التصنيفات
لغــة وأدب عربي

الاخطاء الشائعه في اللغة العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

ـ يقولون :انسحب الفريق من المباراة

ـ والصواب :خرج الفريق من المباراة

يقول ابن منظور في لسان العرب : السحب : جرّ الشيء على وجه الأرض
كالثوب وغيره …. ورجل سحبان : أي جرّاف يجرف كلّ ما مر به . ا.هـ
ولم يرد في المعجم الفعل انسحب بمعنى تقهقر أو نكص أو ترك ، وذكر صاحب معجم الخطأ والصواب : يخطِّئ أسعد داغر وزهدي جار الله من يقول : انسحب الجيش بحجة عدم ورود الفعل في كلام العرب بمعنى تقهقر أو نكص
في حيبن أنه أيد المعجم الوسيط في استعمال الكلمة بمعنى تقهقر

ـ يقولون : هذا الكتاب عديم الفائدة
ـ والصواب : هذا الكتاب معدوم الفائدة
جاء في معجم مقاييس اللغة : العين والدال والميم من أصل واحد يدل على فقدان الشيء وذهابه ، وعدم فلان الشيء إذا فقده ، وأعدمه الله تعالى كذا ، أي أفاته ، والعديم الذي لا مال له أ.هـ . وجاء في اللسان ـ أي لسان العرب لابن منظور ـ رجل عديم : لا عقل له
فالعديم هو الذي لا يملك المال وهو الفقير من أعدم أي افتقر . وقد حمل معنى هذه اللفظة من المعنى المادي إلى المعنوي

ـ يقولون : انكدر العيش
ـ والصواب : تكدَّر العيش
جا في جمهرة اللغة : الكدر ضد الفصو ، كدر الماء يكدر كدرًا وكدورًا وكدرة ، والماء أكدر وكَدِر ، ومن أمثالهم : خذ ما صفا ودع ما كدِر انكدر النجم إذا هوى ، وكذلك انكدرت الخيل عليهم إذا لحقتهم ، وجاء في اللسان : كدر عيش فلان وتكدَّرت معيشته

ـ يقولون : أحنى رأسه خجلاً ، أي عطفه
ـ والصواب : حنى رأسه خجلاً ، لأن معنى أحنى الأب على ابنه ، أي غمره بعطفه وحبه واشفاقه ومن قبيل المجاز نقول حَنَتْ المرأة على أولادها حُنُوّاً ، إذا لم تتزوج بعد وفاة أبيهم

ـ يقولون : حرمه من الإرث ، فيعدُّون الفعل ـ حرم ـ إلى المفعول الثاني بحرف الجر ـ من ـ
ـ والصواب : حرمه الإرث بنصب مفعولين ، أي الفعل ـ حرم ـ يتعدى إلى مفعولين تعدياً مباشراً ، وقد أجاز بعض اللغويين ( أحرمه الشيء ) أي حرمه إياه ، ومن ذلك ما ورد في قول ابن النحاس في قصيدته العينية المشهورة :

وأحرمني يوم الفراق وداعه وآلي على أن لا أقيم بأرضه

ـ يقولون : تحرّى عن الأمر ، فيعدون الفعل ( تحرّى ) بحرف الجر ( عن ) ـ
والصواب : تحرى الامر
ـ والصواب : ( تحرّى فلانٌ الأمرَ ) ، أي توخاه وطلبه ، ويقال : ( فلان حَرِيٌّ بكذا ) أي خليق وجدير وحقيق وَ ( أحْرِ به ) أي أجدر به ) قال الشاعر :ـ

فأحْرِ بمن رامنا أن يخيبا فإن كنتَ توعدنا بالهجاء

وقد اشتق التحري من ( أحرِ به ) ، وهو يعني توخّي الأولى وقصد الأحق ، كما تدل على ذلك طائفة من النصوص اللغوية نذكر من بينها :ـ
قال عز وجل (سورة الجن 14) : { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرّواْ رَشَدًا } أي توخوا وعمدوا

ـ يقولون : احْتَضَرَ فلان في المستشفى
ـ والصواب : فلانٌ يُحْتَضَرُ في المستشفى ، لأننا نقول : : ( احْتُضِرَ فلان ) إذا حضره الموت .
قال تعالى ( سورة النساء 18 ) { حَتَّىَ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ }
وقال الشاعر الشماخ :ـ

عليه يُحْتَضَرُ احتضارًا فأوردها معا ماء رواء

ـ يقولون : نسائم الصباح الجميلة
ـ والصواب : نسمات الصباح الجميلة
نسائم على وزن فعائل ومفردة نسيمة على وزن فعيلة مثلها في ذلك مثل صحيفة وطريقة ووديعة
وجمعها صحائف وطرائق وودائع ، أما جمع نسمة فهو نَسَمٌ أو نسمات ، يقول إبن منظور صاحب
لسان العرب : ( ونسيم الريح أولها حين تقبل بلين قبل أن تشتد ) . ويقول في موضع آخر والنسمة
الإنسان ، والجمع نَسَمٌ ونسمات ، قال الأعشى :ـ
إذا النسمات نفضن الغبارا بأعظم منه تقى في الحساب
وقد وردت نسائم عند بعض الشعراء المعاصرين مثل قول أحدهم :ـ
سوف تظل دائمة من عطرها نسائم

يقولون : إسهاما منها في تشجيع القدرات
ـ والصواب : مساهمة منها في تشجيع القدرات

إسهاماً هو مصدر الفعل أسهم ، وهذه تعني كما يقول إبن فارس في مقاييس اللغة أسهم الرجلان إذا إقترعا) وذلك من السّهمة والنصيب . وهذه تختلف مساهمة المشتقة من الفعل ساهم الذي يعني شارك ، فالمساهمة هي المشاركة والإسهام يعني الإقتراع . ومن هنا نلاحظ أن أية زيادة في المبني تؤدي إلى تغيير المعنى

ـ يقولون : مجوهرات فلان ـ
ـ والصواب : جواهر فلان
يقول إبن سيده في لسان العرب : ( الجوهر معروف ، الواحدة جوهرة ، والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ) . والجوهر على وزن فوعَل وجمعها جواهر على وزن فواعل ، ومثلها في ذلك مثل جورب وجمعها جوارب وجوسق وجمعها جواسق . وقد وردت هذه اللفظة في صحيح مسلم ( كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة ، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورِق وجوهر ) كتاب المسقاة ص92

ـ يقولون : البعض

ـ والصواب : بعض .

كثيرا ما تردد هذه الكلمة في الاستعمال العام معرفة بأل التعريف ، والأصح أن هذه اللفظة ( بعض ) معرفة لأنها كما يقول أصحاب اللغة في نية الإضافة .

وفي هذا الصدد يقول الجوهر في الصحاح : ( وكل وبعض معرفتان ولم يجىء عن العرب بالألف واللام وهو جائز ، إلا أن فيهما معنى الإضافة أضفت أو لم تضف ) .

فالجوهري يقر بأن بعض لم تجىء عن العرب بالألف واللام .
وقد وردت كلمة ( بعض ) في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وكلها جاءت مجردة من أل التعريف كقوله تعالى : { وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضٌكٌمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ } . ( النحل :71 ) .

ـ يقولون : تـصـنـّـت .

ـ والصواب : تــنــصّـــت .

هذه اللفظة كثيرة الاستعمال خاصة هذه الأيام في نشرات الأخبار وفي الصحف ، ويراد بها استراق السمع ، ولو حاولنا ارجاع هذه الكلمة إلى أصلها نجد أن صاحب لسان العرب يورد كلمة ( صنتيت ) ويقول ( الصنتيت ) : الصنديد وهو السيد الكريم .

والصواب أن هذه اللفظة هي ( نصت ) ومنها الفعل ( تنصت ) ومعناها كما يقول ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة : النون والصاد والتاء كلمة وادحة تدل على السكوت وانصت لاستماع الحديث ونصت ينصت وفي كتاب الله { وَأَنْصِتٌوا } .
ونصت على وزن فعل وهي مثل نشد وفي حالة زيادة التاء والتضعيف تصبح ( تنصّت ) ومثلها ( تنشّد ) والاسم منها تنصت وتنشد .
ـ يقولون : أعلنتُ الخُــطــبـَـة ويقصدون النكاح .

ـ الصواب : أعلنتُ الخِــطـبَة ، أو أعلنتُ خِطبَة فلان

لأن الخِطبة هي طلب الزواج بفتاة فهي خِطبَة وهو خطيبها وهي خطيبته .

ـ يقولون هذا بئر عميق .

ـ والصواب : هذه بئر عميقة ،

لأن كلمة بئر مؤنثة كما جاء في الآية 45 من سورة الحج { وَبِئْرٌ مُعَطَّلَةٌ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ } وجمع

بئر آبار وتُصَغَّر على بؤيرة .

ـ يقولون : بتَّ فلان في الأمر .

ـ والصواب : بتَّ فلان الأمر أي نواه وجزم به .

وجاء في الأساس بتَّ القضاء عليه وبتَّ النية جزمها . وجاء في المحكم بتَّ الشيء يبته ، أي قطعه قطعًا مستأصلاً . ومن ذلك بت طلاق امرأته أي جعله باتًا لا رجعة فيه .

ـ يقولون : اجتمع فلان بفلان .

ـ والصواب : اجتمع فلان إلى فلان ،

اعتمادًا على قول اللسان والتاج ( كانت قريش تجتمع إلى كعب بن لؤي فيخطبهم ) .

ـ يقولون : الفَرار ( بفتح الفاء )

ـ والصواب : الفِرار ( بكسر الفاء )

تنطق هذه الكلمة ويقصد بها الهروب والصواب الفِرار ـ بكسر الفاء ـ وهذه تعني الهروب ، أما الفَرار بفتح الفاء فتعني الكشف عن أسنان الدابة لمعرفة كم بلغت من السنين . ومن الجدير ذكره أنَّ كل مصدر من المصادر التالية : ( المفَرّ ) ـ بفتح الميم والفاء وتشديد الراء ـ و ( المَفِر ) ـ بفتح الميم وكسر الفاء وتشديد الراء ـ يعني الهروب أيضًا . يقول الشاعر :

ممدّون سودان عظام المناكبفضحتم قريشًا بالفِـرار وأنتـم

ومن الشواهد التي أوردها سيبويه في كتابة :

يخال الفِرار يراخي الأملضعيف النكاية أعـداءه

ـ يقولون : مُدَرَاء .

ـ والصواب مديرون .

يشيع استخدام هذا الجمع على الألسنة على أنه جمع ( مدير ) ظنًّا أنه مثل جمع سفير على سفراء ، ووزير وزراء ، وأمير أمراء …إلخ . وشتان بين الاستعمالين ؛ فمادة وزير وسفير وأمير هي : وزر ، سفر ، أمر ، الثلاثي والياء فيها لبناء صيغة فعيل . على حين أن الفعل من ( مدير ) رباعي وهو أدار . واسم الفاعل من الرباعي عادة على وزن مضارعه مع إبدال يائه ميمًا مضمومة وكسر ما قبل الآخر . فيقال : أقبل يقبل مُقبـِل ، وأحسن يحسن مُـحسِن على زون مُفعــِل ، ومثلها أدار يدير مُـدير ، على وزن مُفعـِل أيضًا بدالٍ ساكنة وياء ساكنة قياسًا ، ولكن لثقل اللفظ ، لوجود الكسرة على الياء ، حملها القاء حركة الياء على الدال ، فكسرت الدال وسكنت الياء ، فصارت مدير ، وعند جمع محسن ومغير ومنير نقول : محسنون ، مغيرون ، منيرون ولا نقول : محساء ، ولا مغراء ، ولا منراء ، وكذلك الحال مع مع مدير ، فنقول : مديرون وهو الصواب لا مدراء وهو خطأ شائع .

ـ يقولون : ملفت للنظر .

ـ والصواب : لافت للنظر .

كثيرًا ما نسمع قول بعضهم : هذا المنظر او الحادث ملفت للنظر . وهذا الاستعمال خطأ . ووجه الصواب أن نقول : لافت ؛ أن فعله لفت ، لا ألفت ، إذ لا يوجد في العربية فعل هو ( ألفت ) ، واسم الفاعل من الثلاثي عادة على وزن ( فاعل ) فنقول : لافت .أما ( ملفت ) فهو اسم الفاعل الرباعي ( ألفت ) مثل ( مكرم ) و ( محسن ) من أكرم و أحسن ، ولا يوجد في العربية ( أفلت ) كما قلنا . ومعنى لفت الشيء . يلفته لفتا : لواه على غير وجهه ، بياء مفتوحة ، لا مضمومة . ولفته عن الشيء : صرفه . قال تعالى على لسان الملأ من قوم فرعون لموسى عليه السلام : ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) . بفتح الياء.


bravouuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuuu
moidou3 hayal merci anis

شكرا اخي على هده المعلومات القيمة

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

بحث حول نظرية عمود الشعر

((نظرية عمود الشعر بين النشأة والتأسيس))

المبحث الأول: عمود الشعر لغةً واصطلاحًا.

في اللغة: العمود: عمود البيت وهو الخشبة القائمة في وسط الخباء، والجمع أعمدة وعمد، وعمود الأمر: قِوامه الذي لا يستقيم إلاّ به، والعميد: السيد المعتمد عليه في الأمور أو المعمود إليه[1].

وفي الاصطلاح: هو طريقة العرب في نظم الشعر لا ما أحدثه المولدون والمتأخرون، أو هي القواعد الكلاسيكية للشعر العربي التي يجب على الشاعر أن يأخذ بها، فيحكم له أو عليه بمقتضاها[2].

ويُعرَّف كذلك بأنه: هو مجموعة الخصائص الفنية المتوفرة في قصائد فحول الشعراء، والتي ينبغي أن تتوفر في الشعر ليكون جيدًا.

ويُعرَّف بأنه: التقاليد الشعرية المتوارثة أو السنن المتبعة عند شعراء العربية، فمن سار على هذه السنن، وراعى تلك التقاليد، قيل عنه: إنّه التزم عمود الشعر، واتبع طريقة العرب، ومن حاد عن تلك التقاليد، وعدل عن تلك السنن قيل عنه: إنّه قد خرج على عمود الشعر، وخالف طريقة العرب.

يلاحظ في المعنى المُعجمي أنه لم يُذكر ارتباط كلمة العمود بالشعر كما هو الأمر في المعنى الاصطلاحي، إلا أن هذا لا ينفي أن يكون المعنى الاصطلاحي مستوحىً من المعنى اللغوي، فكما أن خشبة بيت الشَعر هي الأساس الذي يقوم عليه ذلك البيت، فإن أصول الشعر العربي وعناصره التي يُشير إليها المعنى الاصطلاحي تُعدُّ أيضًا بمثابة الدعامة والركيزة الأساسية التي لا يقوم نظم الشعر الجيد الصحيح إلا عليها.

المبحث الثاني: المصطلح عند الآمدي.
الفرع الأول: نشأة مصطلح عمود الشعر عند الآمدي.
عند تتبع هذا المصطلح تاريخيًا، فإنني لا أجدُّ من النقاد قبل الآمدي من تحدث عن عمود الشعر بهذا اللفظ، وإنما نحن نواجه هذا المصطلح عنده لأول مرة، لذا فإنه يُنسب له فضل الإسهام في تأسيس هذا المصطلح وتأصيله، ولكن من أين استمد الآمدي هذا المصطلح؟ وكيف استطاع أن يقع عليه؟.

لا يمكن القطع برأي محدد في مصدر هذا المصطلح عن الآمدي، وإنما نحن نفترض افتراضًا أن يكون الآمدي استفاد في وضعه من بعض المصطلحات التي ترد كثيرًا في كتب النقد القديمة مثل: مذهب الشعر، وطريقة الشعر، ومذاهب العرب، ومسالك الأوائل، وما شاكل ذلك من العبارات التي تقترب من معنى عمود الشعر.

أو لعله استفاد من مصطلح (عمود الخطابة) الذي ورد عند الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، فقد جاء فيه: ” أخبرني محمد بن عباد بن كاسب… قال سمعت أبا داود بن جرير يقول: “رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الأعراب”[3].

أو لعله استفاد من بعض عبارات أخرى للجاحظ في قوله: “وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة… وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام،… فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالاً”[4].

كما أن ربط الآمدي بين الجانب الشكلي لأبيات القصيدة العربية وبيت الشعر، مسكن العرب قديمًا قد يكون واردًا؛ لأن الشعراء أحبوا أن يجعلوا الأقاويل مرتبة ترتيب أحويتهم وبيوتهم في البصر، فقصدوا أن يحاكوا بيوت الشعر التي كانت مساكنهم، ولما قصدوا أن يجعلوا هيئات ترتيب الأقاويل الشعرية ونظام أوزانهم بمنزلة وضع البيوت وترتيبها فتأملوا البيوت فوجدوا لها كورًا أي جوانب وأركانًا وأقطارًا أي نواحي وأعمدةً وأسبابًا وأوتادًا، وجعلوا الوضع الذي يُبنى عليه منتهى شطر البيت، وينقسم البيت عنده نصفين بمنزلة عمود البيت الموضوع وسطه[5].
وفي رأيي أن الآمدي لم يحدد مفهوم عمود الشعر وعناصره بالشكل الدقيق، وإنما هو شيء سنحاول أن نستنبطه من ثنايا كلامه على كل من مذهبي أبي تمام والبحتري، وعن تصوره الخاص لطريقة الشعر عند العرب.

وقد صرّح الآمدي بلفظ عمود الشعر أكثر من مرة بوصفهِ شيئًا معروفًا ومتداولاً بين الناس، ثم نص صراحةً على أن البحتري قد التزم هذا العمود ولم يخرج عليه، فقال: “أن البحتري كان أعرابي الشعر، مطبوعاً، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف”[6].
وفي حين يرى الآمدي أن أبا تمام خرج عليه، ولم يقم به كما قال البحتري، حين قال على لسان البحتري الذي سُئل عن نفسهِ وعن أبي تمام فأجاب: “كان أغوص على المعاني مني، وأنا أقوم بعمود الشعر منه”[7].

ومن الواضح أن الآمدي قد نسب هذا المصطلح إلى البحتري في قولهِ السابق حين سُئل عن نفسه وعن أبي تمام، فكان جوابه بأنه أقوم بعمود الشعر منه، وفي رأيي أنه لو ثبت أن البحتري قد قال ذلك حقًا لكان هو أقدم من استعمل هذا المصطلح في حدود ما وصل إلينا، ولكننا لا نجد هذا الخبر إلا في كتاب الموازنة، مما يجعلنا نعتقد تمامًا أن الآمدي يسوق معاني البحتري بألفاظه ومصطلحاته الخاصة.

وهذا يؤكد في رأيي بأن المصطلح قد جاء من الآمدي خدمةً للبحتري، أي تأييد الآمدي لشعر البحتري؛ لأنه اتهم أبا تمام بالخروج عليه، بيد أن المرزوقي والجرجاني كما سنرى لاحقًا تحدثا عن عمود الشعر ولكن لم يتهما أبا تمام بذلك.

ويرد مصطلح (عمود الشعر) في موضع آخر من كتاب الموازنة على لسان البحتري يقول: “وحصل للبحتري أنه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعروفة، مع ما نجده كثيرًا في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة”[8].

يدل النص السابق على قبول الآمدي للصنعة في عمود الشعر، إذ لم تخرج إلى حيز الإفراط والمبالغة، وما نجده في طريقة البحتري التي هي (عمود الشعر)، أنها لم تكن خالية من الصنعة باعتراف الآمدي نفسه.

ويقول الآمدي في شأن ذلك: “وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في موضعها، وأن يورد المعاني باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلك طريقة البحتري”[9].

فطريقة البحتري هذه – كما يتحدث عنها الآمدي – لم تنفِ أن يكون فيها صنعة، كما أن البحتري كان يأخذ من فنون البديع وأشكاله، حتى كاد بعض النقاد أن يلحقه بأبي تمام في ذلك، ويجعلها طبقة واحدة، كما فعل ابن رشيق القيرواني حينما قال: ” وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما، فقد كانا يطلبان الصنعة، ويولعان بها “[10].

إذنْ يمكن القول بأن عمود الشعر عند الآمدي لا يتجافى مع الصنعة، ما دامت في حدودٍ مقبولة، لا تبلغ الإفراط الزائد، ولا تصل إلى التكلف المذموم، والشاعر الذي يحسن تناولها بهذه الصورة شاعر مطبوع، على مذهب العرب، ولم يفارق عمود الشعر العربي.

ونودُّ أن نُشير إلى أن مصطلح (عمود الشعر) الذي ورد في كتاب الموازنة للآمدي، وذكره ثلاثة مرات تصريحًا، كان بمعنى قِوام الشعر وملاكه الذي لا ينهض إلا به حتى يُقال عنه أنه شعر، والمرجعُ في ذلك أشعار العرب القدماء في معانيها وصياغتها وصورها.

ونخلص مما سبق بأن الآمدي هو أول من حام حول ما أسماه (عمود الشعر) وحدده بالصفات السلبية وأوردَ ما تورط فيه أبو تمام من تعقيد، وألفاظ مستكرهة، وكلام وحشي، وإبعاد في الاستعارة، واستكراه في المعاني، مما لو عكسنا تلك الصفات لأصبحت صفات البحتري في شعرهِ.
وليس من شك في أن الآمدي كان يُؤثر طريقة البحتري، ومن أجل ذلك جعلها (عمود الشعر) ونسبها إلى الأوائل، وصرّح لنا بأنه من هذا الفريق يقول: “والمطبوعون وأهل البلاغة لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراق في الوصف، وإنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني وأخذ العفو منها كما كانت الأوائل تفعل، مع جودة السبك وقرب المأتى، والقول في هذا قولهم، وإليه أذهب”[11].

الفرع الثاني: تصور الآمدي للمصطلح.
كما ذكرنا سابقًا بأن الآمدي قد بدأ في مصطلح (عمود الشعر) منتصرًا للبحتري؛ لأنه أكثر التزامًا بتقليد أساليب القدماء في الشعر، تلك الأساليب التي يُشير إليها هذا المصطلح، فكان أول من أسس له، بعدما كان الجاحظ قد ألمح إليه[12].
إذن فالآمدي تحدث من خلال (عمود الشعر) عن تصوره للشعر وطرائقه ومناهجه من خلال شعر البحتري أنموذجًا للشعر القديم، فقد تحدث عنه من حيث الأسلوب، ومن حيث المعاني، ومن حيث الأخيلة والصور.

أما الأسلوب فإن عمود الشعر ينشد في الألفاظ السهولة والألفة، وألا تكون ألفاظًا حوشيه غريبة، والشعر يؤثر السهولة والوضوح، ويتجه إلى الشعر القريب الذي يخاطب القلب من أسهل الطرق، وبالتالي فهو يُنفر من كل ما يمكن أن يُفسد في الشعر بساطته ويبعده عن عفويته أو يعقده ويغمضه[13].
فالآمدي يُنفر من الفلسفة والأفكار الدقيقة إذا دخلت في نسيج الشعر؛ لأنها تجعله بحاجةٍ إلى استنباط وإدامة النظر والتفكير، فيصبح الشعر بعيدًا كل البعد عن عمود الشعر العربي المعروف، ويُخرج صاحبه من دائرة الشعراء والبلغاء، ويُسمى وقتها حكيمًا أو فيلسوفًا؛ لأن طريقته ليست طريقة العرب ولا على مذهبهم[14].

إذنْ فأصحاب عمود الشعر هم من أنصار اللفظ الذين يكون الفضل عندهم لسلامة السبك، وجودة الرصف، وإشراقه ديباجة الشعر، وحسن اختيار الألفاظ، وإيقاعها في الجملة موقعها الملائم بحيث تكون مشاكله لما قبلها، وما بعدها، وملائمة للمعنى الذي استُعملَتْ فيه بلا زيادة ولا نقصان[15].
ومما يحرص عليه الآمدي وهو يرسم عناصر عمود الشعر قرب الاستعارة، وهذا القرب يتأتى إذا كانت العلاقة واضحة بين المشبه والمشبه به، وكلّما كانت الصلة واضحة بين هذين الركنين، وكان وجه الشبه الذي يربطهما متميزًا جليًا؛ كانت الاستعارة قريبة، وبالتالي مستحسنة[16].

كما أن الاستعارة تكون قريبة حينما تحمل اللفظة المستعارة معنى أو فكرة تصلح لذلك الشيء الذي استُعيرتْ له، أما إذا استعرنا كلمة لا تصلح له، أو لا تتناسب معه فهي عندئذٍ استعارة مستكرهة، ويقول الآمدي: “وإنما تُستعار اللفظة لغير ما هي له إذا احتملت معنًى يصلح لذلك الشيء الذي استعيرت له ويليق به؛ لأن الكلام مبني على الفائدة في حقيقته ومجازه، وإذا لم تتعلق اللفظة المستعارة بفائدة في النطق فلا وجه لاستعارتها”[17].

إذنْ فنستنتج مما سبق بأن الاستعارة من أسباب خروج أبي تمام على عمود الشعر؛ لأن استعارته اتسمت بالبعد، فأصبح شعره “لا يشبه الأوائل، ولا على طريقتهم، لما فيه من الاستعارات البعيدة”[18].

فإذن، فالآمدي يولي عنايةً خاصة في عموده للأسلوب، فهو يهتم كثيرًا بجودة السبك، وسلامة التأليف، ونصاعة ديباجة الشعر وحلاوة اللفظ، وكذلك أن تقع الألفاظ في مواقعها المناسبة في الجملة مشاكلة معانيها وغير متنافية معها.

