النحو بين التيسير والتعسير
د. محمد أحمد الشامي*
2022-12-26
مقدمة:
قد عَجَّمْتُ عود النحو فوجدته صلبًا، ولم يكن الأمر كما كنا نسمع من مشايخنا من أنك ترى النحو أسدًا فإذا دخلته وجدته خروفًا، وكدت أقول مع المبرد حين يأتيه شخص ليقرأ عليه كتاب سيبويه [هل ركبت البحر”> أو أقول مع القائل – [على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى فأخلص منه لا عليّ ولا ليَّا”> غير أني عدلت عن ذلك إلى القول مع القائل “سعاد التي أضناك حب سعاد”، فعشت في كتب النحاة منذ غضاضة العمر حتى هذا اليوم الذي تجاوزت فيه الخمسين، – وهي فترة زمنية كافية لأن يكون للإنسان رؤية فيما أحسب – تعينه على فهم النحو ودروبه ومسالكه بحيث يتمكن من سلوك الطريق الذي يساعده إن شاء الله على فهم النحو وتقريب قصيه، وشغلت كثيرًا بهموم هذا النحو العربي كغيري من الحادبين، لا سيما وأن شغفي بالعربية يحدوني دومًا لتمكين الآخرين منها، من الطلاب والأصحاب سواء أكان ذلك عن طريق المدارسة أم المساءلة أم المراسلة، ولكم وددت أن أجمع ما يعنّ لي من مسائل وأطروحات في مقام واحد أستمع لرأي الآخرين فيها أناقشهم ويناقشونني أبادلهم الرأي بالرأي والمحاورة بالمحاورة، حتى تتجلى لنا الحقائق وتستبين المعالم فترتاح قليلاً من وعثاء السفر، لا سيما في عصرنا هذا الذي فقد مثل ذلك الاعرابي الذي أجاب على الأخفش حين سأله بعد حضور مجلسه الذي كان يقوم فيه بتدريس النحو – “ما نسمع أخا العرب؟” فقال الاعرابي الذي كان يستمع في تعجب تتكلمون بكلامنا في كلامنا مما ليس من كلامنا(1).
هذا وأبناء عصرنا يحملون كثيرًا من الأسئلة التي يحاولون الإجابة عنها، فمنهم من بدأ في الإجابة ومنهم من لا ندري أهي من مخطوطاته أم اختطفته المنايا وفي نفسه شيء من أسئلته، كأستاذنا المرحوم الدكتور حسن عون الذي قال: “إن السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو:
* هل هناك من سبيل لوضع النحو العربي، ولا نقول إصلاح النحو العربي لأنه ليس فاسدًا – وضْعًا جديدًا في الإطار الذي ينبغي أن يكون فيه، حتى نستطيع أن نخفف من أعباء دراسته، وإن نبعث الحياة في مسائلة، وفصوله وأبوابه وأن نخلصه مما علق به وليس منه، وأن نجعله يساير الظروف اللغوية التي نعيشها”.
إلى أن يقول: “نعم هناك سبيل لوضع النحو العربي لا بدّ أن يوائم ظروفنا وينسجم مع تطورنا الثقافي والاجتماعي. وهذا هو الذي عقدنا العزم عليه”(2).
ولكن فيما أحسب أن الأستاذ حسن عون لم يشف غليل نفسه مما ذكره، خاصة في مسألة إعراب الأفعال، إذ أذكر أنه عندما كان يناقشني في مدرج كلية الآداب بجامعة القاهرة الأم ويحضر الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب والأستاذ الدكتور عبد الله درويش في قولي بأن الفعل المضارع معرب إطلاقًا، قال إنه ذهب إلى أكثر من ذلك ذهب إلى إعراب الأمر والماضي، ولكم تمنيت أن أرى ذلك مكتوبًا وهو أمر لم أصل إليه حتى الآن.
أقول إن أبناء عصرنا في نفوسهم كثير من القضايا والمسائل ووجهات النظر، وهم في النهاية كما أحسبهم واصلون إلى إقناع محدد بأن الآراء من حيث صوابها وخطؤها تخدم درسنا النحوي. فتعديل الخطأ وتأكيد الصواب هو من صميم عمل الباحثين ودأبهم، وان المراحل المختلفة التي مر بها النحو العربي على مسار الزمن الطويل كفيلة بالوقفة تلو الوقفة لتبعث فيه العافية وتجدد منه الشباب، فليس ثمة اقتناع على الإطلاق باحتراق النحو، وإلا لذهب النحو وأدراج الرياح وأصبح من الذكريات الخالية من مخلفات التاريخ، كما أننا لا تقنعنا أبدًا عبرات الباكين على السالفين منه فنردد مع علقمة بن عبده الأسدي:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم =أم حـبلهـــا إذ نـأتـــك اليـــــوم مـصـــروم
أم هــل كبيـر بكى لم يقـض عبرتـه =إثــر الأحـبــة يـــوم البـيـن مشكــــوم
لـم أدر بالبـيـن حــتى أزمعوا ظــعــنًا =كـل الجمــال قــبـيـل الصـبـح مزمــوم
1
2
3 هل ما علمت وما استودعت مكتوم أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض iiعبرته إثر الأحبة يوم البين iiمشكوم
لم أدر بالبين حتى أزمعوا iiظعنًا كل الجمال قبيل الصبح iiمزموم
ولكنا نقول:
ألاحبذا هند وأرض بها هند =وهند أتى من دونها النأي والبعد
1 ألاحبذا هند وأرض بها iiهند وهند أتى من دونها النأي والبعد
إن حقيقة النحو العربي بطريقته العربية تلك التي كانت رهينة النص وحبيسة التذوق؛ قد بعدت الآن فغدا محكومًا بالبراعة التي توسعت في العلل وكثرت فيها الإجتهادات التي ربما كان بعضها قاصرًا عن بلوغ مراده، في وضع يقنع الواقف أمامه. فوجدنا التخريج يصدر في مهارة، والتفسير يحدث ببراعة، كما وجدنا بعض أهل النحو من سلفنا يصطلحون على مسائل أطلقوا على بعضها النكات النحوية أو عويصات المسائل، مما جعل بعض المتأخرين يجنح لتضعيفها باطلاق قد عَدّه لطيفًا مثل قوله: “إنّ نكات النحو كالورد تُشَم ولا تُدْعَك”، وليت شعري هل مثل يصل عند المحدثين ذكرًا، ولما كنا هنا في مجال ذكر جهود علمائنا في النحو؛ لابد من الاشارة إلى أمر مهم نوثق فيه نحاتنا السالفين، فهم على ما رأيت لم يعرفوا بالتدليس كما هو الشأن عند بعض أصحاب الفنون. فرؤيتهم ومقولاتهم نقلاً ووصفًا هي من عندهم ومن قناعتهم، ولم تكن موضوعاتهم طائشة أو معممة ولكن هي الحقيقة التي اقتنعوا بها حسب جهدهم وكسبهم، ولم نعرف منهم من طلق النحو في بينونة صغرى أو كبرى، وتلك محمدة لأهل علم أجلاء كان الاخلاص رائدهم، والوفاء سلوكهم، حتى نهضوا بواجبهم وفق ما اقتضته ظروفهم، وحياتهم وأوضاعهم الثقافية والاجتماعية.
إن نحاتنا من سالف أيامهم قد اجتهدوا واستخدموا الأقيسة التي بدت لبعضهم كالجربانات كما قال أبو منصور بن الجيّان: “قياسات النحو تتوقف ولا تطرد كقميص له جربانات فصاحبه كل ساعة يخرج رأسه من جربانة”(3).
وأظن أن الخروج من جربانة إلى أخرى لا يمكن أن يصل بالإنسان إلى غايته الكاملة ما دامت العلوم كلها لا تدرك قيعانها في عمر المرء القصير وكما قيل: فإن العلم بحرٌ زخار لا يدرك له من قرار. وطود شامخ لا يسلك إلى قننه ولا يصار. من أراد السبيل إلى استقصائه لم يبلغ إلى ذلك وصولاً، ومن رام الوصول احصائه لم يجد إلى ذلك سبيلا. كيف وقد قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاَ}.
ورحم الله الزركشي في آخر مقولته: “فإن الصناعة طويلة والعمر قصير وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير…”
من أجل هذا دعونا ننظر في درسنا النحو بما يلائم روحه ويساير طبيعته، عسانا نجيب أبناء عصرنا فيه فيقدموا على أبوابه وفصوله ومسائله بما يخدم لغة القرآن العظيم.
هذا وهنا أشير إلى وجهة نظر تمثلت لي خلال دراستي للنحو وتدريسه، تلك هي أن دراسة النحو على طريقة القدماء من خلال اللغة نفسها هو ما ينبغي أن يدور فيه تعليمه ومدارسته معنىً وشكلاً، وذلك مفهوم أحسب أن التماساته لم تنعدم في يوم من الأيام، وخلال الحقب المتتالية من علماء العربية الأجلاء. ولا أظن أن نواياهم وأعمالهم كانت قاصرة في مجموعهم. وكل متناول لمسائل النحو وقضاياه الأساسية في العربية لا أظنه يغفل الاعتبار الكافي الذي يلزمه أن يحفظ لسلفنا الصالح كل اجتهادهم وإخلاصهم للعلم والتجرد له. لكنا نود الإشارة إلى حقيقة مهمة تتمثل في أن النحو العربي تشابكت فيه عدة عوامل نتج عنها ما يلي:
أ/ تذاءبت على النمو المذاهب المختلفة.
ب/ احتضن النحاة اللهجات العربية التي اعترفوا بها فقط في مجال الإصلاح النحوي الذي اتفق عليه.
ج/ كثرت الاجتهادات في التخريج المرهق.
د/ قل الحافز نحو الترغيب.
هـ/ تدخلت المعالجة الشكلية المفرطة مع الاصرار والمحافظة على القائم من مسائل النحو والمتابعة القاسية لكل ما جدّ وظهر، دون الاهتمام بعامل الزمن وتنوع الرغبات والبيئات ووحدة العلوم العربية التي أسسها جِلّة من الأوئل والسير على طريقة العربي في لغتهم بمختلف لغاتها في براح وإفساح.
عوامل العسر
أ/ تختلف الأسباب التي تدعو لنشأة ظاهرة ما. فمنها أحيانًا طبيعة الظاهرة ذاتها وما تفرضه، ومنها ما هو من صنع الإنسان نفسه، فمثلاً ما نحن بصدده من عوامل التعسير في النحو العربي؛ فإننا نجد الانبعاج والترهل الذي أصابه على يد أهله بسبب حرصهم على استقصاء كل ما يتعلق بمسائله سالكين لذلك كل السبل التي تيسرت لهم من حركة وثقافة وعلوم. مما أدى بطبيعة الحال إلى فتور التلاميذ وقصور هممهم.
