التصنيفات
علم الاجتـماع

الهوية

مفهو الهوية : تاريخه وإشكلات

اكتسح مفهوم الهوية في بحر بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية. فقد فرض هذا
المفهوم نفسه حتى غدا بمثابة كلمة سحرية، وذلك في تحليل حقائق جد متنوعة
مثل علم نفس الأفراد، وتحولات الأديان، والعلاقات بين النساء والرجال،
وموضوعات المهن، والحياة الأسرية، والهجرة، والصراعات العرقية. يشهد على
ذلك ما يكتب من افتتاحيات كثيرة عن هذا الموضوع.

لكن لكل نجاح سلبياته؛ فنجاح انتشار مفهوم ما يكون دائماً على حساب تفهمه ومن ناحية أخرى، من النادر أن نجد تعريف “الهوية”.

إذن ماذا وراء هذا الانتشار الكبير؟ ما تعليل هذا النجاح؟

لاشك أنه من أجل الإجابة على هذا السؤال من المفيد أن نسطر -ولو بالخطوط
العريضة- تاريخ تطور دلالة هذه اللفظة في العلوم الإنسانية. فمتى ظهر
مفهوم الهوية بكثافة في الفكر الغربي، وفي أية ظروف؟

إنه سؤال غريب، كما قد يخطر على البال؛ إذ يبدو أن الهوية يمكن أن تعد ضمن
هذه المفاهيم التي ليس لها تاريخ. فهي تعتبر بمثابة كلمة مجردة، يرجع
استعمالها إلى الأصول الأولى للفكر. إن الفلاسفة ما قبل سقراط، مثل
بارميندس أو هراقليطس، كانوا دائماً محتارين حول مسألة هو ذاته والآخر(1)،
وكيف يمكن التوفيق بين التغير والهوية؟ كذلك طرح السؤال. وبالنسبة
لبارميندس، وللإيليين تبعاً له، من الصعب أن نفكر في التحول، لأنه إذا لم
يكن “أ” على ما كان عليه، فهل “أ” يبقى هو “أ”؟ وعلى خلاف ذلك بالنسبة
لهراقليطس: كل شيء في حركة دائمة(2)، ونحن نعرف قولته الشهيرة: “نحن لا
نغطس مرتين في الوادي نفسه”(3).

إذن لمفهوم الهوية -كما نرى- دلالة واسعة وجدّ عامة تتجاوز بكثير قضية
الهوية الإنسانية. يدل على ذلك لغز سفينة تيزوس التي عوضت أجهزتها ومواد
بنائها شيئاً فشيئاً طوال مدة رحلاتها بين بيراس وديلوس(4): فسوفسطائيو
أثينا تساءلوا هل فعلاً يتعلق الأمر في النهاية بالسفينة نفسها؟ المشكلة
إذن تكمن في هذه السفينة التي تم تجديدها كليًّا أو في ذاك الشخص المسمى
سقراط بالنظر إلى جميع مراحل حياته، هل يمكن أن نقول: إنهما هما أنفسهما
بالرغم من التحولات التي طرأت عليهما.

لكن لاشك أن الإشكالية المعاصرة لمفهوم الهوية لا تعود في أصلها إلى
التراث الميتافيزيقي. إذ بعد أكثر من عشرين قرناً، تحددت المسألة، حيث
بدأت تقترب بما يشغل العلوم الإنسانية والاجتماعية حالياً، وذلك بفضل
الطريقة التي طرح بها الفلاسفة الإمبريقيون -وعلى رأسهم دافيد هيوم وجون
لوك-(5) مشكلة الهوية الشخصية: كيف يمكن التفكير في وحدة الأنا في الزمان؟
هل أنا الشخص نفسه الذي كنته قبل عشرين سنة؟ لقد اقترح لوك حل إشكال
الهوية الشخصية بفكرة الذاكرة: إذا كنت الشخص ذاته الذي كان قبل عشرين
سنة، فلأنني أذكر مختلف المراحل التي مر بها وعيي أو شعوري.

إن الإشكال وحله قضيتان عصيبتان، لكنهما تظلان محصورتين في إطار الفلسفة.
وفي الحقيقة، تبقى الهوية الشخصية مسألة تقنية ودقيقة من اختصاص الفلاسفة.
أما بالنسبة للرأي العادي لعموم الناس، فالجواب نعم، فأنا هو نفسه من كان
قبل سنتين، فهذا أمر بدهي. ونذكر أخيراً أنه -فيما بعد- تبنت علوم
“الإدراك البشري”(6) إشكالية لوك ودرستها بطريقة خاصة أكثر نفاذاً. وفي
جميع الأحوال، لا نجد في هذه الأعمال الفلسفية الأصل الحقيقي لتسرب مفهوم
الهوية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية.

* إريك إريكسون: صاحب مفهوم الهوية

لقد قام عالم النفس إ. إريكسون(7) بدور مركزي في انتشار استخدام هذه
الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية. ففي سنة 1933 غادر هذا العالم
-الذي تكوّن في مدرسة التحليل النفسي- فيينا حيث تابع دروس أنا فرويد(
إلى الولايات المتحدة. وهناك اكتشف الأعمال الأنثروبولوجية للمدرسة
الثقافوية، وكان ذلك دافعاً له لتطوير أسس نظرية فرويد في مجال العلوم
الاجتماعية. وفي الواقع، كانت مدرسة “الثقافة والشخصية” -بعلمائها
الأنثربولوجيين كأبرام كاردينر أو مارغريت ميد(9)- تعكف على دراسة العلاقة
بين النماذج الثقافية لمجتمع معين وأنواع الشخصية السائدة بين الأفراد
الذين يشكلون هذا المجتمع. وفي سنوات الثلاثينات عمل إريكسون في المحميات
الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية(10) وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا
الشمالية، ودرس “الاجتثاث الثقافي” لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة.
ثم نشر في سنة 1950 كتاب “طفولة ومجتمع”، حاول فيه تجاوز نظرية فرويد
بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن
الهوية الشخصية تتطور طوال وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية أعمار
في دورة الحياة. و “أزمة الهوية” (وهذا التعبير الذي نقرؤه اليوم في كل
مكان… هو من صياغة إريكسون) تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية:
والأزمة الأبرز هي تلك التي تحدث في المراهقة، لكن يمكن أيضاً أن تحدث في
مرحلة لاحقة من عمر الشخص حين تعرضه لصعوبات خاصة.

لكن في البداية لم يطلع على عمل إريكسون إلا المختصون في علم النفس. وفي
نهاية الخمسينات اشتهر هذا العمل بين جمهور أوسع، خصوصاً مع إعادة طبع
كتاب “طفولة ومجتمع” سنة 1963، والذي يعد حدثاً حقيقياً.

* استخدام علم الاجتماع للمفهوم

كل هذا معروف، ويكاد الجميع يتفق على أن إريكسون هو أب كلمة “الهوية”
بالمعنى المعاصر. لكن يجب أيضاً -كما بينه المؤرخ فيليب كليزون(11) في
التأريخ الدلالي الذي يقترحه للهوية- رصد مسارب أخرى لتوسع استعمال
المفهوم عن طريق استعارة مفهوم “التكنه”، خارج الإطار التحليلي النفسي
(والتكنه يعني لدى سيغموند فرويد الأسلوب الذي به يتمثل الطفل أشياء أو
شخوصاً خارجية)(12).

من جهة، ولأول مرة، ربط الكتاب الهام لعالم النفس كوردن آلبور(13): “في
حقيقة الإذاية”، المنشور سنة 1954، بين تحقيق الذاتية والعرقية. ومن جهة
أخرى، ربط مفهوم التكنه بعلم الاجتماع عبر نظرية الأدوار، وكذلك عبر نظرية
“جماعة المرجعية”. هكذا فسر نيلسون فوت، في بداية الخمسينات، التكنه
باستعارة الفرد الواحد لهوية واحدة أو لسلسلة من الهويات. وعنده أن التكنه
هي الصيرورة التي تمكن من فهم لماذا نبحث عن القيام بدور ما. أما نظرية
مجتمع المرجعية (والتي تعني الجماعة التي يحدد الفرد هويته عبرها وفي
إطارها، فيستعير قيمها ومعاييرها بدون أن يكون بالضرورة عضواً فيها) فقد
كسبت احتراماً بين المشتغلين بعلم الاجتماع، خصوصاً بتأثير روبر
ميرتون(14)، كما ساهمت في توسيع شعبية الهوية ومشتقاتها. وللعلم فقد
اكتسبت هاتان النظريتان الجديدتان أهمية استثنائية داخل حقول علم الاجتماع
وعلم النفس الاجتماعي في الخمسينات.

لكن لم يحتل مفهوم الهوية أهمية حاسمة في معجم علم الاجتماع إلا بواسطة
“التفاعلية الرمزية”؛ إذ هذه المدرسة تبحث بالضبط في الطريقة التي تشكل
عبرها التفاعلات الاجتماعية -وبناء على أنساق رمزية مشتركة- وعي الفرد
بنفسه. وهذا بحث في صميم إشكالية الهوية.

وبالرغم من ذلك لم يستعمل التفاعليون في البداية هذا اللفظ. ولهذا تفسير
قريب، ذلك أن الآباء المؤسسين لمنهج المدرسة -شارل كولي وجورج ميد-(15)
تكلما عن “الذات” Soi، وهو المصطلح الذي راج بين التفاعليين في الستينات.
ثم إن التفاعلية الرمزية انتقلت من استعمال اصطلاح الذات إلى استخدام
اصطلاح الهوية بدءاً من سنة 1963، وذلك حين نشر إيرفين جوفمان -أحد رؤوس
هذه المدرسة-: “آثار الجراح: ملاحظات على أسلوب التعاطي مع هوية
مدمرة”(16) وفي السنة ذاتها شهر بيتر برجر مفهوم الهوية وساهم في انتشار
استعماله، بكتابه: “دعوة إلى دراسة علم الاجتماع”(17)، وذلك حين خصّص له
حيّزاً هاماً في تقديمه لنظريات الأدوار والجماعة المرجعية، وكذا من خلال
المقاربة الظاهراتية التي طورها في كتابه هذا.

* الاعتراف بالأقليات

إذن فانتشار كلمة الهوية وتوسع استخدامها في علوم الاجتماع بالولايات
المتحدة كان في الستينات. ثم إن هذا الاستعمال كثر وتوسع وانتشر بسرعة
كبيرة حتى صار من المستحيل -كما قال ب. كليزون- أن نحدد المعنى الدقيق لكل
استخدام خاص لمفهوم الهوية. ثم إن الوضع السياسي بأمريكا ساهم بدوره في
ترسيخ اصطلاح الهوية، وفرضه على لغة الإعلام كما على التحليل الاجتماعي
والسياسي. ذلك أنه في نهاية الستينات برزت الأقلية الأمريكية من أصل
إفريقي، خصوصاً بظهور منظمة “الفهود السود” سنة 1966. ثم حذت أقليات أخرى
حذو حركة السود مطالبة بالاعتراف بخصوصيتها. وهذه الظرفية أنتجت “صحوة
هوية حقيقية” في سنوات السبعينات. وكما لاحظ ذلك عالم الاجتماع الأمريكي
روجر بروباكر(18)، فإن “تجربة الأمريكيين من أصل إفريقي مع قضية “الإثنية”
باعتبارها تصنيفاً يفرض نفسه، وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديداً ذاتياً
للهوية… هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة،
بل أيضاً في تقديمها لنموذج الاحتجاج على أساس من الهوية، وهو النموذج
الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات، بدءاً من تلك التي تتعلق بالجنس أو
بالاختيار الجنسي، وانتهاء بتلك التي تتأسس على “الانتماء الإثني أو
العرق”.

وقد انعكس هذا في حقل العلوم الاجتماعية على مستوى الهيكلة بتأسيس أقسام
متنوعة بالجامعة الأمريكية مثل الدراسات الأفرو-أمريكية (ويسمى هذا القسم
بـ”الدراسات السوداء”)، والدراسات النسوية، والدراسات الخاصة بطائفة
الشاذين جنسياً، والدراسات عن المكسيكيين المستقرين بالولايات
المتحدة(19)، والدراسات اليهودية. وتبدو هوية الأقلية بالنسبة لهذه الحقول
الدراسية معطى أوليًّا. كذلك قام مفكرو ما بعد الاستعمار من جانبهم،
كإدوارد سعيد وكاياتري سبيفاك، بمساءلة الهويات الهجينة والمختلطة التي
صنعها التاريخ الاستعماري.

إن عاطفة الانتماء إلى هوية ما لم تضعف في الثمانينات والتسعينات. ويذكر
تود جيتلان(20) إحصاءات جدّ معبرة: فبين سنتي 1980 و 1990 ارتفع عدد
الأمريكيين الذين يصرحون رسمياً بأن أصولهم تعود إلى الهنود الحمر بنسبة
255%، كما تضاعف عدد الذين صرحوا بأنهم أكاديون(21) عشرين مرة في الفترة
ذاتها! ومن الصعب أن نميز السبب في هذا التجوال الدائم بين حركة مطالب
الهوية واحتجاجاتها وتحليلات وسائل الإعلام ودراسات العلوم الإنسانية: إن
الخطاب الأكاديمي والإعلامي يعكس بلا شك وضعية يساهم هو نفسه في صنعها.
وعلى كل حال، فقد أصبح من غير الممكن تجاوز مفهوم الهوية، لا في الأبحاث
حول الهجرة، والمسألة القومية، والدين، ودراسات النوع(22)، ولا في الأبحاث
حول الإثنية.

وبالرغم من أن المصطلح نشأ ضمن العلوم الاجتماعية بالولايات المتحدة
وانتشر بها، فإن الأمر نفسه ينطبق على أوروبا التي أصبحت فيها الهوية
مفهوماً رئيساً. وبالطبع يعتبر تميز التاريخ الأمريكي -خصوصاً في مسألة
أهمية الأقليات التي نشأت عن موجات متعددة من الهجرة- عاملاً حاسماً في
انتشار المفهوم. لكن من المؤكد أنه توجد أيضاً أسباب سياسية صرفة كانت لها
آثار هامة على العلوم الاجتماعية، فكما يقول ر. بروباكر: “كان انتشار
مطالبات الهوية أمراً سهلاً بسبب الضعف النسبي المؤسسي لأحزاب اليسار
بالولايات المتحدة، والذي تزامن بدوره مع ضعف التحليل الاجتماعي والسياسي
القائم على اصطلاح الطبقية. ورغم أنه يمكننا جداً أن ننظر إلى الطبقة
الاجتماعية نفسها باعتبارها هوية، تبقى حقيقة أن ضعف سياسة الطبقية
بالولايات المتحدة (مقارنة بأوروبا الغربية) أمر شكّل تربة جد خصبة وحقلاً
حراً لتطور الاحتجاجات المؤسسة على الهوية”.

هذه الفكرة جذابة وتفسر لماذا بدا مفهوم الهوية فائق الأهمية بالولايات
المتحدة أولاً قبل أن يصير كذلك بأوروبا لاحقاً. إذن يمكن أن نفترض -بحق-
وجود علاقة بين تقوّي خطاب الهوية في العلوم الاجتماعية بأوروبا وبين
تراجع رؤية أكثر ماركسية للشأن الاجتماعي(23) وإذا كان التحليل بمصطلحات
الطبقية لا يزال قائماً ومستمراً، فإنه الآن مجرد معطى واحد من جملة
معطيات أخرى، ومكون ضمن مكونات الهوية. وعلى المستوى السياسي ساهم سقوط
الشيوعية في تسارع تراجع هذا التحليل، وهو السقوط الذي تصاعدت على إثره
الوطنيات الأوروبية.

* ترسخ الفردانية

لكن -بغض النظر عن هذه المؤثرات التاريخية المحددة- كيف لا نرى كذلك في
نجاح مصطلح الهوية ترجمة لاتجاه تاريخي أكثر أهمية وشمولاً: أعني تأكيد
الفردانية؟ وهذه أطروحة عدد كبير من الباحثين في خصائص الحداثة التي
نعيشها. هكذا يلاحظ عالم الاجتماع جون كلود كوفمان في “ابتكار الذات”(24)
أن “الهوية صيرورة ذاتية للحداثة ومرتبطة تاريخياً بها. لم يكن الإنسان
المندمج في مجتمع تقليدي يطرح مشاكل الهوية كما نفعل نحن اليوم. رغم أنه
عملياً كان يعيش فردانيتة”. إننا إذ نلج عصر الهويات فبالضبط لأنها لم
تبقَ بدهية، بل هي أشكال متغيرة ويلزم بناؤها وتأسيسها.

لقد بدأت عاطفة الهوية الفردانية تنتشر بالتدريج في القرن التاسع عشر،
ولاشك أن الرومانسية هي إحدى أقوى تجليات هذا الشعور. لكن هذه “الحداثة
الأولى” لم تطرح بحدة قضية الهويات التي كانت لا تزال حاضرة واضحة تفرض
نفسها من أعلى. والأمر لا يختلف بالنسبة إلى النصف الأول من القرن
العشرين. بالمقابل شهدت الستينات انقلاباً حقيقياً، فأصبح على الشخص نفسه
أن يؤسس ذاتيته، وهذا يثير مشاكل حقيقية، كما يشير لذلك عالم الاجتماع
آلان إيرنبرغ. لقد بيَّن في كتابه “التعب من الذات”(25) كم هي مضنية مسيرة
البحث عن الهوية: إن الاكتئاب هو بلا ريب العرض المرضي الأشد بروزاً لهذه
الصعوبة الجديدة في التحديد الشخصي للهوية. هكذا ظهر بسرعة الجانب السلبي
لهذه الثورة: فللحرية ثمن غالٍ. وفي الواقع يتميز الدخول فيما يسميه
أنطوني جيدن(26) بـ”الحداثة المتقدمة”(27) بدرجة متزايدة من التأمل:
فالناس يتساءلون عن كل شيء، مما يجعل سلوكهم متردداً باستمرار. وفي هذا
يوجد مفتاح الهوية بالنسبة لكوفمان الذي يقول: “يندرج الفكر السؤول ضمن
منطق الانفتاح، فهو يحطم اليقينيات، ويشكك فيما اعتبر مكسباً نهائياً. على
خلاف ذلك لا تكفُّ الهوية عن جمع الشظايا وتركيبها، فهي نسق مستقر يحفظ
المعنى ويسيّجه، ونموذجها هو الكلية”(28). إنما لا يمكن للهوية أن تؤدي
هذه الوظيفة إلا بشكل مؤقت.

* محاذير المفهوم

من جهته حاول الفيلسوف الكندي شارل تايلور في كتابه “أصول الأنا”(29) أن
يتتبع نشأة الهوية الحديثة والفردانية عبر تاريخ الفلسفة وتاريخ العقليات
وبحسبه فإن الهوية الحديثة ترتكز على ثلاثة جوانب:

1- اكتشاف أو ابتكار السريرة الداخلية
(القديس أغسطين، ومونتيني، وديكارت، ثم جون لوك. فقد كان دور هؤلاء
حاسماً، إذ بدأ الإنسان شيئاً فشيئاً يتعلم أن ينظر إلى نفسه باعتباره
“أنا” باطني).

2- تثمين الحياة العادية (ودور البروتستانتية هام هنا، لأنها تثمن الحياة
المادية عبر: العمل، وصناعة الأشياء المفيدة في الحياة، والأسرة،
والزواج…).

3- علمنة المجتمع.وكان من المفروض -عند تايلور- ألَّا تحطم الفردانية التي تميز مجتمعاتنا الحديثة الروابط التي توجد بين الناس. (مجرد أمنية صادقة؟).

إنها العودة القوية للفرد، فهذا إذن ما يعنيه مفهوم الهوية، لكن هذا يمكن
أن يشكل أيضاً مشكلة مقلقة. وهذا كلود ليفي ستراوس -في الحلقة الدراسية
التي أدارها بمعهد فرنسا، سنة 1974/1975، حول موضوع الهوية- لم يستطع
إخفاء انزعاجه من هذه الميول النرجسية التي تمنّى لها نهاية قريبة، يقول:
“إن إيماننا المستمر بـ(فكرة الهوية) ربما لم يكن إلا انعكاساً لحالة
حضارية من المفروض ألَّا تتجاوز بضعة قرون. لكن ها هي أزمة الهوية الشهيرة
-والتي كثر عنها الكلام- تكتسي معنى جديداً..”(30).

في الواقع يعكس نجاح المفهوم العودة القوية للفرد في مجال العلوم
الاجتماعية والإنسانية بالرغم من البنيات التي تحدده. فالفرد يتصدر كل
شيء. لكن من الملاحظ أن الدراسات حول الهوية كثيراً ما بيّنت أهمية
المؤسسات في بناء الهوية. وهذا لا يمنع من الإقرار بأن بعض الخطابات في
الموضوع تخطئ حين تغيب بسهولة دور الإكراهات المجتمعية. إن التناقض في
مفهوم الشخصية يكمن في أنها تعبر عن نفسها بالانتماء إلى جماعات، أي في
تشابك هويات جماعية (أنا رجل، مهنتي كتبي، ورب عائلة، ومناضل سياسي، كما
أنني أهوى الأوبرا، وأصلي إيطالي…).

ألا يجدر بالعلوم الإنسانية أن تهجر هذه المقولة “التي تتحدث إلى الناس”،
والتي يطرد استعمالها أكثر فأكثر في الحياة اليومية في كلام الواحد عن
نفسه، لصالح مفاهيم أكثر تحديداً وأقل التباساً؟ إن ج. ك. كوفمان يطرح
السؤال نفسه: تبدو الهوية في المعرفة العادية وكأنها عبارة عن ماهية
مستقلة أو معطى أولي، وهذا بالضبط ما تنكره البحوث الاجتماعية أكثر فأكثر،
والتي تؤكد جميعاً على أن الهوية هي في الحقيقة نتاج تركيب معين. ورغم ذلك
من الصعب أن نهجر مصطلحاً يعكس -في العمق- مشكلة اجتماعية، وإن كان في
نفسه غامضاً. ومن المؤشرات على هذا التحول صدور كتاب حديث بهذا العنوان:
هستريا الهوية(34). لقد بدأ المفهوم يغيظ. ولاشك أن هذا الفأل حسن بالنسبة
لحيوية العلوم الإنسانية التي ستشهد لذلك بدء مناقشات بناءة. لكن أليست
الكتابة ضد مفهوم الهوية نوعاً من الكلام عنها؟ ثم ألا يجدر بنا أن نحذر
الهستريا المضادة للهوية كما نحذر من الافتتان الذي تحدثه أحياناً..
moutia salah eddine
عضـــو جديد

عدد المساهمات: 20
تاريخ التسجيل: 27/06/2008
العمر: 28
الموقع: Cyworld – morocco’s Profile

الهوامش:
من طرف moutia salah eddine في السبت 28 يونيو 2022, 01:51

* كاتبة دائمة بمجلة “علوم إنسانية” الفرنسية (sciences humaines) وهذا المقال يوجد بعدد يوليوز 2022، رقم 151، بعنوان: Faut-il en finir avec l’identité.

** كاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ظهر المهراز، المغرب.

(1) يقول المترجم: هو ذاته -أو العين أو النفس- والآخر (le même et l’autre). إن موضوع الهوية في الفلسفة غيره في علم الاجتماع. فهو -في الفن الأول- يعني الشيء في ذاته، ونترجم عن ذلك بقولنا: الشيء “ج” هو “ج”، والمقصود به ثبات كنه الشيء واستمراره. لكن يشكل على ذلك التغيرات التي تطرأ على هذا الشيء: هل تمس جوهره -أو هويته- أم لا؟ هل أبو حامد الغزالي الشاب هو نفسه الغزالي الشيخ؟ ومبدأ الهوية يشكل مع مبدأ الثالث المرفوع أساس العقلانية القديمة.

(2) المترجم: بارميندس تلميذ اكسينوفانس، التحق بأثينا، له فلسفة خاصة في الوجود: حقيقته ووحدته واستمراره. توفي سنة 450 قبل الميلاد. وهراقليطس ينتمي إلى المدرسة الإيونية، له فلسفة التناقض، توفي سنة 480 ق.م. أما الإيليون فنسبة إلى مدرسة إيليا -مستعمرة يونانية بإيطاليا- اشتهرت بفلسفة خاصة.

(3) هامش المؤلف: كتاب “النبذ”، لهراقليطس. المطابع الجامعية بفرنسا، 1986 (بالفرنسية). قلت: معنى هذه القولة أن الأشياء في تغير أبدي، فأنت إن غطست في النهر ثانية، ففي ماء آخر، ماء جديد، والماء الأول سار في مكان آخر.

(4) المترجم: تيزوس بطل من الأساطير الإغريقية، وبيراس ميناء هام، أما ديلوس فجزيرة، وكلاهما باليونان.

(5) المترجم: جون لوك فيلسوف إنجليزي انتقد ديكارت. له “رسالة في الفهم البشري”، توفي سنة 1704. وهيوم فيلسوف اسكتلندي، اشتهر بنقده للعلاقة السببية في كتابه “بحث في الفهم البشري”، توفي سنة 1776.

(6) تعليق المترجم: علوم الإدراك البشري sciences cognitifs عبارة عن حقل معرفي جديد يدرس طبيعة الإدراك وطرقه وآلياته، ويستمد مواده من علوم: النفس، والاقتصاد، والأعصاب، والمعلومات، واللسانيات، والذكاء الاصطناعي.

(7) المترجم: إريكسون أمريكي من أصل ألماني، وهو من أهم رؤوس تيار الثقافة داخل التحليل النفسي. له دراسة أخرى عن: “المراهقة والأزمة: في البحث عن الهوية”، توفي سنة 1994.

( المترجم: أنا هي ابنة فرويد مؤسس التحليل النفسي، وهي بدورها عالمة نفسانية تخصصت في التحليل النفسي للصغار. توفيت بلندن سنة 1982.

(9) المترجم: كاردينر عالم نفس، ودرس أيضاً علم السلالات البشرية، من كتبه: الفرد ومجتمعه. الحدود النفسية للمجتمع. وهو أمريكي توفي سنة 1981. أما ميد فأمريكية متخصصة في الأنتروبولوجيا، درست بعض الشعوب البدائية، توفيت سنة 1978.

(10) المترجم: شعب السيو أشد من قاوم البيض بأمريكا الشمالية. توجد منهم بقايا إلى اليوم.

(11) المؤلف: ب. كليزون: “تحديد مفهوم الهوية: تأريخ دلالي”، بمجلة التاريخ الأمريكي، عدد 4، مارس 1983 بالإنجليزية.

(12) يقول المترجم: التكنه Identification هو تحقيق الذاتية أو تحققها، أي اكتساب هوية معينة، هذا الاكتساب عند فرويد يقع بنوع من التقليد، حيث يجد الطفل نفسه في الآخر، فيتمثله لكن المقصود هنا -أعني في علم الاجتماع- هو توصل الفرد إلى اكتساب هويته عبر الجماعة بتمثل منظومتها من القيم أو بالقيام داخلها بدور محدد.

(13) المترجم: آلبور عالم نفس أمريكي، من أهم مطوري علم النفس الإكلينيكي، له: التفسير النفسي للشخصية، توفي سنة 1967.

(14) المترجم: عالم اجتماع أمريكي من الاتجاه الوظيفي، وهو تلميذ بارسون.

(15) المترجم: كولي عالم اجتماع أمريكي، تخصص في دراسة العلاقات بين الأفراد في إطار المجموعة. توفي سنة 1929. وميد فيلسوف وعالم اجتماع أمريكي، درس تطور الفكر واللغة. توفي سنة 1931 من كتبه: العقل والأنا والمجتمع.

(16) المؤلف: إ. جوفمان: “العلامة والهوية الاجتماعية”، ضمن كتابة: “الندوب: الاستعمالات الاجتماعية للعوائق”. دار نشر نصف الليل، 1996، بالفرنسية، وبالإنجليزية سنة 1963. قلت: جوفمان عالم اجتماع أمريكي توفي سنة 1982.

(17) المؤلف: ب. بيرجر: دعوة إلى دراسة علم الاجتماع. أفق إنساني. دار بانكوان، 1988. بالإنجليزية. يقول المترجم: بيرجر عالم اجتماع اشتهر بهذا الكتاب الذي أصدره مع طوماس لوكمان: البناء الاجتماعي للواقع سنة 1966.

(18) المؤلف: ر. بروباكر: “ما وراء الهوية”، بمجلة أعمال البحث في العلوم الاجتماعية، عدد 139، سبتمبر 2001. بالفرنسية.

(19) المترجم: يطلق على دراسة مجتمع الشواذ Gay’s studies، وعلى المكسيكيين المهاجرين chicano studies.

(20) المؤلف: ت. جيتلان: “أفول الأحلام البسيطة: لماذا تضررت أمريكا من ثقافة الحروب؟” نشر أووليت. 1996 بالإنجليزية.

(21) المترجم: نسبة إلى منطقة فقدها الفرنسيون لصالح بريطانيا، ولجؤوا إلى لويزيانا.

(22) المترجم: دراسات النوع genre شكل من التحليل ينظر إلى كل من الذكر والأنثى باعتبارهما بناءً اجتماعياً.

(23) المؤلف: يقدم ل. شوفيل أرقاماً بليغة عن تراجع استعمال مفهوم “الطبقة” في علم الاجتماع: “بين سنتي 1970 و1979 كانت نسبة 3% من الأطروحات -في علم الاجتماع- تذكر كلمة الطبقة، ثم 1.5% في الثمانينات، ثم 1% بين 1990 و 1995، ثلثها يتعلق بأقسام المدرسة، وهذا استعمال نادر في السابق (يقول المترجم: لفظة classe تعني الطبقة أو القسم، فهي من المشترك). وكانت سنة 1984 سنة قطيعة بامتياز. واليوم تعتبر كلمة “الطبقة” -في علم الاجتماع- قديمة، ويتخلص منها بشكل أو بآخر”. عن: قدر الأجيال. نشر المطابع الجامعية الفرنسية، 1988. طبع مرة أخرى سنة 2022. بالفرنسية.

(24) المؤلف: ج. ك. كوفمان: ابتكار الذات، نظرية في الهوية. طبع أرمون كولان، 2022. بالفرنسية. قلت: كوفمان عالم اجتماع برز في العقدين الأخيرين، وألف خصوصاً في سوسيولوجيا الأسرة.

(25) المؤلف: أ. إيرنبرغ: التعب من الذات. الاكتئاب والمجتمع. نشر أوديل جاكوب، 1998، وطبعة أخرى في 2000. بالفرنسية.

(26) المؤلف: يتحدث جيدن عن “الحداثة المتقدمة” وليس عن (ما بعد الحداثة)، لأن هذه المرحلة الجديدة لا تشكل قطيعة مع الحداثة بقدر ما تمثل شكلها الأقصى والأكثر تطرفاً. قلت: جيدن من علماء الاجتماع المعاصرين البارزين، من كتبه: تأسيس المجتمع. نتائج الحداثة. نظرية في الجغرافيا الاجتماعية.

(27) المترجم: المتقدم هنا -avancé- بمعنى الذي يوجد في مرحلة متأخرة من تطوره، لا أنه متقدم بالمعنى المضاد للتخلف.

(28) المؤلف: كوفمان، مرجع سابق.

(29) المؤلف: ش. تايلور: “أصول الأنا”، دار لوسوي، 1998. الطبعة الأولى في 1989. بالفرنسية.

(30) المؤلف: تأليف مشترك بتنسيق من ليفي ستراوس: الهوية. مطابع فرنسا، 2000. الطبعة الأولى، 1977. بالفرنسية.

(31) المؤلف: ج. ف. بايار: وهم الهوية. دار فايار، 1996. بالفرنسية.

(32) المؤلف: أ. كروسر: الهويات المستغلة، مقال بلوموند، 28 يناير 1994. بالفرنسية.

(33) المؤلف: بروباكر، مرجع سابق.

(34) المؤلف: أ.دوبان: هيستريا الهوية. دار لوشيغش ميدي، 2022، بالفرنسية


merci pour l’informationتعليم_الجزائر

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله … لك مني أجمل تحية .

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
علم الاجتـماع

البراغماتية


البراغماتية

يستخدم هذا المصطلح في السياسة، فيقال: فلان براغماتي، والحركة الفلانية حركة براغماتية، وفي أغلب الأحوال يقصد بها النفعية أو العملية…

فما هي البراغماتية!!!؟

الأصل اللغوي للمصطلح يرجع إلى الكلمة اليونانية Progma وتعني (عمل) أو (مسألة علمية)، ولقد استعار الرومان المصطلح واستخدموا عبارة Progmaticus فقصدوا بها “المتمرس” وخاصة المتمرس في المسائل القانونية.

أما من ناحية تاريخ الفكر فالمصطلح يشير إلى تلك الحركة الفلسفية التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وارتبطت بأسماء الفلاسفة الأمريكيين بيرس ووليام جيمس وجون ديوي والتي تتمركز فلسفتها حول مقولة مؤداها:

لا يمكن التوصل إلى معاني الأفكار، ومن ثم لا يجب تفسيرها، إلا بالنظر إلى النتائج المترتبة عليها، كما أنه لا يمكن تحديد المعتقدات أو تبرير التمسك بها إلا بالأخذ في الاعتبار النتائج العملية المترتبة على الإيمان بهذه المعتقدات،

فالحقيقة إذن ثانوية إذا ما قورنت بالممارسة العملية، ذلك أن الحقيقة وفقاً للنظرية البراغماتية ما هي إلا الحل العملي والممكن لمشكلة ما، كما أن المبرر الوحيد للإيمان بأي شيء هو أن التمسك به والعمل وفقاً له يجعل الفرد في وضع أفضل مما لو كان إذا لم يتمسك به.

أما بصورة أوسع فالمصطلح يستخدم للإشارة إلى أي مدخل يركز بالأساس على ما يمكن عمله في الواقع لا على ما يجب عمله بالنظر إلى عالم المثاليات…..

فالبراغماتية بدلاً من أن تركز على مقدمات الأفكار فإنها تركز على النتائج المترتبة على تلك الأفكار، فهي تُوجه نحو الاهتمام بالأشياء النهائية وبالنتائج ومن ثم، هي لا تعني بالسؤال عن ماهية الشيء أو أصله بل عن نتائجه، فتوجه الفكر نحو الحركة ونحو المستقبل.

ورغم أن البعض يؤمن أن البراغماتية ما هي إلا أحد أشكال الأمبيريقية، إلا أن البراغماتية تجد جذورها في أفكار ومذاهب متعددة مثل فكرة العقل العملي لكانط، وفي تمجيد شوبنهور للإرادة، وفي فكرة داروين أن البقاء للأصلح، وفي النظرية النفعية التي تقيس الخير بالنظر إلى مدى نفعيته، وبالتأكيد في المفاهيم الأمبيريقية للفلاسفة الإنجليز، وكذا في طبيعة المجتمع الأمريكي الجديد.. فالبراغماتية تُعَد بحق رد الفعل الدفاعي للمفكرين الأمريكيين تجاه الفكر الأوروبي، خاصة الفكر الألماني المغرق في الميتافيزيقا.