ويمكن القول: إن الآمدي كان يتمثل شعر البحتري وهو يضع عناصر عموده، لا بل إن بعض الدارسين يرى أن عمود الشعر عنده جاء صورةً لشعر البحتري، ووُضع أساسًا خدمةً له، فعناصر ذلك العمود هي الخصائص التي تتوافر في شعر البحتري، ويتجافى عنها شعر أبي تمام[19]. في حين يرى إحسان عباس أن عمود الشعر عند الآمدي نظرية وُضعت خدمةً للبحتري وأنصاره فأبعدت الموازنة عن الإنصاف[20].

إذن يمكن القول بأن الآمدي قد نعى في مواضع كثيرة من الموازنة على أبي تمام استعماله الغريب المستكره من الألفاظ، مما يعد مخالفة لعمود الشعر، وأشاد في المقابل كثيرًا بالبحتري؛ لأنه ابتعد عن ذلك، وآثر ما سهل من الألفاظ، وكان خفيف الوقع مأنوسًا مفهومًا لدى كل الناس.

ونخلص مما سبق بأن عمود الشعر عند الآمدي من حيث الأسلوب كان ينفر من الألفاظ الغريبة، والكلمات غير المألوفة، فهي لا تتفق مع جمال السبك، ورشاقة الرصف اللذين ينشدهما، ولا تتفق أيضًا مع ما يتطلبه عمود الشعر في الشعر من سهولة وبساطة، وبعد عن التكلف والتعقيد والغموض.

أما من حيث المعاني فعمود الشعر يوليها المرتبة الثانية بعد حسن الأسلوب، وسلامة التأليف، وهو يؤثر فيها السهولة والبساطة والوضوح، فالشعر في نظر الآمدي تصوير للأحاسيس والعواطف، وهو حديث إلى القلب والمشاعر، فهو بذلك ينفر من المعاني الصعبة، والأفكار الدقيقة التي تحوج إلى طول تأمل وتفكر، وإلى استنباط واستخراج[21].

ولذلك نجده ينتصر للبحتري؛ لأنه كان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ، ووحشيّ الكلام، أمّا أبو تمام فإنه في رأيه فارق عمود الشعر؛ لأنه شديد التكلف، صاحب صنعة، ويستكره الألفاظ والمعاني[22].

أما من حيث الخيال فمن الواضح أن عمود الشعر يهتم بالصنعة، ويرى فيها مزية وفضلاً وهو يدعو إلى الأخذ بها، والاهتمام بشأنها ولكن ألاّ تجاوز المألوف، وألاّ تبلغ حد الإفراط والإسراف فتصل إلى التكلف والتصنع الممقوت[23].

وقد ذكرنا آنفًا أن الآمدي كان يولي الصنعة اهتمامًا، بشرط أن تكون في حدود المقبول وألا تتجاوز الإفراط، كما كان عمود الشعر يولي عناية خاصة للاستعارة وينشد أن تكون قريبة واضحة، ويتأنى لها هذا القرب من ظهور العلاقة بين المشبه والمشبه به وانكشافها[24].

ونخلص مما سبق بأن الآمدي كان يستمد خصائص عمود الشعر التي تحدثنا عنها سابقًا (الأسلوب، والمعاني، والأخيلة) من الشعر القديم، ولا ننسى أنه كان من أنصار القديم، وأن ذوقه محافظ تقليدي يميل إلى أشعار القدماء.

كما أن هذه الخصائص التي يتسم بها عمود الشعر – كما صوره الآمدي – تتفق تمامًا مع مذهب البحتري، وفي رأيي كما ذكرتُ سابقًا بأن ذلك المصطلح جاء خدمةً للبحتري بدليل أنه اتهم أبا تمام بالخروج على العمود، بيد أن المرزوقي والجرجاني لم يتهما أبا تمام بالخروج والمخالفة، فالبحتري في رأيه كان يعني بجودة السبك، وسلامة التأليف، وحلاوة الألفاظ، هذا من ناحية الأسلوب، أما من ناحية المعاني فكان يأخذ ما بدا له، في قرب وعفوية وبساطة، وأما من حيث الخيال فاتصفت صنعته بسهولتها، فلم تتعقد عنده.

وبالمقابل هذا كله خالف أبو تمام، فلم يعنَ بأسلوبه كما كان يُعنى بمعانيه، فلم يخلُ شعره من نسج رديء، وعبارة سيئة، وألفاظ وحشية مستكرهة، فتعقدت صنعته، وبلغت درجة التكلف الممقوت.

——————–
[1] انظر: ابن منظور، لسان العرب، و الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة (عَمَدَ).
[2] انظر: أحمد مطلوب، معجم النقد العربي القديم، 2/ 133.
[3] انظر: الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، ط1، 1961م، 1/44.
[4] المصدر نفسه، 1/84.
[5] انظر: حازم القرطاجَنِّي، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب، تونس، د.ط، 1966م، ص 249، 251.
[6] انظر: الآمدي، الموازنة بين الطائيين، تحقيق: السيد صقر، دار المعارف، ذخائر العرب، 1965م، 1/4.
[7] نفسه، 1/12.
[8] نفسه، 1/18.
[9] نفسه، 1/423.
[10] انظر: القيرواني، أبو علي الحسن بن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: محمد قرقزان، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1988م، 1/214.
[11] انظر: الآمدي، المصدر السابق، 1/401 – 402.
[12] انظر: الجاحظ، المصدر السابق، 1/44 و 84.
[13] انظر: الآمدي، الموازنة، 1/423.
[14] نفسه، 1/423 وما بعدها.
[15] انظر: وليد قصاب، قضية عمود الشعر العربي القديم، المكتبة الحديثة، العين، ط2، 1985م، ص 146.
[16] انظر: الآمدي، الموازنة، 1/201.
[17] نفسه.
[18] المصدر السابق، 1/4 – 5.
[19] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 141، و ابتسام الصفار و ناصر حلاوى، محاضرات في تاريخ النقد عن العرب، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد، د.ط، د.ت، ص 274.
[20] انظر: إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1971م، ص 150.
[21] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 157.
[22] انظر: الآمدي، الموازنة، 1/6 – 18.
[23] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 157 وما بعدها.
[24] نفسه، ص 158.

المبحث الثالث: المصطلح عند الجرجاني.
الفرع الأول: تصور الجرجاني لمصطلح عمود الشعر.
قد قرأ القاضي الجرجاني ما كتبه الآمدي عن عمود الشعر، فحاول أن يستفيد من مصطلحه[1]، وأراد أن يطور على ما جاء به الآمدي من خصائص في مصطلح عمود الشعر، إلا أن هذه الخصائص “كانت أكثر توافرًا في عمود الشعر على النحو الذي تصوره الآمدي، وأشد وضوحًا منها في عمود الشعر على النحو الذي تصوره الجرجاني في الوساطة”[2].

فالجرجاني في كتابه الوساطة قد تعَّرض فيه لبعض خصائص الشعر العربي، ولكثير من الأحكام النقدية، ومن ذلك إشارته إلى (عمود الشعر ونظام القريض) في قوله: “ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذ حصل لها عمود الشعر ونظام القريض”[3].

إلا أن هذا التعبير (عمود الشعر) لم يذكره الجرجاني في رأيي كمصطلح له حدوده الجامعة المانعة، بل ذكره في معرض كلامه على المرتكزات الأساسية للمفاضلة بين الشعراء.

ويقول الجرجاني بناءً على ذلك: “وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن، بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّمُ السّبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وَبدَه فأغزر، ولمن كثرت سوائرُ أمثاله وشوارد أبياتهِ”[4].

فمن هنا كانت معظم العناصر التي تحدث عنها الجرجاني على أنها مقياس المفاضلة والسبق بين الشعراء، وكذلك على أنها معيار الشعر الجيد، وهذه تكاد تكون عناصر عامة تتوافر في الشعر القديم مثلما تتوافر في الشعر الحديث كذلك.

فمثلاً ذكر الجرجاني صحة المعاني، وإصابة الوصف، واستقامة اللفظ، والغزارة في البديهة، وكثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة، فهي ليست خصائص للشعر القديم فقط، ولا هي مقصورة عليه، وإن منها ما يعد أصلاً من أصول الشعر الذي لا يستغني عنه، ولا يقوم إلا به في أي عصر كان[5].

ويمكن القول بأن الجرجاني لم يتحدث عن عمود الشعر حديثًا واضحًا محددًا، وإنما أشار إليه إشارة عابرة سريعة، فحدد للشعر ستة عناصر يتعلق بعضها باللفظ الذي ينبغي أن تتوافر فيه الجزالة والاستقامة، ويتعلق بعضها بالمعنى الذي يشترط فيه الشرف والصحة، ويستحسن منه ما كان سهلاً مفهومًا يسير أمثالاً على الألسنية، وأبياتًا شاردة يتناقلها الناس ويحفظونها حكمًا وشواهد، ويتعلق بعضها بالخيال، ويؤثر عمود الشعر عند الجرجاني ما كان مطبوعًا سهلاً، قريب المتناول، يُصيب الوصف، ويقصد الغرض من سبيل صحيح[6].

فنلاحظ مما سبق أن الجرجاني قد تحدث عن عناصر أو خصائص عمود الشعر بشكلٍ عام فلم يحصرها في الشعر الجاهلي كما فعل الآمدي، وإنما هو يحدثنا عن عمود الشعر الذي يعني مجموعة عناصر الشعر ومقوماته الأساسية التي لا يقوم إلا بها في الشعر القديم والشعر الحديث.

فالجرجاني من خلال حديثه عن عمود الشعر فهو يكشف لنا عن إدراكه بأن الآمدي قبله أفاض في القضية، وهو يدرك المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على تناوله لها، ولهذا جاءت معالجة الجرجاني لعمود الشعر مجسدة لميزة بارزة هي إطلاق القضية من عقال أبي تمام والبحتري خاصة إلى أفق أعم وأرحب، وإطار يصلح تطبيقه على كل شاعر وكل شعر[7].

وأشرنا سابقًا عن أهم العناصر التي ذكرها الجرجاني، وكان قد أشار إليها الآمدي ولكن بعباراتٍ واصطلاحاتٍ مختلفة، أما العنصران الآخران وهما: الغزارة على البديهة، وكثرة الأبيات السائرة والأمثال الشاردة، فهذان العنصران يستند الجرجاني فيهما إلى الذوق العام، ويفتح بها الباب بقوة لكثير من نماذج الشعر الحديث وشعرائهِ.

ولعل أن أهم مُلاحظة تُذكر للجرجاني في هذا الصدد عمده إلى تجنب تحديد المقصود بهذه المصطلحات وذلك حرصًا منه على تأكيد مرونتها وإضفاء طابع تعميمي عليها؛ ليجعلها أداة صالحة للتقويم المتشرب لطبيعة الذوق الخاص بالناقد[8].

الفرع الثاني: مقارنة بين تصور الجرجاني والآمدي للمصطلح.
بدا الجرجاني ناجحًا أكثر من الآمدي في مبدأ المقايسة، عند دفاعه عن المتنبي، “وما كان الآمدي إلاّ معلمًا للجرجاني، فنجح الآمدي نظريًا فقط، بينما نجح تلميذه في منهجه نظريًا وعمليًا، أما في الآراء والنظرات النقدية، فإن الجرجاني لم يأتِ بشيء جديد، وإنما التقت عنده أكثر الآراء والنظرات النقدية السابقة، فأحسن استغلالها في التطبيق والعرض”[9].

فقد كان الجرجاني في وساطته مثالاً للناقد الفذ في نزاهة الحكم، وقد كان في قوله بآراء نقدية سابقة، وإهماله قضايا نقدية كقضية اللفظ والمعنى، ما يؤثر التطور النقدي والحاجة إلى طرائق جديدة في الغرض النقدي.

ويلتقي الجرجاني مع الآمدي في إيثاره للشعر المطبوع، وفي تفضيله لما كان سهل المتناول قريب المأخذ، ولكن الآمدي قد يكون أكثر تقبلاً منه للصنعة إذا كانت في حدود مقبولة لا تبلغ الإسراف الشديد، فقد رأينا أن البحتري عنده -على الرغم من أنه من أصحاب البديع، وقد أكثر من فنونه وأشكاله- فهو شاعر ملتزم بعمود الشعر العربي، لم يفارق أصوله القديمة، ولم يخرج عليها[10].

بينما هذه الصنعة تأتي هامشية في عمود الشعر عند الجرجاني؛ لأن العرب -على حد تعبيره- “لم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة، إذا حصل عمود الشعر ونظام القريض”[11].

وقد رأينا فيما سبق أن عمود الشعر عند الآمدي لم يكن يعبأ بالمعاني الموّلدة الجديدة، فقد رفض هذه المعاني أساسًا في الشعر، بل إن هذه المعاني التي يأتي بها أبو تمام أحيانًا مخالفًا ما ألفته العرب، ويعدها خروجًا على عمود الشعر.

ولذلك يقول الآمدي في شعر أبي تمام: “لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم؛ لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولّدة”[12].

أما الجرجاني فقد نظر إلى المعاني من زاوية أوسع وأرحب، فاشترط فيها أن تكون شريفة صحيحة، ومن الواضح أن هاتين الصفتين في المعنى تُفسحان المجال للأفكار الجديدة، والمعاني الموّلدة، ولا تعدانها خروجًا على عمود الشعر أو مخالفة لطرائقه.

ومثال ذلك أنه يمكن أن يُستنتج من عبارة (الإصابة في الوصف) وهي عبارة عامة أن تدخل تحت مدلولها الأوصاف الجديدة التي يبدعها خيال الشاعر ما دام قد أصاب في وصفهِ، وأتى بالغرض على وجهه الصحيح الكامل[13].

ونخلص مما سبق بأن نظرة الجرجاني كانت أوسع مدًى من نظرة الآمدي الذي رأيناه أضيق صدرًا، وأقل تقبلاً لهذه الأوصاف المبتدعة الجديدة التي كان يأتي بها أو تمام.

ومع ذلك فعمود الشعر عند الجرجاني يلتقي مع عمود الآمدي في أنه ينفر من المعاني المعقدة الغامضة التي تُستخرج بالغوص والفكرة، وتحتاج إلى تأمل ونظر كما رأينا سابقًا.

فكان الجرجاني كالآمدي لا يرحب كثيرًا بدخول الفلسفة إلى مجال الشعر، ويكره فيه أن يكون معرضًا للنظر والمحاججة، أو الجدل والقياس، فلذلك في نظره هذا مما يعقد الشعر، فيبعده عن النفس، وينفرها منه، ويقول: “والشعر لا يُحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة، ولا يحلي في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، ويقربها منه الرونق والحلاوة..”[14].

وقد ذكرنا آنفًا بأن الآمدي قد ذكر صراحةً، وفي أكثر من موضع، على أن البحتري قد التزم بعمود الشعر، وقام بأصوله حق قيام، على حين أن أبا تمام فارق عمود الشعر، وخرج عليه، وخالف طريقة العرب.

أما الجرجاني فإننا لا نلمح له موقفًا محددًا من هذه القضية، فهو لم يتهم أبا تمام بالخروج على عمود الشعر، حتى إنه لم يتحدث في وساطته بين المتنبي وخصومه عن صلة المتنبي بعمود الشعر.

وأنا في رأيي أن السبب في ذلك حتى تكون معالجة الجرجاني لقضية عمود الشعر أوسع منها عند الآمدي، وحتى تكون صالحة في كل عصر وكل زمان، بحيث يمكن تطبيقها كما ذكرنا على كل شاعر وكل شعر.

إذن فالجرجاني يمرُّ بالمصطلح مرورًا عابرًا سريعًا، لا يتوقف عنده، ولا يُشير إلى علاقة أبي الطيب به، فهو يكتفي بأن يضع للشعر وعموده تلك العناصر الستة التي أشرنا إليها سابقًا دون شرح لها أو حتى توضيح لمدلولاتها، ودون أن يقيس عليها شعر المتنبي؛ ليرى مدى اتفاقه معها أو مجافاته لها.

وكما ذكرنا سابقًا بأن خصائص عمود الشعر بشكل عام كانت مستمدة من الشعر القديم ومستنبطة من أصولهِ ومبادئهِ، وهذه ظهرت عند الآمدي حيث مثلها وطبقها على البحتري أنموذجًا للشعراء الأوائل، بينما كانت تلك الخصائص عند الجرجاني تمثل المفاضلة بين الشعراء بشكلٍ عام، وكانت تتوافر في الشعر الجيد وهي عناصر عامة تتوافر في الشعر القديم مثلما تتوافر في الشعر الحديث.

إن نظرية عمود الشعر هذه كما عرضها الجرجاني قد أصابها تطور كبير عما كانت عليه من قبل، مثلاً كانت تلك النظرية عند الآمدي محصورة في نطاق ضيق تتمثل في الشعر القديم أو في شعر البحتري، بينما نجد غير ذلك عند الجرجاني فأخذت تتسع وتمتد، وتصبح أكثر انفتاحًا، وأشد انفساحًا.

وفي نهاية الأمر، أنوّه إلى أن من خلال طريقة سوق الكلام وصياغته لدى كل من الآمدي والجرجاني -في توضيح عمود الشعر- لا توحي بأنهما يعمدان إلى تحديد مصطلحٍ نقديٍّ لم يكن قد اُُشتهر بعدُ، ولا عُرف قبلهم، كما لا توحي بأنهما هما اللذان وضعاه ابتداءً.

——————–
[1] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 178 وما بعدها، و الجرجاني، القاضي علي بن عبد العزيز، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، د.ط، 1966م، ص 15 – 25.
[2] انظر: الآمدي، الموازنة، 1/4.
[3] انظر: الجرجاني، الوساطة، ص 34.
[4] نفسه، ص 15 – 25.
[5] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 184.
[6] المصدر السابق، ص 186.
[7] انظر: صلاح رزق، أدبية النص، دار الثقافة العربية، القاهرة، ط1، 1989م، ص 127.
[8] نفسه، ص 128.
[9] انظر: إحسان عباس، تاريخ النقد عند العرب (نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري)، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط2، عمان، 1986م، ص 316 وما بعدها.
[10] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 182.
[11] انظر: الجرجاني، الوساطة، ص 33.
[12] انظر: الآمدي، الموازنة، 1/6.
[13] انظر: وليد قصاب، المرجع السابق، ص 182.
[14] انظر: الجرجاني، المرجع السابق، ص 100.



شكرا على المجهود

شكرا لكم بارك الله في جهودكم دمت بخير خدمة للعلم

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

لنقد الادبي الحديث

تمهيد..

ما هو النقد ؟
1- استعملت اللغة العربية لفظ النقد لمعان ٍ مختلفة :
الأول : تمييز الجيد من الردىء ، قالوا : نقدت الدراهم وانتقدتها : أخرجت منها الزيف وميزت جيدها من رديئها، ومنه : التـنقاد والانتقاد ، وهو تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها .

والثاني : العيب والانتقاص . قالت العرب : نقدته الحية إذا لدغته ، ونقدت رأسه بأصبعي إذا ضربته , ونقدت الجوزة أنقدها إذا ضربتها . وفي حديث أبي الدرداء : إن نقدت الناس نقدوك ، ومعناه إن عبتهم وجرحتهم قابلوك بمثل صنيعك .

2- واستعمل الأدباء العرب كلمة النقد بالاستعمالين لنقد الكلام شعره ونثره على السواء ، وبدأ ظهور ذلك في القرن الثالث الهجري على وجه التقريب ، ويقول البحتري عن أبي العباس ثعلب : ما رأيته ناقدا للشعر ، ولا مميزا للألفاظ ، ورد عليه آخر فقال : أما نقده وتمييزه فهذه صناعة أخرى ، ولكنه أعرف الناس بإعرابه وغريبه . وألّف قـُدامة كتابيه ” نقد الشعر ” , و ” نقد النثر ” . وألّف ابن رشيق ” العمدة في صناعة الشعر ونقده ” .

3- وسارالنقاد العرب في نقدهم على كل من الاستعمالين :
(أ) استعملوه في القديم والحديث على معنى التحليل والشرح والتمييز والحكم , فالنقد عندهم دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابهة لها ، أوالمقابلة ، ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها ، وأكثر الذين كتبوا في النقد العربي مشوا على هذا المعنى .

(ب) واستعملوه كذلك بمعنى العيب والمؤاخذة والتَّخطئة ، فألـّف المرزباني ” الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ” ، ويريد بالعلماء النقاد . ولايزال النقد مستعملا بهذا المعنى حتى اليوم عند بعض النقاد المعاصرين ، ويقابله التقريظ ، فهو المدح والإعجاب ، من قرظ الجلد إذا دبغه ، وذلك إنما يكون للتحسين والتزيين .

4- ويعرّف المحدثون النقد – بناء على المعنى الأول في الاستعمال اللغوي – فيقولون : إنه التقدير الصحيح لأي أثر فني ، وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه . فكلمة النقد تعني في مفهومها الدقيق ” الحـُكم ” ، وهو مفهوم نلحظه في كل استعمالات الكلمة حتى في أشدها عموما . والنقد الأدبي في أدق معانيه هو فن دراسة الأساليب وتمييزها ، على أن نفهم لفظة الأسلوب بمعناها الواسع ، وهو منحى الكاتب العالم وطريقته في التأليف والتعبير والتفكير والإحساس على السواء .

فللنقد مهمتان مختلفتان : مهمة التفسير ، ومهمة الحكم ، أي إصدار الأحكام الأدبية في قضايا الأدب ومشكلاته .

وجملة الأمر أن النقد الأدبي هو الحـُكم الذي تصدره على الشعر والنثر ، وأنه عند المحدثين تقدير النص الأدبي تقديرا صحيحا ، وبيان قيمته العامة ، والموازنة بينها وبين ما يشابهها من الآثار .. وأصول النقد قراءة وفهم وتفسير وحكم ، والغرض منه دراسة الأساليب أو الكـُتـَّاب أو الآراء والأفكار .

5- ومن الضروري أن نعرف النقد بدءً – منذ استمع الإنسان إلى الأدب شعرا ونثرا – بأحكام عامة مقتضبة ، موجزة , لا تحمل تعليلا ، ولا تستصحب أسبابها ، شأن الأحكام العامة التي يرشد إليها الذوق ، ويكون للفطرة الأدبية مدخل فيها ، دون أن تتأثر بنزعة علمية ، أو منهج عقلي ، أو أسس موضوعة .

كذلك كان شأنه في الأدب العربي ، في العصر الجاهلي ، حكم دون تعليل ، لأن أحكام الذوق والفطرة التي لم تسترشد بمناهج أو أصول موضوعة لابد أن تكون كذلك .. ثم أخذ يرتقي العقل ، وينضج الحس الأدبي ، ويرتفع مستوى الملكات ، وبدأ العقل لا يقنع بأن يرسل الحكم إرسالا دون أن يوضحه توضيحا ، فأخذ يومىء من بعيد على سبيل الرمز والتلويح إلى السبب . وبعد أن بدأ تدوين العلوم والثقافات ، وأخذ العقل العربي يضع أصولا للبيان والنقد ، بدات أحكام النقد تصطبغ بصبغة علمية موضوعية ، فالحـُكم بجانبه السبب والعلة ، والنقد يحمل معه طابع التوجيه والتعليل للوصول إلى أحكام موضوعية .

فالنقد في الآداب العربية هو ” شرح الشعر ، وتقرير طريقة الشعر الجاهلي لتكون منهجا للشعراء ، لا حركة العقول والأفكار وأكبر مظاهره عندهم هو علم البلاغة ” .

وهكذا تجد أن أصول النقد هي : قراءة ، وفهم ، وتفسير , وحُـكم وأن الغرض منه كما يقول بعض النقاد : دراسة الأساليب أو نفوس الكـُتـَّاب ، أو دراسة الآراء والأفكار .

على أن النقد ذو صلة وثيقة بالذوق ، وليس هو مطلق الذوق ، بل ذوق ذوي الثقافات الأدبية العالية . والنقد فن وليس بعلم ، فليس له قاعدة ثابتة .

وظيفة النقد الأدبي :
1- إذا كانت كلمة النقد تعني في مفهومها الدقيق ( الحُـكم ) ، وكان ” النقد الأدبي ” هو إصدار حكم على الآثار الأدبية ، فإن الأدب الإنشائي يخالف الأدب النقدي الذي هو من الأدب الوصفي ، فالإنشائي هو تفسير للحياة في صور مختلفة من الفن الأدبي , والأدب النقدي هو تفسير لهذا ولصور الفن التي يوضع فيها ، وكما يأخذ الأدب من الطبيعة والحياة فإن النقد كذلك ياخذ منهما عن طريق غير مباشر ، ولذلك يقول الناقد ” وليم واطسون ” عن الشعراء : ” وقد اعتبرت هؤلاء كجزء من عظمة الطبيعة ” .

وإذا كان في الإمكان الرجوع إلى المصدر الأول وهو الطبيعة دون الرجوع إلى تفسير لها أي إلى النقد ، فإن النقد يوحي ويشجع وينير السبيل ، ويلهم الأدباء أنفسهم اتجاهات جديدة ، وللنقد قيمته الذاتية في أنه تعبير عن الناقد نفسه ، عن شخصيته وفكره ومذهبه ومنهجه .

2- إن وظيفة النقد الأدبي هي في تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية . وبيان قيمته الموضوعية ، وقيمته التعبيرية والشعورية ، وتوضيح منزلته وآثاره في الأدب .

