تخطئة : علّل والتعليل
محمد خليل الزَّرُّوق
تقديم :
هذا اللفظ المخطَّأ هو : علّلَه تعليلاً ، على معنى : نَظَر في علّته ، أو ذكر علته ، والعلة بمعنى السبب . وهو مستعمل من قديم في العلوم ، كالعربية والكلام والفلسفة ، ومن استعماله في الشعر قول ابن سناء الملك :
ورب مليحٍ لا يُحَبّ ، وضدُّه يُقَبَّلُ منه العينُ والخدّ والفمُ
هو الْجَدّ خذْهُ إن أردت مسلّمًا ولا تطلب التعليل ؛ فالأمر مبهَمُ
( الْجَدّ : الحظّ ) .
ولم أر من تكلم عليه إلا الشيخ الأستاذ محمد علي النجار في كتابه الموسوم بـ ” لغويات ” ، وهو كتاب جمع فيه بعض ما كان ينشره في مجلة الأزهر بهذا العنوان ، وقال في مبحث هذا اللفظ : ” وقد تحدث بعض المعنيين بالعربية في عربية هذا الأسلوب ” ، وقال : ” ومن ثَمّ أنكر بعض الباحثين هذا الاستعمال ” ( ص141و142 ) . وهذا يفيد أن له سابقًا في الكلام عليه ، ولا أدري : أسَبْقُه شفويّ أم كتابيّ ؟
ونقل كلام الشيخ بألفاظه واقتباسه وشواهده : محمد العدناني ، في كتاب : معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة ( ص461 ) ولم ينسبه إليه .
* * *
الأصل :
وأصل هذه المادة : علّ يعِلّ ويعُلّ ، من بابي ضرب ونصر ؛ أي شَرِبَ شُرْبًا ثانيًا ، والمصدر : العَلّ والعَلَل ، والشرب الأول النَّهَل . وذلك أصل واحد ، لا ثلاثة أصول كما ذهب ابن فارس في معجم المقاييس ، فجعل الأصل الأول : تكرارًا ، والثاني : عائقًا ، والثالث : ضعفًا ( 4/12 ) – لأن العلة بمعنى الحدث الذي يشغل ، وبمعنى المرض ، ترجع إلى أصل التكرار ، وما أحسن ما فسّر به الشيخ النجار ! ولم أجده في المعجمات ؛ إذ ردّ العلة بمعنى المرض إلى الحمّى تعتاد الإنسان بعَرَقها ، ثم أُطلق على كل مرض ، والعلة بمعنى الشاغل من تشبيه الشاغل بالمرض الذي يحجِز عن العمل ، والعلة بمعنى العذر من تشبيه العذر بالمرض ؛ لأن المريض يسقط عنه اللوم والمعتبة ، ولما كان العذر سببًا يتمسّك به المعتذر أطلقت العلة على السبب . وأظن أن منه : لعلّ ، وهي حرف رجاء لما يُستقبل وإشفاق ، وما يُستقبَل تالٍ للحاضر .
وجاءت العلة بمعنى العذر أو السبب في حديث عائشة – رضي الله عنها – في صحيح مسلم ( حديث 1211 ) ، وذلك قولها تعني أخاها عبد الرحمن – رضي الله عنه – : ” فيضرب رجلي بعلة الراحلة ” ؛ أي : يُظهر أنه يضرب البعير ، وإنما يضرب رجلها ” .
وجاءت بهذا المعنى في قول البخاري في عنوان باب : لا صدقة إلا عن ظهر غنًى : ” .. فليس له أن يضيِّع أموال الناس بعلة الصدقة ” .
وفي المثل : ” لا تَعْدَمُ الخرقاء علة ” .
وفي المادة من الأفعال : علّ ، وأعَلّ ، وعلّل ، وتعلّل ، واعتلّ ، وعالَل ، وتعالَل .
والمقصود في هذه الكلمة من هذه الأفعال : علّل ، على وِزان : فعّل ، وهو الْمُخَطّأ بالمعنى المذكور ، ومصدره : التعليل . واعتلّ ، على وِزان : افتعل ؛ لما سأبينه ، إن شاء الله ، ومصدره : الاعتلال .
* * *
معنى علَّل :
وما جاء من معنى علّل في المعجمات :
1- علّله : سقاه مرة بعد مرة . ومن ذلك قول رجل من كِنْدة يذكر أخْذ امرئ القيس بثأره :
وأقام يُسقَى الخمرَ في عرَصاتهم ملكٌ يُعَلّ شرابَه تعليلا
( شرح القصائد السبع ص12 ) . والشاهد في قوله : ” تعليلا ” ، وهو مصدر خالف بينه وبين فعله ، كما قال الله تعالى : ) وتبتّل إليه تبتيلا ( .