ولعل هذا التنوع في الأصول الفكرية لمذهب البراغماتية هو الذي جعل وضع تعريف شامل جامع لمفهوم البراغماتية مهمة صعبة للغاية، وليس أدل على ذلك من أن آرثر لوفجوي قد نجح في عام 1908 في تجميع ثلاثة عشر معنى مختلفاً للبراغماتية بل ودلل على أن بعضها يضاد البعض الآخر.

وهذا التعدد في التعريفات وكذلك تنوعها يرجع إلى أن البراغماتية كفلسفة وجدت أنصاراً وتطبيقات لها في ميادين متنوعة للمعرفة منها العلوم الطبيعية والقانون والأدب والاجتماع والسياسة و كل ميدان يطبقها ويفسرها من منطلق خبراته الخاصة، ولقد اعترف يابيني في كتاب قدم به المذهب إلى الفلاسفة الإيطاليين بأن البراغماتية لا يمكن تعريفها وأن أي فرد يحاول حصرها في عبارات قليلة بغرض تعريفها يكون مرتكباً لأفظع الأشياء غير البراغماتية. ولقد حاول ثاير في كتاب يستعرض التطور التاريخي للمذهب رسم الخطوط العريضة لأهداف ومكونات البراغماتية فقرر أنها:

قاعدة إجرائية لتفسير معاني بعض المفاهيم الفلسفية والعلمية.

نظرية في المعرفة والخبرة والواقع تؤمن بأن:

أ – الفكر والمعرفة نماذج مطردة التطور اجتماعياً وبيولوجياً وأن ذلك يتم عن طريق التوافق والتأقلم.

ب- الحقيقة متغيرة والفكر ما هو إلا مرشد لكيفية تحقيق المصالح والوصول إلى الأهداف.

جـ- المعرفة بكل أنواعها ما هي إلا عملية سلوكية تقييمة للأوضاع المستقبلية وأن التفكير يهدف عن طريق التجربة إلى تنظيم وتخطيط والتحكم في الخبرات المستقبلية.

توجه فلسفي واسع تجاه إدراكنا لماهية الخبرة وأهميتها للمعرفة.

ولكن حتى هذا التعريف العام جداً تم نقده على أساس أنها لا يبرز بدرجة كافية النظريات المتعارضة المتعلقة بالوسائل وبالواقع وبطبيعة المعرفة والتي يتبناها البراغماتيون ذوو الخلفيات الثقافية المتنوعة، والمنتمون إلى مدارس مختلفة في حقول فكر متعددة. ولكن إذا كان هذا التنوع يؤدي إلى صعوبة وضع تعريف شامل جامع لمذهب البراغماتية إلا أنه لا يعني انعدام وجود مجموعة متجانسة ومتماسكة من الأفكار التي يتميز بها المذهب.

فبمراجعة المشكلات التي حاول المفكرون المنتمون لهذا المذهب مواجهتها وبالرجوع إلى الأفكار الأساسية التي رفضوها نستطيع أن نحدد المفاهيم الأساسية والمشتركة التي تتميز بها البراغماتية على تنوع تطبيقاتها، وأهم هذه المفاهيم هو الاعتراض على الفصل المطلق بين الفكر من جانب والحركة من جانب آخر، وبين العلم البحت والعلم التطبيقي، وبين الحدس والتجربة.

وكذلك عدم الإيمان بوجود أشياء خارقة للطبيعة تتحكم في مقدرات العالم وكذا رفض المعايير المطلقة والأزلية للمعتقدات والقيم وإحلال معايير أكبر مرونة وأكثر محدودية محلها.

ولقد كان للبراغماتية بأفكارها المميزة أثر كبير في تطور الفكر السياسي في الولايات المتحدة بصفة خاصة.

فالمفكرون السياسيون المتأثرون بالبراغماتية يرفضون على سبيل المثال الفصل بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة ويؤمنون بالمذهب الفردي ويرفضون التسلطية والشمولية وكلها معتقدات تتسق مع تمجيد البراغماتية لإرادة الإنسان ولحريته والنابعة من قدرته على التحكم في مصيره دون ما تدخل من قوى أخرى، كما أن اهتمام البراغماتية بالنتائج وبمدى اتساقها مع مصلحة الفاعل أدى إلى تبني المفكرين السياسيين البراغماتيين للنظرية النفعية.

خـاتـمـــة:

المعروف لدينا أن الفلسفة السائدة في المجتمع الأمريكي هي البراغماتية، وأن السياسة الأمريكية سياسة براغماتية، وهذا يعطي هذه الفلسفة مكانة عالية، لأن المجتمع الأمريكي يقود العالم كله اليوم ـ شاء أم أبى ـ بقوته العسكرية، وبقوته الاقتصادية، وبقوته السياسية…

وقد وصل المجتمع الأمريكي هذه المكانة من القوة لأنه لاتهمه ـ النظريات والمثل ـ التي تخـدر الشعوب في العالم الثالث، وإنما يهمه النتائج العملية، والسلوك الناتج عن هذه الفلسفة… وهكذا في الظاهر اليوم أن أمريكا أقوى أمة في العالم….

ولكن هناك فلاسفة ومفكرون يرون أن أمريكا على حافة الانهيار ـ أخلاقياً واجتماعياً، واقتصادياً، وقد بشـر سيد قطب – يرحمه الله – بانهيار أمريكا قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم يفلس العالم من النظم والفلسفات التي تفسر الحياة وتضع لها شريعة يرضى عنها الناس، ويتطلع البشر كلهم عندئذ إلى الإسـلام

وهذه خلاصة كتابه – يرحمه الله – [المستقبل لهذا الدين]…

… وقد أفلس الاتحاد السوفياتي، وانهارت الماركسية، ونحن الذين عشنا شبابنا طلاباً في الجامعة أيام هيمنة الماركسية على الفكر العالمي… ندرك أن هيمنة أمريكا ـ مادياً ـ ليست أقوى من هيمنة الماركسية ـ فكرياً ـ على العالم، وقد انهارت الماركسية ـ غير مأسوف عليها ـ وسف تنهار براغماتية أمريكا أيضا..

ويشارك سيد قطب مفكرون آخرون، يعتقدون أن قوة أمريكا المادية لا تتناسب مع قوتها الروحية والأخلاقية… وهذا الاضطراب والاختلال في التوازن سيقضي على الحضارة الأمريكية آجلاً أم عاجلاً… ونرى ذلك واضحاً من ممارسات الأمريكيين في (أبو غريب) وفي أفغانستان، وفي القضية الفلسطينية، حتى أنها تعلن على الملأ بلغة أو بإشارة أن الدم الفلسطيني لا قيمة له حتى لو كان دم الأطفال الأبرياء، الذين تقتلهم الصواريخ الصهيونية وهم في نـزهـة على الشاطئ…. أما العمليات الاستشهادية التي ينفذها الشباب المسلم دفاعاً عن وطنه ودينه وعرضه ودمـه، فهذه عمليات إرهابية تجمع قادة العالم كلهم إلى (شرم الشيخ) كي تحارب هذه العمليات (الإرهابية) كما تقول أمريكا… هذا الخواء، والتناقض… والكيل بمكيالين… سوف ينتبـه لـه الأمريكيون أنفسهم… وسوف يحطمون عندئذ أسطورة الحضارة الأمريكية (البراغماتية)…

والعالم بحاجة إلى أمـة تقوده إلى الخير، وتـدلـه عليه، تشهد عليه، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه بالتأكيد ليست هي الأمة الأمريكية، وليست هي الفلسفة البراغماتية…


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
علم الاجتـماع

نظرية x وy لدوجلاس ماك عريغور :

بواسطة الاستاد : لطفي دنبري
نظرية X وY لدوجلاس ماك عريغور :
ركز دوجلاس ماكجروجر على أهمية فهم العلاقة بين الدافعية وفلسفة الطبيعة البشرية، وقد بنى نظريته على أن معظم المديرين يميلون إلى وضع الافتراضات عن العاملين معهم، واختيار الأسلوب المناسب لدفعهم من خلالها، وبناءً على هذه الافتراضات فقد قسم ماكجروجر العاملين إلى مجموعتين أطلق عليهم الرمزين (x,y) “حتى لا يحكم على المضمون إذا كان جيدا أو رديئا أو متششددا أو متساهلا، و إنما لأنهما يمثلان موقفين مختلفين وحدد لكل منهما الملامح الرئيسية نعرضها كالآتي
نظريــة X :
1. الإنسان كسول بطبيعته و لا يحب العمل .
2. خامل و لا يريد المسؤولية في العمل.
3. يفضل الفرد دائما أن يجد شخصا يقوده و يوجهه و يشرح له ماذا يعمل.
4. العقاب أو التهديد بالعقاب من الوسائل الأساسية لدفع الانسان على العمل ، أي أن الانسان إنما يعمل خوفا من العقاب و ليس حبا في العمل.
5. لابد من الرقابة الشديدة و الدقيقة على الإنسان لكي يعمل حيث لا يؤتمن الفرد على شئ هام دون الرقابة.
6. أن الأجر و المزايا المادية الأخرى هي أهم حوافز العمل.
هذه الفلسفة x ” هي امتداد لفلسفة العصا و الجزرة التي قامت عليها النظرية التقليدية في الإدارة حيث أن الإدارة هي التي تملك التحكم في مختلف العمليات من توظيف و أجور و تدريب و مكافآت… و هي جميعها لا تخرج عن كونها الجزرة التي يسعى العامل للحصول عليها مقابل أدائه لعمله ، في حين أن التراخي في الأداء يحول هذه العمليات إلى عصـا تستخدمها الإدارة للضغط على الأفراد.”
و هذه النظرة الظالمة لسلوك الإنسان كانت هي الشائعة في الإدارة التقليدية إلى أن أثبتت العلوم الاجتماعية بطلانها كنتيجة لتجاربها الكثيرة حول سلوك الفرد و الجماعات.

نظريــة Y : تخالف هذه النظرية أولا تلك الاقتراحات في السلوك البشري و التي وردت في نظرة x و التي وتصف المورد البشري بصفات ظالمة ليست من طبيعته تللك النظرية التي تنكرت للجانب الإنساني في الإنتاج و تناست دوافع العاملين نحو العمل و التي تشكل أساس السلوك الانساني.
إن هذه النظرية إلى جانب إيمانها بدوافع العمل و حاجات العمال ، فإنها تحاول تقديم افتراضات أخرى تفسر بعض مظاهر السلوك الإنساني و هي
1. إن الجهد الجسمي و العقلي الذي يبدله العامل في العمل هو شيء طبيعي كاللعب و الراحة . ‘ن العمل ( معتمدا على ظروف يمكن مراقبتها) يمكن أن يكون مصدر رضا و لذلك سوف يتم إنجازه و بشكل تطوعي، كما يمكن أن يكون مصدر عقوبة و بذلك يتم تجنبه إذا كان ذلك ممكنا.
2. إن الرقابة الخارجية و التهديد بالعقاب ليسا الوسيلة الوحيدة التي تدفع العاملين لبذل الجهد من أجل تحقيق الأهداف التنظيمية ، إذ أن العامل سوف يقوم بممارسة الرقابة الذاتية و التوجيه الشخصي من أجل انجاز الأهداف التي التزم به.
3. إن العنصر البشري ( و تحت ظروف عادية) يعرف كيف يبحث عن المسؤولية و ليس فقط قبولها.
4. في ظروف الحياة الصناعية الحديثة فإن الطاقات الكامنة للعنصر البشري قد تمت الاستفادة منها بشكل جزئي.
5. يعمل الإنسان ملا في الحصول على المكافأة لا خوفا من العقاب. إن أهم مكافأة للفرد على سبيل المثال هي الرضا الشخصي و إشباع حاجة تحقيق الذات و الذين قد يحققهما في عمله الذي يقوم به.
هذه هي اقتراحات نظرية Y التي ترتكز على القيادة الإدارية من خلال الدافعية بالأهداف و من خلال السماح للمرؤوسين لتحقيق الرضا الشخصي م دامت تساهم و تؤدي إلى تحقيق أهداف التنظيم
التطبيق العملي لنظرية (x,y)يمكن للمديرين والموظفين أن يستفيدوا من مبادئ x,y في دفع العاملين من خلال تحليلهم لشخصية هؤلاء العاملين وتحيد العاملين الذين تنطبق عليهم أفكار النظرية (x) والآخرين الذين تنطبق عليهم أفكار النظرية (y).
– فعلى سبيل المثال:
يعتمد المدير على الحافز المادي بشكله الإيجابي والسلبي (المنح والمنع) في تحفيز العاملين الذين تنطبق عليهم النظرية (x).
أما الذين تنطبق عليهم أفكار النظرية (y) فيتم الاعتماد على الحافز المعنوي في تحفيزهم من خلال تشجيعهم على المشاركة والإنجاز وتحقيق الذات.
مع العلم أنه لا يمكن الجمع بين هاذين المدخلين لأن كل واحد منها يعتمد فلسفة مناقضة للآخر تماما، الأول (x) متشائمة متشددة و الثاني (Y) مرنة و متفائلـة.
المراجع :
1. علي غربي : إدارة الموارد البشرية ، منشرات جامعة منتوري قسطينة ،2003
2. مصطفي نجيب شاويس : إدارة الأفراد ، الأردن




التصنيفات
علم الاجتـماع

هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إلقاء السلام

[frame="4 10"]

كان صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم عليه رجل يرد السلام ثم يقول: لبيك – أي إجابة لك – وكان سلامه كاملاً، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولمَّا جاءه اليهود، وهم سبب كل المشاكل في الوجود، فما فيه أمريكا، وما فيه أهل الغرب الآن سببه تغلب اليهود عليهم وسيطرتهم على مؤسساتهم، فهم معدن الشر في الأرض كلها

فكانوا يأتون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولوا: راعناً يا محمد أي أنت أرعن، فظن المؤمنون أنهم يقولون: راعنا أي انظر إلينا، فكانوا يقولون مثلهم، فقال لهم الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} البقرة104
لا تكونوا مثل هؤلاء القوم أهل الدهاء وأهل المكر وأهل الكيد

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فقال: عليكم، فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْلا يَا عَائِشَةُ، عَلَيكِ بالرِفْق وإِيَاكِي والفُحْش، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أولم تسمعي ما قلت، أنا رددت عليهم فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في}{1}

وكان صلى الله عليه وسلم يُسلم على الصبيان، ويُسلم على النساء، وهناك جملة من الأحاديث في تسليمه على الصبيان، وتسليمه على النساء، منها ما رُوى عن أنس رضي الله عنه: {أنه مر على صبيان فسلَّم عليهم ثُمَّ حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ}{2}

وعن أسماء بنت يزيد قالت: {مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا}{3}
وعنها قالت: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ – أشار – بِالتَّسْلِيمِ}{4}

وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يشير بيده لمن يبعد عنه ولا يبلغه صوته، حتى نعرف أن كل ذلك وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يترك رد السلام للعتاب، ونحن نعرف قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عندما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم التوجه إلى بلاد الشام لغزو الروم، وكان ذلك في وقت الحر الشديد، ووقت جني محصول التمر، وتخلف ثلاثة من أصحابه الصادقين، وأشهرهم كعب بن مالك الشاعر، وتخلف آخرون من المنافقين، وبعدما رجع جاءوا يعتذرون، فكذب المنافقون وتركهم صلى الله عليه وسلم ولم يعبأ بهم

أما الثلاثة الصادقين فكان يقول أحدهم: يا رسول الله لم أكن في حال أفضل مما كنت فيه في هذه الآنات، في أطيب عيش وأرغد مال وأحسن حال، فيقول صلى الله عليه وسلم: أما هؤلاء فقد صدقوا الله فأمرهم إلى الله، ثم قال لأصحابه: لا تكلموهم ولا تسلموا عليهم ولا تردوا عليهم السلام ولا تخدمهم نساءهم حتى يأتيهم أمر الله.

لماذا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى يظهر فيهم الحال الذي قال فيه الله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} التوبة118

لكنهم لو استمروا معهم على ما كانوا معهم عليه فلن يحسوا بذنبهم، ولن يندموا على ما فعلوا، وهذا السر في أن الحَبيب أمر أصحابه أن يتركوهم حتى يرجعوا إلى الصواب، لذلك أنا أهجر أخي إذا وقع في المعصية ليشعر أنه أذنب فيرجع إلى الله، ويتوب ليتوب عليه مولاه عز وجل.

والدليل على صدق هؤلاء القوم أن كعب بن مالك كان يسير يوماً في السوق فنادى عليه رجل وقال: أنا معي لك رسالة من ملك الروم، فأخذها فوجد فيها: بلغني أن نبيك قلاك، فتعال إلىَّ تجد المال الوفير، وكذا وكذا، فقال: هذا أيضاً من البلاء الذي أنا فيه، أيصل البلاء أن يطمع فيَّ ملك الروم؟ انظر إلى الصدق.

فأمر النبي أصحابه ألا يُلقوا عليهم السلام، وكان بينهم اثنين من كبار السن فاعتكفوا في بيوتهم، وكان أحدهما لا يستطيع أن يخدم نفسه فأستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخدمه زوجته، فوافق بشرط ألا يقربها، وكان أقواهم كعب بن مالك، وهو الذي كان يتعرض للناس ويلقي السلام ولا يسمع الرد، يقول: كنت آتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟{5} مع أن شرط رد السلام أن يسمع الرد لكن هذا تأديب وتهذيب من الحَبيب صلى الله عليه وسلم.

كذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أمراً من شخص ولم يعجبه لم يرد عليه السلام ، فعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: {أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ حَرِيرٌ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ مَحْزُونًا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ جُبَّتَكَ وَخَاتَمَكَ، فَأَلْقِهِمَا، فَأَلْقَاهُمَا، ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَيْتُكَ آنِفًا فَأَعْرَضْتَ عَنِّي؟ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ}{6}

وكان صلى الله عليه وسلم من شدة لطفه وأدبه إذا دخل على نائم وهناك مستيقظ يُلقي السلام على المستيقظ بحيث لا يُسمع النائم، أي بصوت خافت، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بُلِّغ السلام عن أحد يقول فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ أَبي يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " عَلَيْكَ وَعَلَى أَبيكَ السَّلامُ}

هذا كان هَدْى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السلام، وأنتم تعلمون أن السلام اختاره له ولنا الله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} الأحزاب44

أما غير ذلك فبعد تقديم سلام الله، لا ينبغي لأحد أن يبدأ بصباح الخير، أو مساء الخير، أو أهلا وسهلاً، أو مرحباً إلا بعد سلام الله، لأن الله قال فيمن قال ذلك من المنافقين: {وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} المجادلة8

نبدأ أولاً بالسلام ثم قل ما شئت بعد ذلك من التحيات، وهذا الأمر يكون في المواجهة أو في الهاتف أو في أي أمر من الأمور، وأحكام السلام موجودة في الكتب الشرعية لمن أراد أن يستزيد فيها.

وكان من آدابه صلى الله عليه وسلم إذا التقى بمسلم صافحه، ويقول فيها صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوبُهُمَا، كَمَا تَتَحَاتُّ الْوَرَقُ مِنَ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، وَإِلا غُفِرَ لَهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمَا مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ}{7}

وقد ورد أن رجلاً من عنزة قال لأبي ذر رضي الله عنه حَيْثُ سُيِّرَ مِنْ الشَّامِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أبو ذر: إِذًا أُخْبِرُكَ بِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ سِرًّا، قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ،: {هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ: مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ، أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِي، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَالْتَزَمَنِي –اعتنقني- فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ"}{8}

أما من يأتي من سفر فكان يعانقه صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يعانقه ويُقبِّله، جاء سيدنا جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة، وكان وقت مجيئه تصادف مع فتح خيبر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً واحتضنه وقبَّله وقال صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أَفْرَحُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ}{9}

جعل مجيء جعفر يساوي فتح خيبر، فانظر إلى وقع هذه الكلمة في القلب، حُسن الكلام هو سر هَدْي الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

وكان صلى الله عليه وسلم حتى مع ابنته السيدة فاطمة إذا أتته في منزله يقوم ويحتضنها ويُقبلها ويُجلسها بجواره، وإذا ذهب إليها يزورها تقوم إليه وتحتضنه وتُقبله وتُجلسه بجوارها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: {كَانَتْ فاطمة إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إِلَيْهَا، فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا، فَقَبَّلَتْهُ، وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا}{10}

الإحترام حتى مع الإبنة أو الأباء ليُعلِّمنا أن دين الإسلام هو دين الأدب التام مع الخاص والعام، هكذا كان الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

{1} الصحيحين البخاري ومسلم {2} صحيح مسلم وسنن الترمذي {3} سنن أبي داود وابن ماجة {4} سنن الترمذي {5} الصحيحين البخاري ومسلم {6} معجم الطبراني {7} المعجم الكبير للطبراني والبيهقي عن سلمان {8} سنن أبي داود ومسند أحمد {9} الحاكم في المستدرك والمطالب العالية لابن حجر عن جابر بن عبد الله {10} الحاكم في المستدرك والبيهقي

[/frame]


التصنيفات
علم الاجتـماع

بحث حول الملاحظة والتحليل

مقدمة
في عملية البحث الاجتماعي يقوم الباحث بعدة مراحل وتقنيات ليصل الى هدفه منها تقنيتي الملاحظة والتحليل على الرغم من سهولة العنوان إلا أنه صعب ،وذلك لندرة المراجع .
والإشكال المطروح هو:ماذا يقصد بتقنيتي الملاحظة والتحليل ، ما مزاياهما ومجالاتهما وما الفائدة من البحث العلمي ؟

المبحث الأول: الملاحظة
المطلب الأول:
أ/ تعريفها: يقول الدكتور محمد طلعت عيسى ،الملاحظة أداة آلية لجمع المعلومات وهي النواة التي يعتمد عليها للوصول إلى المعرفة العلمية والملاحظة في أبسط صورها هي النظر إلى الأشياء وإدراك الحالة التي هي عليها .
ويعرفها كارز جود: الأداة التي من خلالها نستطيع التحقق من سلوك الأفراد الظاهري عندما يعبرون عن أنفسهم في مختلف مواقف الحياة اليومية ، فهي المشاهدة الحسية والعقلية لوقائع محددة طبيعية بهدف الحصول على معلومات تفيد في أغراض البحث العلمي.
ب/ أهميتها:
– تساعد في فهم وأدراك البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة.
تستخدم كوسيلة أساسية لجمع البيانات في البحوث الطبيعية والاجتماعية.
– تعتبر الأصل في الاكتشافات العلمية المبكرة والمعاصرة في اكتشاف نيوتن- قانون الجاذبية-ومن خلال الملاحظة.
– تعتبر خطوة أساسية في خطوات المنهج العلمي.وتعتبر الخطوة الجوهرية من خطوات المنهج التجريبي وتعتبر خطوة أساسية في العلوم الاجتماعية.
المطلب الثاني: خصائصها:
1- تعد الملاحظة وسيلة أساسية من وسائل جمع البيانات والمعلومات في البحوث الطبيعية والاجتماعية.
2- الملاحظة تشمل كل أفراد المجتمع في حياتهم اليومية والعلمية.
هي عملية تجمع بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي،أي أننا نعمل بحواسنا ونشغل العقل في عملية الملاحظة من خلال التحليل والتفسير.
الملاحظة العلمية الدقيقة هي ملاحظة مقصودة ومنظمة ومخططة أي ليست عشوائية ولكن هذا لايقلل من أهمية الملاحظة العشوائية التي تأتي بمحض الصدفة من اكتشاف حقائق علمية .
إن الملاحظة لاتقتصر على التركيز بالوقائع الآنية ولكنها تفيد على ملاحظة الوقائع الماضية بطريقة غير مباشرة ويركز هذا النوع على الآثار الطبقية والوثائق كالحضارة الفرعونية.
الملاحظة العلمية الدقيقة تحتاج إلى باحثين متخصصين على موضوعات الملاحظة واستعمال الأدوات الفنية.
المطلب الثالث: مجالات استخدام الملاحظة:
مجالاتها متنوعة وهي:
أ / مجالات البحوث الطبيعية: تستخدم بشكل فعال في كافة البحوث التجريبية كعلم الفلك ،الجيولوجيا…
ب / مجالات البحوث الاجتماعية:
ب -1/ التفاعل الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية: هي دراسة أنماط التفاعل في الحياة الأسرية كما يستخدم علماء
الاثنوجرافيا وعلماء الانثربولوجيا الملاحظة في دراسة المجتمعات المحلية.
ب- 2/ الدراسات السيسولوجية المقارنة:هي من الدراسات الهامة في مجال البحث السوسيولوجي زمن أمثلته الدراسات تجري على السجون والمنظمات الصناعية.
ب- 3/ الجماعات غير الرسمية: تستخدم الملاحظة فيه بنجاح واستخدمت في دراسة جماعات العمل في المجال الصناعي.كدراسة ألتون مايو وزملاؤه على مصنع هاوثورن وتوصلوا من خلالها إلى وجود بناء غير رسمي داخل الجماعات وله تأثير على العملية الانتاجية.
ب- 4/ الدراسات الاستكشافية :تستخدم بشكل فعال في المراحل التمهيدية للبحوث الاجتماعية بهدف الاستطلاع على بعض الجوانب الظاهرة الاجتماعية.
ب- 5/ الدراسات السيكولوجية: هو من المجالات الخصبة التي تستخدم فيها الملاحظة كملاحق سلوك الأطفال أثناء اللعب وتستخدم في علم النفس التجريبي.

المطلب الثالث: أنواعها:
هناك أكثر من معيار لتصنيف الملاحظة وفي ضوء كل معيار تتولد لدينا أنواع وأنماط وهي ليست مستغلة بل متداخلة ومترابطة ويكون الاختلاف فيها في الشكل أو في التسمية دون الجوهر.
ومن المعايير التي استند عليها الباحثون في تصنيفهم للملاحظة معيار القصد المسبق الذي يصنف الملاحظة إلى عرضية ومقصودة ومعيار يدخلا لفصل في عملياتها يصنفه الى فجة وعلمية ومعيار درجة الضبط يصنفها إلى ملاحظة بسيطة ومنظمة وغيرها من المعايير التي تتولد منها أشكال مختلفة للملاحظة وبصفة عامة يمكننا القول أن الملاحظة تنقسم إلى قسمين:
1/ الملاحظة العابرة(العضوية): هي تلقائية التي يقوم بها الفرد العادي في حياته اليومية من دون غاية علمية ويتضح هذا النوع لدى الشعوب البدائية حيث اعتمدت عليها الأشياء والبيئة المحيطية.
2/ الملاحظة العلمية:هي مقصودة وهادفة وتعد من أهم أدوات البحث في كافة العلوم يستعين فيها الباحث بحواسه وعقله وبعض الأدوات العلمية الدقيقة وهي امتداد للملاحظة العضوية ويمكننا تصنيف الملاحظة العلمية إلى بسيطة بالمشاركة وبسيطة بدون مشاركة .
3/ الملاحظة البسيطة: هي ملاحظة الظواهر كما تحدث تلقائيا في ظروف طبيعية دون إخضاعها لعمليات الضبط والتقنين وتفيد في دراسات جماعات صغيرة وأنماط العلاقات الاجتماعية بين أفراد في بيئة معينة و تجري في أسلوبين:
3- أ/ الملاحظة بدون مشاركة :هي الملاحظة التي لا تتضمن أكثر من النظر أو الاستماع في موقف اجتماعي معين دون المشاركة الفعلية ويمكن أن تكون خلف ستار أو حاجز زجاجي تحفظ المشاركين في سلوكهم وتعقدهم طنبع التلقائية وهناك مواقف لا يصلح فيها إستخدام هذا النوع كملاحظة بعض الصور الخاصة ببعض السلوك.
3- ب/ الملاحظة بالمشاركة :استخدمت بنجاح في الدراسات الأنتربولوجية ويتضمن هذا النوع إشتراك الباحث في حياة الناس الذين يقومون بملاحظاتهم وتتفاوت درجات المشاركة في عامة – هذا مايفعله الأنتربولوجيون- إلى جزئية فقد تندمج الملاحظة في حياة الجماعة التي يلاحظها .
ومن بين العلماء الذين استعانوا بأسلوب الملاحظة بالمشاركة * كودييل*عالم أنتربولوجي في دراسة للعلاقات الانسانية داخل إحدى المستشفيات للأمراض العقلية، يوم إن عاش مع المرضى والأطباء لمدة شهرين ،دون علمهم بذلك هناك بعض القواعد العامة لاستخدام الملاحظة بالمشاركة وهي:
1* التعرف على الخصائص الاجتماعية العامة لجماعية موضوع الملاحظة وواقع البيانات المنشورة المتاحة.
2* التعرف على القادة الرسميين وغير الرسميين وإذا أراد الباحث أن تكون مشاركته صريحة فعليه الاستعانة بالإجنانين لتقديمه لمجتع البحث.
3*شرح ما سيقوم للإجنانيين وهم يقومون بتوصيل ذلك بمجتمع البحث.
4* مشاركة أعضاء المجتمع وإهتماماتهم العامة.
5* ينغي على الباحث عدم توجيه اسئلة حساسة إلى أفراد البحث إلا بعد توطيد الشخصية معهم .
6* البعد عن إبداء الرأي عن بعض الموضوعات الحساسة التي قد تثير غضب المبحوثين .
4/ الملاحظة المنظمة: تتسم بالدقة والضبط ومخططة بشكل مسبق وتستخدم في البحوث الشخصية او التجريبية ويستخدم فيها الباحث بعض الأدوات التي تعينه على دقة الملاحظة مثل استخدام دليل الملاحظة او بعض الالات كالميكرو سكوب أو آلة التصوير والهدف منها جمع البيانات الدقيقة عند الظاهرة التي هي موضوع البحث لاختبار صحة البحث(زمان،مكان) وقد تستخدم الملاحظة بأسلوب المشاركة أو بدون المشاركة وأيا كان الأسلوب فهي تستعين ببعض الوسائل التي تعينه على دقة الملاحظة من أهمها:
4-أ/الصور الفوتوغرافية: تفيد هذه العملية في الوقوف على جوانب المواقف الاجتماعية كما يظهر في صورته الواقعية كما أنها تجنب الملاحظة الخطأ كما تفيد في الكشف عن جوانب التفسير التي تحدث في جوانب كثيرة من حياة الأفراد والجماعات .
4-ب/المذكرات التفصيلية : يدون فيها الباحث موقف الملاحظة وإبعاده المختلفة.
4- ج/ الخرائط: تفيد توضح العلاقة بين البيئة الاجتماعية وبين التنظيمات الاجتماعية وتعطي معلومات للباحث التي تساعده على دقة الملاحظة .
4-د/ استمارة البحث او دليل الملاحظة :تساعد الباحث على تدوين البيانات المتصلة بموضوع الملاحظة دون غيرها .
4- و/ المقاييس السوسيوهيترية:هي احد الأساليب الهامة التي تعين الملاحظ على فهم أبعاد الموقف الاجتماعي الذي يريد ملاحظته.
كما تتطلب الملاحظة في البحث الاجتماعي على توافر مجموعة من الشروط للحصول على ملا حظة جيدة
1* يجب أن يقف الملاحظ على كل جوانب وابعاد الظاهرة وموضوع الملاحظة والعوامل المؤثرة فيها .
2*على الملاحظ تحديد وحدات ملاحظته ومعرفة انسب المواقف التي تظهر فيها هذه الأحداث .
3*ينبغي ان يكون الملاحظ متمتع بحواس سليمة تمكنه من الملاحظة بدقة .
4* يجب ان يتحرر الباحث من أفكار لديه سابقة عن موضوع الملاحظة أي لاتسيطر عليه افكار معينة مسبقة قد تخالف ما هو موجود في الواقع.
5*الاستعانة بالآلات الأجهزة الحديثة التي تمكنه من تحقيق ملاحظة دقيقة .
6*تحديد مشكلة البحث من حيث الحجم والأبعاد والأهمية والأهداف فه
7*تحديد إطار الملاحظة :أي تحديد وحدة الملاحظة (فرد،جماعة،مجتمع..)وتحديد زمن الملاحظة ومكانها والجوانب
التي يراد ملاحظتها .
8*اختيار الملاحظين وتدريسهم:هو المسؤول الأول عن نتائج الملاحظة سلبااو ايجابا ولهذا يجب اختيار الملاحظ ينباهمية كبيرة،وهناك بعض الخطوات ينبغي أن يسير عليها برنامج تدريب الملاحظين أهمها:
-تعرف الملاحظين بالمشكلة.
-تدريب الملاحظين على كيفية تسجيل الملاحظة.
-التدريب النظري والمبدئي على عملية الملاحظة وتسجيلها.
9*تسجيل الملاحظة وفيها طريقتان: الأولى التسجيل الزمني للحوادث وترتيبها من زمن وقوعها،والثانية تنظيم المادة الملحوظة في موضوعات أو فئات معينة.
10*تفريغ الملاحظة بعد التسجيل:يقوم الملاحظ بتفريغ الملاحظة وفقا للفئات أو البنود المتفق عليها من قبل،ولكي يسهل عليه بعد القيام بعملية التحليل الكمي.
11*تحليل بيانات الملاحظة وتفسيرها.
12*استخلاص نتائج الملاحظة والتوصيات هي من أهم خطوات الملاحظة،يقوم الباحث باستخلاص النتائج التي تؤكد صدق الفروض او عدم صدقها.
13*كتابة تقرير الملاحظة:هي الخطوة النهائية في اجراء الملاحظة.
/ قيام اكثر من باحث بملاحظة موقف ما ،مستخدمين نفس الأسلوب والأدوات.
/ يقوم الملاحظ بإعادة ملاحظته لموضوع الملاحظة بنفس الأسلوب الذي استخدمه في المرة الأولى وإيجاد معامل صدق.