يرى ” سانت بيف ” أن وظيفة الأدب هي النفاذ إلى ذات المؤلف لتستشف روحه من وراء عباراته بحيث يفهمه قـُرَّاؤه ؛ وفي ذلك يضع الناقد نفسه موضع الكاتب ، فالنقد على حد تعبيره يعلم الآخرين كيف يقرءون ، ولذلك كان على النقد أن يتجاوز القيم الجمالية العامة إلى بيان العمل الأدبي للقارئ لمساعدته على فهمه وتذوقه ، وذلك عن طريق فحص طبيعته وعرض ما فيه من قيم .

ويُعرِّف ” سانت بيف ” الشعر بأنه التعبير الجميل عن شعور صادق .
ويحمل ” وردزورث ” على النقد ويعدّه عبثا ، لأن المقدرة على النقد أحط من المقدرة على الإنشاء . ومن قبل حمل ” أفلاطون ” على الشعر وعابه بأنه تقليد للتقليد .

ولا شك أن ذلك أمر لا يوافقه عليه ناقد آخر ، فإن النقد يوجه ويثري الأدب , ويعلي من منزلته في الحياة ، ولا غنى للحياة ولا للأدب ولا الأدباء عنه , وهو الذي يخلق المناهج والمذاهب الأدبية ، ويقوّم أعمال الأدباء ، ويوصي باختيار النماذج الجيدة من الأدب ومحاكاتها ، ويغرس حب الجيد منه في نفوس الدارسين والناشئين ويُعـَوِّدهم على مثل هذا الجيد منه .

والنقد عند ” كولردج ” ليس هو اكتشاف مدى إلتزام العمل الأدبي بقواعد شكلية معينة ، بل في كشف مدى انسجام العمل مع ذات الناقد . ومهمة الأديب هو تجسيد تجربته في رموز ، وعلى الناقد أن يتحقق فيما إذا كان الشاعر قد اقتصر على ترجمة أفكاره إلى لغة الشعر أم أنه قد نجح في تجسيد هذه الأفكار في رموز تعادلها تماما بحيث يتعذر انفصال إحداها عن الأخرى .

ويروي ” باوند ” الأمريكي أن الشعر خَلـْق لا تعبير ، وعملية الخلق هي عملية واعية في الدرجة الأولى ، فهي عملية تحكم ، وليست عملية إلهام . ويقول : إن أعظم أمراض النقد هو الإندفاع بحثا عن شخص الفنان في العمل الفني ، ويناظره في الفشل النظر إلى العمل في ذاته .. ومن الموهبة واستيعاب التراث يصبح الإنسان شاعرا ، فلا بد لذلك منهما ، وفي هذا يتفق ” باوند ” مع ” إليوت ” .

ووظيفة النقد عند ” باوند ” هي فحص العمل الفني من الداخل ، من حيث علاقته بذاته ، دون أي شيء خارج عليه , سواء كان ذلك مُمـَثلا في حياة الأدب أو المجتمع أو العصر .

وأدوات النقد عند باوند , و إليوت هي :

1- التحليل : أي فحص العمل الفني من الداخل واستظهار الصلة القائمة بين أجزائه .
2- المقارنة : وهي ربط العمل الفني بالتراث الذي ينتمي إليه ، وكشف موضعه من هذا التراث .

ويرفض ” باوند” نظرية التفسير في النقد ، رفضاً تاماً .
أنواع النقد الأدبي :
1- النقد الذاتي أو التأثـُّري : وهو الذي يقوم على الذوق الخاص ، ويعتمد على التجربة الشخصية ، ويعتمد على المنهج الموضوعي .

2- النقد الموضوعي : وهو الذي يركن إلى أصول مرعية وقواعد عقلية مقررة يعتمد عليها في الحكم ، كطريقة قـُدامة في كتابه ” نقد الشعر ” .

3- النقد الاعتقادي : وهو النقد الذي تتحكم فيه عقائد وآراء خاصة عند الناقد , وهو يحمل في طياته معنى التعصب والميل إلى نزعة خاصة , وكلما تحرّر الناقد في نقده من آرائه ومعتقداته الشخصية كان تقديمه عادلا وأكثر إنصافا وصدقا وتحريا للحقيقة , إذ أن تجرّد الناقد من هواه وآرائه شرط أساسي لسلامة أحكامه النقدية من الجور .

4- النقد التاريخي : وهو النقد الذي يحاول تفسير الظواهر الأدبية والمؤلفات وشخصيات الكتـّاب ، فهو يـُعنى بالفهم والتفهيم أكثر من عنايته بالحكم والمفاضلة .. وتفسير الظواهر الأدبية أو المؤلفات أو شخصيات الكتـّاب ، يتطلـّب معرفة بالماضي السابق لهم ، ومعرفة بالحاضر الذي أثـّر فيهم .

5- النقد اللغوي : وهو الذي يحكم فيه على أساس اللغة وقواعدها الأسلوبية واللغوية المقرّرة .

هذا ويرى الناقد مصطفى عبداللطيف السحرتي أن الناقد العربي المعاصر ، ينبغي أن تكون له ثقافته الفنية ، واتجاهه الفلسفي ، ومـُثـُله الحضارية ، وقيمه الخلقية على سواء ، وأن يطبـّقها على الأعمال الأدبية في حرّية وشجاعة , فيزن ما في عمل الأديب من مقومات فنية , وما يضم من فكرات صائبة أو مخطئة ، هادية أو مضللة , سليمة أو زائفة منحرفة ، أو بمعنى آخر لابد للناقد من تقييم المضمون أو المحتوى في العمل الأدبي , والمضمون عنصر جوهري في رأينا ورأي الفريق الثاني الذي اصطرع مع الفريق الأول وله درجات بحسب قيمته البناءة في حياة الأشخاص وفي الجماعات ، فالأديب الذي يقصر محتواه على التغزّل في زهرة ، أو يذرف الدمع الغزير على قِط ، أو يهدهد الغرائز بقصصه ، وما إلى ذلك ، ليس كالأديب الجاد الذي يتناول حقيقة من الحقائق النفسية النبيلة ، أو تجربة من التجارب الناضجة ، أو فكرة من الأفكار الحية العميقة . فلو أبيح للأديب أن يقول ما يشاء ، فينبغي أن يباح للناقد أن يعقـب على مضمونه قيـّماً أو تافهاً ، سليماً أو شاذّاً ، وإلا كنا جارمين آثمين في حق الأدب وفي حقّ البشرية التي يطرح الأديب لها نتاجه .

وفي الحركات النقدية في أوربا أو أمريكا من وقف مثل هذه الوقفات ، فلقد وقف في وجه ” إليوت ” نقاد كبار ، كما هوجم ” بوند ” و ” همنجواي ” و ” فولكنز ” , لآرائهم السلبية , واتجاهاتهم المناقضة للاتجاهات الديمقراطية أو الإنسانية في بعض الأحيان ، فإذا كان هذا هو موقف النقاد في الغرب فما بالنا بما ينبغي أن يكون عليه موقفنا ونحن في مفترق الطريق ، ننشد طريقاً يهدي إلى الرشد والتقدم والحضارة ، إنه لموقف يوجب علينا أن نعطي الناقد كل الحق في التحدث عن فن العمل الأدبي ، ومحتواه ، واتجاهه الفلسفسي أو الاجتماعي وأن نلح في ذلك إلحاحا شديدا .

وبهذه المواقف الفنية والفلسفية والاجتماعية التي تتفق مع أيديولوجيتنا العربية ، ومع القيم الخلقية العربية ، ومع الروح الإنساني إلى المتعة الجمالية ، يمكن أن نجني من الأعمال الأدبية الثمرة الطيبة الشهية لخير الإنسـان العربي والمجتمع العربي .

والناقد العربي في تقويمه لا يجوز أن يتقمـّص مذهبا فنيـّاً وينحصر فيه بذاته ، ولا أيديولوجية شرقية أو غربية ، بل عليه أن ينطلق مستقلا في هذا التقويم ومستفيدا من أحدث النظريات الفنية فائدة توجيهية , فله أن يرجع إلى التاريخ ليعرف البيئة التي نما فيها العمل الأدبي وترعرع ، وله أن يرجع إلى السيكولوجية ليعرف صحة الشخوص ويفهم نوازعها فهما عميقا ، وله أن يرجع إلى الحالة الاجتماعية ليعرف آثارها في الأعمال الأدبية ، وله أن يـُقوِّم العمل بما يتفق مع الثقافة الرفيعة . كل هذه النواحي تلقى أضواءً على الأعمال الأدبية ، وإمكان تقويمها ، أضواء أكثر وهجا ً من الأضواء التي تلقيها العناصر الجمالية أو الفنية .

إن فهم الحركة الأدبية التي قامت بها جماعة أبولـُّو في مصر منذ بداية عام 1932 مثلا يكون أكثر عمقا إذا درسنا حالة البلاد الاقتصادية ، وسياسة حكومتها الديكتاتورية ، وسيكولوجية المجتمع في تلك الآونة . وفهم الأعمال الأدبية في فترة القلق والتحرر التي شاعت حين ذاك ، يكون أكثر سعة ورحابة إذا رجعنا إلى حالة القلق السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة . ولست أقول إن وعي هذه الحالات من عناصر تقويم النصوص الأدبية ، ولكن أقول إنها تنوّرها وتساعد على فهمها فهما ً طيبا ً واسعا ً .

ولكي أخرج من التعميم إلى التخصيص ، أذكر أن رواية ” عودة الروح ” لتوفيق الحكيم تبدو أكثر إثارة إذا درسنا ثورة 1919 , وأن رواية ” الأرض ” للشرقاوي تكون أكثر وضوحا إذا رجعنا لفترة ما بين الحربين ، ولعهود الحزبية المتطاحنة ، ورواية ” في بيتنا رجل ” لإحسان عبدالقدوس تنكشف إذا عرفنا حالة القلق والتحرر قبيل ثورة 1952 ، وهكـذا .

على أن المقياس التاريخي والاجتماعي في تقويم الأعمال الأدبية هو خطوة نحو إنارته , وإن كان ليس مقياسا كافيا ، ولكنه عامل مفيد للنقد ، إذا استخدم كوسيلة أو كعنصر للتقويم .

فليس بين نقادنا اختلاف ، فالفريق الأول الذي يلتزم الفنية , و الفريق الثاني الذي يضم إلى الفنية قيمة المحتوى ، ينتفع كل منهما بالآخر ، ويمكن تقاربهما إذا قدرنا أن أعمالنا الأدبية يجب أن ينظر إليها نظرة فنية في ضوء الأيديولوجية الجديدة التي تعتنقها ، وفي ضوء التقدّم الذي نصبوا إليه .

على أنه لا يجوز لنا أن نجري وراء مدرسة ولا مذهب شرقي أو غربي ، بل يمكننا أن ننتفع بجميع المذاهب لإبداع نقد مستقل أصيل .

إن النقد الأدبي هو فن شخصي ، فن يعتمد على الثقافة والبصيرة النفاذة , وعلى النزاهة ، وعلى الذكاء الحاد ، أكثر مما يعتمد على المذهبية ، وإن النقاد البصراء هم قلة موهوبة ، تعلو موهبتهم إلى درجة النبوغ بل العقربية ، وإن هؤلاء الموهوبين قد يصلون إلى حكم أكثر نفاذا وحكمة من الذين يسبحون بالقواعد والأصول الفنية , ومن الذين يضعون المضمون في القمة ، وليست الأصول ولا قيم المضامين بأكثر أهمية للناقد من الموهبة , والفطنة , والنزاهة ، فإذا ثارت مناوشة بين أصحاب المذاهب ، فإنما هي مناوشة لن تفيد النقد كثيرا ولا قليلا ، إنما يجني النقد والأدب – على سواء – ثمرات نافعة إذا عَمـِلَ النقاد – مدرّسيين وأحرارا ً- في الحقل الأدبي في محبة وتسامح وتواضع على خير الأدب ، وإعلاء شأن الموهوبين من الأدباء : شعراء ، أو قصاصين ، أو مسرحيين ، أو روائيين , أو مؤلفين ، فإنه ليؤلمني ويشجيني أن أسمع أن النقد في أزمة ، وأن أدبنا العربي يشكو اليتم ، وإنه لا يجد أقلاما ناقدة صادقة ترعاه وتضعه حيث ينبغي أن يوضع ، أو توجـّهه في لباقة وكياسة ومودة إلى الجادة القويمة .

مناهج النقد:

1- منهج النقد السائد في الآداب العربية القديمة هو ” المنهج الفقهي أو اللغوي ” الذي يعتمد على تحليل النص ودراسته ، من حيث البلاغة ، وقواعد العربية ، والنحو والصرف ، واللغة والعـَروض ، وبيان ما بين معناه ومعاني السابقين والمعاصرين من تشابه أو احتذاء .. وتقسيم النص إلى جمل أو أبيات ، والتحدث عن كل جملة أو بيت على أنه وحدة فنية مستقلة بذاتها ، وقد سار على ذلك ابن سلام ، والجاحظ ، وابن قتيبة ، والمبرد ، وابن المعتز ، والآمدي ، والجرجاني .. ولكن قـُدامة بن جعفر يسير في تحديد النقد على التحدث عن عناصر الأدب عنصرا عنصرا , من معنى ولفظ وسواهما ، ويشرح أسباب الجودة أو القـُبْح في كل ، مع القرب من المذهب الفقهي في النقد ، ويحتذيه في ذلك أبو هلال وابن رشيق .. أما عبدالقاهر الجرجاني فقد نحا في النقد مَنـْحَى التحليل الأدبي القريب من المنج الفقهي ، وتحدث عن صلة البلاغة بالنفس والعاطفة والخيال حديثا قويا مستفيضا .

ولا تزال هذه الاتجاهات القديمة هي أظهر ما يغلب على أدبائنا اليوم ، ويتسم أغلب النقد المعاصر بسماتها .. وهي تغفل التجربة الشعرية والصياغة الفنية والقيم الشعرية والأثر الأدبي جملة وصلته بصاحبه ومدى توفيقه في أداء المشاعر الخفية والعواطف الدقيقة .. ولا تزال آراء نقادنا القدامى والمعاصرين غامضة مجملة ولا يزال الاختلاف بينهما كبيرا والحكم الأدبي متفاوتا ، لأنها آراء لا تقوم على قواعد محدّدة .. ومن ثم فإن هذا المذهب الفقهي الواضح في النقد العربي عجز , ولا يزال عاجزا عن الوفاء بحق الثقافة الأدبية العالية ، وإنارة السبيل أمام دارسي الأدب ونقـّاده .

2- وقد ساد في أوربا منهج جديد في النقد ، سماه أنصاره ” المذهب الفني ” وعماده الحكم على النص الأدبي من حيث روحه وموسيقاه وأصالته وعناصره وصدقه وتجربته الشعرية .

وقد دعا إلى هذا المذهب الفني في النقد واحتذاه جماعة من المجدّدين في أدبنا المعاصر ، ومن أوائلهم : شكري ، ومطران , وأبو شادي ، وقد حكم العقاد والمازني على شعر شوقي وحافظ متأثرين به ، كما حكم السحرتي على مطران والشابي على ضوئه .

وهو منهج أصيل لا نجد له أثرا في نقدنا العربي القديم إلاّ في ومضات قليلة , نلمسها عند القاضي الجرجاني ، وعبدالقاهر .

وقد رأى سيـّد قطب في كتابه ” النقد الأدبي ” أن هذا المنهج الفني هو الذي ساد الآداب العربية القديمة ، وهو رأي لا يعتمد على فهم عميق لروح النقد الأدبي في لغتنا العربية ، كما رأى أن مذاهب النقد ثلاثة : المنهج الفني , والمنهج التاريخي ، والمنهج النفسي , وهذا خلاف تقسيمنا الذي نسير عليه ، والذي فصّل الكلام فيه السحرتي الناقد المشهور في كتابه ” الشعر المعاصر على ضوء النقد الحديث ” .. ويرى سيد قطب أن المنهج الكامل في النقد هو اجتماع هذه المناهج الثلاثة التي عدَّدَها في منهج واحد سماه المنهج التكاملي .

هذا ويرى مندور أن مناهج النقد هي : المنهج التأثري – والموضوعي – والاعتقادي – والعلمي – والتاريخي – واللغوي .

3- وسادت نزعة جديدة في النقد سـُمّيت : ” النزعة الواقعية ، أو المنهج الواقعي ” ، وأساس هذه النزعة هو النظر إلى موضوع الأثر الأدبي ، فإن كان بينه وبين الحياة والمجتمع صلة فهو أثر أدبي قيـّم تجب العناية به والإشادة بمنزلته ، وإن كان لا يعالج شأنا ً من شئون الحياة والمجتمع والناس فهو أثر أدبي يجب أن يموت وأن يختفي .. فإن عالج الأدب الموضوعات الإنسانية العالية الخالدة كان أقرب إلى الخلود الأدبي ، وسنتحدّث عن هذا المذهب بتفصيل فيما بعد .

وحول هذا المذهب الواقعي يدور ” مندور ” ، وكذلك ” هيكل ” في تعريف الأدب بأنه فن جميل غايته تبليغ الناس رسالة ما فى الحياة من حقّ وجمال .

وأرى أن الجمع بين المناهج الثلاثة ” الفقهي ، والفني ، والواقعي ” في النقد يؤدي بنا إلى أحكام أصدق وآراء أشمل في الحكم على الأدب والشعر والآثار والنصوص المختلفة ، وفهم الخصائص والمميزات والسمات لكل أديب وشاعر ، والعوامل المؤثرة في الأدب ، وصلة القديم بالحديث ، والحديث بالقديم ، وبذلك ننتقل إلى مرحلة جديدة في النقد ، قد تصل بنا إلى ” النضـج الفنـّي الكامـل ” وإلى نهضة أدبية شاملة , وإلى ازدهار في نقدنا المعاصر


شكرا كتير عن الموضوع يسلموووووووووو

طرح هادف وتحليل قيّم

بارك الله فيك فما أحوجنا لمثل هذه المواضيع الراقية

ننتظر جديد مساهماتك


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

: امتحان مقياس المعجمية السنة الثانية


امتحان مقياس المعجمية

السداسي الثاني

السنة الثانية

جامعة الجلفة

حلل وفق منهجية تحليل النصوص مايلي ودعم رأيك بشواهد بناءا على ما درسته :

احتل المعجم مكانة سامية عند جميع الأمم التي تحافظ على لغتها وتراثها ، فهو ديوان اللغة ، وعنه يأخذون ألفاظها ويكشفون غوامضها ، ولذا لا يكاد فرد من أفراد الأمة ممن لديه قسط من العلم يستغني عن الرجوع إلى المعجم .

وقد أصبح علم المعاجم علما واسعا ذا جوانب عديدة ، و أصبح له نظريات تتناول أسس صناعته ، و أصبحت الدراسات المعجمية تحتل حيزا كبيرا من الدراسات اللغوية الحديثة ، و لم يقتصر هذا العلم على صناعة المعجم كما كان يغلب على الجهود السابقة ، بل أصبحت هذه الصناعة تخضع لقواعد و أسس دقيقة ، وصارت توازن بمعايير ثابتة تدل على نضج هذا العلم ، و مما أسهم في نضجه تلاقح الدراسات حول هذا الفن لدى العديد من الشعوب بلغاتهم المختلفة ، فقد كانت صناعة المعجم عند العلماء العربية نابعة من التراث العربي دون غيره ، ولذا عدّ إبداعا من إبداعات علماء العربية ، أما في عصرنا الحاضر فقد أصبحت صناعة المعجم عالمية أسهم في تطويرها لغويون من بلاد شتّى ولغات مختلفة .
و تطور هذه الصناعة في العصر الحاضر لا ينفي ما تميز به العرب في هذا الميدان و سبقهم الأمم الأخرى ، فقد فاقوا غيرهم في صناعة المعجم ، و تعدّدت طرفة لديهم ، و اختلفت أنواعه اختلافا اثري الدراسات حوله حتى أقرّ بتفوقهم غيرهم من العلماء اللغات الأخرى ، فهذا المستشرق الألماني أوجست فيشر يقول مبرزا تفوق العرب : ” و إذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته ، و بشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها ، بحسب أصول و قواعد غير العرب .” و قال هايوود ” : إن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز ، سواء في الزمان أو المكان ، بالنسبة للعالم القديم أو الحديث ، و بالنسبة للشرق أو الغرب .”