ب/ عامل يعود إلى صاحب الصنعة نفسه، حينما حاول بعضهم أن يتكسب بهذا العلم ويتخذه مظهرًا اجتماعيًا يجلب له الوجاهة والتفرد في مجتمعه، فصار يدخله في مسائل لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن ثم نجد من دخل في ديار النحو طلبًا للمال ومناصرة للمذاهب، فغدا النحو مخيفًا فشاب من شاب خوفًا منه ومات من مات كمدًا ومكايدة في مجالسه، وهذا فيما أحسب من العوامل الحادة التي جعلت النحو يتحرك في دائرة حرمته كثيرًا من الافكار النيرة والوقفات الصائبة. ولننظر فيما يأتي من الأقوال كنماذج لهذه المسألة فالنحاة أحيانًا يتجاوزون لأكثر من علة كسؤال السائل عن زيد في (قام زيد) لم رفع؟ فيقال لأنه فاعل مرفوع (هذه العلة الأولى) فيقول لم رفع الفاعل؟ فيقال للفرق بين الفاعل والمفعول (هذه العلة الثانية) – فيقول فلم لم تعكس القضية بنصب الفاعل ورفع المفعول؟ فيقال لأن الفاعل قليل والمفعولات كثيرة فأعطى الأثقل الذي هو الرفع الفاعل وأعطى الأخف الذي هو النصب للمفعول لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة، ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر في كلامهم ما يستخفون. فهل مثل هذا يزيدنا علمًا، أظن الاجابة سالبة إذ لو جهلنا ذلك، لم يضرنا جهله لأنه في الواقع رفع الفاعل الذي هو مطلوب الدارس. هذا ومن وجوه التفسير ذلك الحديث الذي جرى بين من ينتحل النحو وآخر ذي إلمام – في قول كثير:
وأنت التـي جببت كـل قصـيرة =إلـىّ ومـا تــدري بــذاك القــصـائر
عنيت قـصـيرات الحجــال ولم أرد =قصار الخطا شر النساء البحاتر
1
2 وأنت التي جببت كل iiقصيرة إلىّ وما تدري بذاك iiالقصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء iiالبحاتر
قال بعضهم البحاتر مبتدأ وشر النساء خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون شر النساء هو المبتدأ والبحاتر خبره، وكان هناك من يرى أن الشاعر لا يريد إلا أن يخبر أنّ البحاتر شر النساء وأنكر صحة غيره … وجعل يكثر من ذكر الموضوع والمحمول، ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أهل البرهان فقلت له أنت تريد أن تدخل صناعة المنطق في صناعة النحو وصناعة النحو تستعمل فيها مجازات ومساحات لا يستعملها أهل المنطق، وقد قال أهل الفلسفة يجب أن تحمل كل صناعة على القوانين المتعارفة بين أهلها، وكانوا يرون أن إدخال بعض الصناعات في بعض إنما يكمن من جهل المتكلم أو عن قصد منه للمخالطة واستراحة بالانتقال من صناعة إلى أخرى إذا ضاقت عليه طرق الكلام(4).
ومما يؤيد هذا المنحى ذا الجذور ما روى عن سبب وضع الفرَّاء للحدود واملائه:
إنّ جماعة من أصحاب الكسائي صاروا إليه وسألوه أن يُملي عليهم أبيات النحو ففعل، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان. والوجه أن يُقعَد عنه فقعدوا. فغضب وقال: سألوني القعود. فلمّا قعدت تأخروا والله لأملين النحو ما اجتمع اثنان فأملى ذلك ست عشرة سنة.
وعند إنعام النظر إلى هذا النص ترى من يريد النحو لاسم لا يفقهها كل الناس حتى لا يشاع، بينما نرى إصرار الفراء على التيسير وما أظن الرجل إلا مريدًا بذلك الخروج من حزن إلى سهل حتى يستجم الدارس ويلتقط أنفاسه ويدفع عنه الملل، وما أظن أولئك الممتنعين والقاعدين إلا آمّين الحزن من المسائل، وبهذا يقطعون ظهر الدارس ويبتّون قواه الذهنية والبدنية، فيقف دون مرامه فيكون لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى. وإذا كان أساسًا الهدف من تعليم النحو عند قدمائنا الأجلاء محاولة فهم القرآن وإدراك معانيه، فما العيب في أن يفهمه الصبيان، وكان من الجميل جدًا عند المرغبين الميسرين أن تتجه هممهم للتعمق في الصوت وفي اللفظة وفي الجملة، مما اقتضاهم طرق كل باب يفضي إلى الإفصاح عن أسرار التركيب القرآني، ومن ثم نتابع النحاة في هذه القرون الممتدة يؤصلون، ويفصلون، ويشرحون ويعللون وهم في ذلك لا يغفلون لحظة عن الهدف الذي من أجله ولد علم النحو هذا.
وأحسب أن هذا الفهم والهدف هو الذي دفع أبا عبيدة معمر بن المثني (ت 308هـ) إلى تأليف كتابه في مجازالقرآن، محاولاً بما أوتي من قوة ملاحظة ومشاهدة دقيقة أن يسلك بدرس النحو سبلاً أخرى تربطه بالنصوص وتوسع من دائرته وتسهل عويصه الصناعي. فاتخذ من بعض المسائل موضوعًا للتأميل في ربطها بالنص، وكان يهدف من وراء ذلك العمل إلى الكشف عن الحقيقة العلمية الكامنة وراء النصوص. فجاء عمله طيبًا وفق جهده فتناول مسائل متعددة من تقديم وتأخير وحذف وغيرها.
وعله بهذا العمل فيما نحسب يود أن يسعى إلى طريقة حسنة تفيد في تناول مسائل النحو وقضاياه، بدل البحث عن العلل الأوائل والثواني وكلها كانت من الطرق التي تلتمس لفهم طريقة لغة العرب ونحوها بمعناه الواسع المفيد. وهذا التناول قد فتح الباب أمام نظرات جديدة للنحو تتمثل في الجهد الذي ظهر في القرن الخامس على يد العلامة الشيخ عبد القاهر الجرحاني (471 هـ).
فكان النحو عنده ليس علامات الإعراب وحدها، أو النظر إلى أواخر الكلمات وليست البلاغة في التشبيه وبراعته ومحدودية النظر، وإنما سبيل العربية المطلوب هو الإبانة والفهم ووسائل العربية كثيرة، منها التنكير والتعريف والتقديم والتأخير والفصل والوصل والتحول من الاسم إلى الفعل ومن صيغة لأخرى.
وقد كان الرجل عظيمًا حين أسند وجوه البيان والافهام إلى علم النحو، وعاب على بعض القوم زهدهم في النحو وعلى آخرين اغفالهم لمعناه الواسع الجميل. قال عن المستهينين “وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعم في ذلك أشنع .. وأشبه بأن يكون صدًا عن كتاب الله وعن معرفة معانيه وذلك بأنهم لا يجدون بدًا من أن يعترفوا بالحاجة إليه فيه. إذا كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتِّقها، وأن الأغراض كامنة فيها. حتى يكون هو المستخرج لها.. ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه وإلا من غالط في الحقائق نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فليت شعري ما عذر منه تهاون به وزهد فيه، ولم ير أن يستسقيه من مصبه ويأخذه من معدنه ورضى لنفسه بالنقص والكمال لها معرض وأثر الغبينة وهو يجد إلى الربح سبيلاً”(5).
فعبد القاهر بمثل هذه الملاحظات يؤكد أن أمر التدريس النحوي مرتبط بفك المغلق واستخراج الأغراض الكامنة وليس هو أمر ما يلحق أواخر الكلام. هذا والذي أصاب النحو قبل فترة هذا العالم قد أبعده كثيرًا عن هذه الدوائر وصار مسائل كالألغاز عند بعضهم، وتلاعبًا بالصور والأشكال كما في قرينة الصرف كتلك الأقوال التي نعرفها من مثل: كيف تبني من كذا كذا، أو ما هو وزن كذا ثم ما وزن عزويت أو قولهم لو سميت رجلاً بكذا فكيف يكون الحكم (6) فمثل هذا وما أشبهه لا يثمر إلا كدّ الفكر وإضاعة الوقت وجلب الوهن، وعكسه نجده في ترغيب عبد القاهر الجرجاني في بعض المسائل البلاغية المختلطة بالأداء النحوي مما نحسبه صنيعًا محببًا للنفس الطموحة التي تشرئب لفهم العربية بأصلها، ولننظر في مثال واحد تناوله في الدلائل وهو “اشتعل الرأس شيبًا”(7). نحن في دراستنا النحوية نمثل به في باب التمييز المحول عن فاعل دون تلمس الوجوه الجمالية فيه. والمعاني الجمّة التي يشتمل عليها كما يتناوله البلاغيون الحرفيون يقول:
“ومن دقيق ذلك أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {واشتعل الرأس شبيًا} لم يزيدوا فيه على ذكرالاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها ولم يروا موجبًا للمزية سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم وليس الأمر على ذلك ولا هذا الشرف العظيم.. ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه فيرفع به ما يسند إليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الاسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة كقولهم طاب زيد نفسًا وقرّ عمرو عينًا … وأعلم أن في الآية شيئًا آخر من جنس النظم وهو تعريف الرأس بالألف واللام وأفادة معنى الإضافة وهو أحد ما أوجب المزية ولو قيل “واشتعل رأس فصرح بالاضافة” لذهب بعض “الحسن” فأرفه(8).
وقال: “اعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد ومنطلق زيد والمنطلق زيد وزيد هو المنطلق وينظر إلى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير والحذف والتكرار والإضمار والإظهار فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغي له”(9).
هذا وعلى أية حال؛ إن وضع النحو يحتاج إلى معالجة واعية ليس فيها على قدمائنا تطاول وليس فيها على المحدثين تهاون، فزماننا قد وهنت فيه الهمم وأشأم الناس وتيمن النحو وصار مدرسو النحو مع طلابهم كالمنكح الثريا سهيلاً، فالاستعداد في النفوس حادث ليبلغ أهل العربية العربية على وجه يرضى الله ويرضيهم، ويرفع عنهم كوالح المسائل وعويصاتها، ويوجد لهم المصطلحات ومنابعها ويحبذ لهم منهج المتذوقين، والمستبصرين الذي يجمعون المتفرّقات ويربأون عن الخلافات ويحسنون جمال القول في براعة التركيب وبلاغة الفصحى، ولا أحسبنا بمبتعدين عن الصواب إن جارينا قدماءنا في روحهم الوثابة في التعامل مع عصورهم فقد وجدناهم دومًا يشيرون إلى حال العصر الذي يعيشون ويتعاملون معه بواقعية مشهودة، فيصفون قصور الهمم وكثرة الشواغل كل هذه في زمانهم فماذا يكون الحال في عصرنا الذي صارت بضاعة العلوم فيه من حيث هي مزجاة أما النحو العربي فلا بواكي له.
