اكتسح مفهوم الهوية في بحر بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية. فقد فرض هذا
المفهوم نفسه حتى غدا بمثابة كلمة سحرية، وذلك في تحليل حقائق جد متنوعة
مثل علم نفس الأفراد، وتحولات الأديان، والعلاقات بين النساء والرجال،
وموضوعات المهن، والحياة الأسرية، والهجرة، والصراعات العرقية. يشهد على
ذلك ما يكتب من افتتاحيات كثيرة عن هذا الموضوع.
لكن لكل نجاح سلبياته؛ فنجاح انتشار مفهوم ما يكون دائماً على حساب تفهمه ومن ناحية أخرى، من النادر أن نجد تعريف “الهوية”.
إذن ماذا وراء هذا الانتشار الكبير؟ ما تعليل هذا النجاح؟
لاشك أنه من أجل الإجابة على هذا السؤال من المفيد أن نسطر -ولو بالخطوط
العريضة- تاريخ تطور دلالة هذه اللفظة في العلوم الإنسانية. فمتى ظهر
مفهوم الهوية بكثافة في الفكر الغربي، وفي أية ظروف؟
إنه سؤال غريب، كما قد يخطر على البال؛ إذ يبدو أن الهوية يمكن أن تعد ضمن
هذه المفاهيم التي ليس لها تاريخ. فهي تعتبر بمثابة كلمة مجردة، يرجع
استعمالها إلى الأصول الأولى للفكر. إن الفلاسفة ما قبل سقراط، مثل
بارميندس أو هراقليطس، كانوا دائماً محتارين حول مسألة هو ذاته والآخر(1)،
وكيف يمكن التوفيق بين التغير والهوية؟ كذلك طرح السؤال. وبالنسبة
لبارميندس، وللإيليين تبعاً له، من الصعب أن نفكر في التحول، لأنه إذا لم
يكن “أ” على ما كان عليه، فهل “أ” يبقى هو “أ”؟ وعلى خلاف ذلك بالنسبة
لهراقليطس: كل شيء في حركة دائمة(2)، ونحن نعرف قولته الشهيرة: “نحن لا
نغطس مرتين في الوادي نفسه”(3).
إذن لمفهوم الهوية -كما نرى- دلالة واسعة وجدّ عامة تتجاوز بكثير قضية
الهوية الإنسانية. يدل على ذلك لغز سفينة تيزوس التي عوضت أجهزتها ومواد
بنائها شيئاً فشيئاً طوال مدة رحلاتها بين بيراس وديلوس(4): فسوفسطائيو
أثينا تساءلوا هل فعلاً يتعلق الأمر في النهاية بالسفينة نفسها؟ المشكلة
إذن تكمن في هذه السفينة التي تم تجديدها كليًّا أو في ذاك الشخص المسمى
سقراط بالنظر إلى جميع مراحل حياته، هل يمكن أن نقول: إنهما هما أنفسهما
بالرغم من التحولات التي طرأت عليهما.
لكن لاشك أن الإشكالية المعاصرة لمفهوم الهوية لا تعود في أصلها إلى
التراث الميتافيزيقي. إذ بعد أكثر من عشرين قرناً، تحددت المسألة، حيث
بدأت تقترب بما يشغل العلوم الإنسانية والاجتماعية حالياً، وذلك بفضل
الطريقة التي طرح بها الفلاسفة الإمبريقيون -وعلى رأسهم دافيد هيوم وجون
لوك-(5) مشكلة الهوية الشخصية: كيف يمكن التفكير في وحدة الأنا في الزمان؟
هل أنا الشخص نفسه الذي كنته قبل عشرين سنة؟ لقد اقترح لوك حل إشكال
الهوية الشخصية بفكرة الذاكرة: إذا كنت الشخص ذاته الذي كان قبل عشرين
سنة، فلأنني أذكر مختلف المراحل التي مر بها وعيي أو شعوري.
إن الإشكال وحله قضيتان عصيبتان، لكنهما تظلان محصورتين في إطار الفلسفة.
وفي الحقيقة، تبقى الهوية الشخصية مسألة تقنية ودقيقة من اختصاص الفلاسفة.