التصنيفات
لغــة وأدب عربي

من لسانيات الجملةالى لسانيات النص


ـ الوظيفة التعبيرية f.expressive‏
ـ الوظيفة الانتباهية f.phatique‏
ـ الوظيفة الإفهامية f.conative‏
ـ الوظيفة ما وراء لغوية‏
f.****- linguistique‏
ـ الوظيفة الشعرية f.poetique‏
وتعد هذه الوظيفة (الشعرية) هي الوظيفة الأساسية في الخطاب الأدبي، ولذلك يمكننا القول بأن تعريف النص الأدبي عند جاكبسون لـه علاقة وثيقة بمفهوم الوظيفة الأساسية في النص؛ غير أن هذا لا يعني أن باقي الوظائف لا تؤدي دورها؟.. وإنما تتعالق وتتعاضد على أداء دورها بما يخدم الوظيفة الشعرية.‏
لقد ((ميز جاكبسون بين العناصر اللغوية التي لها مدلول ثابت والعناصر التي لا يمكن أن تدل إلا بالإحالة إلى حال الخطاب وذلك مثل الضمائر وأسماء الإشارة الموصولة والظروف….))(49).‏
أما رولان بارت r.barthes فقد عد النص نسيجاً وحجاباً جاهزاً يكمن وراءه المعنى/الحقيقة مختفياً يقول: ((فإننا سنشدد داخل النسيج على الفكرة التوليدية القائلة إن النص يتكون ويصنع نفسه من خلال تشابك مستمر، ولو أحببنا عمليات استحداث الألفاظ لا استطعنا أن نصف نظرية النص بكونها علم نسيج العنكبوت وشبكته))(50). فلما شبه بارت، النص بالنسيج الذي منه يحصل حجاب جاهز ولباس نلبسه ويسترنا ونتخفى فيه ويصبح جزء من شخصيتنا يكون في رأيي قد أصاب الحقيقة؛ لأن النص هو أيضاً منتوج لعملية التشابك المستمر والانسجام والتماسك التي يقيمها الناص/ الكاتب للمكلمات والجمل والمعاني التي تعطينا في النهاية ـ نصاً، كما تعطي العنكبوت شبكة من ذاتها فالناص يعادل أو يوازي العنكبوت في هذا التعريف ـ والشبكة توازي أو تعادل شبكة الكلمات والجمل والمعاني التي تؤلف النص، ولكأني “برولان بارت” يعد النص إنتاجية productivite شأنه شأن ما ذهبت إليه “جوليا كريستيفا” كما رأينا سابقاً يقول: ((النص نشاط وإنتاج… النص قوة متحولة، تتجاوز جميع الأجناس والمراتب المتعارف عليها، لتصبح واقعاً نقيضاً يقاوم الحدود وقواعد المعقول والمفهوم. إن النص ـ وهو يتكون من نقول منتظمة وإشارات وأصداء لغات وثقافات عديدة ـ تكتمل فيه خريطة التعدد الدلالي. إن النص مفتوح، ينتجه القارئ في عملية مشتركة لا مجرد استهلاك. هذه لمشاركة لا تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة؛ وإنما تعني اندماجهما في عملية دلالية واحدة فممارسة القراءة إسهام في التأليف))(51).‏
لقد وسع بارت مفهوم النص؛ فهو عنده، نشاط وإنتاج وهو بهذا النشاط والإنتاج يصير قوة متحولة، ثم هو ملتقى للمعارف واللغات والثقافات أساسه النقول المختلفة، إنه يتناص مع غيره من النصوص السابقة ويؤسس لتناص آخر مع النصوص التالية لـه ثم إن النص يتعدى كتابته إلى القارئ الذي يشارك في عملية إنتاجه ويتجاوز القراءة الاستهلاكية إلى القراءة المنتجة التي تساهم في التأليف والبناء.‏
ويقدم لنا الدكتور محمد مفتاح مجموعة من التعريفات المتعلقة بالنص:‏
فهو: مدونة كلامية يتألف من الكلام لا من أشياء أخرى غير الكلام.‏
وهو: حدث: بمعنى أنه يقع في زمان ومكان محددين لا يعيد نفسه مثله مثل الحدث التاريخي.‏
وتواصلي: بمعنى أنه يهدف إلى إيصال معلومات ونقل خبرات وتجارب مختلفة إلى المتلقي.‏
وتفاعلي: أي أنه يؤدي وظيفة تفاعلية ويقيم علاقات بين أفراد المجتمع ويحافظ على ذلك.‏
ومغلق: أي أن لـه نقطة بداية ونقطة نهاية.‏
وتوالدي: أي أنه سلسل أحداث تاريخية ونفسانية ولغوية وتنبثق منه أحداث لغوية أخرى لاحقة له(52).‏
إن كل تعريف من هذه التعريفات يعكس وجهة نظر خاصة بمعرفة وبالمرجعيات الفكرية والتراكمات المعرفية التي ينطلق منها والخصوصيات الاجتماعية والنفسية والحضارية التي تميزه عن غيره؛ فهناك التعريف البنوي والتعريف الخاص باجتماعية الأدب والتعريف الذي يركز على الجانب النفساني في الأدب والتعريف الخاص باتجاه تحليل الخطاب. ومن هذا كله خلص الدكتور محمد مفتاح إلى تركيب التعريف الآتي: ((النص، إذاً، مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة))(53) فالملاحظ أن هذا التعريف قد حاول الإحاطة بكل الجوانب المتعلقة بالنص: الاجتماعية والتاريخية والنفسانية واللسانية، ثم إنه أعد النص مدونة حدث كلامي؛ أي أنه يتعلق بالكتابة؛ فهو ما نكتبه. وقد اعتمد محمد مفتاح على: “جيليون براون g.braown” و”جورج يول g.yule” فلهما كتاب مهم هو: ((تحليل الخطاب)) الصادر سنة 1983 عن مطبوعات جامعة كمبريدج، وهو يعد نقلة نوعية في ميدان تحليل الخطاب بما احتواه من اقتراحات ومناقشات لوجهات نظر عديدة تنتمي إلى تخصصات متنوعة لها اهتمام هي ـ الأخرى ـ بتحليل الخطاب. فأهم ما ميز رأي “يول وبراون” هو اختزالهما لوظائف اللغة إلى وظيفتين اثنتين تحقيقاً للجدوى التحليلية وهما:‏
ـ الوظيفة النقلية أو التعاملية؛ وتقوم بنقل الأفكار والمعلومات مابين الأفراد والجماعات وهي بذلك تساهم في تطوير الثقافات ((إن تعليق قيمة الاستعمال اللغوي بمدى قدرته على نقل المعلومات مترسخ جيداً في إرثنا الثقافي. فكلنا يؤمن بأن تلك الوظيفة هي ميزة اللغة التي مكنت بني الإنسان من تطوير ثقافات متنوعة، لكل منها تقاليدها الاجتماعية وممارساتها وطقوسها الدينية وأعرافها وإبداعاتها الشفوية وقوانين معاملاتها المختلفة، وما إلى ذلك))(53).‏
ـ والوظيفة الثانية:هي الوظيفة التفاعلية(55)؛ أي قيام شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات؛ أي هناك هدف إلى تأسيس وتعزيز العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها، وهذا النقل والتفاعل لا يتم إلا من خلال الكتابة؛ كتابة النصوص وقراءتها؛ يقول براون ويول: ((…… بل إننا نؤمن أكثر من ذلك بأن اكتساب اللغة المكتوبة هو الذي مكن من ظهور الفلسفة والعلم والأدب في بعض من هذه الثقافات، كما أننا نؤمن جميعاً بأن هذا التطور الذي لم يكن ليتحقق لولا القدرة على نقل المعلومات بواسطة اللغة، تلك القدرة التي سنحت للإنسان بأن يستفيد من تجربة السابقين، ومن تجربة أناس آخرين ينتمون إلى ثقافات أخرى))(56). وعلى هذا فإن الكتابة هي الصفة الأساسية المميزة للنص عن الخطاب بالرغم من أن السرديين أمثال: “جينيت g.genette” و”تودوروف t.todorov” و”فاينريش weinrich” وغيرهم لا يفرقون بين الخطاب وبين النص ويستعملونها بالمعنى نفسه.‏
فـ”شلوميت shlomete”: ((تستعمل النص بمعنى، الخطاب الشفوي أو الكتابي أو بمعنى آخر هو ما نقرأ))(57).‏
فنلاحظها قد استعملت النص والخطاب بمعنى واحد وأعطت فضاء واسعاً للنص ليشمل الخطاب؛ بمعنى أن الخطاب نشاط تبليغي شفوي ولكنه يتحول إلى كتابة فيصير نصاً.‏
أما “فان ديك vandjik” فيفترض أن أي تحديد للنص يقتضي الانطلاق من نظرية أدبية محددة، ويقول في مادة نص في معجم الآداب: ((إن الخطاب هو في آن واحد فعل الإنتاج اللفظي ونتيجته الملموسة والمسموعة والمرئية بينما النص هو مجموعة البنيات النسقية التي تتضمن الخطاب وتستوعبه وبتعبير آخر، إن الخطاب هو الموضوع المجسد أمامنا كفعل أما النص فهو الموضوع المجرد والمفترض؛ إنه نتاج لغتنا العلمية))(58).‏
إن النظرية اللسانية ـ في نظر فان ديك ـ تعد الجملة وحدة لغوية قابلة للوصف ووصف الجملة يصدق هو بدوره على وصف الجملة المركبة وكذلك على متتاليات الجمل وعليه فإن الفرق بين الجملة والجملة المركبة ومتتاليات الجمل فرق نسقي، ولذلك دعا “فان ديك” إلى إعادة بناء الأقوال ليس على شكل جمل وإنما على شكل وحدة أكبر وهي النص ويعني به البناء النظري التحتي المجرد لما يسمى عادة خطاباً(59).‏
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها “فان ديك” وغيره من الدارسين في هذا الميدان فإن “هاليداي halliday” قد اكتسب شهرة كبيرة فهو أحد تلامذة “فيرت firth” وتعد أعماله امتداداً لأعمال أستاذه حتى أطلق عليه اسم “الفيرثية الجديدة”؛ فقد وجه “فيرت firth” نقداً شديداً للذين اهتموا بدراسة التركيب الداخلي للغة مهملين الجانب الاستعمالي لها في إطار المجتمع ومايمكن أن يفرضه من ضوابط وأعراف وأوضاع على مستعملي اللغة تحكم استعمالاتهم وتوجههم إلى اختيار السياقات المناسبة لتلك الاستعمالات، وقد انتهى “فيرت firth” إلى أن تحدي المعنى يكون بـ:‏
1 ـ تحليل السياق صوتياً وصرفياً ونحوياً ومعجمياً.‏
2 ـ بيان شخصية المتكلم والمخاطب والظروف المحيطة بكلامهما.‏
3 ـ بيان نوع الوظيفة الكلامية لكل منهما.‏
4 ـ بيان الأثر الذي يتركه الكلام المتبادل بينهما فيهما معاً أو في أحدهما(60).‏
بدأ “هاليداي” بالتركيز على أن اللغة ظاهرة اجتماعية وبالتأكيد على وجود أنظمة متعددة للتعبير عن المعاني في مختلف الثقافات مثلاً: الموسيقى والرسم والنحت….الخ.‏
ولذلك يرى أن اتجاهه يتمثل في دراسة اللغة في علاقاتها بالبنيات الاجتماعية المختلفة، وهو العامل الذي كان مفقوداً في الدراسات السابقة، ولذلك فهو لا يلغيها بل يضيف إليها بعداً جديداً، وفي رأيه ((أن فهم اللغة كنظام يستوجب فهم الكيفية التي تعمل بها النصوص، ويعني ذلك ـ باختصار ـ انتقال “هاليداي ـ من الاهتمام بمستوى الجملة ـ كما كان شأنه في السابق ـ إلى الاهتمام بمستوى النص))(61).‏
كما أعد هاليداي “مصطلح السياق cotexte” ومصطلح النص وجهين متداخلين كوجهي العملة الواحدة؛ فالنص هو النص الظاهر المكتوب والسياق هو النص الخفي المصاحب للنص الظاهر ويتمثل ذلك في الأحوال والظروف المحيطة بإنتاج النص.‏
ثم يذهب إلى تعريف النص بأنه ((هو اللغة التي تخدم غرضاً وظيفياً؛ أي هو اللغة التي تخدم غرضاً في إطار سياق ما، وقد يكون النص منطوقاً أو مكتوباً))(62).‏
وبالرغم من كون النص نظاماً يبدو في شكل كلمات وجمل فإنه في حقيقة أمره نظاماً من المعاني، ينظر إلى النص على أنه عملية تفاعل وتبادل للمعاني بين المتعاملين باللغة في الواقع الاجتماعي(63). ومن خلال كل هذا يتحدث “هاليداي” عن الوظائف التالية:‏
ـ الوظيفة التجريبية: وتبرز في مستوى الاستعمال وتتألف من بعدين: بعد تجريبي يتعلق بتمثيل التجربة التي يعيشها المتكلم في سياق ثقافي واجتماعي، وبعد منطقي يتم من خلاله التعبير عن العلاقات المنطقية المجردة التي تشتق التجربة منها ضمنياً.‏
ـ الوظيفة التواصلية: وتتعلق بالبعد الاجتماعي للمتخاطبين وفيها يتم تحديد زاوية المتكلم ووضعه وأحكامه وتشفيره لدور علاقته في المقام وحوافز قوله لشيء ما في علاقته مع مخاطبه.‏
ـ الوظيفة النصية: وتتضمن الأصول التي تتركب منها اللغة لإبداع النص(64). ثم يذهب “هاليداي” في كتابه “اللغة كسيميوطيقا اجتماعية” إلى ((أن النص شكل لساني للتفاعل الاجتماعي)) (65).‏
وهو ـ هنا ـ يراعي السياق الذي أحدث فيه النص وكذا علاقته بالأبعاد الاجتماعية اللسانية والثقافية والمعرفية.‏
ويمكن القول: إن النص يأخذ معناه من خلال السياق الذي يحيط به والمعرفة التي يتواجد داخلها، أو كما قال الأستاذ عبد الفتاح كيليطيو في كتابه: ((الأدب والغرابة)):‏
((… ما يلاحظ أن كلاماً ما لا يصير نصاً إلى داخل ثقافة خاصة. لأن الكلام الذي تعتبره ثقافة ما نصاً قد لا يعتبر نصاً من طرف ثقافة أخرى. بل هذا ما يحدث في الغالب))(66).‏
معنى هذا أن الثقافة تلعب دوراً بالغ الأهمية في تمييز النصوص فقد تجعل كتابة ما نصاً وقد تجعل كتابة أخرى لا ترتقي إلى مرتبة النص.‏
وإذا كان “هاليداي” قد رأى النص هو اللغة التي تخدم غرضاً وظيفياً كما رأينا سابقاً فإن “دوبو غراند r.a.de beaugrand” قد رأى أن الفرق بين ماهو نص وماهو غير نص يكمن في البعد الاتصالي وحده(67). وهذا يعني أن كل وحدة لغوية أدت غرضاً تواصلياً فهي نص وكل ما عدا ذلك ليس نصاً، ولهذا اتجه “دوبوغراند” مباشرة إلى تحليل النصوص لأنها تشتمل على مستويات لغوية مختلفة فالنص ((استراتيجية اتصالية شاملة تمتد خارج المجال اللساني ولذلك فهي تقوم على نحو من نوع آخر يعرف بنحو التراكيب الكبرى ـ macro structures وهو يختلف على نحو التراكيب الصغرى micro structures)) (68).‏
قدم دوبوغراند عدة ملاحظات منها: أن اللسانيات الحديثة في نظره، اهتمت بمستوى الجملة وما دونها واعتبرت المستويات التي تتجاوز مستوى الجملة مجالاً من مجالات علم الأسلوب الذي اهتم فيه الأدباء بكيفية بناء النصوص وتأثير الأدباء على العصور، وأن الاهتمام الأساسي بدراسة النص بدأ في مرحلة لاحقة مع تطبيق المناهج اللسانية على الدراسات الأدبية كما كان الحال مع “سبيتزر” و”جاكسون” و”فنديك”.‏
وبناء على ذلك فإن علم النص ـ في نظره ـ قد تجاوز سائر تلك الدراسات التي اقتصرت على وصف التراكيب اللغوية وحدها ولم تهتم بكيفية بناء النصوص وأغراض استخدامها(69) وبذلك حدث تحول في الدراسات اللغوية المعاصرة بتجاوز دراسة الجمل المنعزلة إلى دراسة النصوص المعبرة عن اللغة في حالات استعمالها في مواقف تواصلية محددة مما أوجب دراسة العمليات التي يتم بواسطتها توظيف اللغة باعتبارها وسيلة تواصلية أساسية وتوسيع دائرة الاهتمام إلى علوم أخرى كعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس وحتى الحاسوب والسميولوجيا بل إنه ذهب إلى أن علم النص ـ من هذه الزاوية ـ يبدو أنه المجال القولي للسيميولوجيا(70).‏
إن أهم المفاهيم التي جاء بها “دوبوغراند وزميله دريسلار w.dresslar” هو مفهوم النصانية textualite(71)؛ فقد رأيا أن محاولات “هاريس” والتحويليين في إيجاد قواعد لإنشاء النصوص آلت جميعها إلى الفشل؛ لأنها لم تستطع أن تحدد موقفاً واضحاً من النصوص غير النحوية ومن اختلاف الأساليب في داخل النصوص. لذلك اقترحا بعض المبادئ العامة التي تصلح أساساً للنصانية دون أن تكتسب هذه المبادئ صفة القوانين الصارمة؛ أي هي مجرد مؤشرات مهمة في إنشاء النصوص، وهذه المبادئ هي:‏
1 ـ التناسق cohesion: والمقصود به الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار في بنية النص الظاهرة، أو بصورة مبسطة يقصد به التشكيل النحوي للجمل والعبارات وما يتعلق بها من حذف وإضافة وغير ذلك…. ويتعلق كل هذا بالنص ذاته.‏
2 ـ الترابط الفكري coherence: ويعني الطريقة التي يتم بها ربط الأفكار داخل النص، ويعني ذلك وجود منطق للأفكار مبني على الخبرة وما يتوقعه الناس من النصوص في هذا المجال ويتعلق هذا العنصر أيضاً بالنص في حد ذاته.‏
3 ـ القصد intentionalite: ويعني أن النص ليس بنية عشوائية وإنما هو عمل مقصود به أن يكون متناسقاً ومترابطاً من أجل تحقيق هدف محدد، وبمعنى آخر هو عمل مخطط، لـه غاية يود بلوغها، وبالطبع فقد لا يستطيع منشئ النص أن يفي بتحقيق هذا العنصر النصاني…. ويتعلق هذا العنصر بمستعملي النص.‏
4 ـ المقامية situtionalite(72): يتعلق هذا العنصر بالسياق الثقافي والاجتماعي للنص ويعني أن يكون النص موجهاً للتلاؤم مع حالة أو مقام معين بغرض كشفه أو تغييره، وقد يكون الموقف الذي يحمله النص مباشراً يمكن إدراكه بسهولة أو غير مباشر ويمكن استنتاجه ويفترض هذا العنصر وجود مرسل ومرسل إليه.‏
5 ـ التناص intertextualite: يتعلق هذا العنصر كسابقة بالسياق الثقافي والاجتماعي فيرى “دوبوغران ودريسلار” أن عنصر التناص هو أهم العناصر المحققة للنصانية، فالنصوص في رأيهما، تكتب في إطار خبرة سابقة وبالرغم من أن مفهوم التناص يثير كثيراً من الإشكالات لأن بعض الدارسين المحدثين والمبدعين قد حرفوه عن معناه الصحيح، فإن المقصود به ليس أن تمثل النصوص إعادات لبعضها؛ وإنما المقصود به أن النصوص السابقة تشكل خبرة لتكوين النصوص اللاحقة والكشف عنها، وتؤسس النصوص اللاحقة ـ هي بدورها ـ لنصوص أخرى تأتي بعدها.‏
6 ـ الإخبارية informativite: يعد الجانب الإعلامي أو الإخباري عنصراً مهماً من عناصر النص، وتختلف درجة الإخبار بين النصوص بحسب نوعية كل نص، والمؤكد أن كل نص: يحمل قدراً من المعلومات الإخبارية.‏
7 ـ الاستحسان acceptabilite: (73) ويقصد به مدى استجابة القارئ للنص وقبوله له.‏
وبالرغم من أهمية هذه العناصر، يرى “دوبوغراند ودريسلار” أن طريقة تصميم النص إنما تعتمد على ظروف الواقع.‏
وبهذا فقد حاولا الإحاطة بالنص وبمستعمليه وبالسياق الاجتماعي ـ الثقافي الذي أنتج فيه النص، وعلى هذا فإن علم النص يعمل على إيجاد نوع من التوازن بين العناصر النحوية في اللغة والعناصر غير النحوية التي لها دخل بإنتاج النصوص من حيث هي وحدات تواصلية وهذا ماتم إبعاده من الدراسة في لسانيات الجملة.‏
إن هذه العناصر أو المبادئ التي أشار إليها كل من “دوبوغراند ودريسلار” في كتابهما: ((مقدمة للنصوص اللغوية)) تتقاطع بشكل أو بآخر مع ما ذهب إليه “جون ميشال آدام j.m.adam”(75) فقد بدأ بمحاولة تحديد مفهوم للنص مؤكداً على حتمية تجاوز الجملة التي لا تمثل ـ في رأيه ـ ا لوحدة الأساسية للتبادلات الكلامية والخطابية وإنما النص هو وحدة التبليغ والتبادل، ولذلك ينبغي الاهتمام بالنسيج النصي ومستوياته التي يحدثها المتكلمون أثناء ممارستهم اللغوية.‏
وما نلاحظه هنا أن “جون ميشال آدام” يسوي بين مستويين من اللغة هما: اللغة المنطوقة التي تتجلى في التواصل والممارسة الكلامية بين الأفراد واللغة المكتوبة التي تظهر في النصوص ويوسع “آدام” مجال اهتمامه إلى الاستعانة بعلوم أخرى مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس الإدراكي وأثنوغرافيا التبليغ والفلسفة… في دراسة السلوك الإنساني في المجال الرمزي وبخاصة الرمز اللغوي منه المتميز بطابع النصية، أو النصانية. ثم إن النصوص لكي يتم تداولها في المجتمع تحتاج أن يتوفر للمتكلمين ملكة نصية competence textuelle تمكنهم من فهم محتويات النص وإدراك أحداثه وتعينهم على إنتاجها.‏
لقد وسع “آدام” بهذا الطرح دائرة الملكة اللغوية competence linguistique لتشمل القدرات التبليغية les capacites communicatives التي تحقق التفاعل بين المتخاطبين وقد سبق أن لاحظنا هذا مع علماء اللسانيات الاجتماعية وبخاصة مع “ديل هايمس وفيرث وهاليداي”.‏
إن الملكة النصية عند “آدام” تنقسم إلى:‏
ـ ملكة نصية عامة: تمكن الفرد من إدراك نصوص متسقة ومترابطة وإنتاجها أيضاً.‏
ـ ملكة نصية خاصة: تمكن الفرد من إدراك مقاطع نصية معينة محددة: سردية أو وصفية أو برهانية حجاجية…. أو إنتاج مقاطع نصية أخرى على منوالها.‏
وقد خلص “جون ميشال آدام” انطلاقاً من كل هذا إلى أن ((النص منتوج مترابط وليس تتابعاً عشوائياً لألفاظ وجمل وقضايا وأفعال كلامية))(67).‏
4 ـ خلاصة:‏
نخلص من كل ما سبق إلى:‏
1 ـ الجملة وحدة لغوية قابلة للوصف النحوي تحلل من زاوية واحدة وهي كونها تركيباً نحوياً مجرداً.‏
2 ـ الملفوظ هو أيضاً وحدة لغوية قابلة للوصف اللساني وهو تمثيل جزئي للتلفظ الذي هو الفعل الحيوي في إنتاج اللغة. معنى ذلك أن الملفوظ مكتوب وأن التلفظ منطوق إن جاز هذا التعريف.‏
3 ـ الخطاب وحدة جملية كبرى قابلة للوصف اللساني ينتجها مخاطب واحد أو عدة مخاطبين بغرض التواصل.‏
4 ـ مهما كان التداخل بين الجملة والملفوظ فإن الملفوظ يختلف عن الجملة من حيث كونه وحدة لغوية أكبر منها.‏
5 ـ يعادل الملفوظ ـ في بعض الحالات ـ الخطاب ويعادل الخطاب التلفظ وعليه يتعلق الخطاب بالجانب الشفوي والكتابي وبخاصة عند بعض علماء السرد.‏
6 ـ توجد فروق محسوسة بين النص والخطاب تتمثل في:‏
ـ يفترض الخطاب وجود المتلقي لحظة إحداث الخطاب بينما يتوجه النص إلى متلق مؤجل يتلقاه عن طريق عينة قراءة؛ أي أن الخطاب نشاط تواصلي يتأسس ـ أولاً ـ على اللغة المنطوقة بينما النص مدونة مكتوبة.‏
ـ الخطاب لا يتجاوز سامعه إلى غيره؛ أي أنه مرتبط بلحظة إحداثه بينما النص لـه ديمومة الكتابة يقرأ في كل زمان ومكان.‏
ـ الخطاب تحدثه اللغة الشفوية بينما النص تنتجه الكتابة؛ أو كما قال “روبار اسكاربيت r.escarpit”: اللغة الشفوية تنتج خطابات بينما الكتابة تنتج نصوصاً، وكل منهما محدد بمرجعية القنوات التي يستعملها؛ الخطاب محدود بالقناة النطقية أي المشافهة بين المتكلم والمخاطب وعليه فديمومته مرتبطة بها لا تتجاوزها؛ أما النص فإنه يستعمل نظاماً خطياً فديمومته رئيسية في الزمان والمكان.‏
7 ـ يوجد من يجعل النص استراتيجية تواصلية عامة شاملة لكل هذه المصطلحات؛ من ملفوظ وتلفظ وخطاب إلا الجملة؛ لأنها وحدة لغوية خاصة بالبحث اللساني الخالص.‏
لكن عندما نتأمل الشروط المكونة للجملة نجدها تتعلق بالفائدة؛ فلكي تكون الجملة جملة لابد أن يكون لها معنى مفيداً يفهمه السامع وذلك ما يدخلها هي أيضاً في إطار التواصل فتصير وحدة لغوية قابلة للوصف هدفها التواصل، وتدخل ـ بذلك ـ ضمن النص كاستراتيجية تواصلية شاملة صالحة للدراسة والتحليل.‏
ويرى “هيلمسلاف l.hilmsleff” ((أن النص ملفوظ مهما كان منطوقاً أم مكتوباً طويلاً أم قصيراً قديماً أم جديداً، فكلمة “قف” هي نص مثلها مثل رواية طويلة،…))(77).‏
8 ـ نحو النص مصطلح يقابل المصطلح الأجنبي gramaire de texte استعمله الباحثون النحاة بهدف الوصف والدراسة اللغوية للأبنية النصية وتوضيح صور ترابطها النصي وهو لا يختلف ـ في نظري ـ عن لسانيات النص linguistique textuelle سوى أن المصطلح الأول استعمله النحاة على غرار نحو الجملة لأنهم رأوها هي وحدة التحليل النحوي، والمصطلح الثاني استعمله اللسانيون على غرار لسانيات الجملة لأنهم رأوها هي وحدة التحليل اللساني.‏
والأمر نفسه بالنسبة لعلم لغة النص فهذا أيضاً استعمال خصوصاً عند المشارقة الذين يترجمون linguistique بعلم اللغة بدل اللسانيات.‏
9 ـ إذا كان نحو النص أو لسانيات النص يتعلق بنوع محدد من النصوص ومن التحليل فإن علم النص textologie استعمال يوسع من نطاق التحليل ولا يقتصر على نوع واحد من النصوص بل يشمل أنواعاً عديدة مثل الرواية والإعلان الإشهاري والمقال الصحفي والعلمي والفلم السينمائي وكل ما يرتبط بالثقافة المعاصرة وما ينتج عنها من نصوص.‏
المراجع:‏
1 ـ د./سعيد حسين بحيري. علم لغة النص. المفاهيم والاتجاهات. الشركة المصرية العالمية للنشر ط1/1997ص2.‏
2 ـ انظر المرجع نفسه ـ ص 1.‏
3 ـ د/مهدي المخزومي ـ في

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

المدارس اللسانية

أ‌أ أ- المقدمة

قبل أن نتحدث عن المدارس اللسانية، جدير بنا أن نعرف تعريف اللسانية نفسها، لكي لا نقع في الخطأ. فاللسانية عند أحمد محمد قدّور في الحديث عن تعريف اللسانية[1]: «العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية». وكلمة “علم” الواردة في هذا التعريف لها ضرورة قصوى لتمييز هذه الدراسة من غيرها، لأن أول ما يطلب في الدراسة العلمية هو اتباع طريقة منهجية والانطلاق من أسس موضوعية يمكن التحقق منها وإثباتها.

والعلم بحث موضوعة دراسة طائفة معينة من الظواهر لبيان حقيقتها وعناصرها ونشأتها وتطورها ووظائفها والعلاقات التي تربط بعضها ببعض، والتي تربطها بغيرها، وكشف القوانين الخاضعة لها في مختلف نواحيها.[2]

سنتناول في هذا البحث عن المدارس اللسانية. ونبدأ الحديث أولاّ عن المدارس اللسانيات العربية، ثم بعد ذلك عن المدارس اللسانية الغربية.

ب- المدارس اللسانية العربية

إن علماء العرب، مثل الجاحظ والجرجاني والسكاكي وابن خلدون هم الذين أسّسوا المدارس اللسانية العربية، وبإمكاننا أن نتحدث عنهم في هذا الحديث بداية من المدرسة البيانية مع الجاحظ ثم مدرسة النظم مع الجرجاني ثم المدرسة الشمولية مع السكاكي لنصل إلى المدرسة الارتقائية مع ابن خلدون.

