روبرت كينج ميرتون عالم الاجتماع الأمريكي
حياته :
يعد ميرتون من رواد النظرية البنائية الوظيفية المعاصرة،ولد عام(1910) م وتوفي عام(2003)م ومعنى ذالك أنه ولد بعد بارسونز بثمان سنوات وعاش بعده ما يقارب الواحد وعشرين سنة ،ولعل ميرتون أسهم من خلال جهوده في تطوير الكثير من المفاهيم في البنائية الوظيفية من خلال عرضه لمجموعة من الإسهامات النظرية والمنهجية أكثر وضوحا وملامسة للواقع الاجتماعي من مفاهيم بارسونز المعقدة والصعبة والتي تكاد تنزع نحو التجريد أكثر من القدرة على التطبيق في الواقع الاجتماعي مما جعلها محور شديد للنقد من رايت ميلز وجولدنر والكثير من العلماء الذين لم ترق لهم مصطلحات بارسونز المعقدة.
اهم الاسهامات التي قدمها العالم روبرت ميرتون تنحصر في التالي:
– تبنيه مدخل النظريات متوسطة المدى التي تتجنب النقد الذي وجه للنظريات الكبرى والصغرى وقد استفاد ميرتون في هذا الإطار من نظرية الانتحار لدوركايم ونظرية ماركس في الاخلاق البروستاتنية ودور الدين في الحياة الاجتماعية.
– تناوله ما أسماه بالوظائف الكامنة والغير مباشرة والوظائف الظاهرة وهنا يتجلى ما أضافه ميرتون على بارسونز الذي اكتفى بتناول الوظائف الظاهرة والمباشرة والملاحظة للظاهرة الاجتماعية دون التطرق للوظائف المستترة .
– الأنماط الوظيفية: حيث عرض ميرتون بصورة رائعة العلاقة بين الأهداف الثقافية والمجتمعية والوسائل التي تتيح تحقيق تلك الأهداف وتحدث عن أنواع عديدة وأشكال مختلفة كالامتثال والانسحاب والطقوسية والابتداع والتمرد.
– البدائل الوظيفية: ويقصد بها عدم التسليم المطلق بفكرة الوظيفية التي قد تظهر في بناءات وأنساق اجتماعية معينة.
ولعل من أفضل البحوث الميدانية التي طبقت نظرية ميرتون في الأنماط الوظيفية(نظرية الانومي) هي دراسة الدكتور محمد إبراهيم السيف بعنوان الحرمان العاطفي في الأسرة السعودية.
تعتبر هذه أبرز اسهامات ميرتون باختصار شديد وسنفصل لها فيما سيأتي…
المؤثرين فيه:
على الرغم من الاختلافات بين تالكوت بارسونز وروبرت ميرتون في تفاصيل النظرية التي حاول كل منهما للآخر ومن التعديلات التي اقترح ميرتون إدخالها على الوظيفية إلا ان كليهما يبدأ من نفس المسلمات النظرية والإيدولوجية التي يبدأ بها كل أصحاب الاتجاه الوظيفي وأصحاب الاتجاه العضوي من قبلهم. وأهم هذه المسلمات أن البناء الاجتماعي في حالة ثبات وان هناك تكاملاً بين عناصر هذا البناءوأن هناك إجماعاً عاماً بين أعضاء المجتمع على قيم معينة وأن هناك توازناً يجب ألا يصيبه الخلل في البناء الاجتماعي.
نقد ميرتون – الذي كان تلميذاً لتالكوت بارسونز – ينقد بارسونز على أساس أن أعماله تمثل جهداً غير ناضج لمحاولة تكوين نظرية اجتماعية عامة ولكنه لم يمس في كتاباته المسلمات الرئيسية التي ارتكزت عليها أعمال بارسونز أو غيره من الوظيفين. ذلك أنه هو ذاته سلم بها تماماً. وبدلاً من ذلك ركز جهده على نقد تفاصيل هذه الأعمال أو الفروض الجزئية التي تحتوي عليها.( أحمد، سمير، النظرية في علم الاجتماع، 1985،ص 197)
مفاهيم :
• الوظائف الكامنة مقابل الوظائف الظاهرة:
• الوظائف الظاهرة : تشير إلى النتائج الموضوعية التي تحدثها سمة اجتماعية أو ثقافة معينة، تلك النتائج التي تفرض على الأفراد تبينها وتتكيف معها، فهي إذن نتائج يتوقع الأفراد حدوثها.
• الوظائف الكامنة : فتشير إلى نتائج يتوقع الأفراد حدوثها.
وقد أعطى ميرتون أمثلة على الوظائف الكامنة وهي ما يلي:
نتائج خطة الأجور الجديدة لنقابة العمال أو نتائج برامج الإعلام لزيادة الأغراض المتفق عليها لإثارة الحماس الوطني وحشد عدد كبير من الناس الذين يرفضون طرح آرائهم عندما يختلفون مع السياسات. وهنا نصل إلى أن ” أ ” وضع نتائج ” ب ” والتي ينظر إليها كنتائج وظيفة أو كنتائج معطلة عن الأداء الوظيفي.
• المعوقات الوظيفية في مقابل الوظيفية
يشير هذا المفهوم إلى تلك النتائج التي يمكن ملاحظتها والتي تحد من تكيف النسق أو توافقه. فالتفرقة العنصرية مثلاً قد تكون معوقاً وظيفياً في مجتمع يرفع شعار الحرية والمساواة.
يقول إن مفهوم المعوقات الوظيفية بما يتضمنه من ضغط وتوتر على المستوى البنائي يمثل أداة تحليلية هامة لفهم ودراسة ” الديناميات الاجتماعية والتغير ”
• البدائل الوظيفية:
تكمن أهمية هذا المفهوم في التحليل ، حينما نتخلى عن التسليم بفكرة الوظيفية التي ينطوي عليها بناء اجتماعي معين. ومعنى ذلك أنه يتعين علينا ألا نسلم بأن الجهاز السياسي يمثل الوسيلة الوحيدة لمواجهة حاجات جماعات معينة مثل رجال الأعمال والطموحين من أفراد المستويات الاجتماعية الدنيا.
