التصنيفات
لغــة وأدب عربي

النقد الأدبي القديم محاضرة للأستاد علي لطرش


المدرسة العليا للأساتذة
في الآداب والعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية وآدابها

محاضرات الأستاذ /
علي لطرش

– مادة : النقد الأدبي القديم
– شعبة : اللغة العربية وآدابها
– المستوى : السنة الأولى

• للسنة الدراسية : 2022/2010

مفهوم النقد الأدبي ووظيفته
مدخل:
إن مفهوم النقد الأدبي العام يحمل معنى أخلاقيا يهدف إلى ذكر العيوب فيقال مثلا : ” نقد فلان فلانا ” أي أعابه ولامه على فعل أو عمل سيئ ما ، وأصل لفظة “نقد ” يعود إلى العملة التي بتداولها القدم والتي تجمع على ” نقود ولهذه الكلمة عدة مشتقات يقال : ” نقد الدراهم ، وانتقده ” وسميت العملة بالنقد لأنها تنقد ، والنقد بالنسبة للمصرفي هو تفحص الدراهم وتحديد قيمتها أو كشف صححيها من زائفها والناقد هنا هو البصير والخبير بشؤون النقود يتفحصها ويحللها ويقيمها ، وقد انتقل هذا المدلول إلى مجال الأدب فصار كذلك يعنى بنقد الإنتاج الأدبي وتقييمه وإصدار الحكم عليه نظرا لما بين المصرفي وناقد الأدب من أوجه التشابه في مهمة كل منهما ، فالنقد الأدبي هنا له مدلول اصطلاحي يعنى بتقدير العمل الفني ومعرفة قيمته ودرجته في الجودة في الأدب أو غيره من الأعمال الفنية الأخرى كالتصوير أو الموسيقى أو النقش …الخ والنقد الأدبي لا يعني مجرد تشخيص العيوب أنما يعني تقدير العمل الفني والحكم عليه بالحسن أو القبيح أي من حيث الجودة والرداءة .
– بين المبدع والناقد:
إن المبدع أي الفنان حرفي عمله الفني ، أما الناقد فمقيد بشروط الموضوعية وبقوانين النقد ومعاييره عند الحكم على العمل . وقد يكون الناقد نفسه مبدعا وقد لا يكون أي هو مجرد ناقد كما يلاحظ لدى العديد من النقاد في تاريخ النقد العربي وقد يلاحظ أحيانا اختلاف الأحكام النقدية حول العمل الأدبي والأمر ذلك يعود إلى اختلاف درجات الأذواق والأحاسيس بين النقاد ولكن بالرغم من ذلك يبقى هناك حد مشترك بين النقاد لا يمكن الخروج عنه .
ومن مميزات النقد الأدبي أنه أقرب إلى العلم منه إلى الفن فالفرق مثلا بين البلاغة وبين النقد أن للبلاغة جانب فني تسعى إلى تعليم المنشئ الإتيان بتعابير فنية بليغة ، أما النقد فإنه يبين الأسس التي تقدر بها تلك العبارة البليغة الجميلة أي أن البلاغة تعني بالشكل أما النقد فيعني بالشكل والمضمون ولذلك يميل الناقد أحيانا إلى مهاجمة المبدع لأن الناقد مقيد بقواعد تمنعه من التحليق في الخيال المفرط الذي نلمسه في العديد من الأعمال الإبداعية .

“المحاضرة الأولى”
النقد في العصر الجاهلي:
أوليات النقد الأدبي عند العرب : تعود بداية النقد العربي إلى العصر الجاهلي وكان وراء ظهوره عوامل أهمها : خروج العرب من جزيرتهم والاتصال بالبلدان الأخرى المجاورة كالشام والعراق وبلاد فارس بدافع التجارة أو الحروب يضاف إلى ذلك مظاهر التعصب القبلي الذي كان سائدا بين القبائل وقد كان لهذه العوامل أثرها في ظهور النقد الأدبي وازدهاره ورغم أن بدايته كانت ساذجة بسيطة فإنه قد ساعد على تطوير شعرهم بما يقدم من ملاحظات حيث كان الناس معجبين بالشعر يستمعون ويتأملون قصائد الشعراء ويشيرون إلى مواطن القوة ومواطن الضعف فيفضلون شاعرا على آخر لفحولته وحسن إصابته أو ما تفرد به في شعره عن غيره …الخ
أوليات الشعر الجاهلي :
لم يظهر الشعر الجاهلي هكذا ناضجا كما هو بين أيدينا ، إنما مر بضروب ومراحل طويلة من التهذيب حتى بلغ ذلك الإتقان الذي أصبح عليه في أواخر العصر الجاهلي وكذلك الشأن بالنسبة للنقد ، فقد ظهر مع بداية الشعر وما وصل إلينا من شواهد نقدية لا يدل على البداية الأولى لهذا النشاط وما بين أيدينا من أحكام نقدية إنما تعود إلى أواخر العصر الجاهلي كذلك بعد أن خطـــــــــــــــــــا هو الآخر خطوات ومن مظاهره ما كان يجرى فيما يسمى «بالأسواق» تارة التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة فيتذاكر الناس فيها الشعر ويلتقي فيها الشعراء ومن صور النقد الجاهلي ما كان يجري في بلاط ملوك الحيرة وغسان حيث يلتقي الأمراء والأعيان بالشعراء فيستمع فيها الحضور إلى ما قال الشاعر في مدح الممدوح فيعقبه نقاش وأحكام حول المآخذ ،وما أورده الشاعر من معاني تليق بمقام الممدوح ….الخ ، فهذه النماذج هي أولى الصور النقدية التي وصلتنا من العصر الجاهلي أما قبلها فمغمور وغير معروف لم يصل إلينا منه شيء يذكر.
ومن أبرز مظاهر النقد الجاهلي ما كان يجري في سوق عكاظ المشهورة التي كانت سوقا تجارية وموعدا للخطباء والدعاة وكانت في آن واحد بيئة للنقد الأدبي يلتقي فيها الشعراء كل عام ليتنافسوا ويعرضوا ما جاءت به قرائحهم من أشعار، ومما ذيع في كتب الأدب أن الشاعر النابغة الذبياني كانت تضرب له قبة حمراء ، من جلد في ناحية من السوق فيأتيه الشعراء ، ليعرضوا عليه أشعارهم ومما يروى في ذلك أن الأعشى أنشد النابغة مرة شعرا ثم أنشده حسان بن ثابت ثم شعراء آخرون ثم أنشدته الخنساء قصيدتها في رثاء صخر أخيها التي قالت فيها :
وان صخرا لتأتم الهداة به * * * كأنه علم في رأسه نار
فقال النابغة: لولا أن أبا بصير” يعني الأعشى” انشدني من قبل لقلت أنك اشعر الأنس والجن .
وقد أعاب العرب كذلك على النابغة بعض الإقواء الذي لوحظ في شعره في قوله:
امن آل مية رائح أو مغتدي * * * عجلان زار زاد ، وغير مزودِ.
زعم البوارح أن رحلتنا غدا * * * وبذاك حدثنا الغداف الأسودُ.
حيث اختلفت حركة الروي مما يؤدي إلى خلل موسيقي وقد فطن النابغة إلى ما وقع فيه ولم يعد إلى ذلك في شعره .
وأورد حما د الراوية أن شعراء القبائل كانوا يعرضون شعرهم على قريش فما قبلته كان مقبولا وما ردته كان مردودا،وقد قدم عليهم مرة علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدة يقول فيها :
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ فقالوا: هذا سمط الدهر أي رائع وسيبقى في ذاكرة التاريخ .
وقد سمع طرفة بن العبد المتلمس مرة ينشد بيته :
وقد أتناسى الهم عند احتضاره بناج عليه الصيعرية مكدم .
فقال طرفة :استنوق الجمل لان الصيعرية سمة في عنق الناقة لا في عنق البعير .
ونلاحظ من خلال هذه الشواهد أن النقد الجاهلي كان يعنى تارة بملاحظة الصياغة أي الشكل وتارة أخرى بملاحظة المعاني من حيث الصحة والخطأ ومن حيث الانسجام المطابق للسليقة العربية فقد ذمً الإقواء في شعر النابغة لأنه اخل بالانسجام وسلامة الوزن وحسن الصياغة لان الشعر عند الجاهليين هو حسن الصياغة وحسن الفكرة والمعنى وهو نظم محكم ومعنى مقبول وإلا ما كان شعرا فالمعنى الذي أورده المتلمس في بيته الشعري إنما هو معنى فاسد مرفوض لأنه اسند صفة لغير ما تسند إليه .
فهذه القيم والمبادئ هي أهم المجالات التي جال فيها النقد في العصر الجاهلي التي تجنح إلى الحكم على الشعر من حيث المعنى تارة والمبنى تارة أخرى والتنويه بمكانة الشعراء وقدراتهم أما الذهاب إلى البحث مثلا في طريقة نظم الشاعر أو فحص مذهبه أو البحث في صلة شعره بالحياة الاجتماعية فذلك كان مازال غائبا لم يلتفت إليه الناقد إذ كان يأخذ الكلام منقطعا عن كل مؤثر اجتماعي خارجي وحتى عن بقية شعر الشاعر فهو نقد جزئي انطباعي أساسه السليقة والانطباع الذاتي .
على أننا لا ننفي أن غرض الناقد كان يسعى أحيانا إلى وضع الأمور في مواضعها ووضع كل شاعر في المكانة التي هو جدير بها فحركة الروي في شعر النابغة كما أشرنا آنفا لابد أن تكون واحدة وذلك بطرح الإقواء والبعير ينبغي أن يوصف بما هو من صفاته أصلا لا بصفات غيره وان الشعراء ينبغي أن يصنفوا وفق قدراتهم فلا يقدح الضعفاء على الفحول ويعني هذا أن للناقد الجاهلي قيما فنية كان يحرص على تحقيقها حيث يقرر الأحكام تارة في مجال الصياغة وتارة في مجال المعاني غير أن النقد الجاهلي على العموم إنما هو قائم أساسا على الإحساس بأثر الشعر في نفس الناقد والحكم دائما مرتبط بهذا الإحساس قوة وضعفا عماده الذوق والسليقة وليست هناك مقاييس تقاس بها الأحكام فما الذي فضل به النابغة الخنساء على الأعشى؟ وما الذي كان رائعا في بيته؟ فهي أحكام لاتقوم على تفسير أو تعليل ، وعلى قواعد محددة ، فالنابغة اعتمد في حكمه على ذوقه الأدبي دون ذكر الأسباب والعرب حين نفرت أسماعهم من الإقواء في شعر النابغة ، إنما فعلوا ذلك استجابة لسليقتهم ، ورفض طرفة للمعنى الذي جاء في بيت المتلمس نابع من الفطرة العربية التي تأبى وصف الشيء بغير وصفه أو ما فيه .
روي أن حسان بن ثابت سئل عن بيت القصيد في قصيدته يفتخر فيها فأجاب بأنه الذي يقول فيه :
لنا الحفنات الغر يلمعن بالضحى * * * وأسيافنا يقطرن من نجدة دما .
فأعاب عليه النابغة بأنه افتخر ولم يحسن الافتخار لأنه أورد كلمات غيرها اقرب وأوسع مفهوما ، فقد ترك الجفان والبيض والإشراف والجريان واستعمل الحفنات والغر واللمعان وهي دون سابقتها فخرا .
فالبيت فيه امتحان لقدرات الشاعر على أدراك اللفظة الصحيحة في مكانها الصحيح وتؤدي المعنى بشكل أقوى حيث علق النابغة على محتوى البيت مخاطبا حسانا :
أقللت أسيافك وجعلت جفانك قلة ويعني بذلك أن على الشاعر أن يكون عليما باللغة ويحسن وضع المفردة لما تدل عليه والربط بين الدال والمدلول ، ومن الشواهد النقدية ما ورد في قصة «أم جندب» حين تنازعا علقمة الفحل وامرؤ القيس وادعى كلاهما انه اشعر فاحتكما إليها فقالت لهما: قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة تصفان فيه الخيل ففعلا فانشد بها زوجها امرؤ القيس قائلا:
فللسوط ألهوب وللساق درة * * * وللزجر منه وقع احوج منعب
وقال علقمة :
فأدركهن ثانيا من عنانــــــه * * * يمر كمر الرائح المتحلب
فقضت أم جندب لعلقمة على امرئ القيس لان فرس امرئ القيس يبدو كيلا بليدا لم يدرك الطريدة إلا بالضرب والزجر والصياح خلاف فرس علقمة الذي انطلق بسرعة الريح ولم يحتج إلى الإثارة فهو ابرع وسرعته طبيعية أصيلة ويلاحظ أن أم جندب ، اعتمدت في حكمها على بعض القواعد وهي :
وحدة الروي والقافية ووحدة الغرض حتى تبدو بحق براعة كل شاعر في إطار الشروط المحددة ، ونستنتج من هذا أن النقد الجاهلي لم يكن يعتمد دائما على مجرد السليقة والفطرة بل كانت له أحيانا شبه أصول وقواعد يعتمد عليها .

المحاضرة الثانية “

نقد الموازنة:
هو ذلك النقد الذي يدور حول موضوع واحد او في قضايا متقاربة اوفكرة واحدة مشتركة قصد التعرف على أفكار كل أديب و اكتشاف خصائص كل نص في معناه او مبناه . و في صوره وأسلوبه ولغته المأخوذة من مادة واحدة.
و الموازنة ليست عملية فكرية و عقلية فحسب . بل هي بالإضافة إلى ذلك عملية ذوقية و جمالية . لأن الناقد أثناء ملاحظته للأعمال الإبداعية المشتركة و المتشابهة إنما يعتمد في ذلك كذلك على ذوقه الأدبي الذي يعطيه القدرة للقيام بعملية التقييم بين العملين .
فنقد الموازنة يقوم على الملاحظة و الفهم و الإدراك ثم الحكم . فهو نوع من الوصف أو نوع من النقد يقوم على الملاحظة للتمييز بين العناصر المتشابهة و المختلفة في الموضوع الواحد للوصول إلى الحكم النهائي .
و يعتبر نشاط الموازنة نشاطا عربيا أصيلا له إرهاصات و امتداد في المورث الأدبي وفي التراث النقدي بالخصوص. وقد ظهر في شكل بداية ساذجة يتميز بطابع العفوية عمادها الذوق الفني الفطري التأثري الذي لا يستند على قواعد موضوعية معينة . و الشواهد النقدية في التراب النقدي العربي تثبت أن عملية الموازنة و المفاضلة عملية قديمة قدم الشعر العربي حيث تعود بدايتها إلى العصر الجاهلي . إذ كثيرا ما كان العرب القدامى يقومون بهذا النشاط عند الحكم على الشاعر أو على الشعر أو عند التنويه بصاحبه لما في شعره من عناصر الجودة سواء في الصياغة أو في المضمون . ومما ذيع في كتب الأدب ما كان يجري في سوق عكاظ . الذي سبق الإشارة إليه . و ما كان يقوم به النابغة في هذا المجال . حيث كانت تضرب له فيه قبة حمراء من جلد فيأتيه الشعراء يعرضون عليه أشعارهم . و كثيرا ما وازن القدماء بين القصائد الشعرية و بين الشعراء واستخلصوا في الكثير من الأحيان بعض أوجه التشابه و الاختلاف . وقد نوهوا بالبعض بما كان لهم من براعة و إمكانيات خاصة . ومن خلال عملية المفاضلة هذه أعجبوا ببعض القصائد واعتبروها درة أو يتيمة . ولاحظوا بعض الخصائص التي تميز بها شاعر عن آخر . فقد لقبو النمر بن تولب بالكيس لحسن شعره وسموا طفيل الغنوي: طفيل الخيل لمهارته و براعته في وصفه لها . وسموا قصيدة سويد بن أبي كاهل بالقصيدة اليتيمة التي تقول فيها:
بسطت ربيعة الحبل لنا *** فوصلنا الحبل منها ما اتسع.
وكانت موازنتهم تقوم أساسا على ملاحظة حسن الصياغة و حسن الفكرة : فهل المعنى مقبول . أو غير مقبول . وهل النظم مقبول أو غير مقبول . والى أي مدى تحقق ذلك الانسجام و الصقل المطابق للسليقة الغربية.
ومن مظاهر الموازنة عندهم ما ذكر عن أم جندب حين تنازع علقمة الفحل وامرؤ القيس . وزعم كل من هما أنه الأشعر .
فتحاكما إلى أم جندب الطائية زوج امرىء القيس التي ذكرنا من قبل ومن صور الموازنة كذلك ما قام به ربيعة بن حذار الأسدي في حكمه على شعر شعراء تميم الذين كانوا في مجلس شراب . واختلفوا إذ زعم كل واحد منهم أنه اشعر . فاحتكموا إليه . فقرأ كل واحد منهم بعض شعره عليه . وبعد ان وازن بين ما سمع من شعر . أخذ يصف شعركل شاعر ومايتميز به . فقال :اما عمرو فشعره برود يمانية تطوي وتنشر . واما انت يا زبرقان فكانك جل حتى جزروا قد نحرت فاخذ من اطاييبها وخلطة بغير ذلك . ولا ما انت يا عبدة فشعرك كمزادة اخكم خرزها فليس يقطر منها شيء .
نلاحظ ان احكام الناقد فيها تشبيهات مستمدة من الواقع فكما ان لحم الشاة تتباين درجات جودته وحسن مذاقه فكذلك تفاوتت جودة شعر الزبرقان حيث فيه الجيد والرديىء . وقد شبه الناقد شعر عبدة بن الطيب بالمزادة التي احكم خرزها دلالة على قوة بناء شكل شعره وصياغته حيث لاتوجد فيه اللفظة الزائدة او العبارة المهلهلة أي أن أسلوب شعره محكم رصين.
ولهذا النشاط حضور مستمر واسع في الحركة النقدية العربية حيث ازدادت أهمية بعد العصر الجاهلي وتوسع خاصة عند شعراء النقائض بسبب اشتداد جزيرة النزعة العصبية القبلية . ورجوعها من جديد بعد أن خمدت في صدر الإسلام . بسبب اشتغال الناس بالفتوحات . وما يلاحظ في موروثنا النقدي أن أكثر النقاد العرب القدماء كانوا يقرون باستقلالية البيت الشعري الواحد. لذلك كانوا ينشدون المتعة الفنية في كل بيته في معزل عن غيره من أبيات القصيدة . وان البيت الجيد عندهم هو ما كان موجزا يسهل حفظه ويرسخ معناه في العقل و القلب. ولذلك نجد عندهم ما يسمى ببيت القصيد . أو واسطة العقد . وأغزل بيت. وأهجى بيت. وأمدح بيت. ووصفهم الشاعر فلان بأنه أشعر الشعراء ….الخ . غير
إن هدا المقياس لم يكن هو المقياس الثابت دائما لدى نقدة الشعر كلهم، إذ هناك الكثير منهم من قال بضرورة التلاؤم والتلاحم بين العمل الأدبي بحيث يؤدي فيه كل بيت وظيفته كما تؤدي أعضاء الجسم فيتحقق بذلك التكامل العضوي.
ونجد هذا اللون في عملية المفاضلة عند ابن سلام الجمحي في كتابه ” طبقات الشعراء” حيث راح من خلال عملية الموازنة يقسم الشعراء إلى طبقات جاهليين وإسلاميين، وإلى شعراء مدن وبادية، ولاحظ من خلال العملية كثرة شعر بعض وقلة شعر البعض الآخر، وتعدد الأغراض لدى البعض ومحدوديتها عند البعض الآخر …إلخ، وعلى أساس عملية الموازنة وضع الشاعر في المكانة التي ينبغي أن يكون فيها حتى لا يقدم الناس الشعراء الضعاف على الفحول.
تطبيق

فطن العرب الجاهليون إلى روعة النغم في الشعور إلى جودة المعاني وعرفوا بطبعهم ما هو حسن من عناصر الشعر وما هو رديء عرفوا أن من لصياغة ما هو سهل، وما هو جزل، وما هو عذب سائغ، وعرفوا أن من المعاني ما هو صحيح مستقيم، وما فيه زيغ وانحراف، عرفوا ذلك طبعا ل تعلما، فلم يكن عجيبا أن يتكلموا فيعربوا ، وأن ينظموا فيصححوا الوزن دون أن يكون لهم عهد بنحو أو صرف أو عروض.
السـؤال: اشرح الأحكام القديمة الواردة في النص مبينا مقياس الجاهليين في معرفة الشعر الجيد والرديء مدعما شرحك ببعض الشواهد من نقد العصر الجاهلي.

المحاضــرة الثالثة

موقف الإسلام من الشعر : يبدو موقف الإسلام من خلال موقف الرسول إلى الشعر و الشعراء و له فيه موقفان موقف اعتبر الشعر أداة هجينة كشعر الخمريات و الغزل الماجن و شعر الهجاء الذي يمس كرامة الغير و يؤدي مسامهم و يخدش أحاسيسهم ، خاصة ذلك الهجاء الصادر من المشركين ضد الإسلام و المسلمين لما فيه من مس بأعراض المسلمين و ضرر بالعقيدة الإسلامية ، و قد عارض الرسول (ص) هذا اللون من الشعر و رفضه و عاقب الخصوم المشركين الذين تقولوا عليه و على المسلمين فيما نظموه من شعر في هجائه و هجاء العقيدة الإسلامية .
أما الموقف الثاني فيتمثل في إعجاب الرسول (ص) و حبه لسماع الشعر النظيف الذي يحمل القيم والأخلاق الحسنة الذي لا يتعارض مع التعاليم و المبادئ الإسلامية و خاصة ذلك الذي بنافع عن الإسلام و المسلمين فقد كان الرسول (ص) كثيرا ما يستمع إلى شعر حسان بن ثابت فيؤثره على غيره فيما قال من شعر في نصرة العقيدة الإسلامية الجديدة و قد اعتبر هذا اللون من الشعر سلاحا حادا لا يستغني عنه صاحب دعوة و قد كان الرسول (ص) يحث على سماع و نظم الشعر الجيد بل كان يكافئ عليه ، و لعل حثه لحسان على نظم الشعر و عفوه عن كعب بن زهير لدليل على تذوقه للشعر و على موقفه الإيجابي منه فقد كان عربيا فصيحا يحب الكلام الحسن و البليغ و إذا اعتبر الشعر سلاحا حادا يتصدى به للخصوم المشركين و بها جمعهم بنفس الوسيلة نظرا لما كان للكلمة من أثر على النفس و قد قالوا “جرح السيف يزول و جرع اللسان يطول” أي أن أثر الكلمة في النفس أقوى من جرح السيف و قد حث الرسول حسان بن ثابت الذي كان شاعر الرسول للرد على شعراء المشركين و جعل شعره سلاحا يتصدى به لهم ، و قد كان جزع قريش من هجاء حسان شديدا لما في معانيه من صفات الهجاء المقذع ، اللاذع ، و قد كان المسلمون أنفسهم يعتمدون عليه اعتمادا كليا للدفاع عنهم و التصدي لخصومهم المشركين و نصرة الدعوة الإسلامية خاصة في سنواتها العشرة الأولى لأنهم كانوا يرون فيه الملكة الشعرية أقوى و أنضج مما في غيره من شعراء المسلمين إذ وجدوا في معاني شعره ما يشبه الأسلحة الماضية التي تريح نفوسهم و تشفى غليلهم من حيف الخصوم.
و قد ورد في القرآن تصنيف الشعراء إلى صنفين ( )شعراء مؤمنون لم يخرجوا عن حدود التعاليم الإسلامية ، و شعراء ضالون بما قالوا من شعر هجين غير أنه و بالرغم من نبذ الإسلام لشعر هؤلاء فإنه بقي مسامحا معهم لأنهم يقولون ما لا يفعلون و ثمة فرق بين القول و الفعل و مجرد القول فالشاعر و إن ظل بشعره فإنه مجرد قول لم يربط بين القول و الفعل. و لذلك تسامح الإسلام مع الشاعر مقدرا طبيعته البشرية التي يتجاذبها الخير و الشر فقد أعطى الإسلام للشاعر حق القول و أعطاه حريته و لكن عليه أن يتحمل تبعه ما يقول من وجهه نظر الدين و الأخلاق و المجتمع.
ثم إن الإسلام نظر إلى النفس البشرية في طبيعتها في حالة ضعفها و قوتها واعترف لها بصفة الضعف و لكي حثها على الاجتهاد و التدبر لتصل إلى الفضيلة و التحلي بالقيم العالية ، و لذلك ففي الوقت الذي حرم فيه أفلاطون الشعر كون الشاعر قد يفسد الأخلاق أو يسئ إلى سمعة الآلهة نجد الرسول (ص) يتذوق الشعر و يعجب بأساليبه الجيدة و بمعانيه التي تتلاءم مع دعوته و قد قال (ص) لا تترك العرب الشعر حتى تترث الإبل الحنين”.
و قد كان كثيرا ما يخوض في مسائل الشعر مع الوافدين إليه من المسلمين و يلتقي بالشعراء أنشد الرسول (ص) قول عنترة
و لقد أبيت على الطوى و أظله حتى أنال به كريم المأكل .
** فقال (ص) ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة.**
و للخلفاء الراشدين آراء و أحكام نقدية تبين نظرتهم الإسلامية إلى الشعر فقد ظلت وقود العرب المسلمين بعد وفاة الرسول تفد إلى المدينة فيخوضون في أخبار رجالات الجاهلية من شعراء و أبطال و أجواد و كثيرا ما كان الخليفة يشاركهم الحديث و يخوض معهم فيما يخوضون من نقاشات ، و من أبرز الخلفاء الذين عرفوا بذلك ، عمر بن الخطاب ، فقد كان عالما بالشعر و ذا بصيرة فيه يتذوق أساليبه الجميلة معجبا بالشعر الذي يلتزم الأخلاق الحسنة و بالمقابل كان ينهي عن شعر الخمرة و الهجاء و الغز الفاحش و يعاقب عليه و أن بدا في موقف عمر هذا بعض الصرامة مع الشعراء الذين قالوا في أعراض لا ينبغي القول فيها فإنه موقف طبيعي لأنه موقف خليفة شديد التدين حريص على سلامة الإسلام و المسلمين يسعى إلى بناء مجتمع إسلامي بنية سليمة.
و يتلخص موقف عمر فيما ورد عنه من آراء في الشعر و الشعراء ، فقد تحدث مرة مع و فد عطفان حين و فد إليه فسألهم قائلا : أي شعرائكم الذي يقول :
-أتيتك عاريا خلقا ثيابي * على خوف تظن به الظنون
-فألقين الأمانة لم تخنها * كذلك كان نوح لا يخون
قالوا : النابعة ، قال : فأي شعرائكم الذي يقول :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * و ليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا : النابغة . قال : هذا أشعر شعرائكم ، أي لأن النابغة أشعر شعراء قومه غطفان على كثرتهم .
و قال عمر مرة لبعض ولد هرم بن سناق : انشدني بعض مدح زهير أباك ، فأنشده فقال عمر: إذ كان ليحسن فيكم القول . قال : و نحن و الله إذ كنا لنحسن له العطاء فقال عمر : قد ذهب ما أعطيتموه و بقي ما أعطاكم.
و يروي أن ابن عباس قال : قال لي عمر ليلة مسيرة إلى الجابية في أول غزوة غزاها ، هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قلت : و من هو ؟ قال الذي يقول :
و لو أن حمدا خلد الناس أخلدوا * و لكن حمد الناس ليس بمخلد .
قلت : ذلك زهير . قال : فذلك شاعر الشعراء قلت . و بم كان شاعر الشعراء ؟ قال : لأنه كان لا يعاضل في الكلام ، و كان يتجنب وحشي الشعر و لم يمدح أحدا إلا بما فيه .
إن قيم المال تزول و قيم الأفعال الحسنة تبقى عبر الزمان ،و قد خلد زهير ما قام به هدم بن سنان من جميل الأفعال بما قدم من ماله الخاص لإخماد حرب داحسن و الغبراء التي اشتعلت بين قبيلتي عبس و ذبيان و قد أسهم عمر بن الخطاب في إنضاج و تطوير الحركة النقدية بما أورد من تعليل و تفصيل لم نعهده في النقد الجاهلي الذي كان مجملا غير معلل .
فزهير في نظر عمر بن الخطاب سهل العبارة لا تعقيد في تراكيبه و لا وحش في ألفاظه ، و معانيه بعيدة عن الغلو و الإفراط في الثناء الكاذب فهو لا يمدح الرجل إلا بما فيه من فضائل وشعر زهير يكمن في أنه حسن العبارة و المعاني و جميل الصياغة و نلمس هنا أن ملاحظات عمر ليست جزئية كما كان الأمر في نقد العصر الجاهلي الذي اقتصر على نقد الشكل تارة و المضمون تارة أخرى و نادر ما يعني بالشكل و المضمون كما نلاحظ عند عمر بن الخطاب الذي تناول بالتقييم شعر زهير من حيث المبنى و المعنى.
أما نبذ عمر شعر الهجاء مثلا و معاقبه أصحابه عليه فلأن هذا اللون ينال من أخلاق المهجو ويشوه صورته و يحط من مروءته و عرضه ، فهو نوع من القذف يرفضه الإسلام و يعاقب عليه من يحرص على إقامة حدود الله و العمل بشريعته و قد أورد الرواة أن الحطيئة هجا الزبرقان بن بدر بقصيدة مما جاء فيها :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أتت الطاعم الكاسي
فشكاه الزبر قان إلى عمر ، فأمر بسجنه لما في البيت من قذف و مس بعرض الزبرقان ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذ عليه أن لا يهجو أحدا من المسلمين و بعد أن قال الخطيئة يعتذر من سجنه :
ماذا تقول الأفراخ بذى مرخ ** زغب الحواصل لا ماء و لا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ** فاغفر عليك سلام الله يا عمر.
و لا يختلف موقف علي بن أبي طالب من الشعر و الشعراء عن موقف عمر ، فهو موقف متأثر بالإسلام و بكتابه الكريم و مستمد منه و لم يقل الإمام على فيما قال في الشعر و الشعراء إلا من وجهة نظر الإسلام فنظرته نظرة متسامحة مع الفنان الشاعر متطابقة مع نظرة الإسلام ، فهو لم يعتبر قول الشاعر مثلا في الخمرة يوجب الحد مثل شربها و ذلك عملا بما جاء في القرآن الكريم “و أنهم يقولون ما لا يفعلون …”
إن الإسلام أعطى الفنان حرية واسعة و لم يجعله عبدا لا يفعل إلا ما بما عليه دون إرادة ، و إذ يدعوه إلى سلوك اجتماعي مقبول فإنه لم يسلبه حرية الموقف الشخصي و حرية التفكير و التعبير شرط أن لا يؤذي غيره و أن يتحمل عواقب أقواله و أفعاله ، و من أشهر النصوص الواردة عن الإمام علي و التي يبدو فيها العديد القيم و المعايير النقدية الجديدة المستمدة من نظرة الإسلام للشعر ما تحدث به في البصرة بين بعض المتخاصمين حول الشعر ، قال : “كل شعرائكم محسن و لوجمعهم زمان واحد و غاية واحدة و مذهب واحد في القول لعمنا أيهم أسبق إلى ذلك وكلهم قد أصاب الذي أراد و أحسن فيه ، و إن يكن أحد أفضلهم فالذي لم يقل رغبة و لا رهبة امرؤ القيس بن حجر فإنه كان أصبحهم بادرة و أجودهم نادرة”.
إن الإمام علي لا يرفض و لا يستثنى أي لون أو غرض من أغراض الشعر حتى الوثنى منه مادام شعرا جميلا باعتباره تراث العرب جميعا و ذلك بغض النظر عن عقيدة أو جنس أو لون صاحبه ، و نلمس في أحكام على تحطيمها للعصبية القبلية و الفكرية و الجنسية التي ألغاها الإسلام ، و لأن المقياس النقدي المعتمد على عصبية الدم أو الجنس أو اللون ليست من مقاييس النقد الصحيح إطلاقا ، ثم هناك إشارة في النص إلى صعوبة المقايسة بين شاعرين أو أكثر في عصرين أو في غرضين مختلفين و ذلك لعدم توفر الشروط الموضوعية التي تسمح بذلك ، و فضلا عما في النص من قيم فنية و معايير نقدية جديدة فيه كذلك إشارة إلى ضرورة توفر الحرية للشاعر لأنه لا شيء يقتل الإبداع و يجفف القريحة كالخوف و النطق بلسان الغير لا بلسان الشاعر ، فالشاعر لا يكون شاعرا حقا و هو يقول غير ما يشعر به هو حق أو يخش القول فهو في ذلك عبد يقول ما لا يشعر و يضمر.