وأما سدّ باب الاجتهاد على النحاة في أي عصر من العصور، فلا حجة في ذلك لا سيما بعد التطور البشري في وسائل المعرفة وفي إدراكنا لنعم الله على عباده، فقد يفتح الله لعالم بعد آخر من الأبواب مالم يتطرق إليه من المتقدمين أحد. ولا أظن الأمر يحتاج إلى عرك أذن أو عراك أبدان، وإنما الفكر والرؤية والتريث بعد النظر والاستعداد. فالخلاف الذي لا يقوم على عصبية مذهبية في النحو عند أبناء عصرنا لا يثير التخوف ولا يصد عن السبيل – فهم على استعداد حميد لقبول الرأي الآخر والرأي الموافق على وجه يجلى الغموض ويستبعد الحرفية المدلجة.
النحو والمناكفات
لم يطرح النحاة التثريب على بعضهم جانبًا وإنّما كانوا يتعمدون أحيانًا إثارة المسائل في المجامع وأمام الأمراء ويعقدون المجالس لإحراج بعضهم بعضًا تارة، ولإظهار البراعة تارة أخرى، وللوصول إلى المقاييس أو التصويب تارة ثالثة. ولعل الدارس للنحو يدرك تمامًا المناظرات المختلفة والمجالس التي عقدت ودار فيها مثل هذا العمل، كالصنيع الذي نجده بين أعلام النحو العربي إذا استعرضنا النحاة البارزين من أمثال سيبويه، ابن السراج، الكسائي، الفرّاء، الأخفش، المبرد، الزجاج، ثعلب، الزجاجي، السيرافي، ابن كيسان، ابن برهان، ابن جنّي، ابن الأنباري، الزمخشري، ابن مضاء، ابن خروف، الشلوبيني، ابن عصفور وابن الحاجب، وغيرهم من أعلام النحو. لوجدنا لأكثرهم لقاءات ومحاورات وردودًا على من تعاطى هذه الصنعة من أقرانهم ومعاصريهم أو على من سبقهم يمكننا أن نجد بعضًا من ذلك في – مناظرة الكسائي واليزيدي، ومجلس أبي إسحق الزجاج وجماعته ومجلس ثعلب والمبرد ومجلس أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر ومجلس الزجاج مع رجل غريب، ومجلس ثعلب مع ابن كيسان ومجلس ابي عثمان المازني مع ابي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش ولا يخفى ذلك الجمع المشهود الذي هباه يحيى البرمكي بين سيبويه والكسائي في المسألة الزنبورية.
مما هيأ الجو في مجال النحو للبعد به عن التسهيل والترغيب فنشأ جيل تعاطى النحو وبرع فيه براعة مشهودة مما جعل نفرًا منهم يتخذه مباهاة فحال هذا العمل ببين النحو للجميع وبين الناس، فظهرت المشكلات والمسائل العويصات كالأحاجي والمجالس والمناظرات في أمور نحسبها لم تعط النحو دفعات أو تطورًا أو يجني الدارسون منها ثمرة عملية تطبيقية، ويمكن تصور هذا الذي نقول إذا رأينا الفتاوي النحوية التي ربما جاءت نتيجة للتطور الذي نشأ من خلال تلك الممارات والمناظرات والمجالس والأحاجي. وسأسوق هنا أمثلة متنوعة على ذلك.
نموذج للمناكفات:
في نظري أن افتعال المسائل الصعبة أو السهلة في حد ذاته يدل على تعقيدات لا مبرر لها في مجال الدراسات النحوية والصرفية التي مجالها العطاء لا المحاجة ومما جاء في هذا المجلس أبي عثمان المازني مع يعقوب ابن السكيت (186 – 244) جاء فيه:
“أخبرنا أبو إسحق الزجاج قال أنبأنا أبو العباس عمر بن يزيد عن أبي عثمان قال:
جمعني وابن السكيت بعض المجالس فقال لي بعض من حضر: سله عن مسألة، وكان بيني وبين ابن السكيت ودٌ، فكرهت أن أتجهه بالسؤال لعلمي بضعفه في النحو – [بمعناه العام”> فلما ألح عليّ قلت ما تقول في قول الله عز وجل {فارسِلْ مَعْنَا أَخَانَا نَكْتَل}(10).
ما وزن نكتل من الفعل ولم جزمه، فقال وزنه نفعل وجزمه لأنه جواب الأمر قلت فما ماضيه ففكر وتشوّر فاستحييت له. فلما خرجنا قال لي – ويحك ما حفظت الودّ خجَّلتني بين الجماعة فقلت: – والله ما أعرف في القرآن أسهل منها قال فإن وزن نكتل نفتعل من اكتال يكتال وأصله نكتيل فقلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت الألف لسكونها وسكون اللام فصارت نكتل(11).
الفتاوي النحوية:
لقد تطور أمر المناكفات فاتخذ شكل فتاوي نحوية لزداد الأمر تعقيدًا ومن أمثال ذلك ما تقول السادة النحويون أحسن الله توفيقهم في قول العرب يا أيّها الرجُل هل ضمة الرجل ضمة إعراب وهل الألف واللام فيه للتعريف؟
فكان جواب المكني بأبي نزار:
الضمة ضمة بناء وليست ضمة إعراب، لأنّ ضمة الإعراب لابدّ من عامل يوجبها إذ لا عامل هنا يوجب هذه الضمة والألف واللام ليست هنا للتعريف… والصحيح أنها دخلت بدلاً من ياء، وأيّ وإن كان منادى فنداؤه لفظيٌّ، والمنادى على الحقيقة هو الرجل، وجاءت إجابة الشيخ أبي منصور موهوب ابن أحمد: “ضمة اللام ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب وذلك أن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والرجل وإن كان مقصودًا بالنداء فهو صفة أي محال أن يبنى أيضًا لأنه مرفوع رفعًا صحيحًا، ولهذا أجاز فيه أبو عثمان النصب على الموضع كما يجوز في يا زيد الظريف .. والألف واللام فيه للتعريف.
قال بن الشجري: الجواب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب أن ضمة اللام ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد (المعرفة) لها باطراد منزلة بين المنزلتين فليست كضمة حيث لأن ضمة حيث غير مطردة وذلك لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد نحو خرج زيد لأن هذه حدثت بعامل لفظي (وذكر هنا كلامًا كثيرًا استغرق صفحة كاملة في التعليل والاسترسال) إلى أن يقول والألف واللام هنا لتعريف الحضرة كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل(12).
هذا ولم تقف المناكفات وإنما أمتدت إلى الأدباء والشعراء وغيرهم فتصدى أولئك للنحاة وعلمهم فنالوا منهم على طرائق مختلفة. وهذه نماذج من ذلك فيما بينهم كأصحاب صناعة وفيما بينهم وبين الشعراء والأدباء وغيرهم.
فمما جاء في ذلك ما وراء صاحب نزهة الألباب أن أعرابيًا وقف على حلقة أبي زيد فظنه جاء يسأل عن شيء في النحو، فقال له: سل يا أعرابي حاجتك فأنشد على البديهة:
لسن للنحو جئتكم = لا ولا فيه أرغب
أنـــــــا مــــالي ولامـــرئ = أبد الدهر يضرب
خـــل زيــدًا لشـــــأنــــــه = أينما شجاه يذهب
واســـتمــع قــول عاشــق = قد شجاه التطرب
همــه الـــدهــر طــفـلــــة = فهــــو فيهــا يشــبب(13)
1
2
3
4
5 لسن للنحو iiجئتكم لا ولا فيه iiأرغب
أنا مالي iiولامرئ أبد الدهر يضرب
خل زيدًا iiلشأنه أينما شجاه iiيذهب
واستمع قول iiعاشق قد شجاه iiالتطرب
همه الدهر iiطفلة فهو فيها يشبب(13)
هذا والذي يبدو أن لهذا الاعرابي معرفة بأمثلة النحاة ومحيطهم الذي يضرب فيه زيد عمرًا وبالعنت الحادث خلال مداخلاتهم كما قال الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير:
ولقيت من عنت الزيود مشقة = وبكيت من عمرو ومن إعرابه
1 ولقيت من عنت الزيود iiمشقة وبكيت من عمرو ومن إعرابه
وقال رؤبة بن العجاج ليونس بن حبيب(14):
حتى متى تسألني عن هذه الأباطيل وأذوقها لك؟ أما ترى الشيب قد بلغ في رأسك ولحيتك؟
وكان أبو حاتم السجستاني وهو على علم باللغة إذا التقى هو والمازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل خوفًا أن يسأله المازني في النحو(15).
وهذه المرتبة من العلم في هذا النحو امتاز بها المازني لأنه كان علمًا في الأعراب وإن كان من بين اولئك العلماء من برع في الجميع كالرياشي الذي يفزع إليه أهل البصرة إذا اختلفوا في شيء وقالوا فيه ما قال الرياشي انقيادًا لفضله وروايته.
هذا ومن بين ما تناول النحاة في بعض شعره فغضب منهم عمار الكلبي وسجل ذلك في أبيات قال فيها:
مـاذا لــقـيت مـــن المســـتعربين ومـــن = قـياس نحـوهم هـذا الذي ابتدعـوا
إن قـلـت قــافية بكرًا يكون بهـا = بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قــالوا لحـنـت وهــذا لـيـــس مـنتـصبــًا = وذاك خـفـض وهــذا لـيـــس يرتـفـع
وحـرضـوا بــين عـبـد الله مـــن حمـــق = وبـين زيــد فطــال الضــرب والوجع
كم بــين قــوم قد احتالوا لمنطقهم = وبين قـوم عـلى اعـرابـهم طـبعــوا(16)
1
2
3
4
5 ماذا لقيت من المستعربين iiومن قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرًا يكون iiبها بيت خلاف الذي قاسوه أو iiذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس iiمنتصبًا وذاك خفض وهذا ليس iiيرتفع
وحرضوا بين عبد الله من iiحمق وبين زيد فطال الضرب iiوالوجع
كم بين قوم قد احتالوا iiلمنطقهم وبين قوم على اعرابهم طبعوا(16)
ومما جاء في هجاء النحاة قول يريد بن الحكم الثقفي:
اذا اجتمعوا على ألف وواو = وياء هاج بينهم جدال
1 اذا اجتمعوا على ألف وواو وياء هاج بينهم iiجدال
وقال عبد الله الحضرمي للفرزدق بعد أن أنشد قوله:
وغض زمان يا بن مروان لم يدع = من المال إلا مسحتًا أو مجلف
1 وغض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتًا أو iiمجلف
لم رفعت مجلف قال الفرزدق:
بما يسوؤك وينوءك لنا أن نقول وعليكم أن تتأولوا. ثم هجاه بعد ذلك حين عرف الرجل بما سعى في تخطئته والتقليل من شأنه إذا ظهر جانب الصواب فقال:
فلو كان عبد الله مولى هجوته = لوكن عبد الله مولى مواليا(17)
1 فلو كان عبد الله مولى iiهجوته لوكن عبد الله مولى مواليا(17)
وجاء في الخصائص. قال أبو عبيدة معمر بن المثني للمازني ما أكذب النحويين! وهذا يعني استنكاره لبعض المسائل النحوية والرجل يريد فهمًا آخر لا يعني رفضه للنحو من حيث هو وقال ما أكذب النحويين: يقولون إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث وهم يقولون علقاة فقيل لأبي عثمان المازني لِمَ لَمْ تفسر له؟ فقال لم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا، يريد الفرق بين ألف الإلحاق وهي هنا للإلحاق وبين ألف التأنيث(18).