أما بالنسبة للرأي العادي لعموم الناس، فالجواب نعم، فأنا هو نفسه من كان
قبل سنتين، فهذا أمر بدهي. ونذكر أخيراً أنه -فيما بعد- تبنت علوم
“الإدراك البشري”(6) إشكالية لوك ودرستها بطريقة خاصة أكثر نفاذاً. وفي
جميع الأحوال، لا نجد في هذه الأعمال الفلسفية الأصل الحقيقي لتسرب مفهوم
الهوية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية.
* إريك إريكسون: صاحب مفهوم الهوية
لقد قام عالم النفس إ. إريكسون(7) بدور مركزي في انتشار استخدام هذه
الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية. ففي سنة 1933 غادر هذا العالم
-الذي تكوّن في مدرسة التحليل النفسي- فيينا حيث تابع دروس أنا فرويد(
إلى الولايات المتحدة. وهناك اكتشف الأعمال الأنثروبولوجية للمدرسة
الثقافوية، وكان ذلك دافعاً له لتطوير أسس نظرية فرويد في مجال العلوم
الاجتماعية. وفي الواقع، كانت مدرسة “الثقافة والشخصية” -بعلمائها
الأنثربولوجيين كأبرام كاردينر أو مارغريت ميد(9)- تعكف على دراسة العلاقة
بين النماذج الثقافية لمجتمع معين وأنواع الشخصية السائدة بين الأفراد
الذين يشكلون هذا المجتمع. وفي سنوات الثلاثينات عمل إريكسون في المحميات
الهندية لقبائل السيو بداكوتا الجنوبية(10) وفي قبيلة يوروك بكاليفورنيا
الشمالية، ودرس “الاجتثاث الثقافي” لهؤلاء الهنود المعرضين لموجة الحداثة.
ثم نشر في سنة 1950 كتاب “طفولة ومجتمع”، حاول فيه تجاوز نظرية فرويد
بالتأكيد أكثر على دور التفاعلات الاجتماعية في بناء الشخصية. فاعتبر أن
الهوية الشخصية تتطور طوال وجودها عبر ثمانية مراحل تقابلها ثمانية أعمار
في دورة الحياة. و “أزمة الهوية” (وهذا التعبير الذي نقرؤه اليوم في كل
مكان… هو من صياغة إريكسون) تتطابق مع تحول يقع في مسيرة تطور الهوية:
والأزمة الأبرز هي تلك التي تحدث في المراهقة، لكن يمكن أيضاً أن تحدث في
مرحلة لاحقة من عمر الشخص حين تعرضه لصعوبات خاصة.
لكن في البداية لم يطلع على عمل إريكسون إلا المختصون في علم النفس. وفي
نهاية الخمسينات اشتهر هذا العمل بين جمهور أوسع، خصوصاً مع إعادة طبع
كتاب “طفولة ومجتمع” سنة 1963، والذي يعد حدثاً حقيقياً.
* استخدام علم الاجتماع للمفهوم
كل هذا معروف، ويكاد الجميع يتفق على أن إريكسون هو أب كلمة “الهوية”
بالمعنى المعاصر. لكن يجب أيضاً -كما بينه المؤرخ فيليب كليزون(11) في
التأريخ الدلالي الذي يقترحه للهوية- رصد مسارب أخرى لتوسع استعمال
المفهوم عن طريق استعارة مفهوم “التكنه”، خارج الإطار التحليلي النفسي
(والتكنه يعني لدى سيغموند فرويد الأسلوب الذي به يتمثل الطفل أشياء أو
شخوصاً خارجية)(12).
من جهة، ولأول مرة، ربط الكتاب الهام لعالم النفس كوردن آلبور(13): “في
حقيقة الإذاية”، المنشور سنة 1954، بين تحقيق الذاتية والعرقية. ومن جهة
أخرى، ربط مفهوم التكنه بعلم الاجتماع عبر نظرية الأدوار، وكذلك عبر نظرية
“جماعة المرجعية”. هكذا فسر نيلسون فوت، في بداية الخمسينات، التكنه
باستعارة الفرد الواحد لهوية واحدة أو لسلسلة من الهويات. وعنده أن التكنه
هي الصيرورة التي تمكن من فهم لماذا نبحث عن القيام بدور ما. أما نظرية
مجتمع المرجعية (والتي تعني الجماعة التي يحدد الفرد هويته عبرها وفي
إطارها، فيستعير قيمها ومعاييرها بدون أن يكون بالضرورة عضواً فيها) فقد
كسبت احتراماً بين المشتغلين بعلم الاجتماع، خصوصاً بتأثير روبر
ميرتون(14)، كما ساهمت في توسيع شعبية الهوية ومشتقاتها. وللعلم فقد
اكتسبت هاتان النظريتان الجديدتان أهمية استثنائية داخل حقول علم الاجتماع
وعلم النفس الاجتماعي في الخمسينات.