1- المدرسة البيانية مع الجاحظ

كان من الأصح أن نقول المدرسة البيانية -التبيينية- حتى نلتزم بعبارة الجاحظ وبفكره كما كانا في عنوان كتابه المشهور «البيان والتبيين»، لأن إتباع التبيين للبيان الذي كان بالإمكان الاستغناء عنه في العنوان طلبا للاختصار دفع بالجاحظ إلى تجشم المسالك الوعرة لاستيعاب مدارك الكلام في جميع مضانها، لأن البيان إن كان يعبر بالخصوص عن هذه الظاهرة اللسانية الإنسانية التي تمثل الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لأنه كان ظلوما جهولا، وهي بالتالي ظاهرة غيبية بالدرجة الأولى، فإن التبيين موضوع من الجاحظ لوصف العلاقات اللسانية التي تجري في عالم الشهادة وتجمع بين المتكلم والمخاطب وتنقل البيان إلى بلاغة، والكلام إلى رسالة مع ما تتضمنه الرسالة من إلقاء وتلقي ورموز ومعاقد وحال ومقال ومقام كما تشرحه اليوم اللسانيات الحديثة.[3]

والتأمل في حقيقة الكلام وفي كيفية إنشائه وتطويره وعلاقته بالإنسان منذ بدء الخليقة إلى أن صار بلاغة في سياسة الكون والكلام. كل هذا ضمنها في كتابيه «البيان والتبيين» و«الحيوان»، وقد اعتمد في ذلك على ما جاء في القرآن خاصة مما جعله أول ممثل للمدارس الكلامية المستمدة من القرآن الكريم.[4]

بدأ الجاحظ بتلخيص أنواع الدلالات في خمسة لا تزيد ولا تنقص، هي: اللفظ ثم الإشارة ثم العقد ثم الخط ثم النصبة. وسر هذا التصنيف لا يزال لغزا، لكن يبدو أنه قائم على النظرة الارتقائية التي تتلخص في عبارة «العالم الصغير سليل العالم الكبير» الشهيرة عنده حيث ينحدر اللفظ من الإشارة، والإشارة من العقد، والعقد من الخط، والخط من النصبة.[5]

2- مدرسة النظم مع الجرجاني

النظم كما تصوره الجرجاني يعني كيفية تركيب الكلام انطلاقا من الجملة البسيطة ليصل إلى نظم القرآن في تراكيبه الصوتية والدلالية والنحوية والبلاغية والأسلوبية والغيبية الإعجازية. والنظم باختصار يعني تأليف الحروف والكلمات والجمل تأليفا خاصا يسمح للمتكلم والسامع أن يرتقيا بفضل بديع التركيب إلى مدارك الإعجاز في المعاني علما بأن المعاني تملأ الكون وتعمر الفضاء واختيار تركيب من التراكيب في النص كاختيار مسلك من المسالك في البر والبحر قد يؤدي بالسالك يعني المتكلم إما إلى الوصول إلى الغاية التي يقصدها في بر النجاة أو إلى الضلال والهلاك، والنظم كالبناء والنسج يتم في معاقد النسب والشبكة، فمعاقد النسب تبرم الخيوط التي تذهب طولا، ومعاقد الشبكة تبرم الخيوط التي تذهب عرضا، فإذا نسجت خيوط الطول في خيوط العرض حصل النظم.[6]

3- المدرسة الشمولية مع السكاكي

كتاب السكاكي «مفتاح العلوم في البلاغة»، كان له تأثير كبير على الأجيال التالية، فصارت آراؤه مرجعا للدارسين جعلته أكبر مدرسة لسانية في العربية، ولا يعرف الدارسون مدرسة مماثلة لها من حيث الاتساع والشمول في الثقافات الأخرى.

وقد صنف السكاكي العلوم اللسانية في شكل شجرة أصلها ثابت في قواعد اللغة وفروعها في السماء تشمل جميع أنواع الكلام.[7]

والتطور يشمل أولا فرعين: النحو والصرف، ثم يرتقي النحو والصرف إلى درجة البلاغة، فيخلف علم المعاني «النحو» وعلم البيان «الصرف»، ويخلف مقتضى الحال في البلاغة مقتضى الوضع في النحو بإدراج المنطق والاستدلال في العملية عملية التحويل كما يدرج مع مقتضى الحال مقتضى المقام ومقتضى المقال، ويرتقي من البلاغة إلى علوم الأسلوب في مستوى علم البديع، فيخلف البيان المحسنات اللفظية والمعاني المحسنات المعنوية، ولا يعرف العلماء عندنا حتى الآن أن انتقال السكاكي من البيان إلى المعانـي ليس شيئا آخر سوى انتقال من علم البلاغة إلى علم الأسلوب الذي أصبح علما قائما بذاته اليوم، وجعل الكثير من الأدباء واللسانيين لا يميزون بين الطائف الدقيقة في البلاغة والأسلوب، وجعلهم يعدون الوجوه البديعية زبدا رابيا يذهب جفاء ولا ينفع الناس. وقد ساهم بعض أصحاب البديع بتصنعهم وتكلفهم في تأكيد هذا الانطباع، وبعد البديع يرتقي الكلام إلى مرتبة الشعر مع العروض والقافية. فالعروض يخلف التراكيب النحوية والمعنوية، والقافية تخلف البيان، وعند اكتمال هذه الطبقات كلها ينتقل إلى الأدبية. ومفهوم الأدب يجمع بين القول والعمل يعني بين التربية [التأديب] والقول الحسن، وليس فوق الأدب إلاّ الإعجاز القرآنـي الذي ينقل القول والفعل الحسن إلى مدارك الغيب حيث يلتقي صواب القول بصواب العمل.

وهكذا يطمح السكاكي في مفتاحه إلى النفاذ إلى جميع العلوم اللسانية والغيبية.

4- المدرسة الارتقائية مع ابن خلدوت

إن النظرية الارتقائية مبنية على طبقات خمس متراصفة يعبر عنها ابن خلدون بالأطوار، ويقصد بالطور الفترة الزمنية التي ينتقل فيها الكائن لسانيا كان أو إنسانيا أو حيوانيا من صورته الأولى إلى صورة أخرى كما أن لو كان حقيقة أخرى وليست تطورا داخليا لحقيقة واحدة تنتقل من طور إلى طور حتى تنتهي إلى غايتها.[8]

والطور عند ابن خلدون هو الحال عند البلاغيين، وقد أخذوه عن المتصوفة ووظفها ابن خلدون لبناء نظرية التحصيل وهي تنص على أن المعنى ينشأ أول ما ينشأ عن الفعل، فإذا تكرر الفعل صار صفة، وإذا تكررت الصفة صارت حالا (أعني صفة غير ثابتة)، وإذا تكررت الحال صارت ملكة (أي مقاما كما يقول المتصوفة).[9]

والنظام الخماسي هذا يجري في تسلسل مطرد من أسفل إلى أعلى صعودا، ومن أعلى إلى أسفل نزولا في صورة هرمية أو في شكل شجرة أصلها ضيق وهو واسع، وفرعها واسع وهو ضيق دقيق، هذه الشجرة هي المنوال الذي رصت فيه جميع المعاني التي تعمر الكون كلمات كانت أم أشخاصا وأشياء.

وهي أعيان متفرقة، إذا جمعت ونظمت شكلت أكوانا متراصفة في منوال عمراني واحد، إذا ركبت في الأفعال كانت عمرانا فعليا، وإذا ركبت في أفكار وألفاظ لسانية كانت عمرانا فكريا وكلاميا. والذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذوات التي تجاورها من الأسفل والأعلى استعدادا طبيعيا كما في العناصر الجسمانية البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والروية.[10] وهذا لا يعني أكثر مما يعنيه مبدأ «العالم الصغير سليل العالم الكبير» الذي بنى عليه الجاحظ نظريته.

وهذا التطور الارتقاؤي إذا طبقناه على الكلام كان الارتقاء كالتالى،ففي الأسفل نجد الدلالات التي لا تتحدد أبعادها إلاّ إذا أدرجت في شبكة نحوية، والشبكة النحوية لا تظهر قيمتها الكلامية إلاّ إذا أدرجت في الطبقة التي فوقها طبقة البلاغة. والبلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ترتقي إلى طبقة الأسلوب التي تجمع العبارة البلاغية وتضيف إليها البديع أي إبداعات المتكلم، لأن الأسلوب هو العلامات الدالة على شخص المتكلم أو الصانع للعمران.[11]

وكيفية صنع التراكيب الكلامية ككيفية صنع التراكيب العمرانية تخضع للذكاء والحذق، ولذلك فكر ابن خلدون في الجمع بين التراكيب العمرانية والتراكيب اللسانية في علم واحد للتراكيب سماه فقه التراكيب.[12] ففقه التراكيب هو كل شيء في نظرية ابن خلدون. والتراكيب الارتقائية هي وحدها التي تمكن من الارتقاء إلى مدارك الأعجاز في القرآن الكريم بحيث يمكن القول أن التراكيب المعنوية تبدأ عند العناصر العليا المؤلفة لنظم القرآن الذي لا تدركه إلاّ خواص النفوس.

وهذه التراكيب أوسع من أن يحاط بها في قواعد معينة وهي التي يجب تعليمها للناشئة بالجمع فيها بين التراكيب اللسانية والتراكيب العملية كما تجري بالفعل في الواقع اليومي الميداني وفي العلاقات بين الأشخاص في الأحوال والمقامات التي يعيشون فيها، وهي خلاصة منوال ابن خلدون.

وفقه التراكيب يتلخص في نظر ابن خلدون في مفهوم الأسلوب، وهو أسمى ما توصل إليه التفكير الخلدوني في لسانيته الارتقائية.[13]

ج- المدارس اللسانية الغربية

لقد لاقت آراء سوسير[14] ونظرياته، في النصف الأول من القرن العشرين من النجاح قسطا عظيما، بين عدد كبير من الدارسين وكانت معينا لعدد من المدارس قامت على المبادئ النظرية التي أرسى سوسير قواعدها، والأسس المنهجية التي سطر معالمها ووضعها.[15] ومن تلك المدارس اللسانية الغربية، هي :

1- المدرسة البنيوية (structuralisme) مع سوسير

البنيوية مفهوم يطلق حسب الأشخاص والأحوال على مدارس لسانية مختلفة وهو يستعمل أحيانا لتعيين واحدة أو أكثر من المدارس أو لتعينها جميعا، لأن لها مجموعة من التصورات والمناهج التي يشملها مفهوم البنية في اللسانيات.[16]

فإذا أبعدنا في الوقت الحاضر البنيوية التحويلية (التابعة للنحو التوليدي)، فإن المدارس المختلفة التي تتمثل فيها هي التوزيعية والوظيفية والنسقية. وهي التي تتأسس عليها اللسانيات لدراسة العبارات المنجزة بالفعل. فاللسانيات تسعى هكذا إلى وضع نظرية لدراسة النص المنجز بعد إنهائه وغلق باب تراكيبه باستعمال منهج تحليلي (شكلي) يقوم على شكل النص (من صورته الخارجية)، و بهذا تطرح البنيوية أولا مبدأ الحضور والشهادة يعني الوجود في النص. فالعالم اللساني يقف عند حدود العبارة المنجزة بالفعل (في مدونة) محاولا تفسير البنية يعني هندسة العناصر الموجودة داخل النص وقيامها بذاتها.[17] وبالعكس فإن كل ما يمس بالتعبير (كيفية تحقيق العبارة) خاصة صاحب العبارة (وفاعلها) والحال التي أنجز فيها النص فتترك على جانب، لأنها تعتبر ثابتة وغير متبدلة، لكن يجب الإشارة إلى وجود خلافات جوهرية حول الموضوع، فمدرسة براغ وعلى رأسها ياكوبسن وبنفنيست تهتم بدراسة علاقة المتكلم بكلامه يعني وظيفة الكلام وكيفية التعبير عنها. أما أتباع دي سوسير (كشارل بالي خاصة) فيقترحون لسانيات تنطلق من اللفظ (يعني القول) وهي ذات أهمية وترفض اللسانيات التي تنظر إلى اللغة وحدها. وعكسها نجد بلومفيلد الذي يرى أنه يستحيل تحديد المعنى وعلاقة صاحب النص بالكون الواقعي، قائلا أن هناك عوامل كثيرة تتدخل في نسج العبارة مما يعجز على حصرها ويستحيل ضبط خصوصيتها ووصف العلامات البارزة التي لها دور في تأليف المقام. وهناك خاصية أخرى هامة للبنية هي التمييز بين معاقد الكلام فـي مختلف وجوهها وبين إنجازها أقوالا[18] ويترتب عن هذا أننا نستخلص من النص أو من النصوص المختلفة الناجمة عن ألفاظ القول نظاما للغة.

وهكذا يتعين علينا دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات عند مطابقتها لمقتضى الحال، وهي دراسة نيرية، لأن الدراسة الزمنية (التاريخية) تبدو متنافية مع دراسة اللغة كنظام.

2- المدرسة النسقية (glossématique) مع هلمسليف

العالم اللساني الدنمركي لويس هلمسليف[19] بكوبنهاجن هو الذي اخترع مفهوم غلوسيماتيك (glossématique) باشتقاقه من الإغريقية غلوسة يعني اللغة لتعيين النظرية المستخلصة من نظرية دي سوسير التي تجعل من اللغة غاية لذاتها لا وسيلة لتحقيق الغاية المقصودة بالكلام.[20]

والغلوسيماتيك تقوم على النقد الحاد للسانيات التي سبقتها وحادت في نظرها عن مجال اللغة بانتصابها خارج الشبكة اللغوية واهتمامها بالإجراءات (غير اللسانية) التي تهدف إلى معرفة مصادرها الأولى ما قبل التاريخ وجوانبها الفيزيائية والظواهر الاجتماعية والأدبية والفلسفية. والنسقية تنتصب على العكس من ذلك داخل اللغة فهي تصدر منها وإليها ولا تخرج عن دائرة اللغة المنظور إليها على أنها حقل مغلق على نفسه وبنية لذاتها وهي تبحث عن المعطيات الثابتة التي تعتمد على الظواهر غير اللسانية، وهي تسعى إلى إبراز كل ما هو مشترك بين جميع اللغات البشرية، وتكون اللغة بسببه هي مهما تبدل الزمن وتغيرت الأحداث. وهكذا تختلف الغلوسيماتك عن النظرة الإنسانية، فمظاهر اللغة لا تبصر إلاّ مرة واحدة ولا تتجدد مثل الظواهر الطبيعية بحيث يمكن دراستها دراسة علمية على العكس من هذه الظواهر اللسانية.[21]

وهكذا تضع الغلوسيماتيك نظرية تتسع إلى جميع العلوم الإنسانية، فكل إجراء عملي يقابله إجراء نظري، و الإجراء يمكن تحليله من خلال العناصر التي يشكلها بكيفيات مختلفة.

والنظرية هذه تهتم قبل كل شيء باللسانيات، فإذا ثبتت نجاعتها توسع بها إلى العلوم الإنسانية الأخرى، ولكي يمكن قبول نتائجها يجب أن تتفق والتجربة الفعلية، وقد أسسها هلمسليف على ما سماه مبدأl’empirisme التجربة الشاهدة[22]، ولكي تتصف بهذه الخاصية يجب أن تكون خالية من كل تناقض وأن تتصف بالشمولية وتكون بسيطة سهلة الإدراك ما أمكن. فالنظرية الاستقرائية التقليدية حسب هلمسليف تدعي الانطلاق من الجزء إلى الكل (من المعطيات الخاصة إلى العامة)، يعني القوانين المنطقية. وهي قبل كل شيء تلخيصية وتعميمية، وهي لا تستطيع تجاوز الظاهرة اللسانية الخاصة، فبعبارات مثل العامل والشرط والماضي والمفعول فيه والاسم والفعل والمبتدأ والخبر لا يمكنها أن تنطبق إلاّ في مجال الإعراب، ولا يمكن قبولها كأقسام لسانية فهي إذا تتناقض مع الوصف اللساني فالغلوسيماتيك تنطلق من النص الملفوظ المعبر أو من جميع العبارات الملفوظة المجعولة للتعبير. وهذا النص قابل للتقسيم إلى أنواع تكون بدورها قابلة للتقسيم إلى أصناف والصنف ينبغي أن لا يحمل تناقضا وأن يكون شاملا. فالأمر يتعلق بوصف المواد ذاتها ووصف العلاقات التي تجمع بينها والتي تسعى اللسانيات إلى وصف علاقاتها وتحديدها. فالموضوع الوحيد والحقيقي للسانيات هو اللغة [23] التي يوجه البحث منها وإليها، فبنية النص اللساني الشاهد في نظر هلمسليف هي الموضوع الوحيد للسانيات.

3- المدرسة الوظيفية (fonctionnelle)مع ياكوبسن[24] ومارتيني[25]

لا شك في أن الاتجاه الوظيفي بدأ يبرز إلى الوجود وتتكون ملامحه في حلقة [مدرسة] براغ [التشيكوسلوفاكية] التي استفادت من آراء دي سوسير بقدر ما استغلت منطلقاتها النظرية في أعمالها وكونت لنفسها نظرية لغوية.[26] على أنها لم تحدد منهجها إلاّ بالانطلاق من تحديد للغة باعتبارها نظاما وظيفيا يرمي إلى تمكين الإنسان من التعبير والتواصل.

فإذا كان دور اللغة هو توفير أسباب التواصل فإن دراسة اللغة ينبغي أن تراعي ذلك، فكل ما يضطلع بدور في التواصل ينتمي إلى اللغة وكل ما ليس له مثل هذا الدور فهو خارج عنها، وبعبارة أخرى فإن العناصر اللغوية هي التي تحمل شحنة إعلامية، أما التي لا يمكن أن نعتبرها ذات شحنة إعلامية فلا يعتد بها اللغوي، فالأولى وحدها هي التي لها وظيفة.

وقد اعتمدت مدرسة براغ هذا المنطلق لتدريس خاصة الأصوات وتضبط منهجا للتمييز بين ما هو وظيفي فيها وما ليس وظيفيا، وكان تروباتزكوي هو الذي بلور فـي أجلى مظهر نتائج أعمالها في كتابه : مبـادئ الأصـوات الوظيفية (principes de phonologie) [27].

على أن النظرية الوظيفية لم تتبلور في كل مظاهرها مع مدرسة براغ، فقد تواصل بناؤها وصقلت مبادؤها ومفاهيمها في فرنسا عن طريق أندري مارتيني خاصة.

ويمكننا أن نستخلص مما كتبه أندري مارتيني ثلاثة اتجاهات رئيسية ذات علاقات حميمة فيما بينها كما يلي:[28]

– اتجاه الفونولوجيا (علم الأصوات العام) وتعتني بضبط الأصوات العامة ووصف صورها (الفونولوجيا الوصفية)؛

– اتجاه الفونولوجيا الزمنية (العلم بتطور الأصوات عبر الزمان)؛

– اتجاه اللسانيات العامة.

أما القطب الذي تدور عليه رحى الوظيفية فيتمثل في التقطيع المزدوج: التقطيع الأول ويتناول الكلمات في صورتها اللفظية ومن حيث مضمونها. فبفضل هذا التقطيع يمكن الحصول على تراكيب غير محدودة من العبارات انطلاقا من عدد محدود من المقاطع.[29]

والتقطيع الثاني لا يعني فيه إلاّ بالصورة اللفظية، فاستبدال مقطع صوتي من المقاطع المذكورة بمقطع من نفس النوع لا يؤدي في كل حالة إلى نفس التغيير المعنوي فنقل « ـا» من سال إلى زال، لا يغير صورة المدلولات (التي هي مختلفة في أصلها عكس ما هو الحال عليه في التقطيع الأول حيث يكون كتبتُ/كتبتَ/ كتبتِ نفس اللفظة كتب ألصقت بها أصوات مختلفة: ضمير المتكلم والمخاطب والمخاطبة).[30]

والتقطيع الثاني إن كان يؤدي إلى إنجاز عشرات من المقاطع الصوتية (فونيمات) فهو يؤدي بالخصوص إلى عشرات الآلاف من الدلالات المختلفة وعكس ما يراه ياكوبسن، فإن مارتيني لا يرى من الضروري إدخال تقطيع ثالث يهم الخصائص التي تميز الحروف أما الفونولوجية العامة (علم الأصوات العامة)، فإن مارتيني يرجع المردودية الوظيفية التي هي وظيفة لسانية، إلى اختلاف الأصوات، وانطلاقا من التمييز الهام بين الظواهر الصوتية والظواهر الفونولوجية (الحرفية الوظيفية). يضع مارتيني في تقابل الشروط الضرورية للتوصيل حيث يشترط وجود أقصى ما يمكن من الوحدات التي يشترط فيها أن تكون على جانب أكبر من الاختلاف مقابل بذل أقل ما يمكن من الجهد بعدد من الوحدات الأقل تباينا.[31]

والبحث عن الانسجام بين هذين الشرطين يؤدي إلى الاقتصاد اللغوي أو إلى تحسين المردود الوظيفي. فكل وحدة من وحدات العباراة تصبح خاضعة إلى نوعين من الضغوط المتقابلة[32]:

ضغط نيري ناتج عن تعاقب الألفاظ في سلسلة الكلام وفيه [تجاذب] بين الوحدات المتجاورة وضغط عمودي تفرضه الوحدات أو الكلمات المنحدرة في السدى والتي كان بالإمكان أن تحل في ذلك الموضع.

فالضغط الأول قائم على التماثل والضغط الثاني على التباين، وهذه الاتجاه الوظيفي ينقل نفس الوظيفة إلى التراكيب النحوية. هكذا يميز مارتيني بين الكلمات الوظيفية. فيكون التمييز بين الأدوات التي لها الصدارة وبين الأدوات المتممة التي تأتي في آخر الكلمة أو بين الصيغ الصرفية التي تعين الهيئة أو الجهة أو العدد أو أدوات التعريف والتنكير.

ويعتمد ياكوبسن من جهته على وظائف الكلام (في نظرة المتكلم من كلامه). ونظرة السامع وعلى الرسالة والسياق وعلى الاتصال بين المرسل والمتقبل وعلى معقد الكلام code وكلها تساهم في تحديد الوظيفة الانفعالية أو التعبيرية أو اللفظية الإنشائية أو الشعرية أو وظيفة الحد أو الربط للمعاني فيما بينها.[33]

4- المدرسة التوزيعية (distributionnelle) مع بلومفيلد

صاحب هذه المدرسة التي أنشئت حوالي 1930 بالولايات المتحدة هو بلومفيلد[34] وضعها كمنهج لساني بنائي محض وكرد فعل ضد القائلين بالنحو النظري (المتصور في الأذهان فقط). ورد فعلة هذا انطلق فيه من معطيات التجربة الفعلية التي تبين أن أجزاء الكلام لا تنتظم في اللغة بالصدفة ولا بالاعتباط وإنما بالاتساق مع الأجزاء الأخرى التي تندرج فيها وفي أوضاع بعينها دون أوضاع أخرى وهي ملاحظة قديمة جدا لكنها لم تؤسس كمنهج قائم بذاته إلاّ منذ بلومفيلد وقد تأثر فيها بما كان يشاهد من تعدد اللغات في أمريكا كما تأثر بآراء بيهفيور ونظريته السلوكية التي تجعل ردود الفعل اللسـانية كغيرها من الردود تخضع القانون الإثارة. هناك منبة (إثارة) تؤدي إلى الاستجابة برد الفعل. فالكلام هو الآخر مبني على الإثارة stimulusوالرد (في نوع من العطاء والأخذ للفعل المحرك وفعل الاستجابة من السامع والرسالة الكلامية ينحصر معناها في هذا التبادل بجملة بين المنبه والمجيب، وما الكلام إلاّ تحريك للمعنى وللسامع وارتداد منهما نحو اللفظ والمتكلم. فالأمر يتعلق إذا بوصف أجزاء الكلام التي تحرك وتسبب الإثارة والأجزاء التي تنبه ولا تقتضي الجواب. وهذا يستوجب الانطلاق من مدونة تجمع أصنافا من الكلام في أحوالها ومقاماتها المختلفة لاكتشاف أي الأجزاء يحرك الأجزاء الأخرى، وأيهما لا يحركها عند التركيب، فالعناصر التي يؤدي وجودها بجوار عنصر آخر إلى تغيير البنية يسمى التوزيع (مثل ما تؤدي كيفية توزيع الأوراق في اللعب إلى تغيير اللعبة والنتيجة). فالعناصر التي تحيط بالمنبه وتجعل لدعمه أو لإبطال مفعول البنية هي التي تشكل مادة التوزيع.[35]

5- المدرسة التوليدية(générative) مع تشومسكي

إن أي لغوي في هذه الأيام يقيس مركزه الفكري بالنسبة لمركز تشومسكي[36]، يقال دائما بأن تشومسكي أحدثت ثورة في علم اللغة [37]، ونشر تشومسكي كتابه الأول عام 1957 وكان كتابا ضئيل الحجم مقتضبا، وكانت أفكاره غير مقيدة بالتناول العلمي والفني لقضايا هذا العلم إلى حد ما، ومع ذلك فقد كان الكتاب ثورة في الدراسة العلمية للغة ظل تشومسكي بعدها يتحدث بسطوة منقطعة النظير في كافة نواحي النظرية النحوية لسنوات طويلة.[38]

والنحو التوليدي هو نظرية لسانية وضعها تشومسكي، ومعه علماء اللسانيات فـي المعهد التكنولوجي بماساشوسيت (الولايات المتحدة) فيما بين 1960 و 1965 بانتقاد النموذج التوزيعـي والنموذج البنيوي فـي مقوماتهما الوضعية المباشرة باعتبار أن هذا التصـور لا يصف إلاّ الجمل المنجزة بالفعل ولا يمكنه أن يفسر عددا كبيرا من المعطيات اللسانية مثل الالتباس والأجزاء غير المتصلة ببعضها البعض. فوضع هذه النظرية لتكون قادرة على تفسير ظاهرة الإبـداع لدى المتكلم وقدرته على إنشاء جمل لم يسبق أن وجدت أو فهمت على ذلك الوجه الجديد.[39]

والنحو يتمثل في مجموع المحصول اللساني الذي تراكم في ذهن المتكلم باللغة يعني الكفاءة compétenceاللسانية والاستعمال الخاص الذي ينجزه المتكلم في حال من الأحوال الخاصة عند التخاطب والذي يرجع إلى القدرةperformence الكلامية، والنحو يتألف من ثلاثة أجزاء أو مقومات:[40]

– مقوم تركيبي ويعني نظام القواعد التي تحدد الجملة المسموح بها في تلك اللغة.

– مقوم دلالي ويتألف من نظام القواعد التي بها يتم تفسير الجملة المولدة من التراكيب النحوية.