وإذن فمفهوم البدائل الوظيفية يركز الاهتمام على مدى التنوع الممكن في الوسائل التي تستطيع أن تحقق مطلباً وظيفياً.
يؤكد ميرتون على أن الوظيفة ترتبط بالدوافع، ، ولو أن الدوافع ينبغي أن تتضمن في الحقائق التي تجمع لأغراض التحليل الوظيفي وأن الدوافع والوظيفة يختلفان كل على حدة.
ويرى ميرتون أن إدراك حاجات النسق الاجتماعي بصورة ما أمر ضروري حيوي للتحليل الاجتماعي، وإنه يكمن داخل تحليل وظيفي تصور معين قد يكون ضمنياً صريحاً عن المطالب الوظيفية يتجه إلى الارتباط مع ظروف بقاء نسق معين كما يميل إلى احتواء الحاجات البيولوجية والاجتماعية.
وأخيراً نجد ميرتون يحذر من الاهتمام الشديد بدراسة الجوانب الاستاتيكية في البناء الاجتماعي وهو اهتمام أبرزه بعض أنصار الوظيفية.
• الوظيفية : تلك النتائج التي تقع تحت الملاحظة والتي تساعد على توافق نسق معين أو تكيفه والتكيف هو مجموعة من حاجات النسق. وهناك خمسة معاني تستخدم فيها اصطلاح الوظيفية كما يحددها ميرتون هيا:
• الوظيفة كما تستخدم في الحياة اليومية للإشارة إلى النشاط الاجتماعي، كأن يقال إن فلاناً لم يمارس وظيفته الاجتماعية المعتادة لسبب من الأسباب.
• مفهوم الوظيفة بمعنى العمل أو المهنة التي يمارسها الفرد حيث يهيئ هذا العمل للفرد دخلاً يعتمد عليه في الحياة.
• تستخدم الوظيفة بمعنى آخر في العلوم السياسية ويقصد بها الدور الذي يقوم به الفرد في مركز اجتماعي معين وبخاصة الأشخاص الذين يشغلون وظيفة سياسية معينة .
• الوظيفة أيضاَ تستخدم في الرياضيات لكي تشير إلى أحد المتغيرات في علاقته بمتغير آخر أو أكثر
• أما الاستخدام الخامس فيمثل مكناناً مركزيا في التحليل الوظيفي في علم الاجتماع والانثربولوجيا ، ذلك الاستخدام المستعار أساسا من العلوم البيولوجية حيث يشير إلى العمليات العضوية والحفاظ على كيانه.
إن أهم نقطة عند ميرتون هو أنه فسر الوظيفية من خلال إطار أو تصور لمطالب النسق. فقط ربط بين الوظيفة والدافع رغم اختلافهما. فللنشاط عنده وظيفة ظاهرة قد تكون هي حاجات الأفراد بينما الوظيفة الكامنة هي التعبير عن حاجات النسق.
استخدم ميرتون الوظائف والنتائج لمعنى واحد ونظر إلى الوظائف الكامنة على أنها نتائج غير مباشرة للنشاط لا تتعارض مع نتائج نشاطات الأفراد التي تحمل دوافعهم.
• موضوع الكلية الوظيفية :
من نتائج التأكيد على الوحدة الوظيفية أن بعض علماء الأنثربولوجيا الأوائل قد افترضوا أنه إذا وجد عنصر اجتماعي أو جزئية اجتماعية في نظام مستمر لابد أن يكون لها نتائج إيجابية بالنسبة لتكامل النظام الاجتماعي هذا الفرض ترتب عليه وجود بعض النتائج أو القرارات القياسية من نوع يوجد نظام ، إذن العناصر أو الجزئيات جزء من هذا النظام إذن العناصر لها وظيفة إيجابية بالنسبة للنظام.
وجد ميرتون أن هناك مدى أوسع من الإمكانات الإمبريقية :
أولاً : قد لا تكون العناصر أو الجزئيات الوظيفية ذات تأثير وظيفي إيجابي بالنسبة للنظام أو للعناصر في النظام فقط ولكن قد تكون أيضاً لها وظيفة بالنسبة لعناصر أو لجزئيات معنية أو لكامل النظام.
ثانياً: بعض النتائج سواءكانت وظيفية أو غير وظيفية تكون مقصودة ومعترف بها من جانب المسئولين في النظام وبذلك فهي واضحة جلية بينما توجدد نتغير مقصودة وغير معترف بها ولذلك فإنها كامنة خفية. وهكذا بعكس تأكيدات مالينوفيسكي وبراون يقترح ميرتون تحليل النتائج المتنوعة المختلفة للعناصر أو الجزئيات الاجتماعية الثقافية سواء آأكانت إيجابي أو سلبية، واضحة أو خفية بالنيبة للأفراد والجماعات الفرعية وللبناء الاجتماعي والثقافي الأكثر شمولاً.
بهذه الطريقة ينظر ميرتون إلى الفكر الوظيفي المعاصر بإعتباره معوضاً لمبالغات الصور الأولى من التحليل وذلك بالتركيز على الأنماط الحاسمة لنتائج العناصر أو الجزئيات الاجتماعية بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للكل الاجتماعي متى اقتضت الحقائق ذلك.
اسهاماته المنهجية:
أولاً : النظريات متوسطة المدى :
رأى ميرتون أن النظرية في علم الاجتماع يجب أن تكون متوسطة المدى، وقد عرف النظرية متوسطة المدى بأنها: تلك التي تقع بين طرفين : الطرف الأول يتمثل في مجموعة من الافتراضات العلمية البسيطة التي نقابلها عند أجراء البحوث الميدانية والطرف الثاني يتمثل في النظريات الشاملة الموحدة التي تسعى إلى تفسير كل ملاحظة عن انتظام في السلوك الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي.