بدع نحوية وصرفية
لقد أدخل المتكلمون بالعربية بدعًا كثيرة عليها. حدث ذلك في صيغها الصرفية وتراكيبها النحوية وضوابطها اللغوية وكان ذلك يحدث في عصور مختلفة، وأخطر تلك البدع فيما أحسب تجاهل الفصحى ومحاولة استبدالها بالعامية وعدم التعامل معها حتى في حجرات الدراسة وقاعات المؤتمرات، ومن أفدحها أن يكون أستاذ اللغة العربية نفسه من المتحدثين بالعامية لمن يقوم بتدريسهم العربية أو يلتزم السكون كما هو الشائع في كل المفردات والعبارات جريًا على المقولة المعروفة (سكن تسلم) بينما يعلم أولو الألباب أن العربية لغة حركة دائبة وتتمثل حيويتها في تلك الحركة.
كذلك تتسع الفداحة حيث يقدمون دروسهم باللهجة الدارجة، بل يزداد المرء تعجبًا حين يقف على كثير من الرسائل الجامعية المعدة بالعربية في مختلف الجامعات العربية فإذا به يجد الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية تأخذ طريقها وسط الطالب والمشرف، لكن أكبر من كل ذلك حين يحضر المرء مناقشة رسالة علمية في مدرج مفتوح فيسمع كثيرًا مما ينغص، وبرغم ذلك يتجاوز الناس هذا التساهل ويخرجون بتقديرات يتعجب منها الحضور قبل الفاحص المتلمس. ومادروا أن الأخطاء الصرفية والنحوية واللغوية مما يجب الوقوف عنده ومحاسبة من يرتكبه باعتباره بدعة صارفه عن الحق وتستاهل ردّ الرسائل ومؤاخذة الفاحصين مهما كانت مواقعهم في الجامعات والمعاهد العليا من أهل اللغة وأهل قرباها – بل لقد وصل الأمر في هذا المجال إلى أن تعقد مؤتمرات للغة العربية ويكون الحديث فيها بالعامية، ويدار النقاش بها – بل نجد التهاون في العربية حتى في المحافل الدولية، حيث يتكلم أحد المسئولين العرب بها فلا حرمة لقاعدة ولا طريقة.
بل نجد الافتراء والاستهوان. هذا وفيما يلي الوقوف على بعض النماذج لهذه البدع من ذلك: علاقة بالكسر يقولونها للعلاقات المعنوية بينما هي علاقة بفتح العين وليس كسرها لأن الكسر للحسيات وليس للمعنويات ومن ذلك ابدال ال أم متابعة للنادر فيقولون جئت أم بارح – بدل البارح ويقول فناء المدرسة بفتح الفاء في كلمة (فناء) والصواب كسرها لأن الفناء بالفتح الموت – ويقولون في الإذاعات وغيرها وصلنا الخبر الآتي. بدل وصل الينا لأنّ وصلنا تعني أعطانا صلة من الصلات المتكرم بها.
ومن ذلك أيضًا الوقوف بالتنوين على الاسم المنون مثلاً يقولون: جلس علىُّ “مُنفردًا” بتنوين منفرد عند الوقوف بدل “منفردا” بغير تنوين حيث يكون الوقف على الألف. كما نجد بعض المتكلمين لا يفرقون بين الكلمات التي على صورة المبني للمجهول من غيرها وهم على مستويات ثقافية مشهودة فيقول: استهتر فلان بفتح التاء الأولى والثانية بدل ضم التاء الأولى وكسر الثانية. ويقولون عني بفتح العين بدل عني بضمها وكسر النون. كما نجد البدع فاشية في حروف المضارعة في الفعل الرباعي مثل أريد، وأحب، ويشبه فبدل ضم الهمزة والياء الحادثة في أول الفعل لأنها أفعال رباعية نجدهم يفتحونها ويزيدون كذلك حرف أنّ المصدرية متصلاً بضمير في الجملة التي تتكون من هب مثلاً:
هبني أني قلت هذا بدل هبني قلت هذا. قال الشاعر:
هبوني أمرًا منكم أضل بعيره =له ذمة أنّ الذمام كبير(19)
1 هبوني أمرًا منكم أضل بعيره له ذمة أنّ الذمام iiكبير(19)
كما ظهرت البدع في خلط الأفعال المتعدية بنفسها وتلك التي تتعدّى بحروف الجر أو العكس. فنجد مثل التراكيب كان عليّ يسير ليلاً بقرب القرية وقد نبحت عليه الكلاب .. وفي الحقيقة هذا الفعل يتعدى بنفسه تقول نبحته الكلاب. ومثله قولهم أنعشه الجو وأطربه جدًا والحقيقة هي نعشه الجو يتعدى بذاته بدل الهمزة: كما تتضح هذه البدع في عدم التفريق بين صيغة اسم الفاعل وصيغة اسم المفعول في شهرة عجيبة يقول أحدهم قرأت المعوذتين بتشديد الواو وفتحها بصيغة اسم المفعول بينما الذي يطلق على هاتين السورتين. قل أعوذ برب الناس، وقل أعوذ برب الفلق “المعوذتين” بتشديد الواو وكسرها بصيغة اسم الفاعل. ومن ذلك أيضًا وصلهم بين لولا وضمير المخاطب فيقولون:
لولاك والوارد مكانها لولا أنت بضمير الرفع المنفصل قال القرآن الكريم {لَولاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤمِنِين} ومن إدخال أل على بعض وكل، في شيوع غير محدد. وكذلك ادخالهاعلى كافة وهذه تضاف دومًا إلى غيرها مثلاً – حدثني كافة الناس ولي الكافة.
ومن البدع الصرفية أيضًا التي يمكن للإنسان أن يحدث عنها بدون حرج لأنها بدأت منذ أن سمع أول لحن في البادية حين قال ذلك العربي “هذه عصاتي بدل عصاي”(20).
إذ يقول عرب اليوم عجوزة أو العجوزة – بدل عجوز وامرأة عجوز/ كرجل عروس وامرأة عروس.
ومما جاء في عين الكلمة من حيث “الضم والفتح والكسر” قولهم عَجِز بكسر الجيم والصواب فتحها قال الله تعالى: {يَا وَيلَتَا أَعَجَزتُ أَنْ أَكُونَ مِثلَ هَذَا الغُرَاب}(21).
ويقولون رغم بكسر الغين المعجمة والصحيح رغم بفتحها، ومما هو مشتهر “نعيٌّ” بإسكان العين وتخفيف الياء. والصواب نه نعيُّ بكسر وتشديد الياء، ويقولون مشْورة بسكون الشين والصواب ضمها مشُورة هذا ولم يخل فاء الكلمة من البدع أيضًا يقولون: وقود بضم الواو والصواب فتحها قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَة}(22).
ويقولون نفاية بكسر النون والصواب نُفاية الشيء رداءته. ويقولون “قتله” بفتح القاف وسكون التاء والصواب كسرها، ومن البدع حذف الهمزة من الفعل (أضج) فيقولون القوم ضجوا ومنها كذلك “أسيته” فيقولون: واسيته في مثل (استخفيت) من فلان، اختفيت بدون سبب وهلم جرا. وقد أشار بن الجوزي رحمه الله لمثل هذه البدع في زمانه، ولكننا اليوم نراها قد اتخذت شكلاً بعيدًا إذ عمت الأسماء والأفعال صحيحها ومعتلها إلى درجة الطغيان، ولا أرى مخرجًا منها إلا بالتمكين للعربية الفصحى في كل أنواع المعرفة والوسائل السمعية والبصرية ورفع قدرها في المؤسسات الرسمية والاعتماد بها في الأجهزة الإعلامية ومن المؤسف مثلاً أن تذكر للمسئول الأول في الأجهزة الإعلامية أخطاء محددة من أناس محددين فلا يزيد إلا ضحكًا. فأنت تسمع الثلاثة (الأول) بتشديد الواو/ وفي كلمة الأول بضم الهمزة وتخفيف الواو وتسمع “قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم” تسمع قراءة “يخزيهم” بفتح الياء وكسر الخاء وسكون الزاي والكلمة بضم الياء وسكون الخاء وكسر الزاي من الفعل أخْزَى وليس وخز وغيرها مما لا حاجة لنا لذكره. وتسمع صورة الحجر بفتح الحاء المهملة والجيم. بدل كسر الحاء وسكون الجيم، وسمعنا مكررًا لا تسافر المرأة إلا ومعها مُحْرم بضم الميم وسكون الحاء وكسر الراء، والصواب فتح الميم وسكون الحاء وفتح الراء، وسمعنا ولا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم بكسر الهمزة في كلمة أيمان بفتحها وهناك فرق بين الحلف والتصديق بالقلب والآية بفتح الهمزة إذ المراد الحلف وغير ذلك مما يرد يوميًا.
استشراف المستقبل النحوي
حين نتحدث عن هذا الاستشراف للمفهوم النحوي والأداء اللغوي للعربية، يجب أن نضع في اعتبارنا دور اللغة الخطير في المفهوم الحضاري للأمة، ومقدرة الأجيال القادمة ومعرفتها بتراثها وأصالتها، واستحضار ذلك في كل مراحل النشاط وصياغته وتمثله كتابة وقراءة والمحافظة المستمرة على ما ورثنا من السلف، مع التركيز دائمًا على النقاء والبقاء لهذا الموروث اللغوي الحضاري، ما كتب فيه وما قيل عنه وما قيل عنه وما يحمله من قيم ونشاط وما دار فيه من مواقف ومناقشات، بما يحسن بنا أن نفهم في المراحل العالية – القضايا والمسائل التي دار فيها النقاش أو المجالس التي عقدت والمؤلفات وأغراضها ودوافعها وما حققته من نتائج، كما يفهم الدارس ما حدث من استدراكات ودوافعها وما ألف من حواش وما أسقط كذلك وما استجد من تقريرات، ويتعرف الدارس أيضًا على بعض المؤلفات وأسمائها ودلالة تلك المسميات والنظر في الواقع الذي تشتمل عليه تلك الكتب ومعرفة أسماء علماء العربية الذين ألفوا والذي لم تعرف لهم مؤلفات أو لم يصل إلينا منها ما يعرف من مؤلفات. مقرونًا كل ذلك بالواقع الاجتماعي والثقافي لتلك الأجيال وتلك العصور، مقارنًا ذلك بما استجد من آراء وما حدث من تطور ويتم كل ذلك في دراسة وصفية كوسيلة لرصد المتغيرات التي تحدث للنحو بخاصة واللغة بعامة. في نفوس الدارسين والمتلقين وما يصدر من كتب وصحف تتعلق بهذا الأمر. وهنا يحضرنا كثير مما تناوله بعض السلف في الدرس النحوي الذي راعوا فيه الواقع الاجتماعي والثقافي إذ نجد المؤلفات المنظومة وذلك في حد ذاته هدف كما نجد الشروح المطولة والشروح المختصرة ومسمياتها ونجد الاستدراكات والتتبع والكتب التي رامت الغايات التعليمية كصنيع الأبناء [ابن مالك وابن هشام وابن عصفور”>.