– مقوم صوتي وحرفي يعني نظام القواعد التي تنشئ كلاما مقطعا من الأصوات في جمل مولدة من التركيب النحوي.

والشبكة النحوية composanteيعني البنية النحوية مكونة من قسمين كبيرين. الأصل الذي يحدد البنيات الأصلية والتحويلات التي تمكن من الانتقال من البنية العميقة المتولدة عن الأصل إلى البنية الظاهرة التي تتجلى في الصيغة الصوتية وتصبح بعد ذلك جملا منجزة بالفعل.[41]

وهكذا يولد الأصل ضربين من التركيب:

أولا: الأم سمعت صوتا

ثانيا: الطفل يغني

والقسم التحويلي للنحو يمكن من القول:

الأم سمعت أن الطفل يغني.

ثم الأم سمعت الطفل يغني.[42]

وليست هذه إلاّ بنية ملتبسة لا تصبح جملة فعلية منجزة إلاّ بنقلها إلى القواعد الصوتية والأصل مكون من قسمين:[43]

أ- القسم أو الأصل التفريعي وهو مجموع القواعد التي تحدد العلاقات النحوية التي هي العناصر المقومة للبنية العميقة وتمثيلها في رموز تصنيفية هكذا:

ت س + ت ف، و ت س هو رمز للصنف الاسمي، و ت ف رمز للصنف الفعلي، والعلاقة النحوية هي علاقة الفعل بالفاعل (ت = تركيب، س = اسمي، ف = فعلي).

ب- المعجم أو قاموس اللغة هو مجموع الوجوه الصرفية المعجمية المحددة في أصناف من الخصائص المميزة، فنجد أن كلمة الأم تحدد في المعجم بأنها اسم مؤنث حي إنساني. فالأصل هو الذي يحدد الرموز: « ال» أداة التعريف، « س» اسم، « ف» فعل في الحاضر. واامعجم يستبدل كل رمز بكلمة من اللغة.

الأم (ال + أم) زمان (ز) أنهت النسج.

قواعد تحويل هذه البنية العميقة إلى بنية ظاهرة

ال + أم انتها + زمان + ال + نسيج (الأم نسجت)

وفي الوقت ذاته تخرج في قواعد صوتية: الأم أنهت النسيج.

فاستنتجنا من خلال الأصل مجموعة من المقومات النهائية (terminales) والمكونات النحوية سواء من حيث العدد أو من حيث الحال.

يضاف إليها الصيغ الصرفية وهي مهيئه لاستقبال المعاني حسب القواعد الموجودة في الصيغ الدلالية ولكي تتحقق تعرض على المنوال التحويلي.

وعمليات التحويل تقلب البنيات العميقة إلى بنيات ظاهرة دون أن تمس بالتحويل أي بالتأويل الدلالي الذي يجري في مستوى البنيات العميقة. أما التحويلات التي كانت وراء وجود بعض المقومات فإنها تتم في مرحلتين إحداهما بالتحويل البنيوي للسلسلة التركيبية لكي نعرف هل هي منسجمة مع تحويل معين؟ والثاني باستبدال بنية هذا التركيب بالزيادة أو بالحذف أو بتغيير الموضوع أو بالإبدال، فنصل حينئذ إلى سلسلة متتالية من التحويلات تتطابق مع البنية الخارجية، و هكذا يكون حضور العامل المجهول في متتالية الأصل تؤدي إلى تغيرات تجعل من جملة: الأب يقرأ الجريدة / الجريدة قرئت من الأب، وهذه السلسلة من الكلمات المتتالية تحول إلى جملة منجزة بالفعل في المستوى الحرفي والصوتي، وهذه القواعد تحدد الكلمة المشتقة من التصرف في النسيج المعجمي وفي المقومات النحوية وتزودها ببنية صوتية. فالتركيب الحرفي هو الذي يحول المفردة المعجمية «الطفل» إلى جملة من العـلامات الصوتية: ال/طف/ل، وعلى النظرية التوليدية أن تعطينا قاعدة صوتية (عامة) كونية تمكن من وضع قائمة للوجوه الصوتية وقائمة للأنسجة الممكنة في هذه التراكيب باعتمادها على النسخة الأم، أي النسخة الكونية (القادرة على ضبط قائمة بالخصائص الصوتية وقائمة على التراكيب الممكنة بين هذه الخصائص والأنسجة الممكنة التي تلتئم معها.[44]

والخصائص الصوتية والنظرية يجب أن تمدنا بنظرية دلالية كونية قادرة على وضع قائمة بالمفاهيم الممكنة، وتتطلب إذن وجود أصل كوني يكون النسخة الأم التي تولد الخصائص الدلالية. وفي الأخير على هذه النظرية أن تقدم لنا نظرية تضبط التراكيب النحوية أعني (وضع) قائمة بالعلاقات النحوية الأصلية وقائمة بالعمليات التحويلية التي تكون قادرة على إعطاء وصف بنيوي لجميع الجمل، فهذه المواضيع تكون إذن مهام عالمية على النحو التوليدي أن يضبطها في وجوه لسانية كونية في مستوياتها الثلاثة؛ الصوتية والدلالية والتركيبية.

6- المدرسة التحويلية(transformationnelle) مع ز.س. هريس[45]

ويقصد بالتحويل في النحو التوليدي التغيرات التي يدخلها المتكلم على النص فينقل البنيات العميقة المولدة من أصل المعنى إلى بنيات ظاهرة على سطح الكلام وتخضع بدورها إلى الصياغة الحرفية الناشئة عن التقطيع الصوتي.[46]

فالتحويل ينطبق إذن على امتداد الأصوات الملفوظة (أو المكتوبة) المتلاحقة في نص العبارة والميل بها نحو مقامها الأخير في الجملة، يعني الميل بمقال من مقالات النير والاتجاه به نحو نير فرعي يكون هو المقام الأخير.

فالتحويل ومقوماته لا يمس المعنى الأصلي للجمل ولكن صورة المؤشرات التي هي وحدها قابلة للتغيير (ونقصد بالمؤشرات les marqueurs العُقد التي تضفر فيها خيوط الكلام)، فالتحويلات عمليات شكلية محضة تهم تراكيب الجمل المولدة من أصل المعنى وتتم بشغور الموقع أو بتبادل المواقع أو بإعادة صوغ الكلمات أو باستخلافها (حيث يستخلف الطرف المقوم بطرف آخر مكانة أو بإضافة مقوم جديد له).[47]

والتحويلات تتضمن وجهين أساسبين؛ الأول يتم بتحليل البنية، والثاني باستبدال البنية. والتحليل البنائي ينظر في التركيب المولد من الأصل وهل يمكن من الحصول على بنية قابلة للتحويل أم لا. والتحويل البنائي يتمثل في إحداث تغيرات مختلفة وفي إعادة ترتيب البنية ومقوماتها التي هي موضوع التحليل. [48]

هذه هي عبارة مولدة من الأصل المؤلف من:

النفي + الأب + في الحاضر + قراءة + الجريدة، مما يلخص كالتالي:

النفي + نير اسمي + زمان + فعل+ نير اسمي.[49]

فإن هذا التصنيف يؤدي إلى التحويل بالنفي في الجملة التالية:

«الأب لا يقرأ الجريدة»، وهناك تحويل آخر يمس أواخر الكلمات يسمى تحويل العقب terminal يؤدي إلى نقل العقب إلى ما قبل الفعل = يقرأ ـ لا يقرأ، وهي تنشأ بعد أن تتم كل التغيرات بما فيها التغيير الناجم عن مطابقة بين الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر مثلا، وهذا التحويل يسمى التحويل النهائي terminal dérivé المشتق من الأصل، ويمثل البنية السطحية للجملة المنجزة بالفعل بعد أن تكون أدرجت في الشبكة الصوتية «الأب لا يقرأ الجريدة».

والتحويل يحمل في الغالب الاسم الناجم عن العملية، و هكذا يسمى التحويل الناشئ عن التعليق بالوصل تحويل وصلي بعد التركيب الاسمي، وهو يؤدي إلى إدراج جملة بالتركيب الاسمي في جملة أخرى، كقولنا: الولد [الذي جاء] يقرأ الجريدة.[50]

وأحيانا يطلق المفهوم على المقوم موضوع التحويل، و هكذا يكون تغيير المقومات في الأفعال الناقصة التي يؤتي بها لتتميم المعنى (كان + كتب) مجعولة لوصف التغيير الذي أدخل على المقوم (يعني أن جملة كان كتب تدل على فعل الكتابة في الماضي فقط، فأصبحت تدل على وقوع الكتابة قبل فعل آخر) بعد إدخال كان على كتب.[51]

د- د-الاختتام

نكتفي دراستنا عن المدارس اللسانية، عربيةً كانت أم غربيةً، ونستخلص من تلك الدراسة فيما يلي:

1- إن المدارس اللسانية كما سبق درسها، لها تأثيرات كبيرة في بناء اللغة وتطورّها.

2- إن المدارس اللسانية العربية هي: المدرسة البيانية مع الجاحظ، ومدرسة النظم مع الجرجاني، والمدرسة الشمولية مع السكاكي، والمدرسة الارتقائية مع ابن خلدون.

3- إن المدارس اللسانية الغربية، هي :المدرسة البنيوية مع سوسير، والمدرسة النسقية مع هلمسليف، والمدرسة الوظيفية مع ياكوبسن ومارتيني، والمدرسة التوزيعية مع بلومفيلد، والمدرسة التوليدية مع تشومسكي، والمدرسة التحويلية مع ز.س. هريس.

[1] أحمد محمد قدّور، مبادئ اللسانيات، بيروت – لبنان : دار الفكر، 9919، ص 11

[2] علي عبد الواحد وفي، علم اللغة، ط 7، مصر: دار نهضة، د.ت.، ص 24.

3 محمد الصغير بناني، المدارس اللسانية في التراث العربي وفي الدراسات الحديثة، الجزائر: دار الحكمة، 2001، ص 17.

[4] نفس المرجع

[5] نفس المرجع، ص 18.

[6] نفس المرجع، ص 24-25.

[7] نفس المرجع، ص 41.

[8] نفس المرجع، ص 52.

[9] نفس المرجع، ص 53.

[10] نفس المرحع، ص 53.

[11] نفس المرحع، ص 54.

[12] نفس المرحع

[13] نفس المرجع، ص 55.

[14] ولد فردينان دي سوسير في جنيف عام 1857 من عائلة عريقة أعطت العديد من العلماء، نشر في سنة 1879 رسـالة عنوانها « رسالة في التنظيم البدائي للمصوِّ تات في اللغات الهندو- أوروبية»، في سنة 1880 حصل على درجة الدكتوراه بعد أن تقدم بأطروحته التي تناولت اللغة السنسكريتية، ُطلب إليه سنة 1881 التعليم في معهد الدروس العليا في باريس ودام تعليمه في هذا المعهد مدّة عشر سنوات نشر خلالها عدة مقالات في مجلة Mémoires de la société des linguistes التي أصبح أمين سر مساعد فيها سنة 1882. عاد إلى بلده جنيف سنة 1891 حيث مارس التعليم في جامعتها إلى أن توفي سنة 1913. وقد درّس مادة الدراسات اللغوية المقارنة. الاّ اهتماماته بقضايا اللغة بصورة عامة، بدا ظاهرا إلى حدّ كبير في محاضراته. والجدير بالذكر أنه قام بسلسلة محاضرات في الألسنية العامة سنة 1906-1907 وسنة 1908-1909 وسنة 1910-1911. وتعليم_الجزائر


مشكووووووووور

بارك الله في جهوووووووووووووووووووووووووووووودكم

merci merci merci merci

التصنيفات
لغــة وأدب عربي

طلب مساعدة

ارجو من إخواني في المنتدى تزويدي بمواضيع حول التحفيز ودوره في عملية التحصيل الدراسي وبارك الله فيكم.

تبنينا للتحفيز على أنه حالة حركية تدفع المتعلم للقيام بسلوك معين، يعكس طبيعة الإدراك الذي يستشعره، والمرتبط بشكل متسق مع محيطه، يفضي للاعتقاد بأن هذه الحركية تُرابط خلفها قوة متدفقة تقوم بـ:
 دفع المتعلم وحثه ليبادر بالفعل الذي يطمح له.
 تحديد نوع اليقظة والطاقة المطلوبين في هذا الفعل.
 السماح بمواصلة العمل وإن انسحب الآخرون {المثابرة}.
 الحث على البحث في خفايا الأمور وخباياها.
فالتحفيز الدراسي ــ والحالة هذه ــ ليس متغيرا أحاديا بقدر ما هو تركيبة نسقية ومتداخلة لمجموعة من الأبعاد، لها ارتباط بالمشاعر، وبالتقدير والتثمين الشخصي، علاوة على الخلاصة التي يستقيها المتعلم من تجاربه السابقة.
فالتحفيز ليس ظاهرة مرتبطة بالفرد وحده فقط، وليست مرتبطة بآثار معينة لظرف محدد يتعلق ببيئة هذا الأخير.. ولكنه نتيجة لتفاعل تام بينهما.
وبما أن التحفيز الدراسي يعتبر جزء من منظومة التحفيز الشاملة لمختلف مجالات الحياة، فهو ثمرة للتفاعل المركب بين المكونات المتعلقة بتوقعات وانتظارات المتعلم تجاه النجاح أو الإخفاق، إضافة للمكونات المتعلقة بالقيم التي يتبناها هذا المتعلم

يا اختييييييييييييييييييييييييييييييييييييي نريد ررررررررررررررررددددددددددددددددككككككككككتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائرتعليم_الجزائر


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

مذكرة تخرج بعنوان مابعد البنيوية //أدب عربي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم اليوم

مذكرة تخرج بعنوان

مابعد البنيوية

تخصص ادب عربي



لتحميل


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .

العفو اخت ريمة
اسعدني مرورك بالموضوع


موفق بإذن الله … لك مني أجمل تحية .