المطلب الرابع :مزايا وعيوب الملاحظة:
**مزايا الملاحظة :
1* الملاحظة هي الاداة الوحيدة التي يمكن من خلالها دراسة سلوك افراد الجماعة بشكل تلقائي تحريف.
2*تفيد في التعرف على بعض جوانب الحياة الاجتماعية بشكل فعال كالعاداة الاجتماعية وغيرها من الموضوعات التي يفضل استخدام الملاحظة في دراستها دون غيرها من ادوات البحث الاجتماعي.
3*تفيد في الحصول على بعض المعلومات والبيانات حول موضوع الدراسة.
** عيوب الملاحظة:
1/لا يمكن استخدام الملاحظة في دراسة اشياء قد حدثت في الماضي بشكل مباشر.
2/صعوبة التببؤ بها سوف يحدث في المستقبل من انماط مختلفة من السلوك.
3/هناك بعض انماط السلوك الاجتماعي التي يصعب او يتعذر معها استخدام الملاحظة كما هو فيما يختص بالسلوك الجنسي داخل نطاق الاسرة .
4/يفرض البيانات التي يتحصل عليها الباحث من خلال استخلاصه لبعض الالات التي ينتج عنها عيوب في هذه الالات واهتمامها على دقة الملاحظة.
المبحث الثاني: تقنية التحليل:
المطلب الأول:
1/ تعريفه: التحليل من الاساليب المقبولة في البحث العلمي وحظي باهتمام في بداية القرن 20 م ،يعرفه‘بيركسون‘ بانه الأسلوب الذي يهدف الى الوصف الموضوعي المنظم الكمي للمحتوى الظاهر للاتصال، والاتصال عنده يعني كل الأفكار والمعاني التي يمكن التعبير عنها ونقلها الى الآخرين بطريقة مباشرة وغير مباشرة(رمزية) هدفه المباشر انتقال المعلومات من شخص الى اخر او الى جماعة ،ويعتمد تحليل المضمون على بيانات هي الألفاظ والرموز التي يتألف منها مادته الاساسية ، الخطابات والرسائل والكتب والمحادثات…
يختلف تحليل المضمون عن أساليب التحليل الأخرى التي تعتمد على التحليل الكمي الذي يفيد في فكرة محددة مثل العدالة والمساواة… ،اذا كان العمل موضوع التحليل يمثل قطاع عرضي من الحياة الاجتماعية مثل الرواية ، يصعب اعتماد تحليل الكمي لتعدد المتغيرات وتداخل الأفكار، ولجأ الباحثين الى استخدام التحليل الكيفي خاصة في الاعمال الأدبية من أمثلة الدراسات:
1*علم الاجتماع من خلال الأدب :
اعتمد فيها ‘لويسكوزور‘اسلوب التحليل الكيفي، واكد على اهمية استعانة علم الاجتماع بالأدب كأحد مصادر المعرفة الاساسية.
2*الماركسية والادب:اعتمد فيها برتسال التحليل الكيفي ووضح فيه دور الأدب كأحد وسائل الضبط في المجتمع.
3*دراسة ‘ميتشلزيران‘عن رواية كشكل أدبي وكمؤسسة اجتماعية ووضع ارتباط المظاهرة الأدبية بالظواهر الاجتماعية.
4*دراسة ‘صورج لوكاش عن تولد ونمو الواقعية ووضع في نموالاتجاه الرافعي الادب.
5*دراسة ‘البرشيف‘ عن العلاقة بين الادب والمجتمع فيها ان الادب انعكاس للحياة الاجتماعية.
6* دراسة ‘ديانا ليورنسون‘ و‘ الان سيونجود‘ عن علم اجتماع يعتبرتحليل المضمون سواء كان كيفيا اوكميا ،وسيلة اساسية لدراسة عملية الاتصال.
المطلب الثاني: خصائص الاساسية لتحليل المضمون:
1- يستخدم في وصف محتوى مادة الاتصال سواء كانت مكتوبة او مسموعة اومرئية.
2- يدرس محتوي مادة الاتصال.
3- مراعاة الباحث الموضوعية التامة في تحليل مادة الاتصال.
4- تحليل مادة في الاتصال بطريقة منظمة وفقا لمعايير منظمة.
5- التأكد من أن المعاني المشتقة من مادة الإتصال تتفق مع ما يتصل للكاتب والمتحدث.
المطلب الثالث:مجالات تحليل المضمون:
بدأت المجالات الأولى في مجالات الصحافة والأدب وفي العقد الثالث من القرن مع ظهور‘ سيترم سوروكين‘ استخدم تحليل المضمون في دراسته الشهيرة حول ديناميات الاجتماعية والثفافية .
كما لاننسى ‘هارولد لازويل‘ و‘برنارد بيرلسون‘ وجهودهما في توضيح معالمة ويمكن حصر مجالاته على النحو التالي:
1*مجالات الإتصال والإعلام: أهم المجالات تحدد ماهية الإتصال.
هناك دراسات أستخد مت الاسلوب تحليل المضمون في قياس اثار وسائل الاعلام من احداث الدراسات، دراسة البعد القومي في قناة الجزيرة، التحليل الكيفي للاجابةعلى عدة تساؤلات ،هل قناة الجزيرة من خلال هذه البرامج تشكل مدرسة جديدة في الطرح القومي العربي الوجدي؟
هل تتبع الاسلوب الديمقراطي في الطرح من خلال مقدمة البرنامج أي هناك مساواة في طرح القضية سلبا او ايجابا وغيرها من الاسئلة.
أما عينة الدراسة فحددها الباحث من 12/03/1999 الى 04/05/1999 .
مجال التغير الاجتماعي :هي المجالات الخصبة لتحليل المضمون .
مجال الدراسات النفسية:من الاعمال المبكرة في استخدام التحاليل المضمونة في الدراسات النفسية- دراسة لازويل-
مجال الدراسات العلاجية: استخدام التحليل المضمون في كثير من الدراساتالعلاجية ( الخدمة، الاجتماعية ،او الطب النفسي)
مجال الثقافة والمجتمع: استخدم التحليل في دراسة القيم الاجتماعية والثقافية.
سوسيولوجية الأدب : يعتبر من الميادين الخصبة في التحليل و هناك دراسات مثل دراسة لويس كون و حلل العديد من الأعمال الأدبية فحلل 90 رواية و قصة قصيرة و صنف المعرفة وفقا للميادين الاساسية لعلم الاجتماع مثل الثقافة جزر السعادة .
الضبط الاجتماعي مثل عالم العمال المهاجرين .
التنشئة الاجتماعية مثل الأب الفاتسيستس إلى أن يصل إلى الانومي في رواية الإنسان المعياري . تحليل المضمون يفيد في التعرف على المغزى الحقيقي للأعمال الأدبية و مدى ارتباطها بالواقع او تعبيرها عنه و من ثمة دعامة أساسية في ميدان سوسيولوجيا الأدب .
المطلب الرابع: أسسه
له ثلاثة فروع أساسية يستند إليها استخدام تحليل المضمون :
*هدف الكاتب او المتحدث و معرفة تأثير محتوى مادة الاتصال على أفكار الناس
* مدى التقاء السامع و الكاتب هل هي بالفعل الأفكار و المعاني .
* الوصف الكمي و الكيفي لمحتوى مادة الاتصال .

أسسه تسمد من فكرة أن الأدب انعكاس الحياة الاجتماعية .

المطلب الخامس: فئاته
يمكن تحديدها بفئتين أساسيتين تتفرغ منهما عناصر أساسية :
أ/ فئات ماذا كتب أو قيل : تتفرع إلى عناصر أهمها :
1- فئة موضوع الاتصال : مواد الاتصال بعد حرب أكتوبر 1973 تدور حول تحرير الأرض المحتلة و أهداف أخرى ، فهذه الفئة تبحث عن موضوعات تدور حولها مادة الاتصال .
2- فئة اتجاه محتوى الاتصال :حول أراء المتلقين لمادة الاتصال ومدى استجابتهم لهذه المادة .
3- فئة المعايير التي تطبق على محتوى الاتصال : أي المعايير التي يتم من خلالها تحليل مادة الاتصال .
4- فئة القيم : تحديد القيم من خلال أهداف و الحاجات مثل القيم الاجتماعية كحب الأسرة .
5- فئة إشباع الحاجات التي قد تكون فردية او جماعية و قد يكون الإشباع سلبيا أو ايجابيا .
6- فئة السمات : فرد ،جماعة ، مجتمع محلي ، نظام …
7- فئة الفاعل و التركيز عليه داخل الجماعة التي ينتمي إليها .
8- فئة المرجع او المصدر فالمرجع مثل شخص او جماعة …
9- فئة المكان الذي تصدر عنه مادة الاتصال :من اهم الفئات .
10- فئة المخاطبين مثل فئة الشباب و السيدات…
ب/ فئات كيف كتب او قيل : إشكالها عديدة أهمها :
1-فئة شكل او نموذج الاتصال : قد يكون موضوع الاتصال رواية مثلا .
2- فئة الإطار الذي يتخذه الموضوع : أي مدى التعبير عن الواقع الملموس من عدمه .
3- فئة شدة التعبير : أي الدرجة الانفعالية لموضوع الاتصال .
4- فئة الأداة : الوسيلة التي يستخدمها الباحث في مادته الاتصالية .
*وحداته : هناك العديد من وحدات التحليل المضمون اهمها :
1- وحدات التحليل المبدئي :
ا/ وحدات التسجيل و وحدة السياق : كأن تكون الوحدة كلمة او جملة …
ب/ وحدات التصنيف و وحدة العدد : يتم تصنيف مادة الاتصال الى وحدات متجانسة ليسهل تحليلها .
2- وحدات التحليل النهائي .
الخاتمة:
خلاصة القول أن عملية البحث السوسيولوجي عملية متكاملة ومترابطة ،تتلاحم مع مختلف خطواتها دون انفصال أو انعزال،فبقوم الباحث بالملاحظة والتحليل اللذان يتيحان الفرصة لتسجيل السلوك الملاحظ في المجتمع ومعرفة كل ما يدور من حوله،وتسجيل نتائجه مما يقلل احتمالات الخطأ .
والتحليل أسلوب متميز في البحث الاجتماعي ،يعتمد على التحليل الكمي والكيفي في وصف وتحليل وتفسير مادة الاتصال.





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …اخواني مرحبا بكم وسهلا
انا عضو جديد هل من مرحب

اخواني كيف استطيع تحميل موضوع الملاحظة والتحليل

التصنيفات
علم الاجتـماع

الفينومينولوجيا


الفينومينولوجيا والبحث فى الإنسان

د. مجدى عرفة
الموجـز
تنطلق هذه الدراسة من حقيقة – أو افتراض – أن علم النفس – كجزء من العلوم الإنسانية وأساس لها – يمر بأزمة تتعلق بمناهجه وأسسه المعرفية.
على هذا الأساس تحاول هذه الدراسة أن تستكشف الأسس المعرفية والمنهجية التى تتقدم بها فلسفة حديثة نسبيا هى الفلسفة الفينومينولوجية ومحاولات تطبيقها والاحتمالات التى تمثلها كحل لأزمة علم النفس والطب النفسى.
والدراسة فى قسمين:
1- القسم الأول – وهو موضوع هذا العدد – يقدم عرضا للمفاهيم الأساسية والخطوات المنهجية التى تتحدد من خلالها الملامح الرئيسية للفينومينولوجيا كنسق معرفى أو كعلم أولى يضع الأسس الثابتة التى يمكن أن يقوم عليها البحث والمعرفة فى كافة العلوم.
2- أما القسم الثانى – ويأتى فى العدد القادم – فيقدم عرضا لتطبيقات الأسس المعرفية والمنهيجة للفينومينولوجيا فى دراسة الإنسان فى علم النفس والطب النفسى وخاصة فى مجال السيكوباثولوجى حيث حقق المنهج الفينومينولوجى نجاحا بارزا.
مقدمة:
القضية بشكل مباشر وصريح هى أن هناك “أزمة فى علوم الإنسان”، وأنا أعنى هنا بالذات – التزاما بالتخصص – علوم النفس الإنسانية فى سوائها (وهو تخصص علم النفس) وفى مرضها (وهو تخصص الطب النفسى) وهما علمان لا ينفصلان رغم التمييز بينهما.
وأبرز مظاهر هذه الأزمة هو التناقض الكبير بين التطورات والنجاحات العملاقة للعلوم الطبيعية بكل نتائجها التكنولوجية التى تسابق الزمن بمعدلات تكاد تلاحق سرعة الخيال، وبين القصور الواضح فى العلوم التى تتعلق بالإنسان وعلى رأسها علم النفس.
وهذه الأزمة لا يمكن أن تخفى على أى ملاحظ يتابع بدرجة معقولة من الصدق وعدم التحيز تطور علم النفس منذ أن انفصل عن الفلسفة مع بدايات هذا القرن واستعار لنفسه كأساس غلاب مفاهيم العلوم الطبيعية ومنهجها التجريبى مأخوذا بدقة هذا المنهج ووضوحه ونجاحه الفائق فى مجاله إلى الدرجة التى ساد بها “الاعتقاد” فيه – لدى كل العلوم – بوصفه المنهج “العلمى” الوحيد والشامل، أقول لن يخفى على مثل هذا الملاحظ قصور منجزات هذا العلم إذا ما قورنت بمنجزات العلوم الطبيعية بتطبيقها لمنهجها فى مجالها.
إن الإحساس يتصاعد ويتضح لدى علماء النفس أنفسهم بضحالة وتناثر حصيلة علم النفس بعد التزامه الطويل بهذه المفاهيم والمناهج المستعارة فى صورة إحصاءات وقياسات ونتائج كمية لا حصر لها ولا رابط يجمعها بشكل فعال يقدر على تفسير الظواهر النفسية بكل تعقيداتها ومواجهة مشاكلها الملحة.
إن أى تصور موضوعى لا يمكن أن ينكر درجة النجاح التى حققها النموذج السابق ونتائجه العملية العديدة والواضحة، ولكن النظرة المتمعنتة تستطيع أن تدرك أن مثل هذه النتائج تقع فى المنطقة التى يقترب فيها المجال النفسى من المجال الفيزيائى، وأن حصيلتها لا تكفى لتعويض القصور الكبير وتبديد الحيرة والغموض وعلامات الاستفهام التى لازالت تسود مجال علم النفس. إن الأمر هنا يحتاج إلى وقفة مراجعة شاملة وجذرية تعود بنا إلى الأساس الأولى للعلم، فإن حجم القصور لا يعوضه إصلاحات فى المنهج أو النسق القائم وإنما يحتاج الأمر العودة إلى التساؤلات المبدئية عن كيف تتحقق لنا المعرفة بحقائق هذا المجال وما طبيعة هذه المعرفة وحدودها وإمكانياتها؟.. هل يمكن أن يكون هناك مدخل أو منهج جديد مختلف ومناسب أكثر؟ إنها ببساطة عودة إلى فلسفة العلم، إلى نظرية المعرفة وإلى الفلسفة.
وإذا كان المنهج العلمى التقليدى الذى ثبت – أو نقول – بقصوره [1] فى مجال علم النفس يستند إلى أسس معرفية تشملها مذاهب وإتجاهات فلسفية مثل الوضعية والطبيعية فإن هناك إتجاها فلسفيا يحاول تقديم أسس معرفية أخرى يعتبرها أكثر شمولاً وكفاءة بالنسبة لكل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية.. هذا الاتجاه هو الفلسفة الفينومينولوجية.
وموضوع هذه الدراسة هو استكشاف هذه الفلسفة ومحاولات تطبيقها كأساس معرفى أو منهج فى علم النفس والطب النفسى والاحتمالات التى تمثلها كحل لأزمة هذا العلم.
والدراسة تنقسم إلى قسمين أحاول فى الأول منهما أن أقدم عرضا لمفاهيم وأسس الفلسفة الفينومينولوجية وأعتبره ضرورة لا غنى عنها لفهم الموضوع كما أعتبر ما قد يبدو استفاضة فيه ضرورة أخرى لتحقيق أكبر قدر ممكن من الوضوح، وهو وضوح عانيت أنا شخصيا حتى استطعت الوصول إلى درجة منه تصورتها معقولة، وهنا أجدنى مدفوعا إلى استئذان أصحاب التخصص فى هذا الجهد الذى اقتحمت به مجالهم، وأعتذر مسبقا عن أى قصور فيه، فهو اجتهاد يحمل احتمالات الصوات والخطأ ولا بديل عن مثله من أجل عبور الحواجز المصطنعة بين العلم والفلسفة من أجل إثراء كليهما.
أما القسم الثانى – ويأتى فى العدد القادم – فسأحاول فيه عرض الدور الذى يتقدم به المنهج الفينومينولوجى لدراسة الإنسان فى علم النفس وتطبيقه العملى فى مجال السيكوباثولوجى بشكل خاص والذى يعد أبرز وأنجح إسهامات هذا المنهج.

أولا: الفسلفة الفينومينولوجية [2]
ظهرت هذه الحركة الفلسفية فى بدايات القرن الحالى، ومثل العديد من الحركات الفكرية البازغة فقد كان لها إرهاصات وملامح متناثرة فى أعماق عدد من المفكرين إلا أن تأسيسها والصياغة الشاملة لنسقها تمت على يد الفيلسوف الألمانى أدموند هوسرل Edmond Husserl (1859 – 1938) الذى يعتبر البعض أن أهميته فى القرن العشرين قد لا تقل عن أهمية فلاسفة مثل “هيجل” فى القرن التاسع عشر أو “كانت” فى القرن الثامن عشر أو “ديكارت” فى القرن السابع عشر.
وقد بدأت الفينومينولوجيا بموقف ناقد من فلسفات وعلوم العصر ومناهجها وأسسها وأنساقها المعرفية، وكان أبرز هذه الانتقادات هو ما وجهته إلى المذهب الطبيعى Naturalism [3] الذى ساد بسيادة المنهج التجريبى ونجاحه الفائق فى مجال العلوم الطبيعية، فهذا المذهب كما تراه الفينومينولوجيا يدعى لنفسه الصفة العلمية الوحيدة الممكنة، ويقصر صفة “حقيقى” فحسب على ما هو طبيعى أو فيزيائى Physicl، و”كعلم” لما هو واقعى Factual فإنه يرفض الاعتراف بحقيقة ما هو مثالى (تصورى أو ذهنى) Ideal أو يقوم بعملية تطبيع له بتحويله إلى حقيقة فيزيائية.
والخطأ الأساسى لهذا المذهب فى نظر الفينومينولوجيا هو إجراؤه لعملية التطبيع هذه على الذات الإنسانية بوعيها وبأفكارها، بينما ترى الفينومينولوجيا أن الظاهرة الإنسانية ليست مجرد قطاع فى الطبيعة الفيزيائية، والذات الإنسانية ليست مجرد “موضوع” تتكفل بتفسيره قوانين الأشياء وروابطها العلمية.
وتعتبر الفينومينولوجيا أن نوع الموضوعية التى يفترضها هذا المذهب مسبقا والتى لا يستطيع بدونها إدعاء العلمية هى اعتقاد مثالى وهى بذلك نقيض واضح للمبادئ الطبيعية نفسها.
من هذه الخلفية الناقدة سعت الفنيومينولوجيا نحو بداية جديدة متحررة من كل ما هو مسبق من نظريات أو افتراضات أو مفاهيم، إلى إنشاء علم أولى أو علم بدايات يضع الركائز الثابتة التى يمكن أن تقوم عليها المعرفة وأية صياغات لها فى شكل مفاهيم أو فروض أو نظريات فى كافة العلوم الفلسفية منها أو الطبيعية أو الإنسانية، إلى وضع فلسفة شاملة تكون بمثابة معيار لفحص منهجى لكافة العلوم.
ومن هنا فقد حاولت صياغة منهج معرفى أساسه العودة إلى الأشياء نفسها، إلى البحث المباشر فى الظواهر كما “يخبرها” الوعى بتحرر كامل من أى مفاهيم أو نظريات مفسرة مسبقة، وسعت إلى أن يكون لهذا المنهج شروط الوثوق والتحقق بالدرجة التى تجعل من نسقها علما صارما.
وبالنسبة لهوسرل فإن العلم الفلسفى الصارم الذى ينشده هو علم منظوم Systematic ولكنه ليس نسقا بالمعنى المذهبى System، ويصعب على هذا الأساس تصنيف الفينومينولوجيا كمذهب، فهى أقرب إلى المنهج ذى الطابع التساؤلى الجذرى، هى فلسفة غير مكتملة، طابعها البحث المستمر..، متفتحة ومرنة.
وهناك من يمكن أن يقول بأنه من طبيعة الفلسفة أو ماهيتها ألا تكون علمية، ولكن هوسرل يرفض قبول مثل هذا الاستنتاج، ويقول بأن احتمال العلم الصارم فى أى مجال يتطلب احتمالا بعلم فلسفى صارم، لأن مثل هذا العلم الفلسفى فحسب هو الذى يمكن أن يضمن الطابع العلمى الصادق لأى عام متخصص.
ننتقل الآن إلى عرض النسق الذى تقدمه الفلسفة الفينومينولوجيا والأسلوب الذى سأتبعه فى ذلك – سعيا إلى الوضوح الممكن – هو عرض المفاهيم الأساسية التى تتضمنها كرؤوس موضوعات تتحدد من خلالها، ومن مجموعها، الملامح الرئيسية للفينومينولوجيا، ومنها أنتقل إلى عرض لخطوات المنهج الفينوميولوجى، ثم يختتم هذا القسم بنظرة عامة تشتمل على بعض الملامح والملاحظات الإضافية.

