التصنيفات
الفيزياء الموجية والضوء

الأثير وصعود نجم النظرية الموجية

بسم الله الرحمان الرحيم

الأثير وصعود نجم النظرية الموجية

تعليم_الجزائر

يكمن أصل هذه القصة ضمن إطار التصور الميكانيكي للكون الذي ابتدعه خيال ديكارت قبل ثلاثة قرون ونصف .فوفقا لديكارت :” كل أجسام الكون المرئي إنما تتكون من ثلاثة أشكال للمادة أشبه بالعناصر الثلاث المميزة”… مادة الشمس والنجوم الثابتة ومادة الفضاء ما بين المجرات ومادة الأرض والكواكب والمذنبات . أما مادة الشكل الثاني فهي – على حد تعبير ديكارت ــ ” تنقل الضوء عبر الفضاء ما بين المجرات”.

لقد أطلق على هذا الوسط الذي يعمر الفضاء اسم (( الأثير )) أو (( الأثير الضوئي )) أو (( الأثير الكوني )) [ وهو مصطلح مستعار من العلم الإغريقي الذي أناط بالأثير مهمة ملء المناطق السماوية فكان عنصرا خامسا إضافة إلى الثرى والماء والهواء والنار] . وأمسى وجوده ضرورة فيزيائية في سياق النظرية الموجية للضوء التي يبدو أنها بزغت ــ أول ما بزغت ــ في كتاب ” تنقيح المناظر لذوي الأبصار والبصائر ” لكمال الدين الفارسي . ثم ظهرت هذه النظرية ثانية في عمل “روبرت هوك ” (( الرسوم الصغيرة Micrographia)) عام 1665 واكتملت عناصرها على يد “كريستيان هويغنز” في كتابه العظيم ((رسالة في الضوء Treatise Light )) ( الذي وضعه بالفرنسية عام 1678 ونشره عام 1690 ). فاعتمدت هذه النظرية على فكرة وسط تبث خلاله الموجات الضوئية وتنتشر ( مقارنة مع بث الصوت وانتشاره ).

وهكذا بدأ ــ وبكل براءة على ما يبدو ـــ تاريخ مفهوم الأثير الذي قدر له أن ينهض بدور حاسم في فيزياء النصف الثاني من القرن التاسع عشر .ودعوني ألخص هذا التاريخ في سلسلة من اللمعات الخاطفة :

1- لقد تعثرت ـ في بادئ الأمر ـ النظرية الموجية للضوء نظرا لنفوذ أتباع “نيوتن” الذين فرضوا النظرية الدقائقبة للضوء ( نسبة إلى دقيقة بمعنى جسيم ) مع أن نيوتن نفسه أحجم دائما عن الالتزام بأي رأي قاطع عن ماهية الضوء . عزز هيمنة التصور الجسيمي هذا الاكتشاف الرئيسي في علم البصريات في النصف الأول من القرن الثامن عشر …. أعني اكتشاف “جيمس برادلي” عام 1728 ظاهرة الزيغ النجمي .
فمواقع النجوم الظاهرية تختلف عن المواقع الحقيقية بسبب حركة الأرض ( أو بكلمات أكثر دقة ــ بسبب التغير في متجه سرعة الأرض في أثناء دورانها حول الشمس ) . وقد وجدت هذه الظاهرة تفسيرا مباشرا بدلالة النظرية الدقائقية للضوء وكأن الضوء مكون من دقائق تنجمع سرعتها مع سرعة الإطار المرجعي ( أي الأرض ) جمعا إتجاهيا … . تماما مثل مسألة قطيرات المطر التي يشاهدها مراقب ساكن على الأرض ساقطة بشكل رأسي في حين تبدو لمراقب آخر في مركبة تتحرك بانتظام وكأنها تنحرف عن العمود الرأسي بزاوية ما.

2- لكن نجم النظرية الموجية أخذ في الصعود ثانية بدخول “ثوماس ينغ ” مسرح الأحداث في بواكير القرن التاسع عشر . فأصر على تفوق هذه النظرية في تفسير انعكاس الضوء وانكساره كما صاغ قانون تداخل الضوء الذي استخدمه لتفسير ظاهرة الحيد ( أو الحيود ) وحلقات نيوتن المعروفة . وكان تفسير ينغ لظاهرة الزيغ النجمي كالآتي: إذا أفترض أن الأثير المحيط بالأرض ساكن ولا يتأثر قط بحركة الأرض فإن الموجات الضوئية لن تشارك في حركة المقراب ” التلسكوب” لذا فإن صورة النجم ستزاح مسافة تساوي تلك التي تتحركها الأرض في الوقت الذي يقطع الضوء المسافة المساوية لطول أنبوب المقراب . من هنا فقد اعتقد( ينغ ) بأن الأثير يتغلغل في كل الأجسام المادية دون أي مقاومة تذكر .

