب إلى الخلود الأدبي ، وسنتحدّث عن هذا المذهب بتفصيل فيما بعد .
وحول هذا المذهب الواقعي يدور ” مندور ” ، وكذلك ” هيكل ” في تعريف الأدب بأنه فن جميل غايته تبليغ الناس رسالة ما فى الحياة من حقّ وجمال .
وأرى أن الجمع بين المناهج الثلاثة ” الفقهي ، والفني ، والواقعي ” في النقد يؤدي بنا إلى أحكام أصدق وآراء أشمل في الحكم على الأدب والشعر والآثار والنصوص المختلفة ، وفهم الخصائص والمميزات والسمات لكل أديب وشاعر ، والعوامل المؤثرة في الأدب ، وصلة القديم بالحديث ، والحديث بالقديم ، وبذلك ننتقل إلى مرحلة جديدة في النقد ، قد تصل بنا إلى ” النضـج الفنـّي الكامـل ” وإلى نهضة أدبية شاملة , وإلى ازدهار في نقدنا المعاصر