(1) المفاهيم الأساسية
1- الظاهرة:
الظاهرة Phenomenon هى موضوع الفينومينولوجيا، ومنه يشتق اسمها، والتعبير عموما يعنى أى موضوع Object (شئ أو حقيقة أو واقعة) قابل للإدراك والملاحظة.
وفى الفلسفة يستخدم التعبير بشكل عام للإشارة إلى موضوعات الأحاسيس (السمع أو الرؤية … الخ) فى مقابل ما يفهم بالعقل، أو ما يستوعب فوريا بواسطة الحواس قبل القيام بأى حكم، إلا أن الكلمة لم تصبح أبدا اصطلاحا فنيا محددا بهذا المعنى حيث يفضل الكثير من الفلاسفة تعبيرات مثل “معطيات الحس” Sense Data. وفى أحيان أخرى يصطبغ التعبير فى الفلسفات المختلفة وفقا للنسق المذهبى لكل منها، ففى فلسفة “كانت” على سبيل المثال يستعمل لفظ الظاهرة للإشارة إلى “المظاهر العقلية الواعية” أو الأشياء كما تبدو لنا وذلك فى مقابل الأشياء فى ذاتها Noumena، وهى مالا يمكن ملاحظته أو معرفته أو الوعى به بشكل مباشر.
وبالنسبة لنسق الفينومينولوجيا فإن للظاهرة مفهوم محدد حيث تفهم بوصفها “الموضوع المعروف فى الوعى وبواسطته [4] “
ولفظ “المعروف” هنا له معنى واسع يشمل كل كيفيات الوعى مثل الحدس والإدراك والتخيل والتذكر والحكم.. الخ، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الحدس يأخذ وضعا متميزا فى الفلسفة الفينومينولوجية كما سنرى.
والموضوع المعروف يمكن أن يكون شيئا أو واقعة أو حالة من حالات الأمور، وهذا يعنى نطاقا واسعا غير محدود بالخبرات الحسية المجردة، فالفينومينولوجيا تسمح – وعلى قدم المساواة – بمعطيات غير حسية مثل العلاقات والقيم طالما أنها تقدم نفسها بشكل حسدسى، وتعتبرها موضوعات قابلة للفحص المعرفى والدراسة العلمية.
والمعرفة‏ ‏فى ‏الوعى ‏وبواسطته‏ ‏شرط‏ ‏أساسى ‏من‏ ‏شروط‏ ‏الظاهرة‏ ‏كما‏ ‏تفهمها‏ ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فهى ‏تعتبر‏ ‏نفسها‏ ‏غير‏ ‏معنية‏ ‏بأى ‏وجود‏ ‏أو‏ ‏موجودات‏ ‏افتراضية‏ ‏أو‏ ‏مخمنة‏ ‏أو‏ ‏مستدل‏ ‏عليها‏ ‏بوصفها‏ ‏خارج‏ ‏نطاق‏ ‏الوعى, ‏ولايجب‏ ‏أن‏ ‏يفهم‏ ‏هذا‏ ‏بوصفه‏ ‏نظرة‏ ‏ضيقة‏ ‏لأن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الحقائق‏ – ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏حقائق‏ ‏نهائية‏ ‏تعتبرها‏ ‏فلسفات‏ ‏أخرى ‏غير‏ ‏قابلة‏ ‏للمعرفة‏ – ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكشف‏ ‏فى ‏الوعى ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
‏2 – ‏الوعى .. ‏أفعال‏ ‏الوعى .. ‏التكوين‏ .. ‏والقصدية‏ ‏أو‏ ‏الاحالة‏.‏
تفهم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏الموضع‏ ‏الذى ‏يتم‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏تكوين‏ ‏وإنشاء‏ ‏المعانى ‏وهو‏ ‏بهذا‏ ‏المفهوم‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏أو‏ ‏موجود‏ ‏من‏ ‏الموجودات‏ .. ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏الحقيقة‏ ‏المبدئية‏ ‏أو‏ ‏المبدأ‏ ‏الذى ‏يكتسب‏ ‏بفضله‏ ‏أى ‏موجود‏ ‏
أو‏ ‏موضوع‏ ‏كل‏ ‏ماله‏ ‏من‏ ‏معنى ‏أو‏ ‏قيمة‏ ‏بالقياس‏ ‏إلينا‏, ‏هو‏ ‏مركز‏ ‏كل‏ ‏وجود‏ ‏فكل‏ ‏وجود‏ ‏حقيقى ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏الوعى‏.‏
لهذا‏ ‏الوعى ‏افعال acts (‏مثل‏ ‏الإدراك‏ ‏بأنواعه‏, ‏والتفكير‏, ‏والتخيل‏, ‏والذاكرة‏, ‏والحدس‏, ‏والرغبة‏… ‏الخ‏), ‏ومفهوم‏ “‏فعل‏” ‏الوعى ‏هنا‏ ‏لايقصد‏ ‏به‏ ‏مجرد‏ ‏الفعل‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏بمعناه‏ ‏الحركى action ‏وإنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏علاقه‏ ‏تكوينية‏ ‏مع‏ ‏الموضوعات‏ ‏والاحداث‏.‏
وهذا‏ ‏يأتى ‏بنا‏ ‏إلى ‏مفهوم‏ ‏التكوين‏ constitution ‏ويقصد‏ ‏به‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏العملية‏ ‏التى ‏تقوم‏ ‏بها‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏والتى ‏بواسطتها‏ ‏يصبح‏ ‏الموضوع‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏الواعية‏ ‏للفرد‏, ‏فالموضوع‏ ‏يتكون‏ ‏فى ‏الوعى ‏بواسطة‏ ‏أفعاله‏, ‏ولكن‏ ‏بما‏ ‏أن‏ ‏الموضوع‏ ‏موجود‏ ‏خارج‏ ‏الذات‏ ‏فإن‏ ‏فكرة‏ ‏التكوين‏ ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏تفسر‏ ‏بمعنى ‏مثالى [5] ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏لاتعنى ‏خلق‏ ‏أو‏ ‏اصطناع‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏الشيء‏ ‏بواسطة‏ ‏الذات‏, ‏وإنما‏ ‏تعنى ‏ببساطه‏: ‏التكوين‏ ‏الدعائمى ‏لمعنى ‏الموضوع‏, ‏فهناك‏ ‏معنى ‏فقط‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏الذى ‏يكونه‏ ‏بواسطة‏ ‏أفعاله‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏الإطار‏ ‏فإن‏ ‏الوعى ‏يكتسب‏ ‏معنى ‏العامل‏ ‏النشط‏.., ‏ولا‏ ‏يكون‏ ‏مجرد‏ ‏تلقى ‏سلبى.‏
ولعل‏ ‏أهم‏ ‏المفاهيم‏ ‏التى ‏تستند‏ ‏إليها‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ Intentionality ‏أو‏ ‏الطابع‏ ‏القصدى ‏للوعى ‏الذى ‏أخذه‏ ‏هوسرل‏ ‏عن‏ ‏أستاذه‏ “‏فرانز‏ ‏برنتانو‏” Franz Brentano ‏والذى ‏يعد‏ ‏مفتاح‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لفهم‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والوجود‏ ‏بموضوعاته‏ ‏أو‏ ‏موجوداته‏.‏
والمقصود‏ ‏بهذا‏ ‏المفهوم‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏شأن‏ ‏كل‏ ‏وعى ‏أن‏ ‏يتجه‏ ‏نحو‏ ‏موضوع‏ ‏أو‏ ‏يستهدف‏ ‏شيئا‏, ‏فالإدراك‏ ‏الحسى ‏هو‏ ‏إدراك‏ ‏لموضوع‏ ‏ما‏.. ‏والرغبة‏ ‏هى ‏رغبة‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏ما‏.. ‏والحكم‏ ‏هو‏ ‏حكم‏ ‏على ‏حالة‏ ‏قائمة‏ ‏من‏ ‏حالات‏ ‏الأشياء‏.‏
ومن المهم أن نوضح هناأن التعبير قد يكون مضللا بعض الشئ للقارئ غير الدارس للفلسفة حيث أن القصد Intention يبدو للوهلة الأولى متضمنا فى معناه نوعا من الفعل الإرادى ولكنه يستخدم فى الفينومينولوجيا استخداما اصطلاحيا بمعنى أقرب إلى “الإحالة” reference ، الإحالة إلى شئ أو الإحالة إلى موضوع . .، أى أن الوعى يوجد أو يصبح وعيا بالإحالة إلى شئ أو موضوع ، وأفعال الوعى لا تصبح واعية حتى تندمج بموضوعات، فليس هناك إدراك دون شئ يدرك وليست هناك إرادة دون شئ يراد . . إلخ.
من ناحية أخرى فإن وجود موضوع ما هو وجود فى الوعى أو العقل الواعى ولا يمكن تصور موضوع دون ذات تعيه وتعطيه معنى . . أى أن الموضوع موجود بالأحالة إلى الوعى، بذلك فإن القصدية هى “علاقة إحالة متبادلة بين الوعى أو أفعال الوعى وموضوعات الوجود الخارجى” . . وهذه العلاقة هى ما يعطى الوعى صفاته الأساسية.
عن هذه العلاقة القصدية كتب هوسرل يقول 6 “فى كل كل الخبرات النفسية الصافية (فى إدراك شئ فى الحكم بشأن شئ . . فى التمتع بشئ . . فى الأمل فى شئ) . .
فإن فهناك فى صلب المسألة وجود يتم التوجه نحوه towards –directed – being إن الخبرات قصدية، وهذا الوجود المتوجه نحوه ليس متصلا بالخبرة فى شكل مجرد إضافة فقط، أو بشكل مؤقت وعرضى، كما لو أن الخبرات يمكن أن تصبح ما هى عليه دون العلاقة القصدية”، أى أن علاقة وعى الذات بالموضوعات ليست مجرد علاقة إضافة تضاف فيها موضوعات مستقلة إلى وعى منفصل عنها وإنما هى علاقة عضوية لايكون للوعى فيها وجود ردون موضوعه. ولا يكون للموضع فيها وجود دون الوعى الذى يعطيه معناه، هى علاقة “معية” تربط الذات بالأشياء أو الموضوعات مباشرة دون أن يكون هناك موضع للفصل بين “الذات الواعية أو العارفة” و”الموضوع المعروف” من هنا فإن مفهوم العلاقة القصدية يصل بنا إلى نتيجة هامة حيث يحقق توحيدا بين ما هو “ذاتى” وما هو “موضوعى”. . ويستغنى من البداية عن هذه الثنائية التقليدية.
وإذا كان مفهوم الإحالة القصدية إلى الموضوعات يشير ضمنيا إلى أن هذه الموضوعات توجد مستقلة عن الوعى فإنه بمجرد أن يستوعب الفرد الظواهر سيكولوجيا فإنها تصبح باطنة immanent فى الوعى وذاتيه.
والفينومينولوجيا بهذا تختلف عن الفلسفات التجريبية التى تقتصر على تقرير وجود موضوعات مستقلة عن الذات أو الوعى دون أن تحاول اعتبار دور الوعى فى فهم هذه الموضوعات أو تكوين معانيها.
الفينومينولوجيا إذن فى سعيها إلى هدفها وهو تحقيق معرفة حقيقة وعلملية بالوجور قد توصلت إلى وضع هذه المفاهيم الأساسية التى تحدد العلاقة بين الوعى والوجود ومنها يمكننا أن ندرك أو الوجود متاح لنا فقط كمصاحب لأفعال واعية قصدية، والمفتاح إلى المعرفة بالوجود فى ماهيته هو تحليل أفعال الوعى القصدية هذه :
1- بتركيباتها الذاتية كأفعال للوعى Noesis وهو ما يتطلب وصف الاتجاهات الذاتية للخبرة.
2- وتركيباتها الموضوعية كأفعال قاصدة موضوعات Noema 7 أى العناصر الموضوعية المتوجه نحوها فى الخبرة (والمقابلة للتركيبات الذاتية) وهى ليست سوى ماهيات ثابتة ومرتبطة فيما بينها بمقتضى بعض العلاقات الضرورية الأولية.
بتوضيح‏ ‏أكثر‏ ‏لهذه‏ ‏المجموعة‏ ‏من‏ ‏المفاهيم‏ – ‏كما‏ ‏فهمتها‏ – ‏يمكن‏ ‏القول‏ ‏أن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏تحقيق‏ ‏المعرفة‏ ‏بالظواهر‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يعتمد‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏ ‏على ‏فحص‏ “‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏” ‏ليس‏ ‏بوصفها‏ “‏نوع‏” ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏وإنما‏ ‏لاعتقادها‏ ‏الأولى ‏بأنها‏ ‏المعرفة‏ ‏الوحيدة‏ ‏الممكنة‏, ‏فالظواهر‏ (‏بكل‏ ‏أنواعها‏) ‏ليست‏ ‏أشياء‏ ‏نعرفها‏ ‏كما‏ ‏هى ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏, ‏وإنما‏ ‏هى ‏أشياء‏ ‏تبطن‏ ‏فى ‏الذات‏ ‏بمجرد‏ ‏الوعى ‏بها‏ ‏حيث‏ ‏تصبح‏ ‏تمثيلات‏ representations ‏داخلية‏, ‏والتقاطها‏ ‏فى ‏الوعى ‏يصاحبه‏ ‏عملية‏ ‏إعطائها‏ ‏معنى‏, ‏فالوعى ‏بها‏ ‏ليس‏ ‏عملية‏ ‏استقبال‏ ‏سلبى ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يتوجه‏ ‏نحوها‏ (‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏إراديا‏) ‏ويضفى ‏عليها‏ (‏أو‏ ‏يكون‏) ‏معناها‏ ‏الذى ‏يرتبط‏ ‏بتمثيلاتها‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏عضوية‏ ‏واحدة‏, ‏وليس‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏إضافة‏ ‏شىء‏ ‏إلى ‏شىء‏.‏
والمعرفة‏ ‏بالظاهرة‏ ‏الملتقطة‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى ‏تتم‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏بفحص‏ ‏الخبرة‏ ‏التى ‏تمت‏ ‏فيها‏ ‏المعرفة‏ (‏أى ‏فعل‏ ‏الوعى ‏الذى ‏تمت‏ ‏به‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏) ‏وذلك‏, ‏يتضمن‏ ‏تحليلها‏ ‏إلى ‏تركيباتها‏ ‏الذاتية‏ ‏النابعة‏ ‏من‏ ‏الذات‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏والمتوجهة‏ ‏نحو‏ ‏الظاهرة‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏تضفيه‏ ‏عليها‏ ‏وتركيباتها‏ ‏الموضوعية‏ ‏التى ‏هى ‏تمثيلات‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏.‏
‏3 – ‏الماهية‏.. ‏والحدس‏.‏
هناك‏ ‏الوعى‏.. ‏وهناك‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏وهناك‏ ‏توجه‏ ‏قصدى ‏تكوينى ‏لهذه‏ ‏الافعال‏ ‏نحو‏ ‏الموجودات‏ ‏أو‏ ‏الموضوعات‏, ‏أو‏ ‏علاقة‏ ‏إحالة‏ ‏متبادلة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏وهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏بدونها‏ ‏لايكون‏ ‏أيهما‏ ‏فى ‏حيز‏ ‏الوجود‏, ‏والآن‏.. “‏ماهى‏” ‏هذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏التى ‏يقصدها‏ ‏الوعى ‏وتتكون‏ ‏فيه؟‏. ‏إن‏ ‏المعرفة‏ ‏بحقائق‏ ‏ومعان‏ ‏ثابتة‏ ‏لاتتغير‏ ‏بتغير‏ ‏الظروف‏ ‏أو‏ ‏الأفراد‏, ‏وهذا‏ ‏ممكن‏ ‏فحسب‏ ‏بمعرفة‏ “‏ماهية‏” ‏هذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏أو‏ ‏الظواهر‏.‏
‏”‏فالماهية‏” essence ‏فى ‏أشمل‏ ‏تعريف‏ ‏لها‏ ‏هى “‏تركيبات‏ ‏الظاهرات‏ ‏الجوهرية‏ ‏الثابتة‏ ‏وغير‏ ‏القابلة‏ ‏للتغير‏”, ‏هى ‏العنصر‏ ‏الثابت‏ ‏الذى ‏يظل‏ ‏باقيا‏ ‏فى ‏وجه‏ ‏الكثرة‏ ‏اللامتناهية‏ ‏من‏ ‏الخبرات‏ ‏الفردية‏, ‏هى “‏معني‏” ‏أو‏ “‏دلالة‏” ‏أو‏ “‏صورة‏ Eedos” ‏الشىء‏ ‏التى ‏تظل‏ ‏قائمة‏ ‏فى ‏الذهن‏ ‏بملامح‏ ‏ثابتة‏ ‏مهما‏ ‏تنوعت‏ ‏الخبرات‏ ‏المتعلقة‏ ‏بها‏.‏
ويمكننا‏ ‏تصور‏ ‏أصل‏ ‏مفهوم‏ “‏الماهية‏” ‏وأهميتة‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إذا‏ ‏أخذنا‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏الأصول‏ ‏الرياضية‏ ‏لأفكار‏ ‏هوسرل‏ 8, ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏هوسرل‏ ‏مأخوذا‏ ‏بالنموذج‏ ‏الرياضى ‏للعلم‏ ‏بدقته‏ ‏وصرامته‏ ‏واتفاق‏ ‏العقول‏ ‏فيه‏ ‏بشكل‏ ‏قاطع‏, ‏وكان‏ ‏واعيا‏ ‏بأن‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏عناصر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الدقة‏ ‏والاتفاق‏ ‏هو‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏كأسس‏ ‏أولية‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏واعيا‏ ‏بالوظيفة‏ ‏التكوينية‏ ‏التى ‏يقوم‏ ‏بها‏ ‏العقل‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بهذه‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏التى ‏يعمل‏ ‏بها‏.‏
هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏الرياضية‏ ‏ليست‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏عالم‏ ‏الأشياء‏ ‏ولا‏ ‏مجردة‏ ‏منه‏ ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهى ‏معطاة‏ ‏بشكل‏ ‏يقينى ‏معصوم‏ ‏من‏ ‏الخطأ‏, ‏هى ‏ليست‏ ‏معطاة‏ ‏عطاء‏ ‏أى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏المحسوس‏ ‏أو‏ ‏الحسى ‏وإنما‏ ‏هى ‏معطاة‏ ‏ذهنيا‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏هى ‏موضوعية‏ ‏بشكل‏ ‏مثالى (‏تصورى ‏أو‏ ‏ذهني‏) ‏ومرئية‏ ‏بواسطة‏ ‏العقل‏ ‏يوصفها‏ ‏بالضرورة‏ ‏كما‏ ‏هى ‏بالضبط‏.‏
وقواعد‏ ‏وجود‏ ‏هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏وعلاقاتها‏ ‏هى ‏قواعد‏ ‏قبلية‏ ‏أولية‏ apriori( 9) ‏ولا‏ ‏تعتمد‏ ‏بأى ‏حال‏ ‏على ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التجربة‏ ‏بالمعنى ‏الضيق‏… ‏لأنها‏ ‏قواعد‏ ‏كامنة‏ ‏فى ‏الذاتية‏ ‏التى ‏منها‏ ‏تنبع‏ ‏كل‏ ‏القصدية‏ ‏والتكوين‏.‏
‏ ‏وكأنما‏ ‏أراد‏ ‏هوسرل‏ ‏بسعيه‏ ‏إلى ‏اكتشاف‏ ‏الماهيات‏ ‏كأساس‏ ‏معرفى ‏من‏ ‏أسس‏ ‏علمه‏ ‏الفلسفى ‏الفينومينولوجى (‏وبالتالى ‏للعلوم‏ ‏النوعية‏ ‏المختلفة‏ ‏التى ‏تنبنى ‏على ‏الأسس‏ ‏المعرفية‏ ‏للفينومينولوجى ‏كعلم‏ ‏أولي‏) ‏أن‏ ‏يقيم‏ ‏العلم‏ ‏على ‏أسس‏ ‏يقينية‏ ‏وصادقة‏ ‏بدرجة‏ ‏مماثلة‏ ‏أو‏ ‏مشابهة‏ ‏للنموذج‏ ‏الرياضى ( 10).‏
إن‏ ‏ماهية‏ ‏الأشياء‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏هوسرل‏ ‏هى ‏حقيقة‏ ‏المعرفة‏ ‏عنها‏. ‏وفى ‏البحث‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ (‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏شيئا‏.. ‏أو‏ ‏حالة‏ ‏من‏ ‏حالات‏ ‏الأمور‏ ‏أو‏ ‏عملية‏ ‏أو‏ ‏واقع‏ ‏إجتماعى ‏أو‏ ‏ثقافة‏… ‏الخ‏) ‏فإن‏ ‏الباحث‏ ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏يقنع‏ ‏بمعرفة‏ ‏صادقة‏ ‏عمليا‏ ‏فحسب‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏تمثلة‏ ‏العلوم‏ ‏الوضعية‏ ‏فى ‏تركيزها‏ ‏على ‏ارساء‏ ‏قوانين‏ ‏تمكن‏ ‏العالم‏ ‏من‏ ‏التنبؤ‏ ‏بما‏ ‏ستفعله‏ ‏الأشياء‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏معينة‏ ‏دون‏ ‏اهتمام‏ “‏بما‏ ‏هي‏” ‏الأشياء‏, ‏وإنما‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يخترق‏ ‏إلى ‏الصدق‏ ‏الأعمق‏ ‏الراسخ‏ ‏فى ‏ماهية‏ ‏الموضوع‏ ‏تحت‏ ‏البحث‏, ‏وهذه‏ ‏الماهية‏ ‏هى ‏التفسير‏ ‏النهائى ‏للطريقة‏ ‏التى ‏تسلك‏ ‏بها‏ ‏الأشياء‏ ‏لأنها‏ ‏هى ‏ماهى ‏عليه‏.‏
فالفينومينولوجيا‏ ‏إذن‏ ‏لاترضى ‏بأقل‏ ‏من‏ ‏معرفة‏ ‏بالماهيات‏ ‏بوصفها‏ ‏الأساس‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينبنى ‏عليه‏ ‏أى ‏علم‏ ‏فى ‏مجاله‏.. ‏وهى ‏لاتعتبر‏ ‏هذا‏ ‏ممكنا‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏تعتبره‏ ‏الأساس‏ ‏الوحيد‏ ‏لمعرفة‏ ‏يقينية‏ ‏حقيقية( 11).‏
والآن‏.. ‏كيف‏ ‏يمكن‏ ‏التوصل‏ ‏الى ‏معرفة‏ ‏بالماهيات؟
السبيل‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏كما‏ ‏تحدده‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏هو‏ ‏الحدس‏ Intution ‏فمثلما‏ ‏تلتقط‏ ‏الحقائق‏ ‏الطبيعية‏ ‏فى ‏الادراك‏.. ‏تلتقط‏ ‏الماهيات‏ ‏فى ‏الحدس‏.. ‏وهكذا‏ ‏يمكن‏ ‏التقاطها‏ ‏على ‏الإطلاق‏.‏
فالحدس‏ ‏هنا‏ ‏كما‏ ‏تراه‏ ‏الفينومينولوجيا‏.. ‏هو‏ ‏حضور‏ ‏أو‏ ‏تجسد‏ ‏الماهية‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏ضرورة‏ ‏وصدق‏ ‏شامل‏, ‏إنه‏ “‏حدس‏ ‏ذهني‏”, ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏حدس‏ ‏متميز‏:‏
‏- ‏فهو‏ ‏شيء‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ ‏البسيطة‏ ‏التى ‏تحتويها‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏الأخرى ‏مثل‏ ‏الادراك‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏.‏
‏- ‏وهو‏ ‏يعنى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏الاتصال‏ ‏التجريبى ‏بموضوع‏, ‏ولكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ليس‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الاختراق‏ ‏الصوفى ‏إلى ‏عالم‏ ‏من‏ ‏الماهيات‏ ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏تناول‏ ‏التفكير‏ ‏العقلانى.‏
‏- ‏وعلى ‏عكس‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏قالوا‏ ‏بالحدس‏ ‏قبل‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏وأعطوه‏ ‏طابعا‏ ‏مباشرا‏ ‏آنيا‏ ( 12). ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لاتعتبر‏ ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ ‏نقطة‏ ‏بدء‏ ‏تبدأ‏ ‏منها‏ ‏عملية‏ ‏التعقيل‏, ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏نقطة‏ ‏وصول‏ ‏ينتهى ‏إليها‏ ‏الباحث‏ ‏بعد‏ ‏بحث‏ ‏شاق‏, ‏إن‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏لايبدأ‏ ‏بالحدس‏.. ‏وإنما‏ ‏يقود‏ ‏المنهج‏ ‏كله‏ ‏إليه‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏الحدس‏ – ‏الماهيات‏ ‏أو‏ ‏التركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏للظواهر‏ – ‏هو‏ ‏ببساطة‏ ‏عملية‏ ‏يتم‏ ‏فيها‏ ‏استبعاد‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏ ‏للموضوع‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏الصفات‏ ‏الثابتة‏ ‏التى ‏يؤدى ‏محوها‏ ‏إلى ‏اختفاء‏ ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏, ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏تجربة‏ ‏واحدة‏.. ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏تجارب‏ ‏متعددة‏ ‏يكون‏ ‏الفرد‏ ‏فيها‏ ‏تنويعات‏ ‏عديدة‏ ‏من‏ ‏المعطى.. ‏وبينما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏التعدد‏ ‏يركز‏ ‏الانتباه‏ ‏على ‏مايبقى ‏ثابتا‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏التغييرات‏.. ‏والذى ‏يؤدى ‏محوه‏ ‏إلى ‏القضاء‏ ‏على ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏, ‏أى ‏أن‏ ‏الماهية‏ ‏هى ‏الشيء‏ ‏المتماثل‏ ‏الذى ‏يحتفظ‏ ‏بنفسه‏ ‏بشكل‏ ‏دائم‏ ‏خلال‏ ‏عملية‏ ‏التغيير‏ ‏والتنويع‏, ‏لذا‏ ‏أسماها‏ ‏هوسرل‏ ‏بالثابت‏ invariant , ‏ويمكن‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏بصيرة‏ ‏بها‏ ‏على ‏أساس‏ ‏من‏ ‏الدراسة‏ ‏الدقيقة‏ ‏لأمثلة‏ ‏عينية‏ ‏تمدنا‏ ‏بها‏ ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏, ‏وبتنويعات‏ ‏منظمة‏ ‏لهذه‏ ‏الأمثلة‏ ‏فى ‏الخيال‏. ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏فإن‏ ‏هوسرل‏ ‏يقرر‏ ‏أن‏ ‏الماهيات‏ ‏هى “‏حقائق‏” ‏عينية‏” ‏تظل‏ ‏قائمة‏ ‏وتعبر‏ ‏عن‏ ‏وقائع‏ ‏مستقلة‏ ‏أو‏ ‏مضامين‏ ‏حقيقية‏ ‏قائمة‏ ‏بذاتها‏, ‏بينما‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏ ‏التى ‏تلحق‏ ‏بالموضوعات‏ ‏إنما‏ ‏هى “‏تجريدات‏” ‏أو‏ ‏مضامين‏ ‏ناقصة‏, ‏وليست‏ ‏ثابتة‏ ‏أو‏ ‏أساسية‏ ‏أو‏ ‏جوهرية‏, ‏فالماهية‏ ‏ليست‏ ‏حقيقة‏ ‏مجردة‏ ‏وإنما‏ ‏حقيقة‏ ‏عينية‏ ( 13) .concrete ‏مفهوم‏ “‏الماهية‏” ‏إذن‏ ‏هو‏ ‏مفهوم‏ ‏ذو‏ ‏أهمية‏ ‏مركزية‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏ويصل‏ ‏فى ‏أهميته‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏أن‏ ‏البعض‏ ‏يعرف‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏كلها‏ ‏بوصفها‏ “‏منهج‏ ‏حدسى ‏للحصول‏ ‏على ‏بصيرة‏ ‏فى ‏التركيبات‏ ‏الماهوية‏” ( 14) ‏أو‏ ‏بوصفها‏ “‏علم‏ ‏الماهيات‏”.‏
وهى ‏بهذا‏ ‏تصبح‏ ‏علما‏ ‏أوليا‏ ‏لكل‏ ‏العلوم‏ ‏أو‏ ” ‏علما‏ ‏للعلم‏” ‏لأنها‏ ‏تبحث‏ ‏فيما‏ ‏تعتبره‏ ‏العلوم‏ ‏الأخرى ‏ببساطة‏ ‏مسلمات‏ (‏أو‏ ‏تتجاهله‏) ‏ألا‏ ‏وهو‏ ‏ماهية‏ ‏موضوعاتها‏.‏
ومفهوم‏ ‏الماهية‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏مرتبط‏ ‏بمفاهيمها‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏وأفعاله‏ ‏وقصديته‏, ‏فالتقاط‏ ‏الماهية‏ ‏ليس‏ ‏شيئا‏ ‏يحدث‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏, ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏يحدث‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏القصدية‏ ‏نفسها‏.‏
فأفعال‏ ‏الوعى ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏القول‏ ‏تتكون‏ ‏من‏ ‏شقين‏: ‏تركيبات‏ ‏ذاتية‏ ‏كأفعال‏ ‏للوعى ‏أو‏ ‏الذات‏ Noesis ‏وتركيبات‏ ‏موضوعية‏ ‏كأفعال‏ ‏قاصدة‏ ‏موضوعات‏ Noema , ‏وهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏ليست‏ ‏سوى ‏ماهيات‏ ‏ثابتة‏ ‏والمعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بها‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تكون‏ ‏معرفة‏ ‏ماهوية‏, ‏وهذه‏ ‏المعرفه‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بتحليل‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏القصدية‏ ‏حيث‏ ‏تكمن‏ ‏ماهيات‏ ‏الموضوعات‏ ‏التى ‏تم‏ ‏التقاطها‏ ‏وأصبحت‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏الوعى.‏
وهذا‏ ‏التصور‏ ‏بالضرورة‏ ‏يعطى ‏الماهيات‏ ‏طابعا‏ ‏مثاليا‏ (‏تصوريا‏ ‏أو‏ ‏ذهنيا‏) ‏لابديل‏ ‏عنه‏.‏
‏4‏ـ البينة‏ Evidence ‏
تعتبر‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ ‏مفهوما‏ ‏أساسيا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فالمعرفة‏ ‏فى ‏نظرها‏ ‏لاتصبح‏ ‏حقيقية‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يتحقق‏ ‏لها‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏إلا‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يصبح‏ ‏به‏ ‏موضوعها‏ ‏معطى ‏بشكل‏ ‏قاطع‏ ‏أو‏ ‏بينا‏ ‏بما‏ ‏لايدع‏ ‏مجالا‏ ‏للشك‏, ‏فنظريتها‏ ‏فى ‏البينة‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏إلى ‏التيقن‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏والتحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعات‏ ‏والتحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى.‏
فى ‏هذا‏ ‏المفهوم‏ – ‏مفهوم‏ ‏البينة‏ – ‏تجتمع‏ ‏مفاهيم‏ ‏القصدية‏ ‏مع‏ ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ ‏لصياغة‏ ‏تصور‏ ‏كامل‏ ‏للعملية‏ ‏المعرفية‏ ‏الصادقة‏ ‏أو‏ ‏اليقينية‏.‏
البينة‏ ‏فى ‏الفينومنولوجيا‏ – ‏ببساطة‏ – ‏هى ‏التحقق‏ (‏أو‏ ‏الإكفاء‏) ‏الحدسى intutive fulfillment ‏ لقصد‏ ‏المعنى ‏الذى ‏هو‏ ‏بنفسه‏ ‏صورى ‏خاوى ‏أو‏ ‏فارغ‏.‏
فالوعى ‏بقصديته‏ ‏يتوجه‏ ‏أو‏ ‏يحال‏ ‏إلى ‏الموضوع‏ ‏ويضفى ‏عليه‏ (‏أو‏ ‏يتكون‏ ‏للموضوع‏ ‏فيه‏) ‏معنى ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏المعنى ‏يظل‏ ‏يظل‏ ‏صوريا‏ ‏خاويا‏ ‏مالم‏ ‏بمتلىء‏ ‏بحدس‏ ‏حى (‏خبرة‏ ‏حية‏) ‏بحقيقة‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏ماهيته‏.‏
ولنأخذ‏ ‏مثلا‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الاتصال‏ ‏اللغوى, ‏فاللغة‏ ‏تقوم‏ ‏بوظيفتها‏ ‏فى ‏الاتصال‏ ‏لأن‏ ‏المعنى ‏المعطى ‏لها‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الفرد‏ ‏الذى ‏يستعملها‏ ‏هو‏ ‏المعنى ‏الذى ‏يلتقطه‏ ‏الفرد‏ ‏الذى ‏يفهمها‏, ‏وإعطاء‏ ‏معنى ‏لتعبير‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يستخدم‏ ‏التعبير‏, ‏والتقاط‏ ‏معنى ‏التعبير‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يستخدم‏ ‏التعبير‏, ‏والتقاط‏ ‏معنى ‏التعبير‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏قصدى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يفهمه‏… ‏أى ‏أن‏ “‏قصد‏” ‏المعنى ‏هو‏ ‏الذى ‏يعطى ‏معنى ‏للتعبير‏, ‏ولكن‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الأمر‏ ‏اكثر‏ ‏من‏ ‏قصد‏ ‏للمعنى ‏فإن‏ ‏العلاقة‏ ‏الواعية‏ ‏بالنسبة‏ ‏لكلا‏ ‏الطرفين‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الاتصال‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏وهما‏, ‏والذى ‏ينقذها‏ ‏من‏ ‏الوهم‏ ‏هو‏ ‏التحقق‏ ‏أو‏ ‏الإكفاء‏ ‏الذى ‏يقوم‏ ‏به‏ ‏الحدس‏ ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏حالة‏ ‏الأمور‏ ‏المعبر‏ ‏عنها‏ “‏مجرد‏ ‏مقصودة‏” ‏وإنما‏ ‏تصبح‏ “‏خبرة‏ ‏حية‏”.. ‏متجسدة‏ ‏أو‏ ‏موجودة‏ ‏فى ‏نفسها‏ ‏بالنسبة‏ ‏للوعى ‏الذى ‏يقصدها‏.‏
وعندما‏ ‏يكون‏ ‏الموضوع‏ ‏المقصود‏ ‏والموضوع‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏معطى ‏يكون‏ ‏بينا‏ ‏فقد‏ ‏تحققت‏ ‏قصديته‏ ‏أو‏ ‏أكفيت‏.‏
فالبينة‏ ‏إذن‏ ‏هى “‏الخبرة‏ ‏الحية‏” ‏للاتفاق‏ ‏بين‏ ‏المضمون‏ ‏المعطى ‏بواسطة‏ ‏النفس‏ ‏والمعنى ‏الحقيقى ‏للتعبير‏.. ‏بين‏ ‏القاصد‏ ‏والشيء‏ ‏الموجود‏ ‏بنفسه‏ ‏الذى ‏يقصده‏, “‏وفكرة‏” ‏هذا‏ ‏الاتفاق‏ ‏هى ‏الحقيقة‏.‏
إن‏ ‏الحقيقة‏ ‏الخاصة‏ ‏بأى ‏شىء‏ ‏هى ‏فى ‏أصلها‏ ‏خبرة‏ ‏حية‏ ‏بحقيقة‏ ‏هذا‏ ‏الشىء‏, ‏هى ‏الوضوح‏ ‏البين‏ ‏بذاته‏ – ‏بشكل‏ ‏لايقبل‏ ‏التعارض‏ ‏أو‏ ‏التفرق‏ – ‏الذى ‏تتميز‏ ‏به‏ ‏لحظة‏ ‏الوعى ‏التى ‏يتقدم‏ ‏فيها‏ ‏الشىء‏ ‏نفسه‏ ‏متجسدا‏ ‏إلى ‏الوعى ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏الإدراك‏ ‏الحدسى ‏مفعما‏ ‏أو‏ ‏مليئا‏ ‏بالخبرة‏.‏
‏1 – ‏على ‏العكس‏ ‏من‏ ‏تصور‏ ‏فلاسفة‏ ‏آخرين‏ (‏مثل‏ ‏ديكارت‏) ‏والقائل‏ ‏بأن‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ ‏تدرك‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏آنية‏ ‏سريعة‏.. ‏فإن‏ ‏الفينومنولوجيا‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏البيئة‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏تكوينها‏ ‏إلا‏ ‏بطريقة‏ ‏تدريجية‏, ‏فهى ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏إلا‏ ‏إلى ‏نظره‏ ‏جزئية‏ ‏تلم‏ ‏فيها‏ ‏بجانب‏ ‏واحد‏ ‏من‏ ‏الموضوع‏, ‏وتكون‏ ‏عملية‏ ‏الاكتشاف‏ ‏الكلى ‏تدريجية‏.‏
وإيضاح‏ ‏الماهية‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏يصبح‏ ‏ثمرة‏ ‏لعملية‏ ‏بطيئة‏.. ‏يتم‏ ‏فيها‏ ‏تصحيح‏ ‏ونقد‏ ‏البينات‏ ‏أو‏ ‏البداهات‏ ‏الأولية‏ ‏والتحقق‏ ‏منها‏, ‏ومثل‏ ‏هذا‏ ‏التحقق‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏عندئذ‏ ‏بالانتقال‏ ‏إلى ‏بينات‏ ‏أو‏ ‏بداهات‏ ‏أكمل‏ ‏وأوفى.‏
‏2 – ‏ليس‏ ‏للبينة‏ ‏نمط‏ ‏واحد‏, ‏فباختلاف‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى ‏فإن‏ ‏عملية‏ ‏القصدية‏ ‏تحتمل‏ ‏أشكالا‏ ‏وأنماطا‏ ‏مختلفة‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يقابلها‏ ‏أشكال‏ ‏وأنماط‏ ‏مختلفة‏ ‏من‏ ‏البينة‏ ‏أو‏ ‏البداهة‏ (‏بداهة‏ ‏المعرفة‏ ‏الحسية‏ ‏غير‏ ‏بداهة‏ ‏الموجودات‏ ‏وعلاقاتها‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الرياضية‏ ‏غير‏ ‏البداهة‏ ‏التى ‏ينطوى ‏عليها‏ ‏قانون‏ ‏فيزيائى…. ‏الخ‏).‏
البينة‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إذن‏ ‏هى ‏معيار‏ ‏للحقيقة‏ ‏أو‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏للمعرفة‏ ‏بالموجودات‏ ‏أو‏ ‏الموضوعات‏, ‏هى ‏معيار‏ “‏لما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏”.‏
‏”‏وما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏هو‏ ‏الهدف‏ ‏الأساسى ‏لسعى ‏الفينومينولوجيا‏, ‏فهذه‏ ‏الفلسفة‏ ‏فى ‏سعيها‏ ‏نحو‏ ‏تحقيق‏ ‏معرفة‏ ‏علمية‏ ‏لا‏ ‏تستهدف‏ “‏الحقيقة‏” ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏تستهدف‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏وهى ‏ليست‏ ‏علم‏ “‏ماهية‏ ‏الوجود‏”, ‏فهى ‏تسعى ‏الى ‏ضمان‏ ‏المعرفة‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏موجود‏.., ‏وبأنه‏ ‏حقيقى. ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏فإن‏ ‏البينة‏ ‏تصبح‏ ‏مفهوما‏ ‏محوريا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بل‏ ‏هى ‏غاية‏ ‏سعيها‏.. ‏لأن‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏حقيقي‏” ‏هو‏ “‏ما‏ ‏هو‏ ‏بين‏”.‏
‏5 – ‏المجالات‏ ‏العلموجودية‏ Regional ontologies ‏
العالم‏ ‏كما‏ ‏يراه‏ ‏هوسرل‏ ‏يخضع‏ ‏لتركيب‏ ‏علموجودى ‏مرتب‏ ontologically ordered ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الموضوعات‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏المختلفة‏ ‏تختلف‏ ‏فى ‏طبيعتها‏ ‏وهذا‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏لكل‏ ‏علم‏ ‏معاييره‏ ‏الخاصة‏ ‏فى ‏تعريفه‏ ‏للحقيقة‏ ‏التى ‏تخص‏ ‏موضوعه‏ ‏وتحدد‏ ‏نطاقه‏ ‏أو‏ ‏مجاله‏, ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏ما‏ ‏يسميه‏ ‏بالمجالات‏ ‏العلموجودية‏ ‏أو‏ ‏نطاقات‏ ‏الوجود‏ realms of being ‏على ‏سبيل‏ ‏المثال‏ ‏تلك‏ ‏التى ‏تختص‏ ‏بمجال‏ ‏الطبيعة‏, ‏المجال‏ ‏النفسى, ‏مجال‏ ‏الروح‏… ‏الخ‏ , ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ميز‏ ‏بين‏ ‏مجالات‏ ‏علموجودية‏ ‏صورية‏ – formal ‏مثل‏ ‏مجال‏ ‏المنطق‏ – ‏وأخرى ‏مادية‏ material ‏مثل‏ ‏مجال‏ ‏الطبيعة‏.‏
ولكل‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المجالات‏ “‏ماهيته‏ ‏المجالية‏” regional essence ‏وهى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏القبلية‏ apriori ‏أو‏ ‏الافتراضات‏ ‏القبلية‏ ‏العاملة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجال‏ (‏أو‏ ‏علم‏) ‏على ‏حدة‏ ‏وتتناسب‏ ‏مع‏ ‏مضمون‏ ‏المجال‏ ‏العلموجودى ‏لهذا‏ ‏العلم‏, ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏نقل‏ ‏هذه‏ ‏الافتراضات‏ ‏بين‏ ‏مجال‏ ‏وآخر‏ ‏أو‏ ‏بين‏ ‏علم‏ ‏وآخر‏ ‏بشكل‏ ‏عشوائى, ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏مبررا‏ ‏فحسب‏ ‏وفقا‏ ‏لمناسبة‏ ‏الموضوع‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏أو‏ ‏البيولوجيا‏ (‏أى ‏الموضوعات‏ ‏على ‏المستوى ‏الفيزيائى ‏لظواهرها‏ ‏وليس‏ ‏موضوعات‏ ‏العلم‏ ‏ككل‏).‏
‏6 – ‏الذاتية‏ .. ‏الموضوعية‏ .. ‏والمثل‏ ‏الاعلى ‏للعلم‏ :‏
منذ‏ ‏البداية‏.. ‏ومن‏ ‏خلال‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ ‏وضعت‏ ‏الفينولوجيا‏ ‏حدا‏ ‏للمفهوم‏ ‏الثنائى ‏عن‏ ‏ذاتية‏ ‏المعرفة‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏موضوعيتها‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏هناك‏ ‏مجال‏ ‏للفصل‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ذاتى ‏وما‏ ‏هو‏ ‏موضوعى, ‏فوعى ‏الذات‏, ‏أى ‏أن‏ ‏وجود‏ ‏الموضوع‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏الوعى ‏أو‏ ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏موضوع‏ ‏دون‏ ‏ذات‏ ‏تعيه‏ ‏وتكون‏ ‏معناه‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏الوعى.. ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏تصور‏ ‏موضوع‏ ‏دون‏ ‏ذات‏ ‏تعيه‏ ‏وتكون‏ ‏معناه‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏وعيها‏, ‏فوعى ‏الذات‏ ‏والموضوع‏ ‏يندمجان‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏عضوية‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏وجود‏ ‏أحدهما‏ ‏فيها‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏.‏
وإذا‏ ‏كان‏ ‏مفهوم‏ ‏القصدية‏ ‏يعنى ‏ضمنيا‏ ‏أن‏ ‏الموضوعات‏ ‏توجد‏ ‏مستقلة‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏فإنه‏ ‏بوقوع‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏أو‏ ‏بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏الفرد‏ ‏الظواهر‏ ‏سيكولوجيا‏ ‏فإنها‏ ‏تصبح‏ ‏باطنة‏ immanent ‏فى ‏الوعى ‏وذاتية‏.‏
والمعرفة‏ ‏الموضوعية‏ (‏أى ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏بحقيقة‏ ‏الموضوع‏ ‏أو‏ ‏الظاهرة‏) ‏بذلك‏ ‏لاتصبح‏ ‏شيئا‏ ‏يحدث‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏تتم‏ ‏يفحص‏ ‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏حيث‏ ‏تبطن‏ ‏الموضوعات‏ (‏بوصفها‏ ‏جانب‏ ‏التركيبات‏ ‏الموضوعية‏ Noema ‏من‏ ‏الفعل‏), ‏أى ‏أن‏ ‏الموضوعية‏ ‏تصبح‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏ذاتية‏ ‏الوعى, ‏ولاتصبح‏ ‏القضية‏ ‏هنا‏ ‏هل‏ ‏هى ‏معرفة‏ ‏ذاتية‏ ‏أو‏ ‏موضوعية‏ ‏وإنما‏ ‏إلى ‏أى ‏مدى ‏هى ‏معرفة‏ ‏ذاتية‏ ‏نقية‏ ( 15), ‏معرفة‏ ‏يكتمل‏ ‏فيها‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏وتلتقط‏ ‏فيها‏ ‏الخبرة‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏بحيث‏ ‏تتبدى ‏الأشياء‏ “‏كما‏ ‏هي‏” ‏دون‏ ‏شوائب‏ ‏عرضية‏, ‏معرفة‏ ‏تتحقق‏ ‏فيها‏ ‏البينة‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏للموضوعية‏ ‏بوصفها‏ ‏باطنة‏ ‏فى ‏الذاتية‏, ‏فى ‏الذات‏ ‏المفكرة‏ ‏أو‏ ‏المتعقلة‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الموضوعية‏ ‏لابد‏ ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏لها‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مثالية‏ ideal (‏تصورية‏ ‏أو‏ ‏ذهنية‏) ‏متجردة‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏الواقعى ‏للموضوعات‏ ‏فى ‏العالم‏.‏
وقد‏ ‏قاد‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏للموضوعية‏ ‏هوسرل‏ ‏إلى ‏صياغة‏ ‏تصور‏ ‏متكامل‏ ‏للمثل‏ ‏الأعلى ‏العلمى ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏المثالي‏; ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏تطمح‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تكونه‏.‏
وفقا‏ ‏لهذا‏ ‏المثل‏ ‏الأعلى ‏العلمى ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏المثالى ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏لأى ‏معرفة‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏فلسفية‏ ‏بشكل‏ ‏علمى ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏مبررة‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ (‏أى ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏القاطع‏ ‏من‏ ‏الصدق‏) ‏ممكن‏ ‏فحسب‏ ‏فى ‏باطن‏ ‏الوعى, ‏فهناك‏ ‏فقط‏ ‏يوجد‏ ‏اتصال‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والموضوعية‏. ‏هناك‏ ‏ثلاثة‏ ‏عوامل‏ ‏رئيسية‏ – ‏يمكن‏ ‏تتبعها‏ ‏فى ‏أفكار‏ ‏هوسرل‏ – ‏وتساعد‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏طريق‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏, ‏وبالتالى ‏المثل‏ ‏الأعلى ‏للعلم‏ (16):‏
‏1 – ‏معرفه‏ ‏يتحدد‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى ‏بواسطة‏ ‏فحص‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏القصدى ‏نفسه‏: ‏إن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بتقرير‏ ‏حقيقة‏ ‏أو‏ ‏زيف‏: ‏موضوعها‏ ‏أو‏ ‏مايحكم‏ ‏عليه‏ ‏وإنما‏ ‏بصدق‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏صدق‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏نفسه‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏فإن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏لاتتم‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏بالحكم‏ ‏على ‏فعل‏ ‏الوعى ‏أو‏ ‏عملية‏ ‏الإحالة‏, ‏والسؤال‏ ‏الذى ‏يجب‏ ‏توجيهه‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ “‏ماذا‏ ‏أخبر؟‏” ‏وإنما‏ “‏ماهى ‏خبرتي؟‏”, ‏إذا‏ ‏التقطت‏ ‏الخبرات‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏فإن‏ ‏موضوعها‏ (‏جانب‏ ‏التركيبات‏ ‏الموضوعية‏ Noema ‏من‏ ‏فعل‏ ‏الوعي‏) ‏يكون‏ ‏ملتقطا‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏ ‏أى ‏يصبح‏ ‏معروفا‏.‏
ولاتدخل‏ ‏أى ‏عناصر‏ ‏من‏ ‏خارج‏ ‏العقل‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏الصدق‏.. ‏فإن‏ ‏العقل‏ ‏نفسه‏ ‏يكشف‏ ‏عن‏ ‏صدقه‏ ‏أو‏ ‏عدم‏ ‏صدقه‏, ‏وذلك‏ ‏على ‏أساس‏ ‏الشروط‏ ‏والقواعد‏ ‏القبلية‏ ‏للتفكير‏ ‏الصادق‏.‏
والحكم‏ ‏على ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏يشمل‏ ‏ضمنيا‏ ‏الحكم‏ ‏على ‏التركيبات‏ ‏الذاتية‏ Noesis ‏من‏ ‏الفعل‏ ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الملاحظ‏ ‏أو‏ ‏الذات‏ ‏العارفة‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏توضع‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏فى ‏الحكم‏ ‏على ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏للمعرفة‏.‏
وصفة‏ ‏الصدق‏ ‏الموضوعى objective validity ‏إذا‏ ‏أضيفت‏ ‏إلى ‏الفعل‏ ‏المعرفى ‏فإن‏ ‏لهذا‏ ‏دلالة‏ ‏كبيرة‏, ‏فمثل‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏لا‏ ‏يقصد‏ ‏موضوعه‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏فى ‏حقيقته‏ ‏فحسب‏, ‏وإنما‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏ينقص‏ ‏شيء‏ ‏من‏ ‏اكتمال‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏فإن‏ ‏اكتماله‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏أى ‏فعل‏ ‏من‏ ‏نفس‏ ‏النوع‏ ‏ويقصد‏ ‏نفس‏ ‏الموضوع‏ ‏سوف‏ ‏يتفق‏ ‏بالضرورة‏ ‏معه‏.‏
‏2 – ‏الضرورة‏ ‏المستمرة‏ ‏للبداية‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏أو‏ ‏العودة‏ ‏للبدايات‏ ‏فى ‏اكتساب‏ ‏المعرفة‏ ‏العلمية‏:‏
من‏ ‏خلال‏ ‏التصورات‏ ‏السابقة‏ ‏يمكننا‏ ‏القول‏ ‏بأن‏ ‏هوسرل‏ ‏يقدم‏ ‏منهجا‏ ‏لاختزال‏ ‏كل‏ ‏الموضوعية‏ ‏إلى ‏ذاتية‏ ‏ويعتبر‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الضمان‏ ‏الحقيقى ‏للموضوعية‏.‏
وهو‏ ‏بذلك‏ ‏يعتبر‏ ‏أن‏ ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏هى ‏الفلسفة‏ ‏الذاتية‏ ‏بشكل‏ ‏جذرى ‏حيث‏ ‏نجحت‏ ‏فى ‏إغلاق‏ ‏الهوة‏ ‏بين‏ ‏الذاتية‏ ‏والموضوعية‏.‏
وعلى ‏هذا‏ ‏الأساس‏ ‏فإنه‏ ‏يشعر‏ ‏بالحاجة‏ ‏إلى ‏العودة‏ ‏باستمرار‏ ‏إلى ‏دعامتها‏ ‏الذاتية‏ ‏فالاختزال‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏القيام‏ ‏به‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏وكفى, ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏شيئين‏: ‏
‏1 – ‏أن‏ ‏كل‏ ‏فيلسوف‏ ‏أو‏ ‏عالم‏ ‏فينومينولوجى ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يبدأ‏ ‏من‏ ‏البداية‏, ‏ويحقق‏ ‏تأملا‏ ‏جذريا‏ ‏فى ‏ذاتيته‏ ‏الخاصة‏, ‏تأملا‏ ‏يتم‏ ‏فيه‏ ‏إعادة‏ ‏فحص‏ ‏لأفعال‏ ‏الوعى. (‏يقصديتها‏ ‏وتكوينها‏ ‏للمعنى.. ‏الخ‏), ‏أى ‏أن‏ ‏يمر‏ ‏بخبرة‏ ‏المعرفة‏ ‏من‏ ‏بداياتها‏ ‏ويحقق‏ ‏إعادة‏ ‏التكوين‏ ‏الدعامى ‏لمعانى ‏الموجودات‏ ‏والوجود‏, ‏ولا‏ ‏يغنى ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏فيه‏ ‏سابقوه‏ ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏هوسرل‏ – ‏مؤسس‏ ‏المنهج‏ – ‏بكل‏ ‏الجهود‏ ‏التى ‏قام‏ ‏بها‏ ‏لإرساء‏ ‏دعائمه‏ ‏وتوصيلها‏ ‏للآخرين‏, ‏فالمشكلة‏ ‏هنا‏ ‏هى ‏مشكلة‏ ‏أى ‏فيلسوف‏ “‏حدسي‏” ‏فى ‏محاولته‏ ‏لتوصيل‏ ‏حدسه‏, ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏حدسه‏ ‏جاهزا‏ ‏لمن‏ ‏بعده‏… ‏وإنما‏ ‏يستطيع‏ ‏تمهيد‏ ‏الأرض‏ ‏لحدس‏ ‏شخصى ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يتبعه‏.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الاخترال‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏لايكفى ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏مرة‏ ‏واحدة‏ ‏فحسب‏ ‏وإنما‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يتكرر‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏, ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏العقل‏ ‏البشرى ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يضطر‏ ‏باستمرار‏ ‏إلى ‏العودة‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الاختزال‏ ‏فإنه‏ ‏مهدد‏ ‏باتباع‏ ‏انحرافه‏ ‏الطبيعى, ‏والعودة‏ ‏أدراجة‏ ‏إلى “‏الموضوعانية‏ objectivism” (17
‏3 – ‏العلم‏ ‏بوصفه‏ ‏تراكما‏ ‏لحقائق‏ ‏راسخة‏ ‏يمكن‏ ‏تحقيقها‏ ‏فحسب‏ ‏بالجهد‏ ‏المشترك‏ ‏لمجموع‏ ‏الباحثين‏:‏
مايسعى ‏إليه‏ ‏هوسرل‏ ‏هو‏ “‏معرفة‏ ‏علمية‏” ‏وليس‏ ‏مجرد‏ “‏آراء‏ ‏صحيحة‏”, ‏إن‏ ‏مضمون‏ ‏ما‏ ‏يعرفه‏ ‏إنسان‏ ‏وما‏ ‏يعتقده‏ ‏آخر‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏نفس‏ ‏الشيء‏ ‏ولكن‏ ‏الفرق‏ ‏هو‏ ‏فى ‏المبررات‏ ‏لتأكيد‏ ‏كل‏ ‏منهما‏.‏