شكرا جزيلا على التشجيع المستمر


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

الرواية العربية الحديثة


الرواية العربية الحديثة

جذورها – تطوراتها – اتجاهاتها

حميد أكبرى

– القصة في الأدب العربي القديم
قبل الخوض في موضوع الرواية و دراسة التحولات و التطورات التي طرأت عليها، يحسن بنا أن نصدّر كلامنا ببحث حول القصة عند العرب، و نطرح فيها أسئلة علي غرار كل من دخل غمار هذا الموضوع، هل عرف العرب القصة؟ و هل هي وجدت عندهم؟
وقبل الجواب عن هذين السؤالين يجدر بنا أولاَ أن نوضّح موقفنا من القصة؛ هل القصة بمعناها اليوم؟ أو القصة بمعناها الذي كان سائداً عند جميع الشعوب في شكلها الشعبي؟
إذا أردنا القصة بمعناها اليوم فإنها لم تكن موجودة قديماً، و أما إذا أردناها بالمعني الذي كان سائداً في الآداب العالمية في شكلها الشعبي و الفطري، فإنها قد كانت معروفة عند العرب منذ زمن قديم، و لها تاريخ عريق من هذه الناحية، و ذلك يتبين لنا بوضوح إذا ألقينا نظرة عابرة علي الأدب العربي، فالعرب منذ العصر الجاهلي كان لهم قصص و أخبار تدور حول الوقائع الحربية، و تروي الأساطير القديمة.
وعندما ظهر الإسلام و نزل القرآن جاءهم «أحسن القصص» ثم تكوّنت علي هامش القرآن و تفسيره قصص و حكايات استمدت موضوعاتها و عناصرها من تعليم الدين الجديد، فظهرت قصص الأنبياء و قصص المعراج و سير النبي و… .
وقد شهدت القصة نموّا بارزا بعد ظهور الإسلام، و ذلك لاهتمام القرآن بها في بثّ معاني الدعوة الاسلامية و نقل الأخبار و الأحداث التي وقعت في الأمم الماضية اعتباراً وعظةً للناس في عصر النبي من المسلمين و المشركين.
وعندما نصل إلي العصر الأموي نري القصة ظفرت بعناية كبيرة حيث صارت مهنة رسمية يشتغل بها رجال يسألون عليها الأجر، و هذا ما دفع الرواة علي الخروج إلي البادية لتأليف الروايات و جمع أخبار الأحباء والشعراء العاشقين كقصة عنترة و عبلة، ليلي و مجنون، جميل و بثينة، كثير و عزّة و غيرهما.
وقد تطورت القصة في العصر العباسي تطوراً ملحوظاً، إذ بدأت طائفة كبيرة من الكتاب ينقلون القصص الأعجمية إلي العربية حيث بلغت حوالي ستين ترجمة، و من أشهرها «كليلة و دمنة» لعبدالله بن المقفّع حيث فتح باباً جديداً في الأدب القصصي العربي، و صار نموذجاً مثالياً سار علي منواله كثير من الكتاب المتأخرين الذين صاغوا أفكارهم الفلسفية علي لسان الحيوانات؛ و من القصص الأخري الهامة «ألف ليلة و ليلة» من أصل هندي أو ايراني، و قد أثّر هذا الكتاب في الأدب القصصي الجديد تأثيراً كبيراً لِمَا فيها كثير من العناصر القصصية الجديدة.
ومن القصص المؤلّفة التي صاغها العرب أنفسهم هي «البخلاء» للجاحظ، و قد صوّر فيها أخلاق فئات من الناس، و هم البخلاء، متعرّضاً لهم آخذاً عليهم، ثم رسالة «التوابع و الزوابع» لابن شهيد الأندلسي و هي قصة خيالية موضوعها لقاءات مع شياطين الشعراء، ثم «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، و هي قصة خيالية موضوعها سفر خيالي إلي الجنة و الجحيم، لقي فيه أبوالعلاء شعراء الجنة و الجحيم، وانتقد من خلاله الشعر في العصر الجاهلي و الاسلامي. و قد تميزت هذه الرسالة بخيال خصب كما قال طه حسين، حيث جعلها في عداد الآثار النادرة.
وأما المقامات فهي أقرب الأنواع القصصية في الأدب العربي إلي القصة الفنية الجديدة، و اعتبرها بعض المستشرقين أول مظهر للقصة العربية، و هي قصة قصيرة تدور حول مغامرات بطل موهوم يرويها راوٍ معين، غايتها تعلمية؛ و قد أجمع المؤرخون علي أن بديع الزمان هو مبدع المقامات، و من أعلامها بعده هو الحريري.
وإضافة إلي هذه الأعمال القصصية نري القصة واصلت سيرها في تضخم و كثرة، و دخلت فيها الرحلات (رحلة ابن جبير و ابن بطوطة) والخرافات و سير الأشخاص (سيرة عنترة و سيرة بني هلال ) و… .
والذي يمكن أن نقول بعد هذا الاستقراء العابر في الأدب العربي القديم حيث واجهتنا مجموعة هائلة من التراث القصصي إن العرب كانوا بفطرتهم ميالين إلي القصص و الأخبار، و أن القصة بمفهومها السائد و العادي قد وجدت عندهم منذ زمن قديم حتي قيل إن الغربيين كانوا في بدء نهضتهم مدينين للقصص العربية القديمة، و أنهم لم يعرفوا القصة قبل اطلاعهم علي أمثال «ألف ليلة و ليلة»، و «السند باد » و… .
ونخلص من هذا كله إلي القول بأن القصة العربية نشأت و تطورت، شأنها في ذلك شأن الآداب الأخري تحت ظروف و عوامل متشابهة حسب المعتقدات و الأساطير و…، و أن الأدب العربي القديم بما فيه تراث قصصي عظيم من القصص القرآنية، و قصص الأنبياء، و سير النبي، والمقامات، والرحلات، والقصص الخيالية، والتراجم الذاتية و… قد ترك تراثاً ضخماً في مجال الأدب القصصي، و هو الذي أثّر تأثيراً بارزاً – في رأي بعض المعاصرين – في نشأة الأدب القصصي الغربي و تطوره فيما بعد.
ومع هجمة التتار و سقوط الخلافة العباسية بدأت فترة الانحطاط الأدبي في الأدب العربي؛ الأمر الذي أدّي إلي خمود الحركة الأدبية من جهة، و التشاغل عن حفظ هذا التراث الضخم من جهة أخري، و لذلك قلما نشاهد في هذه الفترة التي امتدت ستة قرون إبداعاً بارزا في مجال القصة.
2- القصة في الأدب العربي الحديث
هنك اختلاف رأي بين العلماء المحدثين في نشأة القصة العربية الحديثة؛ فمن يتحمّس منهم لأصلها العربي و يري أنها وليدة التراث القديم و استمراراً له، و من ينفي أن تكون هنك أية صلة بين القصة الجديدة و بين تلك الأنماط القصصية القديمة، و يراها أنها وليدة الإحتكك بالغرب و التعرّف إلي نتاجه القصصي و نقله إلي العربية.
وإذا فحصنا في القصة العربية المعاصرة، و هي فن جديد يختلف شأنها عن شأنها القديم، اتضحت لنا أنها مرّت بثلاث مراحل أساسية ظهرت في كل منها مجموعة هائلة من أنواع القصة، و هي:
أ- مرحلة التقليد و التعريب (1850-1914).
ب- مرحلة التكوين و الإبداع (1914-1939).
جـ- مرحلة التأصيل و النضج (1939- حتي الآن).
أ: القصة العربية في مرحلة التقليد و التعريب
وعلي الرغم من أن غالبية الباحثين قد أنكرت الصلة بين القصة العربية الحديثة و بين التراث القصصي عند العرب، إلا أن هذا الارتباط موجود بشكل بارز في صياغة الشكل و المضمون، إذ بدت القصة الحديثة في بدء تطورها متأثرة بالأجناس القصصية المأثورة كالتراجم و المقامة و…، ومن أوضح أمثلتها للتأثر بفن المقامة هو «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي (1900) حيث يبدو فيه التأثير العربي واضحاً في العناية بالأسلوب و الأحداث التي تحدث للبطل الذي يتصل بشخصيات متعددة، كما أن الأثر الغربي أيضاً يبدو فيه جلياً من حيث تنويع المناظر، و تسلسل الحكاية، و بعض ملامح التحليل النفسي.
ومن المؤلَّفات الأخري التي وضعت علي أسلوب المقامة قصة «علم الدين» لعلي مبارك، و يدور موضوعها حول عالم منوّرالفكر، اسمه «علم الدين»، يلتقي بسياح إنجليزي، و يذهب معه إلي أروبا، فيقيسان العادات و التقاليد الشرقية والغربية مرجِّحَينِ تارة هذا علي ذلك، و علي العكس؛ فالتأثر بأسلوب المقامة يبدو واضحاً في هذه القصة.
ومنها «السّاق علي السّاق» لأحمد فارس الشدياق، و هي شبيهة بالتراجم الذاتية تحدّث فيها الشدياق عن مراحل حياته و أسفاره علي أسلوب المقامات، و غايته إبراز مقدرته علي استعمال الكلمات الغربية، و ذكر محاسن النساء و مثالبهن.
والتأثر بأسلوب المقامة ساد فطرة طويلة كثر مؤلّفات عصر النهضة، و ذلك أن الكتّاب يحاولون بناء الأسس القصصية الجديدة علي أساليب القصة القديمة لحرصهم علي عدم ضياع تراثهم، و لذلك نراهم صنعوا مؤلّفات علي غرار المقامات متأثّرين بها في القالب كأحمد شوقي في «عذراء الهند» (1897)، موضوعه إشارات إلي تاريخ مصر القديم، و حافظ ابراهيم في «ليالي سطيح»، موضوعه انتقادات من أوضاع مصر، و محمد لطفي جمعة في «ليالي الروح الحائر» (1907)، و موضوعه نقد الظروف الاجتماعية في مصر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهرت موجة جديدة في الأدب القصصي الحديث، و ذلك إثر ترجمة القصص الغربية، و قد نمت هذه الموجة في مصر و لبنان، و كان أصحابها توّاقين إلي الأدب الغربي مشيدين به، فراحوا يترجمون القصص الغربية التي كانت موضوعاتها في الأغلب موضوعات رومانتكية حول الحبّ و الجنس دون أن ينتبهوا إلي الآثار السلبية التي تتركها هذه القصص في العقيدة و الثقافة العامة، و في نفس الوقت أن هؤلاء الكتاب أنتجوا مؤلّفات قصصية منقطعة عن الجذور العربية، مطبوعة بطابع التقليد للقصة الغربية تغلب عليها نزعة رومانتيكية، و الغاية منها التسلية.
وقد بدأت هذه الموجة علي يد اللبنانيين؛ منهم سليم البستاني الذي اعتبر الرائد الأول لهذا التيار، فقد ألّف في فترة قصيرة فيما بين 1848 إلي 1884 عدداً كبيراً من القصص تراوحت موضوعاتها بين التاريخ و الاجتماع، و نشرها في مجلة «الجنان»؛ و من قصصه «الهيام في جنان الشام (1870)»، موضوعها قصة بين رجل و فتاة يلتقيان تارة و يفترقان تارة أخري»؛ «زنوبيا (1871)»، موضوعها تذكار تاريخي لموجبات الصراع بين ملكة تدمر و بين الرومان؛ «بدور (1872)»، موضوعها حول أميرة أموية عشقت عبدالرحمن الداخل؛ «أسماء (1873)، موضوعها قصة رجال أحبّوا فتاة، و كلّ منهم يحاول أن يجبلها إليه؛ «فاتنه (1877)»؛ «سلمي (1878)»؛ و «ساميه (1882)».
وبما أن سليم البستاني كان صحفياً فقد اهتمّ بتناول مختلف الموضوعات في قصصه من تاريخ و جغرافيا و اجتماع و فلسفة و رحلات و…، شأنه فيها شأن مجلته من حيث تناول الموضوعات المختلفة، كما أنه بحكم عمله اتجه نحو تبسيط اللغة و الاقتراب من أسلوب اللغة الدارجة مما أوقعاه في الضعف و الرككة أحيانا.
والذي يجدر ذكره أن للصحف دوراً بارزاً في نشوء القصة العربية و اتساع دائرتها و التقدّم بها إلي الأمام، فقد ظهر في فترة غير طويلة عدد كبير من الصحف و المجلات كصحيفة «الأخبار»، «وادي النيل»، «البشير»، «الأهرام»، «المقتطف» ، «الهلال» و… وقد خصّص كل منها قسماً للقصص الموضوعة و المترجمة، أو مجلات نصف شهرية اقتصرت علي نشر القصة و الرواية، منها «سلسلة الفكاهات في أطايب الروايات»، «حديقة الأدب»، «مسامرات الشعب»، «الروايات الجديدة»، و… .
ومن أعلام القصة و الرواية في هذه المرحلة فرح أنطوان (المدن الثلات، الوحش الوحش الوحش، أورشليم الجديدة)، نقولا حداد (النص الشريف، كله نصيب، حواء الجديدة، آدم الجديد)، يعقوب صروف (فتاة مصر، أمير لبنان، فتاة الفيوم)، لبيه هاشم (قلب الرجل)، طاهر حقي (عذراء دنشواي)، منفلوطي (العبرات و النظرات) و… .
وصفوة القول في القصة و الرواية العربية في هذه المرحلة أن أعمال هؤلاء الكتاب كانت في أغلبها تقليد للقصة الغربية، يغلب عليها السرد التاريخي أو الاجتماعي دون ارتباط بمذهب فني واضح، و لم يكن أحد من هؤلاء الكتاب قاصاً متخصصاً، بل كانت القصة فنّا و عملاَ ثانوياً بالنسبة إليهم، و بالنسبة إلي المهنة التي يعملونها، و هو العمل الصحفي؛ فسليم البستاني و فرح أنطوان، و نقولا حداد، و يعقوب صروف، و جرحي زيدان و… كانوا يصدرون مجلات شهرية، و كانت القصة المتسلسلة تمثل جزءاً من هذه المجلات. و لهذا فإن العمل القصصي في هذه المرحلة ينقصه التخصص و فنية العمل، و هو عند هؤلاء تقليد للاتجاهات الغربية، و ليس منبعثاً انبعاثاً حقيقاً من البيئة العربية.
ولكن هنك ظاهرة فنية يجدر الوقوف عندها، و هي الجهود الروائية للذين مضوا إلي المهجر، فأتيح لهم الإطلاع علي النماذج القصصية الغربية بكمل وجه، فتأثروا بها فنضجت أعمالهم حيث تختلف عن النماذج القصصية في البلد العربي، فلا شك أن إنتاجات جبران من القصة و الرواية كـَ«عرائس المروج (1906) و.«الأرواح التمردة (1908)»، و «العواصف (1910)»، و «الأجنحة المتكسرة (1912)» و… كان لها طعم جديد، إذ يبدو فيها روح التمرد علي عوامل الجمود و موانع التطور، أو أن ما صدر عن أمين الريحاني كرواية «خارج الحريم» تختلف كثيراً من ناحية تعقّد الأحداث، أو رواية «زنبقة الغور» فإنها تمثل تطوراً ملحوظاً عن نماذجها السابقة.
ثم من الذين هاجروا إلي خارج الوطن العربي و كتبوا فيه، و خرج نتاجهم ثمرة لتزواج المجتمعين العربي و الأروبي، الدكتور محمد حسين هيكل الذي نشر رواية «زينب (1914)» حيث اعتبرت هذه القصة في رأي البعض بأنها بشّرت مرحلة جديدة في القصة العربية، ألا و هي مرحلة التكوين القصصي العربي.
ب- مرحلة تكوين القصة العربية الحديثة (1914-1939)
إن فترة ما بين الحربين العالميتن اعتبرت مرحلة تكوين الأدب القصصي و الروائي عند العرب، فالحرب العالمية الأولي و ما تبعها من أحداث و تحولات في تركيب المجتعمات العربية، و من تغيير في القيم و الموازين، و من تطور في الثقافة و السياسة و الوعي القومي و الانتفاضات الوطنية و…، كل هذه خلقت جوا جديداً و ذوقاً مختلفاً عن سابقه، و تطلّبت بناءً و أسلوبا جديداً للتعبير عن هذه التحولات الجديدة.
وكما أشرنا سابفاً أن اللبنانيين كانوا من رواد القصة في الفترة الأولي، لكن في هذه الفترة إثر هجرة اللبنانيين إلي مصر و… بسبب الحروب و الفتن الداخلية، انتقلت الريادة إلي أيدي المصريين، و بما أن الجيل الجديد منهم أقبلوا علي العلوم الجديدة و تعرّفوا إلي الثقافة الأروبية و اطلعوا علي إيدئولوجيات التحرر و الاستقلال، شكلوا أحزاب سياسية و منظّمات جديدة تهتف بالوعي السياسي و الاجتماعي و التحرر الوطني، كما أسسوا صحفاً تبثّ الاعتزاز بالشخصية المصرية و الروح الوطنية في الشعب حرصاً منهم علي إحياء التاريخ المصري القديم لبثّ روح الأمل في الشعب و الخروج من التخلّفات التي يحسّون بها عند قياس أنفسهم بالبلدان الأروبية، لذلك وسّعوا في نشر الصحف و المجلات، و غيروا المناهج و المنظّمات التعليمية و نسّقوها حسب المناهج و المنظّمات الغربية كما انتقدوا كثيراً من العادات و التقاليد الشعبية التي تمنعهم من الحركة السريعة نحو التقدّم و الرقي.
نعم، كل هذا كوّن مناخاً جديداً و جواً مختلفاً كان يتطلب جيلاً جديداً من الكتاب ليستوعبه و يهضمه و يخرج منه ثمرة جديدة لمجتمع جديد رنا إلي التقدّم و الرقي.
وهكذا أخذت القصة العربية بعد الحرب العالمية الأولي طابع المحلية و القومية، و بدأت تصوّر فئات من المجتمع المصري أو اللبناني أو السوري أو العراقي بغية تحسين فضاء المجتمع.
وفي هذا البحر المتلاطم في مصر ظهر كتاب صوّروا مجتمعهم خير تصوير؛ منهم طه حسين الذي له دور هام في إرساء قواعد الفن القصصي، و من أعماله: «الأيام (1929)»، «أديب (1935)» حيث انتقد فيهما القضايا الاجتماعية و التعليمية و التربوية في المجتمع المصري، و «دعا الكروان (1941)» و… .
ومنهم توفيق الحكيم الذي عني بتصوير الواقع و المشكلات الاجتماعية. و من آثاره: «عودة الروح (1931)»، «يوميات نائب في الأرياف (1937)»، «عصفور من الشرق (1938)».
ومنهم محمود تيمور الذي اهتمّ بقضايا ماوراء الطبيعة و الروحانية الشرقية في رواية «نداء المجهول (1939)»، كما عني بقضايا اجتماعية و نزعات إنسانية في رواية «سلوي في مهب الريح».
ومن أعلام آخرين عيسي عبيد «ثريا (1922)»، طاهر لاشين «حواء بلا آدم (1934)»، محمد تيمور و… .
من الظواهر اللافته للنظر في هذه المرحلة ظهور اتجاه التحليل النفسي و تبيين أثره علي الأدب، و قد حمل لواء هذا الاتجاه العقاد و المازني، و ذلك بتأثرهما بمدرسة التحليل النفسي الغربي، و أرسا أسساً و قواعد في تأليف و تحليل القصص و الروايات. فمن آثار المازني: «ابراهيم الكاتب (1931)»، «ابراهيم الثاني»، «عود علي بدء (1943)»، و…، و من آثار العقاد: رواية «سارة (1938)» التي هي صورة واضحه من منهج العقاد التحليلي.
وقد بدأ الوعي القومي و الإحساس بالشخصية في البلاد العربية بتأثير مصر حيث نري في لبنان ظهرت قصص و روايات علي غرار القصص و الروايات المصرية و عالجت القضايا القومية والمشكل الاجتماعية كرواية «العمال الصالحون (1927)» لإلياس أبوشبكه حيث تصور فيها انتحار طفل في السابعة من عمره ليتخلص من حياة الشقاء التي تسومه إياها امرأة أبيه.
ثم كرم ملحم كرم الذي أنقذ الرواية اللبنانية من هاوية السقوط و أحياها من جديد؛ ومن رواياته: «بونا أنطون (1937)»، «صرخة الألم (1939)»، «الشيخ قرير العين (1944)»، «دمعة يزيد»، «صقر قريش»، «قهقهة الجزائر» و… و قد جمع في رواياته الاتجاه التاريخي و الاجتماعي، إلا أنه يتفوق في الاجتماعية علي نفسه في التاريخية.
ومن أعلام آخرين للقصة و الرواية اللبنانية في هذه الفترة لطفي حيدر، و له رواية «عمر أفندي (1937)»، فقد تصور فيها كوارث اجتماعية للحرب العالمية الأولي.
ومنهم أحمد مكي، و من أعماله «النداء البعيد (1939)»، تتمحور الرواية حول اختلاف الأديان حيث يمنع من زواج متحابين.
ومنهم توفيق عواد الذي اعتبر قمة الروائيين اللبنانيين في هذه الفترة، و من أهم آثاره: «الرغيف (1939)»، و يدور موضوعها حول صراع العرب من أجل استقلالهم.
وأما البلدان العربية الأخري أيضاً فقد خطت خطوات هامة في مجال القصة و الرواية في هذه الفترة، ففي سوريا ظهرت جهود لافتة للنظر، و من أهمها أعمال معروف الأرناؤوط التاريخية كرواية «سيد قريش (1929)»، «عمر بن الخطاب (1936)»، إلا أنها من الناحية الفنية أقرب إلي جهود الفترة الأولي، و إن تمتّ زمنياً إلي هذه الرحلة. كما أن العراق و الأردن والسودان أيضاً لها قصص و روايات، لكنها تقلّ عن البلدان السابقة من ناحية الكمّ و الكيف.
وإذا وقفنا عند الخطوط العامة عند روايات و قصص هذه المرحلة يتبين أنها في مجموعها صورة صادقة عن أفكار الطبقة الوسطي تتمثل فيها الأحلام و الهموم و القيم و الموازين التي تتعلق بهذه الطبقة الجديدة المتوسطة، و من سمات أبناء هذه الطبقة حب الإستكشاف، و حب البحث عن الحقيقة، و الرغبة في المعرفة، و خوض المخاطر و التجارب الجديدة التي لا عهد لهم بها، ثم من سماتهم الأخري التأمل في ملكوت السماوات و الكون، و حب الطبيعة و الشغف بجمالها و… .
والطبقة الاجتماعية التي تناولتها قصص و روايات هذه الفترة بالتصوير و التمثيل هي الطبقة البرجوازية المتوسطة، و لذلك لا نجد فيها تعلقاً بالطبقات الأرستقراطية أو تمثيل عاداتهم و قيمهم، كما لا نجد فيها الصراع الطبقي و التنظيم الإقطاعي و ما يتفرع عليه من تكوين الطبقة الحكمة و الطبقة المستبدة، و طمس فردية الانسان و حريته، بل استبدل كلها إلي أهمية الفرد، و التكيد علي شخصيته و تجاربه و قدرته في التخلص من الكوارث و المصائب التي تعترض سبيله نحو التحرير و الانطلاق و البحث عن المجهول و… .
ومن الناحية الثقافية أيضاً أن أعمال هذه المرحلة ثمرة من ثمرات امتزاج الفكرين الشرقي العربي بالغربي الأروبي و تفاعلهما في شتي المجادلات، كما أنها تمتاز بالتخلص من ثنائية الثقافة و ثنائية الشخصية و ازدواجية المشاعر و انقسام الكاتب إلي شقين في لحظات كتابة القصة و الرواية؛ و ذلك أن الثفاقة الغربية تمثلت و دبّت في فكره و سلوكه، شأنها شأن ثقافته الأصيلة، فتفاعلت الثقافتان و أصبحتا شيئاً واحداً تنتجان ثمرة مشتركة.
والذي يجدر ذكره أن القضايا الاجتماعية التي طُرِحَت في أعمال هذه المرحلة طُرِحَت من أجل إيجاد الحلول لها و معالجتها و إصلاحها، كأن شأن الكتّاب شأن المصلحين نفسه.
والنقطة الأخيرة أن كتّاب هذه المرحلة لهم رسالة اجتماعية فنية؛ فمن الناحية الاجتماعية فإنهم أصبحوا كمصلحين يبدون مواقفهم من التقاليد و الصراعات الاجتماعية و…، و من الناحية الفنية لم تعد الأعمال القصصية و الروائية سبيلاً من سبل التفكه أو التسلية أو منبراً لإلقاء المواعظ و النصائح أو وسيلة لعرض المعلومات و المعارف و… بل أصبحت الغاية فنية، و أصبحت الكتابة في هذا الفن عملاً يعتز به صاحبه، و يتثقف من أجله و يبحث عن كل وسائل النجاح من أجل إخراج عمله عملاً فنياً رائعاً يجمع بين الرسالة الاجتماعية و الفنية.
جـ- مرحلة تأصيل القصة العربية
هذه المرحلة هي المرحلة الأخيرة في تطور القصة و الرواية العربية، والتي اعتبرت قمة المراحل و تسمّت بمرحلة التأصيل. و قد تداخلت هذه المرحلة بالمرحلة السابقة عقداً من الزمن حيث كانت الثلاثينيات خاتمة مرحلة التكوين و مدخلا إلي مرحلة التأصيل حيث اختارت الرواية والقصة العربية اتجاهاً جديداً نتيجةً لأسباب و عوامل مختلفة لم تكن ميسرة لهما في المرحلة السابقة.
وقد أتيحت الفرصة في هذه الفترة للكتّاب للاطلاع علي المناهج و طرق البحث العلمي و الكاديمي كما أتيحت الفرصة للاطلاع علي أنواع الدراسات النفيسة و التحليلة و الرمزية، و الأهم من هذه كلها أتيحت فرصة الإطلاع علي اللغات الأجنبية و الدراسات الواسعة في ميادين الأدب والقصص والفروع المختلفة للفكر الأروبي بلغاته الأصلية، و كان للجامعة المصرية فضل أساسي في تمهيد هذه كلها، إذ هيأت جيلاً حسب الأصول العلمية و المناهج الكاديمية الحديثة مهتمةً بأنواع العلوم كعلم النفس والفلسفة والاجتماع والتاريخ، وجَعلِها في متناول اليد؛ زد علي ذلك الدعوة إلي الحرية في التفكير والإشادة بالقيم الديمقراطية التي عني بطرحها الأساتذة الجامعيون علي هذا الجيل، كل هذه أخرج جيلاً جديداً من الكتّاب اتجه في كتاباته نحو الواقعية مستعيناً بقوي العقل و المنطق في مواجهة الأحداث والمشكل و التعبير عنها، و ابتعد عن تلك النزعة الرومانتيكية السابقة.
وقد أطلق علي هذا الجبل من الكتاب عنوان «جيل الجامعيين» و ذلك أنهم كانوا من خريجي الجامعة؛ منهم: علي أحمد بكثير خرّيج في قسم اللغة الإنكليزية؛ عبدالحميد جودة السحار خريج كلية التجارة والاقتصاد؛ يوسف السباعي خريج الكلية الحربية؛ إحسان عبدالقدوس خريج كلية الحقوق؛ يوسف إدريس خريج كلية الطب، و قمة روائي هذه المرحلة نجيب محفوظ خريج كلية الآداب، قسم الفلسفة؛ عبدالرحمن منيف الدكتوراه في العلوم الاقتصادية و… .
والنقطة الهامة في أعمال هؤلاء الروائيين أنهم تخلصوا إلي حد بعيد من العيوب التي كانت في أعمال المراحل السابقة من الناحية الفنية، كما حاولوا التخلص من عقدة الانبهار و الإعجاب بالثقافة الغربية، و من الخطف السريع لثمار الفكر الأروبي دون أن يكون علي وعي و منهجية، و رغم كل هذه التطورات الطارئة علي القصة و الرواية العربية من ناحية البناء الفني إلا أنها مازالت تحتاج إلي الكتمال في تشكيل بنائها الفني، إذ هي لم تخرج في معظمها عن قصص و رواياتِ شخصيات أو أحداث كما أنها لم تكتمل بعدُ من ناحية الأسلوب حيث ترواح أسلوبها بين التصوير، و هو طابع الأسلوب الروائي و بين التقرير، و هو طابع المقالة.
وبعد نجيب محفوظ الذي أسّس البناء الفني للقصة و الرواية العربيتين و بلغ بهما الذروة لحد بعيد، بدأت فترة نهضوية متميزة بفضل الأحداث الدامية التي حدثت في الخمسينات و الستينات، و من أهمها هزيمة 1967؛ ففي هذه المرحلة استطاعت القصة و الرواية أن تتطور و تتقدّّم كثيراً حيث ارتفعت منها تلك النقيصة التي أشرنا إليها من ناحية الأسلوب والتشكيل، إذ ظهرت تحريرات عديدة في مضامينها و أشكالها بالمقارنة مع الشكل الروائي السابق. فمن ناحية المضمون و المحتوي حاول الروائيون الجدد بعد نجيب محفوظ استيعاب كل التحولات التي وقعت في المجتمع العربي دون العناية بطابع المحلية و حصر أنفسهم فيها كالجيل الماضي، فظهرت أسماء كثيرة في عالم القصة و الرواية من الأقطار العربية المختلفة كجبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، حنّا مينة، عبدالرحمن منيف، جمال الغيطاني، الطيب صالح، غادة السّمان، حليم بركات و…، فأعمال هؤلاء وإن تفترق علي المستوي الجغرافي، لكنها تلتقي في قضايا و موضوعات مشتركة كالحرية و التحرر، السياسة، الانتماء الوطني و القومي، القضية الفلسطينية، الصراع الطبقي و… .
وأما علي المستوي الشكلي فظهرت تنويعات في أساليب السرد و تعدّد التقنيات في المزج بين الوصف و التذكر و المشاهد الحوارية و… ممّا جعلت القصة و الرواية العربيتين تنفصل كثر فكثر عن التقليد الأروبي، و جعلتها تعرفان التطور والتقدّم كمثيلتهما الأروبية.
3- الرواية العربية المعاصرة
عرف الأدب العربي الحديث أنواع قصصية متعددة، منها الأقصوصة، و قصة قصيرة، و قصة، و رواية، و سيرة ذاتية و…، والذي يهمنا هنا هي الرواية، و هي التي يعالج فيها المؤلف موضوعا كاملا أو كثر، زاخراً بحياة تامة واحدة أو كثر، فلا يفرغ القاريء منها إلا و قد ألمّ بحياة البطل أو الأبطال في مراحلهم المختلفة. و ميدان الرواية فسيح أمام القاص يستطيع فيه أن يكشف الستار عن حياة أبطاله و يجلو الحوادث مهما استغرقت من وقت.
ولقد كان نشوء الرواية في الأدب العربي موكبا لبداية عصر النهضة، و قد كثر الحديث عنها بين النقاد من المستشرقين و العرب حول بدايتها حيث وقفوا إزاءها مواقف متبانية، أهمها رأيان متباينان: أحدهما يري أن الجنس الروائي حاضر في التراث العربي، و الثاني ينفي أن تكون هنك أية صلة بين الرواية و تلك الأنماط القصصية القديمة.
وعلي الرغم من أن الكثير من الباحثين أنكروا الصلة بين نشأة الرواية العربية و بين التراث القصصي عند العرب، إلا أن هذا الارتباط حاضر، و قد ألقينا الضوء عليه خلال الرصد السابق للقصة بوصفها مشتملا علي الرواية أيضاً، إذ بدت الجهود الروائية الأولي متأثرة بالتراث العربي من ناحية المادة، و هذا ما ظهر بشكل جليّ في الرواية التاريخية التي اهتمّت بإحياء جوانب من التاريخ العربي والتركيز علي أحداثه البارزة، و في هذا الإطار تدخل أعمال الروائية التاريخية لجرجي زيدان، و علي الجارم (شاعر ملك، سيدة القصور…)، و محمد سعيد العريان (قطر الندي، بنت قسطنطين)، و محمد فريد أبو حديد (ابنة الملوك، المهلهل) و… ثم تلتها نتاجات أخري كتبت علي النمط القديم خاصة المقامة، نذكر منها مثلاً: «الساق علي الساق» لفارس شدياق، و «مجمع البحرين» لليازجي، و «حديث عيسي بن هشام» للمو يلحي، إلا أن هذه الأعمال تختلف عن الرواية الحديثة من ناحيتين؛ الأولي: من ناحية الأسلوب والبناء حيث تراوحت هذه الأعمال بين المقالة و المقامة، و اعتمدت علي السرد الحدثي دون تحليل الأحداث و الشخصيات ممّا جعلت الرواية في هذه الفترة غامضة الملامح و أفضت عليها طابع التقريرية؛ و الثانية: من ناحية الغاية و الهدف حيث الغاية من هذه الأعمال لم تكن فنياً بقدر ما كان تعليماً، و ذلك أن هؤلاء الرواد كانوا إما مصلحين، و إما علي صلة مع زعماء الإصلاح، و لذلك جاءت أعمالهم تعليمية مضمونية. و هكذا تستنج الصلة بين الرواية العربية الحديثة عند ظهورها، و بين الترات القصصي و الروائي عند العرب خاصة المقامة.
وقد اتخذ فريق آخر موقفا معارضاً للفريق الأول في نشوء الرواية العربية حيث يرجعه إلي تأثّر الأدب العربي بالأدب الغربي في عصر النهضة مستنداً في تعليل فقدانها إلي ضعف الخيال العربي و اختلاف لغة الأدب و لغة الكلام عند العرب، و انتشار الأمية إلي حد كبير في البلاد العربية، و قلة الأساطير، و سجال الحروب و اعتزال المرأة عن الحضور في الاجتماع و …، كل هذه ما أفقد الأدب العربي القديم من جنس الرواية.
والذي يمكننا أن نقول بعد اطلاعنا علي هذين الرأيين المختلفين أن الرواية العربية الحديثة ظهرت متأثّرة بالأدب الغربي، فإنها و إن كانت في بدايتها تأثرت بالتراث العربي القديم من ناحية المادة و المضمون، لكنها سرعان ما انقطعت صلتها بذلك التراث، و تأثرت إلي حد بعيد بالرواية الغربية ممّا أدّت إلي تراجع المحاولات الأولي التي ظهرت متأثرة بالتراث القصصي والروائي العربي، فالكثير من الكتاب في هذه الفترة شغفوا بترجمة الروايات الغربية الرومانسية، و تركوا الاهتمام بتطوير ثراثهم الشعبي ممّا أدّي إلي رفض التراث القديم و قطع الصلة بينه و بين الرواية الفنية، كما أدّي إلي تغيير الغاية التعليمية من الرواية في الطور الأول إلي التسلية و الترفيه.
وعلي الرغم من اتصال هؤلاء الكتاب بالروايات الرومانسية الغربية عن طريق ترجمة تلك الآثار أولاً ثم التأليف و الإبداع علي منوالها، إلا أن سمات الرواية التقليدية تظهر بوضوح في أعمالهم من ناحية الأسلوب و السرد التقريري، و هكذا ظهر الاتجاه الرومانسي في الرواية العربية، و تجلّي ذلك في أعمال مصطفي لطفي المنفلوطي، و هيكل (زينب)، و جبران، و الريحاني، و كرم ملحم كرم (لا تنتحي، فريد، حرفة الألم و…) و محمود السيد، و علي الشبيبي (رنّة الكأس)، و خليل عزمي (دلال) و رضاء الدين الحيدري (الخطيئة).
وقد استمرت هذه النزعة فترة من الزمن إلي أن ظهرت إثرها أعمال أخري اهتمت بالترجمة الذاتية، و ذلك أن الرواد الأوائل اصطدموا بعقبات كثيرة في محاولتهم لخلق نوع روائي؛ و من أعلام هذا الاتجاه طه حسين (الأيام)، و المازني (ابراهيم الكاتب)، و توفيق الحكيم (عودة الروح) و …، والغاية من هذه الروايات الذاتية إبراز الشخصية و الارتباط بالواقع.
وعندما وصلت الرواية العربية إلي فترة الثلاثينات اتجهت نحو الواقعية متأثرة بالثقافة و الفكر الأروبي، و من نماذج هذا الاتجاه أعمال طه حسين، محمود تيمور، توفيق الحكيم، عبدالرحمن الشرقاوي (الأرض)، نجيب محفوظ (خان الخليلي، زقاق المدق، بين القصرين)، محمود أحمد سيد و… والغاية عند أصحاب هذا الاتجاه الوعظ الاجتماعي أو السياسي، و التعريض بالعادات، و النقد الاجتماعي و… .
ومن الاتجاهات الأخري للرواية العربية الحديثة الاتجاه النفسي، و هو حديث التكوين بعكس النزعة الباطنية البعيدة الغور، و قد تسمّي في الرواية العربية بتيار الوعي أو قصة الحوار الفردي الصامت أو القصة التحليلة. و قد ساعدت الرومانتيكية بنزعتها الذاتية في ظهور هذا النوع من الرواية، و هو يتميز بتركيز الاهتمام علي بطل أساسي بدلاً من توزيعه علي عدة أشخاص.
والشخصية التي يرتكز عليها الكاتب ليست إلا ستارا يشرح الكاتب من خلاله أفكاره الخاصة و عواطفه، حتي البطل في هذه الرواية صورة عن المؤلف. و من أعلام هذا الاتجاه عيسي عبيد (ثريا) و محمود تيمور، و طاهر لاشين (حواء بلا آدم)، و العقاد (سارة)، و المازني و… .
وأما الاتجاه الرمزي في الرواية العربية ظهر متأخراً عن الاتجاه الرومانتيكي، و هو ظهر في بعض نتاجات الكتّاب العرب من أمثال نجيب محفوظ (اللص و الكلاب، الشحاذ، أولاد حارتنا، السمان والخريف، الطريق)، و يحيي حقي، والنقطة الهامة أن الرمزية المحضة علي طريقة الغربيين نادرة في الروايات العربية.
والإتجاه الاجتماعي في الرواية العربية اقترن باتجاهات أخري، و كان كتّاب المهجر من أبرز الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه، إذ صوّروا الكثير من المشكل الاجتماعية والتقاليد الشعبية، و من أبرز أصحاب هذا الاتجاه ميخائيل نعيمة، و كرم ملحم كرم.
هذه كانت أهم المحاور التي تناولتها الرواية العربية قبل السبعينات، و قد وردت الرواية العربية في فترة السبعينات و ما بعدها إلي مرحلة جديدة تنوعت إلي حد كبير من ناحية الأساليب و السرد و التخلص من الأسس التقليدية للسرد، كالعرض، والعقدة، والحل، كما تقدمت كثيراً في التخييل والتصوير؛ و من ناحية المضمون أيضاً حاولت استيعاب جميع التحولات التي حدثت في المجتمع العربي مع الخروج عن طابع المحلية، و تناوُلَها بالتصوير والتمثيل أينما كانت و وقعت، لذلك اهتمت بالهمّ القومي، و الصراع الطبقي، و القضايا السياسية، قضية فلسطين، الحرية والتحرر و… و من أعلام الرواية العربية في السبعينات و ما بعدها جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، حنا مينة، غادة السمان، عبدالرحمن منيف، الطيب صالح، سحر خليفة، سهيل إدريس و… .
اتجاهات الرواية العربية في السبعينات
لحد الآن ما ذكرنا حول نشأة الرواية و الاتجاهات التي ظهرت فيها كانت كلها مطبوعة بطابع الرواية التقليدية، لكن في أواخر الستينات و بداية السبعينات ظهرت ثوراث عنيفة علي الرواية التقليدية المستهلكة، أدت إلي ظهور اتجاهات جديدة، و إن كانت هي متأثّرة بالغرب لحد بعيد، إلا أن التأصيل والتكوين ظهرا فيها في أسرع وقت ممكن، و هذه الاتجاهات الجديدة هي:
أ: رواية تيار الوعي
كان هذا الاتجاه بمثابة ثورة عارمة علي الرواية التقليدية، و قد بدأ في الأدب الغربي في نهاية القرن التاسع عشر وامتدت إلي النصف الأول علي يد «ما رسل بروست (البحث عن الزمن الضائع)»، و « جيمس جويس (أوليس)». و بهذا التيار ظهرت بلبلة في عالم الرواية، إذ قبل ذلك كان الطابع الأساسي للرواية هو تسلسل الأحداث، و تفاعل البطل مع هذه الأحداث، لكن بظهور هذا التيار تغير الأسلوب، و أصبح كتشاف العقل والباطن الخفي مثار الاهتمام، لأنه المحرك الأساسي للفكر و السلوك.
و مقومات هذا الاتجاه أو التيار تتلخص فيما يلي:
الف) المونولوج الداخلي المباشر، و فيه يغيب المؤلف، و يتم الحديث فيه بضمير المفرد و الغائب.
ب) المونولوج الداخلي غير المباشر، و فيه يحضر المؤلف عبر الوصف و التعليق، و يقوم الحكي فيه بضمير المتكلم.
ج) وصف الوعي الذهي للشخصيات.
د) مناجاة النفس.
هـ) التداعي الحر من طريق الخيال و الحواس.
و) المونتاج السينمائي عن طريق تعدد الصور و تواليها.
وفي الأدب العربي تأثّر روائيون كثيرون في فترة الستينات والسبعينات بهذا التيار الذي أدي إلي تفاهم التعبيرات الرمزية في أعمالهم؛ منهم نجيب محفوظ (الشحاذ)، حيدر حيدر (الزمن الموحش)، هاني الراهب (ألف ليلة و ليلتان)، و غادة السمان و… .
والذي ساعد علي انتشار هذه المدرسة الروائية هي الروايات المترجمة المكتوبة بهذا الأسلوب ثم ترجمة مفاهيم علم النفس، و ترجمة آراء فرويد و … حيث أثّرت في انتشار ذلك.
ب: الرواية الطليعية
والاتجاه الثاني في الرواية العربية بعد السبعينات هو الاتجاه الطبيعي أو الرواية الطليعية، و هي تعني استخدم تقنيات فنية جديدة تتجاوز الأساليب و الجماليات السائدة و المعروفة، لكن بهدوء و بطء و تمهّل.
وقد تميزت الرواية الطليعية باستخدام تقنيات السينما، و التقطيع إلي صور و لوحات مستقلة تعطي مجتمعة انطباعاً و إحساسا واحداً، كما تميزت باستخدام المونولوج الداخلي، و الفلاش بك في تصوير ماضي الأبطال، كما أن من ميزاته الأخري أسلوبها الشعري، و النسبية أو النظر إلي الحادثة الواحدة من زوايا مختلفة و عديدة.
ومن الروائين العرب الذين تجلّت هذه العناصر في نتاجهم، جمال الغيطاني، صنع الله ابراهيم، اميل حبيبي، جبرا ابراهيم جبرا، الطاهر وطّار، عبدالرحمن منيف، الياس خوري و… .
جـ: الرواية التجريبية
هذا الاتجاه أحدثُ اتجاه ظهر في العالم الروائي، والذي اعتمد عليه المعاصرون بوصفه تقنية جديدة من أجل تجاوز واقعهم الفني المستهلك، فقامت الرواية التجريبية علي توظيف البناءات والأحلام اللغوية، و استقلال تقنيات الشعور و اللاشعور، و انثيال الوعي و اللاوعي والأحلام، و إلغاء عنصري الزمان والمكان و… .
وقد ظهر هذا الاتجاه بغية بناء أدب مضادّ للابداع المتعارف عليه مسبقا عن طريق تدمير البنيات الشكلية للرواية، والعناصر الفنية، و تفجير اللغة، والخروج علي الأنماط الروائية السائدة نحو الإبداع و الإبتكار، و الولوع إلي عالم مستقبلي مجهول منقطعاً عن الماضي و الحاضر، متفائلا إلي المستقبل. ومن أشهر الروائيين الجدد، أحمد المديني حيث يري أن الرواية هي فيض لغوي و ثراء لفظي يتجاوز العادي و المألوف خارجاً عن البناء الروائي السابق. و من أشهر رواياته (زمن بين الولادة و الحلم).
المصادر
1- الاتجاه القومي في الرواية، مصطفي عبدالغني، عالم المعرفة، الكويت، 1994م.
2- الأدب القصصي و المسرحي، احمد هيكل، الطبعة الرابعة، دار المعارف، 1983م.
3- تطور الأدب الحديث في مصر، احمد هيكل، الطبعة السادسة، دار المعارف، مصر، 1994م.
4- تطور الرواية العربية الحديثة، عبدالمحسن طه البدر، الطبعة الثالثة، دار المعارف، 1976م.
5- تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام، ابراهيم السعافين، دار المناهل، بيروت، 1987م.
6- تطور فن القصة اللبنانية، علي نجيب العطوي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982م.
7- تكوين الرواية العربية (اللغة و رؤية العالم)، محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990م.
8- الرواية العربية: النشأة و التحول، محسن جاسم الموسوي، دار الآداب، بيروت، دون تاريخ.
9- الرواية العربية المعاصرة: بدايات و ملامح، محمد عزام، مجلة المعرفة، العدد 388، 1996م.
10- في الجهود الروائية (من سليم البستاني إلي نجيب محفوظ)، عبدالرحمن ياغي، دار الفارابي، بيروت، 1999م.