لكن لم يحتل مفهوم الهوية أهمية حاسمة في معجم علم الاجتماع إلا بواسطة
“التفاعلية الرمزية”؛ إذ هذه المدرسة تبحث بالضبط في الطريقة التي تشكل
عبرها التفاعلات الاجتماعية -وبناء على أنساق رمزية مشتركة- وعي الفرد
بنفسه. وهذا بحث في صميم إشكالية الهوية.
وبالرغم من ذلك لم يستعمل التفاعليون في البداية هذا اللفظ. ولهذا تفسير
قريب، ذلك أن الآباء المؤسسين لمنهج المدرسة -شارل كولي وجورج ميد-(15)
تكلما عن “الذات” Soi، وهو المصطلح الذي راج بين التفاعليين في الستينات.
ثم إن التفاعلية الرمزية انتقلت من استعمال اصطلاح الذات إلى استخدام
اصطلاح الهوية بدءاً من سنة 1963، وذلك حين نشر إيرفين جوفمان -أحد رؤوس
هذه المدرسة-: “آثار الجراح: ملاحظات على أسلوب التعاطي مع هوية
مدمرة”(16) وفي السنة ذاتها شهر بيتر برجر مفهوم الهوية وساهم في انتشار
استعماله، بكتابه: “دعوة إلى دراسة علم الاجتماع”(17)، وذلك حين خصّص له
حيّزاً هاماً في تقديمه لنظريات الأدوار والجماعة المرجعية، وكذا من خلال
المقاربة الظاهراتية التي طورها في كتابه هذا.
* الاعتراف بالأقليات
إذن فانتشار كلمة الهوية وتوسع استخدامها في علوم الاجتماع بالولايات
المتحدة كان في الستينات. ثم إن هذا الاستعمال كثر وتوسع وانتشر بسرعة
كبيرة حتى صار من المستحيل -كما قال ب. كليزون- أن نحدد المعنى الدقيق لكل
استخدام خاص لمفهوم الهوية. ثم إن الوضع السياسي بأمريكا ساهم بدوره في
ترسيخ اصطلاح الهوية، وفرضه على لغة الإعلام كما على التحليل الاجتماعي
والسياسي. ذلك أنه في نهاية الستينات برزت الأقلية الأمريكية من أصل
إفريقي، خصوصاً بظهور منظمة “الفهود السود” سنة 1966. ثم حذت أقليات أخرى
حذو حركة السود مطالبة بالاعتراف بخصوصيتها. وهذه الظرفية أنتجت “صحوة
هوية حقيقية” في سنوات السبعينات. وكما لاحظ ذلك عالم الاجتماع الأمريكي
روجر بروباكر(18)، فإن “تجربة الأمريكيين من أصل إفريقي مع قضية “الإثنية”
باعتبارها تصنيفاً يفرض نفسه، وفي الوقت نفسه باعتبارها تحديداً ذاتياً
للهوية… هذه التجربة كانت حاسمة ليس فقط لنفسها وفي داخل حدودها الخاصة،
بل أيضاً في تقديمها لنموذج الاحتجاج على أساس من الهوية، وهو النموذج
الذي استفادت منه جميع أنواع الهويات، بدءاً من تلك التي تتعلق بالجنس أو
بالاختيار الجنسي، وانتهاء بتلك التي تتأسس على “الانتماء الإثني أو
العرق”.