إن‏ ‏جدة‏ ‏الحلول‏ ‏التى ‏تقدمها‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏للمشكلات‏ ‏المختلفة‏ (‏المنطقية‏, ‏والميتافيزيقية‏ ‏والأخلاقية‏ ‏والاجتماعية‏.. ‏الخ‏) ‏لاتعنى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحلول‏ ‏مختلفة‏ ‏بالضرورة‏ ‏عن‏ ‏تلك‏ ‏التى ‏سبق‏ ‏التوصل‏ ‏إليها‏ ‏فى ‏أوقات‏ ‏أو‏ ‏عصور‏ ‏سابقة‏, ‏ولكنها‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحلول‏ ‏قد‏ ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏صدقها‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏لم‏ ‏تتم‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏
إن‏ ‏العلم‏ ‏كما‏ ‏يراه‏ ‏هوسرل‏ ‏هو‏ ‏تراكم‏ ‏لتأكيدات‏ ‏تم‏ ‏التحقق‏ ‏منها‏ ‏بشكل‏ ‏كامل‏, ‏وهو‏ ‏مايجب‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عليه‏ ‏العلم‏ ‏الفلسفى ‏الشامل‏ ‏الذى ‏تسعى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أن‏ ‏تكونه‏, ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏العلم‏ ‏يتطلب‏ ‏وحدة‏ ‏للمنهج‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يجعله‏ ‏منظوما‏ systematic ‏ولكنه‏ ‏يتكون‏ ‏من‏ ‏معارف‏ ‏أو‏ ‏علوم‏ ‏عديدة‏ ‏لكل‏ ‏هذا‏ ‏لايعنى ‏أن‏ ‏الحقائق‏ ‏التى ‏تكتشفها‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏, ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏فإن‏ ‏العدد‏ ‏الضخم‏ ‏من‏ ‏الحقائق‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينشغل‏ ‏بها‏ ‏العلم‏ (‏سواء‏ ‏العلم‏ ‏الفلسفى ‏الشامل‏ ‏أو‏ ‏أى ‏علم‏) ‏تتجاوز‏ ‏القدرة‏ ‏الطبيعية‏ ‏لأى ‏إنسان‏ ‏فرد‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏جيل‏ ‏كامل‏, ‏والأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مساهمة‏ ‏عدد‏ ‏ضخم‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏يحركهم‏ ‏نفس‏ ‏الهدف‏ ‏ويستخدمون‏ ‏نفس‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
مثل‏ ‏هذا‏ ‏الجهد‏ ‏المشترك‏ ‏لمجموع‏ ‏الباحثين‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يصنع‏ ‏جسدا‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏يوحده‏ ‏المنهج‏(18) ‏وينمو‏ ‏باضطراد‏ ‏لتحقيق‏ ‏مهمة‏ ‏العلم‏ ‏التى ‏يرى ‏هوسرل‏ ‏أنها‏ ‏لانهائية‏.‏
‏7 – ‏التطور‏ ‏او‏ ‏التحول‏ ‏الى ‏المثالية‏ (19) ‏المتعالية‏ (20) Transcendental idealism ‏حتى ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏فإن‏ ‏المفاهيم‏ ‏التى ‏عرضت‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏تصيغ‏ ‏تصوار‏ ‏لها‏ ‏بوصفها‏ ‏منهجا‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الظواهر‏ ‏للوصول‏ ‏الى ‏معرفة‏ ‏حقيقية‏ ‏بها‏. ‏بما‏ ‏هى ‏عليه‏, ‏أو‏ ‏بوصفها‏ ‏تأملا‏ ‏منهجيا‏ ‏فى ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏ما‏ ‏يكشف‏ ‏الوجود‏, ‏هى ‏بذلك‏ ‏نسق‏ ‏يمكن‏ ‏تسميته‏ “‏بعلم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏المتعالية‏”:‏
‏- ‏فهى ‏فينومينولوجيا‏ ‏لأنها‏ ‏تختص‏ ‏بالظواهر‏, ‏بوصفها‏ ‏المعطيات‏ ‏الوحيدة‏ ‏التى ‏فى ‏متناول‏ ‏الوعى.‏
‏- ‏وهى ‏علم‏.. ‏لأنها‏ ‏تصر‏ ‏على ‏تحقيق‏ ‏معرفة‏ ‏ثابتة‏ ‏ومؤكدة‏ ‏بالموضوعات‏, ‏معرفة‏ ‏بماهياتها‏ ‏بشكل‏ ‏قاطع‏ ‏وبين‏ ‏مستبعدة‏ ‏بذلك‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عرضى ‏وغير‏ ‏ثابت‏.‏
‏- ‏هى ‏متعالية‏ ‏لأنها‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏المعرفة‏ ‏بحقيقة‏ ‏الأشياء‏.. ‏يمكن‏ ‏اكتشافها‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏العقل‏ ‏أو‏ ‏الوعى.. ‏بالتأمل‏ ‏فى ‏الأفعال‏ ‏الذاتية‏ ‏بمصاحباتها‏ ‏لموضوعية‏ ‏الحتمية‏.‏
كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تقف‏ ‏الأمور‏ ‏عند‏ ‏هذا‏ ‏الحد‏ – ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏قنع‏ ‏به‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏متبعى ‏الفينومينولوجيا‏ – ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هوسرل‏ ‏تطور‏ ‏بأفكاره‏ ‏إلى ‏أبعاد‏ ‏جديدة‏ ‏صاغ‏ ‏فيها‏ ‏نظريته‏ ‏عن‏ “‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏” ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏اعتبره‏ ‏تطورا‏ ‏طبيعيا‏ ‏لنظريته‏ ‏ككل‏ ‏وعمل‏ ‏على ‏توضيحه‏ ‏حتى ‏أواخر‏ ‏أيامه‏, ‏بينما‏ ‏رأى ‏فيه‏ ‏آخرون‏ – ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏بعض‏ ‏تابعيه‏ – ‏تحولا‏ ‏إلى “‏مثالية‏ ‏متعالية‏” ‏أو‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏المثالية‏ ‏والتعالى.‏
انتهى ‏هوسرل‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الأخير‏ ‏هذا‏ ‏إلى ‏القول‏ ‏بوجود‏ ‏ذات‏ ‏متعالية‏ Transcendental subjectivity ‏أو‏ ‏ذاتية‏ ‏متعالية‏Transcendental ego ‏هى ‏بمثابة‏ “‏وعى ‏خالص‏” pure consciousness ‏بالنسبة‏ ‏له‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏يعتبر‏ ‏موضوعا‏, ‏وهو‏ ‏أرضية‏ ‏تأسيس‏ ‏وتكوين‏ ‏كل‏ ‏المعانى, ‏وإذا‏ ‏راجعنا‏ ‏المفاهيم‏ ‏الأولى ‏للقصدية‏ ‏أو‏ ‏الإحالة‏ ‏المتبادلة‏ ‏بين‏ ‏الوعى ‏والوجود‏ ‏بما‏ ‏يتضمنه‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏وحدة‏ ‏يتوقف‏ ‏فيها‏ ‏وجود‏ ‏الوعى ‏على ‏الموجودات‏ ‏ووجود‏ ‏الموجودات‏ ‏على ‏الوعى ‏الذى ‏يقصدها‏ ‏ويتكون‏ ‏فيه‏ ‏معناها‏, ‏إذا‏ ‏راجعنا‏ ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏فاننا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نرى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏التحول‏ ‏فى ‏القول‏ ‏بوجود‏ ‏وعى ‏خالص‏ ‏مستقل‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏عن‏ ‏عالم‏ ‏الحياة‏ ‏الواقعية‏ ‏أو‏ ‏عالم‏ ‏الأشياء‏.. ‏ولايتوقف‏ ‏عليه‏, ‏بينما‏ ‏وجود‏ ‏عالم‏ ‏الأشياء‏ ‏يفتقر‏ ‏إلى ‏الاستقلال‏ ‏الذاتى ‏ويتوقف‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوعى ‏الذى ‏تتكون‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏المعانى, ‏فالعالم‏ ‏بذلك‏ ‏هو‏ ‏نسيج‏ ‏من‏ ‏الظواهر‏ ‏التى ‏تستمد‏ ‏معناها‏ ‏من‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏على ‏اعتبار‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏هى ‏واهبه‏ ‏المعانى ‏والدلالات‏, ‏وواقعية‏ ‏العالم‏ ‏لا‏ ‏تنفصل‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏ ‏التى ‏يتكون‏ ‏فى ‏نطاقها‏ ‏كل‏ ‏صورة‏ ‏من‏ ‏صور‏ ‏المعنى ‏أو‏ ‏الواقعية‏.‏
ويفرق‏ ‏هوسرل‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏والذات‏ ‏أو‏ ‏الذاتية‏ ‏التى ‏تبحثها‏ ‏العلوم‏ ‏الموضوعية‏ ‏أى ‏التى ‏تندرج‏ ‏تحت‏ ‏علم‏ ‏الموضوعات‏ ‏والتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تسمى ‏بالذات‏ ‏الموضوعية‏ ‏أو‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏, ‏بينما‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏هى ‏ذاتية‏ ‏خالصة‏ ‏تمتاز‏ ‏بطابع‏ ‏عقلى ‏كلى ‏يستوعب‏ ‏شتى ‏التغيرات‏ ‏الممكنة‏ ‏التى ‏تطرأ‏ ‏على ‏الذات‏ ‏التجريبية‏, ‏وفى ‏هذا‏ ‏الشأن‏ ‏يقول‏ ‏هوسرل‏ “‏أننا‏ ‏لو‏ ‏تصورنا‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏على ‏صورة‏ ‏علم‏ ‏حدسى ‏ماهوى ‏فإن‏ ‏مهمة‏ ‏التحليلات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏عتدئذ‏ ‏لن‏ ‏تكون‏ ‏إلا‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏بناء‏ ‏الماهية‏ ‏الكلية‏ Eidos ‏للذات‏ ‏المتعالية‏, ‏وهى ‏تلك‏ ‏الماهية‏ ‏التى ‏تستوعب‏ ‏شتى ‏التغيرات‏ ‏الممكنة‏ ‏للذات‏ ‏التجريبية‏” (21), ‏وهذا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏اكتمال‏ ‏العلم‏ ‏الشامل‏ ‏الذى ‏تسعى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أن‏ ‏تكونه‏ ‏مرتبط‏ ‏فى ‏تحقيقه‏ ‏لغايته‏ ‏بالوصول‏ ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.. ‏مصدر‏ ‏الموضوعية‏ ‏الحقيقية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏العطاء‏ ‏القاطع‏ ‏المبين‏, ‏ومنيع‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بكل‏ ‏الموضوعات‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏ ‏نفسها‏, ‏إن‏ ‏الفلسفة‏ ‏تكون‏ ‏علمية‏ ‏بشكل‏ ‏صارم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يفهمه‏ ‏هوسرل‏ ‏عندما‏ ‏تكون‏ ‏كل‏ ‏موضوعيتها‏ ‏التى ‏هى ‏بالتعريف‏ “‏الوجود‏ ‏المطلق‏” ‏قد‏ ‏أمكن‏ ‏استخراجها‏ ‏من‏ ‏المصدر‏ ‏الوحيد‏ ‏للعطاء‏ ‏القاطع‏ ‏البين‏ ‏وهو‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.‏
بالوصول‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ – ‏أرضية‏ ‏تكوين‏ ‏كل‏ ‏المعانى – ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يحصل‏ ‏على ‏البصيرة‏ ‏التى ‏تجعل‏ ‏رؤيته‏ ‏شفافة‏ ‏فى ‏لانهائيتها‏ ‏وتجعله‏ ‏يفهم‏ ‏كيف‏ ‏يترسب‏ ‏المعنى ‏فوق‏ ‏المعنى ‏مثل‏ ‏الطبقات‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏ترسيب‏ (22).‏
هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏كما‏ ‏يراها‏ ‏هوسرل‏ ‏لها‏ ‏منشأها‏ ‏الخاص‏, ‏فهى ‏لا‏ ‏تأتى ‏إلى ‏العالم‏ ‏مجهزة‏ ‏تماما‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏تنمو‏ ‏مع‏ ‏الخبرة‏ ‏كما‏ ‏تنمو‏ ‏الخبرة‏ ‏معها‏, ‏ويسمى ‏هوسرل‏ ‏هذا‏ ‏النمو‏ ‏للذات‏ “‏بالتكون‏ ‏الذاتي‏” subjective constitution ‏وهذا‏ ‏شيء‏ ‏مختلف‏ ‏بصورة‏ ‏جذرية‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏مرتبطا‏ ‏بالتكوين‏ ‏القصدى ‏للموضوعات‏ ‏فى ‏الوعي‏: ‏فكلما‏ ‏كانت‏ ‏هناك‏ ‏معرفة‏ ‏صادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏فإن‏ ‏الموضوع‏ ‏المعروف‏ ‏يتكون‏ ‏فى ‏الوعى, ‏والتحقق‏ ‏النهائى ‏من‏ ‏صدق‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏يكمن‏ ‏فى ‏التأمل‏ ‏فى ‏المصدر‏ ‏الذاتى ‏للتكوين‏ ‏الموضوعى, ‏ولكن‏ ‏الذات‏ ‏ويصبح‏ ‏التكوين‏ ‏المتصاعد‏ ‏للموضوعية‏ ‏تكوينا‏ ‏متصاعدا‏ ‏للذاتية‏, ‏والتقدم‏ ‏فى ‏المعرفة‏ ‏بذلك‏ ‏يتضمن‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏تراكم‏ ‏المعارف‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏, ‏إنه‏ ‏يعنى ‏نمو‏ ‏ذات‏ ‏أفضل‏ ‏إستعدادا‏ ‏بشكل‏ ‏متعاظم‏ ‏لكى ‏تعرف‏ ‏ولكى ‏تكون‏ ‏مصدر‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏التى ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏تكتسبها‏.‏
ويتعرض‏ ‏هوسرل‏ ‏فى ‏تصورة‏ ‏للذات‏ ‏المتعالية‏ ‏لمشكلة‏ ‏حيوية‏ ‏وهى ‏مشكلة‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ (‏الأفراد‏) ‏أو‏ ‏العلاقة‏ ‏البينذاتية‏ intersubjectivity: ‏إن‏ ‏ذاتا‏ ‏متعالية‏ ‏تقف‏ ‏فى ‏عزلة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مصدرا‏ ‏لمعرفة‏ ‏ماهوية‏ ‏صادقة‏ ‏وتتبينها‏ ‏بوصفها‏ ‏قابلة‏ ‏للتعميم‏ ‏بشكل‏ ‏ضرورى, ‏ولكنها‏ ‏لو‏ ‏بقيت‏ ‏معزولة‏ ‏فإنها‏ ‏لا‏ ‏تملك‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تخشى ‏العشوائية‏ ‏فى ‏التقاطها‏ ‏للموضوعية‏.‏
إن‏ ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏هى ‏التى ‏يمكن‏ ‏تبينها‏ ‏بوصفها‏ ‏ملزمة‏.. ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏للذات‏ ‏التى ‏تملك‏ ‏المعرفة‏ ‏وإنما‏ ‏لكل‏ ‏ذات‏ ‏محتملة‏ ‏تفكر‏ ‏بالصورة‏ ‏المناسبة‏, ‏والحديث‏ ‏عن‏ ‏ذوات‏ ‏أخرى ‏محتملة‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏ذوات‏ ‏متعالية‏ ‏أفعالها‏ ‏القصدية‏ ‏هى ‏المكونة‏ ‏للموضوعية‏, ‏واتفاق‏ ‏هذه‏ ‏الذوات‏ ‏فى ‏المعرفة‏ ‏الصادقة‏ ‏موضوعيا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏عالمهم‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏يكون‏ ‏متكونا‏ ‏بصورة‏ ‏مشتركة‏ commonly constituted ‏حيث‏ ‏صدق‏ ‏التكوين‏ – ‏وليس‏ ‏العالم‏ ‏المعطى ‏مسبقا‏ – ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏اشتراكهم‏ ‏معا‏, ‏من‏ ‏هنا‏ – ‏كما‏ ‏يرى ‏هو‏ ‏سرل‏ – ‏تنشأ‏ ‏المشكلة‏ ‏الصعبة‏ ‏للبينذاتية‏ ‏أو‏ ‏التكوين‏ ‏البينذاتى ‏للمعرفة‏ ‏أى ‏تحقق‏ ‏معرفة‏ ‏ينبع‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى ‏من‏ ‏المصدر‏ ‏الوحيد‏ ‏الممكن‏ ‏وهو‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تعم‏ ‏بدرجة‏ ‏كافية‏ ‏بين‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏الذوات‏ ‏المتعالية‏ ‏أيضا‏ ‏وهو‏ ‏مايعنى ‏تقدما‏ ‏فى ‏العلم‏ ‏ككل‏ ‏وفى ‏المعرفة‏ ‏البشرية‏ ‏ككل‏ (23).‏
وهوسرل‏ ‏يختتم‏ ‏فلسفته‏ ‏كلها‏ ‏بتصوره‏ ‏بأن‏ ‏مجموع‏ ‏الذوات‏ ‏المتعالية‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏النهاية‏ “‏ذاتا‏ ‏أعلي‏” ‏أو‏ ‏روحا‏ ‏شبيهة‏ ‏بما‏ ‏يسميه‏ ‏هيجل‏ “‏بالمطلق‏” (24).‏
أثارت‏ ‏هذه‏ ‏التطورات‏ ‏فى ‏نظرية‏ ‏هوسرل‏ ‏الانتقادات‏ ‏ورأى ‏البعض‏ – ‏بما‏ ‏فيهم‏ ‏بعض‏ ‏تابعيه‏ – ‏أنها‏ ‏تعد‏ ‏انحرافا‏ ‏عن‏ ‏بدايته‏ ‏فى ‏الوصف‏ ‏الفينومينولوجى ‏للخبرة‏ ‏سعيا‏ ‏وراء‏ ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏ماهيات‏ ‏موضوعية‏ ‏لها‏ ‏أصلها‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏له‏ ‏استقلاله‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ورفضوا‏ ‏ما‏ ‏اعتبروه‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏صبغ‏ ‏المثالية‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الماهيات‏ ‏ومغالاة‏ ‏فى ‏تعالى ‏المعرفة‏.‏
‏ ‏بها‏ ‏على ‏التجربة‏ ‏المباشرة‏, ‏بينما‏ ‏رأى ‏آخرون‏ ‏أنها‏ ‏تطور‏ ‏مترابط‏ ‏ومتسق‏ ‏مع‏ ‏نفسه‏ ‏للخطوات‏ ‏الأولى ‏للفينومينولوجيا‏ ‏وأن‏ ‏فلسفة‏ ‏هوسرل‏ ‏ليست‏ ‏بأى ‏حال‏ ‏مثالية‏ ‏ميتافيزيقية‏ ‏صرفة‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏كما‏ ‏أصر‏ ‏هوسرل‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏محايدة‏ ‏ميتافيزيقيا‏ ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏تؤكد‏ ‏ولا‏ ‏تنفى ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏للأشياء‏ ‏وجود‏ ‏فى ‏نفسها‏ ‏واقعى ‏ومستقل‏ ‏أوهى ‏موجودة‏ ‏بالنسبة‏ ‏للانسان‏ ‏وفى ‏وعيه‏ ‏فحسب‏, ‏فهى “‏تعلق‏” ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏وتضعها‏ ‏بين‏ ‏قوسين‏ (25) ‏ولاتعتبرها‏ ‏مبحثها‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏معنية‏ ‏بالوجود‏ ‏فى ‏الوعى ‏بوصفه‏ ‏الوجود‏ ‏المتاح‏ ‏وتسعى ‏إلى ‏علم‏ ‏بحقيقة‏ ‏الموجودات‏ ‏وليس‏ ‏بحقيقة‏ ‏الوجود‏, ‏بما‏ ‏هى ‏الأشياء‏ ‏وليس‏ ‏بما‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏موجودة‏.‏
وقد‏ ‏أدت‏ ‏هذه‏ ‏التطورات‏ ‏إلى ‏انشقاق‏ ‏الحركة‏ ‏الفينومينولوجية‏.. ‏وتكونت‏ ‏مدارس‏ ‏رفضت‏ ‏الخوض‏ ‏فى ‏النسق‏ ‏الجديد‏ ‏من‏ ‏المشكلات‏ ‏وقصرت‏ ‏نفسها‏ ‏على ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏نطاق‏ ‏وصف‏ ‏الظواهر‏ ‏وكشف‏ ‏الماهيات‏.‏
‏(‏ب‏) ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجي
المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏ليس‏ ‏منهجا‏ ‏استدلاليا‏ deductive ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏منهجا‏ ‏استقرائيا‏ inductive ‏أو‏ ‏تجريبيا‏ experimental, ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يسعى ‏إلى ‏تتبع‏ ‏الجزئيات‏ ‏للوصول‏ ‏منها‏ ‏إلى ‏أحكام‏ ‏كلية‏ ‏أو‏ ‏قوانين‏ ‏تحدد‏ ‏العلاقات‏, ‏هو‏ ‏لا‏ ‏يسعى ‏إلى ‏تفسير‏ ‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏اكتشاف‏ ‏علاقاتها‏ ‏السببية‏, ‏وإنما‏ ‏يسعى ‏إلى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ “‏الأشياء‏ ‏نفسها‏”. ‏إن‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏يتركز‏ ‏فى ‏الدراسة‏ ‏الوصفية‏ ‏للظواهر‏ ‏سعيا‏ ‏وراء‏ ‏معرفة‏ ‏إن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ – ‏كما‏ ‏كتب‏ ‏هوسرل‏ – “‏هى ‏وصف‏ ‏خالص‏ ‏لمجال‏ ‏محايد‏ ‏هو‏ ‏مجال‏ ‏الواقع‏ ‏المعاش‏ ‏أو‏ ‏الخبرة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هى ‏كذلك‏, ‏وللماهيات‏ ‏التى ‏تتمثل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏” (26), ‏إى ‏أنها‏:‏
‏1 – ‏دراسة‏ ‏وصفية‏ ‏للظواهر‏ (‏الأشياء‏ ‏أو‏ ‏الوقائع‏ ‏أو‏ ‏حالات‏ ‏الأمور‏) ‏فى ‏الخبرة‏ ‏المباشرة‏ ‏الواعية‏.‏
‏2 – ‏والهدف‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏هو‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏معرفة‏ ‏واضحة‏ ‏بالتركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏الثابتة‏ ‏غير‏ ‏القابلة‏ ‏للتغير‏ ‏للظواهر‏.. ‏أى ‏ماهياتها‏, ‏وذلك‏ ‏بوصفها‏ ‏الحقائق‏ ‏الأساسية‏ ‏المبدئية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يبنى ‏عليها‏ ‏أى ‏علم‏ ‏فى ‏أى ‏مجال‏.‏
وهذه‏ ‏المهمة‏ ‏فى ‏نظر‏ ‏هوسرل‏ ‏تتطلب‏ ‏شيئين‏ ‏مبدئيين‏:‏
‏1 -‏التخلص‏ ‏من‏ ‏أى ‏مفاهيم‏ ‏أو‏ ‏افتراضات‏ ‏أو‏ ‏أنساق‏ ‏نظرية‏ ‏مسبقة‏ ‏تحاول‏ ‏التفسير‏ ‏أو‏ ‏تبين‏ ‏العلاقات‏ ‏والأسباب‏, ‏فمهمة‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏الظواهر‏ ‏وماهيتها‏ ‏هى ‏مهمة‏ ‏مبدئية‏, ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏سابقة‏ ‏على ‏أى ‏محاولات‏ ‏لوضع‏ ‏صياغات‏ ‏نظرية‏ ‏مفسرة‏ ‏أو‏ ‏متعقبة‏ ‏للعلاقات‏ ‏والأسباب‏, ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏هى ‏خطوة‏ ‏تالية‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏وخارجة‏ ‏عن‏ ‏نطاقها‏ ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يضمن‏ ‏صدقها‏ ‏واتجاها‏ ‏الصحيح‏ ‏سوى ‏بعد‏ ‏اتمام‏ ‏المهمة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏فى ‏إرساء‏ ‏الحقائق‏ ‏الثابتة‏, ‏أو‏ ‏الماهيات‏ ‏المتضمنة‏ ‏فى ‏الظواهر‏ ‏محل‏ ‏البحث‏.‏
‏2 – ‏والمدى ‏الذى ‏يصل‏ ‏إليه‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الافتراضات‏ ‏المسبقة‏ ‏يمتد‏ ‏إلى ‏أبعاد‏ ‏جذرية‏ ‏حيث‏ ‏يتضمن‏ ‏عملية‏ ‏يعطيها‏ ‏هوسرل‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏ ‏ويتم‏ ‏فيها‏ ‏تنحية‏ ‏أو‏ ‏تعليق‏ ‏قضية‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بالوجود‏ ‏الواقعى ‏للعالم‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏بالتقويس‏ Bracketing (‏أو‏ ‏الايبوكية‏ Epoche ) (27)‏ والمقصود‏ ‏بهذه‏ ‏العملية‏ ‏ببساطة‏ ‏هو‏ ‏أن‏ “‏وجود‏” ‏العالم‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يوضع‏ ‏بين‏ ‏قوسين‏ ‏أو‏ ‏يعلق‏, ‏أى ‏أن‏ ‏القطع‏ ‏بأن‏ ‏العالم‏ ‏بموجوداته‏ ‏موجود‏ ‏واقعيا‏ ‏ومستقل‏ ‏عن‏ ‏وعى ‏الانسان‏ ‏به‏ (‏الموقف‏ ‏الواقعى ‏أو‏ ‏الطبيعي‏) ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏غير‏ ‏مستقل‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ولايعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏تمثلات‏ ‏فى ‏عقولنا‏ (‏الموقف‏ ‏المثالي‏), ‏هذا‏ ‏القطع‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يعلق‏ ‏وينحى ‏جانبا‏ ‏حتى ‏تتمكن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏من‏ ‏التفرغ‏ ‏لمهمتها‏ ‏الأساسية‏ ‏وهى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏الموجودات‏ ‏كما‏ ‏تقدم‏ ‏نفسها‏ ‏فى ‏الوعى, ‏فمبحث‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏هو‏ ‏حقيقة‏ “‏الموجودات‏” ‏وليس‏ ‏حقيقة‏ “‏الوجود‏” ‏وهى ‏لذلك‏ ‏تنحى ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏جانبا‏ ‏بواسطة‏ ‏هذا‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏الحكم‏.‏
وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاختزال‏ (‏حيث‏ ‏يختزل‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يتعلق‏ ‏بهذه‏ ‏القضية‏ ‏فى ‏بحثنا‏ ‏للعالم‏) ‏لايعنى ‏إنكار‏ ‏وجود‏ ‏العالم‏ ‏الطبيعى ‏أو‏ ‏الواقعى ‏ولا‏ ‏حتى ‏الشك‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏فقط‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الطبيعى ‏قد‏ ‏نحى ‏بشكل‏ ‏مؤقت‏ ‏لأنه‏ ‏ليس‏ – ‏كما‏ ‏هو‏ – ‏جزءا‏ ‏متأصلا‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏التحليلية‏, ‏إن‏ ‏واقعية‏ ‏العالم‏ ‏الطبيعى ‏والذات‏ ‏التى ‏تنتمى ‏إليه‏ (‏التجريبية‏) ‏ليست‏ ‏محل‏ ‏تساؤل‏, ‏ومن‏ ‏الممكن‏ ‏دائما‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏المثالية‏ ‏إلى ‏وجهة‏ ‏النظر‏ ‏الطبيعية‏ ‏وبالعكس‏, ‏أو‏ ‏كما‏ ‏كتب‏ ‏هوسرل‏ ‏نفسه‏ “‏كل‏ ‏تحديد‏ ‏ماهوى (‏أو‏ ‏أيديتيكى eidetic) ‏على ‏جانب‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تقابله‏ ‏ملامح‏ ‏موازية‏ ‏من‏ ‏تحديد‏ ‏تجريى emperical ‏على ‏الجانب‏ ‏الآخر‏”, ‏والفينومينولوجيون‏ ‏يقدمون‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الدفاع‏ ‏ضد‏ ‏اتهام‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بأنها‏ ‏عودة‏ ‏إلى ‏المثالية‏ ‏الصرفة‏ (28).‏
بعد‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ ‏المبدئية‏ ‏تتعاقب‏ ‏ثلاث‏ ‏خطوات‏ ‏اختزالية‏ ‏يتلخص‏ ‏فيها‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومنيولوجي‏:‏
‏1 – ‏الخطوة‏ ‏الاولى ‏هى ‏الاختزال‏ ‏الفينومينولوجى Phenomenological reduction ‏
ومن‏ ‏خلاله‏ ‏يتم‏ ‏تحويل‏ ‏كل‏ ‏ماهو‏ ‏معطى ‏إلى ‏ظاهرة‏.. ‏بمعنى ‏الشيء‏ ‏المعروف‏ ‏فى ‏الوعى ‏وبواسطته‏, ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏المعرفة‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏بمعنى ‏واسع‏ ‏يشمل‏ ‏كل‏ ‏كيفيات‏ ‏الوعى ‏مثل‏ ‏الحدس‏, ‏التذكر‏, ‏التخيل‏, ‏الحكم‏.. ‏الخ‏, ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الكيفيات‏ ‏فإن‏ ‏هوسرل‏ ‏يعطى ‏وضعا‏ ‏متميزا‏ ‏للحدس‏ ‏فى ‏التقاط‏ ‏الظواهر‏ ‏وذلك‏ ‏لأسباب‏ ‏محددة‏: – ‏
‏(‏ا‏) ‏لأن‏ ‏الحدس‏ ‏هو‏ ‏الفعل‏ ‏الذى ‏يلتقط‏ ‏فيه‏ ‏الشخص‏ ‏الموضوع‏ ‏فوريا‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏المتجسد‏.‏
‏(‏ب‏) ‏ولأنه‏ ‏فعل‏ ‏معطى ‏بطريقة‏ ‏أولية‏.. ‏يتلوها‏ ‏أو‏ ‏ينبنى ‏عليها‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏آخر‏.‏
هذا‏ ‏الاختزال‏ – ‏أو‏ ‏المعرفة‏ ‏بالظواهر‏ ‏فى ‏الوعى – ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏أساسى ‏فى ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فهى ‏تعتبر‏ ‏نفسها‏ ‏علمية‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏متمركزة‏ ‏فى ‏الظاهرة‏ ‏الملتقطة‏ ‏فى ‏الوعى, ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏ترجمة‏ ‏العالم‏ ‏الخارج‏ ‏عن‏ ‏الوعى ‏ترجمة‏ ‏تحيله‏ ‏إلى ‏عالم‏ ‏فينومينولوجى.. ‏أى ‏عالم‏ ‏الوعى. ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الإختزال‏ ‏يعنى ‏عكس‏ ‏اتجاه‏ ‏نظر‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏توجه‏ ‏مباشر‏ ‏نحو‏ ‏الموضوعات‏ ‏إلى ‏توجه‏ ‏نحو‏ ‏الوعى ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يتيح‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏دراسة‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏ ‏فى ‏فعل‏ ‏الوعى ‏القصدى, ‏والتقاط‏ ‏ماهيتها‏.‏
إن‏ ‏هذا‏ ‏الاختزال‏ ‏بذلك‏ ‏هو‏ ‏الشرط‏ ‏الأول‏ ‏للمعرفة‏ ‏الموضوعية‏, ‏فاالموضوعية‏ ‏لاتخضع‏ ‏للبحث‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏تمثلت‏ ‏تمثلا‏ ‏ما‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ ‏وأصبحت‏ ‏بذلك‏ ‏ملتقطة‏ ‏فى ‏الوعى.‏
‏2 – ‏الخطوة‏ ‏الثانية‏ ‏هى ‏الاختزال‏ ‏الايديتيكى (‏الماهوي‏) Eidetic Reduction ‏عندما‏ ‏يتم‏ ‏تمثيل‏ ‏الظواهر‏ ‏داخل‏ ‏الوعى ‏لاتلتقط‏ ‏عادة‏ ‏بصورة‏ ‏نقية‏ ‏وإنما‏ ‏يشوبها‏ ‏إضافات‏ ‏وصفات‏ ‏عرضية‏ ‏أو‏ ‏مصادفة‏ contingent ‏لا‏ ‏تجعلها‏ ‏واضحة‏ ‏كتركيبات‏ ‏جوهرية‏ ‏أو‏ ‏مضمون‏ ‏يشكل‏ ‏وحدة‏ ‏متفردة‏, ‏والتأمل‏ ‏المبنى ‏على ‏الحدس‏ ‏هو‏ ‏الوسيلة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏بواسطتها‏ – ‏بالتدريج‏ ‏وبعد‏ ‏جهد‏ – ‏تمييز‏ ‏هذه‏ ‏التركيبات‏ ‏الجوهرية‏ ‏أو‏ ‏ماهية‏ ‏الظاهرة‏ ‏واستبعاد‏ ‏الصفات‏ ‏العرضية‏, ‏وهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏الثانية‏ ‏من‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى.. ‏خطوة‏ ‏الاختزال‏ ‏الماهوى ‏أورد‏ ‏الظواهر‏ ‏إلى ‏ماهياتها‏.‏
والحدس‏ ‏المستخدم‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ – ‏حدس‏ ‏الماهيات‏ – ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏متميز‏ ‏من‏ ‏الحدس‏ ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏عملية‏ ‏آنية‏ ‏أو‏ ‏فورية‏ ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏دراسة‏ ‏متأملة‏ ‏دقيقة‏ ‏لأمثلة‏ ‏عينية‏ ‏للظاهرة‏ ‏تمدنا‏ ‏بها‏ ‏التجربة‏ ‏أو‏ ‏التخيل‏, ‏وبإجراء‏ ‏تنويعات‏ ‏منظمة‏ ‏لهذه‏ ‏الأمثلة‏ ‏فى ‏الذهن‏ ‏مع‏ ‏تركيز‏ ‏الانتباه‏ ‏على ‏مايبقى ‏ثابتا‏ ‏رغم‏ ‏التعدد‏ ‏والتنويعات‏, ‏والذى ‏يؤدى ‏محوه‏ ‏إلى ‏القضاء‏ ‏على ‏الموضوع‏ ‏نفسه‏ ‏يمكن‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏التقاط‏ ‏ماهية‏ ‏الظاهرة‏ ‏أو‏ ‏الموضوع‏ ‏بوصفها‏ ‏هذا‏ ‏الثابت‏ ‏الجوهرى ‏أو‏ ‏المضمون‏ ‏المتفرد‏.‏
بهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏إذن‏ ‏يتم‏ ‏اختزال‏ ‏أو‏ ‏رد‏ ‏الأشياء‏ ‏إلى ‏ماهياتها‏ ‏أو‏ ‏حقائقها‏ ‏الثابتة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تشوبها‏ ‏أى ‏عناصر‏ ‏عرضية‏, ‏وثبات‏ ‏الحقائق‏ ‏هنا‏ ‏يعنى ‏الصدق‏ ‏الموضوعى ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏إذا‏ ‏اكتملت‏ ‏هذه‏ ‏الخطوة‏ ‏كما‏ ‏يجب‏ ‏وتمت‏ ‏بها‏ ‏المعرفة‏ ‏البينة‏ (29) ‏فإن‏ ‏الماهيات‏ ‏الملتقطة‏ ‏لا‏ ‏تتغير‏ ‏بتغير‏ ‏الظروف‏ ‏أو‏ ‏الأفراد‏.‏
إن‏ ‏الماهيات‏ ‏التى ‏نصل‏ ‏إليها‏ ‏بهذه‏ ‏الخطوة‏ ‏هى ‏هدف‏ ‏الدراسة‏ ‏الوصفية‏ ‏للفينومينولوجيا‏, ‏وهى ‏اللبنات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏بها‏ ‏بناء‏ ‏معرفة‏ ‏موثوق‏ ‏بها‏ ‏بشكل‏ ‏مطلق‏ ‏فى ‏أى ‏علم‏ ‏وفى ‏أى ‏مجال‏.‏
‏3 – ‏الخطوة‏ ‏الثالثة‏ ‏هى ‏ألاختزال‏ ‏المتعالى Transcendental Reduction ‏
وفيه‏ ‏يتم‏ ‏استحضار‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏المتعالى (‏أرضية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏تكوين‏ ‏كل‏ ‏المعاني‏), ‏وبالارتداد‏ ‏إلى ‏منجزات‏ ‏هذا‏ ‏الوعى ‏الخالص‏.. ‏برد‏ ‏المعرفة‏ ‏المتكونة‏ ‏فى ‏الخطوات‏ ‏السابقة‏ ‏إليه‏, ‏يتم‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏صدقها‏ ‏الموضوعى .. ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏يكمن‏ ‏مصدر‏ ‏الموضوعية‏ ‏الحقيقية‏ ‏أو‏ ‏مصدر‏ ‏العطاء‏ ‏القاطع‏ ‏البين‏ ‏ومنبع‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏بكل‏ ‏الموضوعات‏ ‏بما‏ ‏فيها‏ ‏الذات‏ ‏التجريبية‏ ‏نفسها‏, ‏وعن‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏يقول‏ ‏هوسرل‏:‏
‏”‏إنها‏ ‏التساؤل‏ ‏المرتد‏ ‏إلى ‏المنبع‏ ‏النهائى ‏لكل‏ ‏انجازات‏ ‏المعرفة‏, ‏للتأمل‏ ‏الذى ‏يتأمل‏ ‏العارف‏ ‏فيه‏ ‏نفسه‏ ‏وحياته‏ ‏العارفة‏, ‏والذى ‏تتكون‏ ‏فيه‏ ‏كل‏ ‏البنيات‏ ‏العلمية‏ ‏الصادقة‏ ‏بشكل‏ ‏غائى teleological ‏ويتم‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بها‏ ‏كمتحصلات‏ ‏دائمة‏, ‏وتصبح‏ ‏فى ‏متناوله‏ ‏بشكل‏ ‏حر‏” (30).‏
وأهم‏ ‏حدث‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الوعى ‏هو‏ “‏التكون‏ ‏الذاتي‏” ‏حيث‏ ‏تنمو‏ ‏الذات‏ ‏بالخبرة‏ ‏المضافة‏ ‏كما‏ ‏تنمو‏ ‏الخبرة‏ ‏بنموها‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أشرنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏
إن‏ ‏ممارسة‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهوسرل‏ ‏كانت‏ ‏معادلة‏ ‏للعودة‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏, ‏وكل‏ ‏التحليلات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تقود‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏إليها‏.‏
الخطوط‏ ‏العامة‏ ‏تمهيدا‏ ‏للتطبيقات‏ ‏الخاصة‏:‏
هناك‏ ‏عدة‏ ‏ملاحظات‏ ‏لها‏ ‏أهميتها‏ ‏فى ‏استكمال‏ ‏النظرة‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى‏:‏
‏1 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏بكل‏ ‏خطواته‏ ‏يعتمد‏ ‏على “‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏” ‏والمشاركة‏ ‏بها‏, ‏فالمعرفة‏ ‏بالظواهر‏ (‏التقاطها‏ ‏كظواهر‏ ‏فى ‏خطوة‏ ‏الاختزال‏ ‏الفينومينولوجى.. ‏والحدس‏ ‏بماهيتها‏ ‏فى ‏خطوة‏ ‏الختزال‏ ‏الماهوى.. ‏والوصول‏ ‏إلى ‏المعانى ‏النهائية‏ ‏أو‏ ‏المطلقة‏ ‏فى ‏الاختزال‏ ‏المتعالي‏).. ‏كلها‏ ‏خطوات‏ ‏لاتتم‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏الذات‏ ‏أو‏ ‏الوعى.. ‏بفحص‏ ‏فعل‏ ‏المعرفة‏ ‏أو‏ ‏فعل‏ ‏الوعى ‏بجوانبه‏ ‏الذاتية‏ (‏النويما‏ Noema) ‏والموضوعية‏ (‏النويسيس‏ Noesis) ‏ معا‏.‏
وتصر‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏أو‏ ‏فحص‏ ‏الخبرة‏ ‏الذاتية‏ ‏شيء‏ ‏مختلف‏ ‏تماما‏ ‏عن‏ ‏الاستبطان‏ introspection, ‏وتقدم‏ ‏منذ‏ ‏بداياتها‏ ‏نقدا‏ ‏شديدا‏ ‏لأسلوب‏ ‏الاستبطان‏:‏
‏- ‏يرى ‏برنتانو‏ 31 ‏أن‏ ‏الاستبطان‏ ‏بالمعنى ‏الذى ‏يتضمنه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الخبرة‏ ‏المعاشة‏ ‏التى ‏تحياها‏ ‏الذات‏ ‏هى ‏فى ‏حد‏ ‏ذاتها‏ ‏معرفة‏ ‏واعية‏ ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏تتم‏ ‏بشكل‏ ‏منظوم‏ systematic ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏مستحيلة‏, ‏لأنه‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الخبرة‏ ‏أو‏ ‏التجربة‏ ‏حاضرة‏ ‏للفرد‏.. ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏متاحة‏ ‏له‏ ‏تحليليا‏ ‏كملاحظ‏, ‏بتعبير‏ ‏آخر‏ ‏فإن‏ ‏الادراك‏ ‏الداخلى internal perception ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏يصبح‏ ‏ملاحظة‏ ‏داخلية‏ internal observation ‏أو‏ ‏يستحيل‏ ‏الجمع‏ ‏بينهما‏. ‏والتأمل‏ ‏الممكن‏ ‏كما‏ ‏تراه‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏يتم‏ ‏على ‏أساس‏ ‏عملية‏ ‏استبقاء‏ ‏أو‏ ‏اختزان‏ retention ‏تحاول‏ ‏فيها‏ ‏الاحتفاظ‏ ‏بالظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏من‏ ‏الانحراف‏ ‏فى ‏تيار‏ ‏الوعى, ‏أى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏هو‏ ‏عملية‏ “‏استعادة‏ ‏وصفية‏” ‏للظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏بمثابة‏ “‏موضوع‏” ‏ماثل‏ ‏فى ‏الوعى ‏الحالى ‏للباحث‏, ‏وهوسرل‏ (32) ‏يرى ‏إمكانية‏ ‏استبقاء‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعاشة‏ ‏بهويتها‏ identity ‏أو‏ ‏بلحمها‏ ‏ودمها‏ ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏تتخذ‏ ‏طابعا‏ ‏آخر‏ ‏إذ‏ ‏يصبح‏ ‏وجودها‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏الشيء‏ ‏الذى ‏انقضى ‏فى ‏زمانه‏.‏
‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ترى ‏أن‏ ‏معنى ‏أى ‏مضمون‏ ‏شعورى ‏لايمكن‏ ‏أن‏ ‏ينكشف‏ ‏للذات‏ ‏بطريقة‏ ‏مباشرة‏ – ‏كما‏ ‏يفترض‏ ‏الاستبطان‏ – ‏وإنما‏ ‏يحتاج‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏دراسة‏ ‏دقيقة‏ ‏وجهد‏ ‏شاق‏, ‏ومعرفة‏ ‏النفس‏ ‏بالنفس‏ – ‏كما‏ ‏لاحظ‏ ‏ميرلوبونتى (33) – ‏إنما‏ ‏هى ‏معرفة‏ ‏غير‏ ‏مباشرة‏, ‏فهى ‏بمثابة‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏البناء‏ ‏أو‏ ‏التركيب‏, ‏والإنسان‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏دائما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يفض‏ ‏رموز‏ ‏سلوكه‏ ‏كما‏ ‏يفض‏ ‏رموز‏ ‏سلوك‏ ‏الآخرين‏.‏
‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏ ‏فإن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ترفض‏ ‏الطابع‏ ‏التحليلى ‏العنصرى elementaristic ‏أو‏ ‏التفسيرات‏ ‏العنصرية‏ ‏أو‏ ‏التجزيئية‏ ‏للوعى ‏التى ‏يتبعها‏ ‏الأسلوب‏ ‏الاستبطانى ‏عادة‏.‏
وتهتم‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏أيضا‏ ‏بالتفرقة‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏التأمل‏ ‏الذى ‏تدعو‏ ‏إليه‏ ‏والتأمل‏ ‏الفلسفى ‏التقليدى, ‏فالتأمل‏ ‏الفلسفى ‏التقليلدى ‏يحاول‏ ‏إرجاع‏ ‏الخبرة‏ ‏المعاشة‏ ‏إلى ‏شروط‏ ‏قبلية‏ ‏أو‏ ‏أولية‏ apriori ‏أى ‏يحاول‏ ‏تأويلها‏ ‏وتقصى ‏عللها‏, ‏بينما‏ ‏يهدف‏ ‏التأمل‏ ‏الفينومينولوجى ‏إلى ‏معرفة‏ ‏بالشيء‏ ‏ذاته‏ ‏فى ‏مضمونه‏ ‏السابق‏ ‏على ‏أى ‏تحليلات‏ ‏علية‏ ‏أو‏ ‏افتراضات‏ ‏نظرية‏.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏مهمة‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏بصورته‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏مهمة‏ ‏مبدئية‏ ‏أو‏ ‏أولية‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏معرفة‏ ‏جلية‏ ‏عقلانية‏ rational ‏ويقينية‏ ‏بالظواهر‏ ‏بوصفها‏ ‏دعائم‏ ‏كافة‏ ‏العلوم‏ ‏الطبيعية‏ ‏أو‏ ‏الإنسانية‏ ‏كل‏ ‏فى ‏مجاله‏, ‏والفينومينولوجيا‏ ‏بذلك‏ ‏لاترفض‏ ‏ولا‏ ‏تستبعد‏ ‏أى ‏مداخل‏ ‏أخرى ‏للبحث‏ ‏العلمى ‏مثل‏ ‏التحقق‏ ‏التجريبى ‏ووضع‏ ‏الفروض‏ ‏والتفسيرات‏ ‏العلية‏ ‏وصياغة‏ ‏النظريات‏, ‏ولكنها‏ ‏تعتبرها‏ ‏خطوات‏ ‏تالية‏ ‏لهذه‏ ‏المهمة‏ ‏المبدئية‏. ‏
واكتمال‏ ‏هذه‏ ‏المهمة‏ ‏هو‏ ‏الضمان‏ ‏الأساسى ‏لصدق‏ ‏وسلامة‏ ‏اتجاه‏ ‏الخطوات‏ ‏التالية‏ ‏فى ‏كل‏ ‏علم‏ ‏على ‏حدة‏ ‏حيث‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏مجال‏ ‏العلم‏, ‏ونوع‏ ‏الفروض‏ ‏وكيفية‏ ‏اختبارها‏, ‏ونوع‏ ‏التجريب‏ ‏وأهدافه‏ ‏وحدوده‏, ‏وفى ‏النهاية‏ ‏التفسيرات‏ ‏والنظريات‏ ‏الممكنة‏. ‏
‏3 – ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏احترام‏ ‏شديد‏ ‏للإنسان‏ ‏أو‏ ‏العقل‏ ‏الانسانى ‏بوصفه‏ ‏الأداة‏ ‏الأولى ‏والأخيرة‏ ‏والتى ‏لابديل‏ ‏عنها‏ ‏للبحث‏ ‏والمعرفة‏, ‏وذلك‏ ‏رغم‏ ‏كل‏ ‏الوسائل‏ ‏العلمية‏ ‏الدقيقة‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏الملاحظة‏ ‏والتجريب‏ ‏والتى ‏لايجب‏ ‏أن‏ ‏نفسى ‏أنها‏ ‏من‏ ‏نتاج‏ ‏نفس‏ ‏العقل‏, ‏وأن‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏ ‏لاتتم‏ ‏بافتراض‏ ‏أو‏ ‏الاعتقاد‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏موضوعية‏ ‏لا‏ ‏وجود‏ ‏لها‏ ‏وإنما‏ ‏تتم‏ ‏بالوصول‏ – ‏بالجهد‏ ‏والعناء‏ – ‏إلى ‏الذاتية‏ ‏النقية‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏استشفاف‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏الحقيقية‏.‏
نظرة‏ ‏خاصة‏:‏
كان‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏تأثير‏ ‏ملحوظ‏ ‏فى ‏عديد‏ ‏من‏ ‏العلوم‏, ‏والقائمة‏ ‏متنوعة‏ ‏وتشمل‏ ‏علوما‏ ‏مثل‏ ‏الرياضة‏ ‏والبيولوجيا‏ ‏وعلم‏ ‏الاجتماع‏ ‏والتاريخ‏ ‏ودراسة‏ ‏الأديان‏, ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏أكبر‏ ‏تأثير‏ ‏انها‏ ‏كان‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏حيث‏ ‏نما‏ ‏اتجاه‏ ‏متميز‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ “‏علم‏ ‏النفس‏ ‏الفينومينولوجي‏”, ‏كما‏ ‏أن‏ ‏أبرز‏ ‏مساهماتها‏ ‏التطبيقية‏ ‏قد‏ ‏تمت‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏السيكوباثولوجى ‏حيث‏ ‏قام‏ ‏ياسبرز‏ jaspers ‏بتطبيق‏ ‏المنهج‏ ‏الفينومينولوجى ‏فى ‏دراسة‏ ‏الظواهر‏ ‏المرضية‏ ‏النفسية‏ (‏على ‏أساس‏ ‏فحص‏ ‏الخبرات‏ ‏الذاتية‏ ‏للمرضى ‏النفسيين‏) ‏وتبعه‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏آخرون‏ ‏وأمكن‏ ‏بذلك‏ ‏وضع‏ ‏أسس‏ ‏علمية‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏يصعب‏ ‏التشكيك‏ ‏فى ‏قيمتها‏ ‏الكبيرة‏ ‏كدعامات‏ ‏لهذا‏ ‏العلم‏.‏
ولا‏ ‏أريد‏ ‏أسبق‏ ‏الأمور‏ – ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏دور‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏والطب‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏موضوع‏ ‏القسم‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ – ‏ولكنى ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أوضح‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏علاقة‏ ‏خاصة‏ ‏ووثيقة‏ ‏بين‏ ‏الفلسفة‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏وعلم‏ ‏النفس‏ ‏حيث‏ ‏تقع‏ ‏مفاهيمها‏ ‏الأساسية‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالوعى ‏وأفعاله‏ ‏والوظيفة‏ ‏المعرفية‏ Cognitive Function ‏للإنسان‏ ‏بوجه‏ ‏عام‏ ‏داخل‏ ‏نطاق‏ ‏الدراسة‏ ‏العلمية‏ ‏لعلم‏ ‏النفس‏, ‏والمتتبع‏ ‏لتطورات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتبين‏ ‏أن‏ ‏المفاهيم‏ ‏والتصورات‏ ‏الفينومينولوجية‏ ‏الأساسية‏ ‏ليست‏ ‏محض‏ ‏تأملات‏ ‏مجردة‏ ‏وإنما‏ ‏يمكن‏ ‏ربطها‏ ‏بنتائج‏ ‏محققة‏ ‏علميا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏, ‏وقد‏ ‏تمت‏ ‏على ‏يد‏ ‏مدارس‏ ‏مختلفة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏, ‏وهناك‏ ‏أمثلة‏ ‏محددة‏ ‏يمكن‏ – ‏فى ‏تصورى – ‏أن‏ ‏توضح‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏:‏
‏1 – ‏إن‏ ‏التصور‏ ‏الفينومينولوجى ‏عن‏ ‏المعرفة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏أو‏ ‏الموجودات‏ ‏بوصفها‏ ‏معرفة‏ ‏بهذه‏ ‏الموضوعات‏ ‏كما‏ ‏تتمثل‏ ‏فى ‏باطن‏ ‏الوعى, ‏وليس‏ ‏كأشياء‏ ‏أو‏ ‏حقائق‏ ‏خارجية‏ ‏ليس‏ ‏غريبا‏ ‏على ‏نتائج‏ ‏الدراسة‏ ‏العلمية‏ ‏للوظيفة‏ ‏المعرفية‏ ‏لدى ‏الانسان‏ ‏كما‏ ‏يقدمها‏ ‏أريتى Arieti (34), ‏فهذه‏ ‏المعرفة‏ ‏كما‏ ‏يصفها‏ ‏أريتى ‏تتم‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏تمثيلات‏ ‏داخلية‏ inner representations ‏وتبدأ‏ ‏هذه‏ ‏التمثيلات‏ ‏بنوع‏ ‏بدائى ‏غير‏ ‏متميز‏ undifferentiated ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏ثم‏ ‏بالتدريج‏ ‏ومع‏ ‏نمو‏ ‏وتطور‏ ‏الفرد‏ ontogeny (‏الذى ‏هو‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏إعادة‏ ‏لتطور‏ ‏النوع‏ phylogeny) ‏يحكمها‏ ‏منطق‏ ‏بدائى ‏ويكون‏ ‏التقاط‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏محرفا‏ ‏ومبهما‏ ‏وغير‏ ‏مطابق‏ ‏للواقع‏, ‏ثم‏ ‏تتطور‏ ‏هذه‏ ‏التمثيلات‏ ‏لتصل‏ ‏إلى ‏يمكن‏ ‏التعبير‏ ‏عنها‏ ‏والتواصل‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏اللغة‏, ‏ويكون‏ ‏التقاط‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏أوضح‏ ‏وأقرب‏ ‏إلى ‏الواقع‏ ‏ولكنه‏ ‏ليس‏ ‏نهائيا‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏التمثيلات‏ ‏التى ‏تشكلها‏ ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏تخضع‏ ‏لعملية‏ ‏نمو‏ ‏وتوضيح‏ ‏مستمر‏ ‏تستبعد‏ ‏فيها‏ ‏بعض‏ ‏الخصائص‏ ‏أو‏ ‏الصفات‏ ‏من‏ ‏المفهوم‏, ‏وتضاف‏ ‏خصائص‏ ‏جديدة‏ ‏بصورة‏ ‏تقرب‏ ‏المفهوم‏ ‏شيئا‏ ‏فشيئا‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الواقع‏ ‏الخارجى, ‏وهذا‏ ‏التصور‏ ‏العلمى ‏يعنى ‏شيئين‏:‏
‏(‏ا‏) ‏أن‏ ‏المعرفة‏ ‏بالعالم‏ ‏تتم‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏تمثيلات‏ ‏داخلية‏ ‏وليس‏ ‏هناك‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏أو‏ ‏كما‏ ‏عبر‏ ‏أريتى ‏نفسه‏: “‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏لايستجيب‏ ‏إلى ‏أشياء‏ things ‏أو‏ ‏حقائق‏ facts‏وإنما‏ ‏إلى ‏مفاهيم‏ cincepts”. (‏ب‏) ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏المعرفة‏ ‏لاتتم‏ ‏بشكل‏ ‏نهائى ‏وإنما‏ ‏تخضع‏ ‏لعملية‏ ‏توضيح‏ ‏وتنقية‏ ‏مستمرة‏ ‏تقترب‏ ‏بها‏ ‏التمثيلات‏ ‏الداخلية‏ ‏بالتدريج‏ ‏من‏ ‏الواقع‏ ‏أو‏ ‏الحقائق‏ ‏كما‏ ‏هى. ‏
وكلا‏ ‏التصورين‏ ‏قريبان‏ ‏بدرجة‏ ‏ملحوظة‏ ‏من‏ ‏المفاهيم‏ ‏المعرفية‏ ‏للفينومينولوجيا‏ ‏والمنهج‏ ‏الفينومينولوجى.‏
‏2 – ‏إن‏ ‏مفاهيم‏ ‏بعض‏ ‏الاتجاهات‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏عن‏ ‏العالم‏ ‏الخاص‏ ‏الذى ‏يبنيه‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏لنفسه‏ ‏ويضفى ‏فيه‏ ‏على ‏الموضوعات‏ ‏معانيه‏ ‏الخاصة‏ ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏بالموضوعات‏ ‏الذاتية‏” self objects ‏ولايصل‏ ‏إلى ‏خبرة‏ ‏واضحة‏ ‏بالموضوعات‏ ‏كما‏ ‏هى ‏أو‏ “‏الموضوعات‏ ‏الحقيقية‏” real objets ‏إلا‏ ‏باكتمال‏ ‏نضجه‏ ‏النفسى, ‏هذه‏ ‏المفاهيم‏ ‏لاتبدو‏ ‏غريبة‏ ‏على ‏مفهوم‏ ‏التكوين‏ constitution ‏الفينومينولوجى ‏أى ‏التكوين‏ ‏الدعائمى ‏لمعانى ‏الموضوعات‏ ‏فى ‏الوعى, ‏والذى ‏يكتمل‏ ‏ليصبح‏ ‏تكوينا‏ ‏لمعانى ‏نهائية‏ ‏فى ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏.‏
‏3 – ‏بل‏ ‏إن‏ ‏المفاهيم‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالذات‏ ‏أو‏ ‏الذاتية‏ ‏المتعالية‏ ‏والتى ‏تعرضت‏ ‏لانتقادات‏ ‏شديدة‏ ‏بوصفها‏ ‏مغالاة‏ ‏فى ‏المثالية‏ ‏والتعالى ‏أصبح‏ ‏لها‏ ‏أساس‏ ‏من‏ ‏الدراسات‏ ‏العلمية‏ ‏فى ‏علم‏ ‏النفس‏:‏
‏- ‏فمن‏ ‏خلال‏ ‏دراسات‏ ‏على ‏أشخاص‏ ‏وصل‏ ‏معظمهم‏ ‏إلى ‏درجات‏ ‏مرتفعة‏ ‏من‏ ‏النمو‏ ‏الانسائئ‏ (‏علماء‏ ‏وفنانين‏ ‏وقيادات‏ ‏سياسية‏ ‏وإدارية‏… ‏الخ‏) ‏وصف‏ ‏ماسلو‏ Maslo ‏وغيره‏ ‏من‏ ‏الباحثين‏ ‏ماسمى ‏بخبرات‏ ‏القمة‏ peak experiences ‏عبر‏ ‏عنها‏ ‏أصحابها‏ ‏بوصفها‏ ‏حالات‏ ‏من‏ ‏الوعى states of consciousness ‏تتجاوز‏ ‏حالة‏ ‏الوعى ‏العادية‏ ‏ويتم‏ ‏فيها‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الخبرة‏ ‏المعرفية‏ ‏وإدراك‏ ‏المعانى ‏لايبدو‏ ‏غريبا‏ ‏عما‏ ‏يصفه‏ ‏هوسرل‏ ‏عن‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏أو‏ ‏الوعى ‏الخالص‏.