التصنيفات
لغــة وأدب عربي

قصيدة النثر

هذه المقالة كتبها المبدع العراقي باسم الانصار
كاتب الموضوع: باسم الأنصار – 11-07-2006

قصيدة النثر

حينما كتب الشاعر الفرنسي ( برتران ) مجموعة قصائده النثرية اليتيمة ( غاسبار الليل ) ، لم يكن يعلم بأنه من الممكن أن يُكتب الشعر من دون اوزان جاهزة ، ولهذا فهو ربما لجأ الى النثر لتفريغ شحناته الشعرية المنفلتة من قيود تلك الاوزان . أي بمعنى ، أنه لم يفكر بالخروج والتمرد على قصيدة التفعيلة في شكلها المعروف في زمنه حينما كتب قصائده النثرية . أي أن وعيه الشعري لم يسعفه في أكتشاف الشعر المتحرر من الاوزان في السياق الشعري العام ، لذلك راح يبحث عنه في سياق النثر العام . وسقط ( بودلير) بالقصور ذاته ، حينما لجأ الى النثر لكتابة شحناته الشعرية الثرية التي لاتقبل التأطير في أطار الاوزان الشعرية التي كان يسير على منوالها . أي أن ( بودلير ) لم يكن يعلم بأنه كان بالامكان كتابة الشعر الموسيقي اللاموزون ضمن سياق الشعر الخالص ومن دون الحاجة الى اللجوء الى النثر ، مثلما صنع الشاعر الامريكي ( والت ويتمان ) حينما كتب تنهداته الشعرية المنفلتة من الاوزان ( اوراق العشب ) ضمن أطار الشعر وليس النثر . بحيث صار ( ويتمان ) الرائد الاول للقصيدة الحرة التي ظهرت نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة .

ولكن هل أن عدم اكتشاف بودلير مثلا القصيدة المتحررة من الاوزان والمتمثلة ( بالقصيدة الحرة ) هو السبب الوحيد او الدافع الحقيقي الذي دفعه لكتابة قصيدة النثر ؟ وكيف سيكون الحال ، لو افترضنا مثلا أن ( بودلير ) قد توصل الى قناعة ( ويتمان ) في كتابة القصيدة الحرة ، فهل ان هذه القناعة ستغير من رغبته في كتابة قصيدة النثر ؟

الاجابة على السؤال الاول برأينا ستكون : لا . بينما أجابتنا على السؤال الثاني ستكون : نعم .

وذلك لان بودلير لجأ الى قصيدة النثر ليس هربا من قيود الاوزان فقط ، وأنما لانه أكتشف أمكانية أستخراج الشعر من السياق النثري ( وهذا مانعتقد أنه السبب الدفين من قبل بودلير في كتابته لقصيدة النثر ) . أي أن الهرب من الاوزان كان الحجة الظاهرة لكتابة قصيدة النثر ، بينما الحجة او الدافع الحقيقي لكتابتها هو قدرة النثر على انجاب القصيدة .

والشئ الذي يرسخ قناعتنا هذه هو أن بودلير لم يقصد في كتابته لقصيدة النثر ، التخلي عن قصيدة التفعيلة التي كان يكتبها وكتبها في مجموعته الشهيرة ( أزهار الشر ) . وهذا يعني أن قصيدة النثر لم تظهر نتيجة تمردها على قصيدة التفعيلة ، مثلما حدث مع القصيدة الحرة ، وأنما للسبب الذي ذكرناه قبل قليل .

فقصيدة النثر بأختصار لاتنتمي الى السياق الشعري المألوف ، وانما هي تنتمي بالاساس الى السياق العام للنثر اولا وللسياق الشعري العام ثانيا ، بفعل أدخال الادوات الشعرية الاساسية عليها . وأيضا يمكننا القول ان قصيدة النثر ليست مزجا بين الشعر والنثر كما يعتقد البعض ، وأنما هي خارج هذه المعادلة تماما ، على أعتبار أن المزج بين الشعر والنثر يؤدي بنا الى مايسمى ( بالنص المفتوح ) .

قصيدة النثر بأختصار ، هي نثر غايته الشعر .

سأوضح الامر بطريقة أخرى : حينما نتحدث عن الشعر العمودي الكلاسيكي ، فاننا لانتذكر شعريته فقط ، وانما نتذكر الاوزان التي تتحكم به . لذا حينما برزت الحاجة الى قصيدة التفعيلة ، فأن هذه الحاجة أتت من خلال رغبة الشاعر بالخروج عن قوانين الاوزان التقليدية . أي أن قصيدة التفعيلة نتجت بسبب جدلها مع القصيدة العمودية . وهذا الحال ينطبق على القصيدة الحرة ، التي نتجت من حاجة الشاعر الى الخروج على أوزان قصيدة التفعيلة المعروفة . أي انها ظهرت نتيجة جدلها مع قصيدة التفعيلة .

أما قصيدة النثر ، فأن بروزها الى الساحة الشعرية لم يكن نتاج جدلها مع القصيدة الحرة ولا مع قصيدة التفعيلة ولا مع القصيدة العمودية ، وانما هي نتجت بسبب رغبة الشاعر في استخراج الشعر من سياق النثر . أي ان قصيدة النثر ، تجربة شعرية متنوعة ومتحررة آتية من سياق آخر غير السياق الشعري المتعارف عليه .

ولهذا السبب ، أحتفظ الشعراء الفرنسيين والاوربيين والامريكيين فيما بعد على القوانين الاساسية لقصيدة النثر في كتابتهم لها على الرغم من مرور اكثر من مئة عام على ظهورها . أي أنهم لم يتجاوزوا شروطها الاساسية لكتابتها الا وهي ( الاختزال ، التكثيف ، اللاغرضية ، وشكلها المقطعي ) .

وحينما حاول البعض منهم أضافة بعض اللمسات الفنية عليها ، فأنهم لم يفكروا بتحطيم شروطها الاساسية المذكورة أعلاه ، وأنما فكروا بأجراء بعض الاضافات على الشروط الاخرى التي تتحكم بها . ولهذا ظهرت لنا اشكال وأساليب جديدة في كتابتها ودُبجت تحت تسميات مختلفة مثل ( قصيدة النثر السريالية ، قصيدة النثر المفتوحة ، قصيدة النثر الكتعيبية ) .

فعدم خروج شعراء فرنسا وامريكا مثلا ( وهم روادها القدماء والحديثين ) على شروط قصيدة النثر الاساسية ليس نابعا من عدم ديناميكتهم ، وأنما نابع من أيمانهم بأن الخروج عليها معناه خلق نص شعري مغاير ومختلف عن قصيدة النثر ، وبالتالي يتحتم عليهم أطلاق تسمية أخرى على هذا النص ، غير تسمية قصيدة النثر .

وأذا أنتقلنا الى التجربة العربية في كتابة قصيدة النثر فأننا نرى أن بعض الشعراء العرب البارزين ، ألتزم بالقوانين الاساسية المتحكمة بقصيدة النثر بحكم أستيعابهم لها بشكل صحيح ، ولكن الغالب الاعم من الشعراء العرب لم يلتزم بهذه القوانين ، ليس رغبة منهم بالتمرد على الشكل الاساسي لها ، او رغبة منهم بأجراء الاضافات عليها ، وأنما بسبب سوء فهمهم لشروط قصيدة النثر . فصار البعض منهم مثلا يشيع مصطلح ( قصيدة النثر المشطرة ) وهو مصطلح ( مع اعتزازنا وتقديرنا لمن أطلق هذه التسمية ) ليس تمرديا او نابعا من رغبة حقيقية لخلق خصوصية عربية في كتابة قصيدة النثر . فهذا المصطلح ظهر بعد أن كتب الكثير من الشعراء العرب قصيدة النثر بشكل خاطئ . أي أنهم كتبوا قصيدة النثر على طريقة الشطر بسبب سوء فهمهم لها وليس حبا منهم للمغايرة . ومن اطلق هذه التسمية كان يريد أن يغطي على تنظيراته الخاطئة بعد أن أكتشف خطأها ، ولكنه لم يصرح بذلك لأسباب لاعلم لنا بها .

فكل من يفكر بالتمرد على حالة ما موجودة من اجل خلق المغاير والمختلف عليه أن يوضح لنا شيئين :

الاول : لماذا يتمرد على الشكل السائد ؟

والثاني : ماهي الاضافة التي يريد أضافتها على الشكل السائد ؟

وكذلك هناك نقطة اخرى في غاية الاهمية مرتبطة بنفس القضية ، ألا وهي أن من يتمرد على شكل فني او شعري ما عليه أن يستوعب أولا حد التخمة هذا الشكل الفني او الشعري قبل أن يتمرد عليه . والسؤال يبرز هنا تلقائيا : هل أن الشعراء العرب هضموا وكتبوا قصيدة النثر بشكلها المتعارف عليه في اوربا وامريكا حد التخمة لكي يظهر لديهم مبرر التمرد عليها ؟ وهل أن خروجهم على قوانين قصيدة النثر الاساسية نابعة من رغبة حقيقية لخلق شكل مغاير لها أم انه تمرد ناتج من سوء الفهم لها ؟

نحن نظن بأن قصيدة النثر العربية المشطرة خاطئة لأنها خرجت أولا على واحد من أهم شروط قصيدة النثر ، ألا وهو شرط شكلها المقطعي ، وهو شرط لم ينتج أعتباطا ولم يوضع لكي يتميز بشكله عن شكل قصيدة التفعيلة في زمن نشوءها فقط ، وأنما هو شرط نابع من طبيعة شكل النصوص النثرية الذي تنتمي اليه قصيدة النثر .

وكذلك هي خاطئة بسبب نسيانها دوافع التشطير في الشعر . فتشطير القصيدة ، يعني وجود ايقاع وموسيقى داخلية او خارجية مفروضة عليها من قبل النظام الذي تكتب به ( كقصيدة التفعيلة ) واحيانا من قبل الشاعر الذي يكتبها ( كالقصيدة الحرة ) . بمعنى أن حجم وشكل الشطر الشعري يتبع شروط الاسلوب الشعري الذي تُكتب به .

ولهذا نقول بأن بناء الجملة في القصيدة الحرة أو شكلها العام لم يظهر أعتباطا بشكلها المشطر . فعلى الرغم من أن شكل القصيدة الحرة لايتبع الاوزان المعروفة ، الا أن هندستها بالشكل المشطر ظهر بسبب الايقاع أو الموسيقى الشعرية التي تملى على الشاعر من أعماقه في لحظة كتابته ، وهي ايقاعات مستمدة بالاساس من مزاجه النفسي والذاتي ومن المزاج العام الموضوعي المحيط به ، أي من طبيعة حركة وأيقاع الحياة المحيطة بالشاعر ، غير أن الفرق بينها وبين ايقاعات قصيدة التفعيلة ، أن الاولى تكتب من دون اطار محدد مسبقا لموسيقاها وايقاعاتها ، بينما الثانية تُكتب حسب أطر أيقاعية مسبقة وثابتة . ومن يدري ربما سيظهر لنا ( فراهيدي ) آخر في زمن ما ، ويحدد للشعراء طبيعة الايقاعات التي كتب على غرارها شعراء القصيدة الحرة .

والشئ الاخر الذي يدعونا للتحفظ على قصيدة النثر العربية المشطرة ، هو تجاوزها على الشكل العام للقصيدة الحرة ولقصيدة التفعيلة أيضا . فلايجوز مثلا أن نقول عن القصيدة العمودية بأنها قصيدة تفعيلة سيّابية مثلا ، وكذلك لايجوز أن نقول عن القصيدة السيّابية أنها قصيدة حرة ، مثلما لايجوز أن نقول عن قصيدة التفعيلة أنها قصيدة نثر ، وهكذا . فلكل هذه الاشكال الشعرية شروطها وقوانينها الاساسية التي خلقتها ومن ثم خلقت تسمياتها .

أن مايكتبه الشعراء العرب بشكل عام هو القصيدة الحرة وهو النمط الشائع الان تقريبا في اوربا وامريكا وربما في العالم . ولكن تسميتهم لهذا النوع الشعري خاطئ . ففي غالب الاحيان يطلقون هذا المصطلح على قصيدة التفعيلة ، وأحيانا أخرى يطلقون مصطلح قصيدة النثر على القصيدة الحرة ، الى الحد الذي أوصلنا الى عدم تناول مصطلح القصيدة الحرة في الشعر العربي المعاصر مع أن الكثير منه ينتمي الى سياقها .

قد يظن البعض أن قضية التسمية والمصطلحات ليس لها أية أهمية تذكر ، بل وليس لها أية علاقة بشعرية النص الشعري . ونحن نقول أن هذا التصور خاطئ أيضا . لأننا حينما نكتب قصيدة نثر ، فأنه سيتبادر الى أذهاننا أن بناء الجملة فيها وبناءها العام هو بناء نثريا ، أي أن اللغة المستخدمة فيها في الغالب وليست دائما لكي نتوخى الدقة في الكلام ، هي لغة نثرية بالاساس اكثر مماهي لغة شعرية . بينما لغة القصيدة العمودية والتفعيلة والحرة ، هي لغة شعرية بالاساس ونثرية احيانا قليلة . ولهذا فحينما يكتب البعض قصيدة حرة بلغة غير لغتها ، أي بلغة قصيدة النثر مثلا ، فأنه يُحدث خللا لايستهان به في شعرية القصيدة الحرة ، وهنا مكمن الاساءة الى الشعر بشكل عام .

حينما يكتب شاعر ما أعتقادا منه بأن قصيدة النثر هي الشكل الاخير للشعر ( وهي ليست كذلك طبعا ) ، ولأعتقاده بأنها نتاج السياق الشعري الخالص فأنه سيكتب الشعر وخصوصا القصيدة الحرة بلغة النثر أكثر مما يكتبها بلغة الشعر . أي انه سيجعل الجملة وسيلة توصله الى الصورة الشعرية ، أكثر مماهي كائن مستقل يمكن أستخراج السؤال والرؤى والتصورات الشعرية منها .

الشئ الذي نود قوله أن الخلط بالتسميات للاشكال الشعرية ليس هينا وليس عابرا ، لانه يؤثر بشكل أو بآخر على شعرية القصيدة . فقصيدة النثر ليست الشكل الاخير للشعر ، وأنما برأينا أن ( القصيدة الحرة ) هي الشكل الشعري الاخير النابع من السياق الشعري العام .

وحتى هذه اللحظة فأن الكثير من شعراء اوربا وامريكا والعالم يكتبون القصيدة الحرة بالدرجة الاساس على اعتبار انها الشكل او القالب الاخير في كتابة القصيدة الشعرية الذي يناسب أيقاع العصر وموسيقاه ويناسب مزاج الشاعر النفسي في الوقت ذاته . بينما تأتي كتابتهم لقصيدة النثر لانها تستوعب شحناتهم الشعرية الانفعالية المتشكلة على هيئة النثر في اعماقهم وليس على هيئة الشعر المعروفة .

فكما هو معروف أن النثر سلسلة متواصلة من الجمل ، وهذه السلسلة تكون مترابطة عبر ادوات النثر المألوفة ، بينما جمل الشعر المشطرة غير مترابطة او متواصلة بطريقة النثر ، على الرغم من ترابطها وتواصلها الظاهر والباطن . وسبب اختلاف شكل الشعر عن شكل النثر برأينا هو بسبب أن الاول شعر ، وأن الثاني نثر . أي أن سبب أختلاف الشعر عن النثر ، ليس بسبب تحكم الاوزان التقليدية به ، وأنما لانه شعر قبل كل شئ . والشعر ، لايختزل بالاوزان والايقاعات ، وانما هو اكبر واوسع من هذا الجانب . ومن هذا المنطلق نقول ان الشعر يكمن في كل شئ في الوجود ، بما فيه النثر .

الشئ الذي نود قوله أن قصيدة النثر بالاساس لم تظهر لكي تزيح شكلا شعريا سابقا لها ، وأنما ظهرت لكي تصبح اضافة فنية راقية للاشكال الشعرية السائدة ، كالاضافة الشعرية الجميلة التي ستنتشر بالمستقبل أكثر من قبل والمتمثلة ( بالنص المفتوح ) أو ( النص متعدد الاجناس ) كما يحلو لنا التعبير عنه . حينذاك سنجد أن الشعراء سينشغلون بهذا النوع الكتابي أيضا وسينشغلون بالتنظير للشعرية الكامنة فيه ، وهي موجودة طبعا ، ولكن ليس ليثبتوا بأنه الشكل الشعري الاخير لانها ليست كذلك برأينا ، وأنما لان النص المفتوح سيكون مؤهلا لاستيعاب الشحنات الشعرية والنثرية أكثر مماتستوعبه قصيدة النثر او القصيدة الحرة ، مثلما لايستوعب النص المفتوح الشحنات الشعرية لقصيدة النثر وللقصيدة الحرة . ومن هنا نصل الى قناعة ان ضرورة قصيدة النثر نابعة كونها تستطيع استيعاب الشحنات الشعرية الكامنة في اعماق الشاعر التي لاتستطيع استيعابها القصيدة الحرة ، مثلما لاتستطيع قصيدة النثر استيعاب الشحنات الشعرية التي تستوعبها القصيدة الحرة .

فالعلاقة بين قصيدة النثر والقصيدة الحرة ، علاقة قائمة على المودة والصداقة وليس على النزاع والصراع ، لسبب بسيط جدا هو لانهما يسيران بخطين متجاورين وليس متصادمين . اذن لندعهما هكذا ولنبعد عنهما شروط الصراع لان الشعر لايصارع نفسه ليقهرها وانما ليجعلها تتوهج اكثر فاكثر كتوهج النار في المواقد القديمة .