2- والتعليل : جنْيُ الثمرة مرة بعد أخرى . ذكره صاحب الصحاح . وجاني الثمرة هكذا يقال له : الْمُعَلِّل ، كما في التاج .
3- والمعلِّل : الْمُعين بالبِرّ بعد البِرّ ، عن ابن الأعرابي .
4- وعلّله : طيّبه مرة بعد أخري ، وعليه قول امرئ القيس في القصيدة المعروفة :
فقلت لها : سِيري وأرخي زمامه ولا تُبعديني من جناك المعلَّل
إذا رُوي على اسم المفعول .
5- وعلّله : شغله وألهاه . وفُسّر به قول امرئ القيس إذا روي على اسم الفاعل ، أي : المعلِّل . ومنه يقال : علّلتِ المرأةُ صبيَّها بشيء من المرَق والخبز ؛ ليَجْزَأ به عن اللبن . وقال جرير :
تُعَلِّل – وهي ساغبة – بنيها بأنفاسٍ من الشَّبِم القَراحِ
( السغَب : الجوع ، والقَراح : العَذْب ، والشبِم : البارد ، والنفَس من الماء : الذي يروي ويكفي . يذكر امرأته ، ويسْتَنْزل عطاء عبد الملك بن مروان ) . ويقال : فلان يعلّل نفسه بتَعِلّة . وعلّله بحديث أو طعام . والمعلِّل : يوم في آخر الشتاء يعلّل الناس بشيء من تخفيف البرد .
* * *
شواهد من الشعر :
وأكثر ما جاء علّل والتعليل في الشعر على هذا المعنى الأخير ، معنى الإلهاء والشَّغْل والصَّرْف والتسلية عن الشيء .
• قال عبدة بن الطبيب :
ثم اصْطَبَحْتُ كُمَيْتًا قَرْقَفًا أُنُفًا من طيّب الرّاح ، واللّذاتُ تعليلُ
( كُميت : بين الأسود والأحمر ، وقَرْقَف : يُرْعِد شاربَه ، وأُنُف : لم يُشرَب ، واصطبح : شرب صباحًا ) .
• وقال عَدِيّ بن الرِّقاع :
تصطادُ بهجتُها الْمُعَلَّلَ بالصِّبا عَرَضًا ، فتُقْصِدُه ، ولن يصطادَها
( البهجة : الحسن ، وتُقصده : تقتله مكانَه ) .
• وقال جرير :
كم قد قطعن إليك من مُتَماحِلٍ جدْبِ الْمُعَرَّج ، ما به تعليلُ
( متماحل : بعيد الأطراف ، والمعرّج : الْمُناخ ؛ أي للإبل ، ما به تعليل : ما به مرعًى تُعلَّل به الإبل ) .
• وقال جرير أيضًا :
أجِدَّكَ لا يصحو الفؤاد الْمُعَلَّلُ وقد لاح من شيبٍ عِذارٌ ومِسْحَلُ
( أجِدَّك : أحقًّا ، والعِذار : شعر جانب الوجه ، والمِسْحل : ما تحت الذَّقَن ) .
• وقال الأحوص :
أزعمتِ أن صبابتي أكذوبة يومًا ، وأن زيارتي تعليلُ
• وقال ابن الرومي :
فهلاّ بذلتِ الوعد ثم مطلتِه فعلّلْتِ تعليلَ المجامل ذي الْمَطْلِ
* * *
حجج التصحيح :
فهذا هو معنى هذا اللفظ واستعماله ، ولم يجئ بمعنى ذكر العلة أو السبب ، فيما أعلم . إلا في ما لا يُحتَجُّ به أو فيه شبهة سنكشفها ، إن شاء الله .
1- فمن ذلك ما صحّح به الشيخ محمد علي النجار هذا الاستعمال ، وهو أنهم قالوا : الْمُعَلِّل ، لدافع جابي الخراج بالعِلل ، قال : ” فعلى ذلك يُقال : علّل ؛ أي : ذكر العلة أو العِلل ” ( ص142 ) . والصواب أنه إنما سُمّي بذلك لأنه يدفع الجابي ؛ أي يصرفه ويشغله عن المال ، لا لأنه يذكر العِلل ؛ أي الأعذار ، ولو كان المراد ذلك لسمَّوْا كل ذاكر للعِلل مُعَلِّلاً ، ولم نعلمهم فعلوا ذلك .