3- بعد ذلك تتابعة انتصارات النظرية الموجية خصوصا على أيد عدد من فيزيائيي فرنسا البارزين في القرن التاسع عشر …. “أراغو , فرينل , فيزو , وفوكو ” .وبالتالي استحوذت فكرة الأثير على ذهن العصر كله وأصبح ثمة اعتقاد راسخ بوجود هذا الأثير كإطار مرجعي ثابت تتحرك فيه الأرض حركة مطلقة . ومع ذلك فلم يخل الأمر من مفارقات . فمثلا لتفسير سرعة الضوء الهائلة كان لابد للأثير أن يتسم بجساءة ( أو صلادة) كبيرة تماما كما أن سرعة ذبذبات النابض ( الزنبرك) لا تكون كبيرة إلا إذا كان عالي القساوة …. لكن إذا كان الأمر كذلك فكيف نعلل عدم وجود أي مقاومة تقلل من سرعة الأرض وسواها من الكواكب عبر هذا الأثير المزعوم ؟!

4- على صعيد آخر كان مفهوم المجال قد أخذ يلقي ظلاله الكاسحة على الفكر الفيزيائي بدءا من إنجازات ” فارادي ” في عام 1831 , وكان السؤال: كيف تنقل التأثيرات الكهربائية والمغناطيسية عبر الفضاء ؟هل ثمة أثير آخر متميز عن الأثير الضوئي ؟ فأتى الجواب على يدي ” ماكسويل ” عام 1861 ضمن إطار النظرية الكهرومغناطيسية للضوء إذ أن الضوء ــ بموجب هذه النظرية ــ إن هو إلا ذبذبات المجالين الكهربائي والمغناطيسي المتعامدين مع اتجاه البث والانتشار . فالسرعة التي تنقل بها التأثيرات الكهربائية والمغناطيسية هي سرعة الضوء نفسها التي يمكن حسابها لأي وسط من خصائصه الكهربائية والمغناطيسية …. إنجاز رائع وحد ظواهر الضوء والكهرباء والمغناطيسية تحت مظلة واحدة . لكن الأثير بقية حقيقة لا فكاك منها ! (( للمزيد الرجوع إلى مقالة ماكسويل عن هذا الأثير في الطبعة التاسعة من دائرة المعارف البريطانية )) .

5- وأخيرا نأتي إلى تجربة “نكلسون ” الشهيرة عام 1881 التي أعادها “نكلسون و مورلي” عام 1887 , الفكرة الرئيسية هنا تكمن ــ باختصارــ في مقارنة الزمنين الذين يستغرقهما مساران ضوئيان متساويان يبدأن من نقطة معينة ويعودان إليها… أولهما موازي لحركة الأرض المزعومة عبر الأثير .. وثانيهما متعامد مع اتجاه هذه الحركة . فالمفروض أن نلاحظ فرق يمكن حسابه من تفحص نمط تداخل الشعاعين وهذه هي الفكرة الأساسية فيما يدعى “مقياس التداخل أو المدخال” .[ والحق أن المسألة هنا أشبه بمسألة السباحين اللذين يتمتعان بقدرات مماثلة ويقطعان مسافتين متساويتين من نقطة بداية مشتركة وعودة إليها فيسبح أحدهما بموازاة التيار المائي ( معه وضده ذهابا وإيابا ) ويسب الثاني باتجاه متعامد مع التيار ] فماذا كانت نتيجة التجربة ؟ …سلبية أي لا فرق مطلقا في الزمانيين وتستطيعون أن تتخيلوا ارتباك العالم الفيزيائي وحيرته .
غير أنه تشبث بأثيره تشبث الغريق بالقشة…..!!

المصدر :
( السندباد الفيزيائي ونسبية آينشتاين )

آسف الموضوع طويل لكنه مفيد جدا لفهم النضرية الموجية:su1n_::zx35:


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.