للتطبيـــــــــق

كان عصر البعثة حافلا بالشعر ، فياضا به ، و إن ضعف في بعض نواحيه، فالخصومة بين النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه من ناحية ، و بين قريش و العرب من ناحية أخرى كانت عنيفة حادة لم تقتصر على السيف و اللسنان ، بل امتدت إلى البيان و الشعر ، و إلى المناظرات و الجدل ، و إلى المناقضات بين شعراء المدينة و شعراء مكة ، و غير مكة من الذين خاصموا الإسلام و ألبوا العرب عليه.
كان شعراء قريش و من والاهم يهجون النبي و أصحابه ، و كان شعراء الأنصار يناقضون هذا الهجاء و لعل ذلك أول عهد حقيقي للنقائض في الشعر العربي ، و لعل تلك الروح هي التي أنهضت هذا الفن في الشعر ، فازدهر في العصر الأموي ازدهارا تاما هذه المناقضات بين مكة و المدينة كانت تدعو إلى النقد ، و إلى الحكم ، و إلى الإقرار و الادعان ، و كان العرب يقدرون هذا التهاجي ، و يؤمنون بما فيه من قوة ، و يفصحون عمّا فيه من لذغ و إيلام .
كانت قريش تجزع كل الجزع من هجاء حسان ، و لا تبالي بشعر ابن رواحة ، و كان ذلك قبل أن تسلّم فلما أسلمت رأت في الشعرين رأيا آخر ، فقد كان حسان يطعن في أحسابهم ، و يرميهم بالهنات التي تنال من العزة الجاهلية ، و كان عبد الله ابن رواحة يعيرهم بالكفر ، ثم أسلموا وكان شعر ابن رواحة هو الذي يحز قلوبهم حزا ، فهم كانوا يرون أن حسانا أعظم الشعراء الخصوم ، و يرون معانيه أحد و آلم من معاني أي أنصاري آخر ، و هم إذن يرون الهجاء المقذع المرّ ما تعرض للحرم و الأنساب ، لا ما تعرض للعقيدة والدين .
و من جهة أخرى كان المهاجرون و الأنصار يعدون حسانا الشاعر الذي يحمي أعراض المسلمين ، يبعثون في طلبه حين تفد الوفود ، و يفزعون إليه حين تأتيهم القوارض ، فيبلغ من حاجتهم ما لا يبلغه صاحباه ، و الكلام كثير في أن النبي صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فتناولته قريش بالهجاء ، و هجوا الأنصار معه ، و أن عبد الله بن رواحة ردّ عليهم فلم يصنع شيئا ، و أن كعب بن مالك لم يشف النفس ، و إنما الذي صنع و شفى ، وصب على قريش من لسانه شآبيب شر هو حسان ، و الكلام كثير في استماع النبي لحسان ، و في إيثار النبي لحسان ، و في أن المسلمين كانوا يعتمدون اعتمادا حقيقيا على حسان في هذا الضرب من النضال لأنهم كانوا يرون معانيه من الأسلحة الماضية التي تجزع منها قريش ، و هنا روح النقد ظاهرة : واضحة في مكة و المدينة : فحســـان بـــن ثابت كان أعظم شعراء الحلبتين عند قريش و المسلمين في السنوات العشر التي أقامها النبي عليه السلام في دار الهجرة.
تاريخ النقد الأدبي عند العرب، لطه أحمد إبراهيم

المطلوب: استخرج الأحكام النقدية التي يتضمنها النص ثم أشرحها حسب ترتيبها مبينا موقف قريش من شعر حسان بن ثابت وابن رواحة معللا سبب اختلاف موقف قريش من شعر الشاعرين قبل و بعد إسلامها.

المحاضرة الرابعة

النقد الأدبي القديم : النقد في العصر الأموي

نما النقد الأدبي في العصر الأموي وازدهر في بيئات ثلاث هي : الحجاز و العراق و الشام ، وقد تلوّن في كل بيئة بلون الحياة و الظروف الاجتماعية و السياسية التي أحاطت بكل بيئة، لأن الأدب انعكاس للواقع ، وباختلاف ظروف كل بيئة اختلف الشعر فأدى ذلك إلى اختلاف النقد بين هذه البيئات .

1 – النقد في بيئة الحجاز :
ازدادت أهمية منطقة الحجاز ومكانتها في صدر الإسلام وخلال الحكم الأموي مما كانت عليه أضعاف مضاعفة ، فقد أصبح الحجاز – وخاصة أثناء خلافة الأمويين – خزانة للأموال التي جمعها الأمراء وقادة الجيوش الإسلامية من خلال الفتوحات للعديد من الأمصار. وقد لجأ إليه بسبب ما كان عليه من ثراء واستقرار العديد من أعيان العرب وأثريائهم من مختلف الجهات.
وقد نجم عن هذا الاستقرار والترف ظهور الجواري غير العربيات جئن من مختلف النواحي، فظهر الغناء وفشا بعض الفساد. وقد كان الحجاز من ناحية أخرى مركزا دينيا يدرس فيه القرآن، ويشرح فيه الحديث من قبل أهل العلم بالدين و الفقه، فصار العديد من الرجال المسلمين يفدون إليه من مختلف الأقطار الإسلامية ليأخذوا عن رجاله علمهم بالكتاب و السنة، ومما استنبطوه من أحكام شرعية في مختلف القضايا ، وقد أصبح الحجاز نتيجة لهذه العوامل مركزا دينيا وبيئة للهو و الترف في آن واحد .
وقد ازداد بمرور السنين تدفق الأموال من الشام ” مركز الخلافة ” على أهل الحجاز لجلب ولائهم وتأييدهم وإسكات المعارضين للخلافة وصرف نظرهم عن المطالبة بالسلطة نتيجة للخلاف الذي كان حول من هو أحق بالخلافة بين الأمويين وبين علي بن أبي طالب، وبين من شايعوا عليا (d) .
وقد استمال ذلك الجوُّ المترف الهادئ الناسَ نحو الأخذ بمتع الحياة وأسباب اللهو كالغناء و الموسيقى مما طبع الحياة هناك بطابع يندر وجوده في البيئات الأخرى .
وقد عكس هذا الجو وهذه الحياة الناعمة ذوقا أدبيا جديدا أدى إلى بروز جيل جديد متفائل مرح، وقد عبر أحد رجالات ذلك العصر قائلا : ” إنما الدنيا زينة فأزين الزينة ما فرح النفس وقد فهم قدر الدنيا من فهم قدر الغناء ” .
وقد عكس الشعراء في شعرهم هذا الجو المرح حيث مالوا هم كذلك إلى شعر الغزل الذي رسموا فيه صورا عن واقع الحياة في بيئتهم، وامتد ذلك إلى النقد كذلك حيث انكب النقاد حول هذا اللون من الشعر يحللون ويبحثون ما فيه من مظاهر الضعف أو القوة و الجمال . ومن أبرز الأسماء الناقدة شخصيتان هامتان هما : ابن أبي عتيق الذي ينتمي نسبه إلى أبي بكر الصديق، و السيدة سُكَيْنَة بنت الحسين بن أبي طالب حفيدة الرسول (h) .
وقد ترجمت أحكام السيدة سُكينة النقدية ذوقَ جيل ذلك العصر، وكان العديد من الشعراء يفدون إليها ويلتقون بها في مجالسها ، ولعلّ إن وجود رجل ناقد لا يثير التساؤل فإن وجود ناقدة أنثى بهذا الحجم قد أثار تساؤلات عدة دلالة على ما أصبحت تحظى به المرأة من مكانة اجتماعية وتقدير واحترام، وعلى حضور صوتها في تطوير الشعر وتوجيهه على المنوال الذي يليق بالمرأة العربية المتحضرة الجديدة ، وحتى لا يصور الشاعر المرأة من وجهة نظره فقط التي قد يعارض مع ما يليق بها ، وصار لا يجوز أن يقول الشاعر ما يزعج المرأة أو ما يتعارض مع ذوقها وإحساسها الرهيف الذي أصبحت تتقبل به النص الشعري .
و نجمت عن التباين الزماني والحضاري بين الحياة العربية القديمة و الحجازية المتحضرة الجديدة المطالبة بصور ومعان شعرية مغايرة لما كان عليه الحال في العصر الجاهلي فقد رفع الإسلام من شأن المرأة ومكانتها في المجتمع، ومن ثم راحت تخوض فيما يخوض فيه الرجل سواء بسواء، فكان دخولها حقل النقد واحدا من العوامل ، يضاف له عامل السلوك المتحرر عند الجواري المثقفات المجلوبات و القادمات من البلدان المتحضرة المفتوحة، فهذه العوامل شجعت المرأة الحجازية على الخوض في مناقشات أدبية ونقدية حول مضامين الشعر وقضايا الأدب بصفة عامة ، فراحت السيدة (سُكَيْنَة) تتأمل النصوص الشعرية وتفحص الصورة التي رسمها الشاعر للمرأة وتحاول أحيانا أن تجري عليها بعض التعديلات حتى تتلاءم مع ذوق المرأة من خلال ما كانت تبديه من ملاحظات ، وقد قال عنها صاحب الأغاني يصفها : ” إنها كانت من أجمل نساء عصرها ، وكانت برزة تجالس الأجلاء من قريش ويجتمع إليها الشعراء ، وكانت ظريفة مزاحة ” .
وقد كان لنسبها الكريم أثره في أحكامها النقدية التي كانت مرجعيتها ذلك الاحترام و التقدير الذي يكنه الرسول (h) للمرأة المستمد من روح القرآن ، إذ قال الرسول (h) : ” مَا هَانَ النِّسَاءَ إِلاَّ لَئِيمٌ ، وَمَا أَكْرَمَهُنَّ إِلاَّ كَرِيمٌ ” .
هذه هي القيم التي أرادت السيدة سكينة أن تغرسها للمرأة في النص الشعري ، بعد أن كان بعض شعراء الحجاز حين يصف المرأة يصفها من الأعلى إلى الأدنى ، وجعل بعضهم نفسه في أشعاره فلكا تدور حوله النساء، كما هو الأمر مع عمر بن أبي ربيعة الذي قلب مفهوم الغزل ، كما يبدو في بعض قصائده ، وأن بعضهم شهّر بالمرأة ، وبعضهم الآخر أبدى شيئا من الإهمال وعدم التقدير حين يصف المرأة ، وهي صور من التقاليد الباقية من العصر الجاهلي التي لم تعد في نظر سكينة مقبولة، لأن ذلك الامتهان أو الذل الذي كان في العصر الجاهلي قد ولى وعلى الشاعر أن يعتبر المرأة مادة غير مبذولة وغير رخيصة، وأن يسلك معها سلوك الرجال الفرسان الشجعان .
ومما ورد عنها من شواهد نقدية في هذا الموضع حكمها على بيت جرير:
طرقت صائدة القلوب وليس إذا حين الزيارة فارجعي بسلام .
فلاحظت أن في البيت خلالا قائله : أفلا أخذت بيدها ورحبت بها، وقلت : ادخلي بسلام ، أنت رجل عفيف .
فقد فرقت الناقدة بين الكلام عن الأحاسيس العاطفية وبين الأخلاق، فالشاعر هنا يتكلم عن العواطف لا عن الأخلاق ، وفرق كبير حين يستقبل الإنسان شخصا ما وحين يستقبل عزيزا عليه .
وقد روت عنها كتب الأدب نماذج كثيرة من نقدها الظريف ، فقد سمعت ” نُصَيْبا” يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمًُتْ فَوَاحُزْنَا مَنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي
فعابت عليه صرف نظره إلى من يعيش مع ” دَعْد ” بعده ورأت الصواب أن يقول:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي .
وقد امتد هذا اللون من النقد في موضوع الغزل إلى نساء أخريات، فقد عاتبت ” عَزَّةُ ” ” كُثَيِّرًا” في وصفه لها بالمظاهر الشكلية غير الطبيعية ، وقالت له لما لا تقول مثل ما قال امرؤ القيس في وصفه المرأة :
أَلَمْ تَرَنِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَتَطَيَّبِ.
وقد استرققت ” عَزَّة ” قول “الأحْوَص” وفضّلته على كثير في بعض معانيه في وصف المرأة مثل قوله :
وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِن الْهَوَى إِذَا لَمْ يُزَرْ لاَبُدَّ أَنْ سَيَزُورَ.
وكان “ابن أبي عتيق” من رجال هذا التيار النقدي الذي يفحص ويدرس هذا اللون من شعر الغزل المعبر عن الحياة المترفة المتحضرة ؛ ومن شواهد نقده في هذا الموضوع أنه سمع مرة عمر بن أبي ربيعة ينشد شعرا في غرض الغزل :
بينما ينعتنني أبصــــــــرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغرّ
قالت الكبرى أتــعرفن الفتى ؟ قالت الوسطى : نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمــــتها قد عرفناه وهل يخفى الــقمر ؟
فقال ابن أبي عتيق معلقا على مضمون ما قال : أنت لم تنسب بها إنما نسبت بنفسك ،أي كأنه لم يتغزل بالمرأة إنما تغزل بنفسه .
وقد برز إلى جانب هؤلاء النقاد نفر من الشعراء مارسوا النقد إلى جانب الشعر، فقد سمع عمر بن أبي ربيعة ” كُثَيِّرًا ” يقول :
ألا ليتنا يا عَزُّ ( ) كنا لدى غنى بعيرين نرمى في الخلاء ونعـــــزب ( )
كلانا به عر( ) فمن يرنا يـــقول على حسنهما جرباء تعـدي وأجرب
إذا مـــا وردنا الــماء صاح أهله علـــينا فما ننفك نُرمى ونُضــــرب .

فقال عمر : تمنيت لها ولنفسك الرّق و الجرب و الرمي و الطرد و المسخ ، فأي مكروه لم تتمن لها ولنفسك ، لقد أصابها منك قول القائل : ” معاداة عاقل خير من مودة أحمق ” .
وقد حدد النقاد الحجازيون مقياس الغلو و المبالغة في رسم العاطفة، ومن ثمة صار إذا ما عبر الشاعر عن عاطفته بغُلُوّ أو بصورة خارجة عن المألوف كانت غريبة مضحكة تشبه النوادر. قال عمر لبن أبي ربيعة شعرا فيه غلو :
ومَــــــن كانَ مَحْـزُونًا بإهْرَاقِ عَبْرَةٍ وهــيَ غَرْبُهَـــا فلْيَأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا
نُعِنْهُ عَلى الأثْكَال ( ) إنَ كانَ ثَاكلاً وإنْ كان مَحزونًا وإن كَان مقصِدَا ( )
فمضى بن أبي عتيق إلى عمر وقال له : جئناك لموعدك ، قال : وأي موعد بيننا ، قال : قولك : ” فليأتِنَا نَبْكِهِ غَدَا ” . وقد جئناك و الله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا أو ننصرف على أنك غير صادق ثم مضى وتركه.
إن مثل هذه الصور زائدة عن اللزوم في التعبير عن الأحاسيس العاطفية و المواقف و بالتالي فهي صور ساخرة غير مقبولة لأنها غير صادقة.

المحاضرة الخامسة

2 – النقد في بيئة العراق :
اختلف الشعر في بيئة العراق عما كان عليه في الحجاز والشام، فالشعر في العراق يشبه إلى حد كبير الشعر الجاهلي في مضمونه وأسلوبه، ويعود ذلك إلى عامل العصبية القبلية التي عادت إلى الظهور من جديد بعد أن تلاشت في صدر الإسلام حيث نبذها الإسلام، وكانت أغلب موضوعات الشعر في العراق في الافتخار و الاعتزاز وهجاء الخصوم بالهجاء المر المقذع. أما غرض الغزل وغيره من الأغراض الأخرى، فكانت ليست ذات أهمية وقليلة الرواج، فانحصر الشعر غالبا في تلك النقائض التي حمل لواءها بالخصوص الشعر الثالوث الخطير : الفرزدق وجرير و الأخطل الذين جعلوا من العراق أشهر مكان للتنافس و التباري في هذا اللون من الشعر .
وقد ساعد على انتشار شعر النقائض وولوع الناس به في سوق الشعر الذي كان يشبه سوق عكاظ في الجاهلية، يفد إليه الناس من كل جهة، ويجتمع فيه الشعراء ينشدون الأشعار في صورة تشبه ما كان عليه في الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم و الشجاعة وإبراز ما لقوم كل شاعر من فضائل وأيام .
وقد كان لكل شاعر حلقة ينشد فيها شعره ويحمس أنصاره في جو مملوء بالهرج و النقاش حتى قيل أن والى البصرة ضج بما أحدثه هؤلاء الشعراء من صخب واضطراب في أوساط الناس فأمر بهدم منازلهم.
وقد احتفظ العديد من الكتب النقدية القديمة بصور ونماذج من هذه الحركة الشعرية و النقدية، وما كان يجري بين جرير و الفرزدق والأخطل حيث يقوم الشاعر بنظم قصيدة في هجاء خصمه والافتخار بذاته وبقومه على وزن خاص وقافية خاصة ، فيقوم الآخر بنقضها بنظم قصيدة مماثلة ويحوّلها إلى هجاء مضاد على نفس الوزن و القافية . وقد تشكلت في هذا الإطار ثلاثة معسكرات ، كل واحد تعصب لشاعر وفضله على خصمه والتمس محاسن شعره فيشيعها، ويبحث عن معايب الآخر فيشهّر بها .
وقيل إن الأخطل تحالف مع الفرزدق ضد جرير لكن جريرا أفحمهما . وقيل أن كذا وأربعين شاعرا تحالفوا ضده فأسكتهم لقدراته ومهارته في هذا الفن، وقد كانت هذه الخصومات سببا في غلبة هذا الاتجاه على الشعر والنقد في العراق حتى اعتبر الشاعر غير السائر على طريقة هؤلاء في المدح و الهجاء شاعرا متخلفا ضعيفا .
قال ذو الرمة مرة للفرزدق : مالي لا ألحق بكم معشر الفحول ؟ فقال له : لتجافيك في المدح و الهجاء واقتصارك على الرسوم و الديار . أي أنه مازال ينظم على منوال القدماء ولم يساير الظروف . لذلك لا نجد أثرا لمثل ذلك النقد الذي كان في الحجاز أو الشام وإنما نجد نقدا آخر يتلاءم مع طبيعة البيئة العراقية، وما كان فيها من شعر حيث اتجه النقاد هناك إلى الموازنة بين الشعراء، وأي الثلاثة أشعر ؟ وسموا هذا قضاء وسموا الذي يحكم قاضيا ، وسموا الحكم و الحاكم أي الناقد ” حكومة ” .
و قال جرير في الأخطل لما فضل الفرزدق عليه :
فدعوا الحكومة لستموا من أهلها إن الحكومة في بني شيبان
غير أن هذا النوع من النقد لم يكن الوحيد في العراق لأن هناك بعض الشعراء من قال شعرا خارج شعر النقائض، ولذلك راح بعض النقاد يعنى بمميزات شعر الشاعر ، وما تفرد به عن غيره، و البحث عن مواطن ضعفه وقوته وموازنته بغيره وإصدار الحكم عليه ، كحكم الفرزدق على النابغة الجَعْدِيّ بأنه صاحب ” خُلْقَان ” و البيت يساوي عنده آلاف الدراهم و البيت لا يساوي إلا درهما. وحكمه على ذي الرمة بجوده شعره لولا وقوفه عند البكاء على الدِّمَن، وكذا حكم جرير على الأخطل بأنه يجيد مدح الملوك ، وموازنة الأخطل بين جرير و الفرزدق بأن جريرا يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر .
وإلى جانب نقد الموازنة في شعر النقائض، وكذا النقد الذي يعنى بإبراز ما تفرد به بعض الشعراء في شعرهم عن غيرهم ، فهناك نقد يعنى بالمعاني الجزئية في شعر الشاعر دون موازنته بغيره ، فقد نقد الحجاج الفرزدق حين مدحه في قوله :
من يأمن الحجاج و الطير تتقى عقوبته إلا ضعيف العزائم
فقال الحجاج : الطير تتّقى كل شيء حتى الثوب و الصبي. وفضّل عليه قول جرير فيه نفس المعنى :
من يأمن الحجاج أما عقابه فمُرٌّ وأما عهدُه فوثِيق .
* البحث في السرقات الأدبية :
وقد ظهر هذا الضرب من النقد الأدبي انطلاقا من نظرة الإسلام لمفهوم السرقة حيث اعتبرها انحرافا اجتماعيا، وقد حرم السرقة بجميع أشكالها. وذهب بعض الشعراء ينسبون لقبائلهم شعر شعراء قبائل أخرى ، وأحيانا ينسبون لأنفسهم البعض من جيد الشعر الجاهلي حتى يظهروا بمظهر الفحول فيعلو مقامهم ويذيع صيتهم ، وللفرزدق تهم عديدة ، فقد كثرت مصادرته لشعر غيره، كما تذكر بعض الروايات تُهَمَ الأصمعي له بأن تسعة أعشار شعره سرقةٌ. و تذكر روايات أخرى سرقة الأخطل لمعاني الأعشى في الخمرة . وكان كذلك يستعين بأشعار “تَغْلب” في خصومته مع الفرزدق، وتارة يستعين بشعرائها في نظم قصائده، واتهم ” كُثَيّر عَزّة ” بالسرقة من شعر “جَمِيل بُثَيْنَةَ” حين يتغزّل بعَزّة .. وقد كان لأخبار سرقة الشعر صدى واسع في أوساط الشعراء ولدى العامة أيضا .
وإلى جانب هذا كان في العراق حركة أخرى أدبية ونقدية مغايرة هي حركة متأثرة بالإسلام وبتعاليمه تسمى حركة الخوارج، التي كان لها شعر قوى رائع ابتعدت فيه عن المدح و الهجاء ، بل كان شعراؤها يهدفون إلى إرضاء عواطفهم بالاستهانة بالموت في سبيل الله و الحث على الشجاعة وإنكار شهوات النفس وتسخيرها لإرضاء الله ، مستخلصين ذلك من قوله تعالى :  إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يَُقْتَلُونَ  ( سورة التوبة ، الآية 111) .
ولهم في هذا شعر يفيض بقوة إيمانهم وشدة شجاعتهم . وقد امتدت نزعتهم هذه إلى نقدهم حيث راحوا يهوّنون من شعر الشعراء الذين يتكسبون ويتمسحون بالأمراء ليمدحوهم بما ليس فيهم حتى ينالوا المال و المكانة، ويرون أن الشاعر الحق هو من صدق في قوله واتقى الله في شعره. وواضح أن الخوارج يزنون الشعر بميزان ديني أخلاقي، أما غيرهم فيزنونه بميزان فني بحث ، غير أن دور الخوارج في الحقل الأدبي ضعُف بضعفهم سياسيا.

