ـ أخطر آثار تشويه التاريخ هو القضاء علي النموذج العلمي الناجح لتطبـيق الإسلام .
ـ تاريخنا مغيب منذ ما يسمي "بعصر النهضة" .. ومشكلته أنه يُكتب في إطار فكرة مسبقةـ
الأزمات التي تحيط بالأمة الإسلامية في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها كثير ، حالت دون اضطلاع المسلمين بدورهم الحضاري الذي كلفهم إياه ربهم في كتابه "كنتمً خّيًرّ أمَّةُ أخًرجّتً للنَّاس" ( آل عمران: 110) ، وشواهد التاريخ تقول : إن الاحتكام للعقيدة والشريعة الإسلامية كان أساس نهضة الأمة وريادتها ، ولكن حقائق كثيرة تعرضت للتشويه ، وثوابت أصيلة نالها الطعن ، وتجنى عليها الأبناء قبل الأعداء.. فماذا نحن فاعلون ؟ للإجابة عن هذا السؤال نستضيف من خلال الحوار التالي: الدكتور عبدالعظيم محمود الديب, أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر, وأبرز المهتمين بتاريخ الأمة الإسلامية ، حيث حقق جميع أعمال إمام الحرمين الجويني في نحو 21 مجلدا, علاوة علي كتاباته التاريخية والفقهية التي تحرر الكثير من المغالطات والشبهات التي تثار حول الفكر الإسلامي.. فكتب (المستشرقون والتاريخ الإسلامي – المستشرقون والتراث – جنوب السودان وصناعة التآمر ضد ديار الإسلام – لغة القرآن ماذا يراد بها – التبعية الثقافية – الغزالي وأصول الفقه – العقل عند الأصوليين – علم اختلاف الفقهاء – القوميات.. ما وراءها – الحوار والتعددية في الفكر الإسلامي – جمع السنة وتصنيفها بواسطة الحاسب الآلي – الكمبيوتر حافظ عصرنا…)
وإلى تفاصيل الحوار:
في البداية ما رأيك في المطروح من الكتابة التاريخية الآن؟
–أستطيع أن أقول : إن صورة التاريخ الإسلامي في أذهان الأمة الإسلامية عامتها ومثقفيها وعلمائها ودعاتها (ولا استثني إلا من رحم ربك) صورة مشوهة بمعني أنها ممزقة, وعبارة عن نتف ومزق, لا تكوّن صورة كاملة ذات معالم وملامح ناطقة ، بل هي مزق متنافرة تعطي إحساسا بالنفور من التاريخ , بل لا نبالغ إذا قلنا : إنها تكوّن عاطفة كراهية لدى الكثيرين.
ودلائل ذلك كثيرة عندي وتحت يدي, فكثير من العلماء والدعاة والمثقفين تصدر منهم عبارات وجمل تلقي باللوم والتقريع علي تاريخنا وتحمله مسئولية ما نحن فيه من انحدار وضياع وانبطاح.
تشويه التاريخ :
فمثلا حينما يكتب أحد الأدباء مسرحية عن جميلة بوحريد المجاهدة الجزائرية يجعلها ، وهي تئن من تعذيب الفرنسيين لها في السجن تصرخ: " يا إلهي من كربلاء لم يحدث مثل هذا..", وحينما يكتب أستاذ جليل لا أتهمه في علم ولا دين ولا خلق كتابا عن مناهج الفكر في الإسلام ويقول في مقدمته " وفي الأمويين جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء.. " إلخ ما قال.
ويكتب كاتب إسلامي عن معركة جوهر دوداييف المناضل الشيشاني مع يلتسين وما أصاب مدينة جروزني فيقول: " رأيت الجحيم ومظاهر القيامة في جروزني.. وقد تقمص يلتسين قميص يزيد بن معاوية بامتياز " وعندي مئات الأمثلة والنماذج من هذه.
فهذه الأمثلة تشهد بورودها على ألسنة المثقفين والعلماء والإسلاميين بأنهم يكادون – حيث لا يشعرون – يبررون هذه الجرائم التي نعيشها ، فإذا كان هذا قد حدث في فجر تاريخنا في القرن الأول خير القرون ، فما بالكم تشكون وتستنكرون أن يحصل لكم هذا الآن ؟
ومن مظاهر التشويه أيضا أنك لا تجد داعية إسلاميًا يحاضر أو يخطب يستدعي من التاريخ أو يستظهر إلا بعهد عمر ، وكأن الأمة المسلمة انقرضت بعد عهد عمر بن الخطاب ، وتبدلت خلقا آخر ، إلا القليل يعود إلي عهد عمر بن عبد العزيز.
كيف بدأ تشويه التاريخ الإسلامي ؟ ومتي ؟
– في الحقيقة أن استدعاء التاريخ دائما ظاهرة صحية لأن النماذج الواقعية أكثر تأثيرا من النظريات والوصايا والعظات , ولكن غُيب عنا تاريخنا منذ زمن ما سمي بعصر النهضة , فأعتقد أنه لم يكن يوجد درس خاص في مناهج التعليم قبل ما يسمي عصر النهضة , ولم يكن يوجد ما يسمي درس التاريخ , فكان هناك التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلوم الحديث والفقه والأصول والأدب والشعر واللغة والنحو وعلوم البلاغة, بل وعلم اختراق الآفاق (الجغرافيا) وعلم الهيئة (الفلك) وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) والكيمياء.. إلخ. أما التاريخ فكان يُقرأ في كتب الإخباريين ، وكانت أول محاولة لوضع فلسفة التاريخ وكتابته هي مقدمة ابن خلدون في القرن التاسع الهجري , لكن منذ بدء تأسيس المدارس علي النمط الغربي ، وبدأت دروس خاصة بالتاريخ وضعت مناهج نسقت وبوبت بعناية بحيث تعطي نفورا ، وتعطي صورة ممزقة للتاريخ الإسلامي ، ثم ساعد على ذلك أيضا وسائل أخرى من وسائل التثقيف ، مثل المقال والمسرحية والتمثيليات ووسائل الإعلام كلها.
الاستشراق :
من خلال قراءة كتب التاريخ , نلمح العديد من آثار كتابات المستشرقين الذين مثلوا المرجع الأساس لكثير من مفكرينا وكتابنا.. فماذا عن دور الاستشراق في هذه المسألة ؟
– المشكلة الحقيقية في كتابة التاريخ أنه يُكتب في إطار فكرة , ويثار علي أنه أحداث تنتهي إلي غاية , وفي البداية كان التاريخ يكتب علي أنه حوليات أو خطط.. أي أن المعيار الذي يمسك وقائع التاريخ لم يكن متعلقا بالفكرة نفسها , وإنما بذكر الأخبار والأحداث دون تحليل أو تفسير مثلما فعل الطبري , وكتاب الطبقات, وكان التاريخ مجرد تدوين للأحداث وتنشيط للذاكرة…
وعندما جئنا نكتب تاريخنا الحديث كان يمكن أن يتحول التاريخ إلي غائي, ولكننا استُعمرنا فكريا وحدث أمران: سيطرة النظر العلماني علي التاريخ الحديث, وسيطرة الاستشراق علي التاريخ الإسلامي.
فالاستشراق حكم علي التاريخ عند كتابته بروحين, بوصفه موضوعيا وليس علمانيا, فالمستشرق يحكم عقله, وعقله إما عقل نصراني لا يفهم الإسلام, ومن ثم يفصل بين الدين والدنيا, ولا يستطيع أن يوصل بين الاثنين ليفهم الظاهرة الإسلامية في واقعها المعيش ، كما أن العقل العلماني يحكم علي الدين بوصفه بيئة للتخلف, فمن ثم الدين الإسلامي – في نظره متخلف لا يعتد به, وبهاتين النظرتين لا نستطيع إيجاد صيغة منضبطة للتاريخ ، هكذا صيغت الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.
ومن هنا وجدنا مثلا كل من قرأ وكتب وجلس علي مقعد الدرس يعرف ويحفظ عن ظهر قلب موقعة الجمل وصفين والتحكيم وكربلاء ومقتل الحسين, علي حين لو سألت خريجا في كلية الآداب قسم التاريخ عن معركة (ملاذ كرد) أو عن (جلال الدين منكبرتي) أشك أن تجده يعرف حتي الاسم وهذه من ضمن المعارك الكبري في تاريخ الإسلام, وبالمثل لو سألت حتي المتخصصين في التاريخ الإسلامي عن عدد الغزوات التي حاول الغرب فيها الوصول إلي مكة والمدينة والهجوم علي الحرمين الشريفين لا تجد خبرا ، فمن الذي وضع هذه الصفحة في بؤرة الشعور ، وطوى تلك الصفحة ؟!.
وما هي أهم انعكاسات تشويه تاريخنا علي واقعنا المعاصر ؟
– إن أخطر الآثار لهذا التشويه هو القضاء علي النموذج العلمي الناجح لتطبيق الإسلام, فمعلوم أن المبادئ لا تظهر صلاحيتها وتثبت جدواها إلا بالتطبيق العملي, فكم من فلسفات ومشاريع حينما تُقرأ تجدها مُعجبة رائعة, لكن عند التطبيق تفشل فشلا ذريعا مثل الماركسية مثلا ، فحينما تشوه صورة التاريخ الإسلامي فمعناها عجز الإسلام عن النجاح في التطبيق ، وعدم قدرة المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية علي النهوض بالأمم وصياغتها.
وهذا هو الحادث في ثقافتنا الآن, فتجد الدعاة حينما يسألون كيف ستكون الدولة الإسلامية وإلام تدعوننا ؟ ويواجهون بالصور الشوهاء من التاريخ الإسلامي, تجد الدعاة لا يجدون جوابا, بل يقولون "ندعوكم إلي ما في كتاب الله, وإلي ما صح من سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم, فالتاريخ لا يحكم علي الإسلام, وتصرفات المسلمين لا تحكم علي الإسلام, بل الإسلام هو الذي يحكم علينا".
فيجيب المعاندون قائلين: «إذا فشل وعجز الجيل الأول من الصحابة والتابعين عن تطبيق الإسلام فهل تنجحون أنتم ؟!».
وهذه هي حجج فرج فودة وسعيد العشماوي ورفعت السعيد, وغيرهم من العلمانيين ، ويظل الإسلام مشروعًا نظريًا غير مطبق, ولذلك حينما يدعو الرأسماليون إلي مناهجهم يقدمون أمريكا نموذجا, وحينما يدعو الليبراليون والعلمانيون إلي مناهجهم يقدمون أوروبا نموذجا, وكان الشيوعيون يقدمون الاتحاد السوفيتي نموذجا, أما الإسلاميون فيقال لهم:
إلى أي إسلام تدعون: إلي إسلام عثمان بن عفان الذي أعطي الضوء الأخضر لبني أمية فنهبوا مال الأمة وركبوا رقاب العباد, أم إلى إسلام الأمويين الذين هُدمت الكعبة في عهدهم واستبيحت المدينة وقتل الحسين, أم إلى إسلام العباسيين ومسرور السياف ومباذل هارون الرشيد وأبي نواس (بالرغم من أن أبو نواس لم يلتق بهارون الرشيد نهائيا), أم إلى إسلام الأتراك واستبدادهم وجهلهم, أم إلى إسلام المماليك وفظائعهم, أم إلى إسلام النميري, أم إلي إسلام الخميني ؟!.
ومن مظاهر هذا التشويه أيضا أننا أصبحنا نتحدث عن التقدم والتطور والتنمية وليس أمامنا إلا النموذج الغربي ، وأقصي ما يمكن للإسلاميين أنهم يريدونه لابسًا عمامة الإسلام, أما التقدم والتطور والتنمية بناءً علي واقعنا وفلسفتنا وبما لدينا انبعاثا من واقعنا وماضينا ، فهذا غير وارد حيث تحول صورة التاريخ الشوهاء دونه.
فلولا المشاعر والعواطف السيئة نحو التاريخ الإسلامي لاستطعنا أن نطور نظم تعليمنا ومؤسساتنا الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والإدارية من داخل ثقافتنا وبناءً على واقعنا.
وكيف يقرأ جيلنا الحالي التاريخ الإسلامي ؟
–أولا يجب أن نعلم أن الذاكرة التاريخية للأمة هي التي تحميها من الانهيار ، وأمة بدون تاريخ مثل شخص فقد الذاكرة تماما, ونحن للأسف ذاكرتنا التاريخية مشوهة, ولذلك لا نحسن استدعاء التاريخ ، ولا نحسن الاستفادة منه في حماية الحاضر ، وتحقيق الأمل في المستقبل, فالتاريخ في حقيقته هو علم الحاضر والمستقبل.
ونحن متهمون بأننا أمسيون نحاول أن نلجأ إلي التاريخ مع إننا في الواقع نهمل التاريخ, ولم نستطع حتي هذه اللحظة أن نخضع دورتنا الحضارية لدراسة علمية كاملة تتحفظ أولا على أهواء المؤرخين, ثم تحقق الحدث وتسلكه في سياقه التاريخي ، وتستخلص منه العبرة والعظة.
نحن لم نفعل هذا للآن ، وهذا هو أحد الشروط الغائبة لنهضتنا.
في قراءتنا للتاريخ ينبغي أن نعلم أن التاريخ هو صورة للعهود والحقب الماضية, وهذه الصورة تكون صادقة كلما كانت واضحة القسمات بينة السمات, ونستطيع أن نشبه هذا بالصورة الفوتوغرافية التي تقدم لجوازات السفر والبطاقة الشخصية, فهذه الصورة تكون صادقة حينما تقدم الملامح على حقيقتها بشكلها وبحجمها الطبيعي, وليس (الكاريكاتيري) وهذه الصورة هي التي تستخدم وتدل علي صاحبها وحقيقته والتحقق من هويته غالبا ، وهناك صورة أخرى تستخرجها أجهزة المخابرات للجواسيس وأعداء الأمة, فتدقق في الملامح والأنف والجبهة والشعر ، محاولة البحث عن آثار تغيير وتزييف الشخصيات ، وهناك صورة ثالثة تصور الأحشاء من الداخل حينما يحتاجها الطبيب.
فهكذا التاريخ نصور الحقب التاريخية صورة طبيعية تبين أبرز الملامح بحجمها الطبيعي ، ويكتفي بها عامة المثقفين والباحثين , أما الصورة الأخرى التي تصل إلي الدقائق والخبايا والزوايا والأحشاء , فهذه لا يحتاجها ولا يقرؤها إلا المختصون الذين يفلسفون التاريخ ، ويستخرجون منه العظات والعبرة.
وهكذا يجب أن نقرأ التاريخ , أما أن نأخذ في التدقيق في بحث الخبايا والزوايا بحجة الموضوعية ، وحجة أخذ العظة ، ونجعل ذلك صورة للعامة ، فهذا مخالف لطبيعة الأشياء, فليس كل قارئ للتاريخ فيلسوفا تاريخيا.
التاريخ الغربي انتقائي :
ومن يقرأ التاريخ الأوروبي يجد به من الخزايا والرزايا والفظائع ما لو وقع نقطة منه في بحر تاريخنا لنجسته وكدرته ولونته بالسواد, ولكن الغرب استطاع أن يستخرج من هذا التاريخ صورة ذات ملامح ناصعة قدمها لأبنائه, فلم يوجد في تاريخنا مثلا ما حدث في تاريخ إنجلترا حينما غُير مذهب الدولة ورجال الكنيسة ثلاث مرات في نحو عشر سنوات من أجل نزوات الملك هنري الرابع الذي غير دين الأمة من أجل أن يفوز بامرأة, وفي هذه الفترة سالت الدماء ، وأُزهقت الأرواح ، ونُهبت الكنائس ، وقُتل الكرادلة ، ومع ذلك يجد الشاب الإنجليزي والمثقف الإنجليزي في تاريخه ما يفخر به, وقس على ذلك تاريخ الغرب كله.
ولقراءة التاريخ بعين الحاضر والمستقبل علينا أولا أن نعرف كيف نتعامل مع المصادر, فلا نستسلم لكل ما هو مكتوب, فالكثير مما هو مكتوب لا يثبت صدقه عند التمحيص والتدقيق (وأنا هنا لا أعيب الذين دونوا التاريخ, بل إن هذا يحسب لهم لا عليهم ؛ لأنهم دونوا كل ما سمعوه ، وأسندوا لنا الأخبار التي دونوها ، وحمّلونا نحن مسئولية النظر في السند) ومن هنا كان القول المأثور «من أسند لك فقد حمّلك» أي ترك لك واجب التمحيص والتدقيق.
وقد جاء تشبيه هذه المدونات التاريخية علي لسان العلامة محب الدين الخطيب – رحمه الله – تشبيها رائعا ، حيث صورها بأنها تشبه تحقيقات الشرطة التي تدون كل ما تسمع عن الحادث ، وكل ما يأتيها به رجالها ومخبروها, أما التدقيق والحكم فهو بيد القضاء أو النيابة ، فهذا معني قولنا : ألا نستسلم لكل ما هو مكتوب ومسطور في المدونات التاريخية.
وأن ندرك أن هذه المدونات التاريخية, في جملتها تشبه صفحات الحوادث والجرائم في الصفحات المعاصرة, فهذه الصفحات تصور جانبا من المجتمع, أو تصور الجانب المريض من المجتمع ، دون الجوانب الحضارية من بناء وثروة وعمران وعلوم.
وأن التاريخ الإسلامي لا يوجد في ما يسمي كتب التاريخ كالطبري والبداية والنهاية والكامل وغيرها, وإنما يوجد أيضا في كتب الطبقات مثل طبقات الفقهاء علي المذاهب المختلفة ، وطبقات المفسرين ، وطبقات الحفاظ ، وطبقات القراء ، وطبقات الأطباء ، وطبقات الحكماء, وبالجملة الكتب التي تورخ لعلماء المجتمع ومؤسساته الحضارية المختلفة, فهذه مادة خصبة للتاريخ الإسلامي يغفل عنها كثير من الذين يبحثون عن التاريخ ، فلا يقعون إلا على سجلات الحوادث والجرائم.
وعلينا أيضا أن نحسن تفسير الحدث وقراءته ونضعه في سياقه التاريخي ، فهناك حوادث وقعت حقيقة ، ولكنها تفسر تفسيرا خاطئا ، على سبيل المثال: فتح الأتراك مصر والشام في عهد السلطان سليم فهذه حقيقة تاريخية, ولكن الخلاف في تفسيرها ، فقد علمونا أن هذا كان استعمارا تركيا ، واستبدادا عثمانيا لنهب ثروات مصر, مع إن التفسير الحقيقي الصادق هو أن السلطان سليم جاء إلى الشام ثم مصر حينما انهزم السلطان قنصوة الغوري أمام البرتغاليين في معركة كالكوت على السواحل الإسلامية بالهند, وحينما دخل فاسكو ديجاما بجنوده من باب المندب ، ووصل إلى جدة محاولا هدم الكعبة والقبة الخضراء في المدينة ، فوجد السلطان سليم أن من العبث أن يقاتل الأوروبيين في الشمال ويتركهم يلتفون حول البلاد الإسلامية ويدخلونها من وراء ظهره.. هذه هي القراءة الصحيحة للحدث.
وحدث آخر تتضح فيه القراءة الخاطئة والقراءة الصحيحة تماما" ذلك ما درسونا إياه باسم الكشوف الجغرافية, فهذه في الواقع لم تكن حركة كشوف علمية ، وإنما اسمها الحقيقي عند أصحابها الغربيين «الالتفاف حول الشواطئ الإسلامية ، وتطويق العالم الإسلامي» كما سماها توينبي المؤرخ الإنجليزي نفسه, أما نحن فاستخفوا بعقولنا ، وضحكوا علينا وسموها الكشوف الجغرافية.
وعلينا عند كتابة التاريخ أو عرض التاريخ أن نلاحظ المستوى العمري والعقلي الذي ندرس له التاريخ ، فهناك مستوي ينبغي الاقتصار فيه علي الملامح العامة الرئيسية, ثم هناك مستوي بعد ذلك يدخل في شيء من التفصيل, ثم هناك مستوى أكثر تفصيلا إلى أن نصل إلى فيلسوف التاريخ الذي يبحث عن العلل والأسباب ، وليستخلص القوانين والنظريات, فهذا توضع أمامه الصورة كاملة بكل دقائقها.
العدوان على التاريخ بسلاح الموضوعية :
وهل هذه ملامح المنهج الذي تدعو إليه في كتابة أو عرض التاريخ ؟
– الحقيقة أنني أشكو إلي الله هؤلاء الذين أسميهم أدعياء الموضوعية, فهؤلاء باسم الموضوعية يعيدون في أخطاء وعثرات في التاريخ الإسلامي ، وهي موجودة ـ ولا شك ـ فليس رجال التاريخ الإسلامي معصومين, ولكن باسم هذه الموضوعية نجد هؤلاء يعمون عن كل شيء إلا الأخطاء والعثرات, بل لا يدققون فيما يروون ويحكون ، فكثيرا ما يذكرون الأباطيل علي أنها حقيقة ، وإذا ناقشتهم يقال لك: ولماذا نخفي الأخطاء ونكون كالنعام ؟ نحن نريد (الموضوعية)..!! ومثالا لذلك, نفي أبي ذر إلي الربذة , فقد أحصيت نحو مائتي كتاب عن أبي ذر وكلها تتحدث عن نفيه ، وتدور حول عظمة أبي ذر كأنها لا تستطيع أن تثبت عظمة أبي ذر إلا إذا جعلت الآخرين غلاظا قساة ظلمة ينفون هذا الزاهد العظيم , مع إن واقعة النفي هذه لم تحدث ، وهي محض كذب واختلاق, وعندي دليل قاطع وهو حديث رواه البخاري عن أبي ذر نفسه, حينما سئل عن واقعة النفي فقد نفاها أشد النفي ، ولكن مازال هؤلاء (الموضوعيون) يرددونها.
ومن هنا أقول: لا يمكن أن نخفي الحقائق إطلاقا, فنحن نعلم أننا لا نكتب تاريخا لملائكة, وإنما نكتب تاريخا لبشر, وكل بني آدم خطاءون, فأبدًا لا أدعو إلي إخفاء الحقيقة, ولكن علينا أن نلتزم بضابطين: أن نتأكد أنها حقيقة بالأسلوب والمنهج العلمي. وأن نضعها في سياقها ولا نقطعها عما قبلها وما بعدها ، ونذكرها مجردة عن أسبابها ودوافعها وما يحيط بها ، ثم ينبغي أيضا أن ننظر إلى المستوى العمري والعقلي الذي يقدم الموضوع.
ما تقييمكم للجوانب الفكرية للتيار الإسلامي المعاصر في ضوء خبرتكم التاريخية ؟
– ينبغي على جميع العاملين في الحقل الإسلامي أن يتأكدوا أن الخطوط متوازية وليست متقاطعة, فالجماعة التي تعني بالعمل الاجتماعي الخيري جهدها مقبول معروف غير منكور, والجماعة التي تعني بالعمل السياسي الإسلامي ، أو تعنى بكل ذلك تصب في نفس المجال ، وجهدها مشكور مقدور ، وعلى كل العاملين في الحقل الإسلامي أن يفسح بعضهم لبعض ، ولا يعوق بعضهم عمل بعض ، ولا ينتقص بعضهم عمل بعض ، فالحقل الإسلامي يسع كل العاملين, بل إنني أدعو الإسلاميين جميعا إلي التعاون الكامل مع كل التيارات المخلصة العاملة للأمة من قوميين, بل وعلمانيين ما داموا لا يسعون إلى إقصاء الآخر واستئصاله, وليعلم الجميع أنهم كلهم في خندق واحد, فليقبل الإسلاميون من بعضهم بعضا, ومن القوميين ومن العلمانيين ما دامت الوجهة كلها نحو إنقاذ الوطن والأمة.