‏- ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏اريك‏ ‏برن‏ Eric Bern ‏صاحب‏ ‏اتجاه‏ ” ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى Transactionl analysis – ‏والذى ‏يرى ‏النفس‏ ‏الإنسانية‏ ‏بوصفها‏ ‏عدة‏ ‏ذوات‏ ‏أو‏ ‏حالات‏ ‏ذات‏ ‏متعددة‏ multiple ego states ‏تؤثر‏ ‏علاقاتها‏ ‏المتبادلة‏ ‏والمعقدة‏ ‏وتداخلات‏ ‏حدودها‏ ‏على ‏الوظائف‏ ‏المعرفية‏ ‏والانفعالية‏ ‏والسلوكية‏ ‏للانسان‏ ‏الفرد‏ – ‏يصف‏ ‏حالة‏ ‏للذات‏ ‏هى ‏حالة‏ “‏الراشد‏ ‏المتكامل‏” integrated adult ‏لها‏ ‏من‏ ‏الخصائص‏ ‏مالا‏ ‏يبدو‏ ‏غريبا‏ ‏عن‏ ‏صورة‏ ‏الذات‏ ‏المتعالية‏ ‏كما‏ ‏يصفها‏ ‏هوسرل‏.‏
خلاصة‏ ‏القول‏, ‏فإن‏ ‏ما‏ ‏أسعى ‏إلى ‏إيضاحه‏ ‏ببساطة‏ ‏وبشكل‏ ‏مباشر‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏الفينومينولوجيا‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏بالمعنى ‏العقيم‏ ‏وغير‏ ‏العملى.. ‏وإنما‏ ‏فيها‏ ‏من‏ ‏الحقيقة‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏استكشافه‏ ‏بالتحقق‏ ‏العلمى ‏المناسب‏, ‏وأنها‏ ‏وثيقة‏ ‏الصلة‏ ‏فى ‏مفاهيمها‏ ‏بعلم‏ ‏النفس‏ ‏وما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكشفه‏ ‏عن‏ ‏الانسان‏, ‏وكلها‏ ‏أشياء‏ ‏تجعلنا‏ ‏ننظر‏ ‏بجدية‏ ‏إلى ‏ماتقوله‏ ‏عن‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏وما‏ ‏تمثله‏ ‏بمنهجها‏ ‏من‏ ‏احتمالات‏ ‏فى ‏نموه‏ ‏وتطوره‏, ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏سنحاول‏ ‏استكشافه‏ ‏فى ‏القسم‏ ‏الثانى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏فى ‏العدد‏ ‏القادم‏.‏
المراجع‏ ‏العربية
زكريا‏ ‏إبراهيم‏ (1968) : “‏دراسات‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏المعاصرة‏”
‏القاهرة‏ – ‏مكتبة‏ ‏مصر‏ (‏الفجالة(
عبد‏ ‏الفتاح‏ ‏الديدى (1966) : “‏الاتجاهات‏ ‏المعاصرة‏ ‏فى ‏الفلسفة‏”
‏القاهرة‏ – ‏الدار‏ ‏القومية‏ ‏للطباعة‏ ‏والنشر‏.‏
وولف‏ ‏ا‏. (1966) : “‏فلسفة‏ ‏المحدثين‏ ‏والمعاصرين‏”‏ترجمة‏ ‏د‏. ‏أبو‏ ‏العلا‏ ‏العفيفى
‏القاهرة‏ – ‏لجنة‏ ‏التأليف‏ ‏والترجمة‏ ‏والنشر
‏.‏يوسف‏ ‏كرم‏ (1969) : ” ‏تاريخ‏ ‏الفلسفة‏ ‏الحديثة‏
‏القاهرة‏ – ‏دار‏ ‏المعارف‏.‏
المراجع‏ ‏الأجنبية
‏Arieti, S. (1976). “The Intr apsychic Self”‏
‏New york:Basic Books, Inc., puvlishers‏
‏Encyclopaedia Britanica (1977)‏
‏15 th edition, vol. 14, Ps 10 – 15 (Phenomenology). Chicago/ London/…. – Helen Hem-ingway Benton Publishers.‏
‏Husserl,E. (1965) “phenomenology and the Crisis of philosophy”.‏
‏Translated with an introduction by Quentin ‏
‏Laure. New york: Harper Torchbools.‏
‏Thine”s, G. (1977) “phenomenology and the scuence of Behauiour”.‏