3 – النقد في بيئة الشام :
فإن كان أكبر مظهر الأدب في بيئة الحجاز هو الغزل وأكبر مظهر للأدب في العراق هو الفخر والهجاء فإن أكبر مظهر للأدب في الشام هو المديح ، ولذلك اختلفت الحركة النقدية في الشام على ما كانت عليه في الحجاز و العراق ، فقد عاشت الحركة النقدية هناك في بلاط الخلفاء الأمويين ، وفي قصور وُلاّتهم في مختلف الأقاليم و الأمصار ، وسبب ذلك هو أن دمشق كانت عاصمة الخلافة الأموية يفد الشعراء إلى خلفائها من كل الجهات، و كان بنو أمية عربا أقحاحا فصحاء يتذوقون الشعر ويعجبون به ويطربون لسماعه ويكافئون الشعراء عليه، و كنت قصورهم شبه منتديات للشعر ومراكز للمناقشات ” أي النقد ” في مختلف القضايا الأدبية، كما كانت مركزا للسلطة والسياسة أيضا ، وما يناسب القصور هو المديح لذلك لُوِّن الشعرُ هناك بهذا اللون، ولُوِّن النقدُ بلونه أيضا، أي نقد شعر المديح .
وقد شجع خلفاءُ بني أمية الشعراءَ على مدحهم و الرد على خصومهم من شيعة وزبيريين ومنحوهم مقابل ذلك جوائز مالية معتبرة . ومن أبرز هؤلاء الشعراء : كُثَيِّر عَزّة، و الأخطَلُ بالخصوص الذي قضى حياته يمدحهم ويعلي من شأنهم ويهجو من ناوأهم.
و قد ارتبط النقد في الشام بطبيعة هذا الشعر، فقد تبع الإكثار من شعر المديح الإكثار من نقد المديح ، وكان من أشهر نماذج شعر المديح للخليفة عبد الملك بن مروان لأنه كان يملك ذوقا أدبيا رفيعا مكنه من الفهم العميق لمحتوى الشعر وصياغته وتوجيه الشعراء وإرشادهم وتصحيح بعض أخطائهم وصورهم الشعرية.
وقد تميزت الحركة النقدية في بيئة الشام بميزتين ، أي بنوعين من النقد ، هما النقد الرسمي و النقد الفني، أما النقد الرسمي فهو ذلك الذي يمثل وجه الخلاف في الرؤيا بين الشاعر وبين الخليفة الممدوح رجل السلطة في رسم صورته الشخصية لأن رجل السلطة يرى نفسه شخصية متميزة غير عادية، ومن ثم كان على الشاعر أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار، و أما النقد الفني فيعنى بنقد الصورة الشعرية وهو مقياس نقدي قديم في النقد العربي .
وقد أولى النقاد النقد الفني كذلك في كل من الحجاز و العراق اهتماما بالغا ، ولكن وفق خصوصية كل بيئة وطبيعة شعرها ، و كان لولاة آل مروان في الأمصار كذلك مستوى راق من الذوق الأدبي ، وإحساس مرهف بالصورة الشعرية الجميلة و ما كان يجري في بلاطهم كذلك أشبه بما كان يجري في مديح في بلاط الخلفاء في دمشق عاصمة الخلافة، وكانت أحكامهم على مستوى جيد من الدقة في فهمهم للشعر وحكمهم عليه .

* شواهد نقدية تطبيقية من النقد الرسمي :
مدح ابن قيس الرقيات عبد المالك بن مروان بقصيدة جاء فيها :
إن الأغرّ الذي أبوه أبو العا ص عليه الوقار و الحجب ( )
يعتدل التاج فـــوق مفرقــه عــــلى جبين كأنه الذهب
فقال له الخليفة : يا ين قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم! وتمدح ” مُصْعَبا ” كأنه شهب من الله . وذكَّر الشاعر بما قال في مدح مصعب بن الزبير ، و رأى ذلك أجمل مما قال فيه في قوله:
إنما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظـلماء
ملكه ملك عِزّة ليس فيه جَبروت ( ) ولا فيه كِبرياء
وقال جرير في يزيد بن عبد المالك :
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقهم إليّ قطينا . ( )
فعلق يزيد على معنى البيت قائلا : يقول لي ابن عمي ، ثم يقول لو شئت ساقهم إليّ . أما لو قال : لو شاء ساقهم لأصابَ ، فقد جعلني شرطيا له !!
وقال ذو الرمة يمدح الوالي بلالا بن أبي بردة :
رأيت الناس ينتجعون غيثا فعلت لصَيْدَح ( ) انتجعي ( ) بلالا
فقال الوالي وقد لاحظ خللا في معنى البيت : ” أعلفْهَا قثا و نَوًى ” ، موحيا إلى قلة فطنة الشاعر وضعف خبرته بفن المديح .
وكثيرا ما لفت عبد المالك بن مروان انتباه الشعراء إلى حسن رسم الصورة الشعرية بما يناسب مقامه وإبراز الفضائل الخلقية و الدينية التي تثير إعجاب الرعية، و الدالة على التقوى و العدل و الفضيلة ليكون أهلا للخلافة عند رعيته .
وكان تقدير عبد المالك بن مروان للمقام وإحساسه بجوده المعنى وجمال الصورة دقيقا ينم عن قوة وعمق تذوقه للشعر ، فقد أنشده راعي الإبل مرة :
أخليفة الرحمن أنا مَعْشر حُنفاء نسجُد بكرةً وأصيلا
عرب نرى لله في أموالـنا حـقّ الزكاة منزّلا تــنزيلا
فقال له : ليس هذا بشعر إنما هو شرح إسلام وقراءة آية ، ويعنى بذلك أن مثل هذا الشعر قيم في مضمونه لكنه جاف فقير من الناحية الفنية ، وبالتالي ليس بالشعر الجيد الذي ينبغي أن يكون كذلك في المبنى والمعنى .

المحاضرة السابعة

4 – النقد اللغوي :

بالإضافة إلى أولئك النقاد العرب من خلفاء وشعراء وغير الشعراء من عامة الناس الذين مارسوا النقد وقيموا الشعر و الذين لم يكن لهم في نقدهم في أغلب الأحيان عقل علمي إذ لم يذهبوا في نقدهم إلى تحليل الأدب أو اللغة تحليلا علميا وإنما كان تحليلا أدبيا محضا ، فبالإضافة إلى هؤلاء ظهر فريق آخر من النقاد اللغويين النحويين الذين اتجهوا في نقدهم اتجاها آخر علميا بحثا هو البحث في سلامة اللغة و الأساليب و الصياغة بصفة عامة . وكان لهؤلاء النقاد دور خاص وهام في تاريخ النقد العربي .
وقد برز هذا اللون من النقد ” اللغوي ” منذ أواخر القرن الأول الهجري، وذلك بسبب ما جد من جديد في واقع المجتمع العربي، ومن تغيرات اجتماعية وأدبية وبالخصوص اللغوية، فقد ظهر قوم يتكلمون اللغة العربية تعلما لا سليقة وينقدون اللغة في صياغتها صناعة لا طبعا خالصا، و كلما بَعُد العهدُ بالعصر الجاهلي ضعفت اللغة و السليقة وتشوهت وأصبح الاعتماد في تعلم اللغة على الاكتساب أكثر ، لا على الطبع أو السليقة العربية .
وبمرور السنين ازداد حرص العرب على تنظيم لغتهم ورعايتها و المحافظة عليها وعلى نظام استعمالها على المنوال الذي كانت عليه عند أسلافهم القدماء، وبسبب ما أصابها من ضعف وضمن هذه الغاية ظهر النقد الذي يعنى باللغة فيلاحظها وينظر إليها من حيث مدى استعمالها في أصولها وقواعدها الصحيحة. و ازداد انتشار هذا النوع من النقد اللغوي خاصة خلال القرن الثاني الهجري، نتيجة مجموعة أسباب وعوامل منها ما كان للفتح الإسلامي من الأثر الكبير في تسرب الفساد إلى اللغة العربية ودخول اللحن و التحريف فيها من قِبَل غير الناطقين بها أصلا ، و قد كان هذا عامل من العوامل الأساسية الأولية التي أدت إلى وضع قواعد اللغة العربية قصد وقاية ألسنة الناطقين بها من الزلل و الانحراف .
وضمن هذه الغاية والأسباب ظهرت المدارس اللغوية الأولى في العراق التي عرفت بعد ذلك بمدرسة الكوفة و مدرسة البصرة ، وظهر ضمن هذه المدارس نقّاد وعلماء في اللغة يعتمدون في نقدهم للشعر على مدى سلامة الاستعمال اللغوي وسلامة شعر الشاعر من الأخطاء و راح هؤلاء النقاد يتتبعون كلام العرب القدماء الفصحاء ليستنبطوا منه قواعد النحو ووجوه الاشتقاق ، وجرهم عملهم هذا وغايتهم اللغوية إلى نقد الشعر لا من حيث عذوبته ورقته وجماله الفني أو قيمة مضمونه الفكري وإنما من حيث مدى مطابقة لغة شعر الشاعر أو مخالفتها لأصول اللغة العربية الأم وأصول قواعد الشعر من إعراب ووزن وقافية، و قد دفعهم عملهم كذلك إلى تأمل أو دراسة الشعر الجاهلي والإسلامي للعثور على ما قد يقع فيه بعض الشعراء من أخطاء أو انحراف ، ورغم ما عثروا عليه أحيانا من مآخذ وأغلاط فإن شعر أولئك الشعراء الأوائل بقي في نظرهم النموذج الذي يقتدي به الشاعر المحدث إذا أراد أن يكون شاعرا فعلا .
ومن شواهدهم النقدية اللغوية مثلا ما لاحظه “عيسى بن عمر الثقفي” في رفع الحال في بيت النابغة الذبياني:
فَبِتُّ كَأنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِــيلَةٌ مِنَ الرُّقْشِ فِي أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ
كما آخذ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الفرزدق في قوله :
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ الْمَالِ إِلاَّ مُسْحَتًا أَوْ مُجَـلَّفُ
حيث رفع الفرزدق آخر البيت المعطوف على مسحتا المنصوب. وقد احتار النحويون في علة ذلك .
وقد يضطر الشاعر أحيانا إلى الخروج عن التركيب المنطقي للجملة العربية مما يسبب اعوجاجا في العبارة ويجعل المعنى غامضا معقدا. من ذلك مثلا قول الشاعر الجَعْدِيّ :
وشمول قهوة باكرتها في التباشير من الصبح الأول
والصواب : مع التباشير الأولى من الصبح. وقد رفضوا مثل هذا الاستعمال لما ينجم عنه من إبهام وغموض نتيجةالتقديم و التأخير.
وقد يكون التعقيد اللغوي الذي رفضه هؤلاء النقاد استخدام ألفاظ لها مدلول معين في مدلول آخر غير مدلولها الحقيقي المتعارف عليه، كاستخدام الشاعر لكلمة ” تولب ” بمعنى ” الطفل “. أو استخدام ألفاظ في غرض لا تصلح له في الأصل كاستخدام عنترة لكلمة ” طِحَال” في مقام الغزل :
فرميت غفلة عينه عن شأنه فأصابت حبة قلبها وطحالها .
فقال يونس بن حبيب النحوي معلقا على إدخال كلمة ” طحال ” قائلا : ” إن الطحال لا يدخل في شيء إلا أفسده فهو يخلو من الحزن ومن الشوق ومن حرارة الهوى “.
ويدخل في باب النقد اللغوي كذلك تلك الدراسات اللغوية وتلك الملاحظات والآراء و الأحكام التي أبداها الرواة حول شعر الشعراء الجاهليين و الإسلاميين. ومن هؤلاء الرواة نذكر : أبو عَمْرو بن العَلاء ، و الأصْمَعيّ ، والمفضَّل الضبِّي ، وأبو عُبَيْدَة وابن سَلاَّم الجُمَحِيّ … وغيرهم الذين سجلوا ملاحظاتهم حول رصانة شعر الشعراء و سهولته .
و لاحظ ابن سلاَّم الجُمحيّ أن ألفاظ عدي بن زيد ليست نجديّة ، أي ليست من ألفاظ أهل نجْد الفصيحة الصحيحة ، قد أثار بعض الرواة الشك نفسَه في شعر دؤاد الأيادي، كما علق بعض الرواة على لغة بعض الشعراء الإسلاميين، ومن هؤلاء الرواة الأصمعي الذي يقر بأن الشاعر ” ابن قَيس الرقَيَّات ” ليس بحجة، وأن ذا الرُّمَّة لم يكن فصيحا . ونقد الأصمعي الشاعرَ “الكُمَيْتَ” فقال : ” كان الكُمَيْتُ بن زيْد معلما بالكوفة فلا يكون مثل أهل البدو ” وقال عنه أيضا ” ليس بحجة لأنه مولد ” . وقد اتهم أبو عمر بن العلاء الطِّرِّمَّاحَ بأنه كان ” يكتب ألفاظ النبط ( ) فيعربها ويدخلها في شعر” .
ومن أمثلة نقدهم الأساليب ما يتعلق بالنقد البلاغي كالمجاز و الاستعارة و الغلو في المعاني في شعر المحدثين. وقد رفضوا العديد من استعمالات الشعراء المحدثين لهذه العناصر البلاغية وأعطوا أمثلة نموذجية لما يكون عليه الشعر الجيد .
قال المبرد واصفا ما ينبغي أن يكون عليه شعر الشاعر : ” أحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة ونبه فيه بفطنته على ما يخفى على غيره ، وساقه بوصف قوي واختصار قريب وعدل فيه عن الإفراط ” .
وقد علق مرة على شعر أبي نواس وهو شاعر محدث مشهور بقوله : ” وقد استطرف الناس قول أبي نواس … ولا أراه حلوا لإفراطه كقوله :
وأخفتَ أهلَ الشّرك حتى أنه لتخافُك النُّطَفُ التي لم تُخْلَق .
ففي البيت مبالغة كبيرة وغلو في المعنى زائدان. ورفض مثل هذه المبالغات ناجم عن خوف هؤلاء النقاد من أن يؤدي ذلك إلى الانقطاع أو الابتعاد عن الأساليب العربية القديمة الأصيلة ، وفي ذلك تشويه للغة وخطر عليها . ومن الذين سجلت عليهم مآخذ في شعرهم ” أبو تمام ” في مثل قوله :
تروحُ علينا كل يومٍ و تغتدي صروفٌ يكاد الدّهرُ منهن يُصْرَع
وفي قوله :
كانوا برودَ زمانهم فتصدَّعوا فكأنما لبِس الزمانُ الصوفَ .
فقال أحدهم : لقد جُنّ أبو تمام، وتساءل كيف يلبس الزمان الصوف ؟ وكيف يصرع الدهر ؟ فهذه استعمالات غير مألوفة، ومن ثم المبالغة الزائدة و الإفراط في استعمال البديع. والاستعارات البعيدة غير المألوفة تعَدُّ من عيوب الشعر عند هؤلاء النقاد.
إن نقد النقاد اللغويين كما تجلّى لنا كان يرصد كل ما يتعارض في الشعر مع الأسلوب العربي الأصيل و الصياغة البلاغية و اللغوية دون أن يتعرضوا لما في الشعر من أوجه جمالية فنية أو معاني قيمة تغذي العقل. وذلك هو نقد شكليّ لغوي موضوعي بعيد عن الخيال و الذاتية قائم على مراعاة استعمال اللغة في أصولها القديمة كما كانت عند الأسلاف.

المحاضرة الثامنة

5 – النقد في العصر العباسي :
تعد بداية العصر العباسي الحقبة التي أخذ فيها النقد يتجه نحو تأسيس قواعد النقد العلمية التي لم تكن قد ظهرت في النقد الأدبي بشكل واضح قبل الآن ، وكان في طليعة من بادروا إلى تأسيس هذه القواعد العلمية ” ابن سَلاّم الجُمَحِيّ ” أحد علماء أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، فهذا الرجل يعد بحق أحد كبار نقاد الشعر وخبرائه المتوفى سنة 231 هـ ، وذلك من خلال ما أورده في كتابه ” طبقات فحول الشعراء ” الكتاب الذي يعد بحق النواة الأولى في مجال الدراسة الأدبية و النقدية، وأول كتاب جمع فيه العديد من آراء العلماء باللغة و الشعر في شأن قضايا الشعر و الشعراء ، فإن عمله هذا ومن هذه الناحية يعد عملا جليلا وجهدا كبيرا يستحق الثناء والتقدير ، فضلا عن أنه قدم فيه منهجا جديدا سليما إلى حد ما في تحقيق النصوص الشعرية وتمييز صحيحها من منحولها محاولا بما أورد من آراء في هذا الشأن وضع حد للنقد الذوقي الفطري الذي كان يغلب على الأحكام النقدية سابقا ، وذلك بمحاولة إرساء المقومات الموضوعية العلمية للنقد الأدبي .
قسّم ابن سلام مؤلفه المذكور لك في قسمين : مقدمة وموضوع ، وأهم ما ورد في المقدمة هو ضرورة تخليص النقد العربي من الآراء الذاتية الانطباعية التي لا تستند إلى خبرة بالأدب ومعرفة بقواعد الشعر، فقد جعل النقد فنا قائما خاصا له رجاله وخبراؤه الذين لهم من الخبرة و الثقافة ما يمكنهم من الحكم على النصوص الشعرية حكما صحيحا وتمييز جيّدها من ردئيها وصحيحها من منحولها، وهو يريد بذلك أن يقطع الطريق على كل متطفل يخوض في النقد بغير علم ويحكم بدون فهم .
أما موضوع الكتاب فتناول فيه حياة الشعراء الذين تناولهم من حيث درجاتهم وقدراتهم في قول الشعر. وقد صنفهم إلى طبقات ضمن مقاييس معينه اعتبرها كفيلة بتحديد وتصنيف كل طبقة . وتتمثل هذه المقاييس في :

1 – الزمان و المكان :
فانطلاق من فكرة الزمان قسم الشعراء إلى جاهليين وإسلاميين، أما المخضرمين فقد وضعهم في مكانهم موزعين إلى الطبقتين . أما المكان فقسم فيه الشعراء إلى شعراء بادية وهم الأغلبية وشعراء القرى وهم الأقلية، وكان يفضل فيما يبدو من آراء الشعر الجاهلي على الإسلامي، والبدوي على القروي عملا بأحكام النقاد اللغويين الذين يرون أن الشعر الجيد هو ذلك الشعر القديم .

2 – الكثرة :
وقد أعطاها ابن سلام أهمية كبيرة في تقديم شاعر على آخر، لأنها في نظره دليل على قوة الشاعرية، لذلك جعل طَرَفة بن العَبْد و عَبِيد بن الأبْرَص في الطبقة الرابعة نظرا لقلة أشعارهما .

3 – تعدّد الأغراض الشعرية :
جعل تعدد الأغراض الشعرية من المقاييس الأساسية في عملية التصنيف واعتمادا على هذا فضل ” كُثَيِّرًا” على “جَمِيل بُثَيْنَة” بالرغم من اعترافه الواضح بأن “جميلا” يجيد الغزل أفضل من “كُثَيِّر”. وهكذا راح يصنّف الشعراء في طبقات أربع في كل طبقة عشر طبقات جاهليون وعشر إسلاميون مجموعهم ثمانون شاعرا. ثم أضاف لهم شعراء المراثى ، وشعراء القرى وشعراء يهود حتى بلغ عددها ثلاثا وعشرين طبقة، ضمت 114 شاعرا .
وكان عند تناوله الشعراء يحاول التعريف بهم وإعطاء القراء صورة تطول أو تقصر عن ظروف حياتهم وتقديم نماذج من شعرهم كشواهد مستعينا ببعض آراء النقاد السابقين ، ورغم قيمة هذا الجهد فإن أهم عمل قام به وشغل باله هو الرجوع إلى التراث الشعري ومحاولة تنقيته مما أضيف إليه مما قام به أولئك الرواة من عملية الحمل على الشعراء و الوضع عليهم لأسباب عديدة مختلفة متعلقة بطموحات بعضهم ورغبة البعض الآخر في إفساد صورة الشعر وتغيير خريطته .
وفي تصنيف الشعراء كان ابن سلاَّم يفضّل دائما القديم على الجديد بل كان متجاهلا المحدثين، مركزا اهتمامه ونظره على الجاهليين والإسلاميين لنقاوة لغتهم وتمثيلهم تمثيلا حقيقيا للحياة العربية القديمة، ولما رأى أن التعرض بالدراسة لكل الشعر العربي غير ممكن توجه إلى المشهورين من الفحول الذين لا يجهلهم عالم بالشعر لما في شعرهم من روعة فنية وأخبار وبطولات وذكر لرجالات العرب ولطبيعتهم .
4 – التمييز بين الشعر الموضوع و الصحيح :
حاول في بداية الكتاب تحديد الصعوبات و العراقيل التي اعترضت سبيله وأتعبته في هذه القضية، ويؤكد أن الشعر الجاهلي و الإسلامي لم يكن على هذه الصورة التي هو عليها الآن، أي لم يعد كله نقيا سليما ، وإنما أصبح فيه ما يحتاج إلى تمحيصه وفحص ودراسة ، وأن الكثير مما في هذه الأشعار التي بين أيدينا منحولة ومنسوبة ويؤكد على ذلك في قوله : ” وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه فالشعر الجيد في نظره ينبغي أن يكون حجة في عربيته حتى يصلح للدراسة العلمية واللغوية ، وأن يكون شعرا يستفاد منه ، وحتى يكون جديرا بالرواية من قبل الرواة و المؤدبين ، وأن يكون ذا معنى يستخرج مع مثل يضرب ومديح رائع وهجاء مقذع وفخر معجب وبنسيب مستطرف ” .
وقد حمل ابن سلام بعض الرواة المسؤولية في ذلك اللون من الشعر المصنوع المفتعل كونهم لم يأخذوه من مصادره إنما هو شعر منحول ” تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء ” .. ويعنى بذلك العلماء بالشعراء أي النقاد .
وقد خصص لمشكلة الانتحال حيزا واسعا في مقدمة كتابه المذكور. ونلاحظ أنه وبالرغم من أن العديد من العلماء الذين سبقوه كانوا قد أشاروا إلى خطورة هذه القضية ونبهوا إلى ظاهرة الوضع في الشعر وإلى بعض الوضاعين فإن ابن سلام تناولها بعقلية العالم الذي يستخدم عقله وخبرته وثقافته وذوقه للوصول إلى الحكم السليم تجاه كثير من النصوص المنحولة وإلى الرواة الذين قاموا بعملية الوضع ، فقد لاحظ أن ما وصلنا من الشعر القديم قليل إذا ما قيس بما قاله الشعراء فعلا، نظرا لندرة التدوين وانشغال الناس في صدر الإسلام بالفتوحات وهلاك كثير من رواة وحفاظ الشعر مما سبب ضياع الكثير من الشعر ، وحينما انتهت الفتوحات وعاد الناس إلى الشعر وروايته لاحظوا بعض النقص ومن ثم وقع نوع من الزيادة التي كانت وراءها أسباب ودوافع يحصرها في ثلاثة هي :

1 – العصبية القبلية :
حيث لاحظت بعض القبائل قلة شعر شعرائها بالنظر إلى وقرة شعر شعراء القبائل الأخرى فأرادت أن تلحق بمن له الوقائع والأشعار فقال البعض على ألسنة شعرائهم ، ثم زاد الرواة على ذلك بما نحلوه من شعر .
2 – دور الرواة :
وصنّفهم صنفين : رواة أخبار لا ينتمون إلى علم الشعر بصلة، وقد قاموا بنقل الكثير من الأشعار المنحولة ، وقد هاجم ابن سلام هذا الصنف من الرواة الذين أورد بعضهم أشعارا لنساء ورجال مجهولين تماما لم يقولوا شعرا قط، كروايتهم أشعار لعاد وثمود زاعمين أنها صحيحة ، وهناك قسم ثان من الرواة الحقيقيين لكنهم قاموا بنحل أشعار تحت تأثير دوافع الطمع والرغبة في الشهرة لدى الخلفاء و العلماء من رجال اللغة حتى يظهروا بمظهر الراوي المتفوّق عن غيره من الرواة .
وقد حاول ابن سلام كشف زيف تلك الأشعار اعتمادا على ثقافته التاريخية و الدينية و الأدبية، وما هداه إليه ذوقه الأدبي ، كما يبدو في دفعه لأشعار عاد وثمود، وعلى الرغم من دقة وسلامة منهج الشك الذي اعتمده و الأدلة الثابتة التي استعان بها فإنه لم يحسم القضية وصرح بأن قضية النحل قضية صعبة خاصة تلك الأشعار التي صدرت ممن يتميزون بالذكاء و القدرة الشعرية بحيث يستطيعون تقمص شخصية الشاعر، ومن ثم يصعب التمييز بين الصحيح والمنحول. ويصرح بأن المسؤولية مازالت ملقاة على عاتق نقاد الأجيال اللاحقة لتواصل التمحيص والفرز حتى تصل إلى تحقيق النصوص الشعرية الصحيحة التي تطمئن إليها وفي هذا الإطار يدعو إلى ضرورة وجود الناقد المتخصّص الذي يتولى القيام بهذه المهمة و الجدير بإصدار الحكم على النصوص الشعرية وتمييز جيدها من رديئها دون غيره .
وابن سلام بهذا الموقف إنما يريد إخراج الشعر من الفوضى و الأحكام العامة المبنية على الانطباع الشخصي، بمعنى أنه من الآن فصاعدا يجب أن يخضع الشعر إلى دراسة ومناقشة العلماء و المختصين به قبل أن يقبل ويعتمد كمادة للدراسة العلمية و التاريخية و اللغوية وغيرها ، وهو يصرح في ذلك بوضوح قائلا : ” وليس لأحد – إذا أجمع أهل العلم و الرواية الصحيحة على إبطال شيء منه – أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي ، وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في سائر الأشياء فأما ما اتفقوا عليه فليس لأحد أن يخرج منه ” .
ويضرب مثلا مما يمارسه بعض المختصين في بعض الأعمال و المهن أو الصناعات الخاصة بهم دون غيرهم حاول أن يجعل مثل ذلك التخصص كذلك في دراسة الشعر مؤكدا أن أي عمل حرفي أو فني لا يمكن أن يقوم به إلا الخبير به دون غيره ويلح على هذا الشرط بقوله : ” وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم و الصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الأذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان … يعرف ذلك العلماء عند المعاينة و الاستماع له … كذلك الشعر يعلمه أهل العلم به ” .
وقد ردّ على من شكك في صحة ما ذهب إليه من ضرورة وجود الناقد المتخصص الخبير بقضايا الشعر قائلا : ” قال قائل لخلف الأحمر : إذا سمعت أنا الشعر استحسنته فما أبالي ما قلت أنت فيه وأصحابك ، قال : إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف : إنه رديء فهل ينفعك استحسانك إياه ؟ ” .

1 – أصول منهج بن سلام في نقد الشعر :
اعتمد في فحصه الشعر ودراسته أولا على المنهج التاريخي المعتمد على تاريخ الأحداث ويشير إنه إذا جهلنا تاريخ وحضارة ما أو تنظيمات الأمم البائدة فإنه حتما تنقطع الصلة التاريخية بيننا وبينها وبالتالي لا يمكن أن تصلنا أشعار شعرائها كما هو الأمر في أشعار عاد وثمود، وهو بهذا يشير بإصبع الاتهام إلى أولئك الذين يتحملون مسؤولية تزوير النص الشعري بنسبه إلى عاد وثمود فعقدوا مهمة الناقد، ثم في نفس الوقت يشير إلى ذلك الخلط الذي لحق بالشعر والذي أدى إلى أغلاط علمية وتاريخية وأدبية بما وضعوا من شعر موضوع ومنحول. وقد كان من أشهر واضعيه من الرواة – كما يذكر ابن سلام – إسحاق بن يسار المسؤول في نظره عن الكثير من ذلك الخلط الذي لحق الشعر الجاهلي و الإسلامي فيقول عنه: ” كان إسحاق بن يسار أكثر علمه بالمغَازي والسِّيَر وغير ذلك، فقبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول : لا علم لي بالشعر أتينا به فأحمله ” .
ويذكر أن إسحاق قد روى – أي نقل – أشعار رجال ونساء لم يقولوا شعرا ثم جاوز ذلك لعاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة وليس بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف فيعلق على ذلك التزوير فيقول : ” أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر ؟ ومن أداه منذ آلاف السنين ؟ ”
ثم يؤكد أن إسناد الشعر إلى العرب البائدة دليل على عدم صحته وذلك في قوله : ” نحن لا نجد لأولية العرب المعروفين شعرا فكيف بعاد وثمود ؟ “.
2 – منهجه اللغوي :
وقد اعتمد في دراسته للشعر المنحول كذلك على المنهج اللغوي أي على عامل اللغة ليرد من خلالها بعض الأشعار ويقوي وجهة نظره في القضية ويخرج في الأخير بأن هناك اختلافا بين لهجات قبائل العرب البائدة وقبائل العرب اللاحقة، ويرى في هذا الاختلاف ما يحسم القضية، أي نسبة الشعر إلى العرب البائدة مستعينا برأي أبي عمرو بن العلاء العالم باللغة وصاحب الخبرة الذي يقر بوجود اختلاف بين لهجات قبائل العرب البائدة و اللاحقة إذ يقول : ” وقال عمرو بن العلاء في ذلك : ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا ، فكيف بعهد عاد وثمود ؟ ” .
إن ابن سلام يعني بهذا أن لغة الشعر الجاهلي ولغة عصره هي غير لغة الحقب السابقة، وأن لغة الشعر الجاهلي إنما هي فرع للغة عربية كانت من قبل لا تشبه لغة الشعر الجاهلي، وذلك نتيجة ما طرأ عليها من تبدّل وتطوّر، أي أن لغة العرب القدماء هي لغة عربية من حيث النسبة، وبالتالي لا علاقة بين الشعر الجاهلي أو الإسلامي الذي يروى بعربية العرب اللاحقة، وبين ذلك الشعر الذي ينسب للعرب البائدة ، لما في ذلك من تبايُن واختلاف .
ويبدو لنا من خلال كل هذا مدى ذكاء ابن سلام ودقة منهجه الذي أزال به الكثير من الغبار الذي كان يغمر هذه المسألة، واعتبارا لذلك ولمجهوده في وضع الأسس النقدية عُدّ من الأوائل الذين أخرجوا النقد من الإطار العام إلى الإطار الخاص، حيث أصبح له رجاله وخبراؤه الذين يحق لهم إصدار الأحكام دون غيرهم لما لهم من خبرة ودراية بشؤون الشعر وقواعده .

التطبيق 1 :

وفي الشعر المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته . وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف . وكان أكثر علمه بالمغازي و السير وغير ذلك فقبل الناس عنه الأشعار . وكان يعتذر منها ويقول : ” لا علم لي بالشعر أوتى به فأحمله ” . ولم يكن ذلك له عذرا، فكتب في السير أشعارا لرجال لم يقولوا شعرا قط,، وأشعارا لنساء فضلا عن الرجال ، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة ، وليس بشعر إنما هو كلام مولّف معقود بقواف، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول : من حمل هذا الشعر ؟ ومن أداه منذ آلاف من السنين؟
ومما يدل على ذهاب الشعر وسقوطه قلة ما بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد اللذين صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة و التقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. وترى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير غير أن الذي ناله من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما حُمل عليهما حمل كثير.
المصدر : مقدمة كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي .

• المطلوب :
اشرح النص بالتفصيل مبرزا حُجَجَ ابن سلام بأن بعض الشعر العربي الجاهلي و الإسلامي شعر منحول منسوب .

التطبيق 2 :

قال ابن سلام الجمحي :
وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم ، كسائر أصناف العلم و الصناعات ، منها ما تثقفه العين ، ومنها ما تثقفه الأذن ، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان ، من ذلك اللؤلؤ و الياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ، ومن ذلك الجهبذة بالدينار و الدرهم لا تعرف جودتها بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة ، فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها . وقال قائل لخلف الأحمر : إذا سمعت أنا بالشعر استحسنته، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك . قال له : إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف إنه ردئ هل ينفعك استحسانك له ؟

– المطلوب :
إن نقد الشعر عملية خاصة لا يمارسها إلا الناقد المتخصص صاحب الخبرة و العلم بقواعد الشعر . اشرح النص تبيّن فيه هذه الشروط بالتفصيل .

• ملاحظة : الاستعانة بالقاموس لشرح الألفاظ الصعبة .


اريد تحميل محاضرات الاستاذ لطرش السىة الاولى كيف يمكنني ذالك وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

و الله درر..

بارك الله فيك و جعلها في ميزان حسناتك.


شكرا لك اخي

merçi baucoup

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

ارجو المساعدة من فضلكم

السلام عليكم اخواتي واخواني

انا ادرس الثانية جامعي تخصصي ادب عربي

لقد اخذت في بحث في مادة الصوتيات بعنوان مظاهر الدرس الصوتي عند سيبويه ولم يعطيني الاستاذ اي مساعدة من مراجع او نقاط حول الموضوع وكذلك بحث في مادة الادب الحديث وسوف القيهم الاسبوع القادم يوم الاثنين

فاتمنى من كل عضو ان يساعدني ولو بالقليل حتى لو كان مرجع واحد المهم ساعدوني وفي اقرب وقت

مع تمانياتي لكم بالنجاح

وشكرا


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

ويُصادفك : إنّ الحديث ذو شجون

في معجم ( لسان العرب ) الآتي باختصار :
الشَّجْن مصدرٌ والطريق في الوادي أو في أعلاهُ ج شُجُون.
ومنهُ المَثَل إن الحديث ذو شجُون.
وأول من قال هذا المثل ضبَّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضرَ بن نزار. وذلك أنهُ كان لهُ ابنان يقال لأحدهما سعد وللآخر سعيد.
فنفرت إبلٌ لضبَّة تحت الليل فأرسل ابنيهِ في طلبها فتفرَّقا فوجدها وردَّها وبقي سعيدٌ ماضيًا في طلبها. فلقيَهُ الحارث بن كعب وكان على الغلام بُردان فسأَله إيَّاهما فأبى عليهِ فقتله وأخذهما.
ولما أبطأَ سعيدٌ عن أبيهِ جزع عليه جزعًا عظيمًا وأقام ينتظرهُ ويتوقَّع رجوعهُ فكان إذا رأَى سوادًا في الليل قال أ سعدٌ أم سعيدٌ فذهب قولهُ مَثَلاً (راجع ذلك في س ع د)
ثم أن ضبَّة حجَّ فوافى عكاظ فلقي بها الحارث ورأى عليهِ بُردَيْ ابنهِ سعيد فعرفهما.
فقال لهُ ما أحسن هذين البردين فمن أين أخذتهما ؟
فقال لقيت غلامًا فقتلتهُ وأخذتهما.
فقال أبِسيفك هذا ؟
قال نعم.
فقال أرني إياهُ فإني أظنَّهُ صارمًا.
فلمَّا أخذهُ من يدهِ هزَّهُ وقال إن الحديث ذو شجون ثم ضربهُ بهِ فقتلهُ.
وكان ذلك في الشهر الحرام فلامهُ بعض من حضر على قتلهِ فيه فقال سبق السيفُ العذل فذهب قولهُ مثلاً أيضًا.

وقولهُ ذو شجون أي ذو فنون وأغراض وشُعَب يتَّصل بعضها ببعض. ويحتمل أن يكون من التداخل والالتفاف
والشَّجَن الهمُّ والحزن والغصن الملتفُّ المشتبك والشعبة من كل شيءٍ والمتداخلة الخَلق من النوق والحاجة حيث كانت…

وفي معجم ( المحيط ) الآتي باختصار :
الشَّجَنُ : مصـ. ـ: الغُصنُ المشتبِكُ. ـ: الشُّعبَةُ من كُلّ شيء؛ (الحديث ذو شجون). ـ: الهَمُّ والحُزن؛

لو كُنتِ تَدرينَ ما أَلقاهُ من شَجَنٍ *** لكُنتِ أَرفَقَ مَنْ آسى ومَن صَفَحَا

الحاجةُ الشّاغلةُ ج أَشْجانٌ وشُجُونٌ.

وفي معجم ( محيط المحيط ) الآتي باختصار :
الشَّجَنُ الهمّ والحُزْن ، والجمع أَشْجانٌ و شُجُونٌ شَجِنَ بالكسر ، شَجَناً و شُجُوناً فهو شاجِنٌ و شَجُنَ و تشَجَّنَ و شَجَنَه الأَمرُ يَشْجُنُه شَجْناً و شُجُوناً و أَشْجَنهُ أَحزنه ….

والشَّجَنُ و الشِّجْنةُ و الشُّجْنةُ و الشَّجْنةُ الغُصْنُ المشتبك . ابن الأَعرابي : يقال شُجْنة و شِجْنٌ و شُجْنٌ للغُصن ،
وشُجْنَة و شُجَنٌ و شِجْنةٌ و شِجَنٌ و شُجْناتٌ و شِجْناتٌ و شُجُناتٌ و شِجِناتٌ الجوهري : والشِّجْنةُ والشَّجْنةُ عروق الشجر المشتبكة . وبيني وبينه شِجْنَةُ رَحِمٍ و شُجْنةُ رَحِمٍ أَي قرابةٌ مُشتبكة .
والشَّجَنُ والشُّجْنة والشِّجْنة : الشُّعْبة من الشيء .
والشِّجْنة : الشُّعبة من العُنقود تُدْرِكُ كلها ، وقد أَشْجَنَ الكَرْمُ وتشَجَّنَ الشجر : التف .
وفي المثل : الحديث ذو شُجُون أَي فنون وأَغراض ،
وقيل : أَي يدخل بعضه في بعض أَي ذو شُعَب وامْتِساك بعضُه ببعض ؛
وقال أَبو عبيد : يُراد أَن الحديث يتفرَّق بالإنسان شُعَبُه ووَجْهُه ؛
وقال أَبو طالب : معناه ذو فنون وتشَبُّث بعضه ببعض ؛
قال أَبو عبيد : يضرب هذا مثلاً للحديث يستذكر به غيره ؛

قال : وكان المُفَضَّلُ الضَّبِّي يُحَدِّث عن ضَبَّة بن أُدٍّ بهذا المثل ، وقد ذكره غيره ؛ قال : كان قد خرج لضبَّة ابن أُدٍّ ابنان : سَعْدٌ وسَعِيد في طلب إِبل ، فرجع سعد ولم يرجع سعيد ، فبينا هو يُسايِرُ الحارث بن كعب إذ قال له : في هذا الموضع قتلت فتى ، ووصف صفة ابنه ، وقال هذا سيفه ،
فقال ضَبَّةُ : أَرِني أَنْظُرْ إليه ، فلما أَخذه عرف أَنه سيف ابنه ، فقال : الحديث ذُو شُجُونٍ ، ثم ضرب به الحارث فقتله ؛
وفيه يقول الفرزدق :

فلا تأْمَنَنَّ الحَرْبَ ، إنّ اسْتِعارَها *** كضَبَّةَ إذْ قال : الحديثُ شُجُونُ

ثم إن ضبة لامه الناس في قتل الحارث في الأَشهر الحرم فقال : سَبَقَ السيفُ العَذَلَ . ويقال : إنَّ سَبَقَ السيفُ العَذَلَ لخُرَيْمٍ الهُذَليِّ .

والشُّجْنة والشِّجْنة : الرَّحِمُ المشتبكة . وفي الحديث : ( الرَّحِمِ شِجْنة من الله مُعَلَّقة بالعرش) تقول : اللهم صِلْ من وَصَلَني واقْطع من قطعني أَي الرَّحِمُ مشتقة من الرَّحْمن تَعَالَى ؛ قال أَبو عبيدة : يعني قَرابةٌ من الله مشتبكة كاشتباك العروق ، شبهه بذلك مجازاً أَو اتساعاً ، وأَصل الشُّجْنة ، بالكسر والضم ، شُعْبة من غُصْن من غصون الشجرة ، والشَّجْنةُ لغة فيه ؛ عن ابن الأَعرابي ، وقيل : الشُّجْنةُ الصِّهْرُ …

مقتبس


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

بين اللسانيات والأدب


لعلنا نعرف الأدب على أنه نص انحرف فيه صاحبه عن طبيعة اللغة فصار له خصائصه ومميزاته، فكثرت بذلك النظريات والفوائد والمهارات بمقدار كثرة أذواق الأدباء وقرائحهم وتألقاتهم في الانزياح عن النص العادي إلا النص الذي قد يحمل في أصدق معانيه وصف الرائع، ولعلنا أصبحنا نعرف أيضا أن اللسانيات علم يهتم بدراسة اللغة دراسة علمية ممنهجة لها تقسيمات وأساليب معروفة لدة طلبة علوم اللسان، ويمكن للإشكالية أن تظهر ههنا: الأدب له علاقة بالذوق والعواطف والوجدان واللسانيات علم يعتبر كأداة لدراسة اللغة العادية بغية التعرف على القوانين التي تسيّر اللغات البشرية بأكملها، فهل يمكن لها أن تتساير مع الأدب أو تتقاطع معه أم أنها في صراع معه لا سيما إذا كان هناك نقد أدبي، فالنقد دراسة للنص الأدبي، وقد تغير منه -إن صح القول- اللسانيات فيحدث الصراع…
وعلى ما يبدو فإن علاقة اللسانيات بالأدب تظهر بعد النظر في مفهومنا للأدب، فقد كان الأدب حكرا على نقاده تحصل بينهم سجالات حوله لا تكاد تنتهي، فيحكم هذا على المقطع من النص بأنه إبداع، ويرد ذلك ناقد آخر ويقول ثالث هذا كذا فيكر عليه رابعهم بقوله لا هو كذا…، لكن في القرن الماضي تغير الوضع ، إذ بعدما جاءت الشكلية رأت أن الأدب هو لغة منحرفة عن اللغة العادية، ومن ثم فإن أنسب الأدوات للتعامل معه في علم اللغة ، اللسانيات، لانها أدق أداة يمكن من خلالها تحديد اللغة العادية واللغة المنحرفة، فأصبح الأدب واللسانيات صديقي عمل بحيث يمكن القول إن الأدب صار مادة موضوعة على مائدة اللسانيات تفككها وتنظر في مكوناتها الإبداعية ولم يعد ضروريا النظر في البيئات الاجتماعية ولا سيرة الأديب ولا عصره… المهم كل ما يتعلق بالنص هو بداخله، وها هي ذي اللسانيات تقطع شوطا آخر في داخل العمق اللغوي العربي لعلها تجد نفسها بديلا فعليا لكثير من العلوم العربية القديمة أظن أن على رأسها البلاغة والنقد الأدبي القديم… التوقيع: قابل للمناقشة

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

السياقية والسياقيون

السياقية والسياقيون
مقدمات تأسيسية
د.عيد بلبع

إن النظرة السياقية إنما هي استكشاف دائم للآفاق بتجاوزها النظرة أحادية البُعد التي تنثني على نفسها وتتقوقع على ذاتها ، إنما هي نظرة انفتاحية استيعابية تنفض عن نفسها الخيوط العنكبوتية للنظرة أحادية البُعد أحادية الرافد ، فالنظرة السياقية مرفودة دائماً بما لا حصر له من الروافد ، منفتحة على ما لا حصر له من الرؤى ، طامحة إلى استشراف ما لا حصر له من الآفاق ، فالسياقية إبحار معرفي لا يعبأ بحدود المكان ولا يعرف حدود الزمن ، مربوطة بمركزها مشدودة إليه وهي سابحة في الآفاق ، فولاؤها للوعي وللمعرفة في وجودهما الذى لا تحده حدود المذهبية ، ولا تخنقه ضواغط الأيديولوجيات ، ولا يعترف بحواجز الزمان والمكان ، ومن ثم تنطلق فكرة ” السياقية ” وتتشعب في عدة مواقف .

الموقف المعرفي :

تأتي فيه السياقية منهجاً في المعرفة ، أي أنه لا يقف عند حدود مقاربة النصوص تحليلا وتأويلا ، ولكنه يتجاوز ذلك إلى البحث فيما وراء المناهج من خلفيات معرفية وجذور فلسفية تدخل جميعها ضمن السياقات الثقافية التي نشأت فيها هذه المعارف والفلسفات ، ومن ثم يأخذ المنهج السياقي في المعرفة نفسه بالبحث في فلسفات العلوم والمعرف ، كما يأخذ نفسه بالبحث في نظرية المعرفة ، وهو في هذه المسالك يصطنع لنفسه نهج المقارنة بين مناشئ العلوم والمعارف والنظريات والمناهج في سياقات إنتاجها وسياقات تلقيها ، فلا يتنكر لمنبع من منابع المعرفة نظراً لزمانه أو مكانه أو لهويته ، ولا يتنكر لنشاط العقل البشري مهما كانت الأيديولوجيات المحركة له ، فقط ينطلق في هذا الحراك المعرفي من وعي بهذه الأيديولوجيات على مستوى وعي الذات والآخر ، فالمعرفة مهما تعددت اتجاهاتها وتشعبت مواطنها وتباينت عصورها واختلفت توجهاتها تأتي بمثابة الروافد التي ترفد العقل وتغذيه ، لينشأ فيه جدل بين معطياتها ، ثم ليأخذ سبيله إلى النضج الذي يؤهله إلى أن يكون قادراً على إنتاج المعرفة ، فالسياق موقف معرفي وليس مجرد مبحث معرفي تناقلته العلوم والمعارف ، ومن ثم فهو ضرورة يفرضها الضمير المعرفي .
إن السياقية بذلك تهدف إلى تحقيق التكامل المعرفي ، والتكامل الذى نقصده هنا إنما هو تكامل مزدوج ، تكامل بين رؤى الحقول المعرفية المختلفة في التراث العربي ومنها علوم العربية من نحو ولغة وبلاغة ، والعلوم الإسلامية من أصول فقه وحديث وتفسير ، وتكامل بين ما يمكن أن يطلق عليه النظرية السياقية العربية والنظرية السياقية الغربية ، ولكن رؤيتنا للسياق في التفكيرين العربي والغربي لا تنطلق من المحاولة الجامدة لإثبات شرعية التراث بموافقته للمقولات الغربية الحديثة ، أو إثبات شرعية النظرية الغربية الحديثة بموافقتها للمقولات التراثية ، ولكن هذه الرؤية تنطلق من هدف معرفي خالص يتجاوز القُطرية ومواطنة المعرفة ، وفي انطلاقها هذا تأخذ في حسابها الإسهام العربي والغربي معاً بوصفهما رافدين معرفيين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر ولا يزيد إلا بقدر ما أضاف إلى النظرية المعرفية من أبعاد أثرت جوانبها .

الموقف الانتمائي :

إننا نؤكد بهذا الموقف على انتمائنا لجذورنا التراثية في مقابل دعاوى العولمة ومحاولات الذوبان في الآخر الغربي الوارد ، وبخاصة إذا كانت هذه المعرفة الواردة من الغرب لا تضيف لعمق أفكارنا العربية الإسلامية شيئاً ذا قيمة ، وقد كان من أخطر ما نفذ إلينا وتسلل إلى عقل غير واحد من الكتاب والباحثين والأساتذة في الجامعات العربية فتنة السميوطيقا والبنيوية وما تخللهما من أبعاد : الانغلاق على النص في التحليل ، والتنكر للأبعاد الجمالية ، بل التنكر لعملية التأويل ذاتها في كثير من الأحيان ، وهذه المحاولة تمثل موقفاً من المعرفة السابقة ـ من جانب ـ كما تمثل موقفاً من ملابسات وجود النص وملابسات تلقيه ، وهذه الملابسات هي السياق . والسياق بُعد أساسي في مكاشفة النصوص ، وهو في الوقت نفسه بُعد أصيل في ثقافتنا العربية والإسلامية ، فالسياق كان أساساً جوهرياً في علم أصول الفقه ، الذي يعد من أول العلوم الإسلامية التي اعتنت بكيفية استنباط الأحكام من النصوص المقدسة ( القرآن والسنة ) ، وأرى من موقفنا الانتمائي هذا أن نحتفظ لأنفسنا بهذا الجذر المعرفي المتألق ، لأن هذا الجذر نفسه هو الذي التفت إليه غير واحد من الغربيين في رد فعل على الانغلاق البنيوي السميولوجي ، وليس مجرد الانتماء هو الذي يقودنا إلى هذا المنحى السياقي في تحليل النص اللغوي ، ولكن الذي يقودنا إليه فعلا هو ما يحمله من موقف معرفي ، فإن الجهل بالسياق إنما هو جهل بالهوية والانتماء ، بل هو جهل بالذات في منبتها وفي غاياتها وفي معرفة في أي فلك تدور ، وكيف تدور الأفلاك من حولها ، فالذي لا يدرى موضع تقاطع سياقه مع السياقات لا يدرى كيف تسير الدنيا من حوله ، فالسياقية مسلك لإعادة الوعي واستعادة الذات التي ذابت أو كادت في منعطف ضيق من منعطفات الزمان أو المكان.
ولعلنا لا نبالغ إذا زعمنا أن دراسات العلوم العربية والإسلامية التي قامت حول السياق ـ بوصفه منهجاً أو رؤية حبلى بجذور المنهجية ـ كانت من السبق والعمق معاً بحيث تتفوق على نظيرتها التي قامت في العصر الحديث في المعرفة الغربية ، وأن النظريات العربية التي أسست لدراسة السياق كانت أوفي من النظريات الغربية الحديثة التي قامت على يد مالينوفسكي ، وفرث وغيرهما ، وقد تنبه إلى هذه الحقيقة غير واحد من المحدثين ، منهم د. تمام حسان في ربطه فكرة السياق بفكرة المقام عند العرب الذين تقدموا ألف سنة تقريباً على زمانهم ؛ لأن الاعتراف بفكرتي المقام والمقال بوصفهما أساسين متميزين من أسس تحليل المعنى يعد الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل المعاصر في دراسة اللغة ، ويرى د. تمام حسان في موضع آخر أن البلاغيين العرب بقولهم : ” لكل مقام مقال ” و ” لكل كلمة مع صاحبتها مقام ” وقعوا على عبارتين من جوامع الكلم تصدقان على دراسة المعنى في كل اللغات ، وأن ( مالينوفسكى ) وهو يصوغ مصطلحه الشهير (Context of situation ) لم يكن يعلم أنه مسبوق إلى مفهوم هذا المصطلح بألف سنة أو ما فوقها .
وفي الحديث عن نظرية الاتصال عند ياكوبسون يقرر د. عبد الله الغذامي أن حازماً القرطاجنى قد ذكر بعض عناصر الاتصال اللغوي ، من قبل ياكوبسون بسبعمائة عام حيث ذكر أن الأقاويل الشعرية : تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر فيها بإيقاع الحيل التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه أو التي هي أعوان للعمدة ، وتلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه ( الرسالة ) ، أو ما يرجع إلى القائل ( المرسل ) ، أو ما يرجع إلى المقول فيه ( السياق ) ، أو ما يرجع إلى المقول له ( المرسل إليه ) ، ولنا أن نضيف هنا أن نموذج حازم القرطاجنى قد اشتمل على عناصر عملية الاتصال الستة عند ياكوبسون جميعها إذا أخذنا في حسابنا أن القول يتضمن الوسيلة والشفرة ، وأن ياكوبسون فصل بين هذه العناصر ، وأن حازم القرطاجنى قد ضمنها في المقول .
ولكن التعرض للسياق لا يقتصر على فكرة المقام عند البلاغيين ، بل إن البلاغيين مسبوقون برؤية تكاد تمثل نظرية سياقية تامة في أصول الفقه وفي النحو العربي ، فإذا كانت نظرية أفعال الكلام ارتبطت في نشأتها على يد الفيلسوف الإنجليزي ( جون أوستن 1932 ، 1962 ) بتسجيل موقف ضد اتجاه المنطق الوضعي الذى نظر إلى معنى الجملة مجردة من سياق خطابها فإن النحو العربي في نشأته الأولى قد أَوْلى السياق أهميته في تحليل معنى الجملة ، مما يجعل معالجات سيبويه المتقدمة رداً على متأخري النحاة الذين جردوا الجملة من سياقها .
وقد تعرض الزمخشري إلى المعنى المجازى لكلمة السياق التي تعنى السياق الذى ورد فيه الكلام ، وهو يتوزع بين مفاهيم تتابع الكلمات في الجمل ، والجمل في النصوص ، والمقام الذى يصاحب الكلام ، والقصة أو الظرف الخارجي الذى يمكن فهم الكلام على ضوئها مستنداً في ذلك كله إلى روايات عن ابن جني والسيوطي .
وقد جاءت كلمة السياق في صحيح البخاري وصحيح مسلم وفي سنن النسائي وفي سنن ابن ماجه ، كما جاءت في شرح النووي على صحيح مسلم ، وفي كتاب الإصابة في أخبار الصحابة لابن حجر ، وفي كتاب البداية والنهاية لابن كثير ، وقد وردت أيضاً في شرح الإمام عبد الحي اللكنوي لموطأ الإمام مالك رضي الله عنه ، المسمى : ” التعليق المُمَجَّد لموطأ الإمام محمد ” ، كما جاءت إشارات في نقد المتن عند علماء الحديث إلى البُعد السياقي للحديث النبوي الشريف مثال ذلك قولهم : ” انسجام الوحي ” ، وقد أشار إلى هذا البُعد ابن قيم الجوزية في حديثه عن ضرورة موافقة الحديث للقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة ، ولقد جاء التعرض للسياق في أصول الفقه وأثره في توجيه دلالة النص منطلِقاً من بحثهم في القرينة التي اتخذوها أساساً لتحديد الدلالة ، نجد ذلك واضحاً عندهم ـ مثلاً ـ في التعرض لبيان المقصود من الأمر والنهي على سبيل الحقيقة أو المجاز ، وقد جاء هذا المظهر في كتاب الرسالة للإمام الشافعي حيث أفرد باباً أطلق عليه : الصنف الذى يبين سياقه معناه .
وبذلك نرى في جلاء سبق التفكير العربي والإسلامي إلى السياق بوصفه محددا منهجياً للتأويل والتفسير واستنباط الأحكام ، ولا يأتي تبنينا لهذه الرؤية من منطلق تعصبي وإنما هي الحاجة المعرفية التي تدفعنا إلى استثمار رؤى ومقولات من حقها علينا أن نجليها ونزيح عنها غبار الزمن ونضيف إليها ما يمكن من رؤى منهجية تثري البحث في العلوم الإسلامية وعلوم العربية اللغوية والنقدية والبلاغية .

الموقف المنهجي :

ونعني به أن السياقية منهج في التحليل والتأويل والنقد ، والمنهج السياقي هو المنهج الذي يقوم على الانفتاح على كافة المؤثرات السياقية ، أي الانفتاح على السياقات المختلفة بعناصرها التي تضيء عملية تحليل النصوص بمختلف أنماط الخطاب ) ، ويأتي المنهج السياقي في التأويل والتحليل والنقد الأدبي والبلاغة بمثابة النقض للمنهج البنيوي ( السميوطيقا البنيوية ) الذي لم يقدم النتائج الموازية للضجة التي أحدثها في النقد الأدبي عند العرب من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي ، إنه يقدم مبررات الحاجة إلى رؤية تتجاوز الرؤية البنيوية بادعاءاتها الانغلاقية ، فلقد كانت سميولوجيا سوسير بامتداداتها البنيوية دعوة انغلاق على النص وتنكر لكل ما عداه من موضوعه الخارجي ومؤلفه ، ومن ثم كانت دعوة للتنكر لأي عنصر خارج اللغة من شأنه أن يعين أو يتدخل في عملية التفسير والتأويل ، ولقد أدرك اللغويون أنفسهم مأزق الانغلاق على التحليل الوصفي الخالص للعناصر الداخلية في النص ، فراحوا يبحثون عن العناصر السياقية لإضاءة النص .
إن المنهج السياقي منهج في التأويل بتقاطعاته وتماساته وتداخلاته المتعددة ، إنه منهج في تأويل النصوص الدينية وتفسيرها ، يستوعب معطيات البلاغة والأسلوبية في وفق رؤية سياقية لا تنقطع عن أدوات التأويل السياقي وإجراءاته التي تثري ـ بلا شك ـ التحليل البلاغي والأسلوبي ، كما أنه منهج في النقد الأدبي يأخذ في حسابه المعطيات الخارجية والداخلية ويبحث في الظواهر ويأخذ نفسه بتحليلها والبحث في عللها .
إن دراسة السياق تمثل بعداً جوهرياً في مقولات ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية ، إذ تأتى بمثابة رد الفعل على الرؤية المحايثة عند البنيويين أو ما يُطلق عليها السميوطيقا البنيوية ، وذلك بارتباطها بفكرة التداولية وبإثرائها لها وثرائها بها في تلك الدراسات التي نشطت في السبعينيات وانفسحت مجالاتها في الثمانينيات والتسعينيات ، ثم إلى يومنا هذا ، وإذا كان هذا يعنى خطورة قضية السياق في الثقافة الغربية اليوم ، فإنه يجدر بنا التنبيه إلى أن الفكرة ذاتها كانت تمثل بعداً جوهرياً في الثقافة العربية والإسلامية منذ نشأة العلوم العربية والإسلامية ، وليس بغريب أن تكون ثم نظرية سياقية مكتملة متماسكة في الثقافة العربية الإسلامية توزعت بين علوم التفسير وأصول الفقه والفقه واللغة والنحو والبلاغة والنقد الأدبى .
الأمر الذى يجعل الإحجام عن دراسة فكرة السياق ضرباً من الجهل بالفكرين الغربي الحديث وبالتراث العربي الإسلامى القديم في آن واحد ، يقول ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) : ” السياق يرشد إلى تبيين المجمل ، وتعيين المحتمل ، والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته ”
وبهذا لا يمكن الوقوف على الحقيقة بالوقوف على المعنى الحرفي إلا في الاستعمال النمطى : ( المنطقى ، العلمى ) ، حيث ينعدم السياق ، فالمعنى الحرفي ” هو المعنى الذى نجده للجملة في سياق الصفر ، أو السياق المنعدم ” ، وفيه تنعزل الجملة بوصفها نمطاً غيرَ مشيرٍ إلى وجود في خطاب ما وتستقل تماماً عن كل مقابلة ” ولا يكون المعنى وظيفة إلا في حدود الكلمات المكونة له ، وتلاحقها النحوى ، ولا يهم من يتلفظ بالجملة ، وفي أية ظروف ، ولقول ماذا ، وإذا ما أخذنا في حسابنا هوية المتكلم ومقصده ، والوضعية التي هو عليها ، نرى بأن المعنى يتعدل ويتدقق ويغتنى ، من هنا نتجاوز المعنى الحرفي إلى معنى أكثر اكتمالية يسمح بإمكانية تحديد الحقيقة ”
إن حركة من التفاعل الدائم بين معطيات العناصر السياقية المختلفة ومعطيات النحو والدلالة ينتج عنها المعنى ، ومن ثم فإن ” السياقات لا تساهم في صنع الدلالة فحسب ، بل إن السياقات والدلالات ذاتها تبنى من خلال هذه التبادلات ، فهي ليست إذن معطيات بل انبثاقات ، فالمعنى ينبثق عن الأشكال الموضعية التي تدور فيها الأنشطة ، والتي اشترك الفاعلون المتواجدون في بلورتها ، فهو ليس معطى مسبقاً مخزوناً في بنك للمعطيات مشترك بين الجميع و يمكن إخراجه عند الطلب ، إن المعطى أو التواصل بوصفه معطى ليس له ، حسب نظرية سيرورات التواصل ، إلا أهمية قليلة ، فهو يستمد معنى بالنسبة لفاعل خاص : ذاك الفاعل الذى يتجه نحوه ويدرجه كتواصل حاسم في مجال اهتماماته ونياته ، وذلك بوضعه في سياقات يعتبرها مناسبة له ، وعليه يمكن أن يكون لـ ” نفس المعطى” دلالات مختلفة حسب اهتمامات الفاعلين ونيَّاتهم .”
وقد أشار فان ديك إلى أن هذا البُعد الخارجى للسياق ” يتكون من جميع العوامل النفسية والاجتماعية التي تحدد بدقة مناسبة أفعال اللغة ، ومن بينها : المعرفة والرغبات والإرادة ، والأسبقيات المعتبرة عند مستعملى اللغة وأحكامهم ـ من جهة ـ وعلاقاتهم الاجتماعية ـ من جهة أخرى ـ وقد يكون إنجاز بعض أفعال اللغة في حالات أخرى محاط بقيود مؤسساتية ” ، وتتمثل القيود المؤسساتية في القضاء والعلاقات الإدارية بأنواعها المختلفة ، أما العلاقات الاجتماعية فتتمثل في العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة ، وما يستتبع هذه الأنماط من ظروف وملابسات تتحكم بشكل قاطع في توجيه عملية التأويل .
ومن هنا كان ربط عملية التواصل بالسياق ” فإن سيرورات التواصل ، على هذا الأساس ، تتدخل من أجل تغيير أبعاد السياق العام ، وهذه الأبعاد هي : البعد المكانى ، البعد الفيزيائى والحسى ، البعد الزمنى ـ بعد الموقع ـ البعد العلائقى ـ البعد المعيارى ـ وأخيرا البعد الذاتى ( أو بعد الهوية ) ، ويمثل كل بعد من هذه الأبعاد واحداً من أبعاد كل “سياق عام” تدرج في إطاره ظاهرة تواصلية ، فمن خلال التدخل في مختلف هذه السياقات ، يعمل الفاعلون على تغييرها ومن ثم يساهمون في بناء المعنى لتبادلاتهم ، ذلك أن المعنى ينشأ من وضع الظواهر التواصليه في سياقها .
ومن ثم يمكن القول بأن المعنى يتولد دائما من مواجهة “التواصل” بعناصر سياقية ، فهو ينشأ دائما من تسييق شىء من لدن شىء لآخر ، فالتأويل يجد جذوره المتعددة في سيرورة السياقات المختلفة ، والوضع في السياق يمكن أن يتم بطرق متعددة ، يمكن أن يكون متعددا وأن يكون الوضع المرجعى للفاعلين مختلفا ، ومن ثم تكون الدلالات مختلفة كذلك ، فـ “المعنى المشترك” لن يظهر في الحال ويجب الكشف عنه من ـ وعبر ـ التبادلات التي تكون في غالب الأحيان ميتاتواصل des métacommunications ، بهذا المعنى فإن دراسة الوظيفة المفصلة لـ “سيرورات التواصل” تبين لنا كيف أن كل تواصل هو كذلك دوماً ميتاتواصل . ”
ويجدر بنا التنبيه إلى أن الأمر لا يقف عند حدود التأويل ، بل يتعداه إلى تحقيق عملية التواصل ذاتها من خلال الملابسات السياقية التي لا تتعلق بتأويل المنطوق اللغوي ، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن السياق قد يأخذ بُعداً أكثر شمولية إذا نُظر إليه فيما يُسمى ” عملية التواصل الشامل ” ، يتجاوز بها معناه المعتاد المنحصر في المنطوق والمكتوب ، أى تلك العناصر التي تمثل أشكال التبادل الأساسية بين الأفراد ، ففي هذه العملية يتوسع مفهوم السياق من دائرته لكى يشمل أيضا الأفعال والسلوكات الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين ، ويشمل كذلك ما يطلق عليه ما لم يتم توصيله non-communications أى ما كان ممكنا فعله أو قوله أو كتابته في ظرف المعنى ، ولم يتم فعله أو قوله أو كتابته ، مثال ذلك مثلاً إحجام المدعوين إلى حضور اجتماع بعينه عن الحضور ، فإنه بشكل ما يمثل عدم تواصل ، ولكنه في الوقت نفسه يمثل نمطاً من التواصل ، يتم عن طريقه توصيل رسالة معينة إلى صاحب الدعوة ، فقد يُفهم من عدم الحضور في هذا السياق على أنه موقف : اعتراض أو عدم اهتمام ، ” وهكذا فإن كل ( عدم تواصل ) هو في نهاية الأمر تواصل يمكن قراءة دلالته إذا عرفنا سياقه الخاص ، فالتواصل إذن هو بمعنى ما كيان نابع من وضعية تفاعل وتداخل مجموعة فاعلين ، مبنى يأخذ معنى ضمن السياق الذى يحدد تخومه . ”
ومن ثم فإنه لا يمكن تحديد جزئية تواصلية خارج مفهومى السياق والمعنى ، وبهذا يكون المؤول في عمق نظرية سيرورة التواصل التي تؤكد على أن معنى التواصل يرتبط بالسياقات التي تحتويها ، وأن اعتماد التأويل على هذه السياقات يقود إلى تغيرات في المعنى والتواصلات الناتجة عنه ، بيد أن التأويل هنا ليس تأويلاً لظاهرة لغوية وردت في سياق ما ، ولكنه تأويل للسلوك نفسه بوصفه علامة غير لغوية .
ومن هنا تتعلق عملية التواصل دائماً بعناصر خارجية شارحة ومبينة للمعنى ، إذ لا يمكن للمؤول بحال من الأحوال الوصول إلى تأويل النص دون النظر في هذه العناصر ، ومن هنا يكون السياق ـ في الوقت الذى يعد فيه رافداً معرفياً للتداولية ـ ضابطاً تأويلياً يحد من جموح الافتراضات المتعددة التي قد تثيرها الرسالة مكتوبة أو ملفوظة أو غير ذلك ، إن السياق بما يضعه بين يدى المحلل من معلومات ” يحصر مجال التأويلات ، ويدعم التأويل المقصود ، ومن ثم فهو الحارس الأمين للمعنى .”
وإذا حاولنا أن نأخذ أنفسنا بمحاولة تصنيف لأنماط السياق ومستوياته فإن لنا أن نقر بداية بأن هذه المحاولة إنما هي محاولة مستقاة من معالجات متعددة متباينة في رؤاها بين المدارس الغربية ، ما ينطلق منها من رؤى التداوليين وما ينطلق من رؤى السياقيين ، والمقولات العربية التي تنبهت إلى أثر السياق في عملية التأويل في الحقول المعرفية المختلفة ، فمنها ما يتعلق بأصول الفقه ومنا ما يتعلق بالتفسير وعلوم القرآن ، ومنها ما يتعلق بالدرس اللغوي عند العرب ، ومنها ما يتعلق بالدرس النقدي والبلاغي ، إلى جانب ما يمكن أن يعن لنا من أبعاد سياقية تولدت وتكشَّفت من تلاقح الرؤيتين العربية والغربية ، فمن ذلك كله يمكننا تصنيف السياق في الأنواع والمستويات الآتية : السياق اللغوي الداخلي ، السياق اللغوي العام ، السياق الثقافي ، السياق الخارجي ، سياق التلقى ، سياق الاستشهاد ، ربما تكشف لنا هذه الدوائر السياقية أبعاد المنهج السياقي الذي ما يزال بحاجة إلى مزيد من الإيضاح والتبيين ، وسيكون هذا موضوع حديثنا القادم إن شاء الله تعالى .



التصنيفات
لغــة وأدب عربي

بحث جاهز حول "النهضة الادبيه العربية"

مـقـدمــه: – بداية اتصال الشرق بالغرب –

بدأ اتصال الشرق العربي بأوربا ، التي كانت قد بلغت شأوا بعيداً في التقدم العلمي ، وأحرزت نتائج باهرة في مختلف العلوم كان أميراً على بعض مناطق لبنان وسوريا وكانت هذه البلاد تسمى (الشام).
سافر السلطان فخر الدين إلى بعض البلاد الأوربية ، وشاهد ما وصلت إليه من تقدم حضاري ليس له مثيل في الشرق فأعجب بذلك أيما إعجاب ، فعمل على توثيق العلاقات بين بلاده ، وبلاد أوربا ، فاستقدم بعض الشركات الأوربية التجارية ، وأرسل بعض البعثات إلى روما لتلقي العلم في معاهدها ، وتعلم لغاتها.
وقد اهتم البابا بهذا الاتصال اهتماماً كبيراً ، فوجه بابا روما في ذلك الحين الآباء اليسوعيين أن يقوموا بإنشاء المدارس الأوربية في الشرق ، كما وجه باستقدام عدد من أبناء الموارنة إلى روما وإلحاقهم بمدارسها ليعودوا إلى بلادهم حاملين ثقافة أوربا وعلومهم ، فكانت أول لعثة عربية تعليمية إلى أوربا سنة 1578م .
ومثل ما اهتم ملوك إيطاليا بالشرق ، أهتم ملوك فرنسا بالشرق وبلبنان على وجه الخصوص ، فاستقدم لويس الرابع عشر ملك فرنسا عدداً من أبناء اللبنانيين إلى باريس حيث تعهد بتعليمهم مجاناً وأهتم المبشرون أيضاً بلبنان ، فأقبلوا إقبالاً شديداً فأنشأوا المدارس التي تعلم على المنهج الأوربي اللغات والعلوم التي كانت أوربا قد نبغت فيها .
ولكن على الرغم من ذلك كله فإن أثر اتصال الشرق بأوربا لم يكن له أثر واضح فى بقية البلاد العربية ، فإن تأثيره لم يمتد إلى مصر والعراق أو غيرهما من الوطن العربي حتى جاءت سنة 1797م ، تلك السنة التي يعتبرها مؤرخو الأدب الحديث البداية الحقيقية للنهضة الأدبية والثقافية المعاصرة .
في تلك السنة دخل نابليون مصر مسلحاً بأحدث ما توصلت إليه أوربا من أنواع الأسلحة ،بينما كان المصريون وبقية أنحاء الوطن العربي لا تعرف من أنواع الأسلحة إلا السيوف والرماح وبعض البنادق البدائية .
اصطحب نابليون معه في حملته العسكرية جماعة من العلماء في تخصصات مختلفة ، فأنشأ مجمعاً علميا ، وأحضر معه مطبعة عربية كان يطبع بها المنشورات والتعليمات التي يريد إيصالها إلى الشعب المصري ، ولم تكن مصر تعرف الطباعة قبل ذلك .
على الرغم من أن نابليون وعلماءه لم يمكثوا في مصر أكثر من ثلاث سنوات فقد كان لتلك السنوات الثلاث أثر بليغ في الثقافة العربية والأدب العربي ، لأن ذلك اللقاء بين الشرق وأوربا قد بعث في الشرق روح التحدي والتصدي .
لما طرد المصريون نابليون من مصر سنة 1801م وتولى محمد على عرش مصر سنة 1805م فكر في إنشاء دولة حديثة تستعين بما وصلت إليه أوربا من العلوم والفنون والآداب .
وهنا تجمعت عدة عوامل أدت إلى ما يسمى بـ ( الأدب العربي الحديث)

*عوامل نهضة الأدب العربي الحديث :

1/ إرسال البعثات إلى أوربا :

أرسل محمد على سنة 1826م مجموعة من الشباب المصريين إلى فرنسا عددهم أربعة وأربعون طالبا ليتخصصوا ، بعد إتقان اللغة في ، العلوم المختلفة في الزارعة ، والطب والجراحة والتشريح ، والطبيعة ، والكيمياء والعلوم البحرية ، والميكانيكا والترجمة.
كان هذا أول لقاء بين المصريين وبين الثقافة الغربية ولما عاد هؤلاء المبعوثون عادوا بثقافة جديدة ، وعقلية اتصلت بالحضارة الغربية ، وعرفوا أشياء لم يكونوا يعرفونها من قبل ، فقاموا بترجمة كثير من علوم أوربا وألفوا باللغة العربية كتباً في العلوم والآداب فأثروا اللغة بما زودوها به من أفكار ومصطلحات حديثة .

2/ إنشاء المطبعة :

عرف الشرق العربي المطبعة قبل مجيء ، نابليون إلى مصر عرفها في لبنان غير أنها لم تكن ذات تأثير في الأدب العربي لأنها كانت مقصورة على طباعة الكتب الدينية .
أنشأ محمد على أول مطبعة عربية في مصر سنة 1821م في حيّ بولاق فعرفت باسم مطبعة بولاق، لقد كان لمطبعة بولاق أثر واضح في النهضة الأدبية المعاصرة حيث قامت بطبع أمهات كتب الأدب العربي شعراً ونثراً ، كما طبعت مئات من الكتب العربية فى الطب والرياضيات والطبيعيات ، والتاريخ والتفسير والحديث .
أقبل الناس على كتب الأدب يقرءونها ، ويحفظون من دواوين الشعراء الأقدمين عيون الشعر العربي ، ومن كتب الأدب أرقاها أسلوباً ، ومـن كتب اللغـة ما وصلـهم باللغة القوية الأصلية .

3/ إنشاء الصحف :

أدى إنشاء المطبعة إلى ظهور لون جديد من ألوان القراءة هو الصحيفة التي لم تكن معروفة في الثقافة العربية من قبل .
انشأ محمد على أول صحيفة في الوطن العربي سنة 1828م ، تولى رئاسة تحريرها رفاعة رافع الطهطاوي ، وهو عالم أزهري ذهب مع أول بعثة إلى فرنسا ليكون إماماً لها في الصلاة ، ومرجعاً لها في شعائرها الدينية الأخرى ، فاستغل وقت فراغه في تعلم اللغة الفرنسية فتعلمها وأتقنها ، وقرأ بها كثيراً في السياسة والتاريخ والجغرافيا والأدب الفرنسي شعراً ونثراً ، فأضاف إلى ثقافته الأصلية ثقافة غربية ، توفى سنة 1873م.
كان من أثر الصحف في النثر أنها هذبته وصقلته ، ونقلته من المحسنات البديعية من سجع وجناس وطباق ، إلى نثر مرسل دون قيد من القيود البديعية ، كما أنها مالت به نحو الإيجاز والسهولة لأن قراء الصحف لا يسيغون التقعر والأغراب في اللغة .

4/الجمعيات العلمية والأدبية :

لقد كان للجمعيات الأدبية والعلمية أثر كبير في النهضة الأدبية فأنشئت أول هذه الجمعيات في سوريا 1847م ، وكان هدفها الارتقاء بالعلوم ونشر الفنون والآداب .
وأنشئت في مصر جمعية اسمها (جمعية المعارف) فقامت بطبع طائفة من الكتب الأدبية والتاريخية والفقهية ، ثم قامت جمعية أخرى هي (جمعية التعريب) وكان هدفها ترجمة الكتب الأجنبية في الاقتصاد والاجتماع .

5/ المدارس الحديثة :

كان التعليم ، فيما مضى ، محصوراً في المعاهد الدينية التي نهضت بتعليم الدين فقها وتفسيراً وحديثاً ، وبتعليم العربية نحوا وصرفاً وبلاغة ولغة وأدباً ، ولم تكن تعنى ، إلا قليلاً ، بغير ذلك من العلوم .
أما المدارس الحديثة فقد أنشئت على نمط المدارس الأوربية التي تعلم اللغات والعلوم الحديثة كالرياضيات والجغرافيا والأحياء والكيمياء والطبيعة ، فكان لهذه المدارس أثرها فى نشر الوعي الثقافي للأمة .

6/ المسرح :

لم يعرف الوطن العربي ، ولا الأدب العربي هذا اللون من ألوان الأدب ، وإنما ظهر المسرح لأول مرة مع غزو نابليون لمصر ، فكان ذلك شيئاً جديداً فى الشرق ، ولما لم تكن فى الأدب العربي نصوص مسرحية فقد قام عدد من الأدباء بترجمة عدد من المسرحيات الفرنسية إلى اللغة العربية مما أضاف رافداً جديداً إلى الأدب العربي .

7/ المستشرقون :

المستشرقون علماء من أوربا وأمريكا وروسيا ، اهتموا بالشرق وتاريخه وآدابه ودياناته ولغاته ، فعكفوا على دراسته دراسة عميقة .
اهتم كثير من المستشرقين بالأدب العربي واللغة العربية منذ زمن طويل فجمعوا كثيراً من الكتب المخطوطة فقاموا بدراستها وتصحيحها وطبعها فى صورة جميلة ، فنشروا كثيراً من دواوين الشعراء وكتب الأدب فأقبل الأدباء والشعراء على هذه الكتب المصححة فنهلوا مما فيها من جمال وبلاغة .

مراحل تطور الأدب العربي الحديث

*أولاً : الشعر.

مر الشعر العربي المعاصر بثلاثة أطوار .

الطور الأول : طور الضعف .
اتسم الشعر في هذا الطور بالضعف فى اللغة والفكرة فقد كان شعراً ركيكاً ضعيفاً فى شكله ومضمونه ، أما في شكله فقد كان مثقلاً بأنواع المحسنات اللفظية المتكلفة ، وكان هم الشاعر عندما يهنئ بمولود أو يرثي شخصاً أو يقرظ كتاباً أن يذكر في البيت الأخير أو عجزه تاريخ المولود أو المرثي أو تاريخ تأليف الكتاب .
قال الشيخ على الليثي توفى سنة 1896م ، مؤرخاً وفاة محمود باشا الفلكي فى آخر بيت من المرثية .
حلّ القضاء وناعي المجد أرخنا * قد مات محمود باشا المسند الفلكي .
فإذا جمعنا القيمة العددية لكل حرف من حروف عجز البيت لكان المجموع 1303هـ وهو السنة التي توفي فيها المرثي .
أما من حيث مضمون الشعر وأغراضه في هذا الطور فقد كانت المعاني ضيقة تافهة مبتذلة، يقول د: شوقي ضيف : ( اقرأ دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد على وعباساً الأول وسعيداً من مثل إسماعيل الخشاب ، والشيخ حسن العطار ، والشيخ محمد شهاب الدين ، فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع ولن تجد شعوراً ولا عاطفة، لقد تبلدت الحياة ، فجمد الشعر والشعراء ولم يعد هناك إلا التقليد .. فقد أصبح الشعر حساباً وأرقاماً وتمارين هندسية عسيرة الحل).
انصرف هم الشعراء إلى التشطير ( وهو أن يضيف الشاعر إلى كل شطر من أبيات قصيدة أعجب بها شطراً من عنده ) والترقيط ( وهو أن تشتمل قصيدته على كلمات كل كلمة فيها مبدوءة بحرف من حروف الهجاء مثل قول الشيخ على الدرويش توفى 1853 م .

علىّ على عينيك عــذل عـواذلي * عذاب عليها عند عاشقها عــذب
عذارك عذري عجب عطفك عـدتي * عيونك عصبي عاد عائبها عضــب

فكل كلمة من هذين البيتين مبدوءة بحرف العين.

الطور الثاني : طور الانتقال من التقليد إلى التجديد .
لقد أخذت عوامل النهضة تعمل عملها نفوس الأدباء والشعراء ، وفى عقولهم فقد طبعت كثير من دواوين الشعراء في عصور العربية الزاهرة كما طبعت كتب الأدب التي ألفت في العصر العباسي أمثال كتب الجاحظ وابن المقفع وأمالي أبي على القالي وغيرها ، كما عاد المبعـوثون من أوربـا وقد اطلعـوا على ألـوان وأجناس من الأدب لم تكن معروفة في الأدب العربي .
من أبرز شعراء هذا الطـور (رفاعة الطهطاوي) توفى سنة 1873م وعائشة التيمورية توفيت سنة 1902م .
قلنا أن هذا الطور طور انتقال لأن الشعراء لم يتخلصوا تماماً من سمات الشعر الركيك المليء بالمحسنات والتخميسات والتشطيرات .
ومع ذلك فقد ظهرت في أشعار بعض شعراء هذا الطور آثار تلك النهضة ، فالقارئ لشعر الطهطاوي يجد فيه طابعاً تجديدياً بارزاً يتمثل في الشعر الوطني ، لأن فى الشعر الوطني حديثاً عن الوطن بمفهومه السياسي والحضاري .
من شعره الوطني قوله :
ولئن حلفت بأن مصـر لجنة * وقطوفها للفائزين دواني
والنيل كوثرها الشهي شرابـه * لأبركل البر في أيمـاني

ومن شعره أيضاً نشيده الذي وضعه للجيش المصري :

يـأيهـا الـجنود * والقادة الأســود
أن أمكم حســود * يعود هامي المدمـع
فكم لكم حـروب * بنصركم تئــوب
لم تثنكم خطـوب * ولا اقتحام معمـع

ويلاحظ في هذا النشيد ، إضافة إلى مضمونه الوطني ، التجديد والتنويع فى الموسيقى ، وهو اتجاه لم يكن مألوفاً في شعر من سبقوه إلا عند الأندلسيين .
أما عائشة التيمورية فهي أشهر شاعرة فى القرن الماضي إن لم نقل إنها الشاعرة التي كانت تنظم بالعربية في ذلك القرن ، الشاعرة التي يضعها النقاد فى مكانة رفيعة .
يقول العقاد : ( فإذا استثناء البارودي أولاً والساعاتي ثانياً فشعر السيدة عائشة التيمورية ليعلو إلى أرفع طبقة من الشعر ارتفع إليها شعراء مصر في أواسط القرن التاسع عشر إلى عهد الثورة العرابية) .
ولعل النموذج التالي يوضح هذه الحقيقة ، قالت ترثي ابنتها توحيده التي ماتت في ريعان شبابها وأول ما يلفت النظر من سمات التجديد أنها أدارت الحديث على لسان المرثية لا على لسانها هي كما جرى التقليد في الرثاء ، وهو تصوير بديع لم يكن مألوفاً من قبل في المراثي .
قالت :

أماه قد عـز اللقـاء وفى غـد * سترين نعشي كالعروس يسـير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي * هو منزلي وله الجموع تصــير
قولي لرب اللحـد رفقـاً بابنتي * جاءت عروساً ساقها التقـدير
أماه لا تنسـي بحـق بنــوتي * قـبري لئلا يحـزن المقــبور

الطور الثالث : طور التجديد والأصالة .

اتسم الشعر في هذا الطور بالتلخص تماماً من قيود المحسنات البديعة . في هذا الطور وثبت العبارة الشعرية من الضعف والركاكة إلى المتانة والجزالة كما قال العقاد ، فقد ظهر جيل جديد من الشعراء حطم قيود التقليد تحطيماً كاملاً .
وربما كان الذي هيأ للشعراء ، في هذا الطور أن يتخلصوا من الطورين السابقين هو ما انبعث في النفوس من النفور من التقليد المزري الذي كان سمة الجيل السابق ، كما أن البعد الكامل من الثقافة التقليدية ، ثقافة عصر المماليك ، والاقتراب إلى حد من الثقافة الأوربية ، نقول إلى حد ما ، لأن أثر الثقافة الأوربية لم يكن قد تغلغل فى النفوس ، وما ذلك إلا لأن المطلعين على الثقافة الأوربية لم يكونوا بالكثرة التي تؤثر فى الحياة الثقافية ، ثم إن المترجم من الآثار الأدبية الأوربية شعراً ونثراً كان من القلة بحيث لم يترك أثراً يحتذي وينسج على سواله .
فكان لابد لأدباء هذا الطور من الاتجاه إلى الثقافة العربية الأصلية التي كانت المطبعة قد أخذت تقذف بها إلى القـراء ، فقد طبعـت دواوين الشعـراء وكتب الأدب في المشرق وفى الأندلس .
لقد أنجب هذا الطـور شعراء أفذاذاً تمـيز شعرهم بخصيصتين لم تكونا فيمن سبقهـم من الشعراء .
أولاهما : البيان الناصع الذي يعد عنصراً أساسياً من عناصر شعر هذا الطور .
ثانيتهما : المحافظة على النمط العربي المشرق الذي كان يمثله شعراء العربية الكبار أمثال أبي تمام والبحتري والشريف الرضي والمتنبي وابن زيدون وغيرهم
ولوضوح هاتين الخصيصتين فى شعر هذا الطور سماه (الدكتور أحمد هيكل)”الاتجاه البياني المحافظ” وسماه (حنا الفاخوري) “طور التقليد العباسي” .
لقد اتجه شعراء هذا الطور إلى التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم الخاصة ، ثم التعبير عن واقع أمتهم ومشكلاتها ، وتسجيل الأحداث الكبرى التي وقعت فى زمانهم .
ومن كبار شعراء هذا الطور ، الشيخ ناصيف اليازجي توفى سنة 1871م وإبراهيم بن علي الأحدب توفي سنة 1891م فى لبنان ، ومحمود سامي البار ودي توفي سنة 1904م في مصر .
لقد عني هؤلاء الشعراء عناية خاصة بتحري الدقة في التعبير ، وجزالة اللغة واختيار المعاني الرفيعة والموسيقى العذبة .
يقول د. هيكل في شعر هذا الطور : ( ..كان أسلوباً حيا مشرقا قد اختير للتعبير عن أغراض تشبه أغراض الأقدمين حينا وتختلف عنها في كثير من الأحايين ، على أن الشاعر من أصحاب هذا الاتجاه كان يتخذ من العالم العربي القديم عالماً مثالياً يخفق له قلبه ..إنه عالم الآباء الاماجد ، والتاريخ العريق ، والدولة الإسلامية العربية الغالية ) .
لقد كان لكتاب “الوسيلة الأدبية” للشيخ (حسين بن أحمد المرصفي) توفى سنة 1889م أثر واضح في شعراء هذا الطور بما قدم للشعراء من نماذج شعرية رفيعة ، وبما تناول من شعر البارودي بالتحليل والإشادة ، فهيأ بذلك أذهان الشعراء لهذا الاتجاه الجديد اتجاه البار ودي الذي بعث به الشعر العربي من رقدته في العصر السابق، فرده بذلك إلى روعته البيانية المشرقة، وإلى الإقبال على نفس الشاعر وما يضطرب فيها من أحاسيس وخواطر وما تزخر به من تجارب ، وإلى الاهتمام بقضايا أمته ، وإلى ما يدور حوله .
لقد سيطر هذا الاتجاه على الحياة الأدبية في الوطن العربي كله سيطرة تامة حتى إن الجيل الذي جاء بعد البار ودي من أمثال شوقي وحافظ ومحمد عبد المطلب فى مصر ، وخليل مطران في الشام ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي فى العراق ساروا على طريقة البار ودي ، فقضوا بذلك على الشعر التقليدي قضاء تاماً بحيث اختفي شعر الألاعيب اللفظية والمحسنات البديعية المفرطة المتكلفة وحل محله هذا الاتجاه البياني .

موضوعات الشعر في هذا الطور:

1/التجارب الخاصة للشاعر :

التفت الشاعر إلى ذاته فعبر عما يجول فيها من مشاعر وأحاسيس ، وبخاصة تلك التي تهز أعماقه هزّاً عنيفاً .
ومن التحارب الخاصة التي مر بها بعض الشعراء تجربة النفي عن الوطن ، (فالبارودي) عندما نفي عن مصر إلى سرنديب (حالياً سيري لانكا) بعد فشل الثورة العرابية التي كان قد اشترك فيها ، فاضت نفسه بالآلام الممضة ، واللوعة الحارة ، والحنين الجارف إلى وطنه وأبنائه وبناته الصغار وزوجته .
وعلى الرغم من أن الحنين إلى الأوطان قديم في الشعر العربي فلم يصل شاعر إلى ما وصل إليه البار ودي من روعة التصوير وتدفق العواطف ، وحسبك بشاعر يعاني آلام الغربة سبعة عشر عاماً قضاها في البكاء حتى عميت عيناه والأبيات التالية تصور أثر النفي في نفس البار ودي .
قال :

ولمـا وقفـنا للـوداع وأسبلـت * مدامعـنا فوق الترائب كالمـــزن
أهبت بصـبري أن يعـود فعـزني * وناديت حلمي أن يثوب فلم يغـن
وما هـي إلا خطـوة ثم قطعـت * بنا عن شطوط الحي أجنحة السفـن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى * وكم مقلة من غزرة الدمع في دجـن
وما كنت جـربت النوي قبل هذه * فلما دهتني كدت أقضي من الحـزن
ولولا بنيات وشـيب عـواطـل * لما قرعت كفى على فائت ســني

وشوقي عانى ، أيضاً ، من مرارة النفي والغربة عن الأهل والوطن ، عندما نفي إلى أسبانيا فقضي أربع سنوات هي سنوات الحرب العالمية الأولي 1914-1918م ، فصور ما كان يحس به من مرارة الاغتراب ، فأنشد أروع قصائده هناك ، يقول فى نونيته المشهورة مصوراً الحنين إلى مصر :

ونابغيّ كأن الحشـر آخـره * تميتنا فيه ذ****م وتحــيينا
جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا * في النائبات فلم يأخذ بأيدينا

وحافظ (إبراهيم يعاني) التجربة نفسها عندما أرسل مغضوبا عليه إلى السودان وهو أشبه بالنفي فأرسل إلى أصدقائه قصائد تفيض بالشكوى من مرارة الغربة ، بل يصل به الحال إلى أن يسمي السودان ( وادي الهموم ) ، وأنه فيه أشرف على الموت قال :

ولكـني مقــيدة رحــالي * بقيد العدم في وادي الهمـوم
وما غـادرت في السودان قفـرا * ولـم اصــبغ بتـربـته
وهـا أنا بين أنـياب المنايــا * وتحت براثن الخطب الجسيم

2/ الوطن وقضاياه:
اهتم الشعراء في هذا الطور بأوطانهم وقضاياها اهتماماً كبيراً فقد شاركوا أمتهم فى كل ما ألم بها من أفراح وأحزان ، بل إن الحياة السياسية مصورة في شعرهم أصدق تصوير .
فهذا خليل مطران يدعو إلى محاربة الجهل ومحو الأمية ، لأن التعليم هو الذي يرتقي بالأمة، ويجعل حكمها في يدها لا في أيدي الولاة والحكام .
إن يجهل الشعب فالحكم الخليق به * حق العزيزين من وال وسلطان
ويشارك الشعراء شعوبهم في حياتهم الاجتماعية ، وشعر الوطنيات يحتل حيزاً كبيراً في دواوينهم .
وقصيدة (حافظ ابراهيم) التي شارك بها في افتتاح الدار التي أنشئت لرعاية اللقطاء والأيتام ، تعد من روائع الشعر الاجتماعي فقد صاغها في شكل قصة مؤثرة تصور ما تلاقيه هذه الفئة من ظلم المجتمع .
أما شوقي فقد عبر عن مشاركته الأمة العربية في أفراحها وأحزانها عندما قال :
كان شعري الغناء في فرح الشرق * وكان العزاء في أحزانه
أما في السياسة فقد شاركوا فيها مشاركة كبيرة ، فالبارودي اشترك في الثورة العرابية التي نشبت ضد الإنجليز حتى نفي إلى سرنديب .
وأما شوقي فإن ديوانه حافل بالقصائد السياسية ضد الاحتلال الإنجليزي ، ومثله حافظ الذي هاجم اللورد كرومر هجوماً عنيفاً ذلك المستعمر الإنجليزي الذي أهان المصريين واللغة العربية والدين الإسلامي قال:

قضـيت علـى أم اللغـات وإنـه * قضــاء علـينا أو سبيـل إلى الردى
وأودعـت تقـرير الوداع مغامـزاً * رأينا جفـاء الطـبع فـيك مجســدا
غمـزت بهـا دين الـنبي وإنــنا * لنغضـب إن أغضـبت في القبر أحمدا

من القضايا الاجتماعية التي أثيرت في أول هذا القرن ، وأثارت موجات واسعة من النقاش، قضية ( الحجاب والسفور ) التي أثارها قاسم أمين توفى سنة 1908م بكتابيه ( تحرير المرأة ) و( المرأة الجديدة) لقد أثار الكتاب الأول موجه عنيفة من النقد والاحتجاج ، فانقسم الأدباء والشعراء إزاء هذه القضية إلى ثلاث طوائف:
الأولى : المدافعون عن حرية المرأة وسفورها ، ومنهم طه حسين والعقاد وهدى شعراوي ، أول مصرية مسلمة نزعت الحجاب وخرجت سافرة توفيت سنة 1947م .
الثانية : المعارضون لسفور المرأة وخروجها إلى الشارع ، ومن هؤلاء مصطفى صادق الرافعي ، وشيوخ الأزهر ، ومن الشعراء أحمد محرم توفي سنة 1945م الذي قال :

أغرك يا أسمــاء ما طـنّ قاسم * أقيمي وراء الخدر فالمـرء واهــم
تضيقين ذرعاً بالحجـاب وما به * سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم
سلام على الإسلام في الشرق كله * إذا ما استبيحت في الخدور المحـارم

الثالثة : هي التي وقفت موقفاً وسطاً فتبيح للمرأة أن تخرج في طلب العلم ولكن في حشمة ووقار وحفظ دين وأخلاق .
وقد عبر عن هذه الفئة حافظ إبراهيم في قصيدته القافية :

من لـي بتربية النسـاء فـإنها * في الشـرق علة ذلك الإخفـاق
الأم مدرسـة إذا أعـددتهـا * أعددت شعـباً طيب الأعـراق
الأم أستاذ الأساتذة الأولــى * شغلت مآثرهم مدى الآفــاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا * بين الرجال يجلن فـي الأسـواق
كلا ولا أدعوكم أن تسرفـوا * في الحجب والتضييق والإرهـاق
فتوسطوا في الحالتين وأنصفـوا * فالشر في التضييق والإطــلاق
ربوا البنات على الفضيلة إنهـا * في الموقفين لهن خـير وثــاق

3/ استيحاء التراث :
يعد الاهتمام بالتراث الإسلامي والعربي عند شعراء هذا الطور من مظاهر النهضة الشعرية المعاصرة ، وجاء ذلك نتيجة لنشر كتب التراث الأدبية والدينية والتاريخية .
إن من يطلع على شعر هذا الطور يجد استيحاء التراث واضحاً سواء في عناوين القصائد أو في مضامينها ، وكان شوقي أكثر الشعراء حديثاً عن التراث في شعره ، وقصائده في ذلك مشهورة ( الهمزية النبوية) و( نهج البردة) و(مرحباً بالهلال ) و( ذكرى المولد ) . كما يتخلل الحديث عن التراث كثيراً من قصائده ، ففي قصيدته الطويلة المسماة ( كبار الحوادث في وادي النيل ) خصّ العهود الإسلامية في مصر بأكثر من ستين بيتاً ، واستوحى تراث المسلمين في قصيدته (أندلسية ) . أما حافظ إبراهيم فله قصيدة تبلغ 186 بيتاً سرد فيها سيرة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فيها :

وراع صاحب كسرى أن رأى عمـرا * بين الرعـية عطلا وهـو راعــيها
وعهـده بملـوك الفـرس أن لهــا * سورا مـن الجند والأحـراس تحميها
رآه مستغـرقاً فـي نومـه فــرأى * فيه الجلالــة في أسمـى معانيهــا
وقـال قولـة حـق أصبحـت مثلاً * وأصـبح الجـيل بعـد الجيل يرويها
أمـنت لما أقمـت العـدل بينهــم * فنمـت نـوم قـرير العـين هانيها

4/ قضايا العالم الإسلامي والعربي :
كان النصف الأول من القرن العشرين حافلاً بالأحداث الجسام التي أخذت بخناق العالم العربي والإسلامي .
وإن أول تلك الأحداث الهجمة الصليبية على الدولة العثمانية التي قامت على الإسلام ، فتألفت الجمعيات السرية المشبوهة التي أخذت تنخر في جسد الدولة العثمانية تساعدها اليهودية الحاقدة على الإسلام متدثرة بشعارات الحرية والقومية ثم تدخلت الدول الأوربية الصليبية فقضوا على الخلافة ، وولوا وجه تركيا شطر أوربا فحاربوا الإسلام واللغة العربية حرباً لا هواة فيها ، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1918م اجتمعوا على البلاد الإسلامية ، واستعمروها ، وأخمدوا كل الثورات التي هبت في وجههم بقوة وشراسة .
لقد عبر شعراء هذا الاتجاه عن كل ذلك تعبيراً صادقاً ، فاشترك البار ودي في حروب تركيا ضد أعدائها ، اشترك بسيفه وقلمه وها هو يصور إحدى هذه المعارك تصويراً حياً .

وضعوا السلاح إلى الصـباح وأقبلـوا * يتكلمــون بألسـن النـيران
حتى إذا ما الصبح أسفـر وارتمـت * عـيناي بين ربـا وبين مجـان
فإذا الجــبال أسـنة وإذا الوهـاد * أعـنة والمـاء أحمـر قــان
وتوجست فـرط الركـاب ولم تكن * لتهاب فامتنعت على الإرسـال

ويفرح شوقي لانتصارات الأتراك على أعدائهم ، فيشبه حروبهم بحروب صلاح الدين الأيوبي ، وقصيدته ( انتصار الأتراك ) تشبه قصيدة أبي تمام في فتح عمورية وزنا وصياغة .
قال:

الله أكبر كم في الفتح من عجـب * يا خالد الترك جدد خالد العرب
حذوت حرب الصلاحيين فى زمن * فيه القتال بلا شــرع ولا أدب
لم يأت سيفك فحشاء ولا هتكت * قناك من حرمة الرهبان والصلب
ولا أزيدك بالإســلام معـرفة * كل المروءة في الإسلام والحسب

ويبكي شوقي سقوط الخلافة العثمانية ، وتبكي معه الأمة الإسلامية ، فبعد الانتصار الساحق للأتراك على أعدائهم الذي فرحت به أمة الإسلام ، قام مصطفى اتاتورك بإسقاط الخلافة ، فكان وقع ذلك على المسلمين شديداً أليماً فقال شوقي :

عادت أغاني العرس رجع نواح*ونعيت بين معـالم الأفــراح
كفنت في ليل الزفـاف بثوبـه *ودفنت تبلـج الإصـــباح
ضجت عليك منابر ومــآذن *وبكت عليك ممـالك ونـواح
الهند والهة ومصـر حــزينة *تبكي عليك بمـدمع سحّـاح
والشام تسأل والعراق وفـارس*أمحا من الأرض الخلافة مـاح ؟
ويواسي شوقي سوريا عندما ضربها الفرنسيون واحتلوها واستعمروها ، قال:

سلام من صـبا بـردى ارق* ودمع لا يكفكف يا دمشـق
ومعذرة اليراعـة والقــوافي* جلال الرزء عن وصف يدق
وللمستعمـرين وإن ألانـوا * قلوب كالحجـارة لا تـرق

*ثانياً : النثر .

إن عوامل النهضة التي ذكرناها من قبل ، والتي كانت قد أخذت تؤتي ثمارها في الشعر العربي ، قد ظهرت آثارها في النثر شيئاً فشيئاً ، وإن المراحل التي مر بها الشعر مر بها النثر أيضاً.

مراحل تطور النثر الفني :

المرحلة الأولى : مرحلة الضعف .

ظل النثر العربي طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر نثراً ضعيفاً تقليدياً لم يستطع أن يتخلص من إسار العصر العثماني فكان يرسف فى أغلال السجع والجناس والطباق والتورية، متكلفا في ذلك تكلفاً شديداً . هذا من حيث الصياغة والأسلوب ، أما من حيث الموضوعات فكانت تدور حول الإخوانيات من تهنئة واعتذار وتقريظ ديوان ، فالكاتب لا يعبر عن مشاعره الخاصة ، ولا عما يجول في خاطره من عواطف الحب والحزن ، وإنما يحاكي ويترسم خطا كتاب الدواوين في العصور المتأخرة ، وبخاصة في العصر العثماني ، وهو عصر جمدت فيه الحياة الأدبية في الشرق ، جموداً يكاد يكون تاماً لولا إشعاعات أضاءت تلك الظلمات أوقدها رجال علماء ، أمثال : عبد القادر البغدادي والإمام الشوكاني ، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم .
إن الحكام الأتراك كانوا بعيدين عن اللغة العربية وآدابها لا يفهمونها ولا يتذوقونها ، بل تعصبوا ضدها ، وفرضوا لغتهم فرضاً ، وعاقبوا كل من يتكلم اللغة العربية من طلاب المدارس حتى خارج حجرات الدراسة ، وظل هذا الحال حتى عهد محمد على وأبنائه ، حكى الشيخ محمد المهدي ، وهو أديب عاصر تلك الفترة قال : ( كانت اللغة العربية مضطهدة في عهد عباس الأول إلى حد أن من يتكلم بها من طلبة المدارس الحربية توضع في فمه العقلة التي توضع في فم الحمار حينما يقص ، ويبقى كذلك نهاراً كاملاً عقوبة له على تحرك لسانه بلغة القرآن في أثناء فسحته ) .
ومن نماذج النثر في هذه المرحلة رسالة وجهها الشيخ على أبو النصر توفى سنة1881م إلى أحد أصدقائه : ( إن أبهى ما تسر به نفوس الأحبة ، وأبهج ما يستضاء بنوره في دياجي المحبة ، دون ما رسمه يراع المشوق ، وأبدعه مما يحسن ويروق ، تشوقاً إلى اقتطاف ثمرات المسامرة ، وتشوقاً إلى أبيات بمحاسن البديع عامرة ) وهو كما ترى نثر متعلق بأنواع البديع مرصوف رصفاً خال من حرارة العاطفة .

المرحلة الثانية : الانتقال من الضعف إلى القوة .
كانت عوامل النهضة ، وبخاصة عودة المبعوثين من أوربا ، وطباعة كتب التراث شعراً ونثراً ، ونشرها ، وإقبال الأدباء عليها ، أدى كل ذلك إلى أن يتخلص النثر من تلك القيود ويحاول النهوض من كبوته ، فظهرت آثار ذلك في كتابات بعض الأدباء ، وخاصة في الموضوعات الديوانية ، والكتابة الديوانية كتابة رسمية من خصائصها صياغة العبارة صياغة محكمة خالية من السجع والتكلف .
ولما كانت الدواوين قد عربت من التركية إلى العربية ، فقد أحدث ذلك تغييراً في أساليب الكتابة ، فوجد لونان من ألوان النثر ، أحدهما ديواني محكم الصياغة بعيد عن الألاعيب اللفظية. وثانيهما : إخواني تكثر فيه الأصباغ البلاغية .
وخير من يمثل هذا الازدواجية الأسلوبية الشيخ عبد الله فكري توفى سنة 1889م ، قال عنه د. أحمد هيكل : ( يكتب كتابات إخوانية بطريقة ، ويكتب كتابة ديوانيه بأخرى ، فهو حين يكتب في المسائل الإخوانية يجنّس ويسجّع ، ويتكلف ما يتكلفه هؤلاء التقليديون ثم هو حين يكتب في المسائل الرسمية يتبسط ويترسل ).
ومن نماذج النثر في فترة الانتقال هذه نموذجان من كتابات عبد الله فكري ، أحدها تقرير رسمي قدمه إلى أحد رؤساء الوزارات في القرن الماضي عن مؤتمر حضره في أوربا .
( ثم أشير إليّ فقمت وأنشدت قصيدة كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس .. وخاطبني أناس باستحسانها .. وخطب بعد ذلك أناس منهم المسيو شفر وافد فرنسا ..ثم قام الملك وودع الحاضرين وصافح البعض وصافحنا ..وانقضت الحفلة ، وارفضت الجمعية ) .
يلاحظ في هذا التقرير خلوه من السجع والمحسنات ، وأن ألفاظه جاءت على قدر المعاني، وهكذا تكون كتابة التقارير .
أما النموذج الثاني ، فهو للكاتب نفسه عندما كتب إلى رئيس تحرير جريدة الوقائع المصرية مقرظاً ، قال : ” لابد أن كل من عرف التمدن ، وشَمَّ عرف التفنن ، وأخذ بنصيب من الفهم والتفطن ، كان أحب شيء إليه ، وأحب أمر لديه أن يكون مطلعاً على وقائع مصره، عارفاً بما تجدد بين بني عصره من حوادث الزمان ، وعجائب عالم الإمكان ” .
إن الكاتب هنا عندما اتجه إلى الكتابة الإخوانية جنح إلى السجع ( عرف ، عرْف / مصره وعصره ) وإلى الاستعارة ( شمّ عرف التفنن ) .

المرحلة الثالثة : مرحلة التجديد والأصالة .

خرج النثر من المرحلتين السابقتين ناضجا مستوياً ، تخلص من كل القيود التي كبلت خطوه ، فكان أثر عوامل النهضة فيه واضحاً ، وأثر الصحافة على الخصوص ، بل يعزى ارتقاء النثر إلى ظهور صحيفة ( الوقائع المصرية ) ، وهي صحيفة تعني بشئون البلاد ، أنشأها محمد على سنة 1828م ولعلها أول صحيفة تنشأ في الوطن العربي .
ولما كانت الكتابة الصحفية لا تحتمل أثقال المحسنات البديعية كان على الكتاب والمحررين أن يلجئوا إلى النثر السهل المترسل والكتابة غير المتكلفة .
من أوائل الذين تولوا الكتابة في ( الوقائع المصرية ) ، رفاعة الطهطاوي ، والشيخ حسن العطار وأحمد فارس الشدياق ومحمد عبده .

*موضوعات النثر الحديث :
تناول النثر عديداً من الموضـوعات في شتى مجالات الحياة من اجتماعية وسياسية وإخوانية .
فمن الموضوعات التي تناولها النثر :

1/ الدفاع عن الشعوب المستعمرة :
سواء أكان ذلك الاستعمار أجنبياً مثل استعمار الإنجليز لكثير من بلاد المسلمين ، أم كان حكماً تركياً استبداديا ، فتولى النثر إثارة حماسة تلك الشعوب ضد مستعمريها وظالميها ودفعهم للتخلص من ذلك الاستعمار البغيض .
ومن نماذج هذا النوع ما كتبه محمد عبده توفى سنة 1905م يستنهض الشعوب العربية المستعمرة لتندفع في شجاعة وبسالة لتأخذ حقها عنوة ممن سلبوها حقها في الحرية والكرامة كتب محرضاً ( إني لأتعجب ، وكل ذي إحساس يتعجب ، من سكان الديار المصرية ، والأتراك والحجازيين واليمانيين ألاّ يوجد بين هؤلاء فتى يشمر عن ساعده ويتقدم بصدره إلى هذا الوزير الأرمني .. فيكشف له وللمغرورين من أمثاله حقيقة الوطنية ؟ ! لا حول ولا قوة إلا بالله ، إن المولعين بحب الحياة يتجرعون مرارات الموت في كل لحظة خوفاً من الموت ) .

2/ الدعوة إلى تحكيم الشورى :
إن استبداد الحكام بحكم البلاد دون إشراك أهلها في أمورها العامة والخاصة يؤدي إلى الفساد السياسي والخمول الاجتماعي ، ورأي الجماعة أقوى من رأي الفرد ، لذلك دعا النثر إلى تحكيم الشورى ، قال جمال الدين الأفغاني ناصحاً توفيق باشا أحد حكام مصر من أسرة محمد على و داعياً له أن يأخذ بالشورى : ( وإن قبلتم نصح هذا المخلص ، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى ، فتأمرون بإجراء انتخابات نواب الأمة لتسن القوانين وتنفذها باسمكم وإرادتكم ، يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم ) .

3/ الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي :

ظلت الشعوب العربية ترزح تحت وطأة الفقر ردحاً طويلاً من الزمن ، كان الحكام فيه يستغلون الفلاحين والعمال أسوأ استغلال .
كما أن الجهل من أسوأ الأمراض الاجتماعية ، فهو العش الذي تعشش فيه الخرافات ويشيع الدجل والشعوذة فيلجأ فيه المواطن ، لجهله ، عندما تحل به مشاكل الحياة يلجأ إلى السحرة والدجالين ، فيزداد مرضاً على مرض ، وفقراً على فقر . ومما زاد من فقر الشعوب المعاملات الربوية التي يتعامل بها الأغنياء مع المزارعين لجهلهم ،وقد صور عبد الله النديم توفى سنة 1896م ذلك تصويراً صادقاً يبين للفلاحين ما هم فيه من جهل ، وما يعانون من فقر قال: “ذهب المزارع إلى المرابي ليقترض مائة جنيه بفائدة قدرها عشرون في المائة فقال المرابي : حسنا سأخصم من المائة عشرين فتستحق ثمانين جنيهاً ، وأضيف الفائدة وقدرها عشرون جنيها فيكون الدين مائة وعشرين جنيهاً، ووافق الفلاح لجهله بالحساب ، وبذلك أخذ ثمانين جنيهاً ليسددها مائة وعشرين ، وحين السداد جاء الفلاح بكل ما أنتجته أرضه فاشتراه المرابي بأبخس الأثمان” .

4/ الوحدة الوطنية :
في الوحدة الوطنية تتمثل قوة الأمة وتماسكها أمام الأزمات، لذلك يحرص الحكام والأدباء، والشعراء على صيانة هذه الوحدة وتأكيدها مستخدمين فى ذلك كل الوسائل من قوانين وصحف وقد أسهم النثر العربي الحديث فى هذه القضية مدافعاً عنها نافياً ما يدعيه خصوم الأمة من تعصب المسلمين على النصارى ، كتب الشيخ على يوسف توفي سنة 1913م مبيناً أنه لا يوجد خلاف أو تعصب ضد غير المسلمين : ( قالوا إن المصريين متعصبون تعصباً دينياً ، ومعنى هذا عندهم أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهية عمياء ويعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية ..ولكن كيف وفى البلاد من قديم الزمان أديان مختلفة يتجاور أهلوها في المنازل ويتشاركون في المرافق ..فلم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة .. وقد وفد على القطر المصري وفود من كل الطوائف المسيحية شرقية وغربية ، ومن أرمن وأروام وسوريين وفرنساويين وطليان وإنجليز ونمساويين وأمريكيين ومن بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس وغير ذلك من علماء وتجار وصناع وعمال وهمل مشردين ، فلقي الكل في مصر صدراً رحباً وكان منهم المظفون فى كل مصلحة حتى تولى نوبار باشا الأرمني رئاسة النظار في مصر ) .

*خصائص للنثر في هذه المرحلة :

يمكن إجمال خصائص النثر في الآتي :

1/ تقصير الجمل ، بحيث أصبحت الجملة الواحدة مختصة بأداء معنى واحد ، ولم يعبر عن المعنى الواحد بجمل متعددة .
2/ ترك المبالغة ، واجتناب الزخارف اللفظية .
3/ السهولة والوضوح ، لأن الصحف وقراءها لا يسيغون الغموض والتعقيد الذي يبعد بالمقال عن هدفه.
4/ اختيار الألفاظ الجملية المتأنقة ذات الموسيقي التي تمتع القارئ وتجذبه.

مجالات النثر الحديث

أولاً : الخطابة .

أ/ الخطابة السياسية :
إن إنشاء الجمعيات الأدبية والسياسية والثورة العرابية ساعدت على نشوء هذا النوع من الخطابة ، وأشهر الخطباء السياسيين في مصر مصطفى كامل ، وسعد زغلول وعبد الله النديم .

ب/ الخطابة الاجتماعية :
إن الحالة الاجتماعية السيئة التي كانت تعيش فيها الأمة العربية آنذاك دعت الخطباء إلى أن يتجهوا إلى معالجة الموضوعات الاجتماعية ، فاتخذت الخطابة وسيلة لبث أفكار الإصلاح والدعوة إلى حياة أفضل .

ج/ الخطابة الدينية :
ظلت الخطابة الدينية على ما كانت عليه فى العصور الماضية حتى ظهرت الجمعيات الإسلامية التي حركت الخطابة الدينية من ركودها إلى خطابة حية تناقش القضايا التي تهم الأمم الإسلامية من مثل التوجه نحو الإسلام ، وتحكيم الشريعة ، واتخذت من منابر المساجد ، ومنصات الجمعيات أماكن لصولاتها .

ثانياً : المقالة .
لم يعرف الأدب العربي هذا النوع من النثر ، والمقالة شبيهة بالرسالة كما عرفت عند الجاحظ وابن المقفع وأبي العلاء المعري ، شبيهة بها من حيث تناولها موضوعا محدداً فى صورة مركزة ، والموضوع الذي تتناوله الرسالة يتصل بقضية من القضايا الحية التي تشغل المجتمع ، ويتجه فيها الحديث نحو الجماعة . نشأت المقالة مع نشوء الصحيفة التي جاءت من أوربا مع الحملة الفرنسية .
لقد أسهمت حركة الترجمة الواسعة التي تمت فى القرن التاسع عشر ، وانتشار الصحف وتنوع مجالاتها ، وتوجيهات جمال الدين الأفغاني أسهمت كل تلك في إرساء دعائم هذا النوع من النثر الفني الجديد .
تتنوع أساليب كتابة المقالة حسب ثقافة كاتبها ، وحسب الموضوع المتناول فالكاتب ذو الثقافة الفكرية يغلب على أسلوبه الجانب الذهني ، والكاتب ذو الثقافة الفنية يغلب على أسلوبه التصوير والخيال ، واستخدام الأدوات الفنية ، والكاتب ذو الثقافة العلمية يغلب على أسلوبه الجمل القصيرة المحددة ، واستخدام المصطلحات العلمية والإحصاءات الرياضية .

*أساليب الكتّاب في القرن العشرين :

قام الدكتور أحمد هيكل بتحليل واستخلاص خصائص ومميزات خمسة من أشهر الكتاب من القرن الماضي في مصر .

أ/ طريقة طه حسين :
هي طريقة (التصوير المتتابع) هذا الكاتب يغلب على أسلوبه التصوير بالألفاظ والجمل وتقديم المشاهد المتتابعة ، ويعتمد أسلوبه على الجمل القصار .وإيراد تلك الجمل أو بعض أجزائها فيما يشبه التكرار ومن أهم وسائل طه حسين استخدام الروابط ..كحروف الجر فى وفرة وتنوع وتقابل . ثم هناك سمات أخرى منها استخدام طائفة من ( اللازمات) في البدء والانتقال كقوله (ليس من شك) و(مما لاشك فيه) و(مهما يكن من أمر ) و(وأكبر الظن).

*نموذج من طريقته قال عن شيء ما :
( تستطيع أن تسميه كذا ، وتستطيع أن تسميه كيت ، وأنا زعيم لك بأنه ليس كذا وليس بكيت ، وإنما هو شيء آخر غير كذا وغير كيت جميعاً ) .

ب/ طريقة العقاد ( طريقة التعبير المحكم ) :
يعمد العقاد إلى التعبير عما عنده بألفاظ وجمل محكمة ، فيها الدقة ، وفيها القصد ، وفيها التركيز ، وفيها دسامة الزاد قبل أن يكون فيها رونق الشكل ، فلا إفراط فى المقدمات ولا لجوء إلى التكرار سواء بالكلمة أو الجملة ، لأنه لا محل لشيء من ذلك وإنما المحل الأول لإعطاء أوفر معان وأغزر أفكار ..
على أن الغالب على ذلك الأسلوب الإبانة والإفصاح ، ومن سمات هذه الطريقة المميزة استخدام التذييلات الضابطة والاحتراسات المحققة ، ومن سماتها أيضاً الميل إلى التفصيلات المنطقية لا اللفظية ، والمقابلات العقلية لا البديعية ، ومـن سماتها أيضـاً الابتعاد عن الزخرف بكل ألوانه .
*نموذج من طريقته : من مقال بعنوان ( الألم واللذة ) ( … أما أن الألم موجود في هذه الدنيا فمما لا يختلف فيه اثنان ، وأما إنه فوق ما تقبله النفوس فمما لا يختلف فيه إلا القليل ، وأما أنه نافع أو غير نافع ، ومقدم للحياة أو مثبط لها فذلك مما يختلف فيه الكثيرون ) .

ج/ طريقة الرافعي ( طريقة البيان المقطّر) :
لأنه يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية ، ويهتم في المقام الأول بجمال الصياغة ، وروعة الديباجة ، هو بيان فيه بعد وتركيب وجهد حيث يميل صاحبه إلى اعتصار المعاني وتوليد الأفكار ، ومزج الخواطر من خلال مجازات مركبة واستعارات بديعة ، وكنايات خفية فيأتي بيانه آخر الأمر أشبه بعملية تقطير ألوان من الزهور المعروفة ، والورود المألوفة ، والرياحين الشائعة لاستخلاص عطر مركب مركز غريب ، فيه جمال ، ولكن ليس فيه بساطة .
من خصائص طريقة الرافعي .. أنها تستلهم المعجم القرآني والسني والتراثي حيث يتكئ في كثير من المواطن على لفظة أو عبارة من القرآن الكريم أو على كلمة أو جملة من الحديث الشريف ..يميل أسلوب الرافعي إلى استخدام بعض البديع ولكن فى اقتصاد .قال : ( لم يعرف التاريخ غير محمد رسول أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله كما تصب المادة في المادة لتمتزج بها فتحولها ، فتحدث منها الجديد ، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو وإذا هو وجود سار فيها ، فما تبرح الإنسانية تنمو به وتتحول ).

د/ طريقة الزيات : (طريقة البيان المنسق ):
إن هذا الكاتب يميل أولاً في أسلوبه إلى الناحية البيانية ويجعلها في المحل الأول ، ثم إنه ثانياً لا يعمد إلى البيان البسيط أو البيان المركب ، وإنما على البيان الذي يقوم على التنسيق والهندسة ، فالجملة فيه تعادل الجملة ، بل الكلمة تعادل الكلمة ، والفقرة توازي الفقرة ، حتى يتألف من الكلمات والجمل والفقرات لوحات بيانية تتقابل خطوطها ، وتتعادل مساحاتها ، وتتوازن ألوانها .
والزيات يهتم لتحقيق ذلك باستخدام ألوان من المحسنات ولكن في مهارة فائقة .. وبعض هذه المحسنات يأتي به لتحقيق التجانس الصوتي كالسجع والجناس وبعضها يأتي به لتحقيق التناسق المعنوي كالمقابلة والطباق . وهكذا يحس قارئ مقالة الزيات أنه أمام هندسي مصمم مقسم مهندم .

*نموذج من مقال بعنوان ( أوربا والإسلام ) :
( شيع الناس بالأمس عاماً قالوا : إنه نهاية الحرب واستقبلوا عاماً يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت ، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت إلا ظلمة أعقبها عمى ، وإلا ظلاماً سيعقبه دمار ) .

هـ/ طريقة المازني : ( طريقة الأداء المصري ) :
إن هذا الكاتب يميل في أسلوبه إلى أن يؤدي مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وانطباعاته بروح مصرية ، وبلغة فيها ظلال لغة المصريين ، فهو يميل إلى الدعابة ، والسخرية وإبراز المفارقات مما عرفت به الروح المصرية في تناولها للأشياء ثم هو يعمد إلى البساطة واليسر في التعبير .. وهو يؤثر من هذه وتلك ما له رصيد نفسي مصري وإشعاع شعبي غني ما دامت الفصحى لا تنكرها ، والعربية السليمة لا ترفضها ، وبرغم هذا الأداء المصري في طريقة المازني فقد كان غالباً ، لا يتورط في إهمال قواعد اللغة أو اللجوء إلى الألفاظ والتراكيب العامية .

*نموذج من طريقته من مقال بعنوان ( بين القراءة والكتابة ) .
(مضت شهور لم اكتب فيها كلمة في الأدب ، لأني كنت أقرأ والقراءة والكتابة عندي نقيضان ، وقد كنت ، ومازلت ، امرءاً يتعذر عليه ، ولا يتأتى له أن يجمع بينهما فى فترة واحدة ولكم أطلت الفكر في ذلك ، فلم يفتح الله عليّ بتعليل يستريح إليه العقل .. وما أظن إلا أن الله ، جلت قدرته قد خلقني على طراز ( عربات الرش) التي تتخذها مصلحة التنظيم ، خزان يمتلئ ليفرغ ويفرغ ليمتلئ ، وكذلك أنا فيما أرى ، أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك ، فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها ، وأحشو بها دماغي الذي خلقه الله خلقة عربات الرش كما قلت ، حتى إذا شعرت بالكظة ..رفعت يدي ..فلا ينجيني منه إلا أن افتح الثقوب وأسح ) (1) .

ثالثاً : المسرحية .
المسرحية قصة تمثل أمام الجمهور على مسرح ، والمسرح بناء من الخشب أو غيره مرتفع . يقوم بالتمثيل أشخاص يدور بينهم حوار يؤدي مفهوم القصة الممثلة ، والحوار في المسرحية عنصر من عناصرها الأساسية . تحاط المسرحية بالجو الذي دارت فيه القصة مكاناً وزمناً من حيث أنواع المساكن والملابس وسلوك وعادات الأشخاص الذين يمثلون العصر والمكان ، وحتى أساليب المعيشة تمثل كما جرت في زمن المسرحية .
إن مصطلح ( المسرحية ) ترجمة عربية لكلمة ( دراما) ، وهي مرادفة أيضا لكلمة تمثيلية .

*للمسرحية القديمة ثلاثة أركان لا تتم إلا بها وهي :
1/ المقدمة : التي تمهد لما سيحدث من أحداث وأن تؤدي بالأحداث إلى عقدة القصة.
2/ العقدة : هي القمة التي تصل إليها الأحداث بحيث تنعقد وتشد المشاهد ، وتجعله يتوتر ويفكر فيما ستنتهي إليه الأحداث .
3/ الحل : يأتي بعد ذلك الحل الذي يزيل التوتر وينهي الصراع . لقد ظهرت المسرحية في الأدب العربي بعد مجيء نابليون إلى مصر ، ولم تكن معروفة قبل ذلك .

وأول مسرحية عربية هي المسرحية التي ترجمها عن الإيطالية عبد الله أبو السعود توفى سنة 1878م ، ثم ترجم مارون النقاش توفى سنة 1885م مسرحية (البخيل) للأديب الفرنسي موليير .ولما أطــل القـرن العشرون ظهرت المسرحية العـربية الأصيلة.

رابعا : الرواية .

الرواية فن حديث ، دخل الأدب العربي مع الثقافة الأوربية وهي قصة طويلة تستغرق كتاباً كاملاً تتناول موضوعاً من موضوعات الحياة وتعرضه فى مساحة زمنية واسعة ، وتتعدد الشخصيات في الرواية ، وتتعدد الأمكنة والأزمنة ، ويصور كل ذلك تصويراً دقيقاً مشوقاً .
وإن أشهر نموذج للرواية العربية المعاصرة هي روايات نجيب محفوظ (السكرية ) و( بين القصرين ) و (قصر الشوق) التي صورت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر .

*خــــاتـــــــمــــة:

عرف الأدب العربي الحديث تطور مشهوداً صاحبه ظهور عدت فنون أدبية شعرية ونثرية كالمسرحية والرواية و القصة……ويعود الفضل في ذلك إلى عدت شخصيات أدبية ساهمة في هذا التطور بإبداعاتها واجتهاداتها ونذكر منهم كل من ” طه حسين ، العقاد ، أحمد شوقي ، توفيق الحكيم ، ايليا أبو ماضي ، جبران خليل جبران ، ميخائيل نعيمة ، أحمد أمين ، حسين هيكل ، البشير الإبراهيمي ، سامي البارودي ، نجيب محفوظ ، محمود درويش ، نازك الملائكة ، نزار قباني ……..” .

المـصـادر و المـراجــع

1/د.وداعة محمد الحسن وداعة : الآداب والنصوص والقراءة عبر العصور ، مجلس
الشهادة الثانوية العالمية ، مصر ، 2022م.

2/حسين سيد أحمد الناطق : الأدب العربي في القرن العشرين ، دار الفكر ، مصر ، 1997م.

3/موقع : المقهى الأدبي العربي على شبكة الأنترنت.


merc///////////////////////////i

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

الاقتباس غير متاح حاليا
شكرا لك على المجهودات

تعليم_الجزائرالاقتباس غير متاح حاليا

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

قضية الاعراب بين القدماء والمحدثين


اللغة العربية تعتمد على الإعراب – كوسيلة لإقامتها – كما فهِم اللغويون، والإعراب هو دال على المعاني، وإنّه حركة داخلة على الكلام بعد كمال بنائه[1]. والإعراب يدخل على آخر حرف في الاسم المتمكن والفعل المضارع، وذلك الحرف هو حرف الإعراب، وفي بعض الكلام ضرورة دعت إلى جعل الإعراب حرفاً، وذلك في تثنية الأفعال المضارعة وهي؛ يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلين. ورأى سيبويه أنّ ذلك الحرف يسمى حرف الإعراب، وآخر حرف في هذه الأفعال النون، فلو جعلت النّون حرف الإعراب لوجب ضمّها في حال الرّفع، وفتحها في حال النصب، وكان يلزم من ذلك أن تُسكّن في حال الجزْم[2]. وكما قال ابن فلاح”في المغني”[3]: اختلف في حقيقة الإعراب، فذهب قوم :إلى أن الإعراب معنىً، وذهب ثاني: إلى أن الإعراب عبارة عن الحركات وهو الحق، وذهب ثالث: إلى أنها حركات الإعراب، لأن الحركة إن حدثت بعامل فهي للإعراب، وقال غيره: في الإعراب مذهبان؛- أحدهما: أنه لفظيٌّ وهو اختيار ابن مالك، ونسبه إلى المحققين، والثاني: أنه معنويّ، والحركات إنما هي دلائل عليه، هو ظاهر قول سيبويه، وهذا الرأي هو ما تميل الباحثة إليه. ومعنى الإعراب هو قد تزول الحركة في الوقف مع الحكم بالإعراب بالتغيير والاختلاف لذلك الحادث بالعامل هو الإعراب[4] أي أنه منقول من الإعراب الذي هو البيان وأنه منقول من إعراب الرّجل إذا تكلم بالعربية والمتكلم بالإعراب موافق للغة العربية وأماّ المتكلم بغير الإعراب غير متكلم بالعربية[5]. وكما قال ابن مالك في “شرح التسهيل”: الإعراب عند المحقّقين من النحويين عبارة عن المجعول آخر الكلمة مبنيّاً للمعنى الحادث فيها بالتركيب من حركة أو سكون أو ما يقوم مقامها، وذلك المجعول قد يتغيّر لتغيّر مدلوله وهو الأكثر كالضمة والفتحة والكسرة[6] . واتفق النحاة على غرض الإعراب إنما يدخل لمعانٍ تعتورُ الحركات والعرب قد نطقت به زماناً غير معربٍ، ثم أدخلت عليه الإعراب[7]. وقد أجاز بعض النّاس أن تكون العرب نطقتْ أولاً بالكلام غيرَ معرب، ثم رأت اشتباه المعاني فأعربته، ثم نقل معرباً، فتكلمّ به[8]. وهناك السؤال في أن الإعراب لِمَ دخل في الكلام؟ فالجواب أن يقال : إنّ الأسماء لما كانت تعتورُها المعاني وتكون فاعلة ومضافة ومضافاً إليها، ولم تكن في صُوَرها وأبنيتها أدلة على هذه المعاني، بل كانت مشتركةً جعلت حركات الإعراب فيها تنبيء عن هذه المعاني[9]. وهذا قول جميع النحويين إلا أبا عليٍّ قطرباً، فإنه عاب عليهم هذا الإعتلال، وقال: لم يعرب الكلام للدلالة على المعاني، والفرق بين بعضها وبعض لأناّ قد نجد في كلامهم أسماء متفقة في الإعراب مختلفة في المعاني، وأسماء مختلفة افعراب متفقة المعاني[10]. وحركات الإعراب هي الرفع والنصب والجر والجزم في آخر الكلمة في مثل “زيدٌ مجتهدٌ ومررت بزيدٍ وضرب عمرو زيداً. فالذال في كلمة “زيد” يغير بسبب شيء. وهذا السبب من العامل. والعامل هو الذي يؤثر على كلمة “زيد” ففي مثل “زيدٌ مجتهدٌ”، فـ”زيد” يرفع بالضمة وعامله الابتداء وهذا عند البصريين. وأمّا الكوفيون فيرون أنّ “زيد” يرتفع بالخبر أي مجتهدٌ[11]. وكذلك في المثل الثاني “مررت بزيدٍ” فكلمة مررت والباء هما العاملان المؤثران في زيدٍ بالكسر. والمثال الثالث “ضرب عمرو زيداً” فالعامل هو ضرب وعمرو يؤثر على زيداً بالفتحة. وقد قسّم النحاة القدامى فكرة العامل في النحو العربي على ثلاثة أقسام متضامة بعلاقة المعنى، وهي:- العامل والمعمول والعمل[12]. والعامل كما ناقشنا سابقاً هو المؤثرِّ في المعمول. فالمعمول هو ما يؤثر فيه العاملُ. وفي الأمثلة السابقة “زيدٌ وبزيدٍ وزيداً” معمولات تأثرت بالعوامل هي الابتدأ ومررت والباء وضرب وعمرو. وقسّم النحاة العامل إلى اللفظي والمعنوي. فالعامل اللفظي نحو: مررت بزيدٍ، فكلمة مررت والباء هما العامل اللفظي يؤثران على زيدٍ بالكسرة لفظياً وليس معنوياً. وأما العامل المعنوي فهو ما لا يُنظر ولا يُلمس، نحو: زيدٌ مجتهدٌ يُرفع بالابتداء، والابتداء هو العامل المعنوي غير الملموس. وكذلك قسم النحاة المعمولات إلى قسمين؛ معمول لفظي ومعمول معنوي، فالمعمول اللفظي، نحو: زيدٌ مجتهدٌ يتأثر بالإبتداء وتأثيره لفظياً ملموساً بالضمةز وأما المعمول المعنوين فهو نحو: “الصابئون” في الآية ) إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون( [13] . فـ “الصابئون” رفع على موضع “إنّ” لأنه قبل تمام الخبر[14]. والعمل هو نتيجة أو دوال النسبة في عملية العوامل والمعمولات. وقسّم النحاة العمل إلى أربعة أقسام، وهي الضمة (-ُ) في مفرد وجمع التكسير، الواو والنون في جمع المذكر والملحق به، الواو في الأسماء الخمسة، الألف في المثنى والملحق به. والنصب قسم إلى ثلاثة أقسام، النصب (-َ) في المفرد وجمع التكسير، الياء والنون في جمع التكسير والملحق به، والمثنى والملحق به، الألف في الأسماء الخمسة. والجر قسم إلى قسمين، الجر (-ِ) في المفرد وجمع التكسير، الياء والنون في جمع التكسير والمثنى والملحق بهما. والجزم، بالسكون وحذف حرف العلة وحذف حرف من الأفعال الخمسة.

يتضح لنا أن سيبويه على إدراك بالعوامل في كتاب يصل إلينا. وهو لا يعلل النحو بعلل غير وجودية أو استخداما تجرديا بل هو أوّل من أثبت العامل في النحو العربي وفكرته في كتابه “الكتاب” بعلل وجودية كما قوله “وإنما ذكرت لك ثمانية مجارٍ لأفرق بين ما يدخله ضَربٌ من هذه الأربعة لِمَا يحدث فيه العامل- وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه- وبين ما يُبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل عامل منها ضَربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب”[15]. ومن هذا القول يقسم العوامل إلى ثلاثة أقسام وهي؛ ما كان العامل لفظاً من الألفاظ بقوله “ما يدخله ضربٌ من هذه الأربعة لِمَا يحدث فيه العامل وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه[16]. أي نوع العامل اللفظي أربعة أنواع؛ أولا الرافع، والناصب، والجار، والجزم. فذكر بعض الأمثلة منها وهي؛ يفعلُ في حالة الرفع، ولن يفعلَ في حالة النصب، ولم يفعلْ في حالة الجزم، وفي حالة الجر “مررت بزيدٍ” فالبا يؤثر على “زيدٍ”[17]. وقد ذكر سيبويه في موضع آخر أن في مثل “دخلتُ البيتَ” العامل هو الفعل دخل. وأماّ الثاني فذكر سيبويه في مثل “سقياً ورعياً” أنه ينتصب على إضمار الفعل، فهذا يدل على أنّ الفعل في تصوّره هو العامل وإن كان شيئاً مقدّر كما في قوله “وإنما ينصب هذا وما أشبهه إذا ذُكرَ مذكور فدعوت له أو عليه، على إضمار الفعل، كأنك قلت “سقاك الله سقياً” و “رعاك الله رعياً”[18]. والثالث، هو العامل المعنوي كما فهمنا من قوله ” ما يُبنى عليه الحرف بناء لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل، التي لكل عامل منها ضَربٌ من اللفظ في الحرف، وذلك الحرف حرف الإعراب”[19] أي ما كان العامل ليس له صورة ظاهرة ملموسة في مثل “زيدٌ كم مرّة رأيته”ن وذكر سيبويه أن العامل في “زيد” هو الابتداء.

وترى الباحثة أنّ ابن جني من علماء اللغة أنّه يعلل بالعامل الواجب أي بالعلة الحقيقة فقال “إعلم أنّ علل النحويين – وأعني بذلك حذّاقهم المتقنين، لا ألفافهم المستضعفين – أقرب إلى علل المتكلمين، منها إلى علل المتفقهين، وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ، ويحتجّون فيه بثقل الحال أوخفّتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه”[20]. ومن هنا تأملت الباحثة رأي الأستاذ قطرب المستنير حينما تكلم في إنكار أنّ اللغة العربية قد اعتمدت على العلامات الإعرابية[21] كما قوله “وجود أسماء متفقة في الإعراب مختلفة في المعاني، وأسماء مختلفة في الإعراب متفقة في المعاني.

ويمكن القول بأن ابن مضاء تأثر بهذين رأيين لا سيما رأي ابن جني عند ما قال في كتابه الردّ على النحاة “هو المتكلم” لأن العوامل النحوية لم يقل بعملها عاقل، لا ألفاظها ولا معانيها لأنها لا تفعل بإرادة[22]. وهذا القول قريب بقول ابن جني أنّ المتكلم بنفسه هو العامل[23]. ويتسآل ابن مضاء عن “الفاعل” لماذا وبماذا يُرفع؟ هل بسبب أنّ العرب نطقت به سليقةً؟ وتسآل أيضاً “فلماذا لم تُعْكَسْ القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ وأجاب ربما ذلك لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد، والمفعولات كثيرة، فأعطى الأثقل الذي هو الرفع للفاعل، وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول، لأن الفاعل واحد، والمفعولات كثيرة، ليقلّ في كلامهم ما يستثقلون، ويَكْثُرُ في كلامهم ما يستخفون”[24]. وبعد ذلك قسّم الإعتراض على التقدير إلى ثلاثة؛ القسم الأول هو ما لا يتم الكلام إلا به، وأنّ حذفَها أوجزُ وأبلغُ نحو “سقيا”. والقسم الثاني هو محذوف لا حاجة بقولٍ إليه بل هو تام بدونه في مثل “أزيداً ضربته” ويقول أن هذه الجملة لا دليل عليها. ويقول أنه مرفوع إذا كان مبتدأ ومنصوب على أنه غير مبتدأ، وجاء باقتراح أنّه إنْ روعي المرفوع رُفع وإن روعي المنصوب نُصب. والقسم الثالث، هو أنّه إذا اظهر العامل المحذوف فتغير الكلام في مثل “يا عبد الله”، وصار النداء خبراً. وبعد ذلك قدّم الإعتراض على تقدير الضمائر المستترة في المشتقات في مثل (زيد ضارب أبوه عمرا)، ضارب من المشتقات تضمن ضميراً مستترا. وكذلك ذكر ابن مضاء عن قول سيبويه في كلمة “علقت” ولا أقول “أعلمت” وهذا ما يتعلق بباب التنازع كما في مثال (قام وقعد زيد) فإن علّقت زيداً بالفعل الثاني. وثمّ ذكر عن باب الاشتغال في النحو العربي بقول “وإن كان العائد على الاسم المقدم قبل الفعل ضمير رفع، فإن الاسم يرتفع، كما أن ضميره في موضع رفع ولا يُضمر رافع كما لا يُضمر ناصب، إنما يرفعه المتكلم وينصبه اتباعاً لكلام العرب[25]. ومن هنا رأت الباحثة أنّ ابن مضاء يرفض فكرة الحذف والتقدير فهذا سبب أنه من المذهب الظاهري[26] مما اعتقد الناس في أيامه.

ونرى أنّ بعض اللغويين المحدثين يتأثر بهذه الفكرة تأثراً إيجابياًّ وسلبياًّ. ويبدو أنّ آراء الناقدين في هذه الفكرة ثلاثة مواقف[27]، وهي؛ موقف أوّل، موقف الذين يدعون إلى اعتماد المعنى لا اللفظ، وموقف ثان، موقف الذين يدعون إلى اعتماد اللفظ أو ما سماه الخصائص الشكلية، وموقف ثالث، وهم الذين يدعون إلى الجمع بين اللفظ والمعنى.

فالموقف الأول هو ما يتعلق بمن يدعو إلى اعتماد المعنى لا اللفظ، هو موقف إبراهيم مصطفى، وقد اتبع منهج الذين ردّوا على فكرة العامل حيث نبّه صاحب إحياء النحو إلى أنّ فكرة العامل هي فكرة فاشلة في اللغة العربية لأنها أدت إلى اختلاف الآراء وقادت إلى التجريدات الفلسفية[28]. وحقيقة هي محاولة مشابهة لتفسير اختلاف العلامات الإعرابية وقال فيها إنّ الحركات ذات معان محددة فالضمة علم الإسناد، والكسرة علم الإضافة، والفتحة علم الخفة، ولكنه اكتفى بهذا الفهم المبهم القاصر لطبيعة هذه الحركات. ويقول إنّ التقدير والتوسع فيه مؤدٍ إلى ضياع حكم النحو بقوله[29]”؛- ولم يجعلوا له كلمة حاسمة وقولاً باتاً، وكثّروا من أوجه الكلام، ومن احتماله لأنواع من الإعراب، يقدّرون العامل رافعاً فيرفعون ويقدّرون ناصباً فينصبون، ولا يرون أنه يتبع ذلك اختلاف في المعنى ولا تبديل في المفهوم”. ثم أشار إبراهيم مصطفى إلى أنّ النحاة العرب تقيدهم بالفلسفةِ أضاع عليهم العناية بمعاني الكلام في أوضاعه المختلفة مثل: باب المفعول به[30] “كيف أنت وأخوك”. وكشف إبراهيم مصطفى[31] كثرة الخلاف بين النحاة في العامل في بعض الأبواب، منها: المفعول به؛ ما عامل النصب فيه؟ وقد رأى جمهور البصريين أنه الفعل أو شبهه. وهشام الكوفي رأى أنه الفاعل وحده، ورأى الفراء أنّه الفعل والفاعل. وذهب خلفٌ إلى أنَّه معنى المفعولية. وذكر إبراهيم مصطفى هذه الاختلافات ليكشف جدلهم حول فكرة العامل، وبالتالي يستطيع أن يقنع القاريء بفساد هذه الفكرة. وادّعى الاستاذ[32] أنّ النحاة لم يفوا بمذهبهم في الإعراب واختلفوا حول العامل المعنوي، ذهب البصريون إلى أنّ الابتداء يرفع المبتدأ وهو عامل معنوي. والكوفيون يثبتون عاملا معنويًّا آخر يسمونه الخلاف.

وموقف ثان وهو موقف الذين يدعون إلى اعتماد اللفظ أو ماسماه الخصائص الشكلية. ورأت الباحثة منهم عبد الرحمن يعقوب وعبد القاهر المهيري. ويرى عبد الرحمن أيوب أنّ التقديرات في النحو العربي جزء كبير في إقامة النحو. وهذا يؤدي إلى الوهم والافتراض في المعنى. فهم يتوهمون ويفترضون أكثر مما أحق به كقوله ” الكلمات التي لا يظهر عليها الإعراب في آخرها ومنها الإعراب المقدّر في المصدر المؤول ينصب بفتحة مقدّرة لأنه مفعول به ويؤولون المثال بـ “أريد القيام”[33]. ومن الكلمات التي يقدر فيها الإعراب الاسم المعتل في نحو: جاء القاضي. ورأيت عيسى، فالقاضي مرفوع بضمة منع من ظهورها الثقل، وعيسى منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها التعذر، ومن الكلمات التي يجري عليها التقدير ما يعرف باشتغال المحل بحركة المناسبة في نحو: ليس بقائم. فالباء حرف جر زائد و(قائم) يُعرب مجروراً بحرف الجر الزائد، وهي في الوقت نفسها خبر ليس منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. وهذا يبدو أن النحاة يخيلون الأجوبة بدون وعي بأن الأجوبة تؤثر على صلاحية المعنى الحقيقي. ورأى أنّ في هذه الحالة أنّ النحاة لا يفرق بين المرفوع والمنصوب والمجرور بل يقدروه بدون العلامة الشكلية . وسأل الأستاذ عبد الرحمن من أين أتى النحاة بكلمة “مقترنان” في مثل “كل رجل وضيعته مقترنان”. فرأى أنّ النحاة يتوهّمونها ويفترضون المعنى. ولا يقف الأمثلة كهذه فحسب بل سخّر عبد الرحمن من النحاة في تقدير عامل في “يا محمدُ” تقديره: “أنادي محمداً”. وقال إنّ هذين المثالين لهما الفرق، فالأول، جملة إنشائية، وأما ثانية فجملة خبرية. وهنا لا يفرق النحاة بينهما لأنّ الجملة الثانية مُحَصَّلة من تقدير الجملة الأولى. إذْ ذلك يمكن نقول أنّ الأستاذ عبد الرحمن أيوب هو رجل يهتم بالخصائص الشكلية أكثر.

وعبد القاهر المهيري على غرار عبد الرحمن يعقوب كما يقول في كتابه نظرات في التراث اللغوي العربي أنّ الفاعل يبدل موقع المبتداء كما في هذا المثال: الزائر وصل، الزائر: هو فاعل بدىء به مرفوعا، وصل: فعل مطابق لفاعله، إن الزائر وصل، الزائر: هو فاعل بدىء به منصوبا بإن، وصل: فعل مطابق لفاعله، الزائرون وصلوا، الزائرون: فاعل بدىء به مرفوعاً، وصلوا: فعل مطابق لفاعله[34]. ورأى المهيري أنّ الفعل “وصل” في مثل “الزائر وصل” يرفع “الزائر” وليس يرفعه الابتداءُ. وهذا على ما يبدو مشابه لرأي الكوفيين الذي جاء ردّا على قول البصريين إن المبتدأ لا يُرفع بالابتداء بل المبتدأ والخبر يترافعان. إذاً، هذا الرأي لا يخرج عن العامل والمعمول، بل هو اختلاف تفسير له، بل هو محاولة لفهم بناء الكلمة من حيث المعنى كما هو واضح من قوله: ليس كل فاعل مرفوعاً، وليس كلّ مفعول منصوباً، وليس كل مضاف إليه مجرورا. ويمكن إعراب الاسم في أول الجملة بالنظر إلى معنى الجملة، فالمعنى يصير هو الحَكمُ[35].

ترى الباحثة كأنّه يريد أن يطبق النحو العربي بطريقة اللغة الإنجليزية أي الزائر subject، ووصل verb، فتطابق الجنس والعدد يحدث فيه. والسؤال هل نحتاج إلى هذه التبديلات وفي الوقت نفسه هناك نظام أقوى تنظم الكلام وهو رأي الجرجاني فلو اتبع فسوف فائدة كبيرة تفيد القواعد النحوية العربية التي أثبتها النحاة القدامى.

وموقف ثالث، هو موقف الذين يدعون إلى الجمع بين اللفظ والمعنى أو سماه المعنى. ومنهم إبراهيم أنيس المفكرين المحدثين الذي يرى أنّ قول قطرب عن اتفاق واختلاف الإعراب والمعنى له قيمة ولا بد أن يراجعه ويلاحظه دون إنكار. وذكر الأستاذ أنّ تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن في أصل نشأته بل هو صورة للتخلص من إلتقاء الساكنين[36] في مثل (جزاؤهم العقاب) كان (الميم) في الوسط تليها مباشرة (اللام) وبعد (اللام) مباشرة (العين)، وكل منها حرف وليس بحركة. فندرك هنا أنه قد توالي في وسط الكلام ثلاثة أحرف، وهو أمر يأباه نظام توالي الحروف الكلام العربي، فتخلص العرب من مثل هذا بتحريك الحرف الأول من هذه الحروف الثلاثة المتتالية[37]. ورأى الأستاذ إبراهيم أنيس أنّ إسقاط حركة الإعراب في التنوين يدل على عدم الإلتزام كما في بعض اللهجات فهم يلتزمون صورة واحدة من الإعراب لا ينحرفون عنها في كل الحالات والمواضع[38]. ورأى أنّ لا يعنيه من الجملة إلاّ ركناها الأساسيان، نحو (المسند) وهو ما يناظر “محمول” المناطقة، و (المسند إليه) وهو الذي يعادل “الموضوع”[39]. وسمي هذا باسم “الكتل”[40]. وسأل إبراهيم أنيس لماذا تسامح النحاة القدامى في إسقاط الإعراب في إلتقاء الساكنين[41]، والتنوين[42] وفي مواضع من الشعر[43]. وكان النحاة القدامى هم متعصّبون بحركة الإعراب، بل إنّ منهم اعتبرها دلائل على المعنى. وقراءة أبو عمرو بن العلاء بتسكين أواخر الكلمات في عشرات من الآيات القرآنية، والنحاة لا يرون جواز حذف الحركات الإعرابية إلا في الوقف، ويرون أن ما روي عن أبي عمرو ليس حذف الحركة بل اختلاسها[44].

إذا كان الأستاذ إبراهيم أنيس يرى أنّ إسقاط الإعراب عند النحاة القدامى بسبب إلتقاء الساكنين فإنّ تمام حسان من جهته -أي يهتم بموقف المعنى- يرى أنّ كل كلمة في الجملة تتضافر أو يتناسق بعضُها ببعض كقوله ” إنّ الجملة في تصوّره عبارة عن “منظمة من الأجهزة”[45] ويقصد بقوله بالأجهزة الوظائف التي ترتبط بالكلمات المستخدمة في الجملة. فالفعل والفاعل والمفعول مثلاً يرتبط بعضُها ببعض في الجملة لتكوّن معنى واحداً فلا داعي للحديث عن كون واحد من العناصر عاملاً في الآخر. وقد قسم الأستاذ تمام في مبحثه عن القرائن النحوية المتضافرة إلى القرائن النحوية اللفظية والقرائن النحوية المعنوية. كقوله “إن القرائن تتضافر بمختلف أنواعها وتؤدي المعنى المقصود من كل أسلوب، وإنها بذلك تغني عن فكرة العامل عند النحاة”[46] وعن دور الحركة الإعرابية فما هي إحدى هذه القرائن وقد تتخلف ويحل محلها القرائن الأخرى. وهذا يعني أن تمام حسان لم يلغى حركة الإعراب ولكنه قلل من دورها. وسوف تتحدث الباحثة عن هذه القرائن في مبحث الثالث عن هذا الفصل.

ومن هنا لاحظنا أنّ الإعراب مما قعّد النحاة القدامى له نظر خاص لدى النحويين واللغويين. وهذا النظر يؤدي إلى النقاش الطويل عن دور الإعراب وحركاته في تعيين معاني الكلمات وتقدرها. وحاصل على ذلك، قُسم النحويون واللغويون إلى ثلاثة أقسام، أوّلا مَن الذين ميول إلى الفكرة الإعرابية دون المعنوية، وثاني، ممن يرى أن معنى الكلمة هو أهم شيء في فهم الجملة وليس الإعراب، وثالثا، ممن ميول إلى التضام بين المعنى واللفظ في فهم الجملة فهما صحيحا. هذه النظرات إشارة واضحة إلى أنّ حركات الإعراب الرفع والضم، النصب والفتح، الخفض والكسرة، الجزم والسكون مما افتخر افتخارا كبيرا لدى النحويين القدامى لها تساؤلات كثيرة.

المصادر والمراجع:-

إبراهيم أنيس، من أسرار اللغة، القاهرة: المكتبة المصرية، 1975م.

إبراهيم مصطفى، إحياء النحو، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1959م.

ابن جني، الخصائص، بيروت: دار الكتاب العربي، 1952 .

ابن مضاء، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف. القاهرة: دار المعارف، ط.3، د.ت.

الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، بيروت: دار الكتب العلمية، ط.1، . 1998م.

تمام حسان، اللغة المعيارية والوصفية، القاهرة: دار الثقافة، 1992م.

تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، المغرب: دار الثقافة، د.ت.

الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك. بيروت: دار النفائس، 1407هـ – 1986م.

سيبويه، الكتاب، تحقيق إميل بديع يعقوب. بيروت: دار الكتب العلمية، 1999م.

السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرّم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1985م.

عبد القادر المهيري، نظرات في التراث اللغوي العربي، تونس: دار الغرب الإسلامي، 1993م.

عزالدين مجدوب، المنوال النحوي العربي قراءة لسانية جديدة، تونس: دار محمد علي الحامي، 1998.

محمد عيد، أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء وضوء علم اللغة الحديث، القاهرة: عالم الكتب، 1997م.

[1] انظر السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرّم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1406هـ- 1985م، 1/188.

[2] المصدر السابق، 1/190 – 191.

[3] المصدر السابق، 1/ 172- 171.

[4]المصدر السابق، 1/ 174.

[5]المصدر السابق، 1/ 174.

[6]المصدر السابق، 1/ 178 – 179.

[7]المصدر السابق، 1/ 180 – 181.

[8]المصدر السابق، 1/ 183.

[9]المصدر السابق، 1/ 184.

[10]المصدر السابق، 1/ 180.

[11] الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، 1/ 49.

[12] كما ذكرت الباحثة سابقاً.

[13] سورة المائدة: 69.

[14] كما وافق لدى الكوفيين وتمام حسان، انظر البحث سابقا.

[15]سيبويه، الكتاب، 1/41.

[16] المرجع السابق، 1/41.

[17] المرجع السابق، 1/41-42

[18] المرجع السابق، 1/372 – 373.

[19]المرجع السابق، 1/41


mercii beaucoup pour le sujet je suis vraiment intéréssé

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية . شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

بين التيه والتوه في اللغة

التِّيه والتَّوْه والتَّيْه.. وما بينهما:
ومن الكلِمات المشتهرات، ذات الدلالات الغامضات في استعمال المتكلِّمين والكاتبين، ممَّا شاع تبديله، ويلزم تعديله: التِّيه – بكسر المثناة المشدَّدة – وهو الهلاك، والتَّيْه – بفتحها – وهو الكِبْر، والمعْنى الأوَّل أكثر ورودًا وذيوعًا، وذاع معه استِعْمال كلا المصدرين في الدلالة عليه، وهو خطأ لاختِلافهما وزنًا ومعنًى.

وهذا بيان ما وجدتُ من الفروق بيْنهما، اختصرتُه من "لسان العرب"، للعلاَّمة ابن منظور، و "القاموس المحيط"، للإمام الفيروزآبادي (توه):
فالتِّيهُ – والتَّوْهُ لغة فيه -: الهلاك.
ويقال: تَاهَ يَتُوهُ، ويَتِيهُ تَوْهًا: إذا هلك.
وتَوَّهَ نفسه: أهلكها، وما أَتْوَهَه: ما أهلكه.
والتَّيْهاء: الأرض التي لا يُهتدى فيها، والمَضِلَّة الواسعة التي لا أعلامَ فيها ولا جبال ولا إكام، والتِّيه: المَفازة يُتاه فيها، والجمع: أَتْياه وأَتاويه.
ومنه قولُه – تعالى – عن بني إسرائيل: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26].
قال الحافظ ابن كثير: "فوقعوا في التيه: يسيرون دائمًا، لا يهتدون للخروج منه"[1].
أمَّا التَّيْهُ – بفتح التاء المشدَّدة -: فهو الكِبْر والصَّلَف.
ويقال: تَاهَ يَتِيهُ تَيْهًا: إذا تكبَّر.
ورجل تَائِه وتَيَّاه وتَيَّهان – بفتح الياء المشدَّدة – وتَيْهان وتَيِّهان: إذا كان جسورًا يركب رأسه في الأمور.

الخلاصة:
1 – التَّيْه والتِّيه – بفتح التَّاء المشدَّدة وكسْرِها -: صحيحانِ في معنى الهلاك، والذَّهاب، والحيرة، والضلال.
2 – لا يصحُّ في معنى الكِبْر إلا التَّيْه – بفتح التاء المشدَّدة.
3 – وفي الوصْف يصحُّ (التَّائه) في الضَّالِّ والمتكبِّر معًا، ومثله يحكمه السياق.
والله أعلم.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبِه وسلَّم.


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ماشاء الله ، فائدة لغويّة قويّة

بارك الله فيك أيّتها الفاضلة


وفيك بارك الرحمن

ممنونة لمرورك العطر وردك الحسن

وفقك الله…


بارك الله فيكم

وفيكم بارك الرحمن

ممنونة للمرور العطر والرد الطيب

تحياتي..


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

امتحان مادة البلاغة السنة الأولى


امتحان مادة البلاغة

السنة الأولى
جامعة الجلفة

السؤال الأول :
يقول الشاعر:

حتى متى أنت في لهوا وفي لعب**** و الموت نحوك يهوي فاغرا فاه
ما كل ما يتمنى المرء يدركه **** هربّ امرئ حتفه فيما تمناه
إن المنى لغرور ضلة و هوى **** لعل حتف امرئ فيما تمناه

استخلص الأساليب البلاغية المختلفة – في ضوء ما درست –،و حدّد أنواعها مع التعليل ؟

السؤال الثاني :
عرف المصطلحات البلاغية الآتية: “فصاحة المفرد”، ” قصر حقيقي ” ، ” مسند إليه ” ، “عموم السلب” ، ” خبر طلبي” .

السؤال الثالث :
املأ الفراغات بالإجابة المناسبة :
البلاغة هي مطابقة الكلام ………………. مع فصاحته ، والكلام خبر إنشاء ، فاخبر هو …………….و الإنشاء ……………… .
يتكون الإنشاء الطلبي من ………….. وله أربع صيغ ،………….. و …………و أما الأساليب الإنشائية غير الطلبية فهي ………… .



التصنيفات
لغــة وأدب عربي

النظرية السياقية

[COLOR=#333333]النظرية السياقية
عرفت مدرسة لندن بما سمي بالمنهج السياقيأو المنهج السياقي أو المنهج العلمي وكان زعيم هذا الاتجاه فيرث الذي وضع تأكيدا أكثر على هذه الوظيفة الاجتماعية للغة.ومعنى الكلمة عند أصحاب هذه النظرية هو استعمالها غي اللغة أو الطريقة التي تستعمل بها أو الدور الذي تؤديه.ولهذا يصرحفيرث بأن المعنى لا ينكشف الا من خلال /COLOR]
تسييقالوحدة اللغوية أي وضعها في سياقات مختلفة وعلى هذا فدراسة معاني الكلمات تتطلب تحليلا للسياقات والمواقف التي ترد فيها .حتى ماكان منها غير لغوي .ومعنى الكلمة يتعدد تبعا لتعدد السياقات التي تقع فيها أو بعبارة أخرى تبعا لتوزيعها اللغوي
أنـــواع السياق
أ-اللغوي وهو المحيطالدلالي الذي يحدد مدلول العناصر اللسانية فيختلف المدلول باختلاف السياقات التي يرد فيها مثل المدخل المعجمي ضربوفي الاية الكريمة*وأذ أستسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر*فمدلول ضرب اصابة الحجر وفي اية أخرى نجد قوله تعالى*واذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصرو*فضربتم هنا تعني سافرتم نضرب كذلك مثالا أخر ودائما من قوله تعالى*فضربنا على اذانهم في الكهف سنينا عددا*هنا ضربنا تعني أنمناهم

وفي البيئة العربية يقولون ضربت الطير أي ذهبت تبتغي الرزق وضرب الدرهم بمعنى سبكه وطبعه وضرب الجزية عليهم أي أوجبها عليهم
ب-العاطفي
يختلف هذا على السياقات الاخرى في كونه يرتبط بدرجة قوة الانفعال المصاحبة لاداء الفعل في الكلام من تأكيد أو مبالغة أو اعتدال مثل غضب.سخط فنجد أبا هلال العسكري يقول بأن الغضب من الضغير الى الكبير ومن الكبير الى الصغير أما السخط فلا يكون الا من الكبير الى الصغير
ج-سياق الموقف هو الاطار الخارجي الذي يحيط بالانتاج الفعلي للكلام في المجتمع اللغوي أي الحيز الاجتماعي مثل كلمة عملية في موقف التعليم تدل على عملية حسابية وفي الطب تدل على عملية جراحية وفي الحرب تدل على خطة عسكريةملاحظة سياق الموقف يشابه الى حد كبير مع الاجتماعي
د- الثقافي ويتعلق بالمحيط الثقافي بمفهومه الواسع للمجتمع اللغوي حيث يختلف المفهوم الذهني للمداخل المعجمية باختلاف السايقات الثقافية مثل كلمة كافر تدل على المزارع في المحيط الثقافي للبيئة الزراعية نصداقا لقوله تعالى*كمثل غيث أعجب الكفار نباته*اما في المحيط الثقافي الديني فتدل على الجاحد لوحدانية الله ومثال ذلك قوله تعالى*ان الذين كفرو وماتو وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله*
مميزات المنهج السياقي
1-أنه على حد تعبير أولمان يجعل المعنى سهل النقياد للملاحظة والتحليل الموضوعي
2-أنه لم يخرج في تحليله اللغوي عن دائرة اللغة وبذلك نجى من النقد الموجه الى جميع المناهج السابقة
وجهت عدة اعتراضات لهذه النظرية
1-أن فيرث لم يقدم نظرية شاملة للتركيب اللغوي واكتفى فقط بتقديم نظرية دلالية مع أن المعنى يجب أن يعتبر مركب من العلاقات السياقية ومن الاصوات والنحو والمعجم والدلالة
2-لم يكن فيرث محددا في استخدامه لمصطلح السياق معاهميته كما كان حديثه عن الموقف غامضا كما أنه بالغ كثيرا في اعطاء ثقل زائد لفكرة السياق
3-أن هذا المنهج لا يفيد في بعض الاحيان عندما نصادف كلمات يعجز السياق عن تفسيرها