وسنستعين في هذا الموضع بمقدمات بعض المؤلفات في هذا العلم الجليل الأمر الذي يجعلنا عادّين الذين قاموا بها من الساعين لتسهيل النحو وتذليل كل صعوباته، هذا وسأختار ثلاثة مقدمات على حسب التسلسل التاريخي – وثلاثة نصوص لكل منهم ليتبين لنا تنفيذ منهجهم الذي اختطوه في المقدمات مع الواقع الطبيعي للغة والدرس النحوي مما نعتبره نماذج طيبة. وإن كنا لا نغفل بعض الرجال الذين كانت لهم جهود في الدرس النحوي ظهرت في مسميات كثيرة منها المختصرات والإيضاحات والصغار والاستدراكات والمقنع والمغني كما نجد أسماء تدلنا على المتابعة مثل كتب اللحن – وتقويم اللسان إلى غير ذلك مما سعوا فيه، وأتوا بما عندهم من جهد يشكرون عليه مدى التاريخ النحوي واللغوي.
هذا وليس من فضول القول إن ذكرت أن هؤلاء الأبناء جاءوا بعد زمن نضج فيه النحو وظهرت كل معالمه وتطوراته وبانت للعيان والمسامع والقلوب ثمراته الحلوة والمرة. ولنبدأ بابن مالك.
ابن مالك (ت 672هـ)
يعد ابن مالك من المرغبين في النحو الذين سعوا في جهود مكثفة لتقديمه للناس والدارسين، فدأب يقرب الفهم ويوضح الغامض وكانت محاولات تأليفه كلها تدور في هذا الجانب، فهو يسعى من وراء تلك المؤلفات والمنظومات والشروح أن يخدم العربية ويسهلها لأبنائها، ولم أر من النحاة على الإطلاق من اجتهد اجتهاده وسعى سعيه في حماس دافق وطي للزمان حتى يقدم ما قدمه، ولقد ذكر د. محمد كامل بركات محقق التسهيل أنه من الميسرين في الشكل والموضوع يقول (التيسير هذا من ناحية الشكل والمنهج العام في التأليف، أما من ناحية الموضوع فالسمة الغالبة على بن مالك في النحو توخي السهولة والتيسير في كل ما ذهب إليه من آراء واتجاهات. حتى أنه ليصرح في كثير من المناسبات بأنه اختار هذا المذهب لأنه المذهب الأسهل أو لبعده عن التكليف والتعقيد. واسم التسهيل أوضح دليل على اتجاه ابن مالك العام في التحويل ان اكثاره من النظم انما هو لتيسير الحفظ والضبط على الدارسين)(23).
ويظهر لنا هذا الأثر حقًا في متابعتنا للمصطلحات التي استخدمها بن مالك فعلى سبيل المثال:
عبارة (نائب الفاعل) وعند الجمهرة المفعول الذي لم يسم فاعله وتظهر لنا دِقته إذا تبين لنا أنه ينوب عن الفاعل الظرف والجار والمجرور.
والبدل المطابق – بدل عبارة بدل كل من كل – المعرف بأداة التعريف – بدل المعرف بأل –
– لغة يتعاقبون فيكم – بدل أكلوني البراغيث، وغير هذا وثبوت مثل هذه الأشياء تظهر لنا الأدلة التي تقول أنه كان حقًا من الميسرين الساعين لتقريب النحو ومصطلحاته.
هذا ولننظر إليه في التسهيل
قال في المقدمة باسطًا منهجه:
(هذا كتاب في النحو جعلته بعون الله مستوفيًا لأصوله، مستوليًا على أبوابه وفصوله، فسميته لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فهو جدير بأن يلبي دعوته الألبّاء، ويجتنب منابذته النجباء، ويعترف العارفون برشد المعرَى بتحصيله، وتأتلف قلوبهم على تقديمه وتفصيله. فليثق متأمله ببلوغ أمله، وليتلق بالقبول ما يرد من قبله…)
وإذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف ويصد عن جميع الأوصاف وألهمنا شكرًا يقتضي توالي الآلاء ويقتضي بانقضاء اللأواء وها أنا شارع فيما انتدبت إليه مستعينًا بالله عليه ختم الله لي ولقارئيه بالحسنى. وختم لي ولهم الحظ الأوفى في المقر الأسنى بمنه وكرمه.
وها هو نموذج للتسهيل يمثل لغة سهلة وقواعد ميسرة نجده واضحًا في باب “حبذا”
قال: أصل “حب” من “حبذا” حَبُب أي صار حبيبًا فأدغم كغيره وألزم منع التصرف، وايلاءً “ذا” فاعلاً في إفراد وتذكير وغيرها. وليس هذا التركيب مزيلاً فعليه “حب” فتكون مع “ذا” مبتدأ خلافًا للمبرد وابن السراج ومن وافقهما، ولا أسميّه “ذا” فيكون مع “حب” فعلاً فاعله المخصوص، خلافًا لقوم وتدخل عليهما “لا” فتحصل موافقة “بئس” معنى، ويذكر بعدهما المخصوص بمعناهما مبتدأ مخبرًا عنه بهما أو خبر مبتدأ لا يظهر، ولا تعمل فيه النواسخ ولا يقدم، وقد يكون قبله أو بعده تمييز مطابق أو حال عامله “حب” وربما استغنى به أو بدليل آخر عن المخصوص. وقد تفرد حب فيجوز نقل ضمة عينها إلى فائها، وكذا كل فعل حلقي الفاء مراد به مدع أو تعجب وقد يجر فاعل “حب” بباء زائدة تشبهًا بفاعل أفعل تعجبًا.
ابن هشام (ت 761 هـ)
من العلماء الأفذاذ الذين عركوا النحو وعايشوه وجدانًا وعقلاً ومارسوه في كل منعطفاته، شيخ العربية المشرقي الذي ترامى ذكره في أرجاء كثيرة من عالم العربية ونطاقها، فالرجل قد حاول بلطافته وأدبه أن يلطف النحو ويؤدبه ويحلي جيده بالسهولة واللغة والنصوص وخير دليل على ذلك كتابه شذور الذهب الذي يقول في مقدمته:
(وبعد فهذا كتاب شرحت فيه مختصري المسمى بـ “شذور الذهب في معرفة كلام العرب” تممت به شواهده وجمعت به شوارده، ومكنت من اقتناص أوابده. قصدت فيه إلى إيضاح العبارة لا إلى إخفاء الإشارة وعمدت فيه إلى لف المباني والأقسام لا إلى نشر القواعد والأحكام. والتزمت فيه أنّي كلما مررت ببيت من شواهد الأصل ذكرت إعرابه وكلما أتيت على لفظ مستغرب أردفته بما يزيل استغرابه وكلما انهيت مسألة ختمتها بآية تتعلق بها من أي التنزيل واتبعتها بما تحتاج إليه من إعراب وتفسير وتأويل، وقصدي تدريب الطالب وتعريفه السلوك إلى أمثال هذه المطالب)(24).
وهذا نموذج من منهجه:
في شرحه لبانت سعاد يقول: في مقدمته لها:
والذي دعاني إلى هذا التأليف غرضان سنيان:
أحدهما التعرض لبركات من قيلت فيه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: اسعاف طالب علم العربية بفوائد جليلة أوردها وقواعد عديدة أسردها(25).
قال: ولا تمسك بالعهد الذي زعمت، إلا كما يمسك الماء الغرابيل قوله: “ولا تمسك” عطف على فما تدوم وتمسك أما بضم التاء وكسر السين المشددة مضارع “مسك” بالتشديد وأما بفتحها مضارع “تمسك” والأصل تتمسك فحذفت احدى التاءين يقال مسك بالشيء وتمسك به وأمسك واستمسك بمعني واحد وقرئ (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) بضم التاء وفتح الميم بضم التاء وسكون الميم وقرئ في غير السبع بضمها.
وقال تعالى: {فقد استمسك} قيل وفي التشديد معنى التكثير وهذا وهم، وانما بغير التشديد التكثير إذا لم يكن الفعل موضوعًا عليه كما في حدث وخير ولم يكن لإفادة تعديه القاصر إلى المفعول كما في فرحته ولا التعدي لواحد إلى التعدي لاثنين، كعلمته الحساب ومثال ذلك قتلت وكسرت وحولت وطوفت.
وقوله: زعمت اما بمعني تكلفت ومصدره الزعم بالفتح والزعامة والتقدير: الذي زعمت به. كما قال تعال {وأنا به زعيم}
بن عصفور (ت969هـ)
ألف هذا الرجل كتبًا مختلفة في النحو والتصريف حاول من خلالها تبسيط الدرس النحوي وتهوين أمره على الدارسين وقد دعاه ذلك لتناول من سبقوه في آرائهم وكتبهم، وكان هناك من يتعصب لأولئك فقابلوا آراءه بالاستهجان والاستنكار وحاولوا الرد عليه وهذا أمر وارد في كل عصر لكن المهم عندنا هي تلك الآراء والمشاعر التي أبداها الرجل نحو مادة النحو ودرسها، وخير مثال له نجده في كتابه المقرب – يقول في منهجه عندما قدم له:
(فلما كان علم العربية من أجلّ العلوم قدرًا وأعظمها خطرًا إذ به تقوم للإنسان ديانته فتتم صلاته وتصح قراءته وكانت أكثر الموضوعات فيه لا تبرد غليلاً … ولا تحصل لطالبه مأمولاً. وأنها بين مطولة قد أسرف فيها غاية الإسراف ومختصرة قد أجحف فيها غاية الإجحاف … أثار من النجح معقود بنواصي آرائه … أبو زكريا … إلى وضع تأليف منزه عن الإطناب الممل والاختصار المخل، محتو على كلياته مشتمل على فصوله وغاياته، عارٍ عن إيراد الخلاف والدليل مجرد أكثره عن ذكر التوجيه والتعليل يشرف الناظر فيه على جملة العلم في أقرب زمان ويحيط بمسائله في أقرب أوان)(26)
ولننظر الآن كيف تناول ابن عصفور المنادى بصورة قيّمة سهلة تفي بالغرض وتقرّب فعْلاً ألقاصي من هذا الباب الأسلوبي.