بعبارة أخرى نستطيع القول أن ميرتون يقترح مستوى للنظرية الاجتماعية أعلى قليلا من مستوى الفروض التي تعتمد عليها البحوث الامبريقية والتي لا تتضمن قدراً يذكر من التجريد، ولكنه أقل مستوى من النظريات الكبرى التي تتضمن قدراً كبيراً من التجريد بأنه يسمح بإخضاع ما يتضمنه من قضايا للاختبار الامبريقي نظراً لقرب هذه القضايا من الوقائع الملموسة.
وعلى ذلك فإن النظرية متوسطة المدى تتناول أساساً جوانب معينة من الظاهرات الاجتماعية، وليست الظاهرات في عموميتها، فيمكن مثلاً أن تكون لدينا نظرية عن الجماعات المرجعية ونظرية عن للحراك الاجتماعي ونظرية صراع الأدوار ونظرية تكون عن القيم..الخ.
وبعد أن تصبح لدينا هذه النظريات المتعددة ذات المدى المتوسط يمكننا في المستقبل أن نصوغ منها نظرية عامة موحدة، ولكن الوقت لم يحن بعد لمثل هذه النظرية الموحدة.( أحمد، سمير، النظرية في علم الاجتماع، 1985،ص 198)
على حين أن نظريات المدى المتوسط مجردة إلا أنها أكثر ارتباطاً بالعالم التجريبي أو الإمبريقي ومن ثم فهي تشجع على البحث الضروري لتوضيح المفاهيم وإعادة صياغة التعميمات النظرية وذلك من منطلق أنه بدون هذا التفاعل المتبادل بين النظرية والبحث فإن الخطط النظرية ستظل غير نظامية ومفككة وليست ذات منفعة تذكر في توسيع آفاق المعرفة الاجتماعية. ومن ثم ستصبح مفاهيم وفروض النظريات الاجتماعية المتوصل إليها من خلال اتباع استراتيجية المدى المتوسط محكمة التنظيم بصورة أكبر وأقوى. كما وأن البحوث المرتكزة على النظريات تفرض توضيح وتوسيع وإعادة صياغة مفاهيم وفروض كل نظرية من النظريات المتوسطة المدى.
إلا أن هناك سؤالاً يظل على قدر كبير من الأهمية وهو : كيف يتعين صياغة نظريات المدى المتوسط ويأخذ هذا التنظير الوظيفي شكل لقد أصبحت الوظيفية النموذج ( البرادايم ) حيث أن هذا الشكل ممكن أن يتيح التوصيف السهل وتوسيع قاعدة المفاهيم المتصلة بها كما يشجع في نفس الوقت على المراجعة النظامية وإعادة الصياغة وذلك حسبما تمليه النتائج الامبريقة.
وقد أصبحت الوظيفية بهذا الشكل في نظر ميرتون منهجاً ليس فقط لبناء النظرية متوسطة المدى, ليس فقط لبناء نظريات المدى المتوسط وإنما أيضاً لبناء الخطط النظريات الخاصة بالمدى المتوسط. وهكذا فميرتون مثله في ذلك مثل بارسونز تمثل الوظيفية عنده استراتيجية لترتيب المفاهيم والتمييز بين العمليات الاجتماعية الهامة وغير الهامة. ولكن على العكس من إستراتيجية بارسونز فإن استراتيجة ميرتون وعلى هذا الأساس فقط يتعين بعد ذلك استخدام بروتوكول وظيفي لبناء أنظمة نظرية أكثر تجرداً. ( أبو طاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص 229- 230)
وقد حدد ميرتون مجموعة من الوحدات التي يجب أن تمثل بؤرة لاهتمام التحليل في النظرية الاجتماعية متوسطة المدى مثل: الأدوار الاجتماعية، العمليات الاجتماعية، الأنماط الثقافية، الانفعالات المحددة ثقافياً، المعايير الاجتماعية، تنظيم الجماعة، البناء الاجتماعي، وأساليب الضبط الاجتماعي… الخ.
وبذلك جعل بؤرة اهتمام النظرية الاجتماعية ما أسماه ” بالعناصر الثقافية المقننة”.
وقد انتقد ميرتون غيره من أصحاب الاتجاه الوظيفي، خاصة براون ومالينوفيسكي على أساس أن الافتراضات التي ترتكز عليها نظرياتهم شديدة العمومية وغير محددة، فهؤلاء العلماء قد افترضوا أن الأنشطة الاجتماعية المقننة أو العناصر الثقافية وظيفية بالنسبة للمجتمع بأسره وأن جميع هذه العناصر الثقافية والاجتماعية تؤدي وظائف اجتماعية وأن هذه العناصر لا يمكن للمجتمع الاستغناء عنها.
ورأى ميرتون أن هذه الافتراضات غير صحيحة لذلك أقام نظريته على ثلاث فروض أساسية بديلة هي :
1. العناصر الاجتماعية أو الثقافية قد تكون وظيفية بالنسبة لمجموعات معينة وغير وظيفية بالنسبة لمجموعات غيرها وضارة وظيفياً بالنسبة لمجموعات أخرى. وعلى ذلك فلابد من تعديل فكرة أن أي عنصر اجتماعي أو ثقافي يكون وظيفياً بالنسبة للمجتمع بأسره.
2. أن نفس العنصر قد تكون له وظائف متعددة ونفس الوظيفة يمكن تحقيقها بواسطة عناصر مختلفة، مثال: الملابس فهي قد تقي من الطقس أو تكسب الفرد مكانة اجتماعية أو أن يكون لها دور في تحديد مدى جاذبيته الشخصية. ومعنى ذلك أن هناك تنوعاً في الوسائل التي يمكن أن تحقق هدفاً وظيفياً معيناً. وقد استخدم ميرتون لذلك مفهوم البدائل الوظيفية.3 . يجب أن يحدد التحليل الوظيفي الوحدات الاجتماعية التي تخدمها العناصر الاجتماعية أو الثقافية. ذلك أن بعض العناصر قد تكون ذات وظائف متعددة، وقد تكون نتائجها ضارة وظيفياً.( أحمد، سمير، النظرية في علم الاجتماع، 1985،ص ص 198- 200)
كما قسم ميرتون الوظائف إلى قسمين كالآتي:
تصنيفات ميرتون للوظائف
1. الوظائف الظاهرة
وهي التي ترمي إلى تحقيقه التنظيمات الاجتماعية . مثلا بأن تكون الجامعات مخصصة للدراسة والبحث العلمي والخدمة الاجتماعية .