وقد انعكس هذا في حقل العلوم الاجتماعية على مستوى الهيكلة بتأسيس أقسام
متنوعة بالجامعة الأمريكية مثل الدراسات الأفرو-أمريكية (ويسمى هذا القسم
بـ”الدراسات السوداء”)، والدراسات النسوية، والدراسات الخاصة بطائفة
الشاذين جنسياً، والدراسات عن المكسيكيين المستقرين بالولايات
المتحدة(19)، والدراسات اليهودية. وتبدو هوية الأقلية بالنسبة لهذه الحقول
الدراسية معطى أوليًّا. كذلك قام مفكرو ما بعد الاستعمار من جانبهم،
كإدوارد سعيد وكاياتري سبيفاك، بمساءلة الهويات الهجينة والمختلطة التي
صنعها التاريخ الاستعماري.
إن عاطفة الانتماء إلى هوية ما لم تضعف في الثمانينات والتسعينات. ويذكر
تود جيتلان(20) إحصاءات جدّ معبرة: فبين سنتي 1980 و 1990 ارتفع عدد
الأمريكيين الذين يصرحون رسمياً بأن أصولهم تعود إلى الهنود الحمر بنسبة
255%، كما تضاعف عدد الذين صرحوا بأنهم أكاديون(21) عشرين مرة في الفترة
ذاتها! ومن الصعب أن نميز السبب في هذا التجوال الدائم بين حركة مطالب
الهوية واحتجاجاتها وتحليلات وسائل الإعلام ودراسات العلوم الإنسانية: إن
الخطاب الأكاديمي والإعلامي يعكس بلا شك وضعية يساهم هو نفسه في صنعها.
وعلى كل حال، فقد أصبح من غير الممكن تجاوز مفهوم الهوية، لا في الأبحاث
حول الهجرة، والمسألة القومية، والدين، ودراسات النوع(22)، ولا في الأبحاث
حول الإثنية.
وبالرغم من أن المصطلح نشأ ضمن العلوم الاجتماعية بالولايات المتحدة
وانتشر بها، فإن الأمر نفسه ينطبق على أوروبا التي أصبحت فيها الهوية
مفهوماً رئيساً. وبالطبع يعتبر تميز التاريخ الأمريكي -خصوصاً في مسألة
أهمية الأقليات التي نشأت عن موجات متعددة من الهجرة- عاملاً حاسماً في
انتشار المفهوم. لكن من المؤكد أنه توجد أيضاً أسباب سياسية صرفة كانت لها
آثار هامة على العلوم الاجتماعية، فكما يقول ر. بروباكر: “كان انتشار
مطالبات الهوية أمراً سهلاً بسبب الضعف النسبي المؤسسي لأحزاب اليسار
بالولايات المتحدة، والذي تزامن بدوره مع ضعف التحليل الاجتماعي والسياسي
القائم على اصطلاح الطبقية. ورغم أنه يمكننا جداً أن ننظر إلى الطبقة
الاجتماعية نفسها باعتبارها هوية، تبقى حقيقة أن ضعف سياسة الطبقية
بالولايات المتحدة (مقارنة بأوروبا الغربية) أمر شكّل تربة جد خصبة وحقلاً
حراً لتطور الاحتجاجات المؤسسة على الهوية”.
هذه الفكرة جذابة وتفسر لماذا بدا مفهوم الهوية فائق الأهمية بالولايات
المتحدة أولاً قبل أن يصير كذلك بأوروبا لاحقاً. إذن يمكن أن نفترض -بحق-
وجود علاقة بين تقوّي خطاب الهوية في العلوم الاجتماعية بأوروبا وبين
تراجع رؤية أكثر ماركسية للشأن الاجتماعي(23) وإذا كان التحليل بمصطلحات
الطبقية لا يزال قائماً ومستمراً، فإنه الآن مجرد معطى واحد من جملة
معطيات أخرى، ومكون ضمن مكونات الهوية. وعلى المستوى السياسي ساهم سقوط
الشيوعية في تسارع تراجع هذا التحليل، وهو السقوط الذي تصاعدت على إثره
الوطنيات الأوروبية.