2- ومن ذلك ما جاء في كتاب الإيضاح في علل النحو للزَّجَّاجيّ ( توفي سنة 337 ) عن الخليل بن أحمد ، قال : ” وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد – رحمه الله – سئل عن العلل التي يَعتلّ بها في النحو ، فقيل له : عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك ؟ فقال : إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، وعرفت مواقع كلامها ، وقام في عقولها عِللُه ، وإن لم يُنقَل ذلك عنها ، واعتللْت أنا بما عندي أنه علة لما علّلتُه منه … فإن سنح لغيري علة لما علّلتُه من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها ” ( ص65-66 ) . فترى أن فيه الاستعمال الذي أخطّئه . ولكن لا ثقة لنا بأن هذه ألفاظ الخليل ، فالخبر غير مسنَد ، وذكره مَنْ بينه وبين الخليل نحو مائتي سنة ، وفيه لفظ مشهور التخطئة عند العلماء وهو : المعلول ، فإن صحت نسبة هذا المعنى إلى الخليل فلن تصح نسبة هذه الألفاظ إليه .
3- ومن ذلك قول العباس بن الأحنف :
خذوا ليَ منها جُرْعةً في زجاجةٍ ألا إنها – لو تعلمون – طبيبي
فإن قال أهلي : ما الذي جئتمُ به ؟ وقد يُحسِنُ التعليلَ كلّ أريب
فقولوا لهم : جئناه من ماء زمزمٍ لنشفيَه من دائه بذَنوب
( الذنوب : الدلو ) فعلى أنه لا يُحتجّ به ؛ لأنه مُحدَث ، هو ظاهر الاستقامة على الاستعمال القديم ، ويدلّك على ذلك أن السؤال في قوله : ما الذي جئتمُ به ؟ عن الماهية لا عن العلة ، فيكون المعنى : تستطيعون صرفهم عن الإلحاح في البحث بأن تعلّلوهم بهذا القول ، وهو أن هذا من ماء زمزم جئناه به ليستشفي به ، وأنتم قد كنتم في الحجاز ، فما أسهل هذا القول عليكم ! وما أسهل أن يصدّقوه ويلهُوا به !
* * *
البديل الصحيح :
والصواب أن يقال إذا أُريدَ : ذَكَرَ العلة : اعتلّ ، وفي المعجمات : اعتلّ عليه بعلة : اعتاقه عن أمر ، والمعنى : ذكر له علة عاقه بها عما يريد . وفيها : اعتلّ : تمسّك بحجة . ومن شواهد ذلك :
1- المثل : يعتلّ بالإعسار وكان في اليَسَار مانعًا .
2- وما أنشده أبو زيد في نوادره ( ص 248 ) :
إن تبخلي – ياجُمْلُ – أو تَعْتَلِّي
أو تصبحي في الظاعن الموَلِّي
نُسَلِّ وجد الهائم الْمُغْتَلِّ
ببازل وَجْناء أو عَيْهَلِّ
( الْمُغْتَلّ : الذي اغتلّ جوفُه من الشوق والحب والحزن كغُلّة العطش ، والبازل : الداخل في السنة التاسعة من الإبل ذكرًا كان أو أنثى ، والوجناء : الممتلئة باللحم أو الشديدة ، والعيهلُ : الطويلة أو السريعة ، وتشديد اللام ضرورة ) .
3- وحديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لرجل : ما حبسك عن الصلاة ؟ فذكر شيئًا اعتلّ به ” ( مسند الإمام أحمد 3/85 ) .
4- وحديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -قال للرجل الذي اشتدّ على جابر في تقاضي دينه : ” أيْسِرْ جابرَ بن عبد الله ( أي : أَنْظِرْه إلى ميسرة ) ، فقال : ما أنا بفاعل ، واعتلّ ، وقال : إنما هو مال يتامى ” ( مسند الإمام أحمد 3/398 ، وسنن الدارمي ، حديث 45 ) .
5- وحديث النعمان بن مُقَرِّن – رضي الله عنه – قال : ” قدم رجال من مُزَيْنة ، فاعتلّوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم لا أموال لهم يتصدقون منها ” ( الإصابة 6/449 ، وقال : أخرجه ابن شاهين ) .
6- وقال الفرزدق :
له راحةٌ بيضاءُ يَنْدَى بَنانُها قليلٌ إذا اعتلّ البخيلُ اعتلالُها
نسب الاعتلال إلى اليد ، والمراد صاحبها ، وهو الممدوح .
7- وقال كُثَيِّر :
إذا ذرفتْ عيناي أعتلّ بالقذى وعزّةُ – لو يدري الطبيب – قذاهما
وأنتِ التي حبّبْتِ شَغْبًا إلى بَدَا إليّ ، وأوطاني بلادٌ سواهما
حلَلْتِ بهذا حَلّةً ، ثم حَلّةً بهذا ، فطاب الواديان كلاهما
( شَغْب وبَدَا : موضعان ) .
8- وقال أبو قيس بن الأسْلَت :
وتُكرِمُها جاراتها فيزرْنَها وتعتلّ عن إتيانهن فتُعْذَرُ
والله أعلم
نشر في : مجلة الثقافة العربية – بنغازي 9/2003
مجلة جذور جدة – 3/2004