2. الوظائف الكامنة
وهي التي لا تأخذ التنظيمات الاجتماعية بالحسبان تحقيقها او العمل لاجلها ، كأن تمارس الجامعة وظائف سياسية او اقتصادية او تمثل فضاءات اجتماعية للتسلية والترفية واضاعة الوقت او تحقيق مكانات اجتماعية …الخ ( حجازي أكرم، النظريات الاجتماعية)
ثانياً : نموذج ميرتون للتحليل الوظيفي :
شأنه في ذلك شأن كل المعلقين على التحليل الوظيفي يبدأ ميرتون مناقشته باستعراض أخطاء الوظيفيين الأوائل لا سيما عالمي الانثبولوجيا مالينوفيسكي وراد كليف براون، وبصفة عامة يرى ميرتون أن التنظير الوظيفي يواجه ثلاثة مسلمات موضع تساؤل وهي :
• 1الوحدة الوظيفية للأنساق الاجتماعية.
•2 الكلية الوظيفية للعناصر الاجتماعية.
•3 ضرورة وحتمية العناصر الوظيفية للأنساق الاجتماعية. ( أبو طاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص 231)
ثالثاً : مسلمات الوحدة الوظيفية:
يرى ميرتون أن بدأ التحليل بفرضية الوحدة الوظيفية Functional Unity أو تكامل الكل الاجتماعي يمكن أن ينحرف بالاهتمام بعيداً ليس فقط عن تلك الأسئلة وإنما أيضاً عن النتائج المختلفة المتفرقة للعناصر الاجتماعية أو الثقافية المتوفرة ( العرف- الإعتقاد – المؤسسات ) بالنسبة لأعضاء هذه الجماعات.
هذه المناقشة للوحدة الوظيفية تعزى لاهتمامات بارسونز الأولى بالتكامل الوظيفي، فقد افترض في عمله الوظيفي الأول وجود حاجة إو مقتضى وظيفي واحد فقط وهو الحاجة إلى التكامل. بعد ذلك وفي أعماله التالية وسع هذا الفرض وأضاف ثلاثة مقتضيات وظيفية أخرى وهي الحاجة للتوافق والحاجة إلى بلوغ الهدف والحاجة إلى الكمون والتي سبق تناولها عند الكلام عن العمل الوظيفي لبارسونز في متطلبات النسق، ولكن يبدو أن وظيفية بارسونز بدأت بنفس الاهتمامات التي تتجلى في أعمال دور كايم وأعمال بروان مما جعل ميرتون يتساءل عن القيمة التوضيحية أو الإرشادية لفرض يمكن أن يحول الاهتمام أو ينحرف بعيداً عن التساؤلات النظرية والامبريقية الهامة.
وهكذا فإنه بدلاً من فرضية الوحدة الوظيفية فإنه يجب أن يكون هناك تأكيد على أنماط وصور ومستويات ومجالات التكامل الاجتماعي والنتائج المختلفة لوجود عناصر بالنسبة لقطاعات معينة من الأنظمة الاجتماعية، بهذه الطريقة يبدأ ميرتون في توجيه التحليل الوظيفي بعيداً عن الاهتمام بالأنظمة الكلية، ومتجهاً نحو التأكيد على كيف أن مختلف أنماط التنظيم الاجتماعي داخل الأنظمة الاجتماعية الأكثر شمولاً تنشأ وتدعم وتتغير ليس فقط بمتطلبات النظام الكلي وإنما أيضاً بالتفاعل المتبادل العناصر الاجتماعية الثقافية داخل الكليات النظامية. ( أبو طاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص 229- 230)
رابعاً : بروتوكول لتنفيذ التحليل الوظيفي:
للتحقق من أسباب ونتائج أبنية وعمليات معينة يصر ميرتون على أن يبدأ التحليل الوظيفي ” بوصف خالص “لأنشطة الأجزاء والجماعات موضوع الدراسة وفي وصف أنماط التفاعل المتبادل والنشاط بين العناصر موضوع البحث وبهذا سيكون من الممكن تمييز العناصر أو الجزيئات الاجتماعية التي ستخضع للتحليل الوظيفي مثل هذه الأوصاف يمكن أيضاً أن تعطي إشارة رئيسية للوظائف التي يتم أداؤها بمثل هذا النشاط النمطي وحتى تصبح هذه الوظائف أكثر وضوحاً لابد من اتخاذ خطوات أخرى إضافية هي :
1. ان يقوم الباحث بتوضيح البدائل الرئيسية المسبعدة نتيجة سيادة وغلبة نمط معين.
2. بعد الوصف الخالص تتضمن تقييماً للمعنى أو الدلالة الفعلية أو الانفعالية للنشاط بالنسبة لأعضاء الجماعة ووصف هذه المعاني قد يلقي بعض الضوء على دوافع أنشطة الأفراد المشتركين وبذلك تلقي بعض الضوء التجريبي على الوظائف الواضحة للنشاط.
3. تحتاج هذه الأوصاف إلى خطوة تحليلية ثالثة بتمييز بعض مصفوفات الدوافع بالنسبة للتماثل أو الانحراف بين المشاركين، ولكن يجب عدم الخلط بين هذه الدوافع وبين الوصف الموضوعي للنمط أو التقييم اللاحق للوظائف التي يخدمها النمط.
وهكذا فإن خطوة تحليلية أخيرة تتضمن وصف كيف أن الأنماط موضع الدراسة تكشف عن انتظامات لا يعرفها المشاركون ولكنها تبدو ذات نتائج للأفراد المشتركين وأنماط أو انتظامات في النظام. وبذلك سيتم ضبط وتوفيق التحليل مع الوظائف الخفية أو المستترة لعنصر أو جزئية معينة. ( أبو طاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص 229- 230)
خامساً : بروتوكول البناء الاجتماعي والانومي عند روبرت ميرتون :
ربما كانت النظرية الأوسع قراءة وانتشاراً وتأثيراً تلك التي وضعها ميرتون متضمنة في مقال ” البناء الاجتماعي والأنومي ولا توجد مقالة نظرية مثل تلك المقالة، وعلى حين أن المقالة التي تتضمن الصيغة الأولية للنظرية كتبت قبل صياغته لاستراتيجية المدى المتوسط والبروتوكول الوظيفي إلا أنها ظهرت مرة أخرى في مختلف طبعات كتابه النظرية الاجتماعية والبناء الاجتماعي وذلك بعد مناقشة استراتيجيته وبروتوكوله فضلاً عن أن دفاعه وتوسيعه للنظرية في الطبعات الحديثة من نفس الكتاب يدل على أنه يعتبر نظرية البناء الاجتماعي والأنومي موضحة للبروتوكول الوظيفي واستراتيجية المدى المتوسط.
إن نظرية ميرتون عن الأنومي تحاول أن تجيب على السؤال التالي: ما الذي يسبب الانحراف ونسبته ونوعه في المجتمع؟
إن الطريقة التي تم بها صياغة هذا السؤال تكشف عن أي ميرتون مدين لدور كايم الذي سبق أن طرح ما يشبه كثيراً هذا السؤال عن الانتحار بالإضافة إلى أن ميرتون في محاولته هذه يتواصل مع دور كايم إلا أنه يتوسع فوق تصور دور كايم للأنومي، فالانحراف يعتبر استجابة أو توافقاً من جانب السكان في مجتمع مع حالة الشذوذ أو الأنومي في حين الأنومي هي نتيجة سوء التكامل داخل وبين الثقافة والبناء. وهكذا وفي الاقتراب من مسألة الانحراف يؤكد ميرتون أن الانحراف هو نتيجة لسوء التكامل وأن نوع الانحراف مرتبط بطبيعة سوء التكامل ويمكن أن نجد في هذا الشأن فروضاً وظيفية عديدة منها:
1. الأنساق الاجتماعية تتألف من عناصر أو أجزاء مترابطة.
2. أن هذه العناصر أو الأجزاء لابد وأن تظهر قدراً من التكامل أو حسب تعبير ميرتون التوازن.
3. ينتج عن سوء التكامل أو عدم التوازن سلوكاً ضالاً زائفاً.
4. تحدد طبيعة سوء التكامل نوع السلوك الضال الزائف في إتباع أو توقع بروتوكوله الوظيفي.
ويحاول ميرتون أن يضيف للعنصر المعني في تحليله‘ معدل ونوع السلوك المنحرف والسياق البنائي الذي يظهر فيه وبينما يرفض الرأي القائل بأن الانحراف يمثل تعبيراً عن الحاجات البيولوجية غير المحكومة، إلا أنه يحاول ضمنيا فهم كيف تعمل الحاجات السيكولوجية الموجهة ثقافياً لإنتاج الانحراف في الأفراد ومسايرة لاهتمامه بالوظائف والمعوق الوظيفي وصافي رصيد النتائج يحلل ضمنياً نتائج الانحراف بالنسبة لوحدات اجتماعية مختلفة: الكل الاجتماعي، الجماعة الفرعية، كاشفاً معدلات مرتفعة من الانحراف والأفراد المنحرفين أنفسهم، فبالنسبة للكل الاجتماعي فإن المضمون هو أن الانحراف يفسر الوظيفة ولو أنه قد يعني نتائج إيجابية معينة للانحراف الابتكاري، أما بالنسبة للجماعات الفرعية فإن الانحراف يمثل توافقاً ومن ثم يبدو أن له بعض النتائج الإيجابية من أجل حل وضعها في نظام سيء التكامل، وبالنسبة لحاجات الأفراد يمثل الانحراف كثيراً من حالات الإحباط والقلق والصراعات العاطفية والنتيجة أنه يمكن اعتباره أحياناً وظيفياً.
فكرة ميرتون ببساطة كالآتي : يقول أن إحدى النقاط الهامة للتكامل، أو التوازن في الأنساق والمنظومات الاجتماعية تقع بين الأهداف الثقافية والمسارات البنائية لإنجاز وتحقيق تلك الأهداف، فضمنياً فإن ميرتون يتبع دور كايم بين الضمير الجمعي ونظام العلاقات البنيوية بين الفاعلين، وقد صور ميرتون هذا التمييز في صورة النظام الثقافي والنظام الاجتماعي، كذلك فإنه أيضاً مثل دور كايم يعترف بوجود مشكلة رئيسية للتكامل بين الثقافة والبناء، ويؤكد بشكل خاص على أن الأفكار الثقافية تفرض أهدافاً أو غايات يتحتم توجيه الفعل نحوها، وهذا تأكيد مناظر لتأكيد بارسونز في تصور وحدة الفعل.
يجد ميرتون أن النظام الذي تصبح فيه الغاليات الثقافية والوسائل البنائية متكاملة يتميز بالتوازن لأن الفاعلين سيشاركون في الغايات أو يستوعبونها ويتمثلونها وتصبح الأهداف جزءاً من بنائهم السيكولوجي والحاجاتي. وسوف يقبلون جميعاً ويستخدمون الوسائل المحققة لهذه الغايات بإعتبارها مشروعة.
كما لاحظ ميرتون أن توازناً فعالاً بين هذين الطورين من البناء الاجتماعي يصان ويحتفظ به طالما تتزايد الإشباعات من إنجاز الأهداف والإشباعات التي تظهر مباشرة من الأنماط المؤسسية والمنظمة لبلوغها.
ويحدث سوء التكامل أو اختلال التوازن عندما ينعدم التوازن الضمني بين الغايات والوسائل وبعبارة أخرى عندما يقبل الفاعلون الوسائل ولكنهم يرفضون أو يجهلون أو يسعون وراء غايات بديلة فيقال أن هناك انحرافاً أو شذوذاً وكما هو واضح فإن ميرتون استخدم أفكار دور كايم بشكل أوسع ويتجاوز حالة إنعدام المعيارية ( Normlessnsss ) ومع ذلك فإنه يتفق مع ما ذهب إليه دور كايم من حدوث خلل في التنظيم نتيجة لإنعدام الضمير الجمعي , فمن وجهة نظر ميرتون إن حالة الأنومي توجد حينما لا تنظم الأهداف الثقافية السائدة أو الوسائل المعيارية المشروعة سلوك الفاعلين.( أبو طاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص 253- 256)
طبق ميرتون نظريته الوظيفية في تحليل المصادر الاجتماعية والثقافية للسلوك المنحرف، وكان هدف ميرتون من هذه الدراسة طبق ميرتون نظريته الوظيفية في تحليل المصادر الاجتماعية والثقافية للسلوك المنحرف. وكان هدف ميرتون من هذه الدراسة أن يبين كيف يمارس البناء الاجتماعي ضغوطاً محددة على أشخاص معينين في المجتمع لممارسة سلوك غير امتثالي بدلاً من ممارستهم لسلوك امتثالي.
وقد بدأ ميرتون بالتسليم بأن الأبنية الاجتماعية والثقافية تصوغ صفة المشروعية على أهداف معينة وعلاوة على ذلك تحدد أساليب معينة مقبولة لتحقيق هذه الأهداف. أي أن ميرتون قد ميز بين عنصرين رئيسيين فيما أسماه بالبناء الثقافي للمجتمع: الأهداف المحددة ثقافياً من جهة والأساليب النظمية لتحقيق هذه الأهداف من جهة أخرى.
وفي المجتمع جيد التكامل نجد تكاملاً وتناغماً بين الأهداف والأساليب، فكل من الأهداف والأساليب نجد تقبلاً من أفراد المجتمع ككل كما أنها تكون ميسوره لهم جميعاً . ويحدث اللا تكامل في المجتمع عندما يكون هناك تأكيد على أحد الجانبين بدرجة لا تتناسب مع التأكيد على الجانب الآخر ، وهذا ما يحدث في المجتمع الأمريكي . فهناك في هذا المجتمع تأكيد على أهداف معينه ، مثل النجاح الفردي وجمع النقود وارتقاء السلم الاجتماعي دون تأكيد مماثل على الأساليب النظمية لتحقيق هذه الأهداف . فأساليب تحقيق هذه الأهداف غير متاحة للجميع في المجتمع .
وقد نشأ عن ذلك حاله من اللامعياريه في المجتمع . ذلك لأنه لا بد من أن تكون هناك درجه من التناسب بين هدف تحقيق النجاح وبين الفرص المشروعه للنجاح بحيث يحصل الأفراد على الأشباع الضروري الذي يساعد على تحقيق النسق الاجتماعي لوظائفه ، فاذا لم يتحقق ذلك فإن الوظيفة الاجتماعية تصاب بالخلل ويحدث ما أسماه بالمعوقات الوظيفية .
قدم ميرتون تصنيفاً لأنماط استجابات الأفراد أو تكيفهم لذلك التفاوت أو الأنفصام بين الأهداف المرغوبه والمحدده ثقافياً ( أي النجاح ) وبين الأساليب المتاحه لتحقيق هذه الأهداف. وقرر أن هناك خمس أنماط لتكيف الأفراد في المجتمع . أول هذه الأنماط وظيفي . أي يساعد على بقاء النسق الاجتماعي . والأربعه الأخرين ضارين وظيفيا . أو أنماط تكيف منحرفة . أي يهددون بقاء هذا النسق . وهذا الأنماط الخمسة هي :
1. نمط الامتثال Conformity :
ويحدث هذا النمط من التكيف حين يتقبل الأفراد الأهداف الثقافية ويمتثلون لها وفي نفس الوقت يتقبلون الأساليب التي يحددها النظام الاجتماعي بوصفها أساليب مشروعة لتحقيق هذه الأهداف.
2 نمط الابتداع Innovation :
يرى ميرتون أن هذا النمط من التكيف هو أهم أنماط التكيف الإنحرافي في المجتمع الأمريكي. ويعني به أن نسبة كبيرة من الناس في المجتمع تتقبل أهداف النجاح التي تؤكد عليها الثقافة الأمريكية ولكنها تجد فرص تحقيق هذه الأهداف موصدة أمامها لأن توزيع الفرص غير متكافئ. وفي هذه الحالة يرفضون الأساليب المشروعة لتحقيق النجاح.
3. نمط الطقوسية Ritualism :
يتمثل هذا النمط من التكيف في التخلي عن الأهداف الثقافية للنجاح الفردي وتحقيق الثروة وصعود السلم الاجتماعي أو التقليل من مستوى طموح الفرد يصل إلى درجة منخفضة يمكن معها إشباع هذا الطموح، وفي نفس الوقت يظل الفرد ملتزماً بطريقة شبه قهرية بالأساليب المشروعة لتحقيق الأهداف على الرغم من أنها لا تحقق له شيئاً يذكر. ويسود هذا النوع من التكيف لدى الطبقة الوسطى،مثل صغار الموظفين البيروقراطيين في الشركات والمصالح الحكومية.
4. نمط: الانسحابية : Retreatism
وهو أقل الأنماط شيوعاً في المجتمع الأمريكي والفرد الذي يلجأ إلى هذا النمط الانسحابي يعيش في المجتمع، ولكنه لا يكون جزءاً منه بمعنى أنه لا يشارك في الاتفاق الجماعي على القيم المجتمعية، والانسحابي يتخلى عن كل من الأهداف والأساليب التي يحددها النسق، ومن أمثلة هذا النمط من التكيف الانحرافي حالات الجنون والتشرد وإدمان الخمور والمخدرات.
5نمط. التمرد Rebelion:
يتسم هذا النمط من التكيف بادانة ( وليس مجرد رفض كما هو الحال في النمط السابق) كل من الأهداف الثقافيه للنجاح والالتزام بالأساليب النظاميه لتحقيقها . أي إذا كان النمط السابق يتسم برفض الأهداف والأساليب رفضاً سلبياً والهروب من المجتمع فإن هذا النمط يتسم بالرفض الإيجابي والسعي إلى استبدال البناء الاجتماعي القائم ببناء آخر يضم معايير ثقافية مختلفة للنجاح وفرصاً أخرى لتحقيقه. .( أحمد، سمير، النظرية في علم الاجتماع، 1985،ص ص 201- 204)
سادساً : برتوكول ميرتون ( الآلات السياسية في أمريكا ) :
قام ميرتون بهذه الدراسة فقط لمجرد توضيح جدوى وقيمة التفرقة بين الوظائف الظاهرة والكامنة حيث لم يكن المقصود منه أن يكون تفسيراً كاملاً لنموذجه أو برتوكوله الوظيفي وإنما كان مجرد مثال يوضح أن الاهتمام بالوظائف الكامنة يمكن أن يقدم استبصارا تجديدية في عملية دراسة الآلات الأمريكية.
بدأ ميرتون تحليله المادي بفرض مركزي سبق له رفضه أو عدم الثقة فيه وهو فيما يتعلق بـ ” الوظيفة البنائية الرئيسية للرئيس” فقام بتنظيم وتركيز وصيانة عناصر أو أجزاء السلطة المتناثرة والتي توجد مبعثرة خلال التنظيم السياسي. في هذا الصدد يذهب ميرتون إلى أن الجهاز السياسي يقوم بدايةً بوظيفة كوسيلة لتمركز الأسس المبعثرة والمشتتة للقوى السياسية كما يقوم الجهاز السياسي ثانياً بتقديم العون وتلبية حاجات مختلف الجماعات الفرعية الكبيرة المحرومة في المجتمع والتي لم يتم إشباعها بأبنية اجتماعية مصممة بشكل قانوني وموافق عليه ثقافياً. ويقوم الجهاز السياسي الفاسد أو المنحرف في النهاية بوظيفة أساسية تتمثل في توفير سبل الحراك الاجتماعي للأفراد والجماعات المحرومة من الامتيازات.. في مجتمع يشجع على الوفرة الاقتصادية والرقي الاجتماعي لكل أعضائه. لذلك لا تكون نزعة حب الرئاسة مجرد وسيلة للتوسع الذاتي لجماعة الأفراد المتعطشين للقوى والمنفعة فحسب. بل تصبح إمداداً منظماً للجماعات الفرعية التي استبعدت أو عوقت في سباق تحقيق ما هو أحسن. الأمر الذي يجعل الاستهجان الأخلاقي لها أمراً غير ملائماً لفهم الدور البنائي والوظيفي للجهاز السياسي.
من هنا تبقى الرئاسية كبناء في نظر ميرتون. لا من خلال إشباعها لحاجات حيوية للنسق ككل. بل من خلال علاقة تبادل المنفعة التي توجدها بالوحدات الأصغر. إن معيار تبادل المنفعة يمكن العنصر من أن يتمتع باستقلالية. ذلك أن علاقة الجزء بالكل ليست علاقة متكافئة. ومع ذلك فإن الجزء أو النسق الفرعي لا يمكن أن يفهم في النهاية إلا في حدود النسق الأكبر. بهذه الطريقة تتحول النتائج غير المقصودة لتتمثل شكل بناء كامل أشبه باليد الخفية. إن الرئاسية في نظر ميرتون أكثر من مجرد تخريب. إنها عملية تقوم بوظيفة مزدوجة على مستوى الوحدات الصغرى. والوحدات الكبرى للنسق الاجتماعي. تعتمد وظيفتها الكامنة على فشل المؤسسات والنظم الأخرى داخل الكل الاجتماعي. لذلك ينهض تصور ميرتون للوظيفة الكامنة على التحليل النسقي. كما أنه يقلل من دور الذات طالما أن النسق ذاته هو الذي يحدد وظائف النظم المقصودة وغير المقصودة وذلك على مستوى الوحدات الصغرى.
من هذا المنطلق تبدو النزعة المحافظة لوظيفية ميرتون واضحة حيث تفسر ( الرئاسية ) بعيداً بالتركيز على نتائجها على ألئك الأفراد الذين ينغمسون مباشرة في أعمالها. غير أن وجود التخريب السياسي وانتشاره يشكل بدوره خطراً وتهديداً على مشروعية النظام السياسي الديموقراطي. كما أن استمرار وجود هذا التخريب السياسي أمر من شأنه أن يضعف الإيمان بالعمليات الديموقراطية في المجتمع ككل. لقد تطورت ( الرئاسية ) من وجهة النظر التاريخية عن ضعف المجتمع المدني وعن الفشل في تحول المجتمع ككل إلى الطابع الديموقراطي.
لذلك نجد ميرتون في تحليله يتقبل بداهة فكرة ” النزعة الصفوية ” التي مفادها أن هذه النزعة أياً كان شكلها. تعمل على تدعيم وتعزيز بعض المصالح الخاصة ضد المصالح الأخرى التي تعارضها . وذلك من خلال تنظيم المجتمع . ويفترض تحليل مثل هذا وجود أفراد سلبيين . أي ذوات تتلاعب بها الصفوة وتوجهها بالغش والاحتيال نحو أهداف لا تعرفها.
كان ميرتون إلى حد ما ناقداً للمجتمع الأمريكي ويختلف عن بارسونز وغيره من الوظيفيين في أنه لم يتبن بشكل مطلق فكرة وجود الاتفاق الجمعي في المجتمع، وقد أدرك ميرتون وجود تناقضات في النسق الاجتماعي الأمريكي ولكن التناقضات التي أبرزها ليست ذات طابع مادي وهي جزء من طبيعة النسق حسب رأيه، فهناك عدم تكافؤ في الفرص المتاحة للمجموعات المختلفة لتحقيق أهداف النجاح في المجتمع الأمريكي، ولكن عدم التكافؤ هذا يرجع إلى العناصر الكامنة في الثقافة الأمريكية، وهكذا لا يقدم ميرتون أي تفسير بنائي لوجود عدم التكافؤ في الفرص في المجتمع أو لوجود مثل هذا المناخ الثقافي والأخلاقي. وهكذا يشبه ميرتون من يفسر الانحلال الخلقي للناس في فترة ما بتخليهم عن التمسك بالمبادئ الأخلاقية أي أنه يفسر ما هو ثقافي بما هو ثقافي، وليس ذلك بتفسير بالطبع.
4. وقد اقتصر ميرتون على وصف المجتمع ونقد بعض جوانبه الثقافية دون ان يمس جوهر العلاقات الاجتماعية فيه وبذلك يقف عند حدود الدعوة الإصلاحية الجزئية لنتائج اللعبة دون أن يصل إلى حد الدعوة إلى تغيير قواعد اللعبة ذاتها، أي إلى أحداث تغيير جذري في المجتمع. .( أحمد، سمير، النظرية في علم الاجتماع، 1985،ص ص 205- 208)
سابعاً : نقد ميرتون للوظيفية:
ينتقد ميرتون ثلاث مسلمات يتصف بها التحليل الوظيفي :
1. الوحدة الوظيفية للمجتمع
ترى هذه المسلمة ان كل العقائد والممارسات الثقافية والاجتماعية تؤدي وظيفة واحدة لكل من الافراد والمجتمع . كما تعتقد ان اجزاء النسق الاجتماعي تتمتع بدرجة عالية من التكامل . وفي هذه النقطة بالذات يشير ميرتون إلى صحتها ولكن بالنسبة للمجتمعات البدائية الصغيرة وليس بالنسبة للمجتمعات الكبيرة المعقدة . لذا ينبغي عدم تعميم هذه المسلمات .
.2 الوظيفية الشاملة
تعني هذه المسلمة ان كل الاشكال والبنى الثقافية والاجتماعية في المجتمع تقوم بوظائف ايجابية ويرى ميرتون ان هذا قد يكون مخالفا لواقع الحياة اذ ليس بالضرورة ان تكون كل بنية او تقليد اوعقيدة تتصف بوظائف ايجابية . ومن واقع المجتمعات العربية فإن فكرة الوحدة العربية على سبيل المثال ربما لا تصمد في بعض الأحايين امام الفكرة الوطنية التي تسعى إلى ابراز الهوية القطرية على حساب الهوية القومية كما ان الفكرة قد تثير تحفظات بين العرب لا سيما لمن يحاولون احياء التراث القديم كالفرعونية والامازيغية وكذلك الامر ينطبق على فكرة الوحدة الاسلامية حيث يبدو الدين يلعب دورا وظيفيا متفاوتا بين الشعوب العربية والاسلامية .
3ضرورة وجود الاجزاء
ترى هذه المسلمة ان الاجزاء المكونة للمجتمع لا تقوم بوظائف ايجابية فحسب بل هي تمثل عناصر ضرورية لعمل المجتمع ككل . وهذا يعني ان البنى الاجتماعية والوظائف ضرورية بالنسبة لمسيرة المجتمع الطبيعية أي انه ليس هناك بنى ووظائف اخرى قادرة على القيام بمسيرة المجتمع كالوظائف القائمة الان . وحسب ميرتون المتأثر بأستاذه بارسونز لابد من الاعتراف بوجود عدة بنى ووظائف داخل نفس المجتمع .
الخـــــــــلاصة
لاشك ان توضيحات ميرتون تمثل اضافات هامة بالنسبة لعلماء الاجتماع الذين يصرون على استعمال التحليلات الوظيفية في دراساتهم للوظائف الاجتماعية ، فتعديلات ميرتون للصيغ القديمة للنظرية الوظيفية تعد تعديلات ضخمة بحيث يمكن تسمية علماء الاجتماع الذين تبنوا تفكيره بـ” الوظيفيين الجدد ” (حجازي اكرم، النظريات الاجتماعية)
ميرتون في الميزان:
1. إن دراسة نموذج ميرتون لبناء نظريات وظيفية ذات مدى متوسط يوضح أنه يخلو بشكل ملحوظ من قضايا حاجات النظام. فميرتون لا يقوم دائماً بالتسلسل المنطقي للتحليل الوظيفي.
2. يتهمه بعض نقاده لأنه يبدو مؤكداً على أن الآلات السياسية كانت ذات يوم تتميز بميزة انتقائية على البنائيات البديلة في إشباع وتلبية الحاجات الأولى لقطاعات معينة من النظام هذا النوع مما يطلق عليه السلسة العلية المعكوسة.
3. يلاحظ على دراسته عن البناء الاجتماعي واللامعيارية يفتقر إلى التركيز والنتيجة اختلاف المصطلحات المستخدمة لتسمية الأفكار ومن ثم فإن المعاني التي تصدق على الأفكار كثيراً ما تكون غير واضحة، بالإضافة إلى أن ميرتون لا يقرر أبداً حجبه في صورة فروض أو قضايا مما يجعل من العسير توضيح العلاقات بين التصورات ومع هذا فإذا كان على النظرية أن تثبت أنها مفيدة وتتمسك بدفاع ميرتون عن استراتيجية المدى المتوسط فلابد من إعادة صياغتها شكلياً (أبوطاحون، عدلي، النظريات الاجتماعية المعاصرة، ص ص245-258)
المراجع
• أكرم حجازي، النظرية الاجتماعية (الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة) محمل من النت.
• عدلي أبو طاحون، النظريات الاجتماعية المعاصرة، لا يوجد تاريخ أو طبعة أو بلد نشر, المكتب الجامعي الحديث.
• سمير نعيم أحمد، النظرية في علم الاجتماع،ط5، لا يوجد بلد نشر، دار المعارف، 1958.
•