* ترسخ الفردانية
لكن -بغض النظر عن هذه المؤثرات التاريخية المحددة- كيف لا نرى كذلك في
نجاح مصطلح الهوية ترجمة لاتجاه تاريخي أكثر أهمية وشمولاً: أعني تأكيد
الفردانية؟ وهذه أطروحة عدد كبير من الباحثين في خصائص الحداثة التي
نعيشها. هكذا يلاحظ عالم الاجتماع جون كلود كوفمان في “ابتكار الذات”(24)
أن “الهوية صيرورة ذاتية للحداثة ومرتبطة تاريخياً بها. لم يكن الإنسان
المندمج في مجتمع تقليدي يطرح مشاكل الهوية كما نفعل نحن اليوم. رغم أنه
عملياً كان يعيش فردانيتة”. إننا إذ نلج عصر الهويات فبالضبط لأنها لم
تبقَ بدهية، بل هي أشكال متغيرة ويلزم بناؤها وتأسيسها.
لقد بدأت عاطفة الهوية الفردانية تنتشر بالتدريج في القرن التاسع عشر،
ولاشك أن الرومانسية هي إحدى أقوى تجليات هذا الشعور. لكن هذه “الحداثة
الأولى” لم تطرح بحدة قضية الهويات التي كانت لا تزال حاضرة واضحة تفرض
نفسها من أعلى. والأمر لا يختلف بالنسبة إلى النصف الأول من القرن
العشرين. بالمقابل شهدت الستينات انقلاباً حقيقياً، فأصبح على الشخص نفسه
أن يؤسس ذاتيته، وهذا يثير مشاكل حقيقية، كما يشير لذلك عالم الاجتماع
آلان إيرنبرغ. لقد بيَّن في كتابه “التعب من الذات”(25) كم هي مضنية مسيرة
البحث عن الهوية: إن الاكتئاب هو بلا ريب العرض المرضي الأشد بروزاً لهذه
الصعوبة الجديدة في التحديد الشخصي للهوية. هكذا ظهر بسرعة الجانب السلبي
لهذه الثورة: فللحرية ثمن غالٍ. وفي الواقع يتميز الدخول فيما يسميه
أنطوني جيدن(26) بـ”الحداثة المتقدمة”(27) بدرجة متزايدة من التأمل:
فالناس يتساءلون عن كل شيء، مما يجعل سلوكهم متردداً باستمرار. وفي هذا
يوجد مفتاح الهوية بالنسبة لكوفمان الذي يقول: “يندرج الفكر السؤول ضمن
منطق الانفتاح، فهو يحطم اليقينيات، ويشكك فيما اعتبر مكسباً نهائياً. على
خلاف ذلك لا تكفُّ الهوية عن جمع الشظايا وتركيبها، فهي نسق مستقر يحفظ
المعنى ويسيّجه، ونموذجها هو الكلية”(28). إنما لا يمكن للهوية أن تؤدي
هذه الوظيفة إلا بشكل مؤقت.
* محاذير المفهوم
من جهته حاول الفيلسوف الكندي شارل تايلور في كتابه “أصول الأنا”(29) أن
يتتبع نشأة الهوية الحديثة والفردانية عبر تاريخ الفلسفة وتاريخ العقليات
وبحسبه فإن الهوية الحديثة ترتكز على ثلاثة جوانب:
1- اكتشاف أو ابتكار السريرة الداخلية
(القديس أغسطين، ومونتيني، وديكارت، ثم جون لوك. فقد كان دور هؤلاء
حاسماً، إذ بدأ الإنسان شيئاً فشيئاً يتعلم أن ينظر إلى نفسه باعتباره
“أنا” باطني).
2- تثمين الحياة العادية (ودور البروتستانتية هام هنا، لأنها تثمن الحياة
المادية عبر: العمل، وصناعة الأشياء المفيدة في الحياة، والأسرة،
والزواج…).
3- علمنة المجتمع.وكان من المفروض -عند تايلور- ألَّا تحطم الفردانية التي تميز مجتمعاتنا الحديثة الروابط التي توجد بين الناس. (مجرد أمنية صادقة؟).
إنها العودة القوية للفرد، فهذا إذن ما يعنيه مفهوم الهوية، لكن هذا يمكن
أن يشكل أيضاً مشكلة مقلقة. وهذا كلود ليفي ستراوس -في الحلقة الدراسية
التي أدارها بمعهد فرنسا، سنة 1974/1975، حول موضوع الهوية- لم يستطع
إخفاء انزعاجه من هذه الميول النرجسية التي تمنّى لها نهاية قريبة، يقول:
“إن إيماننا المستمر بـ(فكرة الهوية) ربما لم يكن إلا انعكاساً لحالة
حضارية من المفروض ألَّا تتجاوز بضعة قرون. لكن ها هي أزمة الهوية الشهيرة
-والتي كثر عنها الكلام- تكتسي معنى جديداً..”(30).
في الواقع يعكس نجاح المفهوم العودة القوية للفرد في مجال العلوم
الاجتماعية والإنسانية بالرغم من البنيات التي تحدده. فالفرد يتصدر كل
شيء. لكن من الملاحظ أن الدراسات حول الهوية كثيراً ما بيّنت أهمية
المؤسسات في بناء الهوية. وهذا لا يمنع من الإقرار بأن بعض الخطابات في
الموضوع تخطئ حين تغيب بسهولة دور الإكراهات المجتمعية. إن التناقض في
مفهوم الشخصية يكمن في أنها تعبر عن نفسها بالانتماء إلى جماعات، أي في
تشابك هويات جماعية (أنا رجل، مهنتي كتبي، ورب عائلة، ومناضل سياسي، كما
أنني أهوى الأوبرا، وأصلي إيطالي…).
ألا يجدر بالعلوم الإنسانية أن تهجر هذه المقولة “التي تتحدث إلى الناس”،
والتي يطرد استعمالها أكثر فأكثر في الحياة اليومية في كلام الواحد عن
نفسه، لصالح مفاهيم أكثر تحديداً وأقل التباساً؟ إن ج. ك. كوفمان يطرح
السؤال نفسه: تبدو الهوية في المعرفة العادية وكأنها عبارة عن ماهية
مستقلة أو معطى أولي، وهذا بالضبط ما تنكره البحوث الاجتماعية أكثر فأكثر،
والتي تؤكد جميعاً على أن الهوية هي في الحقيقة نتاج تركيب معين. ورغم ذلك
من الصعب أن نهجر مصطلحاً يعكس -في العمق- مشكلة اجتماعية، وإن كان في
نفسه غامضاً. ومن المؤشرات على هذا التحول صدور كتاب حديث بهذا العنوان:
هستريا الهوية(34). لقد بدأ المفهوم يغيظ. ولاشك أن هذا الفأل حسن بالنسبة
لحيوية العلوم الإنسانية التي ستشهد لذلك بدء مناقشات بناءة. لكن أليست
الكتابة ضد مفهوم الهوية نوعاً من الكلام عنها؟ ثم ألا يجدر بنا أن نحذر
الهستريا المضادة للهوية كما نحذر من الافتتان الذي تحدثه أحياناً..
moutia salah eddine
عضـــو جديد
عدد المساهمات: 20
تاريخ التسجيل: 27/06/2008
العمر: 28
الموقع: Cyworld – morocco’s Profile
الهوامش:
من طرف moutia salah eddine في السبت 28 يونيو 2022, 01:51
* كاتبة دائمة بمجلة “علوم إنسانية” الفرنسية (sciences humaines) وهذا المقال يوجد بعدد يوليوز 2022، رقم 151، بعنوان: Faut-il en finir avec l’identité.
** كاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، ظهر المهراز، المغرب.
(1) يقول المترجم: هو ذاته -أو العين أو النفس- والآخر (le même et l’autre). إن موضوع الهوية في الفلسفة غيره في علم الاجتماع. فهو -في الفن الأول- يعني الشيء في ذاته، ونترجم عن ذلك بقولنا: الشيء “ج” هو “ج”، والمقصود به ثبات كنه الشيء واستمراره. لكن يشكل على ذلك التغيرات التي تطرأ على هذا الشيء: هل تمس جوهره -أو هويته- أم لا؟ هل أبو حامد الغزالي الشاب هو نفسه الغزالي الشيخ؟ ومبدأ الهوية يشكل مع مبدأ الثالث المرفوع أساس العقلانية القديمة.
(2) المترجم: بارميندس تلميذ اكسينوفانس، التحق بأثينا، له فلسفة خاصة في الوجود: حقيقته ووحدته واستمراره. توفي سنة 450 قبل الميلاد. وهراقليطس ينتمي إلى المدرسة الإيونية، له فلسفة التناقض، توفي سنة 480 ق.م. أما الإيليون فنسبة إلى مدرسة إيليا -مستعمرة يونانية بإيطاليا- اشتهرت بفلسفة خاصة.
(3) هامش المؤلف: كتاب “النبذ”، لهراقليطس. المطابع الجامعية بفرنسا، 1986 (بالفرنسية). قلت: معنى هذه القولة أن الأشياء في تغير أبدي، فأنت إن غطست في النهر ثانية، ففي ماء آخر، ماء جديد، والماء الأول سار في مكان آخر.
(4) المترجم: تيزوس بطل من الأساطير الإغريقية، وبيراس ميناء هام، أما ديلوس فجزيرة، وكلاهما باليونان.
(5) المترجم: جون لوك فيلسوف إنجليزي انتقد ديكارت. له “رسالة في الفهم البشري”، توفي سنة 1704. وهيوم فيلسوف اسكتلندي، اشتهر بنقده للعلاقة السببية في كتابه “بحث في الفهم البشري”، توفي سنة 1776.
(6) تعليق المترجم: علوم الإدراك البشري sciences cognitifs عبارة عن حقل معرفي جديد يدرس طبيعة الإدراك وطرقه وآلياته، ويستمد مواده من علوم: النفس، والاقتصاد، والأعصاب، والمعلومات، واللسانيات، والذكاء الاصطناعي.
(7) المترجم: إريكسون أمريكي من أصل ألماني، وهو من أهم رؤوس تيار الثقافة داخل التحليل النفسي. له دراسة أخرى عن: “المراهقة والأزمة: في البحث عن الهوية”، توفي سنة 1994.
( المترجم: أنا هي ابنة فرويد مؤسس التحليل النفسي، وهي بدورها عالمة نفسانية تخصصت في التحليل النفسي للصغار. توفيت بلندن سنة 1982.
(9) المترجم: كاردينر عالم نفس، ودرس أيضاً علم السلالات البشرية، من كتبه: الفرد ومجتمعه. الحدود النفسية للمجتمع. وهو أمريكي توفي سنة 1981. أما ميد فأمريكية متخصصة في الأنتروبولوجيا، درست بعض الشعوب البدائية، توفيت سنة 1978.
(10) المترجم: شعب السيو أشد من قاوم البيض بأمريكا الشمالية. توجد منهم بقايا إلى اليوم.
(11) المؤلف: ب. كليزون: “تحديد مفهوم الهوية: تأريخ دلالي”، بمجلة التاريخ الأمريكي، عدد 4، مارس 1983 بالإنجليزية.
(12) يقول المترجم: التكنه Identification هو تحقيق الذاتية أو تحققها، أي اكتساب هوية معينة، هذا الاكتساب عند فرويد يقع بنوع من التقليد، حيث يجد الطفل نفسه في الآخر، فيتمثله لكن المقصود هنا -أعني في علم الاجتماع- هو توصل الفرد إلى اكتساب هويته عبر الجماعة بتمثل منظومتها من القيم أو بالقيام داخلها بدور محدد.
(13) المترجم: آلبور عالم نفس أمريكي، من أهم مطوري علم النفس الإكلينيكي، له: التفسير النفسي للشخصية، توفي سنة 1967.
(14) المترجم: عالم اجتماع أمريكي من الاتجاه الوظيفي، وهو تلميذ بارسون.
(15) المترجم: كولي عالم اجتماع أمريكي، تخصص في دراسة العلاقات بين الأفراد في إطار المجموعة. توفي سنة 1929. وميد فيلسوف وعالم اجتماع أمريكي، درس تطور الفكر واللغة. توفي سنة 1931 من كتبه: العقل والأنا والمجتمع.
(16) المؤلف: إ. جوفمان: “العلامة والهوية الاجتماعية”، ضمن كتابة: “الندوب: الاستعمالات الاجتماعية للعوائق”. دار نشر نصف الليل، 1996، بالفرنسية، وبالإنجليزية سنة 1963. قلت: جوفمان عالم اجتماع أمريكي توفي سنة 1982.
(17) المؤلف: ب. بيرجر: دعوة إلى دراسة علم الاجتماع. أفق إنساني. دار بانكوان، 1988. بالإنجليزية. يقول المترجم: بيرجر عالم اجتماع اشتهر بهذا الكتاب الذي أصدره مع طوماس لوكمان: البناء الاجتماعي للواقع سنة 1966.
(18) المؤلف: ر. بروباكر: “ما وراء الهوية”، بمجلة أعمال البحث في العلوم الاجتماعية، عدد 139، سبتمبر 2001. بالفرنسية.
(19) المترجم: يطلق على دراسة مجتمع الشواذ Gay’s studies، وعلى المكسيكيين المهاجرين chicano studies.
(20) المؤلف: ت. جيتلان: “أفول الأحلام البسيطة: لماذا تضررت أمريكا من ثقافة الحروب؟” نشر أووليت. 1996 بالإنجليزية.
(21) المترجم: نسبة إلى منطقة فقدها الفرنسيون لصالح بريطانيا، ولجؤوا إلى لويزيانا.
(22) المترجم: دراسات النوع genre شكل من التحليل ينظر إلى كل من الذكر والأنثى باعتبارهما بناءً اجتماعياً.
(23) المؤلف: يقدم ل. شوفيل أرقاماً بليغة عن تراجع استعمال مفهوم “الطبقة” في علم الاجتماع: “بين سنتي 1970 و1979 كانت نسبة 3% من الأطروحات -في علم الاجتماع- تذكر كلمة الطبقة، ثم 1.5% في الثمانينات، ثم 1% بين 1990 و 1995، ثلثها يتعلق بأقسام المدرسة، وهذا استعمال نادر في السابق (يقول المترجم: لفظة classe تعني الطبقة أو القسم، فهي من المشترك). وكانت سنة 1984 سنة قطيعة بامتياز. واليوم تعتبر كلمة “الطبقة” -في علم الاجتماع- قديمة، ويتخلص منها بشكل أو بآخر”. عن: قدر الأجيال. نشر المطابع الجامعية الفرنسية، 1988. طبع مرة أخرى سنة 2022. بالفرنسية.
(24) المؤلف: ج. ك. كوفمان: ابتكار الذات، نظرية في الهوية. طبع أرمون كولان، 2022. بالفرنسية. قلت: كوفمان عالم اجتماع برز في العقدين الأخيرين، وألف خصوصاً في سوسيولوجيا الأسرة.
(25) المؤلف: أ. إيرنبرغ: التعب من الذات. الاكتئاب والمجتمع. نشر أوديل جاكوب، 1998، وطبعة أخرى في 2000. بالفرنسية.
(26) المؤلف: يتحدث جيدن عن “الحداثة المتقدمة” وليس عن (ما بعد الحداثة)، لأن هذه المرحلة الجديدة لا تشكل قطيعة مع الحداثة بقدر ما تمثل شكلها الأقصى والأكثر تطرفاً. قلت: جيدن من علماء الاجتماع المعاصرين البارزين، من كتبه: تأسيس المجتمع. نتائج الحداثة. نظرية في الجغرافيا الاجتماعية.
(27) المترجم: المتقدم هنا -avancé- بمعنى الذي يوجد في مرحلة متأخرة من تطوره، لا أنه متقدم بالمعنى المضاد للتخلف.
(28) المؤلف: كوفمان، مرجع سابق.
(29) المؤلف: ش. تايلور: “أصول الأنا”، دار لوسوي، 1998. الطبعة الأولى في 1989. بالفرنسية.
(30) المؤلف: تأليف مشترك بتنسيق من ليفي ستراوس: الهوية. مطابع فرنسا، 2000. الطبعة الأولى، 1977. بالفرنسية.
(31) المؤلف: ج. ف. بايار: وهم الهوية. دار فايار، 1996. بالفرنسية.
(32) المؤلف: أ. كروسر: الهويات المستغلة، مقال بلوموند، 28 يناير 1994. بالفرنسية.
(33) المؤلف: بروباكر، مرجع سابق.
(34) المؤلف: أ.دوبان: هيستريا الهوية. دار لوشيغش ميدي، 2022، بالفرنسية