باب النداء
(1) حروف النداء: (يا)، (أيا)، (هيا)، (وا)، (أي)، والهمزة، ممدودتين ومقصورتين.
(2) اختصاصـاتهـا: فـ (وا)، منها للمندوب وما جرى مجراه خاصة.
و(يا): تستعمل في جميع ضروب المناديات من: مندوب، ومتعجب منه، ومستغاث به، وغير ذلك، قريبًا كان أو بعيدًا، وسائرها لا يستعمل إلا في النِّداء الخالص.
فأما الهمزة، منها فللقريب خاصة، وسائرها للبعيد مسافة أو حكمًا كالنائم، وقد تكون للقريب.
(3) أصول المنادى: والاسم المنادى غير المندوب، والمستغاث به، والمتعجب منه، أمّا أن يكون مفردًا أو مضافًا، فإن كان مضافًا كان منصوبًا بإضمار فعلٍ لا يجوز إظهاره.
وإن كان مفردًا، فإما أن يكون مطولاً أو غير مطول، فإن كان مطولاً، وأعني به ما كان عاملاً في غيره، لم يجز فيه أيضًا إلا النصب، نحو قولك: “يا ضاربًا زيدًا”. وإن كان غير مطول: فإما أن يكون معرفة أو نكرة، فإن كان معرفة بُني على الضم، ويكون في موضع نصب بإضمار فعل أيضًا.
وإن كان نكرة، فإما أن تكون مُقْبلاً عليها، أو غير مقبل عليها، فإن كان مقبلاً عليها، فهي أيضًا مبنية على الضم، كالعلم، وإن كانت غير مقبل عليها، كانت منصوبة بإضمار فعل.
(4) الأسماء والنداء: والأسماء كلها يجوز نداؤها إلا المضمرات، والأسماء المعرَّفة بالألف واللام، والأسماء غير المتصرفة، والأسماء اللازمة للصدر.
وقد يُنادى المضمر المخاطب في نادر الكلام، أو ضرورة شعر، وتكون صيعته صيغة المنصوب، نحو ما حكى من قول بعضهم:
“يا اِيّاكَ قد كفيتُك”(27)
وقد تكون كصيغة (28) المرفوع، نحو قوله(29):
يا أبجـرُ ابـنَ أبجـرٍ يـا أنْتا =أنت الذي طلقت عام جعتا
1 يا أبجرُ ابنَ أبجرٍ يا iiأنْتا أنت الذي طلقت عام جعتا
فإن أردت كلامًا فيه الألف واللام، توصلت إلى ذلك بأي، أو اسم إشارة، نحو قولك:
“يا أيها الرجل، ويا هذا الرجل”، أو بهما معًًا وذلك قليلُ، نحو قوله:
ألا أيهذا النابح السيد أنني =على نأيها مستبسل من ورائها
1 ألا أيهذا النابح السيد iiأنني على نأيها مستبسل من ورائها
ولا ينادي منها بغير وصلةٍ، إلا اسم الله تعالى، لكثرة الاستعمال مع معاقبتهما لهمزة من (الإله)، أو في ضرورة، نحو قوله(30):
فيا الغُلامانِ اللَّذانِ فرَّا =إيّاكُما أنْ تكسباني شرَّا
1 فيا الغُلامانِ اللَّذانِ iiفرَّا إيّاكُما أنْ تكسباني شرَّا
(5) حذف حرف النداء:
ويجوز حذف حرف النداء، وإبقاءُ المنادَى، نحو قوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا}(31).
إلا أن يكون المنادى اسم إشارة، أو نكرة، مقبلاً عليها، أو غير مقبل، وقد يحذف من النكرة المقبل عليها في ضرورة، نحو قوله(32):
جَاري لا تستنكري عذري
1 جَاري لا تستنكري عذري
أو في شاذّ من الكلام، نحو قولهم: “افْتدِ مخْنوق” و”أطْرِق كرا” و”ثوبي حجَرَ”.
ولا يحذف مع اسم الإشارة أصلاً، ولذلك لحنّ المتنبئ في قوله(33):
هذي برزْتِ لنا فهِجتِ رسيسا =ثم انصرفت وما شفيت نَسيسا
1 هذي برزْتِ لنا فهِجتِ iiرسيسا ثم انصرفت وما شفيت نَسيسا
ولم يترك الرجل من منهجه الذي اختطه شيئًا إلا طبقهُ. ونظرة واحدة لهذا الباب في كتب النحو تجعل المرء على اقتناع كامل بأن الرجل كان حريصًا على التطبيق فلم يوجز بإخلال ولم يطنب في إسراف. ورغم ذلك كان هناك من يناكفه وينتقده وربما يمكننا ضم نقدهم هذا إلى الأنواع السابقة التي ترفض السهل الميسر وقد تمثل هذا في تلك العاصفة القوية التي أثارها بعض النحاة من المغاربة في الأندلس وغيرهم من النحاة المشرقيين لا لأمر خطير وإنما للتيسير والتقريب الذي قام به عالم جليل من علماء العربية هو ابن عصفور رحمه الله.
فقد تناوله فريق منهم بالنقد والتجريح والتشنيع – حتى إن بعضهم حاول أن يرد ما فيه من براعة وجودة إلى فضل غير ابن عصفور من النحاة – ومن الذين انتقدوه ابراهيم بن أحمد بن محمد الجزري الأنصاري الخزرجي – أحد علماء الأندلس ومن آثاره .. المنهج المعرب في الرد على المقرّب – وابن الحاج أحد علماء العربية في الأندلس الذي قال: “إذا مِتّ بِفعل ابن عصفور في كتاب سيبويه ما شاء. وقد رد على ابن عصفور في كتاب سماه الإيرادات على المقرب .. وحازم القرطبي وله شدّ الزناد على جحفله الحمار(34).
هذا ومؤلفات ابن عصفور في نظري من النماذج الطيبة الميسرة التي تعمق الفكرة وتريح النفس ولا تكلفها شططًا الشيء الذي يساعدنا في ترسم السبيل التي نعالج بها بعض قضايا النحو المعاصرة.
استشراف المستقبل في آراء معاصرة
لست أول من بث رأيًا في مسألة التيسير هذه وإن اختلفت المسميات من تيسير وتسهيل وتفقيه الخ… ولكن طبيعة التناول قد اختلفت تمامًا من حيث الوضع التاريخي والاستقراء العملي والاستبيان الذي يساعد على إكمال الصورة وإصدار الأحكام في شأنها وقد ذكرت أن الذين مارسوا تدريس النحو هم أقدر الناس على الإحساس بمشاكله، وبما يعانيه طلاب العربية في شأنه سواء أكان ذلك في مدرجات الجامعات أو الفصول الدراسية، في التعليم العام أو العالي وسنقدم النماذج على ذلك بدءًا بالشيخ إبراهيم مصطفى الذي يقول:
“هذا بحث من النحو عكفت عليه سبع سنين وأقدمه إليك في صفحاته أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية، وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو وأبدلهم منه أصولاً سهلة يسيرة تقربهم من العربية وتهديهم إلى حظ من الفقه بأساليبها، ولقد بذل في تهوين النحو جهود مجيدة واصطنعت أصول التعليم اصطناعًا بارعًا ليكون قريبًا واضحًا، على أنه لم يتجه إلى القواعد نفسها وإلى طريقة وضعها فيسأل “ألا يمكن أن تكون تلك الصعوبة من ناحية وضع النحو وتدوين قواعده وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث النحوي للغة العربية.
هذا السؤال هو الذي بدا لي وهو الذي شغلني جوابه طويلاً.
وتناول ذات الأغراض أيضًا د. شوقي ضيف والدكتور مازن المبارك في تقديمه للإيضاح في علل النحو. حيث يقول دكتور شوقي ضيف في (ص 5):
“ولعلي لا أبعد إذا قلت إن واجبًا على من يحاولون تيسير نحونا أن يحيوا نصوصه لقديمة حتى يضطلعوا بما يريدون من هذا التيسير عن علم وبصيرة”(35).
ويقول د. مازن المبارك:
“وحسب صاحبه أنه كان من الرواد الأوائل الذين فقهوا وتعمقوا أسرار قواعدها ثم حاولوا التبسيط والتيسير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً”.
ويقول عن إغراض الزجاجي في الإيضاح:
“فمن هذه الأغراض مثلاً أن يسعى لتقريب النحو من الفهم وتيسير الوقوف على أسراره وقد عني الزجاجي بالمبتدئين واهتم بهم وألّف لهم. وكذلك هو في الإيضاح يهتم بهم ويجعل تقريب النحو لهم من أغراضه ولو أدّى به ذلك لتغيير ألفاظ النحاة قال:
“والاحتجاجات على ثلاثة أضرب منها ما كان مسطرًا في كتب البصريين والكوفيين بألفاظ مستغلقة صعبة فعبرت عنها بألفاظ قريبة من فهم الناظرين في هذا الكتاب فهذبتها وسهلت مراتبها والوقوف عليها.
ويقول دكتور حماسة:
“إنه إذا أريد للنحو أن يكون له دور واضح في حياتنا المعاصرة سوى التخطئة والتصويب … أن يسلك أحد سبيلين:
أولاهما: أن يتجه النحو إلى العربية المعاصرة في نصوصها الفصيحة فيجمع تراكيبها ويصف أنماطها ويقدم وصفًا دقيقًا لها…
والأخرى: أن يعمد النحويون المعارون إلى النصوص العربية قديمها وحديثها كما فعل الأسلاف العظماء مع القرآن الكريم والشعر ودواوينه ومختاراته فيحاولون أن يكشفوا دور النحو في بنائها ويبينوا ما تقوم بها المعطيات النحوية في تركيبها وترابط أجزائها واستواء هيئتها وما تقدمه في إنتاج دلالاتها وقيمة هذا الدور في تحديد الدلالة وبذلك يرتبط النحو في الأذهان – وخاصة أذهان الناشئة بجانب عملي نافع مفيد من جانب وبالدلالة من جانب آخر(36).
أما فيما يقوله مدرسو العربية في التعليم العام فتقول إحدى أستاذات اللغة العربية في تقرير لها:
“في السنة الثالثة بمدرسة البلك الثانوية للبنات – القسم العلمي، حيث ضم الفصل قرابة السبعين دارسة وبعدما قدمت لهن إحدانا من تعريف لما حضرنا من أجله وملأت قرابة الخمس عشرة طالبة الاستبيان طلبنا من البعض القراءة الجهرية لبعض النصوص التي بكتبهن وقد لاحظت أن معظم القارئات لم يبنّ ويفصحن بين السين والثاء، والظاء تحول مخرجها فصار خلف الأسنان أو من اللثة بدلاً من بين الأسنان وقد نحت القاف نحو الغين في نطقها. وإن ظهرت جودة قراءة البعض لنصوص قرآنية أما الشرح والتفسير فكانت غالبية الكلمات ساكنة وحتى التي تود أن تقرأ بالشكل لا تستطيع قراءة سطرين كاملين أو جملتين كاملتين مجردتين عن الأخطاء النحوية. كما لاحظت عدم التمييز بين أل الشمسية وأل القمرية.