  1. ‏London: George Allen & Unwin.‏


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

التصنيفات
علم الاجتـماع

النظرية الاجتماعية التقليدية

النظرية الاجتماعية التقليدية
الوضعيـــــــــــة 1 –
سان سيمون S. Simon
( 1825 – 1760 )
المقاربة الوضعية هي منهجية تحليله تقوم على استبعاد لأنماط الفكر والتحليل اللاهوتي ( الديني ) والميتافيزيقي ( التجريدي = الطبيعة ) من أي تحليل مقترحة بديلا عنهما الإنسان الذي بات يتمتع بقيمة مركزية في الكون ، بهذا المضمون سنكون على إطلالة لمعادلة جديدة تحكم سير الحياة الاجتماعية برمتها على النحو التالي :

الظاهرة الظاهرة الظاهرة

مرجع لاهوتي مرجع ميتافيزيقي مرجع إنساني / الوضعية
الدين الطبيعة = التجريد العقل

هذه المعادلة التي ستمثل لدى أوجست كونت المراحل التي مرت به الإنسانية ومصدر قانون الحالات الثلاث تبين لنا أن الإنسان لم يكن موضع ترحيب في المرحلتين السابقتين , إذ أن الإنسان عجز عن أن يجد له موقع أو مكانة فيما مضى لذا فقد استبعد من أي تحليل للظواهر مفسحا المجال أمام القوى الدينية أو قو ى الطبيعة . وبما انه لم يكن للإنسان أية قيمة فلم تكن أيضا للمجتمع آية قيمة, ولهذا تطورت الوضعية العلمية التي تناولت ظواهر طبيعية بينما لم تتطور ذات الوضعية حينما كانت تتناول ظواهر متعلقة بالإنسان والمجتمع , وسنرى كيف وضع أوجست كونت حدا لهذه الازدواجية في التفكير والتي يسميها الفوضى العقلية التي تسببت في ثلاث ثورات برجوازية وقعت في أعقاب الثورة الفرنسية 1789 حتى سنة 1848 ، ولكن قبل الوصول إلى أوجست كونت علينا العودة الي جذور الوضعية لدى أستاذ كونت وهو المفكر سان سيمون .
عاش سان سيمون في نظام إقطاعي سليلا لأسرة أرستقراطية ، ويحمل لقبا اجتماعيا هو الكونت وكان ضابطا برتبة ملازم أول لما كانت فرنسا تخوض حربا ضد الإنجليز في شمال القارة الأمريكية ، وقد نضج فكره حلال الثورة الفرنسية التي كانت بمثابة ثورة على النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا عامة وفرنسا خاصة وثورة على النظام المعرفي التقليدي السائد في فرنسا وثورة على النظام السياسي الملكي .
بداية المقاربة الوضعية :
بدأت المقاربة الوضعية في مرحلة الفكر الموسوعي الذي عرفه في القرن 18 واتخذت عند سان سيمون طابعا تطبيقيا عمليا وليس نظريا مثلما كان سائدا في المرحلة التجريدية أي العلم النظري المجرد ، ففي القرن 18 طور الفكر الموسوعي آليات تحليل جديدة تقوم على الترابط بين المعرفة والواقع الإنساني لذا سيمثل هذا الفكر مرجعية سان سيمون . فمن أين البداية إن لم تكن من المقاربة الوضعية للدين ؟
أ‌. تعريف سان سيمون للدين :
في كتابة الشهير ( المسيحية الجديدة ) يعرف الدين بأنه :
” جملة تطبيقات العلم العام التي يمكن بواسطتها أن يحكم الرجال المستنيرون غيرهم من الجهلة ” .
بهذا المضمون فان الديانة عند سان سيمون هي أداة مدنية للحكم المستنير لغير المستنيرين . وبما أن الدين يلعب دورا في التربية لذا فان التربية هي العنصر الذي يساعد على توطيد المشاعر الديمقراطية وتحقيق القيم الأساسية .
مفهومي ” السياسة ” و ” الديمقراطية = الحرية “
• السياسة هي علم الإنتاج .
• الحرية هي نبذ الميز العرقي والثقافي والسياسي .
فما الذي يحدث عندما يلتقي المفهومان ؟ سنلاحظ تغييرا في مفهوم الأمة. وإذا أعطينا هذين المفهومين مدلولا وضعيا وتصورا موضوعيا ( أي محاكمة المفهومين وتحليلهما علميا وليس دينيا ولا تجريديا ). فالذي سيحدث أن أمة جديدة ستنبثق .هذه الأمة متحررة من الميز الديني والانغلاق مثلما ستكون متحررة من تبعات الإقطاعية . ومثل هذه الأمة الجديدة يسميها سان سيمون بـ ” الأمة العاملة ” .
استنتاج أولى :
من الملاحظ أن تغير القاعدة المعرفية تسبب في تغير النتائج . فلو نظرنا إلى المفهومين في المراحل السابقة على الوضعية فلا يمكن الحديث عن أمة عاملة بالمعنى السان سيموني لان السياسة كانت حكرا على طبقة معينة ولان المجتمع ليس حرا ولا يتمتع بأية عدالة , ومثل هذه السياسة والعبودية كانتا تجدان لهما شرعية ذات طابع ديني أو طبيعي . بيد أن الوضعية بوصفها استعمال للعقل ورفع من مكانة الإنسان قدمت السياسة كأداة حيوية في تنشيط الحياة الاجتماعية والاقتصادية ونقلت الأمة من طور الخمول والكسل إلي طور العقل والإنتاج ووضعت الجميع على قدم المساواة وأصبح الإنسان سيد نفسه حرا من ا ي تمييز عرقي أو ثقافي أو سياسي .
هكذا فالانتقال من المرحلة الإقطاعية اللاهوتية إلى المرحلة الصناعية العلمية هو انتقال من ساحة العلم النظري إلي ساحة العلم التطبيقي العملي . فالوضعية تأبى الاعتراف بفواصل مابين النظري والعملي إذ ثمة ترابط بين المعرفة والواقع ألإنساني .
المواطنة والعدالة الاجتماعية :
يربط سان سيمون بين مفهوم المواطنة الذي جلبه معه من أمريكا حيث كان يقاتل الجيش الإنجليزي في بلد تعج فيه الثورات الأهلية الكبرى والعارمة وبين العدالة الاجتماعية بل انه ينحاز إلى مفهوم المواطنة معلنا في كتابه ( المسيحية الجديدة ) تخليه عن لقبه الكونت :
[ لم يعد ثمة أسياد .نحن جميعا متساوون .وأعلمكم بهذه المناسبة أنني أتخلى عن صفتي الكونت التي اعتبرها وضعية جدا أمام صفتي كمواطن ..]
تبع هذا الإعلان حسما لتردد سان سيمون في تأييده للثورة الفرنسية في البداية ثم نال لقب المواطن الصالح مرتين متتاليتين مما يعني انه بات رمزا للتحرر والمساواة والتجديد . هذه النقلة في حياة سان سيمون – المواطن الصالح – ليست نقلة سياسية فحسب بل نقلة اجتماعية وفي هذا الأساس نقلة فكرية ومعرفية في ذات الوقت . كما أن هذه النقلة أيضا جهد سان سيمون في ترجمتها من خلال عمله الدؤوب من اجل تغير مضمون المسيحية من الداخل وإكسابها مضمونا جديدا علميا يقوم على مبدأ الحرية والمساواة . هكذا يبدو الدين هو العلم العام كما يصرح سان سيمون .
عودة إلى مفهوم الدين :
إذن الدين ليس حالة ثابتة بقدر ما هو حالة تطورية ولما يتساءل عن الدين وماهية الأديان نراه في كتاب ( المسيحية الجديدة ) يقول بتطورية الأديان وعدم بقائها على حالها .
[ الأديان مثلها مثل بقية المؤسسات تتمتع بطفولة وفترة قوة ونشاط وأيضا مرحلة انهيار وحين تكون في مرحله انهيار فأنها تكون ضارة ,أما في مرحلة الطفولة فهي غير كافية ..]
ب‌. قراءة في المقاربة الوضعية للأديان عند سان سيمون :
السؤال : لماذا ينظر الكثير إلى سان سيمون على انه من مؤسسي علم الاجتماع الديني؟
لانه في واقع الأمر ساهم ولو بشكل محدود في تأسيس هذا العلم . ومن حيث الجوهر لان سان سيمون قدم الأديان بوصفها ظواهر اجتماعية وإنسانية من الممكن تحلياها تحليلا علميا كبقية الظواهر الأخرى . بل أن سان سيمون قاربها كما فعل ابن خلدون في نظريته حول تداول الحضارات التي تنشأ ثم تقوى ثم تنهار, وهكذا بدا له الدين . إذن الوضعية تخلصت من كل الثوابت المقدسة .
ت‌. ما هو الدور الذي تلعبه الفلسفة الوضعية ؟
يلاحظ أن الوضعية الجديدة كما مارسها سان سيمون لا تهدف فقط إلى تغيير شروط إنتاج المعرفة بل الى تغيير النظام السياسي والمؤسساتي والاقتصادي . بمعنى أن الوضعية تمثل نقلة جذرية في النظام السياسي والاجتماعي القائم . وما لم تحدث هذه النقلة فمن المستحيل أن نتحدث عن أمة عاملة .
إذن ثمة تغييرات تجعل من المجتمع عنصرا إيجابيا .
والسؤال هو: ما هي مستويات التغيير الجديد بحسب المقاربة الوضعية ؟
أولا : تحقيق العدالة في مضمونها السياسي والاجتماعي واستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية
ثمة مبدأ يحكم تحقيق العدالة المنشودة ذو بعد شخصي وعلمي لدى سان سيمون . هذا المبدأ هو وجوب جبر الهوة الفاصلة بين النظري والتطبيقي للوصول إلى علاقة تكاملية بين المستويين ، ودون ذلك سيظل هناك ازدواجية تحافظ على استمرارية الهوة الفاصلة لذا لابد من إنجاز منظومة ابستيمولوجية ومعرفية جديدة تقوم على التكامل بين البعدين النظري والتطبيقي ولعل أوضح مثال هو ما طبقه سان سيمون على نفسه تعلق في دعوته إلى تحقيق العدالة تخليه عن لقب الكونت وإعلائه لشأن المواطنة ( لم يعد بيننا أسياد…).
هذه المقاربة الوضعية الباحثة عن العدالة السياسية والاجتماعية ستسعى عمليا إلى :
• هدم العناصر السياسية والمؤسسية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي القديم والتي من بينها التميزات الطبقية والاجتماعية والمسيحية في شكلها التقليدي
• لذا فان سان سيمون سيرسي دعائم تعامل معرفي جديد مع الظاهرة الدينية بمختلف تنظيماتها ومؤسساتها ، تعامل يقوم على اعتبار الظاهرة الدينية ظاهرة اجتماعية إنسانية من خلال إخراجها من دائرتها المقدسة والنظر إليها باعتبارها ظاهرة إنسا نية ، هذا المبدأ المعرفي الجديد تجاه الظاهرة الدينية سنجده حاضرا وقائما في كتابات الكثير من العلماء مثل غاستون لبلوس G.lebles و هنري و دوركايم و مارسيل موس , هذه الأسماء بالإضافة إلى ماكس فيبر سيكونون أهم المتخصصين في علم الاجتماع الديني مستنيرين بأطروحات سان سيمون ومفهومه للدين ومنهج التعامل معه .
ولكن لماذا يجهد سان سيمون لاستبعاد الدين من الحياة الاجتماعية ويشدد على تشجيع التعامل الجماعي بين أفراد المجتمع ؟ ثم لماذا تنقل سان سيمون بين الكنائس مبشرا بالمسيحية الجديدة ؟
مجتمع سان سيمون
إن مجتمع سان سيمون هو مجتمع صناعي علمي , ومثل هذا المجتمع يبحث عن دماء جديدة لضخها في عروقه كما انه يحتاج إلى وحدة معرفية ومعيارية وبالتالي لابد من القضاء على مخلفات النظام القديم بكل منظوماته وتشكيلاته ومعتقداته وتصوراته وبناه وأنماط تفكيره وتحليله إذا ما أردنا تحقيق العدالة والتقدم فكيف العمل ؟ وما العلاقة بين الدين والمجتمع الجديد ؟
يحرص سان سيمون على تجاوز الدين اعتقادا منه انه العقبة التي تشجع الفراغ . ولأنه ثمة تناقض بين الفراغ والعمل الجماعي المنتج لذا ينبغي أن نغير مضمون الدين بان نكسبه مضمونا جديدا يتمثل في نظام بشري جديد. ولان الإنتاج الجماعي أو الخلق الجماعي تحديدا يقوم على الإنتاج البشري ، لذا ينبغي فك التناقضات التي يعاني منها مجتمع ما بعد الثورة – أي المجتمع الصناعي – إذ يلاحظ سان سيمون أن المجتمع ما زال في حالة صراع قائم على:
• معرفة لاهوتية ومعرفة علمية .
• سلطة إقطاعية وسلطة صناعية .
إذن ثمة تحالف بين المعرفة اللاهوتية والسلطة الإقطاعية ضد المعرفة العلمية والسلطة الصناعية ولفك هذا التناقض أو التحالف ينبغي استبعاد الدين للسماح بمرور العمل الجماعي المنتج وقتل الفراغ .
ثانيا: تشجيع العمل والإنتاج
إن التغيير الجديد التي تريد إرساءه المقاربة الوضعية يقوم أساسا على العمل والإنتاج كيف ذلك؟
بانتشار الأفكار الوضعية بفعل انتشار الصناعة .
إذ يعتقد سان سيمون أن انتشار الأفكار الوضعية ستساعد وستشجع على انتشار الصناعة التي هي الشرط الأساسي والوحيد لقيام مجتمع وضعي ومعرفة وضعية ، فالصناعة بطبيعتها تخلق مجتمعا وضعيا وتصورات وضعية في نفس الوقت استنادا إلى مبدأ يعتبر أنا لمعرفة العملية تعني المعرفة العلمية . إذن الصناعة هي مبدأ مركزي في كل النظريات المعرفية ،هذا المبدأ نجده لدى الفكر الاشتراكي الطوباوي الذي يشمل ويعبر عنه سان سيمون و قودوين و بودون .إذ أن الفكر الاشتراكي الذي يعد سان سيمون عميده بني على مركزية مبدأ الصناعة . بمعنى أن الصناعة تشجع بطبيعتها على خلق القيم الوضعية المستقلة عن الفكر الديني والكنسي في نفس الوقت . كما نجد مركزية مبدأ الصناعة عند دوركايم من خلال كتابيه ” تقسيم العمل الاجتماعي “و” الانتحار ” وكذا مع ماكس فيبر في كتابه ” الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية “.
قيمة الصناعة ومكانتها :
إذن الصناعة في الفكر السياسي والاجتماعي الغربي عامة والفرنسي خاصة هي شرط كل التحولات النوعية والفكرية والاجتماعية .
مثال 1 :
العقلانية كما عبر عنها ماكس فيبر هي قيمة بيروقراطية وصناعية قبل كل شيء فالمجتمع الذي لا يملك بيروقراطية و أبنية صناعية لا يمكن ولا يحق له أن يدعي العقلانية.
مثال 2 :
يقيم سان سيمون مقاربة بين الإنتاج والكسل وأمة كسولة وأمة عاملة ويتساءل في إطار المقاربة الوضعية : هل يمكن أن يحصل تعايش بين الأمتين ؟ لذا يطالب سان سيمون بالحزم مع الأمة الغير منتجة بضرورة إزاحتها ولتحل محلها الأمة المنتجة ولكن ما هي أداة التغيير ؟
وفي المجتمع الإقطاعي يعود سان سيمون ليؤكد على استعمال أدوات المعرفة الوضعية والعمل على القضاء على الهوة الفاصلة بين البعد النظري والبعد التطبيقي للوصول الى وحدة المعرفة , هذا هو جوهر المقاربة الوضعية . لذا نجد سان سيمون يصر على استبدال المضمون القديم للمسيحية بمضمون جديد يعمل على تطويرها من الداخل ، هذا المضمون الجديد يتمثل في كتابه ” النظام الصناعي ” من خلال :
• التأكيد على سعيه إلى تكوين مجتمع حر .
• التأكيد على نشر المبادئ والقيم التي ستكون أرضية النظام الجديد .
• التأكيد على إن النظام الاجتماعي يستند على ثلاث فئات :
أ‌. الفنانون لأنهم يفهمون قيم التغير ويشكلون أداة تشجيع للمجتمع حتى يغير أوضاعه القائمة .
ب‌. العلماء الذين يقترحون تصورات وبدائل ووسائل عامة يمكن استعمالها لتحسين حال الأغلبية.
ت‌. الصناعيون الذين يشجعون المجتمع على القبول بالمؤسسات الجديدة .
أما منطق الترتيب أعلاه فهو التقاء الإلهام مع التفكير ومع الإبداع والمهم في هذا التصنيف أن الصناعيين يتربعون على قمة المجتمع الصناعي وفي أعلى مراتب النظام الاجتماعي الجديد . ولنقرأ أهميه المقولة التالية لـ سان سيمون :
[ لو حدثت في ليلة صماء فاجعة مفاجئة ذهبت بأكثر الشخصيات الكبرى من الأسرة المالكة والوزراء وكبار القضاة…وسواهم ممن هم في هذه الطبقة , فان الشعب الفرنسي سيبكيهم حتما لأنه شعب حساس , ولكن هذه الفاجعة لا تبدل شيئا مهما أو تغير تغييرا ذا اثر في أعماق الشعب , أما لو ذهبت هذه الفاجعة برؤوس العلماء والصناعيين وأرباب المصارف والبنوك … فان خسارة المجتمع فيهم كبيرة جدا لان مثل هؤلاء لا يمكن تعويضهم بسهولة !!] ( راجع : تاريخ السوسيولوجيا / غاستون بول ) .
استنتاجات
أ.) في مجتمع العدالة والمساواة ، هو المجتمع الحر الذي يقوم على حركة جمعانية أي مجموعة من المواقف لم يعد الفرد فيه خاضعا
• هذا المجتمع أُخرج الفرد من مرحلة الفكرة ليصبح مواطنا . وهذه نقلة سياسية واجتماعية .
• أشرك الفرد مع الآخرين ( المجتمع ) في عمل جماعي واحد وإبداع واحد وخلق واحد .
هذا يعني أن الوضعية بالمضمون السان سيموني تعبر عن مردودية الفرد وليس فقط تغيرا في الأوضاع الاجتماعية والسياسية . كما يعني أن سان سيمون يراهن على دور المجموعة على التغير ، هذه المجموعة التي تبنى على ثلاث مستويات وهي :
• الإنتاج
• التقنية
• الصناعة
ب.) العناصر الأساسية التي اعتمدتها المقاربة الوضعية مع سان سيمون هي :
1. تحييد الدين والفكر اللاهوتي عن كل مشاركة في الحياة العملية .
2. وضع أسس مشروع علمي وفكري ومعرفي يقوم على مبدأين أساسين هما:
ـ مبدأ العلمية ؛ فلا تعامل بعد الآن مع الظواهر والأشياء إلا من منظور علمي .
ـ مبدأ العلمنة وفيه تحييد وإقصاء صريح للدين .
هذه هي آليات التحليل العلمية التي ضمنها سان سيمون للمقاربة الوضعية وهي الآليات التي سنجدها مستعملة في النص الكونتي بطريقة أو بأخرى . هذه أيضا هي الأرضية المعرفية والعلمية التي سينطلق منها أوجست كونت ليجعل من المقاربة الوضعية أكثر قربا من الواقع والتحليل . ومبدئيا فالمقاربة الوضعية ستجمع بين مستويين رئيسيين :
1. المستوى النظري : عبر قراءة العلوم وتنظيمها وتثبيتها وهو ما قام به سان سيمون
2. المستوى التطبيقي : وهو تطبيق عناصر المقاربة الوضعية في تحليل واقع المجتمع
ومن هذه الأرضية المعرفية سينطلق أوجست كونت في ترتيب بيت العلوم.


التصنيفات
علم الاجتـماع

بحث كامل حول المفكر "هربرت سبنسر"

خطة البحث:

المبحث الأول: نبذة عن حياته وأهم المبادئ التي جاء بها.

المطلب الأول: نبذة عن حياته.

المطلب الثاني:أهم المبادئ التطورية عند سبنسر.

المبحث الثاني: أعمال سبنسر وأهم إسهاماته في علم الاجتماع.

المطلب الأول: أهم أعمال سبنسر.

المطلب الثاني: إسهامات سبنسر في علم الاجتماع.

المطلب الثالث: المجتمع ومراحل تطوره.


مقدمة:

لقد تميز النصف الأخير من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بظهور العديد من
العلماء والفلاسفة في شتى المجالات تزامنا مع قيام الثورة الصناعية مما مهد للمجتمع الأوروبي
الطريق نحو الانطلاق والتطور إلا أن هذا المجتمع كان يتخبط في دوامة من العنف والتشتت
واللاتوازن إضافة إلى سيطرة رجال الدين ﴿الكنيسة﴾ والنظام الإقطاعي ﴿ملاك الأراضي﴾
والحروب الأهلية الدائرة بين أفراد المجتمع وهنا تنبه الفلاسفة الغربيون في ذلك العصر إلى
ضرورة دراسة مجتمعاتهم وفهم ما يحصل بداخلها حتى يتسنى لهم معالجة مشاكلها فتبين لهم أن
وجود علم يهتم بدراسة المجتمع أمر لابد منه من بين أهم هؤلاء الفلاسفة « أوغيست كونت٬
كارل ماركس٬ دور كايم٬ ماكس فيبر » وغيرهم الكثير من أصحاب الاختصاص الذي أطلق
عليه اسم« علم الاجتماع سيسيولوجي » . وهنا جدير بنا ذكر المفكر العربي النابغة “ابن خلدون”
وهو أول من أشار إلى هذا العلم وسماه ﴿علم العمران البشري﴾. ومن هنا نتطرق إلى الفيلسوف
وعالم الاجتماع الانجليزي الذي نريد دراسته وهو “هربرت سبنسر” وهو أحد المجددين
والمنظرين في علم الاجتماع الحديث وسنقوم في هذا المقام بذكر أهم أعماله ونظرياته ومؤلفاته
في علم الاجتماع.

المبحث الأول: حياته وأهم أفكاره
المطلب الأول: نبذة عن حياته
ولد سبنسر في ديربي بانجلترا في سنة 1820 لأسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة وقد نشأ في أسرة كاثوليكية محافظة ولم يتلق التعليم في المدارس النظامية الحكومية منذ البداية وخاصة أن والده وخاله قاما بتوجيه أولا بدراسة العديد من الكتب والعلوم ولاسيما العلوم الرياضية والطبيعية التي انشغل بها كثيرا قبل الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفية . كما كانت لسبنسر اهتمامات خاصة في علوم الأحياء والكيمياء .
وبدأ حياته مدرسا ثم اشتغل في عمله المهني البعيد كل البعد عن العلوم الاجتماعية حيث عمل مهندسا في السكك الحديدية ولكنــه كان مشغولا بهذه العلوم والظواهر التي أقدم على دراستها وتحليلها.
ولم يلبث أن ترك الوظيفة واشتغل بالأدب والسياسة و شئون الاجتماع وكتب مؤلفات ضخمة تدل على سعة العرض ودقة التحليل وعمق الفكر وأصالته .
وكانـت مؤلفــاته مـرآة صـادقة للفكـرة التــي تشـبعـت بــها نفســـه وتبـلورت فـي تفكيـره وهـــي « النشوء والارتقاء » فحاول تطبيقها على الكائنات الحية في ميدان علم الإحياء ، وعلى الإنسان في ميدان علم النفس والأخلاق وعلى المجتمع في ميدان علم الاجتماع والسياسة توفي سنة 1903 .
في كتابه السياسي ” الرجل ضد الدولة”قدم رؤية فلسفية متطرفة في ليبراليتها. كان سبنسر ، و ليس داروين ، هو الذي اوجد مصطلح “البقاء للأصلح “. رغم إن القول ينسب عادة لداروين. و قد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء، و أعطى له أبعادا اجتماعيا ، فيما عرف لاحقا بالدارونية الاجتماعية .و هكذا يعد سبنسر واحدا من مؤسسي علم الاجتماع الحديث. عمل كمهندس مدني ، لكن كتاباته المبكرة 1848 شهدت اهتماما بالأمور الاقتصادية. حيث عمل كمحرر في جريدة “الايكونومست الاقتصادي”.و التي كانت ، كما هي الآن ، جريدة اقتصادية مؤثرة و مهمة. عام 1851 انضم إلى مجموعة جون تشابمان ،التي كانت ترعى الفكر الحر و الإصلاح ،و بالذات تروج لفكرة التطور و الارتقاء . طلب تشابمان من سبنسر أن يبحث نظرية توماس مالتوس و يعرضها في العدد الأول من مجلة أشرف على إصداراها ،و رأى سبنسر في نظرية مالتوس قانونا عاما يصلح للبشر كما للحيوانات ،حيث تعمل الحروب و الكوارث و الأوبئة على تصحيح الزيادة السكانية . من هذه اللحظة فصاعدا اعتبر سبنسر كاتبا مهما ، و وجد تعبير “البقاء للأصلح ” رواجا كبيرا ،و توالت كتب سبنسر التي شملت مواضيع مختلفة ، و كانت ترى مسألة التطور و الارتقاء في شتى الجوانب الاجتماعية.حيث لا مكان للضعيف في سباق الأقوياء. شكلت الدراوينية الاجتماعية في تلك الفترة بمثابة كفارة لضمير الإنسانية المتعب : حيث قدمت على أنها قانون الطبيعة الذي لا حياد عنه. كان سبنسر يمتلك علاقات وثيقة مع كبار الرأسماليين في عصره ، الذين تلقفوا أفكاره و رحبوا بها، و كان سبنسر قد أخبر كارينجي ، واحد من أهم رأسماليي عصره : أن صعود شخص مثله ، لم يكن نتيجة حتمية فحسب ، بل كان حقيقة علمية. كان سبنسر معجبا جدا بداروين ، و من اجله فقط ، حنث بيمينه بعدم دخول أي كنيسة ، حيث حضر القداس على روحه في كنيسة “وستمنستر” .

المطلب الثاني: أهم المبادئ التطورية عند سبنسر
يعد “هربرت سبنسر”H.Spencer أحد رواد الفكر الاجتماعي الذي تناول نظرية خاصة في تنمية وتطور المجتمع هي « المماثلة البيولوجية » .
ولقد أراد سبنسر في كتابة (( الاستاتيكا الاجتماعية )) أن يوضح أن التقدم سواء في مجال الكائنات العضوية أو المجتمع إنما هو تطور من ظروف تؤدي فيها الأجزاء المتشابهة وظائف متشابهة إلى ظروف تؤدي فيها الأعضاء أو الأجزاء غير المتشابهة وظائف غير متشابهة أي من الشكل الموحد إلى الأشكال المتعددة أو من التجانس إلى اللاتجانس .
وفي هذا المبحث سوف نتناول توضيح لأهم المبادئ التطورية عند “سبنسر” التي سارت عليها نظريته وإشارة إلى المراحل التطورية للمجتمع .
المبادئ التطورية عند “سبنسر”
يعد { المبدأ التطوري } الأساس الحقيقي لمذهب “سبنسر” فقد صاغ في كتابة المبادئ الأولى ثلاثة قوانين أساسية هي: 1- قانون ( استمرار القوة ) الذي يشير إلى وجود واستمرار نوع من العلة النهائية تفارق المعرفة .
2- قانون عدم قابلية المادة للفناء . 3- قانون استمرار الحركة ويعنى أن الطاقة تتحول من شكل إلى أخر لكنها تستمر في هذه العملية .
ويرى أن هذه القوانين وما أضافه إليها فيما بعد يمكن أن تتمثل في قانون ( التطور ) الذي كان عنده بمثابة القانون السامي لكل موجود .
ويشرح (سبنسر) أرائه مستشهدا بالحياة الاجتماعية بأنها تشبه الحياة البيولوجية فالتطور الاجتماعي يقوم على فكرتين هما:
-1التباين : ويقصد به الانتقال من المتجانس إلى اللامتجانس ، وقد قرر في هذا الصدد أن في الحياة ميلا إلى التفرد والتخصص . -2التكامل : وهذه الظاهرة تسير جنبا إلى جنب مع ظاهرة التباين بمعنى أن التفرد أو التخصص لا يؤدي إلى الاستقلال والاكتفاء الذاتي . ولكنه يؤدي إلى التضامن والتماسك واعتماد الأجزاء والوظائف بعضها على البعض الأخر .

فالمجتمع في نظر “سبنسر” جزء من النظام الطبيعي للكون ، وعلم الاجتماع هو محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبة وعناصره وهيئاته و مراحل نموه وتطوره وما إلى ذلك من المظاهر التي تخلقها العوامل الطبيعية والنفسية والحيوية .
فالتطور الاجتماعي في نظرته ليس إلا عملية تطورية عضوية يسميها ( التطور فوق العضوي ) فالاجتماع الإنساني إذن هو أرقى صورة للتطور فوق العضوي٠

المبحث الثاني: أهم أعمال سبنسر وإسهاماته في علم الاجتماع
المطلب الأول: أهم أعمال “سبنسر”

لاشك أن سبنسر أحد دعائم الفكر الاجتماعي العلمي في القرن التاسع عشر وبالرغم من اتفاقه مع أوجست كونت في بعض الحقائق غير أنه لا يعترف بأن كونت أسبق منه وصولا إليها وأهم أعمالة هي :

-1نشر أول بحث له في الفلسفة الاجتماعية بعنوان: {الاستقرار الاجتماعي{Social statics من قبل أن يعرف تفصيلات تستحق الذكر من فلسفة كونت .

-2كتب سبنسر مؤلف بعنوان (( مبادئ علم الاجتماع )) ندرك من خلاله أنه يعتقد في روحة ليس في تفاصيل من كتاب ( كونت ) فلاشك أن كونت رسم الإطار العام وأن سبنسر ملء هذا الإطار .

-3ولقد أراد سبنسر في كتابة (الاستاتيكا الاجتماعية) أن يوضح أن التقدم سواء في مجال الكائنات العضوية أو المجتمع . إنما هو تطور من ظروف تؤدي فيها الأجزاء المتشابهة وظائف متشابهة .

المطلب الثاني: إسهامات سبنسر في علم الاجتماع

كما قدم سبنسر بعد ذلك إسهامات بارزة في النظرية البيولوجية حيث تكلم عن تطور الكائن العضوي .
ومن أهم هذه الإسهامات التي قدمها سبنسر في مجال علم الاجتماع:
۱- المماثلة البيولوجية . ۲- المجتمع ومراحل التطور .

أـ المماثلة البيولوجية :
إذا كان المبدأ التطوري هو أساس نظرية سبنسر في علم الاجتماع لكنه مع ذلك قدم مبدأ ثانويا أخر لعب دروا رئيسيا في نسقه الفكري , ذلك هو المماثلة العضوية البيولوجية.
فقد لاحظ عديدا من أوجه التشابه بين الكائنات الاجتماعية و الكائنات العضوية على نحو سبنسر التالي:
-1يتميز كل من المجتمع والكائنات العضوية عن المادة غير العضوية بالنمو الواضح خلال الشطر الأكبر من وجودهما مثال الرضيع ينمو حتى يصبح رجلا والمجتمع الصغير يصبح منطقة متروبوليتارية والدولة الصغيرة تصبح إمبراطورية .
-2تنمو كل من المجتمعات والكائنات العضوية وتتطور في الحجم ، كما أنها تنمو في درجة تعقدها البنائي . ويقصد بذلك أن الكائنات البدائية بسيطة والكائنات العليا معقدة وكذا المجتمعات .
-3يؤدي التطور سواء في المجتمعات أو الكائنات العضوية إلى تباينات في البناء والوظيفة ، وكل منهما يجعل الآخر ممكنا .
-4يصاحب التفاضل أو التمايز التقدمي في البناء سواء في المجتمعات أو الكائنات العضوية تمايز تقدمي في الوظائف . وهذه قضية من قبيل اللغو. فكل عضو يؤدي وظيفة محددة لمركب الكائن العضوي ، كما أن التنظيمات المختلفة تؤدي وظائف مختلفة في المجتمع الذي ينقسم إلى مثل هذه التنظيمات .

ولقد أدرك “سبنسر” أن هناك فروقا هامة بين المجتمعات والكائنات الحية يتمثل الفرق الأول في أن أعضاء الكائن الحي تكون كلا ملموسا ، أما أجزاء المجتمع فحرة الدعائم ومشتتة بدرجات متفاوتة .
أما الفرق الثاني يتمثل في أن الوعي أو الشعور يتركز في جزء صغير من كل كائن حي بينما هو ينتشر في الأعضاء والأفراد في المجتمع .
أما الفرق الثالث في أن أعضاء الكائن الحي إنما توجد لتحقيق الفائدة للكل بينما يوجد المجتمع لمجرد تحقيق الفائدة لأعضائه الفرديين .
ويرى سبنسر أن المجتمع ليس كائنا عضويا طالما أن هناك فروقا جوهرية بينه وبين الكائن العضوي.
وأكد أن المماثلة البيولوجية ماهي إلا معبرا أو صقالة لإقامة إطار متماسك من الاستقرار السوسيولوجي .
ويقول إذا مانزعنا هذا المعبر قامت الاستقراءات بذاتها .

المطلب الثالث: المجتمع ومراحل تطوره

ينطوي عمل سبنسر على خطين من التبرير حول تقدم وتطور المجتمع أو التطور الاجتماعي ويرتبط واحد منهما منطقا بمفهومه الأساس عن التطور ارتباطا أكثر فاعلية من الآخر .
-1الخط الأول: يطور من التبرير موضوعا مؤداه أن الحقيقة الرئيسية للتطور تتمثل في الحركة من المجتمعات البسيطة إلى المستويات المختلفة من المجتمعات المركبة . فالمجتمع المركب انبثق عن المجتمع البسيط . ومركب المركب عن المركب . ويتكون المجتمع البسيط من الأسرة ، أما المركب يتكون من أسر تتحد في العشائر , ويتكون مركب المركب ( كمجتمعاتنا ) من قبائل تتحد في أمم أو دول .
-2الخط الثاني : فهو ينطوي على اتجاه مؤداه أن نماذج من التطور مختلفة إلى حد ما تجرى . وعلى وجه التخصيص يحدث تحولا من المجتمع العسكري إلى المجتمع الصناعي ويتميز كل من النموذجين عن الآخر . فالتعاون الإجباري يشيع في المجتمع العسكري بينما يسود التعاون الاختياري في المجتمع الصناعي .
وأوضح سبنسر أنه ليست هناك ضرورة ملحة لتحول المجتمعات خلال مراحل التطور المحددة . كما أن كل مجتمع لا يشبه الأخر تماما فهناك فروقا بين المجتمعات ترجع إلى الاضطرابات التي تتدخل في خط التطور المستقيم .
هذا عرضا عام موجزا لأراء ( سبنسر ) الاجتماعية . ولاشك أن له دورا هاما في تطور الفكر الاجتماعي . غير أن الإسراف في اتجاهاته البيولوجية قللت من قيمة أعماله.

الخاتمة:
بعد تقديمنا لهذا الفيلسوف الانجليزي المعاصر وهو “هربرت سبنسر” يتضح لنا أنه من عمالقة علم
الاجتماع ولم يتبين لنا هذا إلا من خلال أعماله الخالدة التي قام بها ونظرياته المهمة التي أوجدها
فمن خلال تتبعنا لسيرته الذاتية نجد انه لم يتلقى ذلك التكوين العلمي العالي الذي يمكنه من
فهم وتحليل ودراسة الظاهرة الاجتماعية المعقدة إلا أنه تمكن من تثقيف نفسه والوصول بها إلى
درجة الإبداع وأكبر شاهد على ما نقول مؤلفاته الكثيرة والمهمة والتي خولته في عصره
ومكنته من فرض نفسه مفكرا يستحق الاحترام من طرف الآخرين.

قائمة المراجع:
المرجع الأول:
www.freetalaba.com﴿موقع الكتروني﴾
المرجع الثاني:
محمد علي محمد٬ تاريخ فكر الاجتماع ﴿الرواد والاتجاهات المعاصرة﴾٬ دار المعرفة الجامعية﴿الإسكندرية﴾ الطبعة الثانية٬ 1443ه-2008م٬ ص 145-162
المرجع الثالث:
www.ssss2008.org﴿موقع الكتروني﴾
المرجع الرابع:
يحي مرسي عبد بدر٬ علم الاجتماع﴿ مقدمة في سوسيولوجية المجتمع﴾٬ دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر٬ الإسكندرية٬ الطبعة الأولى٬ 2022م٬ ص 85

المرجع الخامس:

http://v.3bir.com/23709/﴿موقع الكتروني﴾

المرجع السادس:

www.14october.com﴿موقع الكتروني﴾


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .


شكرا اخي كيرم

كثير


يسلموووووووووووووووووووو

مشكور على البحث .

جزاك الله كل خير

ويعطيك الف عافية

العاب فلاش 2022لعبة جراند لعبة المافيا لعبة الجني الازرق لعبة سيف المعرفة لعبة البلياردو لعبة كراش لعبة المارد لعبة ماين كرافت لعبة طبخ بنات العاب فرايف العاب بن تن العاب ناروتو العاب 250 لعبة الزومبي لعبة البيرة لعبة جزر عيش سفاري لعبة سبونج بوب العاب 337 لعبة تفحيط لعبة غامبول لعبة التكاتك لعبة قص شعر لعبة سباق سيارات لعبة ضربات الجزاء العاب هازل لعبة شاحنات


التصنيفات
علم الاجتـماع

التغيرات الاجتماعية لعائلات الأحياء القصديرية بعد إسكانها

خطة الموضوع :

التغيرات الاجتماعية لعائلات الأحياء القصديرية بعد إسكانها

الإشكالية :
ما هي أهم التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع المحول ؟
( ما هي الأوضاع المكتشفة في حركة هذا التغير )
الفرضيات :
*تغيرات في مكونات الطبائع ( السلوكات الجديدة )
*التأقلم مع أوضاع حياة المدينة
*تراكمات اقتصادية واجتماعية ( تفاعل اجتماعي )
*مظاهر جانبية ، الآفات الاجتماعية
*المفاهيم :التغير الاجتماعي
(البطالة ، الفقر ، التخلف ، النمو ، التطور ، التقدم )
*المنهج التحليلي و الوصفي
الاستنتاجات :

مقدمة :
بالرغم من الاهتمامات المتزايدة التي توليها الدولة للقضاء على البيوت القصديرية التي استعرضت مساحات كبرى في اغلب المدن الجزائرية .. وتأتي هده المجهودان في صلب الإصلاحات الاجتماعية في أوضاع تتسم بالتحولات ا لاجتماعية والتغيرات الحديثة .. وبالرغم كذلك من كل هده العناية فان الوضع الواقعي مازال يراوح مكانه بل زادت الحالات الاجتماعية اكثر تدهورا من حيث تراكم الظروف المعيشية للمواطن في ظل استفحال بطالة خانقة وزيادة متطلبات الاجتماعية فيما انحلت عرى التضامن وإسقاط بعض التكافل التقليدي هدا ما يؤشر أن الكثير من الاعتبارات والعوامل الأساسية التي تدعو إلى التماسك الاجتماعي قد اهتزت من الداخل كالفقر وانتشار الآفات الاجتماعية وتوسع دائرتهما على الرغم من إعادة إسكان العديد من العائلات في سكنات جد متطورة وهو الأمر الذي يدعو أيضا إلى طرح التساؤل التالي الذي مفاده .. ماهي المتغيرات الاجتماعية التي تعكس وجه التحولات الاجتماعية في هدا النموذج المطروح ؟

في هذا المنظور نعتبر موضوع دراسة التغير الاجتماعي من الموضوعات الهامة والمجالات الأساسية التي يسعى علماء الاجتماع لدراستها خاصة وأن اهتمامهم الأول يتركز حول دراسة مظاهر التباين والاختلاف الذي يحدث على البناءات والنظم والأفراد والجماعات الاجتماعية ،كما نجد أن هناك من العلماء الذي يعرف علم الاجتماع ذاته بأنه العلم الذي يهتم بدراسة التغير داخل المجتمع …إلى جانب اهتماماتهم على أهمية دراسة طبيعة المجتمع الحديث ومعرفة مظاهر التغير السريعة التي طرأت على جوانبه المختلفة وأحدثت أنواع متعددة من التغيرات على نوعية البناءات والمؤسسات والنظم الاجتماعية والتي لا تزال في حالة من الديناميكية المتغيرة كما يصنفها أجست كونت. وجاءت عملية التغير الاجتماعي في إطار مجموعة من الأفكار والتصورات المتموضعة على محك التاريخ التي تؤكد على أن هذا التغير ضرورة حتمية لا بد من وقوعها في ظل تعدد الأعراف والتقاليد في مثل المجتمع الذي هو محل دراستنا هده
ويرتبط المجتمع القصديري بالعديد من المظاهر الاقتصادية كما ترتبط هذه المشكلة بطبيعة التباين والاختلاف بين المتخصصين في العلم وتباين وجهات النظر المفسرة لها والمناهج أو الطرق المنهجية وجمع البيانات التي يستخدمها العلماء عند دراسة هذه الموضوعات أو القضايا وهذا لا ينفي وجود جهود مشتركة أو شبه اتفاق حول عدد من المفاهيم والتعريفات التي يتفق حولها علماء الاجتماع عند دراستهم للتغير الاجتماعي .
كما يتطرق أنطوني سميث في كتابه المميز عن التغير الاجتماعي أن دراسة ظاهرة التغير سواء كانت اجتماعية أو تاريخية تعتبر ظاهرة واسعة وكبيرة . وهذا ما يجعل نوع من الغموض والتداخل حول وضع تعريف مميز للتغير الاجتماعي …وهنالك بعض المحاولات التي تعرف التغير أو فكرة التغير على أنه نوع من ” الشكل المستمر أو المتلاحق حدوثه بصورة مستمرة كما يحدث نوع من الاختلاف أو التباين المؤقت بين الوحدات الداخلية ” وهذا التعريف يقترب من تعريف نسبت ….حينما سعى لنقد وتحليل فكرة النمو الاجتماعي حيث يعرف التغير :” على أنه نوع من الاختلافات المتلاحقة التي تحدث بمرور الوقت داخل الوحدات المستمرة الحدوث “إذ نلاحظ تأكيده على استمرارية العنصر الذي يحدث فيه التغير وهذا يؤدي إلي تجاهل إضفاء بعض العناصر المكونة للشيء أو حدوث تعديلات أوعمليات إحلال لبعض العناصر بأنواع جديدة .ومن هنا نجد سميت يطرح تعريفا آخر للتغير أكثر تحديدا ” بأنه نوع من الأحداث المتلاحقة والذي ينتج عنه بمرور الوقت تعديل وإحلال أنماط معينة أو الوحدات التي تحدث عليها عمليات التغير”
ويعرف ديفيز Divis التغير الاجتماعي على أنه ” مجموعة الاختلافات التي تحدث داخل التنظيم الاجتماعي والتي تظهر على كل البناءات والنظم التي تحدث في المجتمع “أما العالم Bottočore فيعرف التغير الاجتماعي على أنه ” تغير يحدث في البناء الاجتماعي متضمنا التغيرات في حجم المجتمع ” أو في النظم الاجتماعية خاصة أو العلاقات بين هذه النظم . الذي يمكن أن يكون جزء من التغير الثقافي . ومن خلال التعريفات الموجزة يمكن أن نعطي تصورا مقترحا لمفهوم التغير الاجتماعي ، والذي يمكن تحديده على أنه نوع من التباين والاختلاف الذي يحدث على مكونات البناء الاجتماعي الذي يؤدي إلى حدوث تغير في أنساق التفاعل والعلاقات وأنماط السلوك ، ويعد السمة المميزة لطبيعة الحياة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة .
ويهتم علماء الاجتماع بدراسة التغير الاجتماعي من خلال معالجتهم لدراسة المجتمع الذي يعيشون فيه فيطرحون عدة أسئلة محاولين الإجابة عليها عند دراستهم للتغير الاجتماعي” ما هو الذي يتغير ؟ ما هو اتجاه التغير ؟ ما معدل التغير ؟ لماذا حدث التغير ؟ ما هي العوامل الرئيسية المسببة لحدوثه ؟ “
فنجد أولا أن تعريف التغير يظهر من خلال تحديد معانيه ومفهوماته باعتبار أن أي تغيير يحدث في البناء الاجتماعي يترتب عليه مجموعة من أنماط التغير البنائي والتي نوجزها كما يلي :
ا-التغير في القيم الاجتماعية : يؤدي تغيير القيم إلى حدوث تغييرات كبيرة في المجتمع وان كانت عملية التغير في النسق القيمي يعد نوعا من التغير البطيء جدا وهذا بخلاف العناصر المادية التكنولوجية . ويترتب على تغيير القيم تغيير مجموعة أنماط التفاعل والعلاقات والمراكز والأدوار الاجتماعية . فتغير نمط الحياة الاجتماعية في العصور الإقطاعية إلى العصر الحديث أدت إلى تغير النظرة المجتمعية إلى طبيعة الفرسان والمحاربين باعتبارهم من افضل المهن الاجتماعية . أما في العصر الحديث اصبح النشاط الاقتصادي وإقامة مشروعات صناعية واقتصادية مربحة ماديا يعد أمرا هاما يسعى إليه الكثير من الطاقات العاملة. والحصول بعد ذلك على مناصب عالية وامتلاك الثروة والقوة الاقتصادية والسياسية معا .
ب- تغير النظام : يترتب عن التغير في البناء الاجتماعي تغير في نوعية وأشكال النظم الاجتماعية بوظائفها في المجتمع وتغير نوعية الأدوار الاجتماعية فتغير نظام الملكية من ملكية خاصة إلى عامة في المجتمع الاشتراكي السوفياتي سابقا أدى إلى تغير نظام الإنتاج وعلاقات العمل ونوعية الطبقات الاجتماعية ،

ولكن بعد إلغاء الاشتراكية وعودة الرأسمالية إلى روسيا وجعل الملكية ملكية خاصة بعد تعديل كل ما يترتب على تعديل نظام الملكية والاتجاه نحو تشجيع المشروعات الخاصة والعمل على إعادة توزيع الحقوق والواجبات والمسؤوليات بين الأفراد والدولة والمجتمع كما يترتب على ذلك أيضا تغير مفهوم الحريات بمعناه العام وحرية الملكية الفردية .
ج- التغير في مراكز الأشخاص : إن طبيعة الحياة واستمراريتها تعكس أنماط كثيرة من التغير الذي يحدث للإفراد خاصة . فالفرد في المجتمع الحديث الذي يعيش مدة زمنية محددة يشغل خلالها مراكز معينة يتحدد على إثرها أو يتغير على ضوئه نوعية الأدوار الوظيفية التي تقوم بها ، فالطالب عندما يحصل على شهادة التخرج من الجامعة ويعمل في إحدى المؤسسات التي كان يشكلها أفراد سابقين عليه ، ثم بعد ذلك يترك هذا المنصب نتيجة القواعد المحددة للعاملين وحصوله على سن المعاش ، كما نلاحظ عموما أن عملية التغير تحدث بصورة سريعة نتيجة لتغير في مراكز الأفراد والبناءات وأصحاب المناصب السياسية والاقتصادية التي توجد في المجتمع الحديث برمته
ومن خلال هذه الزاوية تعتبر ظاهرة التغير الاجتماعي من الظواهر الاجتماعية المعقدة التي يصعب تحديدها بسهولة وهناك عدد من العلماء الذين يتصورون أن هناك عامل واحد محدد وهناك عدد آخر من العلماء يؤكد أن التغير يحدث نتيجة تضافر عدة عوامل أو ما يسميها البعض الحتميات ولا يمكن إرجاعه لعامل واحد فقط نظرا لان التغير كظاهرة اجتماعية متعددة الأسباب والآثار والنتائج متميزة عن مثيلاتها من الظواهر الاجتماعية الطبيعية الأخرى التي تحدث نتيجة تواجد عامل رئيسي.
د-العامل السكاني : يحدث التغير بواسطة الإنسان نفسه فلا تغير في شيء دون وجود السكان فزيادة حجمهم ونموهم الطبيعي وتأثر هذا النمو نتيجة الحروب والكوارث الطبيعية من شانه أن يؤثر على التغير الاجتماعي ، وتغير المجتمعات من البسيط إلى المركب لا تحدث إلا من خلال رغبة الإنسان في التغير والتقدم والتطور . كما جاء التغير نتيبجة لتغيير الإنسان الحديث نشاطه الاقتصادي إلى الزراعة والتجارة و الصناعة وظهور المجتمع الصناعي الذي جاء نتيجة لرغبة الإنسان في السيطرة على الطبيعة من اجل حياة اجتماعية افضل . كما أن العامل السكاني و السكان يعتبر أساس دراسة العلاقات والسلوك والتفاعل الاجتماعي وغيرها من العمليات الاجتماعية المتغيرة حسب تغير الإنسان ذاته .
ه-العامل الاقتصادي : تؤثر العوامل الاقتصادية على مفهوم التغير الاجتماعي بصورة مباشرة وغير مباشرة ومن رواد هذه النظرية كارل ماركس والمؤرخ الأمريكي الذي استخدم هذه النظرية في التفسير الاقتصادي للتاريخ .
إن تنوع الموارد الطبيعية من المواد الخام مثل المعادن والبترول والإنتاج الزراعي والصناعي تؤثر وتحدد أنشطة الإنسان ووسائل معيشته وحياته عموما فاكتشاف البترول في منطقة الخليج قد احدث كثيرا من التغيرات الديمقراطية والتركيبة السكانية والعمرانية وأنماط الهجرة الداخلية والخارجية التي ظهرت في هذه المنطقة ككل . كما أدت عملية تغير أنماط الإنتاج عن طريق التكنولوجيا وإنشاء مجتمع صناعي إلى حدوث تغيرات كثيرة في العلاقات وأنماط التفاعل بين الطبقات الاجتماعية ، علاوة على حدوث الحراك الاجتماعي بين المواقع المستوطنة.
ومن الصعوبة بمكان تحديد طبيعة التغير الاجتماعي وكيفية قياس درجة حدوثه ونوعية المستويات التي يحدث فيها هذا التغير ، نظرا لتعدد أنواع التغير وأنماطه المختلفة كما أن العلماء يؤكدون بان التغير شيئا معقدا ويحدث بصورة تراكمية من الصعب ملاحظته في لحظات بسيطة وسريعة ، ويعتبر التغير شيء نسبي الحدوث ويمكن تقديره عن طريق إتباع الأساليب المنهجية وأدوات جمع البيانات المتطورة التي يحصل على المعلومات اللازمة من الواقع الفعلي الذي يظهر في المجتمع .
كما إننا نلاحظ أن نظريات التغير تم تحدد حدوث التغير أو نقطة البداية له أو حتى النهاية أيضا سواء كانت هذه الآراء لأصحاب النظريات الخطية أم الدائرية فالتغير الاجتماعي تغير يحدث في العمليات ، والتفاعل والسلوك الاجتماعي المترتب على هذا التغير ذاته .
للتغير الاجتماعي مجموعة من العوامل تؤدي إلى حدوثه وانتشاره والتي رأيناها في : *العوامل المؤدية للتغير الاجتماعي *. وفي مقابل تلك العوامل نجد العوامل المعوقة للتغير وهي :
1/بطئ الاختراعات التكنولوجية : تعد العوامل التكنولوجية من أهم عوامل الإنتاج التي يستعملها الإنسان للتطور ، وعدم الاهتمام بالتكنولوجيا والاختراعات من شانه أن يحدث نوعا من الإعاقة للتغير الاجتماعي والاقتصادي الشامل .
2/ عدم توفر الإمكانيات المادية.
3/ عزلة المجتمع : تؤدي العزلة الاجتماعية وعدم الانفتاح الخارجي سواء اقتصاديا وثقافيا إلى حدوث نوع من التخلف في كافة المجالات .
4/ الخوف من التغير والمحافظة على القديم .
5/عدم تجانس البناء الاجتماعي : تؤثر مظاهر الاضطرابات والتفكك داخل المجتمعات .

ومن جهة أخرى يتناول مثلا بوتومور فكرة أو مفهوم التطور خاصة وان هذا المفهوم قد تم استعارته من نظريات التطور البيولوجي التي ظهرت خلال القرن 19 وظهرت بوضوح في تحليلات مجموعة كبيرة من علماء الاجتماع من أمثال هربرت سبنسر ، سواء في كتابة الاستاتيكا الاجتماعية أو كتابه أسس علم الاجتماع حيث عقد نوع من المماثلة بين المجتمع والكائن الحي ، وبين النمو الاجتماعي والنمو العضوي وان كان لم يعرض كثيرا لمفهوم التطور الاجتماعي
و نجد أيضا إن مفهوم النمو قد يستخدم ليشير إلى عملية التنمية وخاصة عندما نحاول أن نعقد نوع من المقارنة بين النمو الاقتصادي الذي حدث في المجتمعات الغربية و التنمية التي كثرت في المجتمعات النامية . و هذا ما ظهر في تحليلات ماكس فيبر عندما سعى لاستخدام كلمة النمو و التنمية لدراسة عمليات معينة من التغير الاجتماعي ، ومعرفة الظروف التاريخية ونوعية التفاعل والسلوك البشري ، وغير ذلك من عمليات لاحقة للتغير يحدث في المجتمعات نتيجة لعمليات النمو والتنمية وهذا ما يجعل كثير من المفاهيم تتداخل مع بعضها عند دراسة موضوع التغير الاجتماعي .

كما سعى “هوب هاوس ” ليوضح العلاقة بين كل من مفهوم التطور ، والنمو والتقدم عندما حلل طبيعة المعنى الدال على هذه المفاهيم وفي استخداماته حيث يقصد بمفهوم التطور باعتباره نوعا من النمو و يقصد بمفهوم التقدم الاجتماعي على انه نمو الحياة الاجتماعية و الخصائص العامة التي يتصف بها الجنس البشري .
و لكن كما يضيف هوب هاوس أن مهمة علم الاجتماع و علماؤه يجب أن تكرس من اجل تحديد المفاهيم التي تربط بين النمو والتطور والتقدم والتغير ، و ذلك عن طريق تطوير نظرياته و إسهامه في زيادة أنماط المعرفة الإنسانية ، وكشفه لعمليات التقدم الصناعي التي تحدث في المجتمع الحديث ، علاوة على ذلك أن حدوث نوع من التداخل في المفاهيم السابقة يجعلنا جميعا نهتم باستخدام مفهوم التغير الاجتماعي و ذلك للإشارة إلى جميع مظاهر التقدم و التطور و النمو ، التي تحدث من المجتمعات الإنسانية ، حتى يمكن دراسة هذه المجتمعات بصورة واقعية و اكثر شمولا و تحديدا للمفاهيم و التصورات والأفكار العامة السسيولوجية التي يستخدمها المتخصصين في علم الاجتماع .
و يبرز مصطلح التخلف بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مع حصول عدد كبير من البلدان المستعمرة على الاستقلال . طارحا هذا المصطلح اكبر قضية أو تحد تواجهه البشرية في القرن 20 وبداية القرن 21 ونعني به النهوض بثلاث أرباع البشرية كي تلحق بركب بلدان العالم الأول**الصناعي الرأسمالي ** وبلدان العالم الثالث ** الاشتراكي ** .
ومن هنا فإن اشد نقاط المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف ، بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون ، فكما أن الأمة نتاج التقنية المتقدمة قد يعاد تفسيرها كي تستخدم بشكل خرافي أو سحري من خلال الأطر المختلفة وتفقد بالتالي قدرتها التغيرية . فالإنسان المختلف يعزز البيئة الاجتماعية التي نشا فيها وهذا بمقاومة تغييرها وتتميز المقاومة التي يبديها وغي التخلف بالعنف وردود الأفعال المتفرقة لذلك تكثر الأحزاب والشيع في البلاد المختلفة .
كما نعني بالتخلف ظاهرة وعلاجها يجب أن يكون شموليا يصل إلى كل مواطن ومقاومة التغيير التي يتضمنها ويتصدى لها بنفس طويل . فالعقل الانتقادي هو عقل جماعي بالدرجة الأولى فليس في وسع أي فرد أو مجموعة من الناس أن يتناولوا واقعهم كله بالنقد ، ولكن إذا عم الوعي النقدي فانه يخلق عقلا جماعيا قادرا على الخروج من وعي التخلف ووضع الأسس لعقل التقدم وهو العقل الذي يؤمن بان من حق الإنسان أن يعيش حياة أفضل ، وان بالإمكان رفع مستوى الحياة عن طريق العدالة والتعليم وتامين المسكن والتأهيل المهني …..
………………………………………….. ……………………………………
مدخل في علم الاجتماع …… صلاح الدين شروخ ص
18التفكير الاجتماعي ……. عبد الله عبد الرحمان ص 102

الخاتمة :

وعموما فان التغير الاجتماعي لايمكن حدوثه إلا في ضوء وجود عناصر من العوامل المسببة والمحدثة له . والتي تشمل العوامل الفكرية ، الثقافية ، والبيئية والجغرافية وغيرها علاوة على سعي العلماء لمعرفة أنماط التغير الاجتماعي الذي حدث في المجتمعات البشرية وما هي معدلات التغير ومستوياته وغير ذلك من العمليات المتخصصة التي اهتم بدراستها علم الاجتماع مخصصها عن غيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى ، من حيث واقع معالجتنا ودراسة قضاياها ومشكلات ظواهر الحياة الاجتماعية التي نعيشها في الوقت الراهن …

المراجع

*الثقافة …دراسة في علم الاجتماع الثقافي …. عبد الحميد رشوان
*التفكير الاجتماعي …..عبد الله عبد الرحمان
*مدخل في علم الاجتماع ……صلاح الدين شروخ
*التطور والتخلف ….. الغرب بعيون عربية ….. حسن حنفي
*التغير الاجتماعي وأساليب الاتصال ……. محمد عودة


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .


مشكوررررررررررررررررررررر جدا تعليم_الجزائر

التصنيفات
علم الاجتـماع

بحث عن الحالة المدنية


الحالة المدنية

تأسيس الحالة المدنية
بعد صدور الأمر رقم 66- 307 المؤرخ في: 28 جمادى الثاني 1386 الموافق لـ 14 المتضمن شروط تأسيس الحالة المدنية والأمر رقم: 66 المؤرخ في: 13 ذي الحجة 1389، الموافق 19/ 02/ 1970 المتعلق بالحالة المدنية.

ضمن العائلة تمثل العنصر الأساس في حالة الأفراد المدنية فسواء كان الفرد قاصرا أو بالغا عازبا أو متزوجا، فإن حقوقه واجباته نحو أفراد عائلته ونحو الآخرين تتغير وبهذا يمكن لنا أن نعرف بأن الحالة المدنية بكونها كيفية التواجد الشرعي للفرد داخل العائلة وداخل المجتمع وهي تعتمد على أهم الأحداث المميزة بحياته
الولادة، الزواج، الوفاة:
إذا فالحالة المدنية هي أحد المحاور الأساسية للحياة الإدارية للبلدية وفي نفس الوقت هي المحور للأعمال الإدارية مما أولاها المشرع عناية خاصة حيث أنها مهيكلة من القمة إلى القاعدة
تسيير مصالح الحالة المدنية إن مصالح الحالة المدنية تتركز في أداء مهامها على ركيزتين أساسيتين هما مسك سجلات الحالة المدنية و مسؤولية ضابط الحالة المدنية
أولا فيما يتعلق بمسك سجلات الحالة المدنية:

ورد في المادة 06 من الأمر 70-20 المؤرخ في: 19/02/1970 أن جميع عقود الحالة المدنية تسجل في كل من بلديات القطر في ثلاثة (03) سجلات يتكون كل سجل من نسختين و هي:

» سجل عقود الميلاد.
» سجل عقود الزواج.
» سجل عقود الوفاة.

وقبل أن يتم العمل بهذه السجلات توضع بمكتب رئيس المحكمة قبل بداية السنة الجديدة لترقيمها والتأشير عليها من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة في الفاتح من كل سنة جديدة تمسك السجلات ويكون تحرير العقود على النحو التالي تكتب العقود في السجلات الواحد تلوى الأخرى وذلك بالترتيب دون إحداث أي تشطيب أو حشر أو ترك بياض أو الكتابة بين الأسطر.
تختم في النهاية كل سنة وتحديدا في 31 من شهر ديسمبر تختم السجلات وتقفل من طرف ضابط الحالة المدنية وبعد مرور شهر واحد تودع نسخة من السجلات لدى مصلحة الحالة المدنية للعمل بها وفي نفس الوقت ترسل النسخة الثانية إلى مصلحة الحالة المدنية لدى المجلس القضائي لدائرة إختصاص البلدية.

تسجيل البيانات الهامشية:

يقوم ضابط الحالة بتسجيل عقود الحالة المدنية الواردة إليه من مكان إختصاص بلدية أو حكم قضائي يتعلق بالحالة المدنية وبصدد الحديث عن تسجيل البيانات الهامشية فإنه يتعين على ضابط الحالة المدنية الذي حرر العقد أن يشير إليه في السجلات الموجودة لديه خلال ثلاثة (03) أيام وإذا كانت النسخة الثانية من السجل التي يجب فيها التسجيل موجودة بكتابة الضبط بالمجلس القضائي ففي هذه الحالة يرسل إشعار وذلك إلى السيد: النائب العام وكذلك بالنسبة للعقد الذي سجل في بلدية أخرى مثلا:
(الزواج) يرسل الإشعار في أجل ثلاثة أيام إلى ضابط الحالة المدنية بهذه البلدية يقوم على الفور بإشعار السيد النائب العام.
ثانيا مسؤولية ضابط الحالة المدنية:
يمكن القول أن ضابط الحالة المدنية هو قاضي مدعم بالسلطة القضائية والسلطة المدنية وهو شخصية مدنية مكلف بمهمة تمنحها صلاحيات وتوضع على عاتقها مسؤوليات.
ضابط الحالة المدنية هم رئيس المجلس الشعبي البلدي ونوابه بتفويض منه ورؤساء البعثات الدبلوماسية و القناصلة في الخارج، فضابط الحالة المدنية يجمع في نفس الوقت من السلطة القضائية والسلطة الإدارية وحتى السلطة الدبلوماسية لما يتعلق الأمر بتمثيل وزارة الخارجية خارج التراب الوطني، وأن مسؤولية ضابط الحالة المدنية عن الأخطاء التي قد يرتكبونها بأنفسهم أو بواسطة الأعوان المفوضين من طرفه أثناء ممارستهم لوظائفهم المتعلقة بسجلات الحالة المدنية ووثائق الحالة المدنية والتي يمكن أن تنتج عنها ضرر للمواطنين أو للمصلحة العامة فهنا نلاحظ أن مسؤولية ضابط الحالة المدنية تعتبر مسؤولية شخصية ويعني أن الخطأ الناتج عن تصرفه محسوب عليه كخطأ شخصي ولقد نصت المادة 26 من قانون الحالة المدنية على أن يمارس ضباط الحالة المدنية مسؤولياتهم تحت رقابة السيد النائب العام، وتجدر الإشارة إلى أن قانون الحالة المدنية قد أخضع ضابط الحالة المدنية إلى رقابة مزدوجة رقابة قضائية ورقابة إدارية.
وتم إسناد الرقابة القضائية إلى السيد النائب العام التي توجد البلدية في نطاق إختصاصه ومهمة الرقابة الإدارية إلى السيد الوالي التي توجد البلدية في نطاق إختصاصه.
1- إجراءات التصحيح القضائي:
1• الوثائق المطلوبة لتكوين الملف:
• الحالة الأولى:
تصحيح اللقب على عقد ميلاد بحيث أن لقب المعني مختلف كثيرا عن اللقب الأصلي.
– طلب موجه إلى السيد / وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضائه.
– شهادة ميلاد وزواج المعني بالتصحيح من السجل الأصلي.
– عقد زواج والدي المعني بالتصحيح من السجل التجاري.
– شهادة عائلية لوالدي المعني.
في حالة عقد الزواج لكبر سن المعني أو عدم تسجيله بالبلدية يجب إمضاء عقود ميلاد الإخوة والأخوات للمعني مع إجراء تحقيق مع أحد إخوته يؤكد نسبه وفي حالة عدم وجود الإخوة إجراء تحقيق من طرف الدرك الوطني أو الشرطة (الضبطية القضائية) مع إحضار شهادة عدم التسجيل من البلدية.
– شهادة ميلاد (الأب، الأم) المعني من السجل الأصلي زائد (+) شهادة ميلاد الجد في حالة تصحيح اللقب.
شهادة ثبوت شخصية
– عقد زواج والدي المعني بالتصحيح في حالة تصحيح عقد (الميلاد)
– شهادة عائلية.

تكوين ملف تسجيل عقد الميلاد:
• الحالة الأولى:

في حالة المعني على قيد الحياة:
– طلب إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضائه من طرف
البلدية.
– عقد زواج والدي المعني من السجل الأصلي.
– شهادة عائلية والدي المعني بالتسجيل.
– شهادة ميلاد (الأب، الأم) المعني من السجل الأصلي زائد (+) شهادة ميلاد
الجد في حالة تصحيح اللقب العائلي.
– شهادة عدم تسجيل الميلاد بالبلدية.
– شهادة طبية لتقدير السن، عليها صورة المعني بالتسجيل.

• الحالة الثانية:

المعني بالتسجيل متوفي ولم يتم تسجيل ميلاده.
– طلب إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضائه من طرف
البلدية.
– لفيف الميلاد.
شهادة وفاة المعني بالتسجيل في حالة وجودها.
– شهادة عدم تسجيل الميلاد بالبلدية.
– شهادات ميلاد الأبناء والإخوة زائد (+) شهادات ميلاد الوالدين.

• الحالة الثالثة:

المعني بالأمر متوفي ولم يتم تسجيل ميلاده ووفاته:
– طلب إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضاءه من طرف
البلدية.
– لفيف الميلاد.
– شهادة عدم تسجيل الميلاد والوفاة بالبلدية.
– إجراء التحقيق.
– شهادات ميلاد الأبناء والإخوة زائد (+) شهادات ميلاد الوالدين.

ملف تسجيل الوفاة:

– طلب إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضائه من طرف
البلدية.
– شهادة ميلاد المعني بالتسجيل من السجل الأصلي.
– شهادة بالوفاة، وثيقة محررة من البلدية.
– محضر تحقيق يجري مع صاحب الطلب و شاهدين حضرا واقعة الوفاة.
– شهادة عدم تسجيل الوفاة بالبلدية.

ملف تسجيل الزواج:

– طلب إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق إمضاءه من طرف البلدية.
– شهادة عدم تسجيل عقد الزواج للمعني بالبلدية.
– إقرار بالزواج من الموثق.
– شهادة ميلاد الزواج والزوجة من السجل الأصلي.
– شهادة طلاق الزوج أو الزوجة في حالة طلاق الزوج أو الزوجة.
– شهادة زواج مع الزوجة الأولى في حالة زواج ثاني زائد (+) شهادة علم
الزوجين.
– تصريح شرفي بالعزوبة سابقا (الزوج – الزوجة).
– بطاقة المعلومات تملأ من طرف أمين الضبط بحضور الزوج و الزوجة و شاهدين.

الوثائق المطلوبة لتغيير الإسم:
• الحالة الأولى:

المعني يحمل إسمين على السجل الأصلي والثاني على الدفتر العائلي أو يعرف بإسم ثاني.
– طلب موجه إلى السيد وكيل الجمهورية ممضي ومصادق على إمضاءه من
طرف البلدية
– شهادة ميلاد المعني من السجل الأصلي.
– شهادة ميلاد المعني من الدفتر العائلي.
– الوثائق التي تثبت أن المعني قد عاش بالإسم الموجود على عقد الميلاد
المستخرج من الدفتر العائلي.
– شهادة مدرسية.
– بطاقة التعريف الوطنية………….الخ.

• الحالة الثانية:

المعني يريد الإسم للأسباب خاصة يجب ذكر الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى طلب تغيير إسمه.

مثلا: وجود الإسم بكثرة في العائلة.

– إسم غير لائق وغير معروف. أما الوثائق فهي نفسها في الحالة السابقة

كيفية تنفيذ الأوامر القضائية:

بعد الإمضاء على الأصل من قبل الرئيس وبعد إدخالها الفهرس يقوم السيد أمين ضبط الحالة المدنية بحفظ الأصل تحت إشراف السيد وكيل الجمهورية إرسال الأوامر الصادر إلى البلدية المعنية والثانية إلى أمانة الحالة المدنية للمجلس القضائي والثالثة تسلم للمعني بالأمر.

الرقابة والتفتيش:

إجراءات التفويض القانوني للمحلفين القائمين بتلقي التصريحات بالولادات والوفيات وتسجيل وقيد جميع العقود أو الأحكام في سجلات الحالة المدنية، وكذلك تحرير جميع العقود المتعلقة بالتصريحات المذكورة آنفا.

– التأكد من إرسال التفويض إلى النائب العام والوالي.

– التأكد من تسجيل التأشيرات الهامشية على عقود الحالة المدنية.

– التأكد من مدى سهر ضباط الحالة المدنية على حفظ السجلات الجاري
إستعمالها و سجلات السنوات السابقة المودعة بمحفوظات البلدية.

– التأكد من وجود ثلاث سجلات خاصة بالولادات و الزواج و الوفيات و أن
كل سجل يتشكل من نسختين واحدة بالبلدية والأخرى بالمجلس القضائي.

– مراقبة ترقيم السجلات من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة و التحقق
من أنها مؤشرة من قبل رئيس المحكمة أو القاضي الذي يحل محله.

– مراقبة تسجيل العقود في السجلات بالتتابع دون أي بياض أو كتابة بين
الأسطر و التحقق من التصديق و التوقيع على عمليات الشطب و الإلحاق
بنفس الطريقة التي يوقع بها مضمون العقد.

– مراقبة ختم و قفل السجلات من قبل ضباط الحالة المدنية عند إنتهاء كل
سنة و التحقق من إرسال النسخة الأخرى لكتابة ضبط المجلس.

– مراقبة إنجاز الجداول السنوية والعشرية.


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .