التصنيفات
تاريـخ,

الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض

الحضارة الإسلامية بين أسباب التدهور وعوامل النهوض


الدكتور إبراهيم غانم

20/01/1431 الموافق
05/01/2010

حتى وقت قريب ساد الظن لدى كثيرين من المعنيين بشؤون الفكر والإصلاح الاجتماعي العام أنه قد تم التغلب على مشكلة الاحتلال العسكري الذي جثم على أغلبية البلدان العربية والإسلامية (ولم يبق إلا الاحتلال الاستيطاني الصهيوني)، وأن عبء التحرر من الاستعمار المباشر قد زال إلى غير رجعة، وأن ما تملكه الأمة من طاقات يمكن أن يستثمر من أجل التصدي للمشكلات، وحتى وقت قريب أيضاً ساد الظن بأننا ماضون على طريق التخلص من المشكلات الأخرى التي أعاقت التقدم وعطلت نهضة الأمة منذ قرنين من الزمان تقريباً، ومن ذلك القضايا المتعلقة بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات العامة، وأوضاع المرأة، والانحطاط الأخلاقي.

ولكن بدلاً من التقدم إلى الأمام إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تجد نفسها تتقهقر إلى الخلف، وإذا بالقضية التي ظننا أنها حُلت تعود بشكل أكثر شراسة، ألا وهي قضية الاستعمار في شكله العسكري المباشر، إلى جانب أشكاله الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية غير المباشرة الأخرى التي لا تزال تراوح مكانها. إن الأحداث الجارية في الآونة الأخيرة، كلها تشير إلى عودة الشعور بالتبرم بشكل مضاعف مع عودة مشكلة الاحتلال العسكري التي غلب على الظن أنها قد حسمت، وأن حزمة المشكلات قد أعيد إليها ما نقص منها في وقت سابق، بما تحمله هذه العودة غير الحميدة من ضرورة إعادة ترتيب أولويات التصدي لهذه المشكلات؛ وكأنه لم تمر مائتا سنة أو يزيد عندما نهضت قوى الأمة الحية لمواجهة الغزو الغربي ورفعت في وجهه راية الجهاد. ومن ثم فإن من المنطقي أن يعاد طرح السؤال الأكبر الذي تدخل تلك المشكلات كلها تحت عباءته ألا وهو: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم(1)؟

لقد طرح هذا التساؤل، وبهذه الصيغة التي تقارن بين المسلمين وغير المسلمين، لدى رواد الفكر والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث؛ أي منذ ما يقرب من مائتي عام، ولم تختلف الإجابات التي قدموها إلا في بعض التفاصيل، أما جوهر الأسباب كلها فقد كان واحداً لديهم وهو أن البعد عن جوهر الإسلام هو سبب الأسباب التي أدت إلى التدهور، وأن التمسك بهذا الجوهر هو سبب الأسباب التي تقود إلى النهضة.

وأياً ما كان الأمر فمثل هذا التساؤل يعدُ تساؤلاً أساسياً وحساساً في آن واحد؛ فهو أساسي لأن الإجابة عنه سوف تعبر عن مدى وكيفية فهم صاحب الإجابة للواقع الذي صار إليه حال المسلمين، ومثل هذا الفهم بدوره أمر ضروري، كمقدمة ومدخل للتعامل مع هذا الواقع ووضع خطة لتغييره إلى ما هو أصلح. وهو تساؤل "حساس" بالنسبة للمسلمين خاصة لأنه في صيغته المقارنة يفتح الباب للمناقشة حول "الإسلام ذاته" وما إذا كان سبباً في انحطاط المسلمين؛ حسبما يزعم البعض.

ويبدو لنا أن من اللازم بداية بيان: لماذا نهض المسلمون وازدهرت حضارتهم وسادت الدنيا أول مرة؟ وذلك قبل المضي في بيان أسباب انحطاطهم وأفول نجم حضارتهم، فثمة علاقة وثيقة بين الأمرين كما تقضي بذلك شهادة التاريخ، فقد شهد أنهم يوم تمسكوا بتعاليم الإسلام سادوا وشادوا وعمروا الأرض وأناروا للإنسانية طريق التقدم والرقي، وقدموا حضارة امتدت منافعها إلى كل المجالات. بعد ذلك ابتعدوا عن التعاليم السامية لهذا الدين، وجهلوه وأهملوه، ولبسوه كما يُلبَس الفرو مقلوباً… فوصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم مرة أخرى عودة صادقة وصحيحة.

وإذا كانت "العلة" في تنكر المسلمين لدينهم كما يرى كثيرون من رواد الإصلاح فإن ما يوقع في الحيرة هو: لماذا إذن تخلى المسلمون عن تعاليم دينهم وأهملوها بعد أن رأوا أنها كانت سبب عزهم ومجدهم؟ ليس ثمة بد من طرح القضية ضمن إطار أشمل يفسر حركة التاريخ والسنن الكونية لصعود وهبوط الحضارات في مسيرة التقدم الإنساني بصفة عامة.

إن قضية النهضة لا تخرج عن كونها سنة من سنن الله في حياة الأمم "فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف.. فالأمة تقوى إذا حددت غايتها، وعرفت مثلها الأعلى، ورسمت منهاجاً عملياً ينظم حركتها، وصممت على الوصول إلى الغاية وتنفيذ المنهاج ومحاكاة المثل الأعلى مهما كلفها ذلك من تضحيات، وعندما تنسى الغاية وتجهل المثل وتضل المنهاج وتؤثر المنفعة والمتعة على الجهاد، وتنحل الأخلاق، ويكون مظهر ذلك الإغراق في الترف والقعود عن الواجب، حينئذ تأخذ الأمة في الضعف ويدب إليها دبيب السقم الاجتماعي، ولا تزال تضعف حتى تهيئ لنفسها عوامل التجدد فتتجدد أو لا تهيئ لنفسها هذه العوامل فتبيد. فالبشرية تسير قدماً نحو الكمال الذي كتبه الله لها يوم شاء أن يستخلف الإنسان في الكون وسخر له ما في السموات والأرض، وهي في محاولتها هذه أحياناً تستوحي الشعر والخيال وإن كانت بين الخطأ والصواب في استلهامها هذا..

وأحياناً تستوحي الفكر والعقل فيرشدها إلى تجارب في تكوين الأمم وتربية الشعوب كثيراً ما تكون طويلة المدى، وكثيراً ما تنزع بها المعاكسات العاطفية إلى جهة الخطأ فتصبح عقيمة النتائج فاسدة الآثار، لهذا اقتضت حكمة الله ورحمته بالناس أن يشد أزر العقل والقلب بنواميس ونظم إلهية تقرب على الإنسان المدى وترشد البشرية إلى مدارج الكمال الذي كتب لها"(2).

وفي التاريخ شواهد تؤكد ما ذكرنا: فقيادة الدنيا كانت في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها نبوات موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية يظلها لواء العدل والمساواة والحرية والرحمة، فإذا بالدنيا تنعم مرة أخرى بالسلام الإسلامي.

_______________________

الهوامش :
1 – صيغة هذا السؤال هي عنوان كتاب للأمير شكيب أرسلان، والكتاب عبارة عن جوابه، الذي يشرح فيه أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، ثم أسباب انحطاطهم مع بيان أسباب تقدم الأوروبيين.
2 – انظر: حسن البنا، دعوتنا في كتاب الله: من وظائف القائد جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية 19ربيع الأول 1355ه -9 يونية 1936م.

__________________________________________________ _____

العوامل الداخلية لتأخر المسلمين

في سياق تتبعنا لحركة التاريخ يلفت نظرنا ما يمكن تسميته "دور المفسدين في تخريب الحضارات"، وقد نال هذا الدور اهتمام القرآن وأحاديث الرسول ص حيث نجد التأكيد الدائم على إدانة هؤلاء المفسدين من الظالمين والمستبدين والجهال وأدعياء العلم والمغالين.

ويمكن القول إن قضية الانحطاط الحضاري يجب النظر إليها في إطار ارتباطها بسنن كونية صارمة، منها ما ورد النص عليه في القرآن الكريم ومنها ما أكدته حوادث التاريخ، إلا أن ذلك لا يعني عدم بحث القضية من منظور اجتماعي سياسي لمعرفة كيف حدث الانحطاط من خلال الممارسات العلمية اجتماعياً وسياسياً حتى فقد المسلمون مركز السيادة، وانتقلت قيادة البشرية إلى الغرب، وذلك كمحصلة لمجموعة من عوامل الضعف والانهيار من داخل المجتمع ومن خارجه.

تشمل عوامل الضعف والانهيار النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية، وقد تجسدت المحصلة النهائية التي أدت إليها تلك العوامل في حقيقة واقع الانحطاط. تلك الحقيقة تجسدت مرتين في حياة الأمة الإسلامية: كانت الأولى في القرن السادس الهجري، عندما تم تمزيق كيان الأمة والقضاء على الدولة الإسلامية المركزية بأيدي التتار، وكانت الثانية في القرن الرابع عشر الهجري عندما سقطت البلدان الإسلامية واحدة تلو الأخرى تحت هيمنة الاستعمار الأوروبي، وفي المرتين كانت عوامل التحلل والانحطاط قد تسللت إلى كيان الأمة وتركت وراءها أمماً مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب إلى النهوض، لكنها لا تقدر على ذلك بسبب المنازعات والحروب الداخلية. وفيما يلي بيان رؤيتنا لمختلف العوامل الداخلية التي أدت إلى الانحطاط:

1 – العوامل الاجتماعية: وهي عبارة عن مجموعة من الممارسات والسلوكيات التي أدت إلى انقلاب في أوضاع القيم التي قام عليها المجتمع الإسلامي. وقد تمثلت مقدمات هذا الانقلاب في "ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك التواصي بالحق والصبر وإهمال التناصح، وفساد العرف العام، فاضطربت موازين الحسن والقبح في الأمة، وفي ظل تلك الظروف حدث الانقلاب، وانهار البناء الاجتماعي(1).

وفي تحليل عوامل الضعف في المجتمع يمكننا الانطلاق من قول الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).

ويرى ابن خلدون أن ظواهر الانغماس في "الترف" و"طغيان النساء" و"فسق الشباب"؛ تلك الظواهر هي نتيجة لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والابتعاد عن المبادئ والقيم التي حض عليها الإسلام، وحذر من التهاون فيها.

وثمة علاقة بين شيوع عناصر التحلل وتداعيات نتائجها في المجتمع، وبين أن يصبح هذا المجتمع عرضة للوقوع تحت هيمنة قوى أجنبية متسلطة فيظهر من ثم "الاستعمار"، وهذه العلاقة هي التي عناها مالك بن نبي فيما بعد بما أسماه "القابلية للاستعمار"، حيث يصير الاستعمار في تلك الحالة "ضرورة تاريخية"(2).

ولكن من المسؤول عن بدء سريان عوامل التحلل والضعف الاجتماعي في كيان الأمة؟ يرى البعض "أن طغيان النساء هو الشرارة الأولى التي تفسد الحياة الاجتماعية للأمة(3)، ويحدد ما يعنيه بطغيانهن فيقول: "إذا جاوزت المرأة الحدود التي حدها لها الدين وخرجت على قانون الطبيعة وخالفت وظيفتها في الحياة وتناهت في التزين والتبرج (…) ودانت بالإباحية والتهتك، كان ذلك أول مؤذن بدبيب الفساد إلى صميم الأمة القوية"(4)، كما قال الإمام البنا يرحمه الله.

وطغيان النساء سبب للفساد من منظور أن الطغيان في أي شيء يمكن أن يؤدي إلى الانحلال، لكنا نميل إلى اعتبار ما ذكره البنا عن طغيان النساء وتجاوزهن وظيفتهن في الحياة مظهراً من مظاهر الانحطاط والتدهور في حياة الأمة أكثر من كونه سبباً من أسبابه، فضلاً عن أن يكون أول بداية للفساد في "صميم الأمة القوية"، وذلك لسببين على الأقل: الأول هو أن ما ذكره لا ينطبق على ما حدث للأمة الإسلامية في الماضي وهي قوية، إذ من الأرجح أن تكون جرثومة الفساد السياسي واستبداد الحكم هي أصل كل فساد جرى بعد ذلك في المجتمع، والثاني هو أن ما ذكره لا ينطبق على واقع الأمة في العصور الحديثة، حيث كانت قد وصلت بالفعل إلى أدنى دركات الضعف والاستكانة، كما أن أوضاع المرأة كانت في غاية السوء، الأمر الذي دعا أنصار التغرب والاقتداء بأوروبا إلى المناداة بتحرير المرأة ومنحها حقوقها ومساواتها بالرجل… إلخ.

والحق أنه لا يمكن فهم العبارات السابقة عن المرأة ودورها إذا طغت بالمعنى المشار إليه في إفساد الحياة الاجتماعية، بعيداً عن سياق الجدل الفكري وخصائص المرحلة التي هيمن فيها الاستعمار الأوروبي على العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين؛ إذ كان الصراع دائراً على أشده خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين حول ما كان يسمى "القديم" و"الجديد"، وإلحاح أنصار الجديد في الدعوة لخروج المرأة ومشاركتها للرجل في العمل مشاركة الند للند في كل الأعمال بلا تمييز، ونبذ الحجاب، والاقتداء بالمرأة الغربية في كل شيء كجزء من التوجه العام لدعاة "التغرب" أو "الفَرْنَجة". وكان لابد في ظل هذا المناخ من التحذير من مخاطر التوجه نحو الغرب لاعتبارات كثيرة منها ما يتعلق بقضية الاستقلال، ومنها ما يتعلق بالهوية الإسلامية والحرص على عدم الذوبان في نمط الحياة الغربية.
____________________________

الهوامش

1 – انظر وقارن هذه النتيجة التي تؤدي إليها رؤية البنا مع ما يصل إليه مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، المجتمع س ذ.، ص 29 30.
2 – انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص18، 99، وتكاد رؤيته تتفق تماماً مع ما ذكره البنا، والسبب الأساسي في هذا الاتفاق هو صدور البنا وابن نبي عن مصدر واحد وهو القرآن وما نص عليه من سنن كونية مطردة.
3 – حسن البنا، من أعلام النبوة، ج. أ. المجتمع . س. 21213 ربيع الثاني 1353ه.
4 – المقال السابق نفسه.

__________________________________________________ _____

العوامل السياسية لتأخر المسلمين

بعد عرض العوامل الاجتماعية الداخلية لتأخر المسلمين نتطرق اليوم للعوامل السياسية:

2 – العوامل السياسية: وهي مجموعة العوامل التي ارتبطت بوضع السلطة في تاريخ الدولة الإسلامية وانحرافات القائمين عليها في ممارساتهم المختلفة عن النسق القياسي لها، كما كان في فترة الخلافة الراشدة. وأهم ما نركز عليه في هذا الصدد كأسباب أدت إلى التدهور والانحطاط كثرة الخلافات السياسية، وعودة النزعة العصبية والشعوبية، وانغماس حكام المسلمين في ألوان الترف والتبذير (…) حتى أثر ذلك عن حكام المسلمين في كثير من العصور السابقة ولا يزال كثير منهم حتى عصرنا الراهن ما لم يؤثر عن غيرهم، مع أنهم يقرأون قول الله تبارك وتعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16) (الإسراء).

وينظر البعض إلى وصول عناصر غير عربية من الفرس وغيرهم إلى السلطة باعتباره عاملاً من العوامل السياسية التي أسهمت في الانحطاط، والسبب في رأيهم أن أمثال هؤلاء من الفرس والديلم والمماليك والأتراك وغيرهم هم "ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه، مع أنهم يقرءون أي الخلفاء الذين استخدموا تلك العناصر في الحكم قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون 118 (آل عمران) (1).

ويؤكد هذا المعنى الإمام محمد عبده، وهو يصور استبداد تلك العناصر بالسلطة دون الخلفاء فيقول: "هنالك استعجم الإسلام وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحمل ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يجعل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون، كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولى أمره"(2).

إن ما سبق لا ينطوي على أي اتجاه للغض من شأن المسلمين غير العرب كما قد يتبادر إلى الذهن فقط نحن نقرر حقيقة تاريخية أظهرت أن تلك العناصر أسهمت في الإفساد للأسباب السابق ذكرها، وليس من الممكن إنكار الجهود التي بذلها بعض المماليك والأتراك على سبيل المثال في مجال الدفاع عن ديار الإسلام وتحريرها من التتار والصليبيين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، وسيف الدين قطز….الخ.

وثمة أهمية "لترف الحكام" وغرورهم بسلطانهم والانخداع بقوتهم في تفسير حالة الانحطاط التي وصل إليها العالم الإسلامي؛ إذ غالباً ما يصحب الترف والإهمال والطغيان وغياب الشورى إهمال النظر في التطور الاجتماعي وإهمال مصالح الأمة بشكل عام، وينطبق هذا على القرون الأخيرة في تاريخ الدولة الإسلامية، وهي القرون نفسها التي كانت أوروبا تشهد فيها حركات النهضة والثورات الصناعية والاجتماعية والعلمية، ومن ثم يمكن القول إن إدانة سياسة العزلة التي فرضتها الدولة العثمانية على العالم الإسلامي في العهود الأخيرة لتلك الدولة، لا تقل أهمية عن إدانة الإعجاب بنمط حياة الغرب، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم، والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية، والتحذير من مغبة هذا التقليد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين 100 (آل عمران).

___________________________

الهوامش :

1 – انظر: حسن البنا، شعب دين الإسلام، مقال بمجلة التعارف الأسبوعية، 6 5 14صفر 1359 13مارس 1940، حيث يذكر: "أن ضعف المسلمين سياسياً وروحياً كان على أيدي الموالي وأبناء الأجنبيات عنهن".

2 – انظر: محمد عبده، الإسلام والنصرانية، 134، 135.

__________________________________________________ _____

العلل الفكرية والعوامل الخارجية لتأخر المسلمين

* العلل الفكرية: إن المسلمين قد أصابت عالم أفكارهم مجموعة من العلل التي أدت إلى الركود، وكانت من مظاهر الانحطاط في الوقت نفسه. وهي نابعة في جملتها من الجهل بالإسلام، شأنها شأن العلل الاجتماعية والسياسية. ويمكن القول إن "الخلافات الدينية والمذهبية" التي وقعت بين المسلمين تأتي في مقدمة العلل الفكرية التي أدت إلى انحطاطهم، فمثل تلك الخلافات صرفتهم عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.

وكان "الجمود" أو "كابوس التقليد" من أهم الآثار التي أوجدها "التعصب للرأي، كما أن علة الجمود كانت في حد ذاتها من أخطر العلل التي أصابت الحياة الفكرية، ويكفي أنها كرست حالة الفرقة وأدت إلى مزيد من تمزيق وحدة الأمة في سبيل الانتصار للرأي والتشبث به، وعدم الاجتهاد لفهم آراء الآخرين وإزالة نقاط الخلاف، وتوحيد قوى الأمة، ولمّ شتاتها لتكون أقوى على مواجهة التحديات.

ويضاف إلى ما سبق ما تشهده مجتمعات الأمة أيضاً منذ قرنين تقريباً من انقسام يشق النخب الثقافية والفكرية من أبنائها بين فريقين غير متجانسين هما المتغربون والسلفيون، أما الفريق الأول من المتأوربين فأنصاره يدعون إلى اقتفاء أثر الحضارة الغربية بحلوها ومرها، ما يحب منها وما يستكره (على حد تعبير طه حسين الذي تزعم هذا الاتجاه خلال النصف الأول من القرن الماضي)، وأما الفريق الثاني من المتمسكين بالأصول الكبرى التي قامت عليها الحضارة الإسلامية وازدهرت بسببها فهم على النقيض من الفريق الأول، يقفون موقف الأصالة والمحافظة على الهوية الذاتية للأمة، ويدعون إلى تأسيس النهضة المرجوة على الأسس المستمدة من العقيدة الإسلامية التي تدين بها الأمة في أغلبيتها الساحقة، ويرون أن التفريط في هذه الأصول هو السبب الرئيس لحالة الانحطاط والتخلف التي تعانيها الأمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن طريق النهضة لابد أن يبدأ بالعودة إلى هذه الأصول.

وفي رأينا أن للاستبداد السياسي دوراً في إيجاد واستمرار العلل الفكرية في حياة الأمة، فالرؤساء والحكام الذين يحكمون بالقهر ويكبتون الحرية ويأبون أن يصل بصيص النور إلى أممهم ورعاياهم، أو يتسرب شعاع العلم والمعرفة إلى دورهم (…) سجانون، حكموا على هذه الشعوب بسجن مؤبد؛ لأنهم عن نور العلم محجوبون، ومن لذة المعرفة محرومون.

* العوامل الخارجية : تتمثل هذه العوامل في محاولات القضاء على الأمة الإسلامية من قبل أعدائها في العصور السابقة، ومن قبل القوى الاستعمارية في العصر الحديث، وقد تمكنت هذه القوى من إخضاع البلدان الإسلامية كافة ووضعها تحت سيطرتها منذ ما يقرب من قرنين.

ولا تنفصل محصلة العوامل الداخلية للانحطاط عن دور العامل الخارجي، فثمة علاقة ارتباطية وثيقة بين الجانبين ضمن الإطار الأشمل للصراع الحضاري بين الشرق والغرب؛ ذلك لأنه إذا كانت العوامل الداخلية قد مهدت للغزو من الخارج وهو ما عبر عنه مالك بن نبي ب "القابلية للاستعمار" و"الاستعمار" فإن التقاءهما تمخض عنه واقع العالم الإسلامي في تاريخه الحديث والمعاصر الذي عبر عن وصول حالة الأمة الإسلامية إلى قاع التدهور الذي تعيشه في واقعها الراهن.

ورغم كل ما سبق، ورغم أن كل الأوضاع في ظاهرها تدعو المتعجل إلى الشعور بالعجز أو الإحباط من الإصلاح، فإن يقظة روح التحدي التي نشهدها على مستويات متعددة: فكرياً وحركياً، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، كلها ترجع إلى اشتداد الهيمنة الاستعمارية، كما ترجع أيضاً إلى الرغبة في التخلص من عناصر الضعف الداخلية. ونحن نختلف في رؤيتنا تلك للأثر الإيجابي للتحدي الاستعماري الغربي، عن رؤية فريق المتغربين الذين رأوا في الوجود الاستعماري عاملاً من عوامل التحديث والأخذ بأيدي البلدان المتخلفة نحو التقدم والرقي "الغربي".

والسؤال الآن: ما الخلاصة العملية التي يمكن التوصل إليها من تفسيرنا لأسباب الانحطاط وما وصل إليه حال الأمة؟ إن هذه الخلاصة يمكن صياغتها بإيجاز في القول بأن سر تأخر المسلمين هو ابتعادهم عن دينهم، وأن هذا الابتعاد قد نتج عن الإغراق في الترف وتمثل في الركون إلى الدعة، والتحلل الأخلاقي، والفرقة والخلافات التي مزقت وحدة الأمة فكرياً وسياسياً واجتماعياً، وسيادة أنظمة الحكم الاستبدادي، وتعطيل كثير من أحكام الإسلام وشرائعه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك تعطيل فريضة الشورى، وفريضة الجهاد، فكان من نتيجة ذلك أن سهل على الاستعمار بسط سيطرته وتدمير الدولة الإسلامية. وفي جملة واحدة فإن أعظم ما مني به المسلمون بعد ابتعادهم عن دينهم هو داء الفرقة وانفراط عقد الوحدة.

__________________________________________________ _____

الأسس الروحية والدعائم السياسية للنهضة

تَبيَّن مما سبق ذكره في الأعداد السابقة على هذه الصفحة أن مفهوم النهضة بحكم أنه مستمد من القرآن الكريم يتضمن التقدم المادي (التكنولوجي) أو ما كان يسمى بمصطلحات بدايات القرن العشرين ب"التمدن"، هذا بشرط أن يكون منضبطاً بالقيم الإسلامية، وخاصة ما كان من تلك القيم ذا طابع إنساني عام، بالإضافة إلى طابعها الخاص على المستوى الفردي والاجتماعي كالعدل والمرحمة والتعاون والأخوة الإسلامية.

لكن كيف يمكن أن يتحقق هدف النهضة عملياً ؟ ذلك لن يكون إلا بعودة المسلمين إلى الإسلام وإحياء تعاليمه ومبادئه في مختلف مجالات الحياة، ومن استقراء التاريخ نجد ما يؤكد ذلك؛ فيوم كان المسلمون مسلمين كانوا سادة، ويوم نبذوا هذا الإسلام وشرعوا لأنفسهم وصلوا إلى ما هم فيه، وسيظلون كذلك حتى يعودوا إلى دينهم. وتلخص العبارة السابقة ما يمكن أن نسميه "وجهة النهضة"؛ فهي مرهونة بالعودة إلى الإسلام في صفائه الأول، لا بالتوجه ناحية "الغرب ".

وهذا ما نادى به معظم رواد التجديد والإصلاح الإسلامي في العصر الحديث منذ محمد بن عبد الوهاب مروراً بالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان، وحسن البنا، وسيد قطب وغيرهم. فقد "انطلقوا من مبدأ التوحيد النظري بين الإسلام والمدنية"(1) (أو النهضة) أما الأسس الجوهرية التي ينبغي التعويل عليها من أجل تحقيق تلك النهضة عملياً، فغالباً ما نظروا إليها نظرة أحادية تؤكد أساساً واحداً جوهرياً باعتباره محور القضية وما عداه فروع مكملة له، فمثلاً "كان هذا الأساس عند بعضهم عقيدياً مشتقاً من عقيدة التوحيد، وكان عند بعضهم الآخر سياسياً مستلهماً من ضرورة السلطة الوازعة، وكان عند الآخرين أمراً قيمياً مؤسساً على القيم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية(2).

وقد أدرك البعض أن تعدد علل الانحطاط يستوجب تعدد الأسس التي تقوم عليها النهضة، ومن هنا تعتبر سمة الشمول في النظر والإحاطة بالجوانب المختلفة للقضية، إحدى المحددات المنهجية في التفكير بصفة عامة، وفيما يخص قضية النهضة المنشودة بصفة خاصة.

وليس من المهم الآن الدخول في تفاصيل تفنيد الاتجاهات غير الإسلامية التي جعلت "الغرب" قبلة لها، فقد ثبت لمعظم أصحاب تلك الاتجاهات أنفسهم خطأ توجهاتهم نحو الغرب وتنكرهم للإسلام. إن المهم هنا هو بيان التصورات الفكرية الخاصة بالأسس والدعائم التي تشكل في مجموعها شروطاً لتحقيق النهضة. ويمكن تقسيم تلك الأسس إلى روحية ومادية، وتقسيم الدعائم إلى فكرية وسياسية.
الأسس الروحية والمادية للنهضة .

إن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً للجوانب الروحية والمادية معاً، كأسس لازمة للنهضة، وذلك في مواجهة الأفكار التي تروجها الاتجاهات العلمانية الداعية لاقتفاء أثر الغرب في كل شيء، حتى في الفصل بين الناحيتين المادية والروحية. إن الأمة تحتاج في نهضتها إلى "الإيمان القوى.. المرتكز على قواعد ثابتة من روحها ونظريتها.. وإلى القوة المادية التي يظهر بها هذا الإيمان فيعرب للناس عن وجوده ويبرهن للخصوم على قوته وثباته"(3).

ويشمل الجانب الروحي كأساس للنهضة مجموعة من الأخلاقيات والفضائل النفسية كلها ترتبط وتصدر عن "الإيمان بالله"؛ هذا الإيمان الذي يقتضي الإيمان بعظمة الرسالة الإسلامية، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله لأهلها.

ولهذا فإن من المهم تبديد مشاعر اليأس لدى المسلمين وترسيخ الأمل في نفوسهم. والعبر التي أشار إليها القرآن والتي نبهت إليها السنة وكذلك عبر التاريخ وسنن الاجتماع، كلها تؤكد ما ذكرنا؛ فالقرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، وكذلك يقرن القنوط بالضلال قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56) (الحجر). وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل ونظاماً ربانياً لا يتغير: أن الأيام دول بين الناس وأن القوي (الغرب الآن) لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف (أمة المسلمين الآن) لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد من الأفراد.

ومن الأخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والتي يجب أن يتحلى بها إنسان النهضة الإسلامية المنشودة "خلق الصبر"، وهو أول اللبنات القوية في بناء الأمم الناهضة، وذلك هو السر في أن الله فرضه على المؤمنين وأمرهم به "فلا نهوض إلا بعزيمة ولا نصر إلا مع الصبر"(4). إن تلك الأخلاق وغيرها من الفضائل لن تأتي من "الغرب" صاحب المدنية الحديثة؛ إذ إنه مفتقر إليها أصلاً، وإنما مصدرها الوحيد بالنسبة لشعوب الأمة العربية والإسلامية هو "الإسلام".

وإذا كنا نرى ضرورة قيام النهضة على أسس تجمع بين الروح والمادة، فإن أنصار "التغريب" مازالوا مصرين على آرائهم في ضرورة تقليد الغرب "وإلقاء قنبلة الاستسلام للأوروبي"(5) حسب وصف علي شريعتي هذا في الوقت نفسه الذي سبق أن انتقد فيه كبار مفكري الغرب حضارتهم ويضجون بالشكوى من المأساة الروحية التي تعيشها المجتمعات الغربية.

علينا أيضاً ألا نغفل الجانب المادي كأساس للنهضة، وأن نؤكد أهمية ارتباطه بالعوامل الروحية ومنظومة الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام، وإذا كان كثير من الناس يظن أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب لينهض ويسابق الأمم التي سلبته حقه، فإن ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق ومعرفتها، والإرادة الماضية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة وعنهما تكون القوة. إن العالم الإسلامي لو آمن بحقه وغير من نفسه واعتنى بقوة الروح وعني بتقويم الأخلاق لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.

إن التراث الروحي لأمتنا من شأنه إذا قُدم بشكل صحيح، أن يقيل حضارة الغرب الحديثة من عثراتها الروحية، بل إن الغرب نفسه مضطر إن عاجلاً أو آجلاً إلى الاقتباس من "روحانية الشرق".

__________________________

الهوامش:

1 – انظر: فهمي جدعان: أسس التقدم…، ص 181.
2 – التفاصيل المتعلقة بذلك في المرجع السابق ص 185 541.
3 – حسن البنا، من وظائف الأمة الناهضة، جريدة الإخوان المسلمين 26ربيع الأول 1355ه 16يونية 1936.
4 – حسن البنا، إلى الأمة الناهضة. جريدة الإخوان المسلمين 13ذو القعدة 1355 26يناير 1937.
5 – انظر: علي شريعتي، العودة إلى الذات، ص 60.


اريد هذا البحث ولكن اذا اردت التحديد عليه لم يتحدد

ابغى البحث ذا ماينسخ نفس المشكله

التصنيفات
تاريـخ,

ضوابط ومعايير أساسية في منهج كتابة التاريخ الإسلامي

ضوابط ومعايير أساسية في منهج كتابة التاريخ الإسلامي ( 1 ـ 2)

08/11/1430 الموافق

26/10/2009

عندما نتحدث عن منهج لكتابة التاريخ الاسلامي فإن علينا أن نضع في الحسبان نمطين من المنهجية : عامة وخاصة .
فأما أولاهما فتتعلق بمنهج كتابة البحث التاريخي ، سواء في الدائرة الاسلامية أم خارجها ، إننا هنا بإزاء تقنيات ذات طابع عالمي ، أعانت على تكوينها وتنميتها خبرات الأمم والجماعات والشعوب ، وكان لحضارتنا دور بارز في تشكيلها وإغنائها ، وبمرور الوقت أصبحت أشبه بعرف عالمي متفق عليه في سائر الدوائر الأكاديمية ، بحيث إن أي بحث في التاريخ ، أو أية رسالة جامعية ، لن تستكمل شروطها المقبولة إن لم تلتزم بمطالب هذا المنهج الذي يعرفه جيدا التدريسيون والطلبة الجامعيون على السواء ، والذي يتضمن عددا من الحلقات المتماسكة التي يأخذ بعضها برقاب بعض ، والتي لا يمكن تجاوز أحداها ، بأية حال ، لأن ذلك سيعني خللا ما في طريقة جمع وتركيب المادة التاريخية حول هذا الموضوع أو ذاك .
إن اختيار الموضوع بعد تنفيذ قراءات ودراسات شاملة في دوائره المباشرة وغير المباشرة ، وترتيب قائمة المصادر والمراجع التي تغذيه بمادتها التاريخية ، وتصميم خطة بحث مقنعة يقوم عليها المعمار التركيبي للبحث ، ثم البدء بجمع المادة وفق الشروط المعروفة ، وفرزها وفق سياقاتها النمطية ، والتحول لتركيب المادة التاريخية وصولا الى استكمال الجوانب التكميلية الأخرى من مقدمة وخاتمة وقائمة مصادر ومراجع .. إلى آخره .
هذه جميعا خطوات منهجية عامة تلزم كل محاولة للبحث في التاريخ ، إسلاميا كان أم أوربيا أم صينيا .. هنا حيث لا يكون للخصوصيات التاريخية تأثير ما على تقنيات المنهج الذي يبدو ، كما لو كان أداة عمل محايدة ، يمكن توظيفها للبحث في أي حقل من حقول المعرفة التاريخية .
في هذا السياق قدم الكثير من المحاولات بدءاً من محاولة الدكتور أحمد شلبي المعروفة " كيف تكتب بحثاً أو رسالة " وانتهاء بما تقوم به أقسام التاريخ في الجامعات المختلفة ، من إعداد مؤلفات خاصة بالمنهج ، لكي تدرس على طلبتها ، في هذه المرحلة أو تلك من مراحل الدراسة .
لكننا إذا انتقلنا الى النمط الخاص لكتابة التاريخ الإسلامي ، أي إلى الضوابط والمعايير والشروط التي يتحتم توفرها لدى الباحث في هذا التاريخ ، مضافة على أوليات المنهج وتقنياته العامة المتفق عليها ، فإننا يجب أن نتريث قليلا .
أولا : لأن ضوابط خصوصية كهذه لم تأخذ حظا كافيا من العناية ، ولم يكتب فيها بما يوازي حجم الأهمية البالغة التي تتميز بها .
وثانيا : لأن هذا القليل الذي كتب لم يتح له في أغلب الأحيان أن يتجاوز حدوده التنظيرية صوب التطبيق ، والمطلب الأكثر الحاحا هو تنفيذ هذه الشروط في الساحة التاريخية الإسلامية ، لكي تتحقق المقاربة الأكثر خبرة ونضجا واكتمالا للواقعة التاريخية .
ثم إن علينا ألا نغفل عن ملاحظة لا تقل أهمية ، هي أن منهج البحث في التاريخ الاسلامي نفسه قد يأخذ سياقين أساسيين ، يتطلب كل منهما شروطه وضوابطه الخاصة ، فضلا عما يمكن وصفه قاسما مشتركا أعظم لكل مجالات البحث في التاريخ الإسلامي .
فأما السياق الأول فيتمثل في دراسة واقعة إسلامية ما .. ظاهرة من الظواهر .. حدث من الأحداث .. دولة أو تشكيل سياسي .. معطى ثقافي أو حضاري .. شخصية من الشخصيات .. معركة أو معاهدة .. أو متابعة للعلاقات الخارجية بين هذا الكيان أو ذاك ..إلى آخره . بعبارة أخرى إن معظم الأبحاث التي تكتب عن تاريخ الإسلام ، بما فيها سيول رسائل الدبلوم والماجستير والدكتوراه ، تنحو هذا المنحى ، وتجد نفسها ، بحكم مطالب المنهج ، تتحدد بمسائل معينة ذات حدود زمنية ، أو مكانية ، أو موضوعية ، وإلا انساح الجهد المنهجي على مساحة واسعة فعانى من الفضفاضية والتسطح ، وفقد قدرته على التمركز والإيغال العمقي لمتابعة الواقعة والوصول الى جوهرها .. الى مكوناتها ومقوماتها وخصائصها الأساسية ، أي التحقق بمقاربتها بشكل أفضل .
إلا أن السياق الثاني هو الذي يهمنا في هذه الصفحات .. السياق الذي ينطوي على كتابة تاريخ الأمة الإسلامية على مداه في الزمن ، والمكان ، والمعطيات ، والذي يتطلب منهجا في العمل ، يقدر على ضبط محاولة معقدة ، شاملة ، ممتدة كهذه ، قد لا يكون بمستطاع فرد ، أو مجموعة مؤرخين ، بل قد لا يكون بمقدور مؤسسة علمية أو أكاديمية واحدة ، أن تنفذها بالشكل الصحيح .
ويقينا فإن بعض مواصفات المنهج الذي تقتضيه الأبحاث المحددة في التاريخ الإسلامي، فضلا عن التقنيات المنهجية العامة المتفق عليها عالميا ، ستغذي هذا المنهج الذي يستهدفكتابة ، أو إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية ، لكن يبقى بعد هذا كله ، أو قبل هذا كله ، مجموعة من الشروط والمعايير والضوابط التي يتحتم بلورتها والاقتناع بها ، لكي يكون منهج العمل صالحا تماما للبدء بخطوة كهذه ، تستهدف عرض وتركيب المادة التاريخية الإسلامية كما تشكلت ـ بالفعل ـ في الزمان والمكان ، لا كما يراد لها أن تكون .
والكمال لله وحده … ومحاولة استعادة معطياتنا التاريخية كما تشكلت بالفعل ، بدقائقها وتفاصيلها ، أمر ليس بمستطاع الإنسان ، لاسيما وأنه يتعامل مع مادة تنضوي تحت دائرة العلوم الإنسانية لا العلوم المنضبطة (Exact Sciences ) كبعض العلوم الصرفة والتطبيقية ،
ويتعامل أيضا مع وقائع يفصل بينها وبين الباحث حاجز الزمان والمكان ، هذا إلى أن الرواية التاريخية القادمة إلينا من مظانها الأولى ليست ـ في كل الأحيان ـ أمرا يقينيا لكي نقيم عليه بنيان المعمار التاريخي ، بل إننا قد نجد ما هو نقيض هذا أحيانا سيولا من الرويات التي تتطلب قدرا من الصرامة النقدية لرفضها أو قبولها ، فيما سبق وإن نبه إليه ابن خلدون في " المقدمة " والقاضي أبو بكر بن العربي في " العواصم من القواصم " وغيرهما ممن انتبهوا الى ما تضمنته هذه الروايات من " احتمالية " قد تصل ـ بتعبير الطبري في مقدمة تاريخه المعروف ـ حد الاستشناع الذي يصدم القارئأو السامع ، ويدفعه الى عدم الاستسلام للرواية التاريخية .
ها نحن إذن بازاء ثلاث طبقات منهجية يجب اجتيازها وصولا إلى " الحالة " الملائمة للتعامل مع التاريخ الاسلامي ، وإذا كانت الطبقة الأولى بتقنياتها المنهجية العالمية المتفقعليها ، معروفة تماما ، وإذا كانت الطبقة الثانية قد تلقت بعض المحاولات على مستويي التنظير والتطبيق ، فإن المعضلة تتبدى في الطبقة الثالثة ، والأكثر أهمية ، تلك التي تعنى بتصميم الشروط والضوابط والمعايير التي لابد من الأخذ بها ، إذا أردنا فعلا أن نستعيد تاريخنا الإسلامي .. أن نكتب ، أو نعيد كتابة تاريخ أمة إسلامية لا أمريكية أو روسية أو صينية أو أنكلوسكسونية أو لاتينية !.
ستكون الصفحات التالية " مقترحات " وليست صيغا نهائية على هذا المستوى المنهجي الثالث ، والأكثر أهمية ، بسبب من ارتباطه بالمنظور الشامل لحركة التاريخ ، وستتضمن عددا من الضوابط والمعايير التي يمكن أن يضاف إليها الكثير فيما بعد ، كما يمكن أن ينخل ويصفى منها ما يخرج عن دائرة الضرورة .
إنها أشبه بموجهات عمل منهجية ، تستهدف حماية أية محاولة جادة لكتابة التاريخ الإسلامي ، أو إعادة كتابته ، من الجنوح او الانحراف ، أو التزوير والتزييف ، فيما يخرج وقائع هذا التاريخ ، وطرائق تشكله وصيرورته ، عن بيئتها الحقة ، ويعيد تركيبها في بيئات وأنساق غربية هجينة ، من شأنها أن تصد المقاربة عن المضي إلى هدفها بالصيغة العلمية المطلوبة ، فيما هو نقيض المنهج ابتداء .
أولا : هنالك ـ قبل أي أمر آخر ـ ضرورتان أساسيتان لا يمكن ـ بدون الأخذ بهما ـ البدء من النقطة الصحيحة .
أولاهما: أن يكون الباحثون على إلمام مناسب بملامح التفسير الإسلامي للتاريخ البشري ، والتي تضع تحت أيديهم مجموعة قيمة من الضوابط التصورية التي لا يمكن فهم التاريخ الإسلامي بدون هضمها وتمثلها .
إن التفسير الإسلامي وهو يسعى وفق منهجه الخاص للكشف عن قوانين الحركة التاريخية وسننها على مستوى العالم يضع في الوقت نفسه منظومة صالحة من القيم التي تفسر تاريخ الإسلام نفسه ، بما أن الإنسان في كلتا الحالتين هو رحى التاريخ وقطبه ، وبما أن السنن التي تعمل عملها في نسيج الحركة التاريخية هي نفسها سواء عملت على مستوى التاريخ البشري أم الإسلامي .
أما الضرورة الثانية : فهي أن يكون الباحثون على وعي مشترك بخصائص التاريخ نفسه، ليست الخصائص الجزئية التفصيلية ، وإنما تلك التي تمثل امتدادا أكبر في الزمن والمكان ، وتمنح هذا التاريخ خصوصياته المؤكدة التي تميزه عن تواريخ الأمم والجماعات والشعوب، ولن يناقش أحد في أن تاريخ الإسلام يحمل ميزات خاصة كهذه بما أنه ـ من بين عوامل عديدة أخرى ـ نتاج لقاء حميم بين الوحي والوجود .
إن الأخذ بهاتين الضرورتين يمكن أن يحمل معه الإفادة القصوى من الحدين الإيجابي والسلبي للمسألة في إطارها المنهجي ، فأما الحد الإيجابي فهو إعانة الباحثين على إدراك أعمق لوقائع هذا التاريخ وسبل تكوينه ، وأما الحد السلبي فهو منع هؤلاء الباحثين من شتات الأمر ، والتبعثر في كل اتجاه ، بل من التصادم والتضارب أحيانا ، في التصورات والتحليلات ، وبالتالي في النتائج التي سيتمخض عنها العمل ، الذي سيغدو ـ رغم ما ينطوي عليه من بذل وعناء ـ ضربا على غير هدى ، ولن يأتي بالنتيجة المتوخاة من تقديم نسيج متوحد لوقائع التاريخ الإسلامي مقاربا قدر الإمكان لصيرورة هذا التاريخ وقوانين تشكله .
ثانيا : تحقيق قدر من التوازن بين دراسة الجوانب السياسية ـ العسكرية ، وبين فحص وتحليل الجوانب الحضارية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة أن ينظر الى المعطيات الحضارية بوصفها أجزاء متفرقة تنتمي الى كل أوسع ، يتضمنها جميعا ويمنحها معنى وهدفا ،
وليس من الضروري ، بصدد هذه النقطة ، أن يقف الباحثون عند سائر التفاصيل والجزئيات التي تعج بها مصادرنا القديمة ، وبخاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والعسكرية من تاريخنا ، ليس من الضروري أن يقع الباحث أسير هذا الحشد الزاخر من النصوص ، ولابد له ـ إذن ـ من أن يتجاوز الجزئيات الى الكليات ، والوقائع الصغيرة الى الدلالات الخطيرة ، ولا يقف عند حدود النص أو الواقعة ، بل يتعداها الى معناها العميق ودلالاتها الموحية ، وحينذاك سيقدر على تحقيق عملية الاختزال والتركيز ، إذ إن كل مجموعة من التفاصيل والجزئيات تندرج تحت هذا المعنى أو ذاك ، وتمنحنا هذه الدلالة أو تلك ، في سياق الحركة التاريخية الأكبر حجما ، ومن ثم تغدو هذه الجزئيات عبارة عن مواد كمية ، أو نماذج متشابهة ، يمكن اعتماد عدد محدود من عيناتها للتوصل إلى الصيغة البنائية الأكبر للواقعة التاريخية ، وبالتالي التخلص من ركام التفاصيل الذي يثير الإرباك في ذهن القارئ أكثر مما يحقق من سيطرة على الحركة التاريخية وتفهم لصيرورتها .
ثالثا : تحقيق قدر من التوازن بين العرض الأكاديمي الصرف للوقائع التاريخية ، سياسية وحضارية ، وبين اتخاذ مواقف فلسفية ، أو تصورية ، لتفسير هذه الوقائع ، وتبين عوامل تكوينها ومؤشرات مساراتها وحصيلة مصائرها ؛ شرط أن تندرج هذه المواقف جميعا في رؤية نوعية متجانسة ، وتلتزم الحد الأدنى المشار إليه من الأسس والمواضعات المستمدة من خامة التاريخ الإسلامي نفسه ، من صميم نسيجه ، غير المقحمة عليه من الخارج .. فلا تتخذ إحداها التفسير المادي منطلقا لها ، بينما تنحو الأخرى نحو المثالية أو الحضارية أو الروحية، وإنما تسعى هذه المواقف قدر الإمكان الى إعتماد أكثر التصورات انسجاما ، وتناغما مع حركة التاريخ الإسلامي وإيقاعه ، وأشدها قدرة على استبطانه وتفسيره.
رابعا : تقديم عروض تاريخية متوازية زمنيا بين ما كان يجري في مرحلة ما من مراحل التاريخ الإسلامي ، وما كان العالم المحيط يشهده في المرحلة ، ذاتها من أحداث ، من أجل تكوين نظرة شمولية لدى الدارس أو القارئ ، تمكنه من فهم طبيعة العلاقات بين الإسلام والعالم الخارجي ، من خلال تحقيق قدر من السيطرة على ما كان يحدث في المرحلة التاريخية ـ الزمنية الواحدة .


ضوابط ومعايير أساسية في منهج كتابة التاريخ الإسلامي 2 ـ 2

كتب: د.عماد الدين خليل

08/11/1430 الموافق
26/10/2009

خامسا : هل يتحتم إعادة تقسيم الفترات الزمنية لمراحل التاريخ الإسلامي ، في ضوء المعطيات الجديدة لهذا المنهج ، وتجاوز ، أو تعديل ، الصيغ التقليدية لهذا التقسيم ، والتي غدت لطول أمدها ولشدة تكرارها والأخذ بها ، مسلمات لا تقبل نقضا ولا جدلا ؟
نعم .. أغلب الظن .. لاسيما إذا تذكرنا وحدة الحركة التاريخية ، وصيرورتها المتواصلة، وامتدادها المستمر إلى نسيج الأمم والشعوب الإسلامية بعيدا عن التبدل الفوقي في الأسرات والنظم والحكام .. هنالك حيث تتحقق التبدلات التاريخية وفق معادلات زمنية تختلف في الأساس عن معادلات التبدل في الدول والنظم والسياسات .
وهكذا يبدو ضروريا اعتماد مقاييس التغير النوعي في الحركة التاريخية بين مرحلة ومرحلة ، وعصر وعصر ، وعلى سائر المستويات السياسية والعقيدية والحضارية ، أي أن التقسيم الزمني للمراحل التاريخية يجب ألا ينصب على المتغيرات الفوقية بل يمتد إلى قلب المجتمع في تمخضه وتحوله الدائمين .
أما على المستوى المكاني فمن الأفضل اعتماد الوحدات الحضارية المتنوعة ضمن إطار وحدة الحضارة الإسلامية ، هذه الوحدات المتميزة التي قد تشهد أكثر من كيان سياسي ، وقد تمتد إلى أكثر من بيئة جغرافية أو إقليم .
سادسا : الأخذ بأسلوب نقدي رصين في التعامل مع الروايات التي قدمتها مصادرنا القديمة ، وعدم التسليم المطلق بكل ما يطرحه مؤرخنا القديم ، وإحالة الرواية التاريخية ، قبل التسليم النهائي بها ، على المجرى العام للمرحلة التاريخية ، لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع نسيج تلك المرحلة ؟ هذا فضلا عن ضرورة اعتماد مقاييس ومعايير النقدين الخارجي والباطني ، وصولا إلى قناعة كافية بصحة الرواية .
ويمكن الإفادة في مجال النقد الخارجي ـ إلى حد ما ـ من علمي ( مصطلح الحديث ) و ( الجرح والتعديل ) ، اللذين مورسا على نطاق واسع في عمليات تمحيص الأحاديث النبوية ، ومن كتب التراجم الغنية الخصبة ، فما من أمة في الأرض عنيت بتمحيص مصادر أخبارها وتاريخها كالأمة الإسلامية ، فهنالك تراجم لعشرات الآلاف من الرجال أسهموا جميعا في تقديم الأحاديث والأخبار والروايات التاريخية ، التي لا يمكن توثيقها والأخذ بها إلا بعد فحص أولئك الرجال الذين تناقلوها ، ومن ثم فإن دراسة التاريخ الإسلامي دراسة جادة تستلزم ـ بالضرورة ـ دراسة هذا الموضوع الخطير لكي تقوم الأعمال التاريخية معتمدة على أوثق المصادر وأدق الأخبار ، ومنقحة من حشود الدسائس والأباطيل ، وسيل الروايات التي نفثتها القوى المضادة في جسد تاريخنا المتشابك الطويل .
ولابد من الإشارة هنا إلى الملاحظة القيمة التي أبداها محب الدين الخطيب حول هذه النقطة ، فهو يشير إلى أن تاريخ الطبري " لا يمكن الانتفاع بما فيه من آلاف الأخبار إلا بالرجوع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل ، وأن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ، ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف .. وأن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي ، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم ، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري ، رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ، ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك ، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار .."(1).
والطبري نفسه يقول في مقدمة كتابه عبارته المعروفة : " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ، مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها صحيحا ، ولا معنى في الحقيقة ، فليفهم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من بعض ناقليه إلينا ، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا "(2).
سابعا : يقابل هذا ضرورة الاعتماد في بناء البحث التاريخي على الواقعة نفسها ، دون الوقوع في مظنة اعتماد هياكل مرسومة ووجهات نظر مصنوعة سلفا ، ومحاولة تطويع الوقائع وإرغامها على الانسجام مع هذه الهياكل والوجهات ، حتى ولو أدى هذا إلى تشويه ملامح الواقعة التاريخية ، أو إعادة تركيبها ، لكي تنسجم والأطروحات المسبقة ، مما نجده واضحا ـ على سبيل المثال ـ في الدراسات التي تنطلق من المفهوم المادي في تفسير التاريخ ، الأمر الذي ، أوقعها في حشد من الأخطاء والتناقضات .
ونحن نجد هذا ـ مثلا ـ في موقفهم من حركة الرسول صلى الله عليه وسلم فبعضهم يرى أن المجتمع العربي [ في مكة والمدينة ] شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق ، بينما يرى ( بيجو لفسكايا ) أن القرآن [ الكريم ] يشعر بتركز مرحلة ملكية الرقيق ويذهب مع ( بلا ييف ) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الأخرى ، هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا ومنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلة الجديدة من ملاك وأرستقراطية الإقطاع مثل ( كليموفيج ) ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط ، في حين أن البعض مثل ( بلاييف ) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن ، لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة ، فلجأ أصحابه إلى الوضع في الحديث لتبرير الاستغلال الطبقي الجديد ، وفي حين أن بعضهم يقول : إن الأرستقراطية وحدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها ، يقول غيرهم : إن القبائل كانت تتوثب للوحدة ، فجاء الإسلام موحدا يعبر عن ذلك التوثب ، ويضطرب الموقف من نشأة الإسلام ذاته، فبينما يدعي ( كليموفيج ) أن محمدا صلى الله عليه وسلم واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشروا بالتوحيد ، وأرادوا توحيد القبائل ، يذهب ( تولستوف ) إلى نفي وجود النبي العربي ، ويعتبره شخصية أسطورية . وبينما يعترف البعض بظهور الإسلام ، يذهب ( كليموفيج ) إلى أن جزءا كبيرا منه ظهر فيما بعد ، في مصلحة الإقطاعيين ، ونسب أصله الى فعاليات معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وتجاوز ( تولستوف ) إلى أن الإسلام نشأ عن أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة ، وهي أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنفية "(3).
ثامنا : يجب ألا يقع الباحثون تحت وطأة الموضوعات المعاصرة ، في سائر مناحي الحياة البشرية : السياسية والاقتصادية والأخلاقية والروحية والاجتماعية ، لأن هذا من شأنه أن يصبغ رؤيتهم للتاريخ الإسلامي بألوان تستمد تركيبها من واقع عصرنا الراهن ، الأمر الذي قد يفسد موضوعية الرؤية ، وبالتالي يصد المؤرخ عن الوصول إلى كنه الوقائع التاريخية التي قد لا تمت بصلة إلى معطيات العصر الحديث.
صحيح أن على المؤرخ أن يستفيد من كل ما يقدمه هذا العصر من علوم وأدوات موصلة أو مساعدة على كشف الحقيقة التاريخية ، ما كان بميسور مؤرخنا القديم أن يحظى بعشر معشارها ، لكن الاعتماد على هذه العلوم ـ وأكثرها ميداني أو تجريبي ـ للإعانة على كشف الواقعة التاريخية شيء ، والتأثر بفلسفة العلم الظنية التخمينية ، وما أحدثته من نتائج سيئة في عالمي النفس والمجتمع ، في ميداني الضمير والسلوك ، شيء آخر ، قد يجعل المؤرخ أسير موضوعات زمنية نسبية متغيرة تفرض عليه نمطا من التفكير في تعامله مع حشود الوقائع التاريخية ، فلا يراها كما يوجب البحث الموضوعي أن يراها ، وإنما يقوم ـ إذا صح التعبير ـ بعملية تمرير لهذه الوقائع من خلال تلك الموضوعات ، فما تلبث حينذاك أن تفقد لونها الأصيل وملامحها الخاصة وشخصيتها المستقلة ، لكي تقتبس ألوان هذه الموضوعات وملامحها وخطوطها وتضيع .
تاسعا : حيثما اكتشف تناقض حاد بين التجربة التاريخية الواقعة وبين النص أو الرواية التاريخية ، تحتم اعتماد التجربة الأكثر ثقلا وتحققا وإقناعا، والأشد تلاؤما مع الصيرورة التاريخية نفسها .
وعلى سبيل المثال : فقد جابهت الدولة الإسلامية في صدر الخلافة الراشدة أخطر التجارب في تاريخها: الحركة المضادة المعروفة بالردة ، مجابهة عسكرية ومصيرية حاسمة مع نظم العالم القديم القائمة يوم ذاك .. تحديات حضارية دائمة تتطلب استجابات ناجحة باستمرار .. لقد كانت الأمة الإسلامية أمام امتحانها العسير ، وكان عليها أن تنجح أو أن تنتكس ، ولقد نجحت في نهاية الأمر على المستويات الثلاثة .
وحركة التاريخ الثقيلة هذه ما كان لها أن تتحقق هذا التحقق لو كانت الأمة الإسلامية ، والدولة الجديدة ، تعاني في قيادتها العليا انشقاقا خطيرا ، كما حاولت بعض الأخبار أن تصور ، إن التجربة أكثر إقناعا ـ ولا ريب ـ من مجرد النصوص الإخبارية التي لا مردود لها على مستوى الفعل التاريخي إزاء التحديات الكبرى .
إننا نرى أيضا ـ وعلى سبيل المثال ـ كيف أن الفتوحات الإسلامية قطعت أشواطا واسعة في عهد الخليفتين الأولين والسنين الأولى من عهد الخليفة الثالث ( رضي الله عنهم )، ثم ما لبثت أن توقفت فترة من الزمن لكي تعود فتستأنف قدرتها على الإنجاز في عهد معاوية ، وأننا لنرى ـ أيضا ـ كيف لم يتقدم الأمويون في خلافة عبد الملك أو سليمان ـ فيما عدا مجازفة القسطنطينية ـ بينما فتحوا المشارق والمغارب في خلافة الوليد .
إن الوقائع التاريخية المنظورة هنا تشير إلى أن هناك قانونا يفسر : لماذا عبر هذا المدى الزمني القصير نسبيا تحققت ظاهرة الفتح مرتين ؟ وتوقفت مرتين والجواب ، إزاء الإنجازات التاريخية الكبرى ، يكمن ـ غالبا ـ في وحدة الأمة ووحدة قيادتها في تجمع طاقاتها ، في مرحلة ما من مراحل التاريخ ، وقدرتها على صنع الإنجاز الكبير .
أما ما ذكرته حشود الروايات والأخبار التي تنوقلت ودونت بعد عشرات العقود من هذا التحقق التاريخي المنظور ، والتي تقدم معطياتها باتجاه مضاد: التفتت والتطاحن والتمزق وصراع المصالح والفتن والأهواء ، فإنها لا يمكن ان تصمد أمام ثقل الواقعة التاريخية نفسها.
عاشرا : سيكون من فضول القول التأكيد على ضرورة التنويع في اعتماد المصادر القديمة ما بين كتب التاريخ العام ، والحوليات ، وتواريخ الدويلات والأقاليم والمدن ، وكتب الخطط ، والجغرافيا والرحلات ، والتراجم والسير والطبقات ، والفقه … الخ ، لأن إغناء الجانب الحضاري ـ بخاصة ـ في التاريخ الإسلامي لا يتحقق إلا بهذا التنويع ، ولأن مقابلة الروايات والنصوص ومناقشتها وصولا إلى الحقيقة التاريخية ، لا يتأتى إلا بالانفتاح على هذا الحشد الزاخر من أنماط المصادر التي ترفد العمل التاريخي من مناح شتى .
أحد عشر : وسيكون من فضول القول ـ كذلك ـ التأكيد على ضرورة اعتماد منهج أو أسلوب البحث العلمي الحديث وطرائقه ومعطياته المتعارف عليها عالميا ـ والتي ألمحنا إليها في القسم الأول من هذا المقال ـ والتي غدت أشبه بالبداهات التي لا تقبل نقضا ولا تحويرا(4) ، وهي في حقيقتها إرث إنساني مفتوح أسهمت في صنعه وإغنائه ، شتى الأمم ومختلف الحضارات ، وكان لحضارتنا الإسلامية دور بارز فيه(5).
إن هذه الطرائق والمعطيات التي تبدأ بوضع خطة البحث ، وتنتهي بتنظيم فهارسه مرورا بتحليل المصادر والمراجع ، وتجميع المادة ، وتصنيفها ونقدها ، وتركيب المادة التاريخية ، ..الخ .. فيما يمكن تسميته بتقنية البحث ، إنما تمثل الحد الأدنى الملزم والمتفق عليه بين سائر الباحثين ، هذا إلى جانب أنها لا تعدو أن تكون أداة حيادية ، بوصفها وسيلة تقنية صرفة لخدمة البحث التاريخي في آفاقه وميادينه كافة .
اثنا عشر : ولابد من الإشارة ـ كذلك ـ إلى أن الدعوة لإعادة كتابة أو عرض وتحليل تاريخ الأمة الإسلامية لا تعني ـ بالضرورة ـ البدء من نقطة الصفر ، أو الرفض المطلق للصيغ التي قدمه بها مؤرخونا القدماء ، ومحاولة قلب معطياتهم رأسا على عقب ، ومن يخطر على باله أمرا كهذا فهو ليس من العلم في شيء .
والمقصود شيء آخر يختلف تماما : منهج عدل يتعامل مع معطيات الأجداد بروح علمية مخلصة ، فيتقبل ما يمكن تقبله ، ويرفض ما لا يحتمل القبول ، ويقدر عطاء الرواد حق قدره، دون أن يصده ذلك عن متابعة آخر المعطيات المنهجية والموضوعية التي يطلع علينا بها العصر الحديث ، وأشدها صرامة .. موقف وسط يرفض الاستسلام للرواية القديمة ويأبى إلغاءها المجاني من الحساب ، رؤية موضوعية تستحضر البيئة التي تخلقت في أحضانها وقائع التاريخ الإسلامي ، وتعتمد في الوقت نفسه معطيات العلوم المساعدة كافة : إنسانية وصرفة وتطبيقية ، من أجل كشف أشد إضاءة لهذه البيئة ، وفهم أعمق لوقائعها وأحداثها .
ثلاثة عشر : من المستحسن ، إزاء ذلك كله ، أن توضع مؤشرات عمل في الاتجاهات النقدية الثلاثة التالية :
آ ـ نقد الرواية الأساسية لدى المؤرخ القديم ، وتصنيف الروايات حسب قوتها وضعفها .
ب ـ نقد مواقف المؤرخين المحدثين وفلاسفة التاريخ ، الذين تعاملوا مع تاريخنا ودرسوا جوانب منه ، وتحديد مدى قرب معطياتهم أو بعدها عن الحقيقة التاريخية .
جـ ـ نقد معطيات الحركة الاستشراقية بأجنحتها كافة، وتحديد المساحات التي يمكن الإفادة الفاعلة منها، وتلك التي يجب تجنبها، مع تبيان أبعادها اللاموضوعية ، وهذا ينقلنا إلى النقطة الأخيرة في هذه المنظومة من الضوابط والشروط والتي سنقف عندها بعض الوقت.
ـــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

(1) المراجع الأولى في تاريخنا ، مجلة الأزهر ، المجلد 44 ، ج 2 ، ص 210 ، القاهرة ، صفر ـ 1372 هـ.
(2) تاريخ الرسل والملوك ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1961 ـ 1962 م ، 1 / 8.
(3) د. عبد العزيز الدوري وزملاؤه ، تفسير التاريخ ، مكتبة النهضة ، بغداد ـ 1963 م ، مقال ( التاريخ والحاضر ) ، ص 17.
(4) ينظر على سبيل المثال : حسن عثمان : منهج البحث التاريخي ، وأسد رستم : مصطلح التاريخ .
(5) ينظر على سبيل المثال : فرانز روزنثال ، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ، وعلم التاريخ عند المسلمين ، و د. مصطفى الشكعة ، مناهج التأليف عند العلماء العرب.

المصدر : موقع التاريخ


التصنيفات
تاريـخ,

أثر الاستعمار في تشويه تاريخ الأمة العربية والإسلامية

أثر الاستعمار في تشويه تاريخ الأمة العربية والإسلامية


كتب: د / محمد محمود السروجي

23/11/1431 الموافق
30/10/2010

الحركة الاستعمارية ليست حديثة العهد، بل هي قديمة قدم التاريخ المكتوب، وإن كانت لم تعرف بهذا الاسم إلا في العصر الحديث. فالاستعمار يعني استيلاء دولة على ممتلكات دولة وتقاليدها وتاريخها ما استطاعت والاستبداد، ومحاولة تغيير ثقافة الدولة المغلوبة وتقليدها وتاريخها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وقد أثرت تلك الحركة تأثيرا قويا في السياسة الدولية في هذا العصر.
ولفهم وسائل وأساليب الاستعمار في تزييف وتشويه تاريخ الأمم والشعوب التي نكبت به بصفة عامة والدول الإسلامية بصفة خاصة، لا بد لنا من الإلمام بأقوال دهاقنة الاستعمار من رجال السياسة والفكر في أوربا، ممن كانت لأقوالهم وأفعالهم أكبر الأثر في دفع حركة الاستعمار وفي تطورها وتوجيهها الوجهة التي يريدونها. فمن هذه الأقوال ندرك زيف ادعاءاتهم منذ بدايات ومقدمات الحركة الاستعمارية. ومن المنطقي أن تؤدي المقدمات الزائفة إلى نتائج زائفة. فليس من العسير على هؤلاء أن يشوهوا تاريخ الشعوب التي حكموها ليبرروا وجودهم رغم أنف تلك الشعوب.
هذه كلمة سقتها في بداية بحثي نبراسا يهدينا في دروبه وفي منعطفاته, أما عن الأساليب والدوافع التي تذرعت بها الدول الكبرى لتبرير استعارها – غير الأسباب الحقيقية التي تهدف إلى التملك والتسلط والسيطرة على مقدرات الشعوب سياسيا واقتصاديا وثقافيا، واستنزاف مواردها لخدمة ولرفاهية شعوب تلك الدول الكبرى – فهي متعددة، فمنها من اعتبرها مسألة كرامة أو هيبة ( Prestige) مثل بنجامين دزريلي ( Benjamin Disreali)(1)وزير خارجية بريطانيا ورئيس وزرائها في خطابه الذي ألقاه في ( Crystal Palace) في عام 1289هـ/ 1872 م وكأن هيبة الدولة وكرامتها لن تصبح حقيقة واقعة إلا باستبعاد غيرها من الشعوب.
ولم يكن دزيلي وحده – وقتئذ- يفتخر بعظمة الإمبراطورية البريطانية وإنجازات بريطانيا الاستعمارية ، بل شاركه في ذلك كثيرون من رجال السياسة والفكر أمثال شارلز دلكه (Charles Dilke)(2)، جيمي فرود ( James Froude)(3) وجون سيلي ( John Seeley)(4) ،وتوماس كارليل Thomas Caryle)) (5) ، وشارلز كنجلسي ( Charles Kingsley) (6) ،وجون رسكن ( John Ruskin) (7) ، وألفريد تنيسون ( Alfred Tennyson)(8)، ولورد سولسبري (Lord Salibryry)(9)،وجول فيري Jules Ferry) ) (10)،وسيسيل رودس ( Cecil Rodes)(11)وهوراشيو كتشنر ( Herbert Kitchener )(12)،وغيرهم.
ومن الادعاءات الزائفة لتبرير الاستعمار ادعاؤهم بأن للرجل الأبيض رسالة عليه أن يؤديها للشعوب المختلفة، وتشدق بهذا القول الكثيرون من رجال السياسة والفكر، ويعبر عن هذا الرأي الكاتب وياث ( Wayath) في كتابه « Ethics Of Empire » فيقول : " إن واجبا محددا قد عينه القدر لنا – وليس لغيرنا- وهو أن نحمل مشعل النور والحضارة إلى داخل الأماكن المظلمة في العالم، وأن نلمس عقول أبناء آسيا وإفريقيا بالقيم الأخلاقية النابعة من أوربا " (13) وهذا القول فيه تجن على تلك الشعوب، فالقيم الأخلاقية لم تنشأ في أوربا وحدها، وإنما نزلت بها عن طريق القهر والبطش.
ويرد على هذا الادعاء أحد كبار المؤرخين الفرنسيين المعاصرين وهو الأستاذ بيبر رنوفن ( Pierre Renouvan)بأن هذا القول "هو دائما مجرد شكل بسيط لتغطية المصالح أو الأطماع" (14) .
كذلك روج بعض الكتاب والمفكرين الاجتماعيين لحركة الاستعمار بالمناداة بنظرية "الصراع من أجل البقاء" ( Struggle For Existence) ،وعبر عن هذا الاتجاه رويارد كبلنج (Ruyard Kipling) (15)في عام 1308/ 1890 م؛ كما دعا هؤلاء إلى نظرية أخرى وجدت صداها في الأوساط الاستعمارية وقتذاك، ألا وهي نظرية "البقاء للأصلح" ( Suevival Of the Fittest) ، وقد عبر عنها كبلنج بقوله " بأن الاستعمار هو صورة من صور الكفاح من أجل الحياة، حيث ينتصر الشعب الأكثر استعدادا من الناحية الجسمانية والفكرية " (16).
وفي هذا المعنى أيضا يذكر الكاتب كارب بيرسون (Karl Vbreason)(17)"أن التاريخ يطلعني على طريقة واحدة لا يوجد غيرها، أدت إلى قيام حالة حضارية هي الصراع بين الأجناس، والبقاء للعنصر أو الجنس الأصلح في الجسم والعقل…إن طريق التقدم تغطية أشلاء الأمم التي تبيد ..إن الشعوب التي بادت، هي في حقيقتها الواضحة للعيان الدرج الذي رقاه الجنس البشري صاعدا نحو الحياة الفكرية الراقية والحياة الوطنية الراسخة التي نحياها اليوم".
وكأن البشرية في عرف هؤلاء الكتاب لن تتقدم إلا على أشلاء الشعوب الضعيفة التي كانت ضحية الاستعمار والمستعمرين.
كذلك حمل بعض المفكرين لواء نظرية " التطور الاجتماعي" التي أدت إلى ظهور فكرة تقسيم العالم إلى مجموعات كبيرة، فينقسم إلى ثلاثة أو أربعة شعوب كبرى صالحة للبقاء، وعلى الشعوب الضعيفة أن تموت أو تفنى أمام الدول القوية أو أن تخضع لها.
بل لقد بلغ الإسفاف والزيف في تبرير الاستعمار أنه – نسب – حاشا لله- إلى المشيئة الإلهية فيقول روزبري ( Rosebery) ( 1264-1349هـ 1847- 1929م) وهو من كبار حزب الأحرار في بريطانيا، "وأعتقد أن الإنجليز بطارقة العالم، وأنهم امبرياليون ( مستعمرون) – لا لأنهم أرادوا ذلك- ولكن لقانون عالمي إلهي يوجههم إلى أداء ذلك الواجب" (18).
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الطمع في ثروات الشعوب الضعيفة ، والاستئثار بها لرفاهية شعوب الدول المتعدية كانت المحرك الأساسي لحركة الاستعمار . ويعبر عن هذا الرأي بصراحة تامة السير أوستن تشمبرلن (Sir Joseph Austen Chamberlin ) ) (19)فيقول : " هل هناك من يعتقد وهو في كامل وعيه أن السكان المكتظين في هذه الجزيرة ( يقصد بريطانيا ) لا يستطيعون أن يعيشوا ليوم واحد لو انقطعت عنا المناطق العظيمة التابعة لنا ، التي تتجه إلينا طلبا للحماية والمساعدة ، والتي تشكل الأسواق الطبيعية لتجارتنا " (20).
ورغم الصراحة التي يتصف بها هذا القول من مسئول بريطاني كبير ، إلا أن الزيف واضح في قوله أن تلك البلاد قد التجأت إليهم طلبا للمساعدة والحماية ،فالحقيقة أن كل البلاد التي خضعت للاستعمار قد وقعت بصورة أو بأخرى في قبضته ، نتيجة الغزو المسلح تارة أو التهديد والإجبار تارة أخرى ، ولم برغبتها الحرة على أي حال .
بعد هذا العرض الموجز لما أوردناه من آراء وأفكار ، جاءت على ألسنة كبار رجال السياسة والفكر ، يتضح لنا أن الاستعمار قام أساسا على زيف في القول والعمل ، وأن القائمين على أمره لم يتورعوا عن تزييف أسبابه ، فهم بالتالي لن يتورعوا عن تشويه وتزييف تاريخ الأمة الإسلامية التي خضعت لحكمهم ، كي يتمشى مع أهدافهم ومصالحهم . والأمثلة على ذلك كثيرة . ولكنني سأتناول بعضها على سبيل المثال – لا الحصر – إذ أن المقام لا يسمح بغير ذلك .

أولا – موقف المؤرخين الأوربيين من الدولة العثمانية:

مما لاشك فيه أن تاريخ الدولة العثمانية قد تعرضت للكثير من الدرس والتشويه عبر تاريخها الطويل ، ويرجع ذلك منذ تأسيس الدولة إلى عاملين رئيسيين : الأول أن العثمانيين المسلمين قد حلوا محل الدولة التي عمرت أكثر من ألف عام وكانت دول أوربا تطمع في أن تحل محلها ، إذا كان لابد لها من الزوال ، لاسيما روسيا التي كانت تدين بالديانة المسيحية على المذهب الأرثوذكس ، وهو مذهب الدولة البيزنطية نفسه .
والعامل الثاني أن الدولة العثمانية هددت دول أوربا فترة طويلة ووصلت جيوشها إلى أبواب مدينة فيينا ، وبعد أن أخضعت لحكمها دول شرق أوربا المسيحية ، ودخلت جموع من شعوبها في الإسلام ، كما أنها وقفت ضد أطماع البرتغاليين في الجزيرة العربية ، وأغلقت البحر الأحمر في وجه السفن المسيحية حماية للأراضي المقدسة في الحجاز من الاعتداء ، وطهرت جزر البحر المتوسط من فرسان القديس يوحنا الذين دأبوا على مهاجمة سفن المسلمين ونهيها ، وحمت دول شمال إفريقيا من الهجمات الصليبية من قبل الإسبان والبرتغاليين ، فحفظت له إسلامه وعروبته ، ورفعت لواء الإسلام في وجه دول أوربا المسيحية ستة قرون ، ولذا أخذت الحروب التي نشأت بينها وبين الدول الأوربية طابعا دينيا صليبيا (21)فكان لابد والحالة هذه أن ينعكس شعور الكره والتعصب على معظم الكتاب الأوربيين كراهية للدولة وللإسلام ،لاسيما وأنهم ربطوا بين الدولة العثمانية والإسلام ، فأي انتصار للعثمانيين هو انتصار للإسلام وهزيمة للمسيحية (22).
وقد وجدت الشعوب التي خضعت لأول مرة في تاريخها لحاكم مسلم أن تتخلص من الحكم عندما ظهرت بوادر الضعف على الدولة العثمانية ، فبدأت الحركات القومية في الظهور بتحريض وتشجيع من الدول الأوربية تحقيقا لمطامعها في الدولة (23)وخصوصا روسيا التي كانت تعمل على نشر مبادئ حركة الجامعة الصقلبية ( السلافية ) الكبرى ، وشعوب البلقان الخاضعة للحكم العثماني من الصقالبة أيضا ، فكانت روسيا تمالئهم بإطلاق اسم "الأخوة الصغار " (24)عليهم .
بل ادعت لنفسها الحق في حمايتهم كصقالبة صغار من عدوان الدولة العثمانية . وفي حقيقة الأمر فإن تلك الشعوب قد تمتعت بامتيازات كثيرة وبنوع من الحكم الذاتي لم تنله الشعوب الإسلامية .
وقد تركز تشويه تاريخ الدولة العثمانية بشكل واضح في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني( 1293 – 1327 هـ/ 1876 – 1909 م) الذي تولى الحكم في أحرج فترة من تاريخ الدولة ، إذ كانت الدولة قد بلغت شأوا بعيدا من الضعف، واكبته ذروة الأطماع الاستعمارية والصهيونية في ممتلكاتها . ففي مستهل عهده شنت روسيا على الدولة الحرب الروسية التركية ( 1294 – 1295 هـ/ 1877 – 1878 م) وفرضت عليها معاهدة برلين(1295 هـ/1878 ) التي قطعت أجزاء واسعة من ممتلكات الدولة في أوربا ، والتي ترتب عليها احتلال فرنسا لتونس عام 1298 هـ/ 1881 م ) واحتلال بريطانيا لمصر عام 1299 هـ/ 1882 م ،ثم احتلال فرنسا لمراكش عام 1330 هـ/ 1912 م) (25)
وكان من أسباب مهاجمة الكتاب الأوربيين للدولة العثمانية في ذلك الوقت تبنى السلطان عبد الحميد حركة (الجامعة الإسلامية ) التي كانت ترمي إلى توحيد صفوف المسلمين حول السلطان العثماني للدفاع عن الإسلام والمسلمين ضد أطماع الدولة الأوربية الكبرى ، وحركة الجامعة الإسلامية في حقيقتها رد فعل للحركتين العدوانيتين اللتين عاصرتاها – وإن اختلفت عنهما في الأسلوب وفي الهدف والغاية .
فإذا كانت الحركة الأولى وهي حركة الجامعة الجرمانية حركة عنصرية هدفها تكوين وحدة سياسية من العناصر الجرمانية للوقوف ضد أطماع حركة الجامعة الصقلية تحت زعامة روسيا في شرق أوربا من جانب وضد أطماع فرنسا من جانب آخر ، فإن حركة الجامعة الصقلية حركة عنصرية كذلك هدفها إثارة صقالبة شرق أوربا ووسطها تحت ستار تخليصهم من السيطرة العثمانية من جهة ومن النفوذ الألماني المتمثل في حركة الجامعة الجرمانية من جانب آخر (26).
ومن ثم ، فالحركتان الجرمانية والصقلبيية عدوانيتا ن، بينما حركة الجامعة الإسلامية حركة دفاعية هدفها وحدة المسلمين والدفاع عن كيانهم تحت زعامة الدولة العثمانية من أطماع الدول الأوربية ، وما كان ذلك يرضي الدول بحال من الأحوال .
ومن الموضوعات التي حاول معظم المؤرخين الأوربيين تشويه تاريخ الدولة العثمانية بها ، إسهامها في عزل البلدان العربية عن العالم الخارجي ، مما كان له أكبر الأثر في تأخرها . ولكن الدارس لتاريخ الولايات العربية دراسة متأنية يرى أن هذا القول يفتقر إلى الصحة ، فالدولة العثمانية عقدت معاهدات تجارية مع معظم الدول الأوربية ، وكانت تلك المعاهدات تسري على جميع أجزاء الدولة بما فيها الولايات العربية .كذلك نجد أن معاهدات الامتيازات الأجنيبة قد أعطت للدول الأوربية صاحبة الامتيازات حرية التعامل مع تلك الولايات في مجالات كثيرة مما يدحض ما ذهب إليه المؤرخون من فكرة العزل (27).
وكان لكتابات وليم ملنر ‘William Milne)r) (28)وغيره ممن عاصروا السلطان عبد الحميد الأثر الكبير في تشويه تاريخ الدولة العثمانية في تلك الفترة . وكذلك عاصر السلطان عبد الحميد نشأة الحركة الصهيونية ومؤازرة الدول الكبرى لها، ومحاولاتها المستميتة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، بالإغراء المادي تارة والتهديد تارة أخرى ، ووقوف السلطان من ذلك كله موقفا صلبا لا يلين محافظا على عروبة فلسطين ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، مما دفع دعاة الصهيونية وكتابها إلى مهاجمته وتشويه صورته أمام العالم الخارجي .

ثانيا – الحملة الفرنسية على الجزائر 1245 هـ/ 1830 م :

تمثل الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1245 هـ/ 1830 م مثلا آخر من أمثلة تشويه تاريخ الشعوب الإسلامية ، إذ اتخذت فرنسا منن حادثة المنشة ( المروحة) سببا جوهريا لمهاجمة الجزائر دفاعا عن شرفها وكرامتها التي أهدرت(29)ولم يكن هذا هو السبب الحقيقي للغزو ،فالتفكير في احتلال الجزائر سابق على هذه الحادثة بسنوات أرجعها عباس فرحات (30)إلى عام 1231 هـ/ 1815 م وفيها هزم نابليون بونابارت وفقدت فرنسا أجزاء واسعة من إمبراطوريتها ، تنازلت عنها لبريطانيا ، ومن ثم رأت فرنسا أن تستعيض عنها بدول المغرب العربي ،ولتكن البداية بالجزائر كنقطة انطلاق نحو الاستيلاء على المغرب بأكمله (31).
والحقيقة أن قوة الجزائر البحرية قد ازدادت زيادة كبيرة في البحر المتوسط (32)وتمكنت بهذه القوة البحرية أن تحفظ التوازن في القوى في الحوض الغربي للبحر المتوسط ،وأن تحمي السفن الإسلامية فيه ، وذلك خلال القرون الثلاثة السابقة على الاحتلال الفرنسي لها ، وكانت العلاقات بينها وبين فرنسا في مد وجزر ، فأحيانا يسودها السلام بناء على اتفاقات ، و أحيانا أخرى تهاجم كل منهما سفن الأخرى في البحر المتوسط ، وكان الكتاب الفرنسيون يطلقون على إغارات السفن الجزائرية بأنها أعمال قرصنة (33)ولكنهم يطلقون على ما يقومون به ضد السفن الجزائرية بأنه دفاع عن النفس .
وعلى أية حال كانت فرنسا حريصة على استمرار علاقتها مع الجزائر ، فكلما تعكر صفو تلك العلاقات حاولت إعادتها إلى صفائها مرة أخرى ، حرصا منها على سلامة سفنها ، وتحقيقا لمصالحها الاقتصادية ، وحفاظا على امتيازاتها التجارية ضد منافسة الدول الأجنبية (34)
واتصفت عملية الغزو الفرنسي للجزائر 1245 هـ/ 1830 م بالتعصب الديني من قبل فرنسا ، فيذكر الملك شارل العاشر – الذي حدث الغزو في عهده – بأنه لم يراع في هذه العملية سوى كراهية فرنسا للجزائر . (35)
لم تكن الكراهية وحدها هي الدافع للغزو ، فالمشكلات الداخلية التي تعانيها فرنسا وقتذاك كانت لها نصيب كبير في حكومة فرنسا إلى التفكير في القيام بمغامرة خارجية لتوجيه السخط الداخلي ، الذي قد يطيح بها ، إلى هذه المغامرة ، أولا وهي غزو الجزائر(36). بل إن من جاءوا بعد شارل العاشر من الملوك ساروا في نفس الاتجاه ، وأكدوا عدم تخليهم عن الجزائر ، لأن في ذلك إغضابا للمسيحيين في كل مكان وهم الذين فرحوا بهذا الغزو وباركوه (37) وإن تمسك فرنسا بالجزائر يعتبر تضحية منها في سبيل نشر الحضارة بين القبائل الجزائرية ، وحتى لا يقعوا في براثن استعمار آخر كالاستعمار التركي . (38)
وفي هذا القول رجوع إلى ما سبق أن ذكرته في مقدمة البحث ألا وهو التذرع برسالة الرجل الأبيض وحرصه على نشر الحضارة والثقافة بين القبائل الجزائرية ، ولكن الحقيقة تثبت عكس ما زعموه ، فلو نظرنا إلى التعليم في الجزائر عند مجيء الفرنسيين إليها نجد أن عدد المدارس الابتدائية وحدها في مدينة الجزائر عام 1245 هـ / 1830 م بلغ مائة مدرسة(39)، لم يبق منها في عام 1262 / 1846 – أي بعد الاحتلال الفرنسي بست عشرة سنة – سوى أربعة عشرة مدرسة(40) ضربنا هذا المثل بمدينة واحدة في الجزائر دون أن نذكر ما حدث في سائر المدن لأن هذا ليس موضوع دراستنا .
وعلى أية حال فإن نصف المؤسسات التعليمية قد اختفى من ولاية الجزائر في الفترة فيما بين عامي 1245 – 1265 هـ/ 1830 – 1850 م (41).وهذا يؤكد زيف ما ادعاه معظم الكتاب الفرنسيين من عدم وجود تعليم في الجزائر في العهد العثماني، وأن فرنسا هي التي عملت على نشره بعد احتلالها للبلاد .

ثالثا – مصر في ظل الاحتلال البريطاني ( 1299 – 1332 هـ/ 1882 – 1914 م) :

ادعت بريطانيا على لسان ممثلها في مصر إيفلن بيرنخ ( اللورد كرومر) بعد الاحتلال عام 1299 هـ/ 1882 م بأن مهمتها في مصر هي العمل على تحسين حال الفلاح ورفع الظلم عن كاهله ، وأظهر صداقته للفلاحين وأطلق عليهم " أصحاب الجلابيب الزرقاء " وحاول التخفيف عليهم من بعض الضرائب .
وكان الهدف من انتهاج تلك السياسة إزاء الفلاحين ، وهم يمثلون أغلبية شعب مصر ، ما قاموا به من دور بارز في مساندة الثورة العرابية نتيجة لسوء أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، وكثرة الضرائب ، وفرض السخرة ، واستبداد الحكام ، وطلبا في تحسين أحوالهم . وفي عهد الخديوي إسماعيل ( 1279 – 1296 هـ/1863 – 1879 م ) سرى في البلاد نوع من اليقظة والوعي ، وذلك لانتشار الصحف والمجلات ، ولتعاليم جمال الدين الأفغاني ، ونشاط تلاميذه ، وكان للفلاح نصيب منها ، ووجد الفلاحون في عرابي الأمل الذي يرتجى (42)، لاسيما وأن أوضاعهم الاقتصادية الحادة التي مرت بالبلاد (43).
وكان لخطورة الدور الذي قام به الفلاحون في الثورة أن عزمت سلطات الاحتلال على تصفية قوتهم والعمل على إضعافهم ، بل إن ما قاموا به قد أفزع كبار ملاك الأرض، ولذا وجدوا من مصلحتهم التعاون مع سلطات الاحتلال حفاظا على مصالحهم، ومن تم رأت بريطانيا أن تعتمد على طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية في تثبيت دعائم وجودها في مصر، وأن تربط مصلحتهم بمصلحتها، وبدأت تلك السلطات بتصفية كاملة للثورة في الريف المصري، فاعتقلت من الفلاحين ما يربو على 29.000 نسمة (44).
كما قامت السلطات بفصل حوالي 250 من صغار ضباط الجيش من أبناء الفلاحين، وجرودهم من رتبهم جزاء عصيانهم – وبدأت تخيم على البلاد فترة من الظلام في أعقاب فشل الثروة، ونفي وسجن وتشريد القائمين بها.
ونظرا لتعارض مصالح هذه الطبقة مع مصالح السواد الأعظم من الفلاحين فقد آثرت سلطات الاحتلال الوقوف إلى جانب كبار ملاك الأرض في أحيان كثيرة مضحية بجمهرة الفلاحين. وهنا ظهر التناقض واضحا بين أقوال هؤلاء المحتلين وتصرفاتهم الفعلية، فأدرك الفلاحون خداع المحتلين.
ولما كانت مصر دولة مدينة للعديد من الدول والمؤسسات المالية الأجنبية أصبحت بريطانيا بحكم إدارتها للبلاد مسئولة أمامها عن سداد الديون وأقساطها، ولذا بدأت تعمل على زيادة مساحة الأرض الزراعية، وأن تتبع سياسة التخصص الاقتصادي بالاعتماد على الزراعة ولا سيما زراعة القطن (45)اللازم لمصانعها، أي أنها سخرت اقتصاد مصر لخدمة الاقتصاد الإنجليزي.
ومن ثم بدأت بإصلاح القناطر الخيرية سنة 1304هـ/ 1886م وأنشأت قناطر أسيوط عام 1321هـ/ 1902م وخزان أسوان في العام نفسه، وقناطر زفتى في العام التالي، فزادت بذلك مساحة الأراضي الزراعية في مصر من 4.758.000 فدان عام 1299هـ/ 1882م إلى 5.4000.000 فدان في عام 1323هـ/ 1905م (46).
وكان المستفيد الأول من هذه المشروعات بريطانيا أولا، ثم طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية، وحملة سندات الدين المصري (47). بينما لم يستفد صغار الفلاحين شيئا يذكر، وذلك لكثرة الضرائب، وقلة إنتاجية الأرض واستبداد وظلم كبار ملاك الأراضي لهم.
حدث كل ذلك في الوقت نفسه الذي أخذ المعتمد البريطاني في مصر يتشدق بصداقته للفلاحين أصحاب الجلاليب الزرقاء، وبأوضاعهم التي تحسنت كثيرا في ظل الإدارة الإنجليزية، وإذا كانت سلطات الاحتلال قد خفضت بعض الضرائب في مستهل حكمها وألغت البعض الآخر، فقد أثبتت الدراسات التي أجريت حول هذا الموضوع، بأن ما تم بشأن الإلغاء إنما يرجع إلى أن نفقات جبايتها تبتلع معظم العائد منها (48).
ومع ذلك ظلت الضرائب المفروضة ثقيلة، وبلغت جملة الحجوزات الإدارية التي وقعت عليهم في الفترة من 1310-1321هـ/ 1893-1903م 323.259 حجزا، ونفذ البيع بالمزاد في 2.640 حالة، بلغت مساحة الأرض المباعة فيها 53.880 فدانا (49) ، وتوالت بعد ذلك الحجوزات التي تقدر بعشرات الآلاف في السنوات التالية. وترتب على ذلك ضياع الكثير من الملكيات الصغيرة سدادا للديون، وانتقلت ملكية تلك الأراضي إلى الأعيان ومشايخ القرى وبعض اليونانيين والسوريين (50).
وفي عام 1301هـ/ 1884 م يوجه اللورد كرومر ضربة أخرى إلى صغار الفلاحين وذلك بإلغاء مجانية التعليم، فحرم بذلك أبناء الفقراء منهم والذين يمثلون السواد الأعظم من الشعب المصري من تلقي العلم، بحجة أن من يرغب في العلم فعليه إثبات ذلك بدفع نفقاته (51)وأدى انتشار الجهل بين الفلاحين إلى سوء أوضاعهم الاجتماعية والمادية والصحية، ولم تكن سلطات الاحتلال تعبأ بما يصيب الفلاحين من أمراض، لأن سياستها الصحية كانت وقائية فحسب وليست علاجية (52).
أما عن حادثة دنشواي (53)1324هـ/ 13 يونيه 1906م ) التي أسقطت القناع عن وجه كرومر، وأظهرت زيف ادعاءاته بالعطف على الفلاحين والعمل على إصلاح أوضاعهم، فالحادثة تمثل غضبة الفلاحين من قوات الاحتلال التي كانت دائمة التوغل في أرجاء الريف المصري فيما بين القاهرة والإسكندرية، لإرهاب الفلاحين والقضاء على روح التذمر والغضب من تلك القوات (54)ومن سياسة المحتل الزراعية التي أثرت كبار ملاك الأراضي، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فزادت دخولهم، واتسعت ملكياتهم، بينما كادت تنقرض الملكيات الصغيرة، فضلا عن كثرة عدد المعدمين، فجذور الحادثة ترجع إلى السنوات السابقة عليها، وما عاناه الفلاحون من سلطات الاحتلال.
وخلاصة الحادثة أن بعض الضباط الإنجليز وهم في طريقهم من القاهرة إلى الإسكندرية قد توقفوا عند بلدة منوف، وأبدى بعض الضباط ورغبتهم لمأمور المراكز في الصيد في قرية دنشواين فوافق على طلبهم وأعد لهم المركبات اللازمة لذلك؛ هناك توغل أحد الضباط داخل القرية، وصوب طلقاته على أحد أجران القمح، فصاح به أحد الفلاحين بأن يكف عن إطلاق النار وإلا احترق الجرن، فلم يأبه لتحذيره وواصل طلقاته فقتل امرأة وأشعل النار في أحد الأجران، فتجمع أهل القرية للإمساك به، فهب زملاؤه لنجدته، وجرى ضابطان آخران في اتجاه معسكرهما للالتجاء به، وكان الحر شديدا فسقط ميتا من ضربة الشمس (55).
وما إن علمت سلطات الاحتلال بالحادث حتى طاش صوابها، وعزمت على الانتقام من الفلاحين وأن تنزل بهم أشد أنواع العقاب، فقبضت على 250 فردا وحاصرت القرية بقوات كبيرة العدد، وقدم المتهمون للمحاكمة أمام المحكمة المخصوصة، وأقيمت المشانق في القرية قبل أن ينتهي التحقيق، مما يدل على النية المبيتة لضرب الحركة الوطنية في هؤلاء المتهمين.
واستغل الزعيم مصطفى كامل هذه الحادثة لمهاجمة السياسة البريطانية في مصر وفي أوربا بكل شدة وعنف منددا بعدالة الإنجليز في دنشواي (56). وصدر الحكم بإعدام أربعة فلاحين شنقا ونفذ الحكم داخل القرية، وحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين، وبالأشغال الشاقة لمدة 15 عاما على واحد، وبالأشغال الشاقة لسبع سنوات على ستة، وبالحبس والشغل مدة سنة والجلد خمسين جلدة على أربعة، وبالجلد خمسين جلدة على خمسة أفراد.
حدث هذا رغم أن تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي قد أثبت أن الوفاة كانت بسبب ضربة الشمس، وليست نتيجة عدوان وقع عليه.
لا ريب أن الحادثة قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك زيف ما تغنى به كرومر طوال فترة وجوده في مصر، من صداقته للفلاحين، وعطفه عليهم والعمل على إصلاح أحوالهم ومعاملته بالعدل.
فما دونه كرومر في كتابه Modern Egyptعن سياسة بريطانيا في مصر به تشويه لتاريخ تلك الفترة وقلب للحقائق. ومما يؤسف له أن الكثيرين من المؤرخين الأجانب والعرب قد نقلوا عنه، بصفته مصدرا هاما من مصادر تاريخ تلك الفترة.
ولذا كان على بريطانيا، بعد أن تعرت سياسة كرومر أمام المصريين، أن تسحبه من مصر، وأن تستبدله بغيره عنه في الأسلوب ولكن لا يختلف عنه في الغاية.
ويمكننا القول إن هذه الحادثة أدت إلى نشاط الحركة الوطنية، وإلى سيادة روح التذمر والبغض لدى كل المصريين، ولا سيما الفلاحين (57).
ولذا لم يكن من قبيل الصدفة أن تقوم ثورة 1337 هـ/ 1919 على أكتاف الفلاحين في مرحلتها الأولى، وكانت عنيفة ومدمرة.
ونظرا لأن سلطات الاحتلال كانت تخشى من انتقام الفلاحين بعد تلك الحادثة إذا ما أتيحت لهم الفرصة المناسبة، فقد لجأت في سنتي 1334 – 1335 هـ/ 1915 – 1916م إلى نزع ما بأيديهم من أسلحة بلغت ما لا يقل عن مائة قطعة مختلفة الأنواع والأحجام (58)فقل ما بأيديهم من أسلحة، ترتب على ذلك كثرة ما سقط من ضحايا خلال ثورة 1337 هـ/ 1919 م.
من الأمثلة السابقة سيتضح لنا أن الدول الاستعمارية كثيرا ما لجأت إلى تزييف الحقائق التاريخية وتشويهها ، كي تتفق مع أهدافها ومع سياستها الاستعمارية التي رسمتها لحكم الشعوب المقهورة، والتي تهدف في المقام الأول تحقيق مصالحها أولا وقبل كل شيء. وأن منطق القوة الغاشمة قد دفعها إلى العبث بكل شيء، بمقدسات تلك الشعوب وبقيمها، وعاداتها وتقاليدها، وتاريخها، ومثلها الأعلى في ذلك "الغاية تبرر الوسيلة " والله ولي التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

* أستاذ التاريخ الحديث المعاصر كلية الآداب – جامعة الإسكندرية
(1) درزيلي ، بنجامين ( 1804-1881)، سياسي بريطاني، تولى رئاسة الوزراة البريطانية مرتين عام 1868 و ( 1874- 1880) وعرف بسياسته الاستعمارية. وأهم أعماله شراء أسهم مصر في قناة السويس سنة 1875.
(2) دلكة، شبالز ( 1843-1991)، من رجال السياسة والفكر الإنجليز، وممن أيد السياسة الاستعمارية ومجدالإمبراطورية البريطانية في كتابهGreater Britain)) الذي نشر في عام 1868.
(3) فرود، جيمس ( 1818- 1894)، وهو مؤرخ وكاتب ، وممن أشادوا بالإإمبراطورية البريطانية في كتابه الأقيانوسية ( Oceana)الذي صدر في عام 1886.
(4) سيلي، جون ( 1843-1895) ، أيد حركة الاستعمار ومجدها في كتابه ( Exapansion Of England) ونشر في عام 1883.
(5) كارليل، توماس ( 1795-1881)، وهو كاتب ومؤرخ وفيلسوف إنجليزي.
(6) كنجلي ، شارلز ( 1819- 1975) ، وهو رائي وقس إنجليزي،بارك الحركة الاستعمارية، وحاول التوفيق في كتاباته بين العلم الحديث والعقيدة النصرانية.
(7) رسكن، جون ( 1819 – 1900) ،وهو كاتب فنب إنجليزي، وإلى جانب تأييده للحركة الاستعمارية، اهتم بدراسة المجتمع الصناعي الجديد وبيان مساوئه.
(8) تنيون، الفريد ( 1809- 1892)، وهو شاعر إنجليزي ويعد من أكبر شعراء العصر الفيكتوري.
(9) لورد سولسبري ( 1830 – 1903) من كبار رجال الدولة في بريطانيا وهو من حزب المحافظين وقد تولى رياسة الوزارة.
(10) فيري، جول ( 1832-1892) ، وهو سياسي فرنسي كبير، تولى رئاسة الوزارة الفرنسية في اعوام ( 1880- 1881) و ( 1883- 1885) وعرف بسياسته الاستعمارية.
(11) سيسيل، رودس ( 1853-1902) ، وهو أحد رواد الاستعمار البريطاني ومن أنشط رجال المال والسياسة الإنجيز، قضى شطرا كبيرا من حياته في جنوب إفريقيا الجنوبية،وشجعته الحكومة الإنجليزية على إنشاء مستعمرة روديسيا ( زبمبابوي حاليا) سنة 1890.
(12) كتنشر،هوارشيو هربرت ( 1850- 1916)، مارشال بريطاني،وأصبح وزيرا للحربية البريطانية عام ( 1914- 1916).
(13)Langer, W, L., Diplomacy Of Imprialisme, P .93.
(14) رونوفن، بيبير، تاريخ العلاقات الدولية ( 1815-1914)، تعريب دكتور جلال يحيى، الإسكندرية، 1986،ص.516.
(15) كبلنج،رويارد ( 1865- 1936)ن من مؤيدي حركة الاستعمار وألف في هذا الموضوع كتابين هما :
( Departmental Ditties) في عام 1886، و ( Take Up the Xhite Man burden) في عام 1899.
(16) رونوفن، المرجع السابق / ص.515.
(17) محمد محمود السروجي، تاريخ أوربا الدبلوماسي – من السبعينات للقرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى ، الإسكندرية 1966، ص.115-117.
(18) المرجع نفسه ، ص.118.
(19) تشمبرلين ، جوزيف أوستين ( 1836 – 1914 ) ، سياسي بريطاني ، شغل منصب وزير خارجية بريطانيا من ( 1924 – 1929 ) .
(20) 20 أنظر Foreigin & Colonial Speeches

(21) عبد العزيز الشناوي ، الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها جدا ، القاهرة ، 1984 ، ص . 15 .
(22) المصدر نفسه ، ص. 15 .
(23) محمد محمود السروجي ، مصر والمسألة الشرقية من القرن التاسع عشر ، القاهرة 1966 ، ص . 5 .
(24)Summer , B . H . Survey of Russian History , London , 1945 , P 20 .
(25) السروجي ، مصر والمسألة الشرقية ، صص . 303 -310 .
(26) محمد مصطفى صفوت ،الاحتلال الإنجليزي لمصر وموقف الدول الكبرى إزاءه ، القاهرة ، 1952 .صص. 17 .18
(27) The Ottoman Empire and its Successors 1801 – 1927 , London , 1927
(28) الشناوي ، المرجع السابق ، صص . 690 – 829 .
(29) كوليت وفرانسيس جانسون ، الجزائر الثائرة ، ترجمة محمد علوي الشريق و آخرين ، دار الهلال ، 1957 .
(30) مجاهد جزائري من رجال الحركة الوطنية في الجزائر ، و أول من تولى رئاسة الحكومة الجزائرية المؤقتة التي أقيمت بالقاهرة عام 1958 ، وورد هذا القول في كتابه ، حرب الجزائر وثورتها (ليل الاستعمار ) ، ترجمة أبو بكر رحال ، مطبعة فضالة ، المغرب ، ص . 9 .
(31) صلاح العقاد ، المغرب العربي ( الجزائر ، تونس ، المغرب الأقصى ) دراسة في تاريخه الحديث وأحواله المعاصرة، ط 2 ، القاهرة ، 1966 ، ص . 86 .
(32) Lacoste , y , L’Algérie , passé et présent , Paris , P 180 .
(33) Julien , ch -A , Histoire de l’Afrique du Nord , Tunisie – Algérie – Maroc : de la Conquete Arabe à 1830 ( 2eme éd ) Paris , 1966 , pp . 286 . 287 .
(34) De grammont , H. D Histoire d’ alger sous la domination turque , 1515 – 1830 , Paris , 1887 , p . 248 .
(35) عباس فرحات ، المصدر السابق ، ص . 10 .
(36)Ageron , ch . Robert , Histoire de l’ Algérie contemporaine ( 1830 – 1976 ) P.U.F., 1982 , pp .5 &6.
(37) سليمان الهادف قريري ، القوى الوطنية في الجزائر ومقدمات الثورة التحررية ( 1945 – 1954 ) رسالة ماجستير بجامعة الإسكندرية ، غير منشورة ، ص . 18 .
(38) كوليت وفرانسيس جانسون ، المصدر السابق ، ص. 9 .
(39) المصدر السابق ، De Grammont , p . 229 .
(40) المصدر السابق ، Lacoste , y . p . 130
(41) المصدر السابق ، ص . 131
(42) لطيفة محمد سالم ، القوى الاجتماعية في الثورة العرابية ، الهيئة المصرية العامة لللكتاب ، القاهرة ، 1981 ، ص . 297 .
(43) محمد محمود السروجي ، الجيش المصري في القرن التاسع عشر ، دار المعارف ، 1967 ، صص .537 -556 .
(44) المصدر السابق، ص.588.
(45) محمود إبراهيم الشواربي، حركة الفلاحين في مصر ما بين ثورتي 1882-1919، رسالة ما جستير غير منشورة ، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية عام 1978،ص.169.
(46) 153-152 hrouchley, The Economie Developement Of Modern Egypt, PP
(47) رؤوف عباس، النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الزراعية الكبيرة 1837-1914، الطبعة الأولى، دار الفكر الحديث ، القاهرة، 1973، ص.113.
(48) رؤوف عباس، مذكرات محمد فريد، القسم الأول، ص.67.
(49) جرجس حنين، الأطيان والضرائب في القطر المصري، القاهرة 1322هـ/ 1904،ص.627.
(50)Bear, G.A. History Of Landowmership In Modern In Egypt London, 1962, P.36.
(51)Cromer, Earl, Modern Egypt, 1908, P.532.
(52)Colvin, Sir Aucland, The Making Of Modern Eegypt, 1938, P.313.
(53) دنشواي : قرية صغيرة تابعة لمركز منوف، اشتهرت بكثرة أبراج الحمام الذي يربى فيها من قبل الفلاحين.
(54) محمد جمال الدين المسدى، دنشواي، مطبوعات مركز وثائق مصر المعاصر، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1947،صص.7-8
(55) المصدر نفسه، ص.75.
(56) محمد محمود السروجي ، ثورة 32 يوليو 1952، جذورها وأصولها التاريخية ،ص.113.
(57). عمر عبد العزيز عمر، دراسات في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، 1975،ص.377.
(58) F.O. 407 / 184 N° 120 Memorarandum by Sir R.Graham On the Unrest Egypt. هـ 1 سروجي


التصنيفات
تاريـخ,

الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ / د. محمد عمارة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ / د. محمد عمارة

الحجم : 7.2 MB

http://www.4shared.com/get/TXjh_67U/____-_.html


التصنيفات
تاريـخ,

نكبة الامة العربية بسقوط الخلافة العثمانية دراسة للقضية العربية في خمسين عاما

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نكبة الامة العربية بسقوط الخلافة العثمانية .. دراسة للقضية العربية في خمسين عاما 1875م/1925م – عبدالقادر, محمدالخير.

الحجم : 6.9 MB

http://www.4shared.com/get/RWMCwAYJ/____________.html


التصنيفات
تاريـخ,

كتاب منهج البحث التاريخي / الدكتور حسن عثمان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


كتاب منهج البحث التاريخي / الدكتور حسن عثمان

الحجم : 8.3 MB

http://www.4shared.com/get/TJLWPJB4/…_________.html


ممكن الباسورد الملف

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … .

التصنيفات
تاريـخ,

الحضارة وعوامل نشأتها كما يراها "ول ديو رانت "

الحضارة وعوامل نشأتها كما يراها "ول ديو رانت " تعليم_الجزائر
الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي ، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
والحضارة مشروطة بطائفة من عوامل هي التي تستحث خطاها أو تعوق مسراها، وأولها العوامل الجيولوجية ، ذلك أن الحضارة مرحلة تتوسط عصرين من جليد، فتيار الجليد قد يعاود الأرض في أي وقت فيغمرها من جديد ، بحيث يطمس منشآت الإنسان بركام من ثلوج وأحجار، ويحصر الحياة في نطاق ضيق من سطح هذه الأرض؛ وشيطان الزلازل الذي نبني حواضرنا في غفوته، ربما تحرك حركة خفيفة بكتفيه فابتلعنا في جوفه غير آبه.
وثانيها : العوامل الجغرافية، فحرارة الأقطار الاستوائية ، وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكّر وانحلال مبكر، من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية ، ويستنفدها جميعاً في إشباع الجوع وعملية التناسل، بحيث لا تَذَرُ للإنسان شيئاً من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير؛ والمطر كذلك عامل ضروري ، إذ الماء وسيلة الحياة، بل قد يكون أهـم للحياة من ضوء الشمس، ولما كانت السماء متقلبة الأهواء لغير سبب مفهوم فقد تقضي بالجفاف على أقطار ازدهرت يوماً بالسلطان والعمران، مثل نينوى وبابل؛ أو قد تسرع الخطى نحو القوة والثراء، بمدائن هي- فيما يبدو للعين- بعيدة عن الطريق الرئيسي للنقل والاتصال، مثل المدن في بريطانيا العظمى أو خليج بُيوجت Puget Sound وإذا كانت تربة الإقليم تجود بالطعام أو المعادن، وإذا كانت أنهاره تهيئ له طريقاً هينة للتبادل مع غيره، وإذا كان شاطئه مليئاً بالمواضع التي تصلح مرافئ طبيعية لأسطوله التجاري، ثم إذا كانت الأمة فوق هذا كله تقع على الطريق الرئيسية للتجارة العالمية، كما كانت حال أثينا وقرطاجنة وفلورنسة والبندقية- إذن فالعوامل الجغرافية على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقاً، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيئ سبيل ازدهارها.
والعوامل الاقتصادية أهم من ذلك، فقد يكون للشعب مؤسسات اجتماعية منظمة، وتشريع خلقي رفيع، بل قد تزدهر فيه صغريات الفنون، كما هو الحال مع الهنود الأمريكيين، ومع ذلك فإنه إن ظلَّ في مرحلة الصيد البدائية، واعتمد في وجوده على ما عسى أن يصادفه من قنائص، فإنه يستحيل أن يتحول من الهمجية إلى المدنية تحولاً تاماً..
قد تكون قبيلة البدو- كبدو بلاد العرب- على درجة نادرة من الفتوة والذكاء، وقد تبدي من ألوان الخُلق أسماها كالشجاعة والكرم والشيم، لكن ذكاءها بغير الحد الأدنى من الثقافة التي لا بد منها، وبغير اطراد موارد القوت، ستنفقه في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة ، بحيث لا يبقى لها منه شيء لوَشْى المدنية وهُدابها ولطائفها وملحقاتها وفنونها وترفها..
وأول صورة تبدت فيها الثقافة هي الزراعـة ، إذ الإنسان لا يجد لتمدنه فراغاً ومبرراً إلا إذا استقر في مكان يفلح تربته ، ويخزن فيه الزاد ليوم قد لا يجد فيه مورداً لطعامه؛ في هذه الدائرة الضيقة من الطمأنينة- وأعني بها مورداً محققاً من ماء وطعام- ترى الإنسان يبني لنفسه الدُّور والمعابد والمدارس، ويخترع الآلات التي تعينه على الإنتاج ، ويستأنس الكلب والحمار والخنزير، ثم يسيطر على نفسه آخر الأمر، فيتعلم كيف يعمل في نظام واطراد، ويحتفظ بحياته أمداً أطول ويزداد قدرة على نقل تراث الإنسانية من علم وأخلاق نقلاً أميناً.
إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة، إن المدنية في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ، ورقة المعاملة هي ذلك الضرب من السلوك المهذب الذي هو في رأي أهل المدن- وهم الذين صاغوا حكمة المدنية- من خصائص المدينة وحدها ، ذلك لأنه تتجمع في المدينة- حقاً أو باطلاً- ما ينتجه الريف من ثراء ومن نوابـغ العقول؛ وكذلك يعمل الاختراع ، وتعمل الصناعة على مضاعفة وسائل الراحة والترف والفراغ؛ وفي المدينة يتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والأفكار؛ وهاهنا حيث تتلاقى طرق التجارة فتتلاقح العقول، يُرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخَلق والإبداع، وكذلك في المدينة يُستغنى عن فئة من الناس فلا يُطلب إليهم صناعة الأشياء المادية، فتراهم يتوفرون على إنتاج العلم والفلسفة والأدب والفن؛ نعم إن المدنية تبدأ في كوخ الفلاح، لكنها لا تزدهر إلا في المدن.
وليست تتوقف المدنية على جنس دون جنس، فقد تظهر في هذه القارة أو تلك، وقد تنشأ عن هذا اللون من البشرة أو ذاك، قد تنهض مدنيّة في بكين أو دلهي، في ممفيس أو بابل، في رافنا أو لندن، في بيرو أو يوقطان ، فليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب ، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته ، والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه ، ليست المدنية البريطانية وليدة الرجل الإنجليزي ولكنه هو صنيعتها، فإذا ما رأيته يحملها معه أينما ذهب ، ويرتدي حُلة العشاء وهو في "تمبكتو"؛ فليس معنى ذلك أنه يخلق مدنيته هناك خلقاً جديداً، بل معناه أنه يبين حتى في الأصقاع النائية مدى سلطانها على نفسه…
فلو تهيأت لجنس بشري آخر نفس الظروف المادية، ألفيت النتائج نفسها تتولد عنها، وها هي ذي اليابان في القرن العشرين تعيد تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإذن فالمدنية لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى واحد، وهو أنها تجيء عادة بعد مرحلة يتم فيها التزاوج البطيء بين شتى العناصر، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً إلى تكوين شعب متجانس نسبياً .
وما هذه العوامل المادية والبيولوجية إلا شروطا لازمة لنشأة المدنية، لكن تلك العوامل نفسها لا تكوّن مدنية ولا تنشئها من عدم، إذ لا بد أن يضاف إليها العوامل النفسية الدقيقة، فلا بد أن يسود الناس نظام سياسي مهما يبلغ ذلك النظام من الضعف حداً يدنو به من الفوضى، كما كانت الحال في فلورنسة وروما أيام النهضة…
ثم لا بد للناس أن يشعروا شيئاً فشيئاً أنه لا حاجة بهم إلى توقع الموت أو الضريبة عند كل منعطف في طريق حياتهم، ولا مندوحة كذلك عن وحدة لغوية إلى حد ما لتكون بين الناس وسيلة لتبادل الأفكار ، ثم لا مندوحة أيضاً عن قانون خلقي يربط بينهم عن طريق الكنيسة أو الأسرة أو المدرسة أو غيرها ، حتى تكون هناك في لعبة الحياة قاعدة يرعاها اللاعبون ، ويعترف بها حتى الخارجون عليها ..
وبهذا يطـرد سلوك الناس بعض الشيء وينتظم، ويتخذ له هدفاً وحافزاً، وربما كان من الضروري كذلك أن يكون بين الناس بعض الاتفاق في العقائد الرئيسية ، وبعض الإيمان بما هو كائن وراء الطبيعة أو بما هو بمثابة المثل الأعلى المنشود ؛ لأن ذلك يرفع الأخلاق من مرحـلة توازن فيها بين نفع العمل وضرره إلى مرحلة الإخلاص للعمل ذاته، وهو كذلك يجعل حياتنا أشرف وأخصب على الرغم من قصر أمدها قبل أن يخطفها الموت.
وأخيراً لا بد من تربية- وأعني بها وسيلة تُتخذ- مهما تكن بدائية- لكي تنتقل الثقافة على مر الأجيال، فلابد أن نورث الناشئة تراث القبيلة وروحها، فنورثهم نفعها ومعارفها وأخلاقها وتقاليدها وعلومها وفنونها، سواء أكان ذلك التوريث عن طريق التقليد أو التعليم أو التلقين ، وسواء في ذلك أن يكون المربي هو الأب أو الأم أو المعلم أو القسيس؛ لأن هذا التراث إن هو إلا الأداة الأساسية التي تحول هؤلاء النشء من مرحلة الحيوان إلى طور الإنسان.
ولو انعدمت هذه العوامل- بل ربما لو انعدم واحد منها- لجاز للمدنية أن يتقوض أساسها، فانقلاب جيولوجي خطير، أو تغيُّر مناخي شديد ، أو وباء يفلت من الناس زمامه كالوباء الذي قضى على نصف سكان الإمبراطورية الرومانية في عهد "الأناطنة" (جمع أنطون)، و "الموت الأسود" الذي جاء عاملاً على زوال العهد الإقطاعي، أو زوال الخصوبة من الأرض، أو فساد الزراعة بسبب طغيان الحواضر على الريف ، بحيث ينتهي الأمر إلى اعتماد الناس في أقواتهم على ما يرد إليهم متقطعاً من بلاد
أخرى، أو استنفاد الموارد الطبيعية في الوقود أو المواد الخام، أو تغيُّر في طرق التجارة تغيراً يُبعد أمة من الأمم عن الطريق الرئيسية لتجارة العالم، أو انحلال عقلي أو خلقي ينشأ عن الحياة في الحواضر بما فيها من منهكات ومثيرات واتصالات، أو ينشأ عن تهدم القواعد التقليدية التي كان النظام الاجتماعي يقوم على أساسها ، ثم العجز عن إحلال غيرها مكانها أو انهيارُ قوة الأصلاب بسبب اضطراب الحياة الجنسية ، أو بسبب ما يسود الناس من فلسفة أبيقورية متشائمة ، أو فلسفة تحفزهم على ازدراء الكفاح، أو ضعفُ الزعامة بسبب عقم يصيب الأكفاء ، وبسبب القلة النسبية في أفراد الأسرات التي كان في مقـدورها أن تورث الخَلفَ تراث الجماعة الفكري كاملاً غير منقوص، أو تركز للثروة تركزاً محزناً ينتهي بالناس إلى حرب الطبقات والثورات الهدامة والإفلاس المالي.
هذه هي بعض الوسائل التي قد تؤدي إلى فناء المدنية، إذ المدنية ليست شيئاً مجبولاً في فطرة الإنسان، كلا ولا هي شيء يستعصي على الفناء؛ إنما هي شيء لا بد أن يكتسبه كل جيل من الأجيال اكتساباً جديداً، فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية أو في طرائق انتقالها من جيل إلى جيل فقد يكون عاملاً على فنائها…
إن الإنسان ليختلف عن الحيوان في شيء واحد، وهو التربية، ونقصد بها الوسيلة التي تنتقل بها المدنية من جيل إلى جيل.
والمدنيات المختلفة هي بمثابة الأجيال للنفس الإنسانية، فكما ترتبط الأجيال المتعاقبة بعضها ببعض بفضل قيام الأسرة بتربية أبنائها ، ثم بفضل الكتابة التي تنقل تراث الآباء للأبناء، فكذلك الطباعة والتجارة وغيرهما من ألوف الوسائل التي تربط الصلات بين الناس، قد تعمل على ربط الأواصر بين المدنيات ، وبذلك تصون للثقافات المقبلة كل ما له قيمة من عناصر مدنيتنا ، فلنجمع تراثنا قبل أن يلحق بنا الموت، لنُسلمه إلى أبنائنا…
المصدر : قصة الحضارة (ج1 من ص 13 : ص 18 )


التصنيفات
تاريـخ,

العالم العربى فى التاريخ الحديث / ياغى، اسماعيل احمد محمد.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

العالم العربى فى التاريخ الحديث / ياغى، اسماعيل احمد محمد.

الحجم : 7.82 MB

http://www.mediafire.com/?ms1mzh2ectabc9p


التصنيفات
تاريـخ,

تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية / قاسم عبده قاسم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


تطور منهج البحث في الدراسات التاريخية / قاسم عبده قاسم

الحجم : 5.2 MB

http://www.4shared.com/get/uCHG8VP9/_____.html


التصنيفات
تاريـخ,

الأندلسيون المواركة دراسة في تاريخ الاندلسيين بعد سقوط غرناطة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الأندلسيون المواركة .. دراسة في تاريخ الاندلسيين بعد سقوط غرناطة / عادل سعيد البشتاوي

الحجم : 24.2 MB

http://www.4shared.com/get/wJLb39LC/__online.html