أما عن الإنشاء فقد جاءت بأسلوب أشبه بالعامية منها للفصحى مثل! قال الزُرّاع: نتوجه صباح اليوم الثاني إلى المحافظة”.
وعن بعض الأسئلة التي طرحت إليهن للإجابة عليها أجابت بعض الطالبات:
1/ ما مدى أهمية دراسة اللغة العربية بوصفك طالبة بالقسم العلمي؟
* قالت إحدى الطالبات إن اللغة العربية سوف لن تفيدها بشيء لأنها تتحدث العامية وهي لغتها الأم، وليس هناك كبير فرق بين ما نتحدثه في العامية وبين ما ندرسة في المدرسة سوى بعض الدروس النحوية المعقدة التي ذكرتها وزميلاتها في استبيانهن. وقالت أخرى: مؤكدة حديثها “بإذن الله” سوف لن تزيد على ما تلقت من علوم العربية ودراستها أكثر من عامها هذا، وقد هاجمتنا بسؤالها عن أهمية حفظ المعلقة بالنسبة لهن وما هي الفائدة من هذا الأسلوب القديم لفظًا ومعنىً وشحن عقولهن به.
2/ كيف يمكن لَكُنَّ حفظ التراث العربي وكتابته وصيانته؟
فردت إحداهن إننا نستطيع أن نكتبه بما تعلمنا فقط وسوف لن نحتاج إلى مزيد.
3/ وسألتهن عن مدى تأثرهن بوصفهن طالبات بالقسم العلمي عن المادة إذا ما قدمت إليهن بأسلوب جميل مصوغ باللغة الفصحى وعن نتاج ما قدم إليهن بأي طريقة؟
فأجابت إحداهن لا يهمنا إلا الحقيقة العلمية ونتيجة التجربة فقط ونسجلها كما يحلو لنا وبأي طريقة شئنا.
4/ أعربي: يا عبادي لا تقنطوا من رحمة الله.
بعد ضجة شديدة ورفض للإعراب حاولت إحداهن ولم توفق ولم تقدم أي طالبة أخرى لخوض هذه التجربة.
5/ الشعر العربي القديم والحديث ماذا تعرفين عنه ووجهة نظرك؟
لم تكن من بين الطالبات من تهتم بالشعر العربي ولم تكن هناك أديبة.
هذا بعض ما سجلته أستاذة اللغة العربية في بعض المدارس الثانوية وكان ذلك من قبل أربعة عشر عامًا.
هذا ومن قبيل الاستكمال لهذه الصورة المعيشة أود أن أقول إنه من الأمور التي أدخلت السرور على نفسي وأنا أعالج هذا الموضوع إنّي وجدت بحمد الله استطلاعًا نموذجيًا كذلك لبعض طالبات المدارس الثانوية وكان ذلك في عام 1979م واستخدمت في مكان النحو كلمة قواعد عند تسجيل الأسئلة إليهن لأنهن كن لا يفهمن النحو بالاصطلاح المعروف عند توجيه الأسئلة إليهن دون طلب ذكر الاسم تشجيعًا للصدق في الإجابة ورفعًا للحرج كما كنا نهدف من خلال هذا العمل والإيضاح أن نربط النحو بالمجتمع وبالواقع المعاش حتى يتضح العمل الذي يتوجب على أهل العربية القيام به لتكتمل الصورة مع صنيع علمائنا في الوقت الحاضر ممن سعوا في هذا المنحى، وممن قاموا بمحاولة تجديدات وما حدث لعملهم من تطور أو إقبار مما يدخل كله في المنهج الذي سلكناه في استخدام المنهج الوصفي كوسيلة لرصد المتغيرات كلها حتى هذه الساعة في الفهم واللغة وفي المجتمعات، وكل ذلك كان الغرض من ورائه تحقيق الغاية العلمية الخالصة أو يمكن القول بأنها غاية علمية ممزوجة بالتلعم.
أما الأسئلة التي وضعت فكانت كما يلي:
1- ما نوع الدروس التي تركت في نفسك أثرًا عند دراستك للُّغة العربية منذ المرحلة الابتدائية؟
2- ما الأبواب التي دُرِّست لك في القواعد وكانت لك مزعجة؟
3- إذا كانت هناك صعوبة أو سهولة على ما ذكرت فهل كان ذلك في نظرك يرجع إلى الأستاذ أم إلى الكتاب؟
4- هل تفضلين أن تدرس لك القواعد مباشرة عن طريق الأمثلة التي توضح القاعدة أم عن طريق النصوص؟
5- لو طلبت منك أن ألقي عليك درسًا في القواعد فما الباب الذي تفضلين أن يُدرّس لك؟
6- ما هو إحساسك حين تستمعين إلى شخص يتحدث باللغة العربية الفصحى؟
# وقد تفاوتت الإجابة على هذه الأسئلة لكن هذه إجابة خمس طالبات كما ذكرت دون تعديل فيها ليتحدث الواقع عن نفسه:
هذه إجابة الطالبات
الطالبة الأولى:
1- الإنشاء لو أنها كانت تعطى أسبوعيًا إلا أننا نكتب كل عام أقل من خمسة موضوعات. الأدب أحبه منظومًا ولا أحبه نثرًا.
2- الاعلال – التصغير.
3- كان باب الاعلال صعبًا علىّ لأنني لم أحضر أول حصة دُرِّست فيه فتعسر عليّ فهمه.
4- أحب أن تدرس مباشرة.
5- أحبها من البداية.
الطالبة الثانية:
1- أحب دراسة الأدب وقد تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وبصراحة كنت لا أحب دراسة القواعد ولا زلت ربما لا أفهمها. وعندما أقرؤها يصيبني صداع وأبتلع بعده حبة أسربين.
2- في الابتدائية والثانوي العام كنت لا أجد صعوبة في دروس القواعد والإعراب خاصة ولكن عندما وصلت المرحلة الثانوية العليا وجدت نفسي قد نسيت الدروس وأصبحت القواعد شيئًا غير مريح بالنسبة لي إلا أنه توجد بعض الدروس كانت سهلة لطيفة سريعة الفهم وربّما كان للأستاذ أثر في ذلك.
3- طبعًا للأستاذ الأثر الأعظم، وله دور كبير في التأثير على نفوس تلاميذه فكلما كان الأستاذ واضح العبارات وكان ذا حماس للدروس التي يلقيها كلما تركت هذه الدروس نفسها أثرًا على الطالب وشدت انتباهه.
4- أفضل أن تدرس القواعد عن طريق النصوص كالآيات القرآنية والأحاديث والأشعار، لأن هذه الطريقة تجعل الطالب منتبهًا لكل كلمة يقولها الأستاذ ويكون متشوقًا لمعرفة القاعدة.
5- أحب أن أدرس مبادئها.
6- أحب دائمًا أن يعبر الإنسان عن نفسه باللغة العربية وإن من يتحدثها لابد أن يجيدها.
الطالبة الثالثة:
1- من القواعد نائب الفاعل أما دراسة الإنشاء فكانت “نص نص” أما التوجيه الأدبي والمطالعة التوجيهية فلا أود الحديث عنها لكرهي الشديد لها.
2- (المزعجة) المبتدأ والخبر. اسم كان والفعل المعتل وأقسامه من الثانوية العامة واسم إنّ. أما الدروس المريحة فكانت الفاعل والمفعول به والمطلق والمفعول لأجله واسم الهيئة والحال ونائب الفاعل والمقصور والمنقوص.
3- في رأيي أن الكتاب كان في بعض الدروس على شيء من النقص أم العبء الأكبر من الدروس التي لم أفهمها كان يرجع إلى الأستاذ فلو كان يعطي الدروس على شيء من الثقة ارتحت له وفهمت ما يعنية ولكن كان يعيب الأستاذ والأستاذة على السواء النقص في سرد المادة.
4- أفضل الدروس عن طريق الأمثلة على السبورة لسهولتها وسهولة معانيها حتى يُفهم الدرس من أول وهلة أما النصوص فعلى شيء من التعقيد لأنها تحتاج إلى شرح أولاً ثم الفهم بعد ذلك.
5- الاعلال.
6- أفضل المتحدث بالعربية الفصحى لأنه عربي ويجب أن يعتز بعربيته وقوميته ويجيدها.
الطالبة الرابعة:
1- أحببت القواعد منذ السنين الأولى في الابتدائية إلا أنني في الثانوية العامة أصبحت أكرهها.
2- أحب البلاغة.
3- يرجع إلى الكتاب لأن الأمثلة غالبًا ما تكون من الشعر وتحتاج إلى شرح وذلك مما يعقد في الكتاب.
4- مباشرة على السبورة.
5- الاعلال والإبدال.
6- أنزعج وأغضب جدًا عندما يتكلم إنسان باللغة العربية ويخطئ فيها.
الطالبة الخامسة:
1- دروس القواعد – دروس البلاغة لا يستفيد منها الإنسان في حياته اليومية – دروس الإنشاء غير مفيدة لأنها كانت نفس (المواضيع) (الصواب الموضوعات) في كل المراحل – في الصف الثالث التوجيه الأدبي والمطالعة التوجيهية (ما مفيدة).
2- المزعجة الإعلال والإبدال – المنقوص والمقصور – الأفعال الخمسة والأبواب التي كانت مريحة مثلاً:
الفاعل – المفعول به – النسب – اسم الفاعل – اسم المفعول.
3- بعض الكتب التي لم يكن فيها التوضيح التام – بعض الأساتذة (يكلفتون) المادة التي تدرس ولم يشرحوها شرحًا تامًا وافيًا ويعطون ملخص الدروس من غير شرح.
4- أفضل عن طريق السبورة وتكون واضحة.
5- الإعلال والإبدال لأنني لم أفهمه جيدًا.
6- أن كان يجيدها أرتاح له وأ، كان يخطئ فإنه يسبب لجميع الناس (ضيقًا) في النفس ولا يجب أن يتحدث بها.
الطالبة السادسة:
1- دروس الأدب في الابتدائي والثانوي العام كانت جيدة – ولكن القواعد كانت تدرس بطريقة رديئة وفي الثانوي العام بالذات – أما البلاغة فندرسها بطريقة تجارية. أما المطالعة التوجيهية والتوجيه الأدبي فلا فائدة فيها ولا ثمرة لها أما الإنشاء فكل المواضيع (الموضوعات) جافة لا تستحق الكتابة.
2- في الابتدائية كانت القواعد بسيطة وفي الثانوي العام (حاجات) عدة لا أحبها (ناس) اسم كان واسم إن والمقصور والمنقوص والضمائر (وناس) الأفعال الخمسة والأسماء الخمسة أما في الثانوي العام (كانت في دروس ثقيلة).
3- الصعوبة أن الكتاب لا يفي بالشرع والأستاذ ربما كان (شاطر) ولكنه لا يدرس مادته بإتقان فينقلها نقلاً من الكتاب. (تحدثت هذه الطالبة عن كراهتها للأستاذ الذي يدرس من كتاب يحمله في يده أو يضعه على التربيزة وهو مفتوح وتقول: هذا الكلام لا ينطبق على الأدب.
4- عن طريقة مباشرة.
5- أحس بالفخر عندما أسمع شخصًا يجيد اللغة العربية لأنها لغتنا ولكن أحس (بالقرف) عندما أسمعها (وهي مكسرة) وغير مجادة.
هذا ومن خلال هذا الطرح من قبل الطالبات الثانويات يظهره لنا بوضوح ما يعانيه الطلاب من الدرس النحوي، فتارة نرى مصدر الصعوبة منذ تأسيس المادة وتلقيها من البداية والاستمرار على ذلك النمط. وتارة نرى الطالبات يرجعن الصعوبة التي تقابلهن إلى الكتاب وطريقته وبعضهن يرجعن سبب الصعوبة إلى الأستاذ الذي لم يكن يجيد تقديمه للمادة من حيث الشرح والتوضيح وتكرار ما يستحق التكرار وعدم الحماس للمادة التي يقوم بتدريسها.
كما أننا نلاحظ أن أبوابًا كثيرة أشارت الطالبات لها مما يؤكد عموم الصعوبة واكتنافها لمعظم أبواب النحو باستثناء الفاعل والمفعول به والمفعول المطلق، أما الصرف فكان الإجماع على صعوبته مما يؤكد ضعف المعالجة من الكتاب والأستاذة إذ لو كان الأمر يتعلق بالأستاذ لوجدنا بعض الإشارة إليه أو من الكتاب وحده لوجدنا ذلك أيضًا مما يوجب على المدرسين للعربية إعادة النظر في طرائقهم وفي كتبهم ومحاولة تحبيب أبناء العربية فيها مع استلطاف التلاميذ وتسهيل الصعب وإن أدى الأمر إلى إعادة الدرس كرات وكرات. والاهتمام بالكيف أولى من الاهتمام بالكم. والتنويع في تقديم المادة من حيث الأمثلة المجردة تارة وعن طريق النصوص تارة أخرى أمر لابد منه. وهو ما يمكن أن نسميه أسلوب المزاوجة بين التجريد والتطبيق.
هذا كما نلاحظ ضعف الأساليب والتعبيرات عند ذات المجيبات واستخدام بعض الكلمات العامية في أثناء الإجابة عن الأسئلة مما يدل على ترهل واضح في العربية برغم أن بعضهن يبدين التقزز من سواهن ممن يخطئ في العربية.
وقفة ونتائج
أولاً:
دراسة تاريخ النحو وما ألف فيه وما دار من مناقشات وما عقد من مجالس وما تم من مناظرات وما حدث من استدراكات ومختصرات وتفريعات وما ألحق من حواشٍ أو ما أسقط، ومعرفة من ألف من العلماء ومن لم يؤلف.
ثانيًا:
التعرض للواقع النحوي في أزمنة مختلفة ويعني ذلك الوقوف المتأني لعلاقة النحو بالمجتمع وماذا صنع النحاة إزاء ذلك الواقع مقارنًا بما صنعه النحاة في وقتنا الحاضر وما قاموا به من محاولات وتجديدات وما حدث لذلك من تطور أو إقبار حتى نربط دور اللغة المتواصل في المفهوم الحضاري للأمة ومدى مقدرة الأجيال على فهم التراث واستحضاره. والمحافظة على إبقائه ونقائه.
ثالثًا:
السعي الدائم لمعرفة الأسس والطرق والوسائل التي تكفل الترغيب في النحو وتعطي الثمرة المرجوة من دراسته.
رابعًا:
استخدام الدراسة الوصفية لرصد التغيرات التي تحدث للدراسة النحوية الساعية نحو الغاية العلمية الخالصة الممزوجة بالتعلم والتعليم التي تستعين بالمجهود القديم والحديث لتحقيق الغرض من دراسة اللغة كصيغ الخطيب التبريزي والمبرد وابن مالك وابن هشام وابن عصفور وغيرهم من علماء العربية مقرونًا بمسعي المحدثين الذين هضموا القديم واطلعوا على الجديد مما يمكن أبناء العربية منها فهمًا وممارسة.
كل ذلك يعيننا في تناول (جذور الفكرة العربية الشاملة ومناهجها التي فحواها ألا توزع المواد إلى بلاغة ونحو وصرف وقراءة وأدب إلى غير ذلك دون ربط وإنها تعطي في شكل جرعات مركزة – نتناول جزئيات بعينها مترابطة في تطبيقات محسوبة بحيث تشمل كل المطلوب من إعطائه للكليات التي سنصل إليها في النهاية، ونحن بهذا التصور نحتاج إلى الفهم العميق وسنقابل دون شك العنت والمشقة ونحتاج إلى جماعة من النحاة واللغويين يتوفرون على إخراج مؤلفات محددة لتفي بهذا الغرض في منهجية واضحة، ولعل ما قام به المبرد في الكامل له دلالته الكبرى. وعلى العموم فإن المنهج الذي تتبعه الأسلاف في تيسير العربية على الناشئة كما رأينا والعمق فيها وشمولها وتعليمها تعليمًا سهلاً كان واضحًا في كل أعمالهم، وهو يضمن لنا قواعدها الأساسية في صيغ أشبه ما تكون بقوانين مركزة كي يحفظها الناشئة حتى يتسنّى لهم اليوم درسها وتدريسها دراسة تتيح لهم استيعاب أوضاعها وأسرارها وتمثلها تمثلاً بينًا.
بحيث يخدمها في بنيتها اللفظية وتراكيبها التعبيرية ودلالتها وعطائها المعنوي واستجابتها لكل حاجات الإنسان وتطورات حياته أصالة ومعاصرة.
———-
(1)الإمتاع والمؤانسة لأبي حبان التوحيدي ص 139.
(2)دراسات في اللغة والنحو العربي ص 88 – د. حسن عون.
(3)إرشاد الأديب لياقوت ص 46.
(4) الأشباه والنظائر ص 72 السيوطي.
(5)دلائل الإعجاز ص 21 عبد القاهر الجرجاني.
(6)المرجع نفسه ص …
(7)المرجع نفسه ص …
(8)المرجع نفسه ص 21 – 68.
(9)سورة يوسف الآية 63.
(10)الأشباه والنظائر ص 3 وص 34 – 35 للسيوطي.
(11)المرجع السابق ص 3 و64 – 68.
(12)نزهة الألياء في طبقات الأدباء، لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري ص 187.
(13)طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي ص 581 طبعة دار المعارف مصر.
(14)أخبار النحويين البصريين ص 71.
(15)الخصائص ص 239 – 240 ابن جني.
(16)المغتضب ص 143 للمبرد.
(17)الخصائص ص 1 ، ص 272 ابن جني.
(18)تقويم اللسان ص 205 ابن الجوزي.
(19)إصلاح المنطق ص 297 ابن السكيت.
(20)تقويم اللسان ص 205 ابن الجوزي.
(21)سورة المائدة الآية 31.
(22)سورة التحريم الآية 6.
(23)التسهيل لابن مالك، ص 44 تحقيق محمد كامل بركات.
(24)شذور الذهب لابن هشام.
(25)شرح بانت سعاد لابن هشام ص 146 – 147.
(26) المقرب لابن عصفور.
(27)أنظر: أوضح المسالك 2/72.
(28)في د: (تكون صيغته صيغة المرفوع).
(29)هو سالم بن دارة، يقوله في: (مر بن واقع) ونسبه الأزهري تبعًا للعيني إلى الأحوص، وصدره في: أوضح المسالك: يا مر يا بن واقع يا أنتا.
أنظر أوضح المسالك ج2 ص 72، وشرح المفصل 1/127 – 130.
(30)هذان شطران من الرجز المشطور، وقائلها مجهول، وهما في شرح المفصل 2/9 وشرح الكافية 1/132، والخزانة 1/358، والإنصاف 1/336.
(31)سورة يوسف الآية 29.
في د: (تكون صيغته صيغة المرفوع).
(32)هو العجاج بن رؤبة، وأنشده بن هشام في أوضح المسالك 2/102.
(33)أنظر ديوانه ج2 ص 259 وفيه: انثنبت.
(34)بغية الدعاة ص 204 – نفح الطيب ص 522 ط أوربا – مقدمة المقرب للمحقق ص 44 – 45.
(35)الإيضاح في علل النحو ص 16 ص ص – 5 – وصفحة 19/15 19/15 الزجاجي النحوي.
(36)الجملة في الشعر العربي ص 16 – 17 د. محمد حماسة.
المراجع
1-القرآن الكريم.
2-إحياء النحو – الأستاذ إبراهيم مصطفى – مطبعة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
3-أخبار النحويين البصريين – لأبي سعيد السراقي – تحقيق د. محمد إبراهيم ألبنا دار الاعتصام مصر 1405هـ 1985م.
4-إرشاد الأديب. لياقوت الحموي دار المأمون 1323.
5-الأشباه والنظائر لجلال الدين السيوطي – دار الكتب العلمية بيروت 1405 هـ 1984م.
6-إصلاح المنطق لابن السكيت. تحقيق – أحمد محمد شاكر – وعبد السلام هرون.
7-الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
8- الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري – القاهرة 1364.
9-أوضح المسالك لأبن هشام القاهرة 1354.
10-الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم عبد الرحمن الزجاجي النحوي. تحقيق د. مازن المبارك – دار العروبة.
11-بغية الدعاة – لجلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم – المكتبة العصرية بيروت.
12-تقويم اللسان للإمام أبي الفرح عبد الرحمن الجوزي، تحقيق د. عبد العزيز مطر – دار المعرفة القاهرة ط أولى 1966م.
13-التسهيل – لابن مالك، تحقيق د. محمد كامل بركات.
14-الجملة في الشعر العربي، د. محمد حماسة.
15-الخصائص – لابن جنّي، تحقيق محمد علي النجار – دار الكتاب بيروت.
16-دراسات في اللغة والنحو د. حسن عون.
17-دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني المطبعة العربية بمصر.
18-ديوان رؤية بن العجاج – عني بتصحيحه وليم بن الورد الروس دار الآفاق الحديث.
19-طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي دار المعارف مصر.
20-المقتضب للمبرد. تحقيق عبد الخالق عضيمة عالم الكتب ببيروت.
21-المقرب لابن عصفور – تحقيق أحمد الجبوري وآخرون مطبعة العاني بغداد.
22-شرح بانت سعاد – لإبن هشام، تحقيق د. أبو ناجي.
23-نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات عبد الرحمن محمد الأنباري – مطبعة إحياء ثائر العرب – العرب – القاهرة 1294هـ