إن التاريخ ليس كما يُخيّل للبعض مجرد حروب تُشن ، أو معاهدات تُبرم ، أو سلالات تحكم ثم تسقط ، أو شخصيات تملأ سمع الزمان وبصره ثم يطويها الموت الزؤام فتصير ذكرى.. إنه قبل هذا وبعده خبرة حضارية ، ومشروع للتعامل مع الإنسان ، وفرصة لاختبار قدرة العقائد ومنظومات القيم على التحقق في الزمان و المكان ، فتؤكد على واقعيتها ومصداقيتها . وعلى هذا فإن عرض تاريخنا لابد أن ينطلق مما لدينا من الحقائق التي تُظهر أصالتنا وقدرتنا على الإبداع والعطاء ، لا أن نتلهى بالنظر الغرير إلى مفاخرنا ، فيصدق علينا قول الشاعر : ألهى بني تغلب عن كل مكرمة * * قصيدة قالها عمرو بن كلثوم ومنذ عقود وقر في أذهان الآباء في ديارنا أن المعرفة التاريخية لا قيمة لها في ثقافة الأبناء ، وينسحب ذلك على معظم الفروع الإنسانية الأخرى ، دافعين أبناءهم صوب الفروع العلمية التطبيقية ؛ بدعوى أن المنتسبين إليها مستقبلهم مضمون ، ومكانة أصحابها في المجتمع أرفع !. وقد آن الأوان أن نُكفّر عن هذه الخطيئة المعرفية التي تجاوزتها المعرفة المعاصرة ، وصار الأخذ بها مما يثير الضحك والإشفاق معا !!. فنغري الأجيال الحاضرة بالإفادة من فرص التعليم الجامعي ، فنولي هذا النوع من المعارف اهتماما خاصا ، نُكوّن به جبهة قادرة على التحدي الحضاري، باحثة عن الرصيد الباقي القدير على الحضور في قلب العصر ، وموطئةً لمستقبل أفضل ، يعيد صياغة الإنسان ، ويحقق مطامحه ، ويقوي مناعته ، ضد الثقافة الهاجمة التي تسعى إلى سحبه من دينه وتراثه وثقافته . وإن المعرفة التاريخية لا تعني التمسك بشرانق الماضي ، والتصلب على أفكار فوضوية ، وشعارات ساخنة ، وتعصبات لا أول لها ولا آخر … بل هي تفتح الذهن على آفاق أرحب ، وتنأى بالدارس لها بعيدا عن التعصب والغلو والتطرف ، لأن في التاريخ وأزمانه المتلاحقة تعايشت الأفكار والعقائد والمذاهب ، وفي شواهده ما يثبت أن التطرف قصير النفس ، ضعيف الحجة ، منكور الجانب ، تمجُّه الفطر السليمة ، ويتهافت عبر الزمن … ومن حق المدارس والجامعات اليوم أن تفكر في مستقبل أبنائها ، وتسعى جاهدة إلى التخطيط الجيد لإدماجهم في سوق العمل ، وكسب لقمة العيش ، وتأمين ضرورات الحياة ، ولكن الخطر يكمن في طبيعة المعرفة التقنية البحتة التي يتلقاها الطلاب بعيدا عن تأهيلهم للمساهمة في إيقاف التدهور الحاصل في المجتمع ، والإسفاف البيّن في القيم والمبادئ …بالإضافة إلى جهل الأبناء بالرصيد التاريخي للمعارف والعلوم التي يتلقونها عبر مسيرة الحضارة الإسلامية ، من النشأة والتطوير إلى الإبداع والإضافة ، فيشعرون بالفخار والعزة ، وتنشط مواهبهم في ما نشط فيه أسلافهم ، ويضيفون كالذي أضافوا….وقد صدق من قال : " إذا أردت أن تعرف المستقبل فانظر إلى الماضي " . والواقع أن صناعة الوعي بالتاريخ تجعل منه محركا دافعا للشعور القومي ، وموقظا للحس الوطني ، الذي تجهد الدولة الوطنية المعاصرة إلى إنمائه وترسيخه في مواجهة الأجنبي الدخيل الذي تنكر لتاريخنا وأمجادنا وحضارتنا ..وإليك في الجزائر خير مثال على هذا المسلك : فقد كانت الفئة الواعية من النخب المثقفة والمؤرخين الأثبات يدركون أن مزاعم فرنسا من أن الجزائر ليس لها تاريخ ، وأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا ، وأن الكتابات الفرنسية عن شمال إفريقيا والجزائر خاصة ، مثل كتابات " ستيفن غزال "(steven gzell)، واوغستان برنار"(augustain Bernard)…وأضرابهم ، كانت تسعى إلى نفي العروبة والإسلام والوطنية عن الجزائر ، فانبرت هذه الفئة إلى التصدي لهذا المسخ والتجهيل ، فوضعوا التآليف ، وصنفوا الكتب ، وكتبوا الأبحاث والمقالات ، ووضعوا المناهج في المدارس الحرة ..فألف محمد مبارك الميلي " تاريخ الجزائر في القديم والحديث " ، وكتب أحمد توفيق المدني كتاب " الجزائر " ، كما نشر عبد العزيز الثعالبي بحوثا عديدة عن تاريخ شمال إفريقيا وتاريخ العرب والمسلمين عموما ، وكتب عثمان الكعاك " موجز التاريخ العام للجزائر منذ العصر الحجري إلى الاحتلال الفرنسي " وجمع عبد الرحمن الجيلالي مصنفه الفذ حول " تاريخ الجزائر العام " … وقد ساهمت هذه الكتابات في إيقاظ الشعب من سباته ، وصناعة الوعي في قلبه وعقله ليدرك تراثه المسلوب ، ويرتبط بوطنه المحروب ، وينتفض لنصرة قضيته ، وتحرير بلده ، وتخليص نفسه من بين مخالب مستعمر متعصب كفور .. وإن كنا نحسب أن هذه المنازعة في ساحات البقاء أمر طبيعي ومفهوم ، ولا يخلو من إيجابيات ، فالصراع يوجِدُ روح المقاومة ، والأمة التي لا تُنَازل غيرها تُصاب بالتأسن والترهل والانحلال ..ويتراجع إنتاجها الحضاري بشكل عام !. وفي تصوري أن المدافعة الثقافية مع الآخر في هذا الميدان لا تتحقق إلا باستحضار عنصرين أساسيين : 1 ـ إبراز قيمة الأحداث التاريخية بما تحمله من ثقل أشخاصها وأبطالها ومواقفها . 2 ـ حسن عرض هذا الرصيد المعرفي الهام بالوسائل المعاصرة التي تقرب من عقل الناشئة وقلوبها ، فتستوعبه وتعيه ، ثم تحبه ، وتفخر بالانتساب إليه وينشأ ما يسميه " أرنولد توينبي "(Arnold Joseph Toynbee):" بمبدأ الأبوة والبنوة " أي تواصل الأجيال ، فإن الأبناء من دون تاريخ الآباء يعيشون لقطاء ، مقطوعي الصلة بماضيهم ، ذاهلين عن حاضرهم ، ويبقون فاشلين في صناعة مستقبلهم ، وصدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :
مثل القوم نسو تاريخهم * * كلقيط عيّ في الحي انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة * * يشتكي من صلة الماضي انقضابا
ولن يتم ذلك إلا بعد غربلة التاريخ ، وتخليصه من المبالغات والفذلكات والأكاذيب ، وعرضه عرضا ممحصا تنويريا يبعث على العمل لا على الفخر فحسب ، وينشط قارئه على القدوة لا على الذكرى …، وهذا دور منوط بالمؤسسات الأكاديمية ، والمخابر العلمية ، والمجامع المتخصصة ، التي ينبغي أن تلقى الدعم والسند من الدولة والمجتمع على حد سواء .
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى بلورة منهج متميز نصوغ به التاريخ الذي لابسه الغموض والتداخل وسوء التناول ، فنُعدّ أعمالا تاريخية بنائية تفكر في التاريخ وتفسره ، وتمضي بالتدرج الجاد إلى الحسم والترجيح ، ويتم ذلك في أطر من الشخصية الإسلامية المطلوبة ، التي تجمع بين التأطُّر والانفتاح ، فليست بتلك الشخصية المنغلقة الحسيرة ، والساعية دوما إلى التقزم والانزواء ، ولا تهجس إلا بالخصوصيات ، ولا تحسن الخوض مع الآخر في شأن من شؤون العالم الذي نحن جزء منه ، كما أنها ليست بتلك العائمة الهائمة وراء موج هدّار من الثقافة المتدافعة ، تتسول ثقافة الآخر ، وتعيش على فتات موائد فكره ، دون أن يكون لها قرار من الخصوصية والمرجعية ، فهي وسط بين هذا وذاك .
مع الحرص على أن لا نستصحب معنا الشعور الدائم بالجبرية إزاء المخططات التي تُضبط ، والمؤامرات التي تُحاك ، فنصبح كأحجار الشطرنج يحركها غيرنا كما يشاء ، ومن ثم يعوقنا هذا الشعور عن النقد الذاتي لأنفسنا ومعرفة عللنا وأدوائنا ، والاجتهاد في تقصي أسبابها ، ومن ثم تشخيص ووصف الدواء الناجع لها .
وإذا استطعنا أن نصوغ فصول هذا التاريخ على نحو متوازن ، وبمنهجية سببية واستقصائية ذكية متقنة ، فإننا تؤسس لمعرفة تاريخية قادرة على تقديم الفهم الراقي ، وقديرة على التأصيل لهويتنا ووعينا …وكرامتنا أيضا !!.
المصدر